مقدمة
من المسلم به أن الكتابة في موضوع من قبيل الحــيــازة لا يعد أمرا مبتكرا، مادام فقهاء المالكية قد خصوا هذه المؤسسة بالعديد من الأحكام التي ساهمت في إغناء الفكر القانوني على مر الزمن.
لكن و بالرغم من ذلك، فإن البحث في هذا المضمار يقتضي ويتطلب مجهودا خاصا يرقى إلى صف الواجب، خاصة وأن الحيازة من المواضيع التي تحتم على الباحث الرجوع إلى أمهات الكتب الفقهية لاستخلاص القواعد التي تؤطرها ،على اعتبار أن الفقه المالكي قد أولى اهتماما خاصا للموضوع محل البحث من خلال تحليل أحكامه في كل نازلة عرضت على الفقهاء بخصوصه، مستندين في ذلك إلى القاعدة الفقهية المشهورة "أن من له شيء ترك غيره يتصرف فيه ويفعل فيه ما يفعل المالك الدهر الطويل فإن ذلك مما يسقط الملك ويمنع الطالب من الطلب. "
وغني عن البيان أن الحيازة قد تنصب على المنقول كما قد تنصب على العقار ،هذا الأخير الذي يشكل المجال الخصب للمنازعات المرتبطة بها، وذلك بالنظر إلى أهميته الاجتماعية، و الاقتصادية ،مما أدى إلى ضرورة تدخل القضاء في هذا الإطار بغية وضع حد للمشاكل التي تطرحها الحيازة على أرض الواقع ،وهي مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق، ذلك أن الأمر يحتاج إلى دراية بقواعد الفقه المالكي مادامت هي التي تطبق على العقارات غير المحفظة بشكل عام والحيازة بشكل خاص، الأمر الذي جعل القضاة يختلفون في التعامل مع موضوع الحيازة بالنظر إلى تفضيلهم لهذا المصنف الفقهي أو ذاك من المصنفات الفقهية المعتمدة، فكان من اللازم على المجلس الأعلى التدخل في أكثر من مرة لأجل توحيد الاجتهادات القضائية بهذا الخصوص.
ومن هذا المنطلق نتساءل عن مدى تفاعل القضاء المغربي مع القواعد الفقهية المنظمة للحيازة في العقار؟
الشيء الذي يحتم علينا تقسيم الموضوع إلى المبحثين التاليين:
المبحث الأول: أقســــــــام الحيـازة وشروطـها.
المبحث الثاني: موانـــع الحـــيازة وآثـارهــــــا
المبحث الأول: أقسام الحيازة وشروطها
لقد حظيت الحيازة باهتمام الفقه والقضاء نظرا للأهمية البالغة التي عرفتها هذه الأخيرة في جل المجتمعات الإسلامية، لذلك كان من البديهي أن يثار حول هذه المؤسسة نقاش واختلاف بين الفقهاء، بل وحتى بين المذاهب الإسلامية مادام كل مذهب يأخذ بتعريف خاص به لا يخرج عن ما جاء في الكتاب والسنة، ولما كان المذهب المالكي هو المذهب المعتمد في المغرب فإننا سنتقيد بأحكامه من أجل إبراز مفهوم الحيازة وأقسامها (المطلب الأول) هذا بالإضافة إلى بيان شروطها (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الحيازة، المفهوم والأقسام
من المسلم به في كل دراسة، سواء كانت فقهية أو قانونية، أنه لا بد من تعريف الموضوع محل البحث وهذا ما يجب أن ينطبق على الحيازة (الفقرة الأولى)، وغني البيان أن للحيازة أقسام اختلف الفقه المالكي بخصوصها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الحيازة
يقصد بالحيازة لغة الجمع وضم الشيء كالحيازة والإحتياز وفي لسان العرب الحوز والجمع وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال أو غيره ذلك فقد حازه حوزا أو حيازة وحازه إليه وإحتازه إليه أي ضمه إلى نفسه يتبين من خلال هذين التعريفين أن الحيازة لغة ماهي في حقيقة الأمر إلا ضم الشخص شيئا لنفسه مادامت الحيازة لا تتحقق إلا بالسيطرة على الشيء ولا شك أن مفهوم الحيازة لا ينحصر في التعريف اللغوي فقط وإنما يمتد إلى التعريف الفقهي، وهكذا عرفها الفقيه الدردير على أنها "وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه بهدم أو بناء أو صدقة أو زرع أو غرس أو إيجار أو بيع أو قطع شجر" في حين عرفها أحد الفقهاء المتأخرين من المالكية بأنها وضع اليد على الشيء مع إدعاء تملكه والتصرف فيه عشرة أعوام فأكثر على عين المدعي الذي سكت عن ملكه من غير عذر، ومحلها ما جهل أصل مدخل الحائز أو علم وكان ينقل الملك عن الأول مثل الشراء منه أو التبرع منه على الحائز أو ورثته إلى جانب هذه التعاريف الفقهية المقتبسة من أمهات الكتب، نجد بعض الفقه المغربي الحديث الذي حاول هو الآخر تحديد مفهوم للحيازة وإذ عرفها إبن معجوز على أنها وضع اليد من قبل الإنسان على شيء ويبقى تحت تصرفه مدة من الزمن.
وعرفها الأستاذ مأمون الكزبري بأنها السلطة الواقعية أو السيطرة الفعلية على شيء منقولا كان أو عقار أو على حق عيني مترتب على شيء.
يتضح من خلال هذه التعاريف المذكورة أعلاه أنها اختلفت في الصياغة واللفظ دون المضمون، مادامت كلها تصب في اتجاه واحد ألا وهو وضع اليد على الشيء المحوز، وعلى هذا الأساس يمكن القول أن وضع اليد هو مظهر أساسي لقيام الحيازة وتحققها مادام تخلفه يترتب عليه انتفاء الحيازة. ومن هذا المنطق نتساءل عن ما إذا كان القضاء المغربي قد تقيد بالتعاريف المشار إليها سابقا وخاصة مسألة وضع اليد؟.
إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي الرجوع إلى بعض القرارات التي لها صلة بالموضوع الذي نحن بصدده من قبيل القرار الصادر عن المجلس الأعلى الذي جاء في إحدى حيثياته" وأن وضع اليد من شأنه أن ينتج أثار قانونية حتى ولو لم تكن الحيازة مرتكزة على أي رسم".
يتبين من خلال هذا القرار أن وضع اليد ينتج كافة آثاره سواء كانت الحيازة مجهولة الأصل أو معلومة الأصل وهو ما سنفصل فيه الكلام في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: أقسام الحيازة
لقد اختلف فقهاء المالكية في معالجة مسألة أقسام الحيازة، حيث برز في هذا الإطار تقسيمين يتعلق أحدهما بطبيعة الشيء المحجوز (أولا) يرتبط الأخر بالعلاقة بين الحائز والمحوز عليه (ثانيا).
أولا: أقسام الحيازة بالنظر إلى طبيعة الشيء المحوز
في هذا الإطار ذهب الفقيه التسولي في شرحه لتحفة إبن عاصم إلى القول أن الحيازة على قسمين، حيازة مع جهل أصل الملك لمن هو، وحيازة مع علم أصل الملك لمن هو.
فالأولى تكون لمن استولى على شيء مباح أو عقار غير مملوك لأحد وهذه تكفي فيها 10 أشهر فأكثر سواء كان ذلك يتعلق بالعقار أو بغيره، بحيث إذا كان شيء لا يعرف مالكه ثم أثبت شخص أنه حاز 10 أشهر فأكثر فإنه يصبح مالكا له وفي نفس السياق ذهب جانب من الفقه المالكي إلى حد الإقرار بأن الحيازة تنفع فيما جهل أصله، أما إذا ثبت المدخل لأحد وكان غير ناقل للملكية فلا يضره تصرف غيره بمحضره ولو طال.
وانسجاما مع ما تقدم قضى المجلس الأعلى في أحد قراراته والذي جاء في إحدى حيثياته "الحيازة إنما تنفع فيما جهل أصله وأن المحكمة لا تكون ملزمة بأن تتعرض لشروط الحيازة بل يكفيها أن تتثبت بمجرد وضع اليد ومطلق الحيازة. يتضح من خلال هذا القرار أن المجلس الأعلى كرس قاعدة فقهية من صلب ما سنه الفقه المالكي في حيازة ما جهل أصله.
