📁 آخر الأخبار

لماذا تبنى المشرع المغربي نظام صعوبات المقاولة؟

 


 

لماذا تبنى المشرع المغربي نظام صعوبات المقاولة؟

 

ذ/المهدي شبــر

 

تمهيد:

يوضع الباحث القانوني المغربي، في وضع  لا يحسد عليه عندما يطلب منه ابراز العوامل المتحكمة في اخراج تشريع  الى  الوجود، او الحديث عن فلسفة المشرع في وضع هذا النص او ذاك، لافتقاده الى ادنى المرجعيات الضرورية في هذا المجال فقليلة هي  المناسبات  التي كلف فيها  المشرع  نفسه  عناء تصدير النص التشريعي ببيان اسباب، والاعمال التحضيرية كما هي متعارف عليها في التشريعات  المقارنة  تقنية مجهولة  بالمرة  في  القانون  المغربي، فمنذ الحركة التقنينية الكبرى لسنة 1913، حين عمد تكنوقراطيو ادارة الحماية الى استنساخ  النصوص  التشريعية  الفرنسية  النافذة  انذاك  دون  وضع التشريع في اطاره المحلي او تبرير اختياراته الاساسية، ظل تجاهل التقديم للتشريع سلوكا  عالقا  بالمشرع المغربي،  وحتى  بعد  الاستقلال  بقيت  اعمال اللجان التقنية المتعلقة بصياغة النصوص القانونية حبيسة ادراج مكاتب الوزارات الوصية  المكلفة  باعدادها. واذا اعتبرنا البرلمان  مجسدا للمشرع في بلادنا، فان مناقشته قلما تشبع فضول الباحث  ببعدها عن النقاش القانوني، وقر بها اكثر من الجدال السياسي.

 

ولا يعاب المشرع وحده في الوضعية، فعلى المستوى الفقهي، يلاحظ غياب شبه تام للدراسات المرتبطة بالسوسيولوجيا القانونية،  اما فلسفة القانون  فقد يعتبرها الكثيرون ترفا فكريا في بلد لا تزال فيه القاعدة القانونية تصارع من اجل تاصيل  وتثبيت مبادئها الاساسية،  ومرارا  سجلنا على الشراح المغاربة تخصيصهم مئات الصفحات للتعليق على النصوص الجديدة  دون  ان يولو بضع وريقات لاسباب النزول.

 

لكن بين الفينة والاخرى، يضطر الباحث ان يخرج عن سلبيته المعهودة، عندما يطالعه المشرع ببعض النصوص التي تفرض نفسها بما تحمله من جدة في المؤسسات، او فهم غير مالوف في المضمون القانوني، او تطور يتجاوز الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية  التي  وضعت  لتنظيمها  وقد  كنا  ننتظر  امام الترسانة الجديدة التي اوجدها المشرع في السنوات الاخيرة من قوانين مالية وتجارية، بروز بعض من الاهتمام  بهذا الجانب، خاصة  ان اخصب القوانين مساعدة على هذا النقاش السوسيو قانوني هي تلك التي تكون لها عادة خلفية اقتصادية او اجتماعية.

 

ومن بين كل القوانين الجديدة  جدارة بمثل  هذه  النقاشات،  تبرز  مدونة التجارة الجديدة، باعتبارها الاطار القانوني العام المنظم للتجارة والاعمال ، فثمة مؤسسات واوضاع احداث بموجبها  للمادة  دون  ان  تثير  نقاشا  حول  مصدرها  اوغايتها،  من  قبيل  الغاء  الاذن  بممارسة  التجارة  بالنسبة  للمراة المتزوجة(1)، تنظيم اهلية التعاقد الاجنبي (2) شرعنة مؤسسة التاجر الفعلي (3)، ظهور مفهوم العمل التجاري بالمماثلة(4).

 

الا ان الملفت للنظر، هو بروز نصوص تحمل جرعة تقنية غير مالوفة عادة  في  النصوص  المعهود  للقضاء  بتطبيقها،  تستمد  مرجعيتها   من  العلوم الاقتصادية والمالية، وتحمل في طياتها تطورا في المضمون، لا يمكن ان يخطئ فهم القارئ والممارس العادي  فبالاحرى المتخصص، وهي  من الحداثة حتى في البلدان والانظمة التي سبق ان تبنتها، بشكل يجعلنا نتساءل عن الدوافع الكاملة وراء اعتمادها، خاصة  اذا  علمنا  الفروق  بين  درجات التطور الاقتصادي بين بلدان المنشا وبلادنا، والذي يستدعي الاهتمام بها اكثر هو انها احدثت حركية في التطبيق داخل المجالات التي تنظمها لم تشهدها سابقاتها، بحيث اصبحت ظاهرة قائمة داخل الترسانة القانونية الوليدة.

 

ولعل قارئ هذه الوريقات بمعزل عن عنوانها، لن يجد كبير عناء في استشفاف اننا نلمح لتلك النصوص الواردة في الكتاب الخامس من مدونة التجارة تحت عنوان

--------------------------

(1) المادة17 من مدونة التجارة.

(2) المادة 15 من مدونة التجارة

(3) المادة11 من نفس القانون

(4) المادة 8 من مدونة التجارة

-------------------------

 

صعوبات المقاولة، والتي جاءت لتعوض تلك التي كانت مضمنة  في الكتاب الثاني من ظهير 12 غشت 1913 بمثابة القانون التجاري(5) ذلك ان التشريع المغربي بعد ان تعايش ولثمانية عقود مع نظام الافلاس، اثر ان يهجره اخيرا لفائدة نظام مختلف الاهداف والغايات، وكذلك المنطلقات محدثا قطيعة تستحق الوقوف عندها من منطلق ان كل بديل ينطلق عادة من ازمة الكائن ليطرح نفسه، فهل كان نظام الافلاس كما طبق في المغرب في ازمة لنطرح  صعوبات المقاولة بديلا عنه، تساؤل سوف نحاول مقاربة تحليله في قسمين:

 

القسم الاول: هل يمكن الحديث عن ازمة لنظام الافلاس  بالمغرب؟

قبل دخول الحماية، لم يعرف المغرب نظاما للمساطر الجماعية شبيها بالنظام الروماني، حيث يجتمع الدائنون في مساطر قضائية منظمة، جماعية قائمة على المساواة، تستهدف تمكينهم من استيفاء حقوقهم بالتناسب مع ديونهم، وفق نظام عقابي قاس، هدفه التضحية بشخص المفلس وكرامته الانسانية في سبيل ارضاء الدائنين(6). فقد كانت معاملة التاجر المتوقف عن دفع ديونه تخضع لنظام الاعسار في الشريعة الاسلامية المستمد من روح الاية الكريمة { وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة}، الى جانب بعض من الاعراف الامازيغية التي تختلف حدتها من حيث القسوة واللين تجاه التاجر المتوقف عن الدفع باختلاف مناطق المغرب، ولم يكن من الممكن الحديث عن التفليسة  في هذا النظام وفق ما هو متعارف عليه في الانظمة اللاتينية، اذ كان القاضي الشرعي هو من يعلن اعسار المدين وهو من يتولى ادارة وتصفية امواله جامعا تحت يده وظيفتي القاضي المنتدب والسنديك.(7).

 

بعد دخول الحماية الفرنسية ، عملت سلطتها على تمتيع المعمرين الفرنسيين والاجانب من الاستفادة من اغلب الانظمة العصرية التي كانت مطبقة في بلدانهم

------------------

(5) يتعلق الكتاب الثاني من القانون التجاري بالافلاس وبالتفالس والتصفية القضائية ورد الاعتبار.

(6) لمزيد من الايضاح حول  خصائص نظام الافلاس اللاتيني الروماني وتطوره التاريخي يراجع:

- J. HILAIRE : introduction historique au droit commercial P.U.F 1986 P 305 et S-

- R. SZRAMKIEWICZ : histoire du droit des affaires DOMAT-Montchrestien - 1989

- R. ITHURBIDE :  HISTORIRE CRITIQUE de la faillite L.G.D. J 1972

(7) KHALID LYAZIDI : le syndic de faillite THESE UNIVERSITAIRE Mohammed V Rabat P-7.

-----------------

 

الاصلية انذاك، وهكذا صدر القانون التجاري المؤرخ في 12 غشت 1913 متضمنا في كتابه الثاني مقتضيات متعلقة بالافلاس  والتفالس والتصفية القضائية ورد الاعتبار.

 

وقد استمد هذا النظام في مجمله من مدونة نابليون الصادرة في 1807 وفق اخر تعديلاتها في 04 مارس 1889 (8) والتي شكلت حينها جدة هذا النظام بادخالها  التصفية القضائية كنظام موجه للتاجر حسن النية السيئ الحظ، ورغم ان مسيرة القانون الفرنسي لم تتوقف عند تعديلات 1889، بل ظلت تغني نظام المساطر الجماعية في هذا المجال بالتعديل تلو الاخر، فان التشريع المغربي لم يبرح مكانه، اللهم اذا استثنينا بعض التنقيحات  والتنميقات retouches التي تمت بموجب ظهير 10 فبراير 1951، (9) وبعد ان ظل هذا النظام ولمدة طويلة، قاصرا في تطبيقه على الفرنسيين  والاجانب، اصبح مع قانون التوحيد والتعريب ومغربة القضاء(10) قابلا للتطبيق على جميع ساكنة  التراب المغربي، وامام جميع المحاكم الموحدة، ومن منظور الاهداف والغايات تاثر نظام الافلاس بالمغرب بنفس الفلسفة التي اطرت مصدره التاريخي المتمثل في التشريع الفرنسي، والتي لا يمكن ان تفهم بمعزل عن تطور هذا الاخير، فالمساطر الجماعية المطبقة في فرنسا عند وضع القانون التجاري المغربي لسنة 1913 كانت تتوخى هدفين رئيسين:

ضمان المساواة في معاملة دائني التاجر المفلس.

الاقصاء من الحياة التجارية لكل عاجز عن الوفاء بالتزاماته.

وتصب جميعها في اتجاه واحد هو تصفية ديون المدين  من اجل الوفاء لدائنيه، ولم تكن تعير ادنى اهتمام للمقاولة كمفهوم بدا يتبلور حينها، وكمؤسسة مجمعة لمصالح متباينة يجب العمل على حمايتها. الا انه يجب الاعتراف ان نظام الافلاس بالمغرب، لم يعرف لا في عهد الحماية، ولا حتى في عهد الاستقلال، ذلك

--------------------------

(8) Ahmed EL Hajjami : le redressement des entreprises en difficulté en droit Marocain Thèse Metz 1988 P. 7

(9) استهدفت هذه التعديلات بالاساس الافادة من القانون الفرنسي المؤرخ في 30 اكتوبر1935 من اجل ضمان تسريع واختصار اكثر لاجراءات المسطرة.

(10) قانون رقم 364 المؤرخ في 29 رمضان1384 موافق 26 يناير 1965.

-------------------------

الزخم الذي ثار حوله في فرنسا ان على المستوى التشريعي، الفقهي او القضائي فالتشريع كما وقع بيانه انفا ظل جامدا لعقود من الزمن لا يبرح عتبة التعديلات الفرنسية الاولى، وعلى صعيد الفقه نسجل مع بعض الباحثين (11) كون الافلاس والتصفية القضائية تبقى من اقل مباحث القانون التجاري طرقا من قبل الفقه المغربي.

 

واذا انتقلنا الى القضاء، باعتباره المجسد لحركية القانون، لألفينا الارقام تنطق بواقع هذا النظام بالمغرب، وان كانت بلادنا لا تعرف كما هو متعارف عليه في غيرها من البلدان، نشر احصائيات سنوية رسمية عن عدد المقاولات الموضوعة تحت نظامي الافلاس والتصفية القضائية، اذ بالرجوع الى الاحصائيات المنشورة نجد انه خلال عقد من الزمن، وبالضبط في الفترة من 1980 الى 1989 لم تفتح بالمحكمة الابتدائية للعاصمة الاقتصادية والقلب النابض للمغرب، البيضاء سوى 56 تفليسة و76 تصفية، ولم تشهد العاصمة الادارية، الرباط خلال عام 1988 سوى  تفليسة واحدة وتصفيتين قضائيتين مقابل تفليستين خلال سنة1989 وهذه الارقام لا يمكن ان تعكس باي حال من الاحوال، واقع المقاولات المغربية في طور الصعوبات لعاملين اولهما انها سجلت في الثمانينات من القرن الماضي عقد تنامي الازمة الاقتصادية، وفي اكبر مدينتين اقتصاديتين مغربيتين، وثانيهما ان ثمة مؤشرات تدحض هذه الارقام  بحجمها  منها على سبيل التمثيل لا الحصر تفويت المقاولات، البيوع القضائية للاصول التجارية، الاغلاقات والاعفاءات الجزئية للاجراء والتي شكلت وحدها مادة خصبة للصحافة الوطنية خلال العقد المذكور، مما يجعلنا نستنتج وجود رقم مظلم للافلاسات الواقعية التي تقع دون ان تصل الى ساحة القضاء(13).

 

ويرجع تفسير هذه الظاهرة  في اعتقادنا المتواضع الى عدة عوامل منها، احجام مسيري المقاولات عن ايداع القوائم التركيبية Dépôt de bilan تهربا من المسؤولية ومن قساوة نظام الافلاس، وكذلك حذر الدائنين خصوصا العاديين منهم من تحريك

-----------------

(11) Abbelaziz Squali : droit et pratique en matière de faillite et de liquidation juridique des entreprises EDITION SOFAPRESS 1995 P 9.

(12) Hassan  El Oufir : le droit marocain et les entreprises en difficulté in Droit des entreprises en difficulté - colloque  Brylant, Bruxelles p 94.

(13) نستعير مصطلح الرقم المظلم من علم الاجرام حيث يستعمل للاشارة الى الجرائم التي  ترتكب ويقع التكتم عليها او عدم التبليغ عنها.

-----------------

مساطر يمكن ان تعصف بحقوقهم امام الاولوية الممنوحة للدائنين الممتازين والمرتهنين، تعقيد المساطر وطول اجراءاتها، الحياد السلبي للقضاء وازاء هذه المساطر (14)، ثم بالخصوص بنية المقاولة المغربية القائمة على الشكل العائلي حيث التصاق المقاولة بشخص المقاول، والامكانية الدائمة للحلول الرضائية والحبية المستمدة من القيم الدينية والحضارية للمجتمع المغربي، بالاضافة الى استناد المقاولة العائلية على نوع من التضامن مرتكز على تلافي ما امكن ذلك الوقوع تحت طائلة المساطر الجماعية، بما تحمله من ابعاد قدحية في الموروث الثقافي المغربي بالنسبة للتاجر المفلس.

 

هذا ولم  تمنع  محدودية التدخل القضائي وقلة الافلاسات والتصفيات المعلنة، المشرع من التفكير في اصلاح هذا النظام، خاصة ان ظاهرة الافلاسات الواقعية لا تلغي ازمة المقاولات بالمغرب، وانما تحجبها، وهكذا شكلت الى جانب وزارة التجارة والصناعة ابتداء من سنة 1978 لجنة لمراجعة القانون التجاري، ضمت في عضويتها اساتذة الجامعات والممارسين من قضاة  ومحامين ومستشارين قانونيين بالاضافة الى ممثلين عن الهيئات المهنية الرئيسية  وبعد عشر سنين من العمل اثمرت، جهود هذه اللجنة مشروع مراجعة القانون التجاري لسنة 1988 (15)، والذي يهمنا في هذا العمل هو ان من بين اهم ما اهتم به كان اصلاح نظام الافلاس، اذ سعى الى استلهام  بعض من قواعد الفقه الاسلامي  في هذ المجال، والى الاستفادة من بعض التشريعات العربية والمغاربية النافذة حينها(16)، الا انه لم يحمل في جوهره تغييرات

----------------

(14) كان الفصل 200 من القانون التجاري الملغى يعطي للمحكمة امكانية اشهار الافلاس تلقائيا الا ان هذه المكنة قلما مورست في الواقع العلمي.

(15) تضمن المشروع 702 مادة مقسمة كالتالي :

الكتاب الاول: التاجر (80 مادة)

الكتاب الثاني: الاصل التجاري (82 مادة)

الكتاب الثالث: الاوراق التجارية(170 مادة)

الكتاب الرابع: الاعمال التجارية(164 مادة)

الكتاب الخامس: الافلاس والتصفية القضائية(204 مادة)

مقتضيات ختامية (مادتين)

(16) للوقوف على بعض معالم التعديلات التي حملها المشروع في مجال الافلاس والتصفية القضائية انظر احمد شكري السباعي : الوسيط في القانون التجاري المغربي والمقارن الجزء الرابع في الافلاس شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع الرباط 1991 ص 42 وما بعدها.

------------------

جوهرية في المادة، واكتفى بتهذيب وتنقيح القانون السابق ان على مستوى الشكل والجوهر، فلم يستفد من كثير من اللمسات الهامة التي وضعها القانون الفرنسي المؤرخ في 13 يوليوز1967 على نظام المساطر الجماعية، كما انه واثناء انكباب اللجنة في عملها، كان الحديث في النظام الفرنسي المصدر التاريخي هو صدور قانوني 1 مارس 1984 المتعلق بالوقاية من صعوبات المقاولة 25 يناير 1985 المتعلق بالمعالجة  والتسوية القضائية، الا ان اللجنة  لم تعرهما كبير الاهتمام، ولم توظف ولو جزء يسير من المستجدات التي حملاها (17) لكن رغم الجهد والوقت اللذين صرفا في مشروع 1988، فانه لم يكتب له ان يرى النور، ووقع اقباره الى حين، الا انه لما اتيحت الفرصة مجددا مع اعداد مشروع القانون رقم 15.95 بمثابة التجارة، للتفكير في اصلاح نظام المساطر الجماعية، وقع تحول عن الافلاس الذي الغى لفظا وجوهرا وبرزت منظومة جديدة هي صعوبات المقاولة.

 

القسم الثاني : صعوبات المقاولة: رهانات بديلة

ابتداء من عقد السبعينات من القرن الماضي عرفت الازمات الاقتصادية والمالية طريقها الى اكثر من المقاولات المغربية لاسباب ظرفية واخرى هيكلية. الاولى غذتها الظرفية العامة للاقتصاد الوطني، المتاثر بعدة متغيرات نخص منها بالذكر، ارتفاع اسعار البترول بعد حرب اكتوبر1973، انخفاض اسعار الفوسفاط نتيجة سياسة الاغراق الامريكية، انخفاض قيمة الدرهم مقابل العملات الرئيسية دخول البلاد في دعم المجهود الحربي في الصحراء المغربية تعزيزا لاستكمال الوحدة الترابية، ثم تبني سياسة التقويم الهيكلي ابتداء من  سنة1983 كاحدى اهم الاكراهات المفروضة من قبل المؤسسات المالية الدولية نتيجة ثقل المديونية الخارجية.

 

وقد يكبر ويصغر حجم تاثير هذه الاسباب الظرفية على وضعية المقاولات المغربية، الا ان ثمة اسبابا هيكلية، لا يمكن اغفال تاثيراتها السلبية منها، ان قوانين

-------------------

(17) في حديث لكاتب هذه الدراسة مع الاستاذ احمد شكري السباعي احد الذين ساهموا في اعداد مشروع 1988 اكد ان اللجنة اعتبرت حينها نظام 84 و75 الفرنسي متطورا ويتجاوز بكثير الواقع الاقتصادي للمقاولات المغربية وبنياتها القانونية والتنظيمية.

------------------

المغربية الصادرة في مارس 1973 حملت الى كثير من المقاولات الخاصة جيلا  من المسيرين لم يكن مهيئا لتحمل المسؤوليات.

وظلت المقاولة الراسمالية بمفهومها العلمي، وبما توفره للاستثمار من شفافية في التسيير وعقلانية في المراقبة غائبة امام سيادة المقاولة العائلية المتسمة بمركزة القرار، وتغييب الاجهزة الاجتماعية، هذا دون اغفال ضعف الشفافية داخل المقاولات الناتج عن غياب نظام محاسبي فعال وضعف وسائل الاخبار.

ورغم تضافر مختلف هذه العوامل لابراز ازمة المقاولات في طور الصعوبات، الا انها لم تستدع رد فعل آني امام ضعف حجم  الافلاسات المعلنة كمؤشر يمكن ان يكون مقلقا.

 

لكن ابتداء من عقد التسعينات ورغبة في اعطاء الاقتصاد الوطني دفعة قوية لمواجهة رياح العولمة التي انطلقت من مراكش مع اتفاقية منظمة التجارة العالمية سنة1994 دخل المغرب مسلسلا من الاصلاحات التشريعية في مجال القوانين الاقتصادية والمالية  تمحورت في مجملها حول تفعيل قانون دشن انسحاب الدول من القطاع الانتاجي لفائدة الخواص. لقد جاء قانون الخوصصة (18) لينقل الاقتصاد المغربي من اقتصاد موجه وشبه اشتراكي الى اقتصاد ليبرالي اكثر تحررا، يعطي للمبادرة  الخاصة مجالا رحبا. وكان لزاما والحالة هذه ان اصبح القطاع الخاص قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وضع  اجراءات مصاحبةmesures d'accompagnement لقانون الخوصصة، تمكن الراسمال الخاص من اداء دوره التنموي الجديد، وفي هذا السياق خرجت مدونة التجارة الجديدة الى الوجود كاحدى الاولويات الى جانب قوانين الشركات (19) وداخل هذه المدونة، كان لنظام المساطر الجماعية القدح المعلى من الاهتمام لا باعتباره فقط اهم مباحث القانون التجاري الحديث، ولكن كذلك للتاثير

------------------------

(18) يستعمل قانون مصطلح الخوصصة للتعبير عن القانون رقم 89-39 المادون بموجبه في تحويل منشات عامة الى القطاع الخاص الصادر الامر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 01/1/90 بتاريخ 15 رمضان 1410 (11/4/1990) ج ر عدد 4042 بتاريخ 18/04/1990.

(19) قانون رقم 17.95 متعلق بشركات المساهمة

قانون رقم 5.96 متعلق بباقي الشركات.

-----------------------

المرتقب لتحريره التجارة الدولية واتفاقيات التبادل الحر على الاقتصاد المغربي وعبره المقاولات المغربية خاصة تلك التي قد تفقد القدرة التنافسية في المحيط الجديد.

ولعل اولى الاشكاليات التي واجهت واضعي الكتاب الخامس من مدونة التجارة في تخميننا هي اختيار النظام الملائم للمرحلة وبالتبعية توجيهاته الاساسية، فهل سيقع الاحتفاظ بالافلاس، وهو النظام الذي استانس به الفقه والقضاء لثماني عقود، وصرفت لجنة مراجعة القانون التجاري عشر سنوات من جهودها لتنقيحه وتهيئته ام سيتم التوجه الى انظمة حديثة اكثر تطورا وحمائية للمقاولة، وهي التي اصبح مطلوبا منها ان تكون مواطنة entreprise citoyenne بكل ما في الكلمة من معنى ؟ 

 

نتاسف حقيقة لغياب مذكرة ايضاحية او بيان اسباب تشرح دواعي استبعاد هذا النظام او اختيار ذاك الا ان الثابت في علمنا ان من ساهموا في مشروع مراجعة القانون التجاري لسنة1988 لم يشركوا في اعداد مشروع القانون رقم 15.95 بمثابة مدونة التجارة الذي اقتصر انجازه على تكنوقراطيي وزارة التجارة والصناعة مساعدين من طرف بعض الاساتذة الفرنسيين الذين استقدموا لهذا الغرض (20) فهل هذا ما يفسر تحول اتجاه التشريع من الافلاس الى صعوبات المقاولة، اما ان ثمة اسباب اكثر عمقا ووجاهة؟

في اجتهادنا الشخصي المتواضع، نعتبر هجر نظام الافلاس كما طبق في المغرب،  كان الامر لا محالة منه، ان عاجلا ام اجلا، بعد ان ثبتت محدوديته، لكن لماذا التحول بالذات الى صعوبات المقاولة؟

اذا رجعنا مرة اخرى الى الظرفية التي هيئت فيها مدونة التجارة. نجد ان الاقتصاد المغربي اصبح محتما عليه اعداد نفسه لمرحلة جديدة من صيرورته، وتهيئة المناخ الاقتصادي المناسب لمسلسل الخوصصة ونقل القطاع الخاص الى الواجهة كبديل للدولة ومؤسساتها العمومية. دخول المغرب طرفا في اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الاوروبي وانظمة منظمة التجارة الدولية يفرض بدوره اعداد المقاولات المغربية لمسايرة

------------------

(20) يتعلق الامر بالاستاذين DECOQO ET Jean-Louis Rives Lange اللذين ساهما كذلك في اعداد مشروع قانون شركات المساهمة انظر

Mohamed ELMERNISSI : Rapport  introductif de colloque sur le projet de réforme de la société anonyme : Implication et enjeux en Revue Marocain de droit et d'économie du développement N° 37 1996  P 31.

-----------------

الالتزامات والاكراهات الناجمة عن هذه المواثيق خاصة انها فرضت على المغرب احداث بعض التوافق والانسجام بين الياته القانونية وتشريعاته وهذه المواثيق، المراهنة على الاستثمار الاجنبي لتحقيق المشاريع الضخمة يلزم توفير وسائل الجدب وعلى راسها تمكين هذا الراسمال من مؤسسات شبيهة، واحيانا مطابقة للتي يستفيد منها في موطنه الاصلي،  ولعل هذا العامل بالذات هو ما يفسر حرص مدونة التجارة على ان تطابق مقتضياتها مع كثير من ضوابط وتوجيهات المجموعة الاقتصادية الاوروبية normes et directives communautaires ، اعتبارا لوضعية اوروبا الغربية، كابرز مخاطب اقتصادي للمغرب في العالم وفي مجال المساطر الجماعية، كان استلهام النظام الفرنسي الجديد(21) منتظرا لعوامل عدة منها، غياب قانون اوربي موحد في هذا المجال(22)، ميزة القانون الفرنسي كاكثر القوانين الاوروبية تطورا، وان لم يكن اكثر فعالية، ثم وضعية فرنسا كاول شريك اقتصادي للمغرب، دون اغفال الروابط التاريخية بين التشريعيين المغربي والفرنسي،  كما لم يكن من  الممكن التغاضي عن نظام تجاوز حدود مهده لينتقل الى كثير من الانظمة القانونية ذات الايحاء والروح الفرنكوفونية، فتونس البلد الجار الذي ينافس المغرب على استقطاب الاستثمارات الاجنية الموجهة الى الضفة الجنوبية لحوض البحر الابيض المتوسط. كانت سباقة الى الاستفادة من الابعاد الجديدة  للقانون الفرنسي في مجالي  الوقاية  والمعالجة (23).

 

ومساطر صعوبات المقاولات تشكل في نهاية المطاف خاتمة التطور في مجال اثبتت

------------------------------

(21) يقصد بالنظام الفرنسي في هذا المجال، القوانين والمراسيم التي شكلت مصدرا للكتاب الخامس من مدونة التجارة، ويتعلق الامر بـ :

قانون 1 مارس 1984 المتعلق بالوقاية والتسوية الودية من صعوبات المقاولة ومرسومه التطبيقي الصادر في 1 مارس 1986.

قانون 25 يناير 1986 المتعلق بالتسوية والتصفية القضائية للمقاولات مع مراسيمه التطبيقية ومختلف تعديلاته.

(22) من المعلوم ان المساطر الجماعية، من اكثر مجالات القانون التجاري التي يثار فيها تنازع القوانين الوطنية لتنامي ظاهرة الشركات عبر الوطنية وتوطن  فروع الشركات التجارية بالبلدان الاجنبية لذلك يطرح تفكير عميق حول توحيد وتدويل قوانين الافلاس. وتبدو المجموعة الاقتصادية الاوربية الاكثر تهيئا  لبلورة قانون قاري موحد للمساطر الجماعية.

(23) قانون عدد 34 لسنة 1995 مؤرخ في 17 ابريل 1995 يتعلق بانقاد  المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 34 بتاريخ 25 ابريل 1995 ص 792.

-----------------------------

الممارسة التشريعية حاجيته الدائمة الى التطور المستمر لارتباطه  الوثيق بالمتغيرات الاقتصادية وتاثيراتها على المقاولات، وفي هذا الخصم يبدو التوقف عن نظام يعود الى القرن التاسع عشر مجافاة لمنطق التطور. على ان تفصيل  نظام معالجة صعوبات المقاولة، لا يشكل مجرد رغبة في مسايرة الجديد التشريعي، او سعي لضمان تنافسية قانونية على مستوى الترسانة التشريعية في مجال القانون الاقتصادي، بل ينبع كذلك من ما توفره قواعده  من اغراءات اذا ما قورنت بسابقاتها. وقد يطول المجال لسرد مختلف مظاهر جدة هذا النظام بتفاصيلها الدقيقة، الا انه يجدر التوقف عند الخطوط العامة التي نرى انها وجهت خيار المشروع، ونلخصها  في خمسة ابعاد جوهرية، استطاع القانون الفرنسي المصدر ان يحققها وان يبرزها:

 

أولا : البعد الوقائي

لم يكن النظام السابق، يعير اية اهمية  لوقاية المقاولات  من الصعوبات (24)، بل ولم يتضمن اية قواعد يمكنها تحقيق هذه الغاية اما بكيفية مباشرة او حتى ضمنية، وقد ابرزت مختلف التحاليل للارقام المهولة للمقاولات المتوقفة عن الدفع في مختلف التجارب العالمية، ان انجع وسيلة لخفض هذه النسب والتقليل من حالات الافلاس (25)، هو تقوية اجراءات الوقاية تطبيقا لمبدا الوقاية خير من العلاج(26)، لان استشعار الصعوبات في مهدها والوقاية منها بالغاء اسبابها يكون اجدى من انتظار الاجراءات العلاجية اللاحقة على التوقف عن الدفع مهما بلغت فعاليتها.

---------------------

(24) Ahmed : EL HAJJAMI M OP Cit P. 27

(25) طيلة هذه الدراسة نستعمل احيانا مصطلح الافلاس لا للتعبير عن النظام، وانما للتعبير عن الحالة الاقتصادية للتاجر او المقاولة وفق المصطلح الفرنسي défaillance ، وللاشارة فان الافلاس هو المصطلح الاصيل في اللغة العربية للتعبير عن اعسار الشخص وتوفق التاجر عن دفع ديونه ورد في لسان العرب افلس الرجل : صار ذا فلوس بعد ان كان ذا دراهم وصار مفلسا كانما صارت دراهمه فلوس وزيوفا وفي الحديث من ادرك ماله عند رجل قد افلس فهو احق به. افلس  الرجل اذا لم يبق له مال، يريد به انه صار الى حال يقال فيه ليس معه فلوس ص 318.

(26) اول وثيقة رسمية فرنسية اثارت الانتباه الى الوقاية كان تقرير sudreau الذي اوصى في احد فصوله بضرورة الوقاية من الصعوبات ومساعدة المقاولات على مواجهتها ويعتبره الكثيرون المصدر الذي استلهم منه قانون 1 مارس1984 معالمه الرئيسيةRapport du comité par P. sudreau, la reforme de l'entreprise Editions 10-18, 1975 p177.

---------------------

في هذا الصعيد مكن القانون الجديد المقاولة من تذليل الصعوبات الاقتصادية واتقاء اسبابها بنفسها عن طريق الوقاية الداخلية ( المواد 456 و547). ومنح المقاولة فرصة لتسويتها وابرام اتفاق مع دائنيها الرئيسين باعتماد مسطرة التسوية الودية( المواد 553 الى 559).

 

ثانيا: البعد العلاجي

كما وقعت الاشارة الى ذلك، يتميز  نظام الافلاس الملغى بطابعه العقابي والتصفوي، الذي ينطلق من فكرة الجزاء القائمة على ان التاجر الذي يخل بالتزاماته، تهدد الائتمان التجاري ويتعين اقصائه من الحياة الاقتصادية ضمانا لتطهير محيط التجارة. ومهما اختلفت المسطرة ( الافلاس او التصفية القضائية)، فان الهدف واحد وهو تصفية اصول التاجر المتوقف عن دفع ديونه من اجل الوفاء بخصومه مع بروز مفهوم جديد يجعل من المقاولة وحدة اقتصادية، تجسد مصلحة عامة  باهدافها الاجتماعية والاقتصادية، تبلورت قناعة مفادها ان تقوية المقاولة والمحافظة عليها هو تقوية للنسيج الاقتصادي الوطني باجمعه،  وضمانا لاستقرار الشغل، وتغيرت الاهداف، واصبح البعد التصفوي للمساطر الجماعية كالكي اخر الدواء، لا يلتجا اليه الا بعد فشل الاجراءات العلاجية ممثلة في استمرارية المقاولة عبر مخطط تلتزم المقاولة بانجازه وتنفيذه( المادة592 وما يليها) او في تفويتها لاحد من الاغيار مما يضمن استمرار نشاطها كليا وجزئيا والمحافظة على مناصب الشغل (المادة603 وما يليها).

 

ثالثا : تنامي دور القضاء

لقد كان للقضاء وما يزال دور المحرك والمشرف على سير المساطر الجماعية، الا ان تدخله في النظام السابق كان بعديا لا يتم الا بعد وقوع المقاولة في حالة التوقف عن الدفع لتوقيع شهادة وفاتها، دونما التفات الى أي تدخل وقائي يمنع وصولها  لهذه المرحلة الحرجة، اما مع النظام الجديد، فاصبح هذا التدخل قبليا من خلال السلطات الممنوحة لرئيس المحكمة في نطاق الوقاية الخارجية والتسوية الودية، وبعد توقف المقاولة عن اداء ديونها تتسع سلطات المحكمة، اذ تعلن فتح المسطرة، وتشرف على سيرها من خلال القاضي المنتدب لتتبع اجراءاتها، وتتخذ مجموعة من القرارات السيادية التي لا رقابة عليها، كاختيار الحل الملائم بين الحلول الثلاث الممكنة وهي الاستمرارية التفويت ثم التصفية القضائية، بالاضافة الى اختيار المفوت اليه عبر الموازنة بين العروض المقدمة اليها والمحققة للاهداف الرئيسية والترابية للمسطرة، وهي في هذا لا تتخذ مجرد قرارات قانونية  ولكنها تمارس وظيفة وسلطة اقتصادية ولا تطبق قواعد قانونية فحسب، ولكنها تبت كذلك في الملائمة statut en opportunité (27)، اضف الى ذلك سلطتها في فرض اجالات للوفاء على الدائنين .

 

اما القضاء الواقف فيتمتع  بدوره الى جانب المحكمة والقاضي المنتدب بسلطتها موسعة سواء تعلق الامر بطلب  فتح المسطرة وتتبع اجراءاتها وممارستها طرق الطعن (28).

ان تنامي سلطات القضاء، ادى الى تراجع مهول في السلطات المخولة للدائنين والى تقلص نطاق الحرية التعاقدية في مجال صعوبات المقاولة اللهم اذا استثنينا التسوية الودية، واصبحت هيمنته مطلقة على سائر مراحل المسطرة لدرجة تحدث معها البعض على سيطرة الطابع القضائي على هذه المساطر la judiciariation des procédures  (29) او عن البعد التدخلي للقضاءL'interventionnisme judiciaire(30). كما تحدث البعض الاخر عن بروز مفهوم القضاء الاقتصادي la magistrature économique(31) لغلبة الطابع الاقتصادي لوظيفة القضاء في نطاق النظام الجديد على الوظائف القانونية والقضائية التقليدية، ولاتخاذه مجموعة من القرارات ذات طبيعة اقتصادية اكثر منها قانونية.

-----------------------

 (27) yves Guyon : droit des affaires tome 2 Entreprises en difficulté Redressement judiciaire -Fail  lite 6 édition Economica p31.

(28) لمزيد من الايضاح حول دور النيابة العامة في مجال المقاولة في التشريع المغربي راجع عبد المجيد غميجة : المفهوم الجديد لدور النيابة العامة امام المحكمة التجارية مجلة الحدث القانوني، عدد 12 يناير1999 ص 3 وما بعدها.

Corinne. Saint-Alary-Houin : droit des entreprises en difficulté. Domat - montchrestien 1955(29) p32

Yves Guyon : op. cit. p. 209. (30)

Bon : le rôle du juge dans la nouvelle procédure R.T.D com 1986 N° spéciale tome 2p 45 : (31)

----------------------

 

رابعا: تأطير النظام بأولويات

لاول مرة، يقع رسم اهداف وأولويات، تستلهم كفلسفة ودستور تتحرك في نطاقها ميكانزمات المساطر الجماعية، فقد سطر القانون الفرنسي الصادر في 25  يناير 1985 لمسطرة التسوية القضائية ترتيبا للاولويات حددها في حماية المقاولة ثم المحافظة على نشاطها ومناصب الشغل فابراء ذمتها من الخصوم(32).

وقد شكل تطبيق هذا المقتضى بؤرة لجدل واسع في اوساط الفقه والقضاء حول حدود الزاميته، وطبيعة الترتيب الذي وضعه. والمجمع عليه هو ضرورة التزام المحاكم بهذه الاولويات في مختلف مراحل المسطرة، وفي جميع الاختيارات التي تفرضها  ملتزمة بالترتيب الذي جاء ت به لان الأهداف الثلاثة للمسطرة الجديدة هي تراتبية successives، وليست تخييرية alternatives (33) فلا يمكن الانتقال مثلا الى التفويت، الا بعد تعذر تحقق الاستمرارية، ولا يمكن تصفية المقاولة الا اذا استحالت استمراريتها او تفويتها الى الاغيار.

 

واذا كان المشرع المغربي قد تبنى بدوره نظام ترتيب الاولويات من خلال المادة603 من مدونة التجارة فانه لم يوفق في اعتقادنا في موقعتها على غرار  التشريعين الفرنسي والتونسي(34)، حين اقحمها ضمن المقتضيات المتعقلة بالتفويت، والحال ان مكانها الطبيعي هو المقتضيات العامة المشتركة.

 

خامسا : التمييز بين مصير المقاولة ومآل المدين

لا يشكل هذا الجانب مستجدا بالنسبة لقانون 25 يناير1985 الفرنسي، لان قانون13 يوليوز1967، كان السباق الى اقامة هذا الفصل متاثرا بتوصيات الفقيه

-------------------

Article I  loi 25 janvier 1985 dispose « il est institué une procédure de redressement judiciaire(32)  destinée à permette la sauvegarde de l'entreprise, le maintien de l 'activité et l'emploi et l'apurement du passif ».

(33)    rapport  senat 332 p 48

(34)التشريع التونسي اورد بدوره ترتيب اولويات المسطرة في الفصل الاول من قانون  عدد 34 لسنة1995 ضمن الباب الاول احكام عامة الذي نص: " يهدف نظام الانقاد اساسا على مساعدة المؤسسات  التي تمر بصعوبات اقتصادية على مواصلة نشاطها والمحافظة على مواطن الشغل فيها والوفاء بديونها".

------------------

Houi ، الذي  نادى بضرورة الفصل بين الشخص والمشروع « séparer l'homme d"entreprise(35)، لان التشريع الفرنسي كان لا يسلط سيف الافلاس على شخص المدين او على امواله بل على الاثنين في ان واحد، والنص القانوني الذي يقضي بمعاقبة المخطئ، هو في حقيقة الامر يعاقب المقاولة ويعني ذلك انه يعاقب عمال المؤسسة وكذلك الشركاء الذين لم يشتركوا في الادارة بل  والدائنين ايضا.

 

في ظل المقتضيات الجديدة، يتحدد مصير المقاولة استنادا الى معيار اقتصادي موضوعي هو امكانية التسوية والتصحيح عن طريق الاستمرارية او التفويت، وعند تعذر ذلك يلجا الى التصفية القضائية (36)، اما مآل المدين التاجر الشخصي الطبيعي او المسير فيتوقف على معيار ذاتي، فاذا كان نشيطا كفء حريصا على مصالح المقاولة، لم يرتب فتح المسطرة اي جزاء او سقوط في مواجهته ويمكنه ان يحتفظ بصفته كتاجر او مسير وان يبقى على راس مشروعه، اما اذا كان على العكس من ذلك متهورا مهملا او اقترف اخطاء عمدية، فانه يتعرض الى الجزاءات المدنية  والجنائية للمساطر الجماعية(37).

---------------------

Houin :Permanence de l'entreprise à travers la faillite in aspects économiques de la faillite et (35) règlement  judiciaire,  bib dr. com T 20 p135

(36) حدد هذا المعيار الموضوعي المادة 586 من مدونة التجارة التي نصت انه " يقضي بالتسوية القضائية اذا تبين وضعية المقاولة ليست مختلة بشكل لا رجعة  فيه والا فيقضي بالتصفية القضائية".

(37) يستشف هذا المعيار الذاتي في التعامل مع مسيري المقاولة الفردية او ذات شكل شركة عند رجوعها الى بعض الافعال الموجبة لتطبيق الجزاءات المالية والجنائية في حق المسيرين مثل :

تحميل المسير النقص في اصول الشركة المادة 704.

تمديد المسطرة وبالاحرى فتحها في مواجهة المسير عن اقترافه بعض الافعال المادة 706.

التفالس المادة 720.

جرائم  اخرى المادة 724.

 

خاتمة

امام غياب المرجعيات المتعارف عليها لاستكناه الخلفية التشريعية، حاولنا على امتداد هذه الدراسة، ابراز العوامل التي وجهت اختيار المشرع المغربي لنظام صعوبات المقاولة، قد نكون قد وفقنا في هذا المسعى حينا او جانبنا الصواب  في بعض التاويلات التي سقناها. الا ان ما حفزنا للخوض في الموضوع، وهو بعده التاصيلي من منطلق، ان كل تطبيق للنصوص القانونية،  بمعزل عن اسباب نزولها، يبقى تطبيقا ناقصا، لعجزه عن استحضار روح وفلسفة التشريع التي ينبغي ان تؤطره باستمرار.

 

لقد ولى عهد القضاء، التقني المتوقف عند حرفية النصوص والمتون، وبرز مفهوم القضاء الاقتصادي المامول منه اليوم، تقوية الضمانات المطمئنة للاستثمار وتخليق الحياة الاقتصادية، ومساعدة المقاولة المواطنة على النهوض بدورها التنموي، لذلك اصبح القضاء  مدعوا لتفعيل النظام الجديد للمساطر الجماعية، مستحضرا اهدافه  وخلفياته الاقتصادية والاجتماعية.

 

وصفوة القول، انه مهما اختلفنا مع خيار المشرع في تبنيه لنظام صعوبات المقاولة، وشكك البعض في امكانات نجاح تجربة متطورة في نطاق اقتصاد منبعث، فان هذا النظام اصبح امرا واقعا، يتعين التعامل معه والعمل على انجاحه، وقبل ذلك اغنائه في افق تعديل قادم يراعي خصوصيات الاقتصاد المغربي، ويلائمه مع بنية المقاولة المغربية مراعيا،  ما يمكن ان يفرزه التطبيق العملي الذي انطلق بالفعل وبدينامية كبيرة .

 

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 89، ص 57.

 


تعليقات