القائمة الرئيسية

الصفحات



التعريف بالإثبات الجنائي










العنوان :
المؤلف :

التعريف بالإثبات الجنائي

محتويات البحث :


- المقدمة


اولا – انظمة الاثبات في التاريخ .


المرحلة الاولى : ما قبل الثورة الفرنسية

1- المرحلة البدائية او مرحلة الفطرة.

2- مرحلة الدليل الالهي .

3- مرحلة الاثبات المقيد .


المرحلة الثانية : ما بعد الثورة الفرنسية

1- المرحلة الوجدانية او حرية الاقتناع .

- مبدء اقتناع القاضي .

- ماهية مبدء اقتناع القاضي .

- المذهب المختلط .

2- المرحلة العلمية .


ثانيا : تعريف الاثبات .


ثالثا : القواعد الاصولية للاثبات :

- الاصل الاول : براءة المتهم

- الاصل الثاني :مشروعية اجراءات جمع الادلة .

- الاصل الثالث مبدء حرية الاثبات .


- المراجع


المقدمة

يعتبرالانتقام الفردي مرحلة القصاص الاولى التي ينال فيها المجني عليه حقه من الجاني وما ان نشأت الدولة حتى انتقل الانتقام من الفرد اليها واصبحت بذلك صاحبة الحق في الانتقام. استمر الحال على ماهو عليه حتى ظهر كتَاب ومصلحون يدعون الى هدم الاساس الانتقامي الذي يقوم عليه قانون العقوبات ومحاولة تأسيسه على الرحمة والانسانية . وهذا ما نادى به مونتسكيو في القرن الثامن عشر بكتابه روح القوانين من ان الغرض من قانون العقوبات هو كبح الاجرام لا الانتقام من المجرم .


وما ان نشأت المرحلة الحديثة او العلمية في ايطاليا حتى نادت بتغير الهدف ويعود اليها الفضل في الدعوة الى اتخاذ التدابير الاحترازية التي تهدف الى حماية المجتمع . تلتها حركة

الدفاع الاجتماعي فقامت ببناء سياسة جنائية تأخذ في اعتبارها حماية المجتمع واصلاح المذنب واصبح من الاسس التي تقوم عليها مدرسة الدفاع الاجتماعي ان وظيفة قانون العقوبات هي حماية المجتمع وصيانته من مضار السلوك الاجرامي لا معاقبة المخطئ فقط .


ولا فائدة من قانون دون ان يكون له جهة تسعى الى تطبيقه ، فكانت الجهة القضائية التي اتخذت اشكال متعددة على مراحل التاريخ المختلفة . واصبح اللجوء الى القضاء حق للافراد ضمنته القوانين المختلفة بغض النظرعن قربها او بعدها من العدالة . ولم يترك المشرع هذا الحق الاجرائي دون تدخل منه لتنظيمه .


فاذا كان قانون العقوبات يقرر ايقاع العقاب على من خالف قواعده وما يهدف اليه ، فان مرحلة اخرى تسبقه تبين الاجراءات الواجب اتباعها من قبل المدعي وما يجب ان تقوم به الجهة القضائية للوصول الى الحقيقة كما حصلت على ارض الواقع دون ان تترك للاهواء الشخصية والتحكمات دور في هذا المجال ويطلق على هذه القواعد قانون اصول المحاكمات الجزائية وضمنها قواعد الاثبات التي يلجأ اليها اطراف الدعوى كل فيما يتعلق به للوصول الى ما يبتغيه .


الطرف الاول المدعي وتضمن له هذه القواعد بما يسهل عليه حصوله على حقه او حق المجتمع فله اثبات ما يدعيه بما يشاء من الوسائل متى كانت مشروعة ولا تخرج عن موضوع الدعوى .

الطرف الثاني وهو المتهم حيث ان الاصل هو البراءة فيجب ان تحفظ له كافة حقوقه وحرياته اثناء المحاكمة وان يدفع كل دليل يقدم ضده والا فهو غير ملزم باثبات برائته.


الطرف الثالث هو القاضي الذي تضمن له هذه القواعد حريته الكاملة في اختيار ما يشاء من الادلة التي يبني عليها يقينه وقناعاته للوصول الى الحقيقة دون شك فيها .


يبدو من ذلك ان هناك قواعد ينبغي اتباعها من اطراف الدعوى قبل تطبيق قانون العقوبات من قبل المحكمة ، ولا يأتي دور قانون العقوبات الا بعد ان تتبين نتيجة الدعوى من خلال قواعد قانون اصول المحاكمات الجزائية . فقانون اصول المحاكمات هو المقدمة الضرورية والتي لابد منها لتطبيق قانون العقوبات . ومن هنا نخلص الى حقيقة مفادها ان نتيجة الدعوى تولد من رحم قانون اصول المحاكمات الجزائية ثم يتولى معالجتها قانون العقوبات ، اما بفرض العقوبة على الجاني اذا ثبت ما نسب اليه . او بالبراءة اذا لم يثبت بحقه شئ ، او بتطبيق اسباب الاباحة او عدم السؤولية .


اولا : انظمة الاثبات في التاريخ

يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها انظمة الاثبات الى مرحلتين :


الاولى : مرحلة ماقبل الثورة الفرنسية ويمكن تقسيمها الى ثلاثة مفاصل تارخية :


1- المرحلة البدائية او مرحلة الفطرة :

ذكرنا في المقدمة التلازم بين قانون العقوبات وقواعد الاثبات فحيث لا يوجد قانون ولا يوجد قضاء ينتفي بانتفائها وجود قواعد او نظام خاص بالاثبات . وحيث ينتفي وجود الثلاث في مرحلة الفطرة يبرز الثأر كهدف للاقتصاص من الجاني يمارسه المجني عليه ما استطاع الى ذلك سبيلا . لايمنعه عن ذلك الا ضعف قوته وعجزه ، ففي هذه المرحلة يعتمد الحق في وجوده على القوة ويدور معها وجودا وعدما فلا حق للضعيف بل هو محل الاعتداء دائما . يترتب على ذلك ان المجني عليه يستطيع ان يتهم شخصا لا لأنه هو المعتدي وانما لوجود خلافات او احقاد بينهما ويمكن القول ان مصدر الاثبات ربما يكون الاحساس بالشعور الداخلي .


ثم انتقل الثأر من الفرد الى القبيلة التي ينتمي اليها المعتدى عليه ، عندما اصبح الاعتداء على الشخص هو اعتداء على القبيلة التي ينتمي اليها ، فيكون من حق القبيلة الاخذ بالثأر من المعتدي ولا ينحصر الثأر في شخص المتعدي انما يتجاوزه الى كل افراد قبيلته . وهنا لايهم معرفة الجاني مما يترتب على ذلك عدم فائدة إعمال قواعد الاثبات .


2- مرحلة الدليل الالهي :

وهي المرحلة التي سادت فيها النظريات الالهية والتي ادت الى نشوء الدولة حسب رأي البعض الذي يكون فيها الحاكم مختارا من الله ليس لأحد مناقشته فلم يلتزم تجاههم باي التزام بل عليهم واجب الطاعة تبعا لطاعتهم لله ، ولذلك فالحاكم يقضي على من شاء بما شاء وكيفما شاء . ونتيجة ذلك هو ان العقائد الدينية دبت في النفوس واخذت مكانها في العقول واصبح القانون ليس الا ارادة الهية ينفذها من اختاره الله على شعب الله وعليه فالاحكام لا تصدر في هذه الفترة الا من قبل فئة معينة .



تم اللجوء في هذه الفترة الى وسائل للاثبات تتناسب والمعتقدات السائدة . منها مايسمى ( بالمحنة ) واساس هذه الفكرة ان الالهة سوف تتدخل لنصرة المظلوم واظهار الجاني . ومن الاعمال التي تمارس على المتهم لأظهار برائته او ادانته ان يُكلف بغمس يده في ماء مغلي فاذا

لم تصب بأذى كان ذلك دليلا على برائته والا فهو مذنب . او ان المتهم يحمل سيخا محميا من الحديد لمسافة معينة وبعد ذلك تفحص يده فاذا تبين انها اُصيبت بالورم فهو مذنب والا فهو برئ . كما يعتبر نظام المبارزة من تطبيقات التحكيم الغيبي حيث الحق مع المنتصر والى غيرها من الوسائل الاخرى .


لايمكن القول بوجود قواعد اثبات في هذه المرحلة . ولكن بظهور بوادر لقانون العقوبات كان لابد من ان يصاحبه ظهور قواعد الاثبات تتناسب معه . وبما ان القوانين مستمدة من الالهة فلابد ان يكون للالهة دور في اظهار الجاني حين يعجز الانسان عن كشفه ، فيتم اللجوء عندئذ الى نظام ( البشعة ) مثلا حيث ينقص المدعي الدليل فيبتكر المبشع طريقة لاظهار الجاني . كأن يحمي طاس من نحاس ثم يطلب من المتهم اي يلعقه بلسانة فاذا لم يحترق فهو برئ . واذا جاز لنا ان نطلق على القواعد المطبقة اسم قانون العقوبات جاز لنا في الوقت ذاته ان نطلق على نظام البشعة او المحنة بقواعد الاثبات التي تتناسب مع قواعد العقوبات في ذلك العصر .


ج – مرحلة الاثبات المقيد او مرحلة التحديد :

وتسمى مرحلة الدليل الانساني وفيها تتدخل ارادة المشرع بقوة لتحديد الادلة التي يجب على القاضي اتباعها . وحيث تتدخل ارادة الشارع بقوة تتراجع حرية القاضي الى ادنى مساحة لها ، ويصل المشرع في تدخله بان يحدد القوة القانونية للادلة وهنا لايبقى امام القاضي الا ان ينفذ ارادة الشارع وليس له ان يبني حكمه على غيرها .


لا تؤخذ قناعة القاضي في هذا النظام بنظر الاعتبار فمتى توافرت عناصر وشروط الادلة على القاضي ان يصدر حكمه حتى لوكانت قناعته في غير ذلك . كما هو الحال في اجراءات محكمة طوكيو التي انتقدها قضاتها وقالوا لو كانت هناك هيئة عليا لنقضت احكامهم لما تخللت المحاكمات من اخطاء منها ما تعلق بقواعد الاثبات .



هذه المرحلة جاءت كردة فعل على مرحلة اخرى اعطي فيها للقاضي الحرية الكاملة في اتباع ما يشاء الى الحد الذي يوصله الى التعسف والتحكم . وما محاكم التفتيش التي نشأت في اوربا الا دليلا على ذلك .


ظهرالاعتراف في هذه المرحلة باعتباره سيد الادلة وفي كثير من القضايا لايحكم الا بحصوله ، لذلك لجأوا الى التعذيب لانتزاع الاعتراف من المتهم ولا زال هذا المبدء مطبق في كثير من البلدان بغض النظر عن مناداتها بحقوق الانسان . فيتم اللجوء الى وسيلة التعذيب للحصول على الاعتراف في الدول المتأخرة في مجال حقوق الانسان كالدول العربية ، ويتم نفس الحال في الدول المتقدمة كأمريكا الا انه يتم على اراضي الغير ولغير الامريكين .فلا حقوق لغير الامريكيين ولا ارض مقدسة غير الارض الامريكية . وهذا ماكُشفت عنه السجون السرية ، وما كشفته الاستخبارات الامريكية نفسها مؤخرا .


نستخلص اهم ملامح هذه المرحلة وهي التالي :

- الشارع هو من يحدد الادلة التي يبني عليها القاضي قناعاته وليس له قبول سواها .

- لم يكتف المشرع بتحديد الدليل الواجب الاتباع بل يحدد القيمة القانونية له اذا ما توافرت فيه شروط معينة اما قناعة القاضي في الدليل فليست محل اعتبار عند الشارع طالما توافرت ادلة الادانة التي حددها .

- رفض الشارع للسلطة التقديرية للقاضي واستفراد الشارع بها .


هذه انظمة الاثبات التي سادت قبل الثورة الفرنسية ، على ان هذا القول لايعني عدم وجود آثار لها على مستوى التشريعات في الوقت الحاضروتتمثل بالاستثناءات التي ترد على مبدء الاقتناع القضائي (1 ) .



عيوب نظام الاثبات المقيد : (2)

1- ان عيوب هذا النظام كثيرة ومساوئها اكثر لان تقييد سلطة القاضي بأنواع من الادلة دون مراعاة اقتناعة فيما هو معروض امامه هو في الحقيقة اغفال لقناعته ، بل واكثر من ذلك ماهو الا احلال لقناعة المشرع محل قناعة القاضي .



2- الدليل يتعلق بواقع معين ويختلف من واقعة الى اخرى . واذا كان الامر كذلك فهذا من ضمن عمل القضاء لا عمل المشرع . وتحديد الشارع للادلة وتحديد قيمتها القانونية هو في الواقع تدخل في عملية الاثبات التي هي اصلا من عمل القضاء .


3- سلب اي دور للقاضي في عملية الاثبات الا من التأكد من توافر عناصر الدليل ولا عبرة لقناعته وهذا ما يجعل من القضاء وظيفة آلية ليس له ان يبحث عن دليل قناعته فيما ينظر فيه بل عليه ان يبحث عن دليل قناعة المشرع فيما هو ينظر فيه وفي ذلك سلب لحرية القاضي في الحركة .


4- ان هناك حدود لسطلة كل من الشارع والقاضي . فاذا كانت سلطة الشارع يحدها مبدء الشرعية الجنائية . فان مبدء الاصل براءة المتهم هو الذي يرسم حدود سلطة القاضي . وكما ان اعطاء القاضي سلطة التجريم والعقاب فيه تجاوز على سلطة المشرع حيث ليس للقاضي ان يجرم او يعاقب الا من جرمه وفرضت عقوبته من قبل الشارع . فكذلك ليس للشارع التدخل في البراءة والادانة لانها من اختصاص القضاء.


ويرى البعض انه بناء على هذه الانتقادات للقاضي ان يتبع كافة طرق الاثبات لبناء عقيدته دونما تدخل من المشرع . وهذا ما نصت عليه المادة ( 427 ) من قانون الاجراءات الجنائية الفرنسي ( تثبت الجرائم بكافة طرق الاثبات ، ويحكم القاضي تبعا لاقتناعه الخاص ).


الثانية : مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية :

وفيها تحققت ثورة في اوربا في مجال الاثبات . نتج عنها نقل عبء الاثبات من المتهم الى سلطة الاتهام . اصبح المتهم بموجب هذه الثورة برئ اثناء سير اجراءات الدعوى ولا يعامل بغير ذلك الا بعد اكتمال الاجراءات وتوفر الادلة القاطعة على ادانته . ويرى الفقهاء ان هذا المبدء له علاقة بمبدء شرعية الجرائم والعقوبات . لأنه يُدخل الاثبات في اختصاص القضاء بينما مبدء الشرعية يرسم اختصاص المشرع . وتنقسم هذه الفترة الى قسمين :


1- المرحلة الوجدانية او مرحلة حرية الاقتناع :

وفيها يمنع المشرع ارادته من التدخل فتنطلق حرية القاضي في اختيار ما يراه مناسبا وعقلانيا من الادلة لتأسيس حكمه عليه وهنا تتجلى قناعة القاضي بأجلى صورها فهو يستعمل

جهده العقلي دون ان يكون مجبرا على الاعتماد على جهد غيره . فيكون المشرع في ظل هذا النظام قد ترك للقاضي حرية تقدير قيمة الدليل . اطلاق حرية القاضي لا يعني عدم خضوعه لأية ضوابط وقواعد تحدد له اسلوب البحث عن الدليل واسلوب عرضه فاذا ما خالف القاضي هذه القواعد يحظر عليه ان يستمد اقتناعه من الدليل المحظور (2 ) .


- مبدء اقتناع القاضي :

الاساس الذي يقوم عليه نظام الاثبات الحر هو اقتناع القاضي ونعني به ما يبذله القاضي من جهد ذهني اثناء العملية القضائية وصولا الى مبتغاه الذي يهدف اليه وهو اظهار الحقيقة ، والتي يصعب في بعض الاحيان اظهارها الا بالبحث والتحري عن الدليل الذي يثبتها ومواجهة من انكرها بثبوتها . فاذا ما وصل القاضي الى حالة استطاع بها تجميع كافة عناصر الواقعة ولم يبق لديه شك بأن ما وصل اليه لا تتعداه الحقيقة الكاملة فهنا يصل القاضي الى الاقتناع .


وحسب رأي الدكتور محمود مصطفى هو التقدير المسبب لعناصر الاثبات في الدعوى وهو البديل عن نظام الادلة القانونية . وما يعنيه اقتناع القاضي ان للدولة حق معاقبة المذنب لما ارتكبه من جرم ، او ليس من حق الدولة معاقبة المتهم لعدم ثبوت التهمة بحقه او لوجود الشك في انه ارتكب الجريمة ، لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم .




- ماهية مبدء اقتناع القاضي :

صحيح ان على الادعاء العام ان يقدم الدليل الذي يثبت قيام المتهم بما نُسب اليه ، وللمتهم ان يفند ما قدمة الادعاء العام . ولكن ماهو دور القاضي هل هو دور سلبي ينحصر فقط في الموازنة بين الادلة المقدمة وتلك التي يفندها المتهم ام له دور آخر؟


وفق نظام الاثبات الاخير ان دور القاضي لم يعد دورا آليا كما كان في نظام الاثبات المقيد كذلك لم يكن دورا سلبيا وانما للقاضي دور ايجابي في ما يدور في الجلسة من ادلة للاثبات او النفي وما يتحراه هو من ادلة بحثا عن الحقيقة بما يراه مجديا من السبل التي تكشف الحقيقة . فله ان يبني عقيدته وقناعته على ما يراه ومن اي طريق يشاء لأن اهم عنصر يقوم عليه نظام الاثبات الحر هو اطلاق الادلة وعدم تقييد القاضي ببعضها ، فله ان يختار ما يشاء منها ويقدرها بحريته التامة .



حرية القاضي في الاقتناع لا يعني انها مطلقة فليس للقاضي ان يحل تخميناته او تصوراته الشخصية محل الدليل بل عليه ان يتبع الدليل ويبعد تصوراته الشخصية . على ان يكون تصرفه خاضعا للعقل والمنطق ويقوده الدليل الى النتيجة المنطقية التي رتبها ذلك الدليل . ولذلك تدخل المشرع حتى لايطلق العنان للقاضي بحيث يكون لتصوراته دخلا في النتيجة التي توصل اليها ، فاشترط ان يكون الدليل مشروعا وان يطرح في الجلسة حتى تتم مناقشته من الخصوم وان يكون واضحا غير مشوب بالغموض والابهام ، كما اوجب المشرع على القاضي ان يكون حكمه مسببا وهذه الشروط حدَت من حرية القاضي واعتبرت صمام الامان من انحراف القاضي عند ممارسته لواجبه والا كان القرار عرضة للطعن .


المذهب المختلط :

على ان هناك مذهب آخر هو مذهب الاثبات المختلط ويسلك طريقا وسطا بين المذهب التقييدي والمذهب الحر محاولا الجمع بين مميزات المذهبين متحاشيا سلبياتهما . فهو مع تحديد طرق الاثبات الا انه يمنح القاضي سلطة تقدير الادلة . فمثلا للقاضي ان يحكم بما اجمع عليه الشهود او ان يقضي خلافه وله سلطة تقدير القرائن .


اتجه الاسلام الى الاخذ بالمذهب المختلط كونه حدد طرق الاثبات وجعلها في ادلة معينة لكنه اطلق سلطة القاضي في تقديرها حتى لا تكون سلطتة آلية لا تأثير لها في تقدير الادلة فللقاضي ان يحكم بخلاف ما اجمع عليه الشهود اذا ظهر الحق او بنى اعتقاداته عن طريق اخر غير طريقهم . ومثالها ان القاضي لا يحكم بحد المرأة اذا شهد عليها اربعة - وهي الشهادة المقررة لاثبات جريمة الزنا – وظهر انها بكر.


واذا كان الاسلام قد اخذ بمبدء تقييد سلطة القاضي في الحدود واعطاه سلطة التقدير للادلة ، الا ان الاسلام في باب التعزير اخذ بمبدء حرية القاضي لاسباب منها كثرة هذا النوع من الجرائم اضافة لتقاربها واختلافها من مجتمع لاخر . فهي تختلف من مجتمع الى اخر وفق ظروف كل مجتمع من جهة ومن جهة اخرى تختلف حسب ظروف كل جريمة . ولذلك ترك للقاضي حرية اثبات التعازير بكافة وسائل الاثبات التي يستطيع ان يبني قناعته من خلالها خلافا لجرائم الحدود .



اخذ المشرع العراقي في قانون الاثبات بهذا الاتجاه حيث جاء في الاسباب الموجبة ان القانون حدد طرق الاثبات وترك للقاضي حرية تقديرها وفي اعمال ذهنه بما يوصله الى الحكم العادل . وبذلك يكون المشرع العراقي سلك الطريق الوسط بين نظامي الاثبات المطلق والاثبات المقيد (6 ) .


وللمذهب المختلط مميزات هي في الحقيقة تدعو الباحث الى الوقوف كثيرا عنده ودراسته دراسة مستفيضة فهو :

1- يجنب القاضي شرور الاهواء التي تأمر بها النفس الامارة بالسوء نتيجة التأثيرات الاخرى ، كما تجنبه تقييد الحرية الذي يقف لا حول له ولا قوة سوى تنفيذ ارادة المشرع مرتبا قناعاته على قناعات المشرع لا على ما عرض عليه من ادلة . وبذلك تجنب مساوئ النظامين السابقين من اطلاق في حرية القاضي وكأنه معصوم من الشك فيه ، او ان المشرع يفقد الثقة فيه الى الحد الذي يقيد حريته .

2- يعطي للقاضي سلطة تقدير القرائن واذا كانت تضيق في مجال الحدود الا ان هناك مجالا للحركة بها يستطيع القاضي تقدير الادلة كما في جريمة الزنا اضافة الى حريته الكاملة في التعازير .

3- لم يجز للقاضي العمل بعلمه الشخصي فيحمي اطراف الدعوى من هوى القاضي .


2- المرحلة العلمية :

الجريمة كأي ظاهرة شملها التقدم العلمي والتقني وقطع الجناة اشواطا بعيدة في اختراع الاساليب العلمية لارتكاب جرائمهم دون ان يتركوا لها اثرا يدل على مرتكبيها . واكثر من ذلك اصبح نتيجة التقدم التقني بأمكان الجاني تنفيذ جريمته وهو في بيته ، وتكون اشد خطرا من الجاني الذي يحمل سلاحه او يربط حزاما ناسفا في وسطه ليفجر نفسه في حشد من الابرياء ، حيث يستطيع الدخول بواسطة جهاز الكمبيوتر على شركة دواء مثلا ليغير في تركيبة دواء معين مما يتسبب عنه قتل الالاف . هذه التقنية الجديدة توجب ان تقابلها تقنية في الجانب الاخر وهو جانب القضاء لكشف الجناة .


الواقع الجديد فرض على القاضي قيودا جديدة اوجبت عليه الالتزام بها اذا اراد التماسا للعدالة . وحتى يتجنب الاساليب التقليدية التي لا تجدي نفعا في اثبات جريمة ارتكبت بوسائل علمية جديدة ، كان عليه ان يشرك المشرع لتعزيز قناعته .



من جانب اخر اخذ العلم دوره في اكتشاف اساليب وطرق فنية لكشف هذه الجرائم ونسبتها الى فاعلها . وهنا يلعب الخبير دورا رئيسيا في الاثبات فيستطيع الخبير ادراك ما لا يدركه القاضي بحسب تخصص كل منهما . فيستطيع الطبيب وعن طريق تشريح الجثة مثلا ان يقف على اسباب الوفاة او ساعة حدوثها وهذا ما لا يستطيع القاضي ادراكه لانه خارج عن ثقافته وخبرته القانونية كذلك مضاهاة الخطوط لاكتشاف جريمة التزوير . فهذه وغيرها من الامور لا يستطيع القاضي ان يبني قناعته على فهمه الخاص وانما يتطلب الامر منه وكشفا للحقيقة التي هي مراده ان ينتدب اليها خبيرا ومما يتوصل اليه الخبير يستطيع القاضي بناء قناعته .


يرى فيريFerri ان اعمال الخبرة تؤدي الى قرائن قاطعة وتصبح الوسائل العلمية هي الاساس في الكشف عن الجرائم التي اخفتها الوسائل العلمية المضادة . ويرى ان الوسائل العلمية لا يقتصر دورها على كشف الجريمة وتحديد مرتكبها بل يتعدى ذلك لمعرفة اسباب ارتكابها ، ولذلك فهو يدعو الى ضرورة الالتجاء لها باعتبارها خير وسيلة للمحقق والقاضي على حد سواء (3 ) .


وهناك من يرى ان هذه المرحلة لم تؤت ثمارها بعد وستظهر نتائجها في المستقبل ( 4 )

ثانيا : تعريف الاثبات

الاثبات لغة اصله : ثبت الشئ ثباتا وثبوتا فهو ثابت ، واثبته ، وثبتَه .

وقبل التطرق الى تعريفه اصطلاحا علينا ان نفرق بين نوعين من الاثبات : الاثبات المدني فقد عرفه السنهوري بأنه ( اقامة الدليل امام القضاء بالطرق القانونية التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت اثارها ) (8 ) .



اما الاثبات الجنائي فعرفه البعض على انه ( اقامة الدليل امام القضاء بالطرق التي حددها على صحة واقعة قانونية يدعيها احد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الاخر ) (9 ).



ولم تعرف التشريعات الاثبات بنوعيه وان خصصت لكل منهما حقلا خاصا في التشريع لاختلافهما وتظهر صور الاختلاف بينهما في التالي(5 ) :

1- وسائل الاثبات المدني تهيأ قبل النزاع وقبل البدء في اقامة الدعوى ، فنفس الوسائل التي يتم على اساسها اثبات الحق تعتمد كوسائل للاثبات . لان في التعامل المدني المطلوب اثبات ذلك التعامل كما في حالة الدين فالمتعاملين يثبتون تعاملهم عن طريق الكتابة . الا ان هذه الوسيلة قابلة لاثبات العكس .



اما في المجال الجنائي فتبدأ بعد رفع الدعوى فالجاني يحاول اخفاء كل اثر يدل على فعله او نسبته اليه . الامر الذي يستدعي اجراء التحقيق والتوسع فيه للوصول الى ادلة تثبت قيام الجاني بفعله المتهم به وذهبت المدارس الى اتجاهات مختلفة في الاثبات كما رأينا.



2- في الاثبات المدني تكون ادلة الاثبات مقيدة في حين كونها غير ذلك في الاثبات الجنائي . وبهذا تثبت حرية القاضي في بناء قناعته في المجال الجنائي .



3- الاثبات في المجال المدني ينظمه في الغالب قانون قائم بذاته في حين ان الاثبات في المجال الجنائي يدخل ضمن قانون اصول المحاكمات الجنائية .



واستطيع ان اطرح التعريف التالي للاثبات الجنائي واراه مستكملا لعناصر الاثبات وهو : ما يقدمه الخصوم من دليل مشروع ويعتمده القضاء لاثبات واقعة معينة .



يتضح من هذا التعريف المختصر للاثبات ان له معاني ثلاثة :

1- العملية المشروعة التي يقوم بها المدعي امام القضاء لأثبات ان اعتداء ما حصل على مصلحة او حق يحميه القانون عن طريق اقامة الدليل .

2- ما يستطيع بواسطته المدعي من اقناع القاضي بان هناك واقعة حصلت .

3- خلاصة ما وصل اليه المدعي من اقناع القاضي بتعلق حقه في واقعة معينه .



على ان مجال الاثبات لا يقتصر على اقامة الدليل امام القاضي بل يتسع ليشمل سلطات التحقيق والاستدلال . ومن يحاول الاثبات هو من يحاول كشف الحقيقة التي يريد اظهارها عن طريق القضاء وعن طريق اتخاذ الاجراءات التي رسمتها الخصومة الجنائية .





ثالثا : القواعد الاصولية للاثبات

الاصل الاول : براءة المتهم

امر شاذ ان يرتكب الفرد جريمة لذا فالاصل هو البراءة حتى يثبت عكس ذلك . ولا يقتصر هذا الاصل على الجانب الجنائي بل يشمل المدني ايضا . فهو ينص على براءة الذمة من الحقوق كما براءة الجسد مما يقع عليه من عقوبة . اساس هذه القاعدة ( اليقين لا يزال بالشك ) . يترتب على هذه القاعدة ان من غير المقبول ان يدان شخص بناء على توجيه الاتهام اليه من المدعي .



اهم ما يمتاز به مبدء الاصل البراءة هو:

1- نقل عبء الاثبات من عاتق المتهم الى الاتهام ، وينبني على هذا ان المتهم لا يكلف بأثبات برائته وانما له ان ينكر ما نُسب اليه وليس عليه اقامة الدليل فيما انكر .



2- ضمان حقوقه وحرياته امام القضاء اثناء سير المرافعة . الا ان حماية المجتمع توجب اتخاذ بعض الاجراءات ضد المتهم والتي تمس حريته . وفي هذه الحالة يجب ان يتم التوازن بين هذه الاجراءات وبين المبدء العام القائل ببراءة المتهم وهذا ما يطلق عليه المشروعية الاجرائية . وبذلك يحقق المبدء هدفين :

- كونه ضمان للانسان . – مانع للسلطة من الركون الى هواها والسقوط في هاوية الظلم والاستبداد .



الاصل الثاني : مشروعية اجراءات جمع الادلة



يفترض ان كل ما صدر من تدابير او ما اتخذ من اجراءات او قرارات يكون صادرا بنحو سليم ومتفق مع القانون . ولكن هذه الافتراض يمكن اثبات عكسه فمن يدعي ان اجراء اتخذ خلاف القانون فعليه يقع عبء الاثبات ، فاذا نجح فيما ادعاه سقط الاجراء ، اما اذا اخفق بقيت المشروعية ملازمة للاجراء وهذا يهدف الى امرين :

1- حماية المتهم بحفظ كافة حقوقه اثناء سير الدعوى ، بما فيها حقه في تفنيد كافة الادلة المجهة ضده .

2- منع القاضي من التعسف والتحكم وعدم الابتعاد قليلا او كثيرا عن القانون في الركون الى دليل غير شرعي لبناء قناعته .



الاصل الثالث :مبدءحرية الاثبات

لا يقيد القاضي بأدلة معينة بل له الحرية في اختيار ما يشاء لبناء قناعته وهذا موقف الشارع في كثير من الدول العربية . فقد اخذ بذلك المشرع العراقي في المادة 213 من قانون اصول المحاكمات الجزائية (7 ) ، كما اخذ به المشرع السوري في المادة 175 من قانون اصول المحاكمات الجنائية التي نصت على ان ( تقام البينة في الجنايات والجنح و المخالفات بجميع طرق الاثبات . والى هذا ذهبت مجلة الاجراءات الجزائية التونسية بموجب القانون 23 لسنة 1968 حيث نصت في المادة 150( يمكن اثبات الجرائم باية وسيلة من وسائل الاثبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ، ويقضي الحاكم حسب وجدانه الخالص ) .



على ان وجدان القاضي الخالص لا يكفي كضمانة لتقييد هواه ، فاذا كان الاصل حرية القاضي فيجب وضع استثناءات لهذا الاصل لأن القاضي قد ينطق بعض الاحيان عن الهوى مما دعى بعض التشريعات الى ترتيب قيود على اصل حرية القاضي فمثلا قالت بعض التشريعات على القاضي وجوب التقيد بطريقة معينة في الاثبات اذا نص عليها القانون وهذا ما ذهبت اليه المادة 175 من قانون اصول المحاكمات السوري ( اذا نص القانون على طريقة معينة للاثبات وجب التقيد بهذه الطريقة ) . كما لو اشترط القانون اثبات جرائم معينة بادلة بعينها كحالة اثبات الزنا على شريك الزانية او ما يثبت من الرسائل والوثائق الاخرى التي كتبها الغاوي في جريمة الاغواء.

انتهى البحث الاول



المراجع :

1- شرح قانون الاجراءات الجنائية ، محمود نجيب حسين ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي 1998 .

2- المرجع السابق .

3- شرح قانون الاجراءات الجنائية ، عدلي عبد الباقي ، البعة الاولى ، القاهرة ، دار النشر للجامعات المصرية 1953 .

4- الوجيز في اصول المحاكمات الجزائية ، محمد فاضل ، ج1 ، مطبعة جامعة دمشق 1961.

5- د . الهادي ابو حمرة ، توزيع وظائف الدولة كآلية لحماية الحريات : القانون الجنائي نموذجا ، مقالة على الانترنت .

6- كوثر احمد خالند ، الاثبات الجنائي بالوسائل العلمية ، دراسة تحليلية ، الطبعة الاولى 2007 .

7- كوثر المصدر السابق .

8 - سلطة القاضي الجنائي في تقدير ادلة الاثبات بين الشريعة والقانون ،عبد الله بن صالح ، الرياض ،1423 هه .

9 – نفس المصدر :

تعليقات