القائمة الرئيسية

الصفحات



التحكيم والتحاكم الدولى فى الشريعة الإسلامية

التحكيم والتحاكم الدولى فى الشريعة الإسلامية

التحكيم والتحاكم الدولى فى الشريعة الإسلامية


التحكيم والتحاكم الدولى

فى الشريعة الإسلامية

بحث مقدم

للدورة العادية التاسعة للمجلس الأوربى للإفتاء و البحوث
المنعقدة في فرنسا



اعداد

أ.د عجيل جاسم النشمى


بسم الله الرّحمن الرّحيم


والحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين وبعد ،،،

فقد جرت سنّة الله في خلقه باختلافهم في آرائهم ، واعتقاداتهم ، ومللهم ، واختلاف ألوانهم وألسنتهم ولا يزالون مختلفين حتّى يرث الله أرضه ومن عليها ، قال تعالى : " ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ، إلاّ من رحم ربّك ، ولذلك خلقهم " (1) ، فمن أجل الاختلاف ثمّ الرحمة للسعداء ، والعذاب للأشقياء ، ليكون فريق في الجنّة ، وفريق في السّعير ، خلق الله الخلق ولا يزالون مختلفين أبدا ، واختلافهم آية من آيات الله : " ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين " (2) .

كما جرت سنّة الله في خلقه باتّفاقهم على حب ما جبلوا عليه من المتـاع والمـال ، قـال تعالى : " زيّن للناس حب الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المآب " (3) وجبل الإنسان على حب المزيد من كلّ مال ؛ ليتنافس النّاس فتعمر الأرض وتزدان ، ويسعد الإنسان في حياته الدّنيا ، لكن لما كان حب الإنسان للمال جمّاً ، لو ترك إليه لأسرف وطغى ، وتنكب الطّريق ، وجار ، وظلم وغدا عبداً للمال يشقى به .تنزلَت آيات الله وكتبه وبعث بها رسله ، ليعرّفوا الإنسان حدود حرّيته في حبّ المال والمتاع ، ثمّ تنزلَت آيات القرآن الكريم لتنظيم موارد المتاع الحلال ومصارفه ، والحرام ومساربه وتدرج التّشريع في أحكام حفظ المال والحقوق ، حتّى حدّ الحدود القاطعة لمن بالغ في التّجاوز والظّلم ، وشرع من الأحكام عامة ما ينظّم حياة النّاس في أسرهم ومجتمعهم ودولهم .

وبنى النّفوس من داخلها قبل العلاج في واقع الحياة وزخمّها ، ليكون وازع الدّين أوّل سياج حفظ الحقوق لأصحابها ،فقد تنتهي الخصومة بالعفو أو بالإعراض عن الجاهلين . وقد تنتهي الخصومة بالصّلح . إلاّ أنّ من الخصومات ما لا تنتهي إلاّ بإقامة البراهين والحجج أمام القضاء ، فكان القاضي نهاية مطاف انتصاف المظلومين من الظالمين ، وتقرير الحقوق وردّها إلى أصحابها .

يأخـذ من هذا ليعيد لهذا حقّه ، ردّاً إلى حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم : " فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخـر ذلـك خيرٌ وأحسن تأويلا " (1) فالنّزاع لا ينقطع بين المسلمين المؤمنين أو غيرهم ، لكن المؤمنين يفصل القرآن بينهم والسّلطان مخاطب بإقامة شرع الله وسياسة النّاس به في دينهم ودنياهم .
والقضاء سبيله في فصل الخصومات وإذا كان وازع الدّين في قلوب المؤمنين يحمل عن القضاء الكثير من وقائع الخصومات ، ممّا ينصف المؤمنون فيه بعضهم بعضا رغبةً ورهبةً استغفاراً وتغافراً وتوبةً . إلاّ أنّ هذا الوازع يقوى أو يضعف ، وقد يتغافر المؤمنون في صغائر الأمور ويحتاجون في كبارها إلى حكم القضاء لا ريب .

والطّامة حال النّاس مع ضعف وازع الدّين ، وتكالبهم على الدّنيا يتنافسوها ولو على حساب دينهم وحيثما ضعف الدّين في النّفوس زاد الظّلم ونما ، وكثر الظلم والظّلمة ، وتعالت الأصوات وثارت النّفوس وهاج النّاس وماجوا ، يأكل القويّ حقّ الضّعيف ، وإزاء ذلك يحتاج الحكّام إلى كثرت الأعوان من شرطة تضبّط وقضاة تحكم، رفعا للنّزاع ، وردّاً للحقوق إلى أصحابها . ولا ريب أنّ القضاء مرتقى صعب مسلكه لما يحتاج من ضمانات وإثباتات وحجج وبراهين ، وإجراءات وتكاليف ويزيد صعوبة عجز المظلوم أو فقره ومدافعة الظّالم عن نفسه ، بل مدافعة من يعين الظّالم على ظلمه ممّن يكون ألحن في حجّته ، يَخْبُر المداخل والمخارج التّي قد تفوِّت الحقوق ، وتحمي الظّالم ، وغايته كسب وفير يبرر الوسيلة ولو كانت ظالمة .

ولا تزال أبواب القضاء في بلاد الدّنيا كلّها أكثر الأبواب ازدحاماً ، وطول انتظار ، حتّى أصبح كثير من أصحاب الحقوق يتردّد في طلب حقّه وانتزاعه عن طريق أبواب القضاء ، حذراً من طول انتظار ، وتضييع الوقت ، أو خوفاً على سمعتهم وفضح أسرارهم وخصوصيّاتهم في جلسات القضاء العلنيّة ، ولربّما لو سلك الطّريق مع هذا ودفع من المال ما دفع لم يصل إلى حقّه لنقص في مستنداته ، أو ضعف في مطالبته أمام خصم ألحن منه بحجّته.

وأمام هذا الواقع عادت الدّول إلي مبدأ التّحكيم ، وهو تحاكم الخصمين بالتّراضي إلى غير القاضي ، وقد كانت الدّول تظنّ أنّ التّحكيم يخدش السيادة ، ولكن تبيّن لها أنّه نوع من القضاء ، بل يمكن أن يخضع له ، ويكون سنداً قانونيّاً له .

وقد كان التحكيم سائدا بين العرب ’يتولاه الحماء منهم ’وكانت القبائل تفتخر بحكمائها ."واشتهر بين العرب قبل الإسلام عدد من المحكمين أو الحكام عرفوا بالعقل والحلم والحكمة ’وباختلاف الناس إليهم للحكم فيما يشتجرون فيه منهم الحاجب بن زرارة ’والأقرع بن حابس ’وقس بن ساعدة ’وأكثم بن صيفى’وعبد المطلب بن هاشم " واشتهر بعض النساء بذلك أيضا منهن صحْربنت لقمان(أو أخته)’وهند بنت الخس’وجمعة بنت حابس’وبنت عامربن الظرب " (1

)

وقد أقرّ الإسلام التّحكيم ، بل حبذه وفضّله دون رفع التّخاصم إلى القضاء ، فما تمّ بالتّراضي خير ممّا يتم بعد الشّحناء والخصومة ، فالتّراضي بين الخصمين تقارب وتسامح وإيذان بالرّضى بالحق أو بعضه مع صفاء النّفوس وراحتها .

وقد عرف النّاس التّحكيم منذ القدم ، وما لجأ النّاس للقضاء حتّى قامت الدّول وشرعت النّظم وتعقّدت المسائل والمشاكل . كما عرفته العرب في جاهليّتها ، بل كان ملجأهم في حسم المنازعات بين القبائل ، وقد حقن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دماء قومه في جاهليّتهم بالتّحكيم لمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود واختصموا فيه حتّى كادوا يتقاتلون قالوا : يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السِّكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج ، فقضى أن يجعلوه في مِرْطٍ – كساء من صوف أو خز يؤتزر به - ، ثمّ ترفع جميع القبائل من أطراف المرط .

وقد نظّم الإسلام التّحكيم ، واعتبره نظاماً لفصل الخصومات هو دون القضاء وفوق الصّلح والفتوى ، فضبط شروط المحكَّم ، وما يصح محلاّ للتّحكيم ، وما لا يصحّ الحكم فيه ، وأعطى لحكم المحكّم صفة الإلزام كالقضاء ، وسلبه التَنفيذ كالفتوى .

وقد عنى الفقهاء بتنظيم التَحكيم ، وإقامته على أصول الشّرع ، ومبناه ، فأحكامه مبناها تحقيق المصالح في رد الحقوق لأصحابها بطريقة التّراضي ، وحفظ الأسرار ، وسرعة الوصول للحقوق ودفع المفاسد من كثرت الخصومات القضائيّة ، ومشقّة التّرافع للقضاء ، ولذا قال ابن العربي " الحكم بين النّاس إنَما هو حقّهم لا حقّ الحاكم ،بيد أن الاسترسال على التّحكيم خرق لقاعدة الولاية ، وقود إلى تهارج النّاس تهارج الحمر ، فلا بدّ من نصب فاصل ، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وإذن في التّحكيم تخفيفاً عنه وعنهم في مشقة التّرافع ، لتتمّ المصلحتان وتحصيل الفائدتان " (1) . فمبنى التّحكيم تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وسد الذّرائع ، لكن لما كان على خلاف الأصل في أنّ الولايات تكون للحكّام احتاج إلى قيود وضوابط ، وفَّى الفقهاء ترتيبها وضبطها .

وقد أثبت التَحكيم جدواه وأثره حتّى أصبح واقعا محترماً لا تخلوا دولة من تنظيمه واعتماده بل أنشأت له المحاكم والهيئات والمراكز المحليّة والإقليمية والدّولية . وأصبح شريان التّحكيم بين خصومات ومنازعات الدّول والأفراد .

وقد اهتمّت به الدّول العربيّة والإسلاميّة مؤخّراً . وأفضل خطوة فيه إقرار القمّة الإسلاميّة الخامسة المنعقدة في الكويت في يناير 1987 مشروع النّظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية للدّول الأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلامي .

وهناك ملحظ في التّحكيم لو طبّق على مستوى الدّول والأفراد ، لكان باب خيرٍ عظيم حين ينصّ نظامه على تطبيق أحكام الشّريعة الإسلاميّة . فإنّ الدّول والأفراد تترافع إليه بالتّراضي ، فيكون باباً واسعاً لتطبيق أحكام الشّريعة ويكون مرحلة تقديم الشّريعة وتطبيقها وتأخير القانون ، وإعادة الأمّة إلى سابق عدلها وعزّها .

ولقد حاولت في هذا البحث أن أجمع شتات الموضوع من أمّهات الكتب الفقهيّة الأصليّة مستوعباً المذاهب بحججها وأدلّتها ،حتّى إذا ما تكامل للموضوع بناؤه الفقهيّ ، أتبعت به واقع التّحكيم دوليّاً ، مبينا المدى الذّي يمكن أن نتعامل به ، وما لا يمكن أن نتعامل به دوليّاً آخذاً بالاعتبار أنّ ميدان التّحكيم أو التّحاكم غدا في هذا العصر ميداناً رحباً في حلّ النّزاعات خاصّةً بين الدّول ، سواء بين دولتين مسلمتين ، أو بين دولة إسلاميّة وغيرها . وسواء في جهة التّرافع إسلاميّة كانت أو غير إسلاميّة .

. أ .د. عجيل جاسم النشمي

التّحكيــــــم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعريفـه :

لغــةً : هو مصدر حكّمه في الأمر ، أي جعله حكماً ، وهو تفويض الحكم لشخص ، ويُقال للمحكَّم حَكَمْ ، ومُحَكَّمْ من باب التّفعيل بصيغة اسم المفعول ، ويُقال مُحَكِّمْ من باب التّفعيل بصيغة اسم الفاعِل(1)، وفي القرآن الكريم قوله تعالى : " فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يُحكِّموك فيما شجر بينهم " (2)

واصطلاحا : اتّخاذ الخصمين آخر (3) أهلاً للحكم برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما "

شرط ومشارطة التحكيم : إصطلح حديثا على تسمية إتفاق الطرفين على التحكيم قبل قيام النزاع بشرط التحكيم . وبعده بمشارطة التحكيم .

ولا مانع من الشرط و الشارطة فى الفقه وهو داخل فى الشروط المقبولة

ركن التّحكيم :

ـــــــ

ركن التّحكيم إيجاب من طرف وقبول من الطّرف الآخر ، ويكون الإيجاب بالألفاظ الدّالة على التّحكيم كقول : قد حكمناك ، أو نصبناك حاكماً أو جعلناك حاكماً ونحوه ، فليس المراد خصوصي لفظ التّحكيم(4) .

ضابط التّحكيم :

ــــــــ

ضابط التّحكيم كما قال ابن العربيّ : " إنّ كل حقّ اختصّ به الخصمان جاز التّحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكّم فيه " (5)، أو كما قال ابن عرفة : " إنّما يجوز التّحكيم فيما يصحّ لأحدهما تـرك حقّـه فيه " (6). أو كما جاء في الفتاوى " يجوز التّحكيم في كل ما يملك المحكِّمان فعله في أنفسهما في حقوق الجار " (7) 5/428 .

دليل جواز التحكيم :

ـــــــــ

الأدلة على جواز التحكيم متضافرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس .

دليل الكتاب :

ــــــ

قوله تعالى : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (1) قال ابن العربي : هي من الآيات الأصول في الشريعة (2) وهذه الآية دليل على إثبات التحكيم ومشروعيته (3) ، وعن ابن عباس قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء (4) .

وقوله تعالى : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (5)، قال ابن كثير : نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم - تسخيم الوجه بالفحم - ، والإركاب على حمار مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .

وقد وردت الأحاديث بذلك ، " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعا ، فقال لهم : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية ، - الإركاب منكوسا - ، قال عبد الله بن سلام : ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتى بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال لـه ابـن سلام : ارفع يدك فإذا آية الرجم تحت يده

فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلـم فرجمـا قـال ابـن عمر : فرجما عند البلاط فرأيت اليهودي أجنأ عليها " (1) - أي أكب عليها - .

وقال ابن العربي : لما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ، ولم يكن لهم الرجوع وكل من حكم رجلا في الدين فأصله هذه الآية (2) .

دليل السنة :


ــــــ

عن شريح بن هانئ : أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهـم يكنون هانئا : أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم " ؟ فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، قال : " ما أحسن من هذا فما لك من الولد " قال : لي شريح ، وعبـد الله ، ومسلم . قال : " فمن أكبرهم " قال : شريح ، قال : " فأنت أبو شريح " فدعا له ولولده (3) .

فهذا إقرار واستحسان منه صلى الله عليه وسلم لتحكيم القوم لأبي شريح وفي رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أصيب سعد يوم الخندق ، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة ، رماه في الأكحل ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل ، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال : قد وضعت السلاح ، والله ما وضعته ، اخرج إليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة ، فاتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه ، فرد الحكم إلى سعد ، قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة ، وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم " (4) .

والحديث نص في الموضوع إذ حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو سيد قومه ، ومرضي عندهم ولا ريب في رضاهم به ، وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أن سعد بن معاذ رضي الله عنه استوثق من رضي قومه ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم .

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب ، فقال الذي شرى الأرض : إنما بعتك الأرض

وما فيها قال : فتحاكما إلى رجل ، فقال : الذي تحاكما إليه : ألكما ولد فقال أحدهما : لي غلام وقال الآخر : لي جارية ، قال : أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسكمـا منه وتصدقا " .

فالحديث ظاهر في مشروعية التحكيم وفضل الإصلاح ، قال النووي : في الحديث فضل الإصلاح بين المتنازعين ، وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين ، كما يستحب لغيره (1) .

إجماع الصحابة :

ــــــــ

فقد وقع بين الصحابة خلاف كثير فكانوا ربما حكموا فيه واحدا منهم ولم ينكره أحد فكان إجماعا . ومن ذلك ما كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما من مدارأة – خصومة – بينهما في نخل ، فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فخرج زيد بن ثابت إليهما ، وقال لعمر رضي الله عنه ألا تبعث إلى فآتيك يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتى الحكم فأذن لهما فدخلا وألقى لعمر وسادة فقال عمر رضي الله عنه هذا أول جورك ، وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه ، فقال زيد لأبي رضي الله عنه : لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر يمين لزمتني فلأحلف ، فقال أبي رضي الله عنه ، بل يعفى أمير المؤمنين ويصدقه .

وتحاكم عمر رضي الله عنه مع رجل إلى شريح في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم وحاكم علي رضي الله عنه اليهودي إلى شريح ، وحاكم عثمان بن طلحة إلى جبير بن مطعم ، وتحاكم علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، فكان من جهة على أبو موسى الأشعري ومن جهة معاوية عمرو بن العاص وحكم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف " (1) .

وعلى القول بجواز التحكيم المذاهب الأربعة ، وجمهور الفقهاء ، كما سيأتي بيان ذلك .

القيـاس :

ـــــ

يمكن قياس التحكيم على القضاء بجامع فصل الخصومة ، كما يمكن قياسه على الاستفتاء في عدم لزومه في الأصل .

حكمــه :

ـــــ

حكم التحكيم الجواز عند جمهور الفقهاء ، ولم تختلف المذاهب في أصل مشروعيته لما سبق من الأدلة والقياس على القضاء والاستفتاء ، وإنما اختلافهم فيما قد يحتاجه من قيود وشروط .

قال المازري المالكي : " تحكيم الخصمين غيرهما جائز ، كما يجوز أن يستفتيا فقيها يعملان بفتواه في قضيتهما " ، وجزم أبن فرحون بالجواز فقال : " إذا حكم أحد الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جوارا بينا " (2) .

ونصوص المذاهب ظاهرة متضافرة على جوازه غاية ما هنالك أن المالكية اختلفوا في جوازه ابتداء أو بعد وقوعه ، وظاهر كلامهم ، ومفهومه جواز التحكيم ابتداء (3) .

والحنفية امتنعوا عن الفتوى به مع جوازه خشية أن يتجاسر العوام إلى تحكيم من ليس أهلا فقالوا : " إن حكم المحكم في المجتهدات نحو الكنايات والطلاق المضاف جائز في ظاهر المذهب عن أصحابنا ، إلا أن هذا مما يعلم ، ولا يفتى به كي لا يتجاسر الجهال إلى مثل هذا " (1) .

إلا أن واقع المذهب أن لو كان المحكم على وفق ما ذكروه من شروط وفي محل الاجتهاد جاز ومضى حكمه ، حتى قالوا : " إن فتوى الفقيه للجاهل بمنزلة حكم القاضـي المولـى ، أو حكم المحكم 000 " (2) .

والشافعية مع القول بجوازه " بشرط أهلية القضاء فلم يجوزوا تحكيم غير الأهل مع وجود القاضي ولو قاضي الضرورة " (3) كما سيأتي .

وعند الشافعية قول بعدم الجواز لأنه يؤدي إلى اختلال أمر الحكام وقصور نظرهم والافتيات عليهم وقول بجوازه بشرط عدم وجود قاض بالبلد وهذا هو المعتمد ، ولو لغير الأهل ، فيمتنع تحكيم غير الأهل ، مع عدم وجود قاضي الضرورة إلا إن كان يأخذ مالا له وقع بحيث يضر حال الغارم فيجوز التحكيم ، وإن كان القاضي مجتهدا (4) ، وسيأتي تقسيمات مذهبهم تبعا لمحل التحكيم .

التحكيم والقضاء :

ـــــــــ

التحكيم من الولايات فهو نوع من القضاء لما فيه من فصل الخصومة ، وبيان الحكم الشرعي فالحكم من أنواع القضاء ، ولذلك يذكر الفقهاء التحكيم والحكم في باب القضاة أو القضاء .

فيتفقان في الإلزام بحكمهما إلا أن القضاء بمثابة الأصل ، والتحكيم بمحل الفرع منه فرتبته أقل وأدنى ولذا اختلف القضاء عن التحكيم في أمور أهمها :

موضوع القضاء في الخصومات مطلقا وفي كل ما يعرض عليه ، وحكم المحكم لا يصح في الحدود والقصاص والدية على العاقلة – على ما سيأتي ذكره والخلاف فيه - .

ولاية القضاء عامة على الناس ، فولايته من ولي الأمر ، ومعين من قبله فعمله من المناصب والولايات ، وولاية المحكم خاصة فيمن ارتضاه من المتخاصمين " فولاية التحكيم بين الخصمين ولاية مستفادة من آحاد الناس ، وهي شعبة من القضاء متعلقة بالأموال دون الحدود واللعان والقصاص " (1) ، وقال الشافعي " التحكيم إنما هو فتوى لأنه لا يقدم آحاد الناس الولاة والحكام " (2) فينفذ حكم القاضي على العامة وينفذ حكم المحكمين على مـن رضي بحكمهما.

حكم المحكم يصح فيما يملك المحكمون فعله بأنفسهم ، وهي حقوق العباد ، ولا يصح في حقوق الله .

بجوز تحكيم أثنين أو أكثر ، ولا بد حينئذ من اجتماعهم ، فلو حكم أحدهم دون غيره لا يجوز لأن المحكمين رضيا برأيهما أو رأيهم ، وهذا بخلاف القضاء .

أن حكم المحكم في المجتهدات إذا رفع إلى القاضي إن كان موافقا لرأيه أمضاه وإن كان مخالفا أبطله – عند بعض الفقهاء – وليس للقاضي أن يبطل حكم قاض آخر في المجتهدات .

شروط القضاة يضعها ولي الأمر كما قررها الفقهاء ، بينما شروط المحكم يضعها المتخاصمون مع مراعاة بعض الشروط التي يتفق فيها مع شروط القاضي – على تفصيل في ذلك عند الفقهاء - .

يجوز للمتخاصمين أن يوقفوا التحكيم قبل الشروع فيه أو قبل صـدور الحكـم – على خلاف فيه – كما أن لهما أن يعزلا المحكم ، بخلاف القضاء (3) .

التحكيم والإفتاء :

ــــــــ

التحكيم وإن اتفق مع الإفتاء في الإخبار عن الحكم الشرعي في الواقعة محل النزاع أو محل السؤال إلا أن التحكيم ألصق بالقضاء لصفة الإلزام عند جمهور الفقهاء ، وليس كذلك صفة الإفتاء ولذا اختلف عن التحكيم في جوانب جوهرية ، فاشترط كثير من الفقهاء في المحكم ما يشترط في القاضي دون اشتراط ذلك في المفتي ، فالمفتي يخبر عن حكم الواقعة محل السؤال ، والقاضي والمحكم ملزم ومنشئ للحكم في الواقعة محل النزاع ، والتحكيم محدد في مسائل من النزاع والخصومة وغيرها قال ابن فرحون : " العبادات لا يدخلها الحكم بل الفتيا فقط " (1) ، وبمثـل ذلـك قـال القرافـي وزاد قوله : " فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة " ، وقد عدد القرافي مسائل من باب الفتوى وأخرى من باب الحكم (2) .

شروط التحكيم والمحكم :

ــــــــــــ

يشترط في التحكيم أن يكون موافقا للشرع بأن يكون بالبينة ،أو الإقرار أو التوكـل ونحـو ذلك (3) .

ويشترط في المحكم بالكسر العقل ، ولا يشترط الحرية والإسلام ، فيصح تحكيم ذمي ذميا وقال الشافعية : يشترط في المحكمين أن يكونا راشدين يتصرفان لأنفسهما ، وليس المحكم أصلا ولا فرعا لأحدهما ولا عدوا له (4) .

شروط المحكم :

ـــــــ

يتفق الفقهاء في جملة الشروط وبخاصة أن يكون المحكم أهلا للقضاء أو الشهادة ، إلا أنهم يختلفون في بعض الشروط وفي تفصيلها .

فيشترط الحنفية أن يكون الحكم أهلا للحكم وقت التحكيم ووقت الحكم أهلا للقضاء ، فلو انتخب الخصمان صبيا وحكم في حال صباه ، أو بعد البلوغ بناء على التحكيم السابق فلا يصح حكمه ولا ينفذ (1) . وعبر صاحب الفتاوى الهندية باشتراط أن يكون الحكم من أهل الشهادة وقت التحكيم ووقت الحكم ، حتى إنه إذا لم يكن أهلا فأعتق ، أو ذميا فأسلم وحكم لا ينفذ حكمه (2) .

واشتراط الشهادة أدخل تحكيم المرأة والفاسق ، لأنهما من أهل الشهادة وصلاحيتهما للقضاء والأولى عندهم عدم تحكيم الفاسق (3) ، وكذا الكافر في حق الكافر ، لأنه أهل للشهادة في حقه ، وكذا يجوز تقليده القضاء ليحكم بين أهل الذمة ، وجاز لذلك تحكيم ذمي ذميا لأنه من أهل الشهادة بين أهل الذمة دون المسلمين . ويكون تراضيهما عليه في حقهما وجوازه قياسا على جواز تقليد السلطان للذمي ليحكم بين أهل الذمة ، فإذا جاز في القضاء جاز في التحكيم لأن المحكم كالقاضي (4) ، ولا يصح تحكيم كافر في حق مسلم أو عبد محجور عليه أو محدود في قذف أو صبي لأنهم ليسوا من أهل الشهادة (5) .

كما اشترطوا في المحكم أن يكون معلوما ، فلو كان حكما مجهولا كأول من يدخل المسجد لم يجز ، وألا يكون بين المحكم وأحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة (6) .

واشترط المالكية أن يكون عدلا ، عدل شهادة بأن يكون مسلما ، حرا ، بالغا ، عاقلا، غير فاسق وقال اللخمي : " إنما يجوز التحكيم لعدل مجتهد " (7) ، وقال المازري : " لا يحكم إلا من يصح أن يولى القضاء " (8) ، وأن يكون غير خصم أي غير أحد الخصمين ، لأن الشخص لا يحكم لنفسه ولا عليها وغير خصم لأحدهما بأن ثبت بينه وبين أحد المتداعيين خصومة دنيوية ، وإن لم تصل إلى العداوة .

فإن وقع تحكيم الخصم مضى إن حكم صوابا ، وقيل : يجوز ابتداء عند ابن عرفه (1) ، فإن كان الخصم من تولية قاض صح حكمه (2) .

كما اشترطوا أن يكون المحكم غير جاهل بالحكم بأن يكون غالبا عالما بما حكم به إذ شرط الحاكم والمحكم العلم بما يحكم به ، وإلا لم يصح ، ولم ينفذ حكمه بالجهل لأنه تخاطر وغرر ، لكن لو شاور الجاهل العلماء وحكم فيصح ، وينفذ ، ولا يقال له حينئذ حكم جاهل (3) .

وكذا حكم العامي قال اللخمي : " يجوز تحكيمه إذا استرشد العلماء ، فإن حكم ولم يسترشد رد وإن وافق قول قائل ، لأن ذلك تخاطر وغرر (4) ، كما لا يجوز تحكيم غير مميز لجنون أو وسوسة أو إغماء " (5) .

واختلف المالكية في تحكيم صبي وعبد وامرأة وفاسق فيما يصح فيه التحكيم أي في المال والجُرح على أربعة أقوال : الصحة مطلقا ، وهو لأَصبَغ ، وعدم الصحة مطلقا ، وهو لمُطَرِّف ومقتضى قول المازري ، والثالث : الصحة إلا في تحكيم الصبي المميز ، لأنه غير مكلف ولا إثم عليه إن جاز وهو لأشهب ، والرابع الصحة إلا في تحكيم الصبي الفاسق وهو لعبد الملك (6) .

وعلى هذا فجمهور المالكية على جواز تحكيم المرأة والعبد ، وهم بهذا يتفقون مع الحنفية في صحة تحكيم المرأة ، واشترط الشافعية أهلية المحكم للقضاء ، ولكنهم اختلفوا في المراد بالأهلية هل هي الأهلية المطلقة أي العلم بحكم سائر المسائل ، أو العلم بحكم المسألة محل النزاع فقط ، فقال الزركشي : " المراد الأهلية المطلقة لا بالنسبة لتلك الحادثة فقط " ، قال : ونقل في الذخائر الاتفاق على ذلك من المجوزين للتحكيم ، وقال القاضي في شرح الحاوي يشترط العلم بتلك المسألة فقط .

واختلفوا في تحكيم غير الأهل فالمعتمد عندهم : أنه لا يجوز تحكيم غير الأهل مطلقا ، ولو مع وجود قاضي الضرورة إلا في النكاح إذا فقدت القاضي ، وكانت المرأة في سفر فولت أمرها عدلا يزوجها وإلا إذا ترتب على الرفع لقاضي الضرورة غرامة مال على الحكم ، يشق عليه عادة ولا يحتمله مثله فإن فقد القاضي مطلقا حتى قاض الضرورة كالفاسق (1) ، واحتيج إلى الحاكم جاز تحكيم أصلح وأفضل من يوجد من العدول بخلاف غيرهم .

وبشرط أهلية القضاء لا يجوز تحكيم الأعمى ولا الأصم ولا المرأة ولا الخنثى ولا الرقيق ولا الكافر ولو في خصم كافر وكذا لا يجوز في نحو ولده ، ومن يتهم في حقه ، ولا على عدوه (2). وقال ابن أبي الدم : لو تحاكم إليه بالتحكيم ولده ، وأجنبي ، فحكم لولده ، أو لوالده على الأجنبي ففي جوازه وجهان ، أحدهما : لا يجوز كالقاضي المطلق ، والثاني بلى ؛ لأن ذلك وقع عن رضا بينهما وهكذا لو حكم على عدوه ، فيه وجهان أيضا (3) .

وللشافعية تفصيل وخلاف ذكره الماوردي فقال : إن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما – والذي لا يجوز أن يشهد لهما والد وولد ، والذي لا يجوز أن يشهد عليهما عدو – فينظر : فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد لمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز ، كما يجوز أن يشهد عليه وإن لم يجز أن يشهد له .

وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد على من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان :

أحدهمـا : لا يجوز حكمه له ، كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء .

والثانـي : يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجزأن يحكم له بولاية القضاء ؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما فصار المحكوم عليه راضيا بحكمه عليه ، وخالفت الولاية المنعقدة بغير اختيارهما وإن حكم لعدوه نفذ حكمه ، وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه :-

الوجه الأول : لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه .

الوجه الثاني : يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ، وولاية التحكيم ، بخلاف الشهادة ، لوقوع الفرق بينهما ، بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة .

الوجه الثالث : أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره (4) .

كما اشترط الشافعية في المحكم أن يتفق الخصمان على التراضي به إلى حين الحكم ، فإن رضي به أحدهما دون الآخر ، أو رضيا به ثم رجعا ، أو رضي أحدهما بطل تحكيمه ، ولم ينفذ حكمه سواء حكم للراضي أو للراجع (1) .

ويمكن تأصيل قاعدة ما لا يجوز التحكيم فيه عند المذاهب فيما يلي :-

عند الحنفيـة : كل ما كان حقا لله تعالى ، أو في كل مالا ولاية للمحكمين عليه .

عند المالكيـة : كل ما كان حقا لله تعالى ، أو تعلق به حق غير الخصمين .

وعند الشافعية : كل ما كان حقا لله تعالى خالصا ، أو عقوبة له عز وجل أو في كل ما ليس له طالب معين ، وأضافوا النكاح واللعان ربما لتعليل المالكية في تعلق الحق بغير الخصمين .

وعند الحنابلة : في كل ما كان حقا لله خالصا ، مع إضافة النكاح واللعان للتعليل السابق .

وفيما يلي بيان مذاهبهم :-

عنـد الحنفيـة :
ــــــــ

لا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص ، والدية على العاقلة وقال بعض الحنفية: إن هذا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى ، لأن الإمام هو المتعين لاستيفائها ، وليس للمحكمين ولاية على سائر الناس ولذلك جاز التحكيم في القصاص في إحدى الروايتين عند الحنفية ، وجاز في حد القذف لأنهما من حقوق العباد .

والإمام أبو حنيفة على عدم الجواز في القصاص ، ولكن قال الجصاص : ينبغي أن يجوز وعلل ذلك ، بأن ولي القصاص لو استوفى القصاص من غير أن يرفع إلى السلطان جاز ، فكذا إذا حكم فيه ؛ لأنه من حقوق بني آدم ، والصحيح عندهم عدم جواز التحكيم في الحدود والقصاص ؛ لأن حكم الحكم بمنزلة الصلح ، ولا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف بالصلح ؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما (2)؛ ولأنهما يندرئان بالشبهات ، وفي حكم المحكم شبهة ، لأنه حكم في حقهما لا في حق غيرهما وهذه شبهة عظيمة .

وأما عدم جوازه في الدية على العاقلة ؛ لأنه لا ولاية لهما على العاقلة ، فلو حكماه في دم الخطأ فقضى بالدية على العاقلة ، أو على القاتل في ماله لا ينفذ حكم من حكماه على العاقلة ، ولا على القاتل أما الأول : فلعدم التزام العاقلة حكمه وعدم رضا العاقلة به ، وحكم المحكم إنما ينفذ على من رضي بحكمه (1)، ولكن لو أن العاقلة حكموه نفذ حكمه لولايته عليهم حينئذ (2).

وأما الثاني : فلكونه مخالفا لحكم الشرع ؛ لأن الدية تجب على العاقلة لا على القاتل ، لكن لو أن القتل ثبت بإقرار القاتل ، أو ثبت جراحته ببينة وأرشها أقل مما تتحمله العاقلة خطأ كانت الجراحة خطأ أو عمدا ، أو كان قدر ما تتحمله العاقلة ، ولكن الجراحة كانت عمدا لا توجب القصاص نفذ حكمه عليه ؛ لأن العاقلة لا تعقله (3).

عنـد المالكية :

ـــــــ

حدد المالكية ما لا يجوز التحكيم فيه في الحدود مثل حد القذف والزنا والسرقة والسكر والجلد والرجم ، والقصاص في النفس ، كما نصوا على عدم جواز التحكيم في قتل في ردة أو حرابة ؛ لأنه حق لله لتعدي حرماته ، وكذا تارك الصلاة ، ولا في عتق ولا في ولاية لشخص على آخر ، ولا في نسب كذلك ، ولا طلاق وأيضا لا يجوز التحكيم في فسخ لنكـاح ونحـوه ، ولا فـي رشـد وسفـه ولا في أمر غائب مما يتعلق بما له ، وزوجته ، وحياته ، وموته ، ولا في حبس ، ولا في عقد مما يتعلق بصحته وفساده ؛ لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة ، فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق الحق بغير الخصمين ، إما لله تعالى كالحدود لأن المقصود منها الزجر وهو حق لله تعالى ، والقتل لأنه إما لردة أو حرابة وكله حق لله لتعدي حرماته ، والعتق ، لأنه لا يجوز رد العبد إلى الرق ولو رضي بذلك ، وكذا الطلاق البائن لا يجوز رد المرأة إلى العصمة ولو رضيت بذلك فالطلاق فيه حق لله تعالى إذ لا يجوز أن تبقى المرأة المطلقة البائن في العصمة .

وأما لآدمي كاللعان والولاء والنسب ، ففي اللعان حق الولد في نفي نسبه من أبيه ، وفي الولاء والنسب ترتيب أحكامها من نكاح وعدمه ، وإرث وعدمه ، وغير ذلك على الذريـة التي ستوجد (4) فلا يسري ذلك على غير المحكمين ، ومن يسري ذلك إليه لم يرضى بحكم المحكم .

عنـد الشافعية :

ــــــــ

مذهب الشافعية عدم جواز التحكيم في الحدود ، وبتعبير أشمل عدم الجواز فيما هو عقوبة لله تعالى ليتناول التعزير ، وفي قول لا يجوز في قصاص ونكاح ونحوهما كاللعان وحد قذف وعللوا ذلك بخطر أمرها فتناط بنظر القاضي ومنصبه .

وعللوا لعدم جواز التحكيم في حدود الله تعالى بأن ليس لها طالب معين ، وعليه فحق الله تعالى المالي الذي لا طالب له معين لا يجوز فيه التحكيم (1) .

عنـد الحنابلة :

ـــــــ

ظاهر كلام أحمد كما قال أبو الخطاب أن التحكيم في ما يتحاكم فيه الخصمان ، وقـال القاضي : يجوز حكم المحكم في الأموال خاصة ، فأما النكاح والقصاص وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط فيعين للحكم فيها قاضي الإمام كالحـدود (2)، وفـي المغنـى قال القاضي : ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء : النكاح ، واللعان ، والقذف والقصاص ، لأن لهذه الأحكام ميزة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ، ونائبه يقوم مقامه . قال الشيخ تقي الدين أبن تيميه : خصوا اللعان لأن فيه دعوى وإنكار وبقية الفسوخ كإعسار (3) .

مالا يجوز التحكيم فيه :

ــــــــــــ

يتفق الفقهاء على عدم جواز التحكيم في القصاص وفي الحدود على خلاف فيما كان حقا لله فلا يجوز فيه التحكيم ، أو حقا لآدمي فيجوز فيه التحكيم عند البعض .

ما يجوز فيه التحكيم :

ـــــــــــ

أجاز الحنفية التحكيم في كل ما يملك المحكمان فعله في أنفسهما من حقوق العباد ، وبناء على هذا قالوا يجوز التحكيم في الأموال والطلاق ، والعتاق والنكاح ، وتضمين السرقة ، وفي سائر المجتهدات ، ومع أن هذا هو الصحيح في المذهب إلا أن مشايخ الحنفية امتنعوا عن هذا للفتوى كي لا يتجاسر العوام فيه (4)، كما سبقت الإشارة .

وأجاز المالكية التحكيم في كل ما يصح لأحد المحكمين ترك حقه فيه ، فقالوا : بجواز التحكيم في الأموال من دين وبيع وشراء فللمحكم الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته ، ولزومه وعدم لزومه وجوازه وعدمه ، كما يجوز التحكيم في الجرح عمدا أو خطأ ، ولو عظم كجائفة وآمة ومنقلة وموضحة ، أو قطع لنحو يد (1).

وعند الشافعية يجوز التحكيم في حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات ، وما يصح فيه العفو والإبراء ، وعندهم قسم مختلف فيه ، كما قال الماوردي ، وهو أربعة أحكام : النكاح واللعان ، والقذف والقصاص . ففي جواز التحكيم ، فيها وجهان : أحدهما : يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .

والثاني : لا يجوز ؛ لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها ، وفي مغنى المحتاج وغيره جواز التحكيم في المال دون القصاص والنكاح ونحوهما كاللعان وحد القذف (2).

أما الحنابلة فقد اختلفوا في ما يجوز التحكيم فيه فقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أن التحكيم يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الإمام ، وقال القاضي : يجوز حكمه في الأموال الخاصة كما سبقت الإشارة . ونص موفق الدين بن قدامه : على نفاذ حكم المحكم في المال والقصاص والحدود والنكاح واللعان ، قال المرداوي : وهو المذهب (3).

إذا حكم المحكم فيما لا يجوز له الحكم فيه :

ـــــــــــــــــــــ

إذا حكم المحكم فيما لا يجوز له الحكم فيه كالحكم في حد أو قصاص أو لعان أو غيره مضى حكمه ، ولا ينقضه الإمام ، ولا القاضي إن حكم صوابا ، لأن حكم المحكم يرفع الخلاف ، ولكن يؤدب المحكم إن أنفذ حكمه بأن قتل أو ضرب ، أما لو حكم ولم ينفذ ، فإن القاضي يمضي حكمه وينهاه عن العودة ولا يؤدبه (4). أما إن لم يصب فعليه الضمان ، فإن ترتب على حكمه إتلاف عضو فالدية على عاقلته ، وإن ترتب عليها إتلاف مال كان الضمان في ماله (5) .

وقال الشافعية والحنابلة : ليس للمحكم أن يحبس ، بل غايته الإثبات والحكـم ، وقـال الغزالي : إذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص ، وحد القذف لم يستوفه ؛ لأن ذلك يخـرم أبهة الولاية (1). وقال أبن أبي الدم : المذهب أنه لا يحبس ، بل ليس له إلا الإثبات ، ولا خلاف أنه ممنوع من استيفاء العقوبات إن جوزنا التحكيم فيها ، لأنها تخرم أبهة الولاية العامة (2).

إذا تعدى حكم المحكم غير المتنازعين :

ـــــــــــــــــــ

من المتفق عليه عند الفقهاء أن حكم المحكم لا يلزم غير المتخاصمين ؛ لأن مبناه على الرضا فإذا تعدى إلى غيرها لم يلزم ، وهذا ما جرى عليه الفقهاء في اللعان والنسب ونحوهما مما سبـق ذكره . وفصل الماوردي فيما إذا تعدى الحكم إلى غير المتنازعين فجعله على ضربين :-

الضرب الأول : ما كان منفصلا عن الحكم ، ولا يتصل به ، إلا عن سبب موجب كتحاكمهما إليه في دين فأقام به مدعيه بينة شهدت بوجوب الدين ، وأن فلانا ضامنه لزم حكمه في الدين ، ولم يلزم حكمه في الضمان لوجود الرضا ممن وجب عليه الدين ، وعدم الرضا ممن وجب عليه الضمان .

الضرب الثاني : أن يكون متصلا بالحكم ، ولا ينفصل عنه ، إلا بسبب موجب كتحاكمهما إليه في قتل خطأ قامت به البينة ففي وجوب الدية على العاقلة التي لم ترض بحكمه وجهان :

الوجه الأول : تجب عليه الدية لوجوبها على الراضي بحكمه إذا قيل إن الدية تجب على الجاني ثم تتحملها عنه العاقلة .

الوجه الثاني : لا تجب على العاقلة الدية ، لأنهم لم يرضوا بحكمه إذا قيل أن الدية تجب ابتداء على العاقلة (3).

إذا خالف حكم المحكم مذهب القاضي :

ـــــــــــــــــــ

إذا رفع المحكمان حكم المحكم إلى القاضي وتحاكما عنده نفذه إن وافق مذهبه ، لأنه لا فائدة في نقضه ثم إبرامه ، ثم فائدة هذا الإمضاء أن لا يكون لقاض آخر يرى خلافه نقضه إذا رفع إليه لأن إمضاءه بمنزلة قضائه ابتداءً ، ولو لم يمضه لنقضه وإن لم يوافق مذهبه أبطله ، لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم من جهته بخلاف ما إذا رفع إليه حكم حاكم حيث لا يبطله ، وإن خالف مذهبه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع ؛ لأن المولى من جهة الإمام له ولاية على الناس كافة فكان نائبه له فيكون قضاؤه حجة في حق الكل ، فلا يتمكن أحد من نقضه كحكم الإمام نفسه .

بخلاف المحكم ؛ لأنه باصطلاح الخصمين ، فلا يكون له ولاية على غيرهما ، ولا يلزم القاضي حكمه بمنزلة اصطلاحهما في المجتهدات حتى كان له نقض اصطلاحهما إذا رأى خلاف ذلك فكذا هذا ، وهذا لأنه أعطى له حكم القاضي في حقهما حتى اشترط فيه شرائط القضاء ، وفي حق غيرهما كواحد من الرعايا ، لكن لو غاب المحكم أو أغمي عليه ، وبرئ منه أو قدم من سفره أو حبس كان على حكمه لأن هذه الأشياء لا تبطل الشهادة ، فلا تبطل الحكومة ، وكذا لو ولي القضاء ثم عزل عنه فهو على حكومته ، لأن العزل لم يوجد من جهة المحكمين ، وإنما وجد من جهة الوالي وولاية الحكومة مستفادة من جهة المحكمين لا من جهة الوالي ، وكذا لو حكم بينهما في بلد آخر جاز لأن التحكيم حصل مطلقا فكان له الحكومة في الأماكن كلها (1). لكن قال الشافعية : إذا ثبت الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة ، إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعـد العزل (2).

صفة الحكمين :
ـــــــ

اختلف الفقهاء في صفة الحكمين – في معرض كلامهم عن المحكمين في الشقاق بيـن الزوجين – هل هما حاكمان ، أو وكيلان على قولين :

الأول : أنهما وكيلان ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي في قول ، وأحمد في رواية وقول عطاء والحسن بن أبي الحسن .

الثاني : أنهما حاكمان ، وهذا قول أهل المدينة ، ومالك ، وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر وروى ذلك عن علي وعثمان وابن عباس وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والأوزاعي ، وإسحاق ، وابن المنذر وحكاه ابن كثير عن الجمهور وقال ابن عطية هو مذهب مالك والجمهور من العلماء .

وقال ابن شاس من المالكية : المبعوثان حكمان لا وكيلان ، وإن كان البعث من جهة الزوجين ألا ترى أن للزوجين دخولا في التحكيم ، ولا مدخل لها في تمليك الطلاق .

وقال ابن العربي في قوله تعالى : " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " (1)، هذا نص من الله سبحانه في أنهما حاكمان لا وكيلان (2)، وعند الشافعية هما وكيلان في الأظهر ، وفي قول هما حاكمان موليان من الحاكم واختار الثاني جمع من الشافعية (3).

وعند الحنابلة قال في المغنى : اختلفت الرواية عن أحمد في الحكمين ، ففي إحدى الروايتين عنه : أنهما وكيلان لهما لا يملكان التفريق لهما إلا بإذن منهما . والثانية : أنهما حاكمان ، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق ، بعوض وغير عوض ، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما .

وحجة من قال إنهما وكيلان : أن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما ، أو ولاية عليهما (4)، ولأن الطلاق لا يدخل تحت الولاية إلا في المولى ، وهو خارج عن القياس (5).

واحتج الإمام الجصاص بقول أصحابه من الحنفية فقال : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها ، فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما ، لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ، وإنما الحكمان وكيلان لهما ، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك .

ثم قال : كيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ، ويخرجا المال عن ملكها ، وقد قال الله تعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، وقـال تعالى : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ، وهـذا الخـوف المذكور ههنا هـو المعنـي بقولـه تعالى : " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " ، وحظر الله على الزوج أخذ شئ مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله ، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت ، وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما ، وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شئ مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب .

وقال أيضا : إن في فحوى الآية ما يدل على أنه ليـس للحكميـن أن يفرقـا وهـو قوله تعالى : " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ، ولم يقل إن يريدا فرقة ، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه ، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده ، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه ، وقالا له : لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك ، وإن كانت هي الظالمة قالا له : قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قِبَلِهِ ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان ، وفي حال مصلحان ، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمـع والتفريـق . وأما قول مـن قال : إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة (1) .

واحتج من قال بأنهما حاكمان بأدلة كثيرة منها :-

أن رجلا وامرأة أتيا ، عليا مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فبعثوا حكمين ثم قال علي للحكمين : هل تدريان ما عليكما من الحق ؟ عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالـت المرأة : رضيت بكتاب الله علي ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت حتى ترضى بما رضيت به وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك ، ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت

عتبة فتخاصما فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس وحكما من أهلها معاوية ، فقـال ابن عباس : لأفرقن بينهما وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فلما بلغا الباب كانا قد غلقا الباب واصطلحا .

إن الله تعالى قد نصبهما حكمين ، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ، ولـو كانـا وكيليـن لقال : فليبعث وكيلا من أهله ، ولتبعث وكيلا من أهلها ، فلو كانا وكيلين ، لم يختصا بأن يكونا من الأهل .

إن الله جعل الحكم إليهما فقال : " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ، والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكلهما .

إن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ، ولا في لسان الشارع ، ولا في العرف العام ولا الخاص ، فإن للوكيل أسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لأحد أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسير المحكمان بإذن الله ، ويخلصان النية لوجه الله ، وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما .

الحكم من له ولاية الحكم والإلزام ، وليس للوكيل شيء من ذلك .

الحكم أبلغ من حاكم ، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك ، فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض ، فكيف بما هو أبلغ منه.

إن الله سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين ، وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمـرأة غيرهما وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : " وإن خفتم شقاق بينهما " ، فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ، ووكيلا من أهلها ، ومعلوم بُعدُ لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه .

بعث عثمان بن عفان عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقيل لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما (1) .

وصح عن علي بن أبي طالب أنه قال للحكمين بين الزوجين ، عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما (1).

فهذا عثمان ، وعلي ، وابن عباس ، ومعاوية ، جعلوا الحكم إلى الحكمين ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم .

ومن عرض الرأيين وأدلتهما يظهر رجحان القول بأنهما حاكمان ظهورا بينا ، ويتفرع على القول بأنهما حكمان أو وكيلان أمور منها :

إذا قلنا : إنهما وكيلان ، فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض ، أو لا يجبران ؟ فإن قلنا : يجبران ، فلم يوكلا ، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين ، وإن قلنا : إنهما حكمان ، لم يحتج إلى رضى الزوجين .

ومنها : ما لو غاب الزوجان أو أحدهما ، فإن قيل : إنهما وكيلان ، لم ينقطع نظر الحكمين وإن قيل : حكمان ، أنقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب ، وقيل : يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتصرفان لحفظهما ، فهما كالناظرين . وإن جن الزوجان ، انقطع نظر الحكمين ، إن قيل : إنهما وكيلان ، لأنهما فرع الموكلين ، ولم ينقطع وإن قيل : إنهما حكمان ، لأن الحاكم يلي على المجنون . وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما ، فكأنهما وكيلان ، ولا ريب أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة ، ووكيلان منصوبان للحكم ، فمن العلماء من رجح جانب الحكم ، ومنهم من رجح جانب الوكالة ، ومنهم من اعتبر الأمرين (2) .

الرجوع عن التحكيم :

ــــــــــ

لما كان التحكيم مبنيا على رضا الخصمين فقد اختلف الفقهاء في حقهما أو حق أحدهما في الرجوع عن التحكيم فمن اشترط استمرار الرضا إلى صدور الحكم أجاز الرجوع ، ومن لم يشترط لم يجز الرجوع .

فذهب الحنفية إلى جواز رجوع أي من الخصوم عن التحكيم قبل ن يصدر حكم المحكم ، لا بعد صدور الحكم .

وعند المالكية لا يشترط دوام رضا الخصمين إلى حين نفوذ الحكم ، بل لو أقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم فليقضي بينهما ويجوز حكمه ، وقال أصبغ لكل واحد منهما ما لم ينشبا في الخصومة عنده فيلزمهما التمادي فيها ، وقال سحنون بقول الحنفية لكل واحد منها الرجوع ما لم نفصل الحكم بينهما .

وقال الشافعية بمذهب الحنفية ، بجواز الرجوع قبل تمام الحكم وقالوا كان بعد إقامة البينة والشروع فيه ، فيمتنع الحكم .

وقال الحنابلة بجواز الرجوع قبل الشروع في الحكم ، وأما بعد الشروع فوجهان :

الأول : له الرجوع .

الثاني : ليس له الرجوع وصوبه المرداوي (1) .

الإشهاد على الحكم :

ـــــــــ

وهو شرط عند الحنفية لقبول قول المحكم عند الإنكار وليس شرطا لصحة التحكيم ويشترطون الإشهاد في مجلس القضاء (2) .

وعند الشافعية ينبغي أن يشهد على نفسه في المجلس الذي حكم بينهما فيه قبل تفرقهم ، لأن قوله بعد الافتراق لا يقبل ، كما لا يقبل قول الحاكم المطلق بعد العزل (3) .

عـزل المحكم :

ـــــــ

لكل من الطرفين عزل المحكم قبل الحكم - والرجوع عن التحكيم بمثابة العزل - سواء كانا متفقين أو كان العزل من أحدهما ولم يرض الآخر ، وعلى هذا يكون التحكيم من العقود غير اللازمة ويرد هنا استشكال في أن التحكيم يثبت بتراضي الطرفين فيجب أن يثبت العزل أيضا بتراضيهما حتى يكون ذلك كفسخ العقد .

فيرد ذلك بأن من الجائز أن لا يثبت العقد إلا باتفاق الطرفين ، وأن ينفرد أحد الطرفين بفسخ ذلك العقد كالمضاربة والشركة ، وعلى ذلك للطرفين عزل المحكم ، ولو شرط عدم عزله واتفقا على ذلك إذ ليس لهذا الشرط حكم ، كما أنه لو شرط عدم عزل القاضي المنصوب من قبل السلطان جاز عزله .

ويتفرع على هذا أنه لو حاكم المحكم الطرفين وقال : إنني أرى المدعي محقا في دعواه فعزله المدعى عليه قبل الحكم ، وحكم المحكم بعد ذلك للمدعى فلا ينفذ حكمه ، كذلك لو حكم الطرفان حكما ليفصل الست الدعاوى مثلا ، ففصل هذا الحكم قضية أو قضيتين لصالح أحد الطرفين ، وحكم على الآخر فعزل المحكوم عليه المحكم ، فيصح عزله في حق الدعاوى الأخرى ، ولا يحق للمحكم الحكم بها ، أما حكمه في الدعاوى التي حكم بها فباق ونافذ قبل الحكم .

أما لو عزلاه بعد الحكم فلا يبطل حكمه ، لأن هذا الحكم قد صدر من ذي ولاية شرعية فكما لا يبطل حكم القاضي بعزله بعد الحكم ، فلا يبطل حكم المحكم أيضا (1). وهذا عند الحنفيـة وسحنون -كما سبق الإشارة - .

وحاصل ما ينعزل به المحكم أحد أسباب ثلاثة : بالعزل ، أو بانتهاء الحكومة نهايتها بأن كان مؤقتا فمضى الوقت ، أو بخروجه من أن يكون أهلا للشهادة بأن عمى أو ارتد والعياذ بالله .

وبالجملة فإن المحكم ينعزل بما ينعزل به القاضي كأن يطرأ عليه ما يفقده صفة من صفات صحة القضاء أو التحكيم ، كالجنون والإغماء والخرس أو الفسق – على خلاف في الأخير – أو مرض يمنعه من التحكيم ، قال الماوردي : ينقض حكم القاضي وغيره إذا خالف مالا يسوغ فيه الاجتهاد وهو أن يخالف نصا من كتاب الله أو السنة ، أو إجماع ، أو خالف القياس كما أن للمحكم أن يعزل نفسه عن التحكيم ، لأنه وكيل ، والوكالة تبطل بعزل الوكيل (2) .

وقال ابن أبي ليلى هو بمنزلة المُوَلّى من جهة الإمام حتى لا يكون لأحد أن ينقض حكمه ما لم يخالف الدليل الشرعي (1)، وقول ابن أبي ليلى ظاهر الوجاهة والرجحانة لما فيه من استقرار الأحكام إذ المحكم كالقاضي فيما يخص الخصمين .

وقال المالكية والشافعية والحنابلة : لا ينقض حكم المحكم إلا بما ينقض به حكم القاضي قال القاضي عبد الوهاب من المالكية : جاز حكمