القائمة الرئيسية

الصفحات



إحالة ملف الدعوى العمومية على النيابة العامة عند إغفال إجراء معين

 


 

إحالة ملف الدعوى العمومية على النيابة العامة عند إغفال إجراء معين

 

غني عن التعريف ان النيابة العامة مبدئيا قد أوكل لها المشرع امر تحريك الدعوى العمومية  ومباشرتها، وان قانون المسطرة الجنائية قد حدد شكليات وإجراءات البحث والمتابعة. لكن بالرغم من ان القانون المذكور قد اهتم بجانب شكليات الادعاء العمومي، فان مباشرته وتحريكه قد يؤدي لا محالة الى إغفال إجراءات معينة من طرف احد أعضائها المحركين للدعوى العمومية. وعلى سبيل المثال  إغفال اشعار العون القضائي عندما يتعلق الامر بمتابعة موظف. فهل عند إحالة الملف على المحكمة الجنحية او الجنائية يمكن تدارك هذا الإغفال او الخطأ بإرجاع الملف للنيابة العامة؟

 ان ما يجري عمليا بمختلف محاكم المملكة من الأخذ باتجاه دون اخر وأحيانا على صعيد المحكمة  الواحدة  يجعل أمر بحث هذه النقطة ضرورة لا مناص منها وبالتالي إيجاد أرضية لمناقشة مختلف الاتجاهات التي عالجت القضية عمليا، سعيا وراء توحيد الرؤيا  بخصوص  هذا  الموضوع ، وما هذا البحث المتواضع الا محاولة لعرض هذه الإشكالية وإثراء النقاش فيها امام غياب نصوص صريحة يمكن استقاء حل منها في قانون المسطرة الجنائية.

واذا كانت الاتجاهات العملية التي تناولت حل هذه الإشكالية تتجسد في شكلين اثنين:

الاول يعتبر  ان النيابة العامة بمجرد إحالتها ملف الدعوى العمومية على المحكمة تكون قد استنفذت جميع إجراءاتها وان هذه الاحالة دليل على قيامها بكل  ما  يتطلبه القانون بخصوص المتابعة التي باشرتها في الملف المذكور. وبالتالي وجب البت في الملف على حالته، بالرغم من ثبوت حصول الإغفال

او الخطأ. سواء طالبت النيابة العامة بإرجاع الملف إليها او لم تطلب ذلك ما بدر منها من إغفال. وسندهم في ذلك ان من شان هذه الإحالة خصوصا اذا كانت المحكمة  هي  التي  وضعت يدها على الإغفال ان تمس بالاستقلال الواجب لهيئة النيابة العامة اتجاه المحكمة، وانه يعتبر بمثابة توجيه او إعطاء تعليمات لها، والمحكمة لا تملك توجيه النيابة.

وقد انبثق عن هذا الاتجاه رأي ثان اعتبر ان امكانية إحالة الملف على النيابة العامة ممكنة إذا بادرت هي الى المطالبة بذلك. وأباح رد ملف الدعوى إليها لاصلاح المتابعة او إشعار العون القضائي او إضافة ما يسهى عنه حفاظا على حقوق المجتمع الذي تشكل النيابة حارسا لها.

والثاني الذي يرى انه عند اكتشاف أي إغفال بخصوص المتابعة يكون أمر الإحالة على النيابة العامة ضرورة يفرضها حسن سير العدالة سواء أكان ذلك بناء على طلبها او تلقائيا وليس في ذلك توجيه لها او مساس باستقلالها، وانما مناط ذلك هو الحفاظ على المشروعية التي يتطلبها القانون للعمل القضائي سواء كان عملا يهم النيابة العامة او المحكمة او كتابة الضبط.

وفي سبيل توضيح هذه النظرة التي من شانها ان تقيم كل اتجاه من الاتجاهين السالف ذكرهما يظهر انه من الأنسب بيان أسباب ودواعي إيجاد كل اتجاه على حدة. وعليه نجد ان الاتجاه الاول الذي ظل سائدا منذ ظهور المؤسسات القضائية العصرية في بلادنا والى الآن قد ارتبط والى حد بعيد بالمبادئ التي اعتمدها واضعو هذا التشريع. ذلك ان المبادئ التي اعتمدها التشريع المذكور او بالأحرى الذي كان يهيمن على العمل القضائي ببلادنا والى غاية صدور نصوص الإصلاح القضائي في صيف سنة74 هو مبدأ سلبية القاضي. وفي ظل هذا المبدأ وكما هو معروف لم يكن القاضي يملك حق توجيه الخصوم قصد استكمال ما نقص في الأدلة المدلى بها من طرفهم او إيضاح ما أبهم منها او مطالبتهم بالإدلاء بحجج تعضد دعاواهم عند عدم تقديمها، وانما كان يقتصر دوره على تلقي أدلة الإثبات كما يقدمها الخصوم فقط وقد جسد المجلس الاعلى هذه القاعدة في عدة قرارات له نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: القرار عدد 38 الصادر بتاريخ 16/3/1970 عن الغرفة الاجتماعية الذي جاء فيه"ان الخصوم مدعوون تلقائيا للإدلاء بالحجج التي تفيدهم وان المحكمة ملزمة فقط بمراقبة سير الإجراءات وتخويل الطرفين جميع الضمانات التي تكفل لهما معا وعلى وجه التساوي حقوق الدفاع المشروعة" وكذا القرار عدد 74 بتاريخ 20/3/1972 الصادر عن نفس الغرفة الذي تضمن" ان الخصوم مدعوون تلقائيا للإدلاء بالحجج التي تفيدهم ولذا فان الحكم الذي يصدر بعدما يستنفذ الطرفان وسائل دفاعهم المشروعة لا يعتبر معيبا".

وإذن فهيمنة هذا الاتجاه لم يكن ينصب على الجانب المدني فقط وانما تعداه ليشمل حتى الدعاوى الجنائية على اعتبار ان النيابة العامة طرف فيها أيضا. وعليه لا غرابة في ان تتخذ المحاكم آنذاك هذه الوجهة وبالتالي تستنكف عن إرجاع الملف الى النيابة العامة عند اكتشاف أي عيب يشوب المتابعة وما هذه النظرية إلا تجسيدا لمبدأ سلبية القاضي الذي كان التشريع يكرسه.

وقد بقي بعض القضاة أوفياء لهاذ المبدأ ولازال اثره باديا في كثير من الأحكام والقرارات بالرغم مما أتت به نصوص الإصلاح القضائي من تجديد والذي سنتناوله بتفصيل فيما يستقبل، وكمثال على ذلك القرار الصادر عن المجلس الاعلى الذي تضمن ما يلي:

" المحكمة لا يجب عليها ان تنبه الخصوم الى ما في حججهم من عيب بل الواجب على طالب الحق ان يكون حجة سالمة مما يبطلها تلقائيا من غير توقف على  إرشاد المحكمة لان موقفها موقف حياد". القرار عدد 224 صادر بتاريخ 20/4/1976 في ملف الأحوال الشخصية والميراث عدد 47170.

لكن الذي يطرح نفسه حاليا هو مدى ملاءمة هذا الاتجاه للمبادئ التي دشنتها نصوص الإصلاح القضائي اذ ان الاتجاه الذي تبناه المشرع بمقتضى هذه النصوص وخاصة قانون المسطرة المدنية بوصفه القانون العام للقوانين الإجرائية عموما هو مبدأ إيجابية القاضي، وقد تجلى ذلك في عدة فصول نذكر منها على سبيل المثال الفصل الاول منه وان أهم ما يتميز به مبدأ الإيجابية هذا هو دور القاضي فيه الذي يكون فيه اكثر حيوية فيما يخص تسيير الخصوم وتنشيط سير الإجراءات اذ يملك إنذار الأطراف وإثارة انتباههم الى ما يعتري دعاواهم وحججهم من نقص وكذا الإفصاح عن ما أبهم في الإجراءات التي قدموها والحجج المدلى بها من طرفهم. لذا فان هذه الظاهرة الجديدة في العمل القضائي والتي دشنتها النصوص التي سلف الحديث عنها أوجدت السبيل الى تعدي حدود الدعاوى المدنية بمختلف أنواعها لتعكس أثرها على الدعاوى العمومية ولعل ذلك هو الحل الأمثل الذي يتلاءم ونظرة المشرع والذي خلق الاتجاه الجديد الذي اعتبر عدم إمكانية الأحالة على النيابة في جميع الأحوال عند اكتشاف أي إغفال او خطا يشوب المتابعة وقد جسد المجلس الاعلى مبدأ الإيجابية هذا في عدة قرارات له نذكر منها.

القرار عدد 476 الصادر بتاريخ 9/4/1983 في الملف العقاري 9888/82 المدني تضمن المبدأ التالي " لما لم تكتف المحكمة بإقرار المدعى عليه بالشراء كان عليها إما ان تطلب من المدعية الإدلاء بعقد الشراء او تقضي بإلغاء الدعوى وأنها لما صرحت بعدم استحقاق الشفعة والحال ان الحكم بالاستحقاق او عدمه يقتضي وجود حق يتنازعه الطرفان يكون قضاؤها غير مرتكز على اساس.

والقرار عدد101 بتاريخ 27 مايو1985 الذي تضمن الحيثيات التالية: " حقا حيث اذا كانت الفقرة الثانية من الفصل 32 من ق. م. م. توجب ان ترفق بالطلب المستندات التي ينوي المدعي استعمالها فان الفقرة الأخيرة من نفس الفصل تعطي للقاضي ان يطلب عند الاقتضاء تحديد البيانات غير التامة او التي وقع إغفالها وحيث تبين ان الطاعن أدلى امام المحكمة الابتدائية بعقد الالتزام بينه وبين خصمه المؤرخ في 29/5/1974 واغفل الإدلاء بما يفيد ان المدعى عليه تسلم فعلا المبلغ المدعى به فكان على المحكمة ان تشعر المدعي بضرورة الإدلاء بما يؤيد دعواه وما دامت المحكمة لم تفعل فان حكمها جاء غير معلل ومعرض للنقض". وانه ذهب إلى ابعد من ذلك اذ مكن المحكمة الجنحية من إعادة تكييف الأفعال الجنحية دون الالتفات الى متابعة النيابة العامة ولا حرج عليها في ذلك كما جاء به القرار عدد 535 الصادر بتاريخ 19 يناير1984 ملف جنحي عدد 10509 بان " للمحكمة الجنحية مثل محكمة الجنايات حق تكييف أفعال المحال عليها مقترفوها التكييف القانوني الصحيح وليست مقيدة بالمتابعة في هذا المجال."

وفي هذا المضمار لا يبقى أي احتجاج لأصحاب الاتجاه الاول بان من شان إعادة الملف على النيابة العامة ان يكون فيه أي توجيه او تعليمات. فإذا كانت امكانية إعادة التكييف واردة  فبالأحرى تدارك الأخطاء التي يمكن ان تعتري المتابعة.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بان الاتجاه الثاني يتوافق والنصوص والمبادئ الذي تضمنتها نصوص الإصلاح القضائي وحري بان يكون هو الواجب التطبيق في هذا المجال.

 


تعليقات