القائمة الرئيسية

الصفحات



الأسرار المهنية في القانون الجنائي د. عبد الرحيم صدقي





الأسرار المهنية في القانون الجنائي
د. عبد الرحيم صدقي
كلية الحقوق –جامعة القاهرة


-     عموميات ووضع المشكلة :
لم يكن للسر المهني في القانون الجنائي الأوربي القديم أي حماية عقابية. ولهذا لم يكن كشف أسرار المهنة من قبيل الجرائم الجنائية حتى وقت قريب.
 فعلى سبيل المثال لم يرد نص عقابي لمواجهة كشف الأسرار المهنية الا في عام 1810 في فرنسا حينما وضعت المدونة العقابية النابليونية. واحتلت هذه الجريمة، المادة 378 من قانون العقوبات (1).
ولكن انحلال الأخلاق ادى الى شيوع هذه الجريمة، وبالتالي الى تدخل القضاء الجنائي في تفسيرها، الأمر الذي ادى في النهاية الى ظهور نظرية قانونية متكاملة عن السر المهني.
 وفي بداية تطور هذه النظرية كانت تطبق على ثلاث طوائف معينة هي: الاطباء– المحامين والقساوسة ( رجال الدين المسيحي).
ولكن مع ظهور مهن او وظائف جديدة بفعل تطور الحياة في المجتمع اتسعت دائرة الطوائف المهنية وبالتالي اثير على بساط البحث موضوع اتساع دائرة " السر المهني" (2).
 ومما زاد اتساع نطاق نظرية " السر المهني" تغير الإيديولوجيات السياسية في العالم بحيث اصبح من الواضح تدخل الدولة – حتى في المذاهب المتحرر – في شتى انشطة الحياة العامة بل والخاصة فمثلا اصبحت للدولة سلطة التغلغل في حياة الانسان واسرار جسده الخاصة عن طريق نظام " التامين الاجتماعي" وسلطة التغلغل في معرفة اموال الإنسان عن طريق نظام " الضرائب" بصوره المتعددة. وهذا الأمر ادى الى استحواذ الدولة، بواسطة موظفيها واعوانها، على قدر كبير من الاسرار والمعلومات، لذا وجب حماية هذه الاسرار من الكشف ومن المعروف ان القانون الجنائي هو اكثر الوسائل فاعلية وتاثيرا في تحقيق هذه الحماية.
 والواقع ان مسالة كشف السر المهني لا تثير مشاكل عملية الا في حالة واحدة : وهي حالة ما اذا كنا امام احد أمرين : اما الحفاظ على السر المهني او الحفاظ على اتيان الشهادة ولو ادى الامر الى كشف هذا السر المهني هنا، لاتخاذ موقف من هذين الموقفين يجب علينا ان نتفهم الافكار العام الاساسية في موضوع " السر المهني".
 2-   الأفكار العامة في موضوع السر المهني : 
استهدفت نصوص تجريم كشف الاسرار المهنية في البداية حماية المصلحة الخاصة أي حماية الشخص حيال من يحاول فضح امره ولكن سرعان ما استهدفت التعديلات التشريعية اللاحقة تحقيق وظيفة اجتماعية. 
         •كذا لا يجب ان نغفل ان القانون القديم – في بلد كفرنسا قبل الثورة – كان يعفي صراحة الطبيب الذي يخبره مريضه بدواخل حياته الخاصة، والمحامي الذي يطلعه موكله على معلومات خاصة قد تؤدي بحياته الى حبل المشنقة، القسيس الذي يعترف له المسيحيين بما قد يستوجب المسالة الجنائية – من الادلاء باي شهادة قد تضر باحد الاشخاص الذين ذكرناهم حالا، أي من الادلاء باي وقائع تكون قد وصلت الى علمهم بسبب ممارستهم لمهام وظائفهم.
 ولذا كان كشف اسرار هذه المهنة الثلاثة : الطلب – المحاماة – الدين، جريمة معاقب عليها جنائيا. 
بعد قيام الثورة الفرنسية، كان المشرع الجنائي امام موقفين متعارضين هل يضحي بحرية الانسان وبامنه وباستقراره وبعقيدته في سبيل كشف الحقيقة امام العدالة الجنائية ؟ (3).
والواقع ان كشف السر المهني يعرقل نشاط وازدهار المهنة، أي انه يضر بالثقة الواجب توافرها في هذه المهن الحساسة ، بل لقد ينعكس على سلوكيات الناس بانغماسهم في الجريمة. فمثلا افشاء طبيب لوجود مجرم جريح لجا إليه، قد يكون حائلا دون لجوء فتاة حملت سفاح أتليه وبالتالي إلى احتمال لجوئها آلي طريقة غير طبية تؤدي بحياتها و بحياة جنينها. 
ومما يزيد الأمر تعقيدا تدخل المشرع الجنائي بموقفين متعارضين احدهما في قانون العقوبات الخاص والاخر في قانون الاجراءات الجنائية.
         •أما عن موقفه في قانون العقوبات الخاص فهو انه يجرم افشاء الاسرار المهنية بعقاب جنائي ( على سبيل المثال المادة 378 من قانون العقوبات الفرنسي)، اما عن موقفه في قانون الاجراءات الجنائية فهو انه يجرم كتم الاسرار عند الادلاء بالشهادة امام المحاكم ( على سبيل المثال المواد 80-157-198-315 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي).أي لو كان احد الشهود طبيبا او محاميا او قسيسا كان في موقف غريب فلو تكلم عوقب بموجب قانون العقوبات الخاص، ولو سكت عوقب بموجب قانون الاجراءات الجنائية، ولكن يجب ان نلاحظ ان مسلك قانون الاجراءات الجنائية ليس محددا على طوائف الاطباء والمحامين والقساوسة بل يشمل كل طوائف المجتمع أي ان نصوص تجريم قانون الاجراءات الجنائية نصوص عامة تسري على كل انواع الشهادات. اما نص قانون العقوبات فهو نص خاص يسري فحسب على الاطباء والمحامين والقساوسة من جهة، وفيما يتعلق بممارستهم لمهنهم أي بالاسرار التي تواصلوا اليها عن طريق ممارستهم لمهنهم. وعملا بقاعدة " الخاص يقيد العام، يرى الاتجاه الغريب ان أصحاب المهن ملزمين بعدم افشاء الاسرار التي توصلوا اليها بسبب ممارستهم لوظائفهم ولو طلبوا للادلاء بشهادة قد تفضح هذه الاسرار وتكشفها امام العامة. ولهذا تدارك المشرع الفرنسي هذا الحرج حينما نص في المادة 109 من قانون الاجراءات على حتمية الادلاء بالشهادة مع مراعاة التحفظ الوارد في المادة 378 من قانون العقوبات ( أي مع مراعاة السر المهني ).
 كذا أوضحت المادة 96 من ق أ ج في حتمية مراعاة قاضي التحقيق لكل الحيطة التي تكفل عدم الاخلال باحترام السر المهني وحقوق الدفاع واحترمت المادة 56 من ق أ ج ف كذلك السر المهني.
ولكن في بعض الحالات تبقى المسالة بلا حل تشريعي، فمثلا هل يجب على موظف البنك الا يقرر حقيقة حساب محرر الشيك بحجة الحفاظ على السر المهني وبالتالي يفلت المجرم في جريمة اصدار الشيك بدون رصيد ؟
 هنا يترك الحل للقضاء الجنائي. مع مراعاة ان افشاء الاسرار اذا لم يترتب عليه توقيع عقاب جنائي فقد يترتب عليه توقيع جزاء مالي أو مدني كما لا يجب آلا ننسى ان حسن اختيار المستخدم يقلل من احتمالية كشف اسرار العمل وعلى هذا الاساس فمن يسئ اختيار مستخدميه لا يلومن آلا نفسه اذا ما افشوا اسراره، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لا يجب ان ننسى ان القانون الجنائي لا يهتم الا بالنظام او المصلحة العامة دون الخاصة. 
 بنا ء على ما تقدم تقتصر دائرة السر المهني على الطوائف الثلاثة التي بينت سلفا واذا ما حدث افشاء للسر في هذه الطوائف الثلاثة فلا يصح للقضاء الجنائي ان يعتبر هذا الافشاء بمثابة ادلة صحيحة تبنى عليها احكامه. 
        •تبقى بين الطوائف الثلاثة المتقدم ذكرها وبين طوائف المستخدمين ( كالخدم والعمال والصناع) طوائف متوسطة مثل الخبراء (الاقتصاديين– الحسابين– الهندسيون.. الخ) هنا الحل بسيط: فهم ملزمين بعدم افشاء الاسرار للافراد او للعامة. ولكن بالمقابل لذلك يلزمون باداء الشهادات القضائية ولو ادى ذلك الى كشف الاسرار امام العدالة. 
 مما تقدم يتبين لنا ان الموضوعين الجديرين بالبحث المتعمق لما لهما من نتائج عملية هامة هما : 
        •مسؤولية الدفاع عن كشف الاسرار المهنية. 
        •ومسؤولية الاطباء عن كشف الاسرار المهنية وسوف نتناول كل موضوع من هذين الموضوعين على حدة بنوع من التفصيل فيما يلي :
 أ‌-    مسؤولية الدفاع عن كشف الاسرار المهنية :
أسرار الدفاع من الامور المقدسة الواجبة الاحترام وهي تستند على قاعدتين راسختين:
(1) حق المتهم الطبيعي في الدفاع عن نفسه، 
(2) المصلحة الاجتماعية في تمكين كل شخص من الدفاع عن نفسه في طمأنينة وهدوء. 
وهذا يعني ان " المحامي " حينما يتولى الدفاع عن انسان لا يدافع عن هذا الانسان كمجرد عميل او وكيل، وانما يدافع عن " الشرعية" ويحمي قواعد العدالة. 
وإزاء ذلك قد يعمد المحامي لاثبات براءة المتهم ان يتغلغل في فهم حياة المتهم الشخصية. ولهذا فلا يجب ان ينظر الى الدفاع الا على اساس انه مساعد للعدالة في الوصول الى الحقيقة.
 ولهذا فحماية المحامي لسر المتهم الذي يدافع عنه يجب ان تكون حماية مطلقة. وهذا ما تاكد في القضاء الفرنسي منذ امد بعيد (4) ولكن هذا لا يعني منح المحامي امتياز خاص في هذا الصدد بمعنى ان منزله أو مكتبه يخضعان لاجراءات التفتيش كما لو كان المحامي ذاته شريكا مع المتهم في جريمته او اخفى مسروقات المتهم في منزله (5) ولكن قد يؤدي التفتيش العبث باسرار او باوراق خاصة بموكلين لهذا المحامي، فما العمل في هذه الحالة لاسيما وان الموكل بالتحقيق دائما، يكون ملزما باحترام الاسرار التي يصل اليها بسبب وظيفته. اثير هذا التساؤل في باريس عام 1951 حينما قام قاضي التحقيق في محكمة السين ( باريس) بتفتيش مكتب محام في حضور نقيب المحامين – كما يستوجب القانون – اندريه تولوزAndré Toulouse  ولقد اعترض نقيب المحامين على ما اسفر عنه هذا التفتيش من ضبط مستندات تعد كشفا لاسرار المهنة. بل لقد اصدر نقيب المحامين بيانا نشر في الصحف في 13 ابريل1951، كما نشر في احدى المجلات القانونية ( جازيت دي باليه) على صورة مقالة بعنوان السر المهني  « Le Secret Professionnel et la liberté de la défense, Gaz. Pal. 1951 – 2, Doctrine, P. 40 ».
 وكانت وجهة نظر نقيب المحامين " ان حماية سر المهنة اذا ما تعلق بحق الدفاع – مسالة لا تهاون فيها، أي ان طابع الحماية طابع مطلق وليس نسبي لذا فليس من حق قاضي التحقيق ان يكشف هذه الاسرار مطلقا. وان تقدير سرية معلومة من عدمها في مكتب احد المحامين مسالة متروكة لتقدير نقيب المحامين الذي يكون – بحكم القانون – متواجدا لحظة التفتيش مع قاضي التحقيق. ولقد انتقد هذا الراي من قبل الفقه الجنائي الفرنسي على اساس انه يصد سلطة الدولة بصورة لا مبرر لها (6) كما وانه لا يصح خروج مكتب المحامي عن حكم القانون الجنائي الوطني – كمكتب سفير دولة أجنبية او كسفينة حربية أجنبية راسية في ميناء فرنسي – بدون مقتضى قانوني. وان وجود نقيب المحامين عند اجراء تفتيش لمكتب المحامي كقاعدة اساسها اصول اللياقة والكياسة، وليس معنى اقرارها اعطاء المحامي امتيازا أو ميزة لا تمنح لاي طائفة مهنية في المجتمع (7). كما وان وجوب حضور نقيب المحامين التفتيش لا يعني ان يباشر نقيب المحامين التفتيش بنفسه وانما يعني وجوده لملاحظة ولمراقبة ما يدور اثناء التفتيش، وعليه ان يدون في " محضر جلسة" ملاحظته حول ما يدور اثناء هذا التفتيش كما يبين هذا الانتقاد ان مجرد اطلاع نقيب المحامين - الى جواز قاضي التحقيق – على اسرار الموكلين يعد في حد ذاته كشفا لهذه الاسرار طالما انهما قرأها. 
 ولقد اثير الموضوع من جديد في فرنسا بعد هذه القضية الاولى في عام 1960 حينما اتهم محامي بالاعتداء على امن الدولة فقام قاضي التحقيق باجراء تفتيش لمسكنه ولمكتبه بنفسه بحضور نقيب المحامين في مدينة نيس Nice. وكان من الثابت ان نقيب المحامين لم يمكن من ملاحظة ومراقبة هذا التفتيش لقد طعن في حكم محكمة الموضوع على اساس بطلان التفتيش المنزلي بحجة " ان اجراء التفتيش كان يجب ان يتم بواسطة النقيب ( أي نقيب المحامين) حتى يضمن حفظ اسرار حقوق الدفاع لباقي الموكلين" (8) ولكن محكمة النقض الفرنسية برئاسة موريس باتان  PATIN رفضت هذا الطعن على اساس ان القيام باجراء التفتيش من صميم عمل قاضي التحقيق بمفرده وليس من حق نقيب المحامين ان يباشر بنفسه التفتيش بحجة حماية اسرار حقوق الدفاع لباقي الموكلين.


 ب-مسؤولية الطبيب عن كشف الاسرار المهنية :
اعتبر هيبوقراط  Hippocrate السر الطبي اكثر قدسية واحتراما من سر الدفاع، على اساس ان حياة الانسان هي اغلى ما يملكه لذا يجب ان تحاط صحة الانسان بسرية تامة لاسيما اذا كان في افشاء السر تعريض لحياة الانسان للموت. 
 ويثار نفس التساؤل السابق التعرض له بصدد اسرار المحاماة ولقد رد القضاء بلا تردد مؤكدا حتمية الحفاظ على الاسرار الطبية في الحكم الشهير المعروف بحكم واتيليه  Watelet الصادر في 19 ديسمبر1885 ( نشر بدالوز – عام 1886، الجزء الاول 347)، وكان الامر يتعلق بنشر بعض المعلومات الطبية المتعلقة بموت الرسام باستيان لوباج  Bastien Lepage 
 ولقد أكد القضاء هذا الحكم من جديد في 8 مايو1947 (9).
ولقد بين الكثير من مفكري فرنسا، وخاصة بروورديل  Brouardel  ودي ميتو  De Muteau (10) ان السكوت مطلوب من الاطباء " مهما كان السكوت دائما مطلوب"، بل اكد لوي بورت  Louis Porte في 5 يونيو1950 امام أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية بباريس، هذا المبدأ بصفة مطلقة : الحفاظ على سرية المعلومات الطبية عن المرضى.
 ولكن يرى جانبا من الفقه (11) ان هذا الطابع المطلق للسر الطبي امر مشكوك فيه لا سيما في حالة وجود "أوبئة". هنا يجب على الطبيب ان يكشف وجود " الوباء" فور معرفته بوجوده في مريض معين. لهذا نادى البعض بان حفظ السر الطبي امر يقيده وجود مرض معد  maladie contagieuse، هذا هو التحفيظ الاول على إطلاقية " السر الطبي". اما التحفظ الثاني فهو اذا كان في كتم السر أضرارا بصاحبه او بإدانة بريء. لذا قضى بان إخبار الطبيب بحقيقة وفاة مريضته انقادا لروح من اتهمت ظلما بوضع السم لها لا يعد إنشاء للأسرار معاقبا عليه جنائيا. 
         •ولقد لخص الأستاذ شافان Chavanne  أسس السر الطبي وحصرهما في أساسين (12):
(أ‌)   المصلحة الخاصة للمريض. 
(ب‌) المصلحة العامة للطب.
         •ولهذا لا يصح ان يحتج الطبيب على تفتيش عيادته – اذا ما اتهم بارتكاب جريمة ما - بحجة إفشاء الأسرار الطبية. ( هنا يسري ذات المبدأ المقرر بالنسبة للمحامين) ولقد راى القضاء الفرنسي ان على قاضي التحقيق ان ينسى ما وصل الى علمه من جراء تفتيش عيادة الطبيب اذا لم يكن متصل بالقضية محل التحقيق (13).
        •كذا واذا ما رفع مريض دعوى جنائية مطالبا بعقاب طبيبه بجزاء جنائي او بتعويض مالي ولإهماله في علاجه يجوز للطبيب ان يكشف امام المحكمة حقيقة المرض. ولا يعد ذلك إفشاء للسر المهني الطبي لان هنا تستوجب مصلحة المريض ذاته كشف الحقائق (14)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعد ادعاء المريض امر يشين الطبيب ويسيء الى سمعته لذا وجب عليه ان يدفع عن نفسه هذه التهمة الضارة به شخصيا. 
        •وأخيرا إذا كانت هناك مضاعفات خطيرة لمرض إنسان وجب إخطار المريض فان لم يتبع تعليمات الطبيب، وجب إخطار المحيطين به، والا فالجهات المختصة. ولا يعد هذا إفشاء للسر المهني. اذ ان الحالة تستوجب الإخطار.
باختصار يجوز إفشاء السر المهني الطبي اذا وجدت مصلحة جدية تبرر ذلك. ولهذا قضى بالا جريمة في واقعة إدلاء طبيب ببيانات عن مرض زوج - كان يعالجه بصفته طبيب عمله – لكي تحصل زوجته على معاش من جهة عمله بعد ان توفي بسب هذا " المرض المهني" (15).
 3-   النظرة القانونية لجريمة إفشاء الأسرار المهنية في الفكر الفرنسي :
تمهيد :
        •تثار مسالة إفشاء الأسرار المهنية، في الواقع، امام القضاء في ثلاث مناسبات مختلفة :
1-   باعتبار جريمة في ذاتها. 
2-   أو لتبرير عدم الادلاء بشهادة. 
3-   أو لدفع أي دليل او حجة تتوصل اليها المحكمة ووصفها بالبطلان. 
 ومن الواضح ان هذه المناسبات الثلاثة مرتبطة ببعضها البعض وجميعها تتوقف على حسن تعريف او شرح المقصود بمصطلح " سر مهني". 
ولقد حاولت بعض الاحكام القضائية في فرنسا ايجاد شرح وتحديد للسر الطبي مثلا في العديد من احكامها (16). وهذا دليل على مرونة المسالة وخضوعها لتقدير القضاء اكثر من خضوعها لتعريف تشريعي محدد.
         •تثير مسالة افشاء الاسرار المهنية ثلاث اسئلة :
أ‌-    هل يجوز التحجج بالعقاب على الافشاء للاسرار لرفض الادلاء بالشهادة ؟
ب‌- هل يجوز التحجج بالالتزام بالإدلاء بالشهادة لدفع العقاب عن الافشاء على الاسرار ؟
ج‌-   هل يجوز للمحكمة ان تعتمد على معلومة توصلت اليها عن طريق افشاء سر مهني في تكوين قرارها القضائي ؟
 وفي اعتقادنا ان الربط بين مسألتي جريمة افشاء الاسرار، وحق أو واجب الادلاء بالشهادة يعد ربطا غير دقيق. وهذا يعني ان السؤالين المتقدمين غير صحيحين من اساسها Mal Posé  (17). آما التساؤل الثالث فمن الثابت ان " ما بني على باطل فهو باطل"، ما لم يرض صاحب السر بإفشائه امام المحكمة.
         •والواقع ان حلول القضاء حول تعريف " السر المهني" تحتاج منا الى تدقيق تام قبل ان نصل الى راي قاطع حول هذه المسالة. ولا يجب ان يفوتنا ان هناك اسرار افشاء الاسرار نص عليها القانون كذلك بالمقابل الى جريمة افشاء الأسرار.
 4-   جريمة إفشاء الأسرار في ذاتها :
لكي يسهل توضيح هذه الجريمة ستناول بالدراسة الاركان الاساسية لجريمة افشاء الاسرار كل على حدة ضوء المستقر في الفقه الفرنسي. 
        •ويمكن تلخيص الاركان الاساسية لجريمة افشاء الاسرار في ثلاث اركان :
أ‌-    صفة في الجاني.
ب‌- افشاء سر 
ج‌-   قصد جنائي    
 أ‌-    صفة في الجاني :
عين القانون أشخاص معينين وجعلهم ملتزمين بالسر المهني. ويضع الفكر القانوني الفرنسي ثلاث طوائف من الاشخاص ملزمين بالحفاظ على السر المهني مع مراعاة ان الامين على السر Dépositaire ( كاتم الاسرار) قد يكون عدة اشخاص ينتمون الى هيئة طبية او مستوصف صحة اجتماعية (18).
الطائفة الأولى :
وتضم الاشخاص الوارد ذكرهم في المادة 378 ( ع. ف.) وهم الاطباء – الجراحين – موظفي الصحة بوجه عام – الصيادلة – والقابلات (الحكيمات). هذا الحصر ورد بوجه خاص في متن قانون العقوبات الخاص نظرا لكثرة المشاكل العملية التي تثار حول هذه الطائفة.
 الطائفة الثانية : 
وترد في قوانين خاصة. وتشمل هذه الطائفة موظفي الإدارة وهم كثيرون يصعب حصرهم. ومن نماذج اشخاص هذه الطائفة " المحلفين"، حيث ورد المادة 304 من قانون الاجراءات الجنائية ما يفيد حتمية احترامهم لسرية المداولات التي دارت فيما بينهم في قاعة مداولات محكمة الجنايات حتى بعد انتهاء مهمتهم في هيئة المحلفين. وكذا يمكن ان نضيف نص المادة 11 فقرة 2 من قانون الاجراءات الجنائية الذي ينص على احترام الحفاظ على سرية التحقيق من قبل كل من اتصل بهذا التحقيق، الى هذه الطائفة. ومن النماذج لهذه الطائفة كذلك عمال " التامين الاجتماعي" الذين يتوصلون الى اسرار من العملاء المترددين على هذه الهيئة. ( م/5 من ديكريتو24 مايو1969). كذا يدخل اليه من اسرار بسبب وظيفتهم (الامر الصادر في17 نوفمبر1958). 
بل ان من الملاحظ ان هذه القوانين الخاصة لها عقوبات خاصة، أي انها لا تحيل كلها فيما بالعقاب على نص المادة 378 ع. المشار اليها في الطائفة الاولى. ومن نماذج هذه العقوبات الخاصة ما ورد في المادة 58 من قانون الاجراءات الجنائية، وفي المادة 3 ومن التشريع الصادر في 4 أغسطس1962.
 الطائفة الثالثة :
إلى جوار المعينين في المادة 378، وكذا في نصوص القوانين الخاصة، يلتزم باحترام السر المهني كل من ائتمن على سر، سواء بسبب وظيفته او بسبب حالته وسواء أكانت الوظيفة مؤقتة او دائمة. ونظرا لاتساع دائرة هذه الطائفة يتدخل القضاء ليحدد اشخاصها على النحو التالي :
أ‌)    أفراد ملزمين بالسر المهني بمعنى ان يعاقبوا في حالة الافشاء لهذا السر وهم :
                           •القساوسة (19).
                           • موثقي العقود (20)
                           •القضاة وكتبتهم (21)
                           •المحامين والمحامين المنتدبين (22)
                           •مفتشي الشرطة (23)
                           •أمناء العمدية ( سكرتير العمدة ) (24)
                           •المحضرين (25)
                           •الخبراء المحاسبين … الخ (26).
 ب) أفراد ولو انه يعهد إليهم بأسرار الا انهم لا يعاقبوا إذا ما كشفوا هذه الأسرار على اساس المادة 378 :
          •العمال والمستخدمين ( لعقابهم حسب المادة 418 على إفشاء سر الصناعة). 
          •مندوب التامين (27).
          •المحاسبين (28).
           •رئيس مجلس إدارة شركة غير مسماة (29).
من هذا التحليل يتوصل الفقه الجنائي الفرنسي الجنائي الى ان مصطلح الاوفق في التعبير عن المشكلة المثارة هو مصطلح السر الوظيفي  Secret Fonctionnel  وليس مصطلح السري المهنيSecret professionnel (30). على أساس ان جريمة المادة 378 عقوبات كما فسرها القضاء الفرنسي ترتبط بمن يعمل عملا يقوم على ثقة الجمهور.
ب - إفشاء سر :
لتحليل هذا الركن يجب ان نوضح ثلاث امور : 
1-   حقيقة السر 
2-   التثبت من السر 
3-   فعل الافشاء 
1-   حقيقة السر : 
هذا التساؤل يقصد به معرفة : هل السر هو امر عهد بثقة الى شخص لكتمه ام ان السر هو معرفة مكتسبة بدون ان يكون قد عهد بها احد الاشخاص الى اخر لكتمها ؟
        •يعتقد البعض ان المسالة لتكون سرا يجب ان يكون هناك عهد بين شخصين على كتمانه. ولكن هذا الأمر – في نظر الفقه الفرنسي – لا يعبر عن حقيقة السر. بمعنى ان الثقة الصريحة la confidence expresse  ليست مطلوبة من جهة. كما وانها ليست كافية.
        •أما انها ليست مطلوبة لكي تكون المسالة سرا. فذلك لان جريمة افشاء السر تتكون ولو لم يكن هناك طلب بكتمان السر او لو لم يكن. 
 هناك تعهد شفوي او كتابي بكتمان السر. ومع ذلك مال القضاء في بعض احكامه الى عكس هذا الاتجاه الفقهي (31). ولكن سرعان ما عدل القضاء عن هذا الحكم العكسي حينما قرر بوجود السر ليس فحسب على ما يصل اليه بسبب عمله بل كذلك على ما يراه او ما يسمعه او ما يفهمه أو ما يستنتجه في ممارسته لوظيفته، ولو لم يكن قد عهد بها اليه شخصيا (32).
 أما انها ليست كافية لكي تكون المسالة سرا في حكم المادة 378 ع. فلأن الثقة الصريحة التي تمنح لشخص بدون ان يكون بسبب ممارسته لوظيفته لا تصل محلا للمساءلة العقابية اذا حدث كشف للسر، والى هذا الحكم مال القضاء الفرنسي (33).
        •ولهذا ساد معيار المعرفة المكتسبة   connaissance acquise بدلا من معيار الثقة الصريحة، لمعرفة السر.
أي ان معرفة الشخص بسبب وظيفته لسر ما يكفي لعقابه، ولو لم يعهد اليه صراحة بكتمان هذا السر، اذا ما افشاه (34).
ولهذا فاذا لم يكن قد عرف السر بسبب ممارسته وظيفته فلا يحق عقابه عن افشاء الاسرار وفقا لنص المادة 378 عقوبات فرنسي (35).
2-   التثبت من السر:
 يجب ان نتثبت من ان " المعرفة المكتسبة" التي حصل عليها كاتم السر أمرا غير معروف Chose inconnue للكل فيما عدا من عهد اليهم بكتمانه، ولو لم يترتب على هذا الافشاء أي ضرر. 
 ومن ثم فلو كانت المسالة التي عهد بكتمانها يعرفها الكل، فلا تكون سرا بالمعنى الفني الدقيق. 
 أما لو كانت لا يعرفها الجمهور او يوجد شك حول صحتها فيجوز معاقبة الشخص على افشاء السر (36)، حتى لو هناك شك بسيط في معرفة العامة بها (37).
 كذا لا يجدي الدفع بعدم حدوث ضرر لمن افشى سره، فالضرر ليس ركن في السر. فالطبيب الذي يذيع نتيجة تحليل اجري على مريض له ولو كانت هذه النتيجة مرضية ومطمئنة لصحة هذا المريض – يجوز عقابه لافشاء السر (38).
 3-   فعل الإفشاء:
والتساؤل هنا كيف يتحقق فعل الإفشاء ؟
والواقع ان الافشاء فعل مادي يقع او لا يقع. لذا لا يتصور الشروع في هذه الجريمة .
ولكن قد يكون الافشاءجزئيا لا كليا، شفويا لا كتابيا، موجه لشخص لا للكافة، موجه لاشخاص غير ملتزمين باحترام كتمان السر المهني لا لأشخاص ملتزمين بحماية السر المهني (39).
ومع هذا يجب ان يكون الافشاء يحتوي قدرا أدنى من المعلومات الدقيقة (40).
 ج‌-   القصد الجنائي 
لا يتصور ان يرتكب افشاء السر باهمال او برعونة والقصد الجنائي المطلوب هنا ان يكون لدى الشخص نية خيانة الثقة والسر الذي التزم بكتمانه، ولو لم يكن لديه نية احداث ضرر بالغير (41).
كذا لا عبرة بنبل الباعث أي ولو كان باعث الافشاء هو تباين الحقيقة للتاريخ (42).

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 43، ص 9

تعليقات