أما الثانية التي تتمثل في حيازة ما علم أصله ، وهي التي يعلم أصل الملك فيها لمن هو كما إذا وقع نزاع بين شخصين حول عقار أحدهما يدعي أنه يملك ذلك العقار ويتمسك الآخر بان ذلك العقار تحت حيازته وتصرفه، فهذه الحيازة إذا توفرت فيها شروطها وكذا بيان أصل مدخله تعتبر قرينة قاطعة على أن ذلك الشيء لذلك الحائز وأنه لا حق فيه للغير بحيث يحكم باستمرار حيازته له إن كان تحت يده كما يحكم برده له إن كان قد انتزع منه ولا ينفع مدعي الملكية ما يدلي به من حجج لتأييد دعوى الملكية هذه وهذا ما أكده المجلس الأعلى في أحد قراراته التي جاء فيها:ًًً إذا أثبت المدعي وجه تملكه للعقار موضوع الدعوى فلا ينفع المدعي عليه الحائز إلا إثبات وجه مدخله وإلا استحق العقار من يده.
ثانيا: أقسام الحيازة بالنظر إلى العلاقة بين الحائز والمحوز عليه
لقد قسم الفقيه المالكي ابن فرحون الحيازة إلى ستة أقسام تتمثل في حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه، وتتجلى الثانية في حيازة الأقارب الشركاء، أما الثالثة تتعلق بحيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة فيه بينهم، أما الرابعة فتتعلق بحيازة الموالي والأختان في حين يتعلق النوع الخامس بالأجانب الأشراك بعضهم على بعض أما النوع الأخير فهو مرتبط بحيازة الأجانب بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه.
والملاحظ أن هذا التقسيم المعتمد من قبل الإمام ابن فرحون جاء في شكل تصاعدي حيث كان البدء بأضعف أقسام الحيازة وهي الحيازة بين الآباء والأبناء ووصولا إلى أقواها وهي الحيازة بين الأجانب غير الشركاء.
وعلى خلاف التقسيم السابق نجد جانب من الفقه من نهج في تقسيم الحيازة تقسيما يتسم بدقة الفصل بين العلاقة القائمة بين الحائز والمحجوز عليه فجعلها ثمانية أقسام حيازة القريب جدا كالأب مع ابنه وإلى قريب دون ذلك كسائر الأقرباء، ورثة أو غير ورثة، وإلى كونه من الأصهار والموالي وإلى كونه أجنبيا وكل واحد من الأربعة إما أن يكون شريكا أم لا.
إن الاختلاف القائم بين الفقهاء المالكي بخصوص أقسام الحيازة ما هو إلا اختلاف من حيث المنظور على اعتبار أن الفقهاء الذين يقسمون الحيازة إلى ستة وثمانية أقسام بالنظر إلى العلاقة الرابطة بين الحائز والمحوز عليه يخلصون عند تحليلهم لهذه الأقسام إلى أن الحيازة ما هي إلا قسمان حيازة معلومة الأصل، وحيازة مجهولة الأصل.
المطلب الثاني: شروط الحيازة
إن كل تصرف قانوني لا ينتج آثاره القانونية إلا بتوفر شروط وعناصر تكوينة، وما الحيازة إلا واحدة من هذه التصرفات التي أجمع بشأنها الفقهاء على أنها لا تقوم إلا بتحقق شروطها والتي جاءت في لا مية الزقاق:
يد نسبة طول كعشرة أشهر وفعل بلا خصم بها الملك يجتلى
وهل عدم التفويت في علمهم كمال أو صحة للحي الميت إذا جعلا
هذه الشروط منها ما يتعلق بشخص الحائز (الفقرة الأول) وما يتعلق بظروف الحيازة (الفقرة الثانية
الفقرة الأولى: الشروط المتعلقة بشخص الحائز
تتمثل هذه الشروط في وضع اليد (أولا) وتصرف الحائز في الشيء المحوز (ثانيا) وهذا بالإضافة إلى النسبة (ثالثا).
أولا: وضع اليد
يعتبر وضع اليد أهم مظهر للحيازة ويراد به في اصطلاح الفقهاء والعدول والموثقين وعند النص عليه في الأحكام القضائية تلك السيطرة الفعلية والسلطة الواقعية على العقار محل الحيازة إذ من دونه تنفي الحيازة وقد وضح القرافي في الفروق معنى وضع اليد بقوله "اليد عبارة القرب والاتصال وأعظمها ثياب الإنسان التي هي عليه ونعله ويليه البساط الذي هو جالس عليه والدابة التي هو راكبها ويليه الدابة التي هو سائقها أو قائدها ويليه الدار التي هو ساكنها".
وترجع أهمية هذا الشرط إلى اتفاق فقهاء المالكية على أن الأصل في كل من بيده شيء أنه له وأن الظاهر فيما هو في يد الإنسان مما يصلح له أن يملكه وعلى هذا الأساس يمكن القول أن المالكية استقروا على قاعدة أساسية ومهمة مفادها أن اليد تدل على ملك الحائز وتسقط دعوى القائم الحاضر الساكت بلا عذر وهو ما أكد عليه الشيخ خليل في مختصره بقوله "وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم إدعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع بنيته إلا بإسكان ونحو وهو ما ذهب إليه المجلس الأعلى في أحد قراراته التي جاء فيها " أن كل من سبقت يده إلى الشيء لا يخرج من يده إلا بيقين وإن واضع اليد غير مكلف بإثبات شيء إذ أن وضع اليد يعتبر حجة يجب أن تعارض بحجة أقوى" وفي نفس السياق أكدت استئنافية الناظور على أن وضع اليد شرط ضروري في الحيازة ودال على الملك وذلك متى شهد الشهود بذلك إذ جاء في قرارها ما يلي"... حيث استند المستأنف لاستحقاق المدعى فيه على موجب تلقيه عدد 146 يشهد شهود للمشهود له أن له وبيده وعلى ملكه مالا من ماله جامع ثلاثة مواضيع من الأرض."
يتبين من خلال هذين القرارين أن القضاء المغربي قد طبق فعلا القواعد الفقهية التي قررها الفقهاء المالكين، حيث اعتبر وضع اليد بمثابة دلالة على الملك وهو أيضا ما استقر عليه القضاء المصري، ذلك أن هذا الأخير يعتبر وضع اليد إذا كان مستوفيا لشروطه سببا مشروعا للتملك وقرينة قانونية قاطعة على ثبوت الملك على اعتبار التملك بوضع اليد واقعة متى تحققت شروطها القانونية فإنها تكفي بذاتها لسبب الملكية.
ثانيا: تصرف الحائز
مما لاشك فيه أن الملك لا يصلح إلا بالتصرف وفي هذا يقول الشيخ خليل وصحة الملك بالتصرف ومن ثم، فإن التصرف يعتبر من أهم شروط الحيازة وسندنا في ذلك ما قاله الفقيه التسولي" وكل من الحيازتين أي حيازة ما جهل أصله وما علم أصله لابد فيهما من تصرف الحائز تصرف المالك في ملكه ويثبت التصرف بالسكنى أو الإسكان أو الزرع والغرس أو الاستغلال أو الهبة أو البيع أو الهدم أو البناء أو قطع الشجر وقد أجمع معظم فقهاء المالكية على أن التصرف شرط أساسي لإثبات الحيازة وفي ذلك يقول الونشريسي شروط الملك خمسة ( اليد وتصرف الملاك ونسبة وعدم المنازع وطول مدة الحيازة).
وتجدر الإشارة إلى أن التصرفات في الفقه المالكي تنقسم إلى ثلاثة مراتب وذلك من حيث القوة والضعف فهي إما تصرفات قوية، وهي أعمال التفويت الناقلة للملكية كالبيع والهبة والصدقة وغيرها وهي التي تنفع في الحيازة بين الآباء والأبناء وبين جميع أصناف الحائزين سواء كانوا أقارب أو أجانب أو شركاء أو غير شركاء وإن لم تطل المدة باتفاق المالكية أما التصرفات المتوسطة فتتجلى في الاستغلال والغرس والهدم والبناء وقد اختلف الفقهاء بخصوص بعض التصرفات المتوسطة كالهدم والبناء الغرس في مدى إمكانية اعتبارها نافعة للحيازة بين الآباء والأبناء وفي ذلك يقول أبو الوليد ابن رشد أن هذه الحيازة لا تنفع ولا يحوز أحدهما على الآخر في ذلك.
في حين تتمثل التصرفات الضعيفة في السكنى والإزدراع مثلا وهي أعمال مختلف فيها بين الفقهاء فبعضهم يعتبرها صالحة للحيازة من قبيل ابن فرحون الذي أكد على أن هذه التصرفات تنفع في حالة واحدة وهي حالة الأجانب غير الشركاء أما البعض الآخر فيقر بأن التصرفات الضعيفة لا تنفع في الحيازة بين الآباء والأبناء ولا في حيازة الأقارب سواء كانوا شركاء أو غير شركاء ولا في حيازة الأجانب الشركاء وإن طالت المدة.
وغني عن البيان أن فقهاء المالكية حرصوا على أن يكون تصرف الحائز في الشيء المحوز تصرفا مناسبا لطبيعة الشيء أي أن يتم التصرف بجميع أنواع التصرفات بمعنى أن يكون بمراتبه الثلاث، قوية، متوسطة وضعيفة، وهو استقر عليه القضاء المغربي، حيث جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى "إن التصرف عام لا ينحصر في الحرث والغرس بل يشملها وغيرهما من الرعي والحفر وغير ذلك" وفي نفس الإطار تؤكد الأحكام الصادرة عن محاكم الموضوع عن أهمية شرط التصرف إذ جاء في حكم صادر عن ابتدائية الناظور " ويجب أن يشهد له بالتصرف في قطع الأرض المتعرض عليها 10 سنوات" .
يبدو من خلال ما تقدم أن القضاء المغربي تفاعل وتناغم مع القواعد الفقهية المالكية المنظمة لشرط التصرف إلى حد يمكن معه الجزم بأنه لا حيازة بدون تصرف مادام هذا الأخير يعتبر مظهر أساسي من مظاهر الحيازة.
ثالثا: النسبة
علاوة على الشرطين السابقين نجد شرطا آخر لا يقل أهمية عنهما ويتعلق الأمر بنسبة الحائز الملك لنفسه والناس ينسبون إليه وهو ما يسمى بإدعاء الملك، ومن هذا المنطلق ولكي تثبت الحيازة يجب على الشهود الذين يشهدون بالحيازة لشخص أن يذكروا أن الحائز يصرح دائما بملكيته لذلك الشيء وأنه يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه. ويظهر أثر النسبة للحائز في أقواله وأقوال الناس وتسميتهم للمتنازع عليه بأرض فلان أو دار فلان على ما هو شائع بين المالكين المجاورين له خاصة والنسبة هذه لا تكون بواسطة سماع الناس منه أي ينسبها لنفسه فقط، بل قالوا لابد أن تكون نسبة الناس للملك له بكيفية مستفيضة تفيد العلم للشاهدين بها. وفي ذلك يقول الفقيه الخرشي بأن نسبة الحائز وإدعاءه ملكية الموضع المحاز تكفي ولو مرة ولا يشترط استمرار النسبة والإدعاء طول مدة الحيازة وفي نفس السياق ذهب الفقيه التسولي إلى أنه من شروط الحيازة أن يشهد الشهود بتصرف المالك في ملكه وينسبه لنفسه والناس ينسبونه إليه من غير علم منازع ولا معارض مدة عشرة أشهر أو عشر سنين ولا يعلمون أنها خرجت من ملكه إلى الآن أو تعدى عليها فلان أو إلى أن غاب أو إلى أن توفي وتركها لمن أحاطها في ميراثه... ومن الفقهاء أيضا من اشترط أن يدرج في وثيقة الحيازة الإشهاد صراحة بأن الشيء المحوز مال من ماله وملك صحيح خالص له من جملة أملاكه هذه الشهادة ،على النسبة يجب أن تكون على القطع لا على مجرد نفي العلم شأنها في ذلك شأن باقي شروط الملك عدا شرط عدم التفويت التي تكون الشهادة فيه على نفي العلم.
علاوة على ذلك ذهب بعض الفقه المالكي إلى أنه إذا لم يثبت أصل الملك للمدعي فإن الحائز لا يسأل عن بيان ملكه وإن ثبت الأصل عن بينة أو إقرار الحائز، يسأل عن سبب ذلك، وبدوره القضاء المغربي ثبت هذا الشرط وهكذا جاء في قرار المجلس الأعلى: "إن من شروط إثبات الملك النسبة كما جاء في العمل الفاسي أن التنصيص على ذكر النسبة في الوثيقة سواء كانت علمية أو إسترعائية لازم" وفي نفس الإطار جاء في إحدى حيثيات قرارات المجلس الأعلى" ولقد قرر بعض الفقهاء بأن التصريح في عقد الاستحقاق أصل ينبني عليه الحكم لأن ذكر الحوز لا يغني عن ذكر الملك إذ قد يكون الحوز بغير الملك، وكذلك ذكر النسبة إذ كثيرا ما يكون الملك لشخص وتكون النسبة لغيره وقالوا لابد من ذكر الملك والمال لأنه أوضح من الملك وحده، والواجب في مادة الحيازة هو إثبات صفة الملكية تلك الصفة التي يتصرف بها المالك في ملكه بأن ينسبه لنفسه وينسبه الناس له وفي نفس الاتجاه أقرت استئنافية الناظور بضرورة تضمين وثيقة الإشهاد بشرط النسبة حيث جاء في الحكم " حيث أنه بعد اكتمال نصاب اللفيف وعدم بيان مدة الحيازة يجعل رسم الملكية المحتج به غير قائم وغير عاملة في النزاع ناقصة عن درجة الاعتبار وبالتالي استبعاد ما بنى عليها من اشرية التي بقيت بهزل عن سندها ومجردة من نسبة الملك، أضف إلى ذلك أن الطرف المدعي لم يدلي بما يفيد استمرار تمليكه للعقار وحيازته له خاصة أن من نسب إليه الملك قد توفي سنة 1934 والحال أنه يدعي الإستيلاء مؤخرا".
يتضح من خلال هذه القرارات أن الحيازة لا تنفع صاحبها إلا مع إدعاء التملك، ومن ثم فإن الحيازة المجردة من دعوى التملك أو شرط النسبة لا تنفع صاحبها ولو طالت، إذ لا عبرة للحيازة بدون نسبة وهو فعلا ما يشكل إجماع من قبل القضاء على هذا الشرط يوازيه إجماع على مستوى الفقه المالكي.
الفقرة الثانية: الشروط المتعلقة بظروف الحيازة
إن الحيازة لا تستقيم كمؤسسة إلا بتوفر جميع شروطها فبعد أن تطرقنا في الفقرة الأولى إلى الشروط التي تتصل بشخص الحائز نحاول في هذه الفقرة التطرق لشرط عدم المنازع (أولا) والمدة (ثانيا).
أولا: سكوت المحوز عنه وعدم منازعته للحائز
يعتبر شرط عدم المنازع من أهم شروط الحيازة على اعتبار أنه يمنح القيمة للتصرف المعتبر شرعا، ذلك التصرف الذي يتسم بالهدوء من جهة والعلنية من جهة أخرى وقد طرح النقاش بخصوص طبيعة هذا الشرط ما إذا كان شرط صحة أو شرط كمال، في هذا الإطار ذهب الفقيه التاودي إلى أن شرط عدم المنازع هو شرط صحة الملك بالتصرف ففي حكم صادر عن ابتدائية الناظور جاء في حيثياته: " حيث إن رسم الملك الذي استدل به المدعون ينقصه شرط عدم المنازعة في التصرف وهو شرط صحة في وثيقة الملكية".
فلو افترضنا أن شخصا حاز عقارا ومنقولا وتصرف فيه تصرف المالك في ملكه على مرأى ومسمع المحوز عليه مع سكوت هذا الأخير وعدم منازعته له، وبعد مضي مدة الحيازة قام على الحائز يطالبه بحقه فإن حقه يسقط وتعتبر دعواه لا غيه لان العرف يكذبه،فسكوته مع علمه بالحيازة وعدم اعتراضه دليل وقرينة على أنه غير مالك للشيء المحوز .
وانسجاما مع هذا الطرح قضى المجلس الأعلى في أحد قراراته " بأن من شروط الحيازة أن تطول عشر سنين مع حضور المدعى وسكوته دون مانع طيلة المدة المذكورة" و في نفس السياق قضى المجلس الأعلى بما يلي " إذا اعتبرت المحكمة أن هناك نزاعا في التصرف أو التباسا في الحيازة وقررت عدم قبولها له تكون قد صادفت الصواب". وفي قرار أخر لنفس المجلس جاء فيه: " أن عدم وجود منازعة أثناء الحيازة المشهود بها في الملكية هو أحد الشروط الخمسة للملكية المنصوص عليها في لامية الزقاق.
يد نسبة طول كعشرة أشهر وفعل بلا خصم بها الملك يجتلا
إلا أن المنازعة التي تجعل الملكية ناقصة عن درجة الاعتبار هي تلك التي تنص على مدة الحيازة المشهودة بها المنازعة اللاحقة لتلك المدة".
إن هذه القرارات السالفة الذكر تجمع على أن إنعدام المنازع شرط من أهم شروط الحيازة فبدونه لا تستقيم ولا تكتمل ولا تنتج آثارها.
وغني عن البيان أن عدم منازعة المحوز عنه للحائز يجب أن تكون بلا عذر أو مانع شرعي طول مدة الحيازة وفي ذلك يقول الحطاب في شرحه لقول خليل: "ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع" أي أن يكون سكوت المدعي طول مدة الحيازة بلامانع، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل .
كذلك فالمقصود بالنزاع حسب المجلس الأعلى هو الذي يعيب الشروط الموجبة للملك والإدعاء بالحق خلال المدة المشهود بها أما إقامة الدعوى بعد ذلك فلا يشكل منازعة مؤثرة في شروط إثبات الملك، ومما لا شك فيه أيضا أن الحيازة الخالية من النزاع هي التي لم ينازع المحوز عنه الحائز فيها الذي كان حاضرا عالما بالغا رشيدا ولقول صاحب التحفة:
والمدعي إن اثبت النزاع مع خصيمه في مدة الحوز انتفع
وقائم ذو غيبة بعيـــــدة حجته باقية مفــــيــدة
والبعد كالسبع وكالثـــمان وفي التي توسطت قــولان
وكالحضور اليوم واليومــان بنسبة الرجال لا النســوان
وهذا ما ذهب إليه استئنافية الناظور حينما عللت قرار لها "أن من شروط الحيازة بالنسبة للأجنبي الحوز مدة عشر سنوات بدون منازع والمالك قائم حاضر البلد " يتضح من خلال ما تقدم أن فقهاء المالكية والقضاء المغربي أجمعوا على اعتبار المنازعة مانعا من موانع الحيازة لكن قد يطرح التساؤل في هذا الصدد حول ما إذا كانت هذه المنازعة تكفي من المدعي مرة واحدة أم لابد من دوامها وتكرارها؟.
في هذا الإطار انقسم المالكية على قولين فالقول الأول يرى أن مدعي الملكية لا تنفعه ولا تكفيه المنازعة مرة واحد أو مرتين بل يجب أن تتكرر منه وان تدوم طول مدة الحيازة ، أما القول الثاني فإنه لا يشترط دوام المنازعة وتكرارها من المدعي طيلة مدة الحيازة بل تكفيه ولو مرة واحدة .
والرأي فيما نعتقد أن الرأي الأول حري بالتأييد على اعتبار أن من تم المس بملكيته (المحوز عنه) ، لايمكن أن ينازع الحائز مرة واحدة، فقط فالمنطق يقتضي دوام هذه المنازعة حتى يتم استرداد الملك الذي يدعيه.
ومن المفيد في الأخير أن نشير حول ما إذا كان أثر المنازعة نسبيا لا يستفيد منه إلا المنازع شأنه شأن التقادم أو أن للمنازعة أثرا عاديا في حق كل من يبدو له القيام ولو لم يكن هو المنازع. في هذا الصدد يمكن القول انطلاقا مما وضعه الفقهاء من قواعد الحيازة أن المنازعة ولو من قبل الغير تعيب الحيازة وتفيد القائم ولو لم يكن هو الذي نازع الحائز وذلك لأن ثبوت المنازعة من قبل الغير ولو أنه لا يمكن أن يشفع للقائم بسكوته بجعل شرط النسبة غير قائم وبذلك يختل أهم شرط من شروط الحيازة ويستفيد القائم من الاختلال رغم سكوته.
ثانيا: مدة الحيازة
إن الحيازة لا تنفع صاحبها إلا إذا طالت مدتها، أي وضع اليد على العقار المحوز مدة محددة من الزمن تختلف تلك المدة تبعا للصلة التي تربط بين الحائز والمحوز عنه من جهة ولنوع العقار من جهة أخرى، وقد حدد الحديث الشريف مدة الحيازة في عشر سنين ولم يفرق في ذلك بين حيازة العقار والمنقول إذ جاء في حديث الرسول الكريم:(من حاز على خصمه شيئا عشر سنين فهو أحق به) ومدة الحيازة تختلف عندما يتعلق الأمر بملك علم أصله لمن كان أو بملك لم يعلم أصله لمن كان قبل الحائز.
فالحيازة مجهولة الأصل يكفي فيها عشرة أشهر فأكثر سواء كان ذلك يتعلق بالعقار أو بغيره لقول صاحب العمل الفاسي:
وحوز ما جهل أصله كفى عشر أشهرة أو العام وفا
تصرف المالك والنسبة مع يد ولا منازع طول وقع
هذا إذا توفرت فيشهد عالمها يملك لمن له اليد
وهكذا جاء في قرار للمجلس الأعلى "الإحياء الذي يؤدي إلى الملكية هو الذي يكون محله أرضا غير مملوكة، أما الأرض المملوكة لشخص إذا أهملها حيث صارت ميتة فلا يعتبر إحياؤها من طرف الغير سببا لملكيتها".
من خلال القرار يتضح أن المجلس الأعلى يتحدث بخصوص حيازة ما جهل أصله،أما حيازة ما علم أصله فإن المدة فيها تختلف بحسب نوع تصرف الحائز في عقار بالتفويت فقد أجمع الفقهاء أن المدة هنا سنة، ويقول الفقيه المهدي الوزاني في هذا الإطار: "نص الفقهاء على هذا كل من أقدم على بيع ملك غيره وهو يدعيه لنفسه وصاحبه ساكت لا ينازع في ذلك فإن ذلك يعتبر حيازة ولو لم تمضي مدة الحيازة بل يكفي في سقوط حقه سكوته سنة واحدة وقل ذلك وقوع القسمة لان القسمة بيع"
والحيازة بالتفويت تنفع بين جميع أصناف الحائزين ولو بين الأب وابنه أما التصرف دون التفويت فإن المدة التي تعتبر حيازة قاطعة لحق المالك تختلف بحسب ما إذا كان الأجنبي بعيدا عن مدعي الملكية أو كان قريب له.
1) مدة الحيازة بين الأجانب:
تختلف هذه الحيازة حول ما إذا كان هؤلاء الأجانب غير شركاء (أ) أو شركاء (ب).
أ- حيازة الأجانب غير الشركاء:
جاء في باب التداعي والحوز في القوانين الفقهية لابن جزي " وأما إذ كان بيد واحد منهما فلا يخلو الذي حازه أن يكون بيده مدة الحوز أو أقل، فإن بقي مدة الحوز فأكثر فهي عشرة أعوام بين الأجانب..."
فمرور عشر سنوات وأكثر عن تصرف الحائز وحضور المحوز عنه يجعل دعوى القائم غير مسموعة وفي ذلك يقول ابن عاصم في تحفته:
والأجنبي إن يحز أصلا بحق عشر سنين فالتملك استحق.
ويقول الشيخ خليل في هذا الصدد وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع بينته إلا بإسكان ونحوه.
والجدير بالذكر أن الحيازة بين الأجانب غير الشركاء في مدة العشر سنوات تنفع بجميع أنواع التصرفات كسكن الدار وحرث الأرض ولو لم تكن لهدم والبناء.
ب- حيازة الأجانب الشركاء
إن حيازة الأجنبي الشريك لا يكفي فيها مطلق التصرف بل يجب لكي تمضي الحيازة لصالحه أن يكون التصرف متصفا بخطورة جسمية كالهدم والبناء والغرس، أي تصرفا يغير عين المدعى فيه تغيرا بينا ويغير صفته وشكله، و في ذلك يقول الشيخ خليل " كشريك أجنبي حاز فيه إن هدم وبنى".
2)- مدة الحيازة بين الأقارب
تختلف المدة بخصوص حيازة الأقارب حول ما إذا تعلق الأمر بالحيازة بين الأصول والفروع (أ) أو حيازة بين غيرهم من الأقارب(ب).
أ)- الحيازة ما بين الأصول والفروع
إن الحيازة بين الآباء والأبناء لا تصح بطول المدة ففي ذلك يقول الشيخ خليل: لا بين أب وابنه وإلا كهبة أن يطول معهما أمد تهلك فيها البينات وينقطع العلم فلا تنفع الحيازة بين الآباء والأبناء بشيء إلا بمثل هبة أحدهما عقار لآخر وفي هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى " إن الحيازة التي لا تعتبر أصلا بين الأقارب هي التي تكون بين الأب وابنه، أما بين الأقارب الآخرين فهي عاملة وهي عشر سنين إذا كان بينهم تشاجر و إلا أربعون سنة سواء كانوا شركاء أو لا أما الحيازة التي تنفع بين الأب والابن هي التي يتصرف فيها الحائز بما يفوت الذات أو كان بالبناء والهدم وفي ذلك يقول الفقيه الدسوقي:" والحاصل أن الحيازة لا تعتبر بين الأب وابنه إلا إذا كان تصرف الحائز مما يفوت الذات أو الهدم أو ما يلحق بهما وطالت مدة الحيازة جدا كالستين سنة والآخر حاضر عالم ساكت طول المدة بلا مانع له من التكلم".
أما الحيازة بمجرد زرع الأرض وسكنها لحل من غير هدم أو بناء أو غرس ولا تفويت والمحوز عنه حاضرا أو قريب للغيبة فلا تنفع بين الأب والابن مطلقا.
ب) حيازة الأقارب دون الآباء والأبناء
تختلف مدة الحيازة بين الأقارب بحسب ما إذا بينهم عداوة أو خصومة أم لا فإذا ثبت أن بينهم خصومة أو عداوة فمدة الحيازة عشر سنوات فأكثر أما إذا لم يكن بينهم عداوة ولا خصومة فمدتها أربعون سنة حيث قال فيها ابن عاصم في تحفته:
والأقربون حوزهم مختلف بحسب اعتمارهم يختلف
فإن يكن بمثل سكنى الدار والزرع للأرض والاعتمار
فهو ما يجوز الأربـعين وذو تشاجر كالأبــــعدين
وفيه بالهدم وبالبنيــان والغرس أو عقد الكراء قولان
وهكذا جاء في قرار للمجلس الأعلى "من المقرر فقها أن الحيازة المبطلة للملك أو القاطعة لحجة القائم محلها ما إذا علم الشيء قبل حائز وجهل أصل المدخل للحائز أو عرف أصل مدخله ولكنه كان مما ينقل الملك من شراء أو تبرع وهي كاملة أو مكسبة للملك حتى بين الأقارب وإنما تختلف مدتها بين ما إذا كان بينهم تشاجر أولا.
لما كان الطاعنون أدلو ببينة متوفرة على الشروط المعروفة ومنها حيازة موروثهم وحيازتهم بعده عن مدة تجاوزت الأربعين سنة فإن قضاة الموضوع عندما اعتبروا هذه الحيازة غير كاملة بعلة أن موروث الطاعنين هو أحد الورثة وهذا لا يعطيه الحق في التمسك مهما طالت مدة تصرفه واستجابوا بناء على ذلك لطلب المطلوبين في النقض الرامي إلى قسمة المدعى فيه من الورثة فإنه يكونوا قد أهدروا القيمة الفقهية للبينة المذكورة وخرقوا قواعد الحيازة."
يتبين من خلال هذا القرار أنه القضاء المغربي يتمسك بقواعد الفقه المالكي بخصوص كل ما يتعلق بالحيازة بل أكثر من ذلك فهو يتمسك بكل الجزئيات بل في بعض الأحيان يرجح بين الاختلافات الفقهية التي ناقشها فقهاء المالكية كما هو الشأن بالنسبة للقرار أعلاه، كذلك فالحيازة بين الأقارب تقع بالتصرفات القوية ولو قصرت المدة أما إذا كانت بالهدم أو الغرس فقد اختلف الفقه بين من يقول أن مدتها عشر سنوات وبين من يقول أن المدة أربعون سنة وهو الراجح.
وفي الأخير تجدر الإشارة أن الحيازة تلفق بين السلف والخلف، فالفقه المالكي مجمع على أن ضم المدد بين الموروث ووارثه.
أما بالنسبة للخلف الخاص كالمشتري فقد انقسم الفقه إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى ضم مدة وضع يد السلف إلى الخلف الخاص والعام على حد سواء
الرأي الثاني: يرى عدم ضم مدة وضع يد السلف إلى الخلف الخاص يعمل بهذا الرأي معظم فقهاء المذهب المالكي فيقصرون ضم مدة وضع اليد على الخلف العام لأنهم يرون أن وضع اليد بنفسه لا يسقط ملكية العقار المحاز و لا يكسب هذه الملكية لوضع اليد. وهكذا جاء في قرار للمجلس الأعلى ما يلي:" الشهادة بالملكية يلزم أن تذكر استمرار الملك بيد ورثته وإلا لم تنفعهم، وأن على هؤلاء الورثة أن يثبتوا استمرار الملك ولا ينفعهم مجرد التمسك بالاستصحاب.
المبحث الثاني: موانع الحيازة وآثارها
يقصد بموانع الحيازة الأعذار المانعة من قيام المدعي بالمنازعة أمام القضاء ضد الحائز وهي في نفس الوقت أعذار بالنسبة للمحوز عنه لأن تحقق أو وجود أحدهما يحفظ له حقه في المطالبة به مهما طال أمد الحيازة ومهما توفرت شروط الحيازة الأخرى (المطلب الأول) أما في حالة عدم وجود موانع وتحقق الشروط السالفة الذكر فإن الحيازة تنتج كافة آثارها (المطلب الثاني).
المطلب الأول: موانع الحيازة
لقد فصل فقهاء المالكية في موانع الحيازة تفصيلا دقيقا فقد ذكروا مجموعة من الموانع التي تعترض المحوز عنه منها غيبته أو غياب وقصور الحجة (الفقرة الأولى) إلى جانب عدة موانع أخرى سنحاول التفصيل فيها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: غياب القائم بالنزاع أو غياب الحجة
يعتبر غياب القائم بالنزاع (أولا) أو غياب الحجة (ثانيا) مانعا من موانع الحيازة.
أولا: غياب القائم بالنزاع
يجمع فقهاء المالكية على أنه لا حيازة على غائب ففي ذلك يقول الونشريسي بيع دار الغائب بإدعاء الحيازة لا يقع بجهل مالك الدار وقد قسم الفقهاء الغيبة إلى ثلاثة أقسام بعيدة ومتوسطة وقريبة فإذا كان المحوز عنه غائبا غيبة بعيدة عن بلد الحوز فقد اتفق الفقهاء على أن حقه لا يسقط مهما طال الزمن ومتى حضر كان بإمكانه القيام والمطالبة بحقه سواء علم بالحيازة أو لم يعلم وفي ذلك يقول صاحب التحفة:
وقائم ذو غيبة بعيدة حجته باقية مفيدة
أي أن القيام بالمطالبة من طرف الغائب غيبة بعيدة عن البلد الذي وقع فيه الحوز باق على حجته وتفيده في قطع حيازة خصمه نظرا لاعتبار غيبته عن محل العقار المحاز عليه عذرا مقبولا شرعا.
ونسجل هنا الموقف الإيجابي للفقه المالكي مقارنة بما عليه الأمر في ظهير التحفيظ العقاري، إذ أنه في حالة غيبة صاحب العقار وتم تأسيس الرسم العقاري لشخص ما فانه طبقا لمبدأ التطهير فان العقار لا يبقى في ملك صاحبه ولا يمكن لهذا الأخير ان يتعرض على ذلك ، باستثناء مطالبته بالتعويض.
وطبقا لقواعد الفقه المالكي جاء في قرار صادر عن استئنافية الناظور "... ولا ينزع منها في حكم الحائز الأجنبي الذي يكفيه الحوز لمدة عشر سنوات بدون منازع والمالك قائم حاضر البلد " يتبين من هذا القرار أن الحائز كي تكتمل حيازته يجب أن يكون المحوز عنه حاضرا.
أما إذا كان المحوز عنه غائبا غيبة متوسطة فقد حددها الفقهاء بنحو الأربعة أو الخمسة أو الستة أيام، فالقول الراجح أن حقه لا يسقط ولا تعمل عليه الحيازة ولو علم بها ويقول صاحب التحفة في هذا الصدد:
والبعد كالسبع وكالثمان وفي التي توسطت قولان
والمقصود في القولان في البيت أعلاه هو مسألة العلم من عدمه، أي علم الغائب بالحيازة أو عدم علمه بها.
وبخصوص الغيبة القريبة فإن لم يعلم المحوز عنه بالحيازة فهو على حقه مهما طال الزمن إلا أن يكون المحوز عنه إمرأة، فإن غيبتها تعتبر دائما غيبة بعيدة ولو قصرت كمسافة اليوم واليومين فيكون لها متى حضرت المطالبة بحقها.
إن هذه الآجال لا يمكن التسليم بها في الوقت الحاضر نظرا لما وصلت إلي البشرية من تقدم إن على مستوى تقنيات التواصل أو على مستوى وسائل المواصلات المتاحة، ما دام الإنسان يستطيع أن يتنقل عبر بقاع العالم في ظرف وجييز.
ثانيا: غياب الحجة
إن غياب حجة صاحب الحق القائم بالنزاع يعتبر مانعا من موانع الحيازة وذلك عند غياب الشهود أو الرسوم أو غيرها ذلك أن بعض الفقهاء اعتبروا ذلك من الموانع المقبولة للمطالبة ولو طال الزمن ومن الأعذار المفيدة لمن يتمسك بها فيه الشهود الذين يعرفون حق القائم بالحيازة تلك الغيبة التي تفيد القائم عند حضور شهوده ولو بعد مرور المدة القانونية للحيازة هذا ما أقر به الفقيهان العلامة التسولي في تحفته والفقيه العلمي في نوارله فقد جاء في البهجة للتسولي"وإما إن قال كنت عالما بانه ملكي وبتصرف الحائز ولكن سكتت لغيبة شهودي أو لعدم وجود رسمي والآن وجدت ذلك فأردت القيام فالذي نقله العلمي عن الونشريسي في شرحه لابن حاجب أن الصواب قبول عذره: وقال به الحكم والقضاء، وكذا قال ابن رحال في شرحه، الحق أنه يقبل قوله مع يمينه قال: وتصويب ابن ناجي عدم القبول غير ظاهر وسيأتي أول الاستحقاق أن الإنسان إن اشترى شيئا وهو يرى أنه لا بينة له ثم وجدها له القيام ويأخذ الثمن من البائع".
يتضح من خلال هذا أن العلامة التسولي يعتبر غياب الحجة من شهود أو رسوم بمثابة مانع من موانع الحيازة فمتى حضرت الحجة إلا وللمحجوز عنه أن يدلي بالحجة التي كانت غائبة فيقبل عذره.
وهذا أما أقره المجلس الأعلى في قرار له جاء فيه: "ونظرا إلى أن من قال كنت عالما بأن الملك ملكي وبتصرف الحائز لكن سكتت لغيبة شهودي أو لعدم وجود رسمي والآن وجدت ذلك وأردت القيام قبل عذره وسماع قوله بيمينه.
وحيث أن تم الاستئناف الإقليمي بفاس حكم في القضية المسجلة هذه تحت عدد 77 بعدم توجه دعوى المستأنف عليهما على المستأنفين وبعدم توجه اليمين عليهم معللا ذلك بأن تاريخ التعريف للرسم المدلى به من طرفهما عام 1360هـ يدل على أنهما عالمان من تاريخه بدليل تعريفهما له في حين أن التعريف ليس فيه ما يدل على تعيين طالب التعريف حتى يحتج به على علم المدعين.
وحيث أن قسم الاستئناف الإقليمي خالف بذلك مقتضيات القاعدة المذكور أعلاه."
من خلال القرار يتضح أن المجلس الأعلى ساير ما ذهب إليه كل من الفقيه التسولي والعلمي بخصوص غياب الحجة واعتبارها عذرا للمحوز عنه، لكن في وقتنا الحاضر نساير الرأي الذي يقول بأنه يجب إعادة النظر في هذا المقتضى نظرا لما هو متيسر اليوم من مواصلات تسهل الانتقال من مكان لآخر ولما هو متوفر من امن الطرق ويسر السفر سواء داخل البلاد أو خارجها
الفقرة الثانية: بعض الموانع الأخرى للحيازة
علاوة على المانعين السابقين للحيازة هناك موانع أخرى سنحاول إيرادها في هذه الفقرة.
أولا: القصور
سئل الونشريسي عن ورثة قاصرين ووجهوا بكون أن أبناء أعمامهم حازوا الدار التي كانوا يسكنونها؟ فأجاب بأن الدار في هذه الحالة ترجع للورثة هنا ولا حيازة في ذلك لأنهم قاصرين" وجاء في البهجة " وكذا السفيه وغير العالم بأنه ملكه أو بأنه يتصرف فيه فإن الحيازة لا تعمل عليهما إلا بعد أن يرشد السفيه أو يعلم غيره وتحاز عليهما الأملاك عشرة أعوام من يوم الرشد والعلم وهما ساكتان بلا مانع" كذلك قال :" كأن هناك مانع من الخصام كصغر أو سفه.... فإن مع وجود واحد من هذه الأمور غير ساكت ولا يسقط حقه".
من هذا المنطلق يمكن الجزم على أن فقهاء المالكية يرون بأن جميع عوارض الأهلية من صغر سن وسفه وجنون.... تجيز للمحوز عنه المتصف بإحداها متى ارتفعت القيام والمطالبة بحقه مهما طالت مدة الحيازة. وهو نفس ما حكمت به المحكمة العليا للاستئناف الشرعي (سابقا) بتطوان معتمدة في حكمها على تبصرة ابن فرحون قائلة "حسبما يستفاد من قول صاحب التبصرة نقلا عن ابن العطار ما لفظه " ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة، ولا قيام الصغير ولا قيام المولى على الاعتماد المذكور بحضرته إلى أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولى عليه، وتعني الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوم من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم ولا يعترضون من غير عذر".
وقد نتساءل عن حالة ما إذا كان للمحجوز عليه ولي، هل تنفع الحيازة في هذه الحالة أو لا؟لم تتطرق المالكية لذلك ولكن ظاهر قولهم أنهم لا يفرقون في الحيازة بين الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه و بين المهمل منهم الذي لا ولي له وبين من له ولي ينوب عنه في تصرفاته وحقوقه، إلى جانب اعتبارهم أن هذه الولاية في التصرفات لا تكون إلا فيما يرجع على المحجور بالنفع ولا يخفي ما في الحيازة من ضرر يتمثل في ضياع حقوق المحجور.
ثانيا: الخوف من تسلط الحائز
جاء في المعيار للونشريسي أن من سكت نتيجة قهر أو إكراه عن حيازة شخص لملكه فإن مدة الحيازة لا يعتد بها وقال التسولي في شرحه للبهجة و إحترز به أيضا مما إذا كان هناك مانع يمنعه من الخصام... أو كون الحائز ذا سطوة أو استنادا لذى سطوة ... فإنه مع وجود واحد من هذه الأمور مع سكوت المحوز عنه فان حقه لا يسقط".
يتضح من خلال ما سبق ذكره أن فقهاء المالكية اتفقوا على أن الحيازة في حالة خوف المحوز عنه من تسلط الحائز وبطشه لا تنفع في هذه الحالة مهما طالت مدتها إذا يبقى المحوز عنه على حقه ويمكن المطالبة به متى ارتفع عذره .
غير أنه في الوقت الحاضر لا يمكن التسليم بهذا المانع نظرا لوجود آليات تهدف إلى حماية الأفراد خاصة في ظل دولة المؤسسات.
ثالثا: علاقة الدائنية بين الدائن والمدين وعدم علم المحوز عنه أن الحوز ملك له
من الأعذار التي ذكرها المالكية كذلك يكون المحوز عنه مدينا للحائز بمال وخاف أن يطالبه به ولا يجد من أين يسدد مبلغ الدين الذي عليه فقد جاء في البهجة أن من موانع الحيازة علاقة الدائنية بين الدائن والمدين ولإعتبار علاقة المديونية بين المدين المحوز عنه ودائنة الحائز لماله مانعا لأعمال الحيازة لمصلحة الدائن الحائز يجب توافر شرطين أن يكون الدين حالا بحيث يستطيع الدائن الحائز مطالبة المحوز عنه بدينه وان يكون المدين المحجوز عنه غير قادر على الوفاء بدينه لدائنه الحائز لماله أو لايجد من أين يعطيه فإذا أثبت القائم ذلك ينتفع بمديونيته للحائز.
نجد كذلك إلى جانب هذا المانع مانعا، آخر ويتعلق الأمر بعدم علم المحوز عنه بان العقار المحوز ملك له أو إذا لم يكن عالما بتصرف الحائز فيه وحيازته أو لم يعلم بهما معا فإن حقه لا يسقط ولو طالت مدة الحيازة فلا بد من العلم بالمعلومين أي بملكية المحوز و بالحيازة أما إذا علم بأحدهما ولم يعلم بالآخر فإنه باق على حقه وهذا ما جاء في مواهب الجليل للحطاب "ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بان العقار ملكه".
رابعا: المرأة المحجوبة والبكر غير المعنسة
يقول التسولي في شرح التحفة "واحتزاز به أيضا مما إذا كان هناك مانع منعه من الخصام... كان المحوز عنه إمرأة ذات زوج غيور عليها شديد الضبط لها مانع لها ..." ويقول ابن فرحون في حديثه عن موانع الحيازة" أو امرأة محجوبة أو غير محجوبة.
من خلال ما تقدم يرى فقهاء المالكية أن المرأة المحجوبة التي لا يسمح لها زوجها بالخروج من بيتها لمقابلة الناس والاختلاط بهم، تكون معذورة في عدم المطالبة بحقها عند انقضاء مدة الحيازة كذلك الشأن بالنسبة للبكر غير المعنسة التي تمنع من الخروج فهي على حقها مهما طال أمد الحيازة إلى أن يؤذن لها بالخروج لمباشرة أعمالها وهذا الحكم ينطبق أيضا على النساء اللواتي لا يأخذن شيئا من الميراث ولا يطلبه حياء من إخوانهن فإن حقهن لا يسقط مهما طال الزمن.
لكن الرأي فيما نعتقد أن هذا المانع لم يعد له مكان اليوم أمام ما وصلت إليه المرأة من مراكز ،ونظرا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية بل حتى التكنولوجية فوسائل الاتصال والمراسلات قد تعلم من خلالها المرأة العانس والمحجوبة كل ما يرتبط بأملاكها بل قد تسير ها انطلاقا من هذه الوسائل.
خامسا: كون الحيازة في بلد لاتناله الأحكام
يرى فقهاء المالكية أنه من الموانع التي تتيح للمحوز عنه المطالبة بحقه أن يكون المال المحاز في مكان لا تناله الأحكام الشرعية، فإذا أثبت القائم ذلك فإنه ينتفع به، إذ يقول الدسوقي في عرض حديثه عن موانع الحيازة " ومن ذلك ما إذا كان الموضع لا يتيسر فيه من يزجر ويرجع إليه ولذا قال ابن عمر الحيازة إنما تكون في موضع الأحكام وأما البادية فنحوها فلا حيازة ويقول التسولي" واحترز به أيضا مما إذا كان هناك مانع منعه... أو كانت الحيازة في محل لا تناله الأحكام".
سادسا: كون المحوز عنه من ذوي التفضل أو الإحسان إلى الناس
إن الشخص الذي جرت العادة بتفضله على الناس لعلو همته وصلاحة حسب بعض الفقه المالكي يعتبر عذرا ومانعا للحيازة لأن المحوز عليه واسع الثروة كثير المال إذ له أملاك عديدة في أماكن مختلفة فالحائز لمثل هذه الأموال لا يتقيد بحيازته وللمحوز عنه المطالبة بحقه مهما طال الزمن إلى أن يأتي الحائز ببينة على ملكيته لهذا الملك.
سابعا: الاستناد إلى حكم سابق في شأن المحوز أو كون المحوز عنه تلقى المحوز من الحائز ببيع أو هبة:
إذا ما تنازع شخصان حول عقار والتجاء كل منهما إلى القضاء فحكم لأحدهما بملكيته ولو لم يتم تنفيذ هذا الحكم وبقي ذلك العقار بيد المحكوم عليه إلى أن حازه بطول المدة فإن هذه الحيازة لا تنفع في مواجهة من سبق وحكم له بالملكية مهما طال الزمن، ويطبق نفس الحكم في حالة ما إذا رفع شخص دعوى ضد آخر يطلب فيها التخلي عن عقار لأنه سبق أن اشتراه هو أو موروثه من هذا المدعي عليه أو هو ورثه أو أن هذا الحائز وهبه له أو لمورثه وأدلى برسم الشراء أو الهبة الذي مضت عليها المدة المعتبرة في الحيازة، فإن ذلك لا ينفعه ولا يعتبر بقاء العقار تحت يد البائع أو الواهب حيازة مسقطة لحق المشتري أو الموهوب له، ويحكم عليه برد العقار لمالكه، كما لا يمكن لوارث البائع أن يحتج بأن العقار آل إليه من موروثه لأنه ثبت أن موروثه قد باع ذلك العقار أو وهبه.
المطلب الثاني: آثار الحيازة
إن تحقق شروط الحيازة من وضع يد وتصرف ونسبة وعدم المنازع وطول مدة دون مانع ولا عذر فالحيازة تنتج آثار مهمة فهي تكسب ملكية العقار وتطهر الملكية (الفقرة الأولى) كما يكون لها أثر في ترجيح البينات (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أثر الحيازة في كسب ملكية العقار
إن الحيازة إذا ما اكتملت شروطها، تعتبر مثبتة لحق الحائز ومسقطة لدعوى الغير في ملكية الشيء المحاز، أي أن من حاز شيئا طيلة المدة المطلوبة فيه وتوفرت له الشروط الأخرى فإنه يصبح مالكا له ولو كان مملوكا لغيره قبل ذلك لأن الحيازة نقلت ملكيته لهذا الحائز وأزالت ملكية المالك السابق . ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الحائز يكون مالكا لذلك الشيء المحوز، بالرغم من إدعاء شخص آخر ملكية ذلك الشيء كما تعتبر مطهرة للملكية من العيوب التي كانت تشوبها قبل توفر الحيازة كما هو الشأن بالنسبة للحالة التالية: " لو فرضنا أن شخصا ملك عقار بمقتضى عقد بيع غير مستوف للشروط المتطلبة في ذلك العقد، ثم حاز ذلك الملك وتصرف فيه طيلة المدة المعتبرة في الحيازة" فإنه يعتبر مالكا له ملكا صحيحا بالتالي يتطهر ذلك العقد من العيوب التي شابته إذ لا يمكن لأي شخص آخر أن يتمسك بذلك العيب ليطلب الحكم ببطلان البيع وعلى هذا الأساس فإن الحيازة تنتج آثارها كلما كانت مستوفية لشروطها، ومن ثم فإنه لا يستطيع أي شخص أن ينازع الحائز في حيازته. لكن قد يطرح التساؤل في هذا الإطار حول طبيعة هذه الحيازة المنتجة لآثارها، وتحديدا ما إذا كانت تعتبر بسبب من أسباب نقل الملكية أو هي مجرد قرينة دالة على الملك؟ في إجابته عن هذا التساؤل ذهب جانب من الفقه المالكي إلى حد القول بأن الحيازة تنقل الملك وتثبته للحائز بتوفر الشروط، وعليه فمن حاز شيئا عقارا أو منقولا وبالشروط المتطلبة في الحيازة ومرت المدة المطلوبة فإنه يصبح مالكا هذا الشيء ويسقط حق المالك السابق في حين ذهب جانب آخر من الفقه المالكي إلى حد اعتبار الحيازة قرينة على الملك ودليل عليه، وهي بمثابة الشاهد العرفي الذي يشهد للحائز بأن الشيء المحاز له، وكذلك فإن هذا الشاهد العرفي لا ينقل الملك للحائز وإنما يثبته له بدعواه مع حلفه اليمين، وهو ما ذهب إليه الإمام الحطاب في معرض شرحه لقول خليل:" و إن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم إدعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع بينته إلا بإسكان ونحوه " أي أن الشيخ خليل ختم كلامه بالحديث عن الحيازة لأنها كالشاهد على الملك وعلى هذا النحو فإن الحيازة المكتملة الشروط توجب الملك للحائز وتقطع حجة المدعي لأنها كالشاهد على الملك.
وفي رأينا المتواضع أن الاتجاه الأخير حري بالتأييد ما دام وضع اليد على العقار لا ينقل الملكية إلى الحائز وإنما يدل على الملك فقط على اعتبار أن واضع اليد على العقار يتعين عليه أن يدعى الملكية، خاصة وأن المجلس الأعلى استقر في العديد من قراراته على أن وضع اليد دليل على ملكية العقار وليس ناقلا له.
الفقرة الثانية: آثار الحيازة في ترجيح البينات
إن القاضي عندما تتوفر لديه حجتان أو أكثر فإنه يبحث أولا عن إمكانية الجمع بين الحجج التي بين يديه فإن تيسر له ذلك عمل بكل الحجج وحكم بها جميعا واعتبر أن كل حجة تشهد بحق أما إذا لم يتمكن من الجمع بين البينات فإنه يجب حينئذ الرجوع إلى قواعد الترجيح بينهما، بحيث تقع المقارنة بين الحجج إما من طرف المدعين و إما من طرف القاضي للبت فيهما مما يؤدي إلى ترجيح إحداهما على الأخرى ليصدر الحكم بمقتضى ما شهدت به البينة الراجحة وتلغى البينة المرجوحة.
ففي هذا الصدد يرجح معظم فقهاء المالكية بينة حائز العقار بملكيته فإذا ما أثبت حائز العقار بأن حيازته شرعية ومستوفية لشروطها فإن هذه الحيازة تقطع حجة المدعي واستنادا لأقوال الفقهاء في الموضوع فإذا تعارضت بينتان ولم تنفرد إحدهما عن الأخرى بمرجح من المرجحات السالفة الذكر فإن البينتان تسقطان معا ولا يعمل بأي واحدة منهما ويحكم في هذه الحالة بما يلي:
- إذا كان الشيء المتنازع فيه بيد غير المتنازعين فإن الشيء يبقى بيد حائزه فإن أقر هذا الحائز بأن المتنازع فيه لأحد المتداعين فإن المقر له يحلف على مقتضى هذا الإقرار ويدفع له ذلك الشيء حينئذ لأن هذا الإقرار رجح بنية المقر له
- إذا كان الشيء المتنازع فيه بيد المتنازعين معا أو بيد غيرهما ولم يدعيه لنفسه ولا أقربه لأحدهما، أو لم يكن بيد أحدهما فإن المتنازعين اللذين لم يستطع ترجيح بينة أحدهما على الأخرى يحلفان كل على مقتضى دعواه ثم يحسم ذلك الشيء بينهما على قدرما يدعيه كل منهما فإن ادعى كل واحد منهما أنه يملك كله دون غيره قسم بينهما مناصفة وأعطى مدعي الجميع ثلثيه، ومدعي النصف الثلث وإن اتفقا أن كلا منهما يملك حظا في ذلك الشيء لكنهما يجهلان مقدار ما يملك كل واحد فيه، فالحكم أن الشيء يقسم بينهما مناصفه.
والقضاء المغربي لا يتردد في مسايرة القواعد المشار إليها سابقا حين يتعذر عليه الوصول في معرفة من له الحق في العقار المحوز كما لو توفي شخص وأخذ ماله من أقام بينة أنه وارثه وأقام آخر بينة أنه وارثه كذلك وتعادلت البينتان، يقسم بينهما وإن كانت العقار بيد أحدهما وتكافأت البينتان فإن القضاء يطبق ما جاء في لامية الزقاق.
وإن يعدم الترجيح فالحكم لحائز ويحلف أو للذي يقر له جعلا
أي أن الحائز تكون له الأولوية في الاحتفاظ بالمحوز وهنا تظهر أهمية آثار الحيازة. كما آن القضاء المغربي كان له دور مهم عند تعارض وتساوي الحجج إذ قضى مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى بأنه " إذا تعارضت الحجتان سقطت فيها و تعارضتا فيه وبقي استصحاب الحال وما كان على المكان".
وهو ما أكده أيضا المجلس الأعلى بقوله: " لما اعتبرت المحكمة أن حجج الطرفين متساويين تعين عليها اسقطهما معا وعدم العمل بأي واحد منهما مع إبقاء الشيئ بيد حائزه".
كما جاء في قرار آخر "عند انهيار الحجج يبقى الشيء المتنازع فيه بيد حائزه مع يمينه"
خاتمة
نخلص في الأخير إلى أن الحيازة من المواضيع التي اهتم بها الفقه الإسلامي ؛ وذلك عن طريق تخصيصه لحيز مهم من القواعد الفقهية التي أقل ما يمكن أن يقـــال عنها أنــها في غاية الدقة والإتقان، وهو ما جعل القضاء المغربي يتقيد بهذه القواعد ويأخذ بها في العديد من اجتهاداته القضائية في هذا المجال ؛مادامت هي السبيل لإيجاد الحلول للنزاعات المتعلقة بالحيازة .
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن القضاء المغربي قد تفاعل مع القواعد الفقهية حينما قام بتطبيقها على أرض الواقع، ولا يمكن أن نبرر هذا التطبيق بالفراغ القانوني الذي يعرفه العقار غير المحفظ، بقدر ماهو في اعتقادنا تسليم من قبل القضاء المغربي بأن الفـقه الإسلامي قد أبدع وأقنع في تحديد القواعـد الفقهية المنظمة للعقار الغير المحفظ عامة والحيازة خاصة.
ومع ذلك فان بعض قواعد الفقه المالكي تحتاج إلى مجموعة من التعديلات والتلطيفات لكي تساير واقع الحال فلكل زمانه ، لكن هذا لا يعني أنها غير صالحة فأي دراسة تقتضي وضعها في سياقها التاريخي مع مراعاة الظروف الاقتصادية وللاجتماعية التي كانت تسود آنذاك.
تم بحمد الله.
للإطلاع على هوامش المقال أو طبعه يرجى التحميل على الرابط أسفل لائحة المراجع
لائحة المراجـع
أولا : المعاجم
مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط الجزء الثاني، مؤسسة الحلي وشركاؤه للنشر والتوزيع القاهرة، ص 173.
-إبن منظور لسان العرب، الجزء الخامس
ثانيا: الكتب الفقهية
1- أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، مطبعة دار المعارف دون ذكر الطبعة
2- أبو الشتاء بن الحسن الغازي الحسيني التدريب على تحرير الوثائق العدلية الجزء الأول مطبعة الأمينة الرباط، 1995، ص 142.
3- أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي البهجة في شرح التحفة دار الرشاد الحديثة، دون ذكر الطبعة
4- الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقيا والأندلس والمغرب الجزء 10 منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة 1981.
5- أبو عبد الله محمد ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام الجزء الثاني، دار الكتب العملية بيروت لبنان،
-6-ميارة الفاسي، شرح تحفة الحكام للقاضي أبي بكر محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي الجزء 2، مطبعة دار الفكر.
7-الرصاع، شرح حدود بن عرفة، دون ذكر المطبعة.
8- شهاب الدين الصنهاجي القرافي، الفروق، الجزء الرابع دار المعرفة بيروت لبنان،.
9- الحطاب، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية، بيروت 1995
10- خليل بن إسحاق بنموسى المالكي، مختصر خليل في فقه الإمام مالك، مكتبة عباس عبد السلام بنشقرون مصر 1964.
11- محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدردير الجزء الرابع مكتبة دار إحياء الكتب العربية.
12-أبي الوليد ابن رشد القرطبي، البيان والتحصيل والشرح والتوجه والتعليل في مسائل التشريع الجزء 11 مطبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت 1988.
13- أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي، الخرشي علي مختصر خليل وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي ج 7 مطبعة دار صادر بيروت لبنان
14- محمد التاودي، شرح التاودي للامية الزقاق دون ذكر الطبعة والمطبعة،
15-ميارة الفاسي، شرح ميارة الفاسي لتحفة الحكام للقاضي أبو بكري محمد بين عاصم الأندلسي الغرناطي ج 2 مطبعة دار الفكر
16- حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل ج 7 دار الفكر بيروت الطبعة 1978.
17- عبد الرحمان الفاسي، نضم العمل الفاسي، مطبعة دار الفكر الطبعة الثالثة 1998.
18- ابن جزي، القوانين الفقهية، مطبعة أمنية الرباط.
19-المدونة الكبرى للأمام مالك بن أنس الأصبحي برواية الإمام سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم ج13 المطبعة الخيرية ببمصر الطبعة الأولى 1324 م.
20- محمد بن يوسف الكافي، إحكام الأحكام على تحفة الحكام مطبعة دار العلم بيروت لبنان.
21- التأودي، شرح التاودي على تحفة ابن عاصم الجزء الأول
ثالثا:الكتب القانونية الحديثة
1- المعطي الجبوجي، القواعد الموضوعية والشكلية للإثبات وأسباب الترجيح بين الحجاج، ط1 2002 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.
2-عبد العزيز توفيق قضاء المجلس الأعلى في الأحوال الشخصية والعقارية ومن سنة 1975 إلى سنة 2002 ط2002 مطبعة النجاح الدار البيضاء
3- محمد إبن معجوز، الحقوق العينية في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي، مطبعة النجاح الجديد الدار البيضاء ط2008.
4-مأمون الكزبري، التحفيظ العقاري والحقوق العينة، الأصلية والتبعية الطبعة الثانية سنة 1987، دون ذكر المطبعة،.
5-عبد العلي العبودي، الحيازة فقها وقضاءا المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 1996
6- أمحمد برادة غزيول وآخرون، الدليل العملي للعقار غير المحفظ، جميعة نشر المعلومة القانونية والقضائية، مطبعة فضالة المحمدية
7-محمد القدوري، حيازة العقار وحيازة المنافع..مطبعة دار الأمان الرباط ،ط1،
8- محمد ابن معجوز، وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء طبعة 1995.
رابعا: الرسائل الجامعية
1-عز الدين المختاري أثر الحيازة في كسب ملكية العقار وإثباتها، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص وحدة التكوين والبحث في قانون العقود والعقار كلية الحقوق جامعة محمد الأول وجدة السنة الجامعية 2006.2007.
2-جواد الهروس، الحيازة والاستحقاق في الفقه المالكي والقانون المغربي رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الشريعة، جامعة القرويين فاس، السنة ج 2001-2002
خامسا:المجلات
1-مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 57/58 دجنبر 2004
2- مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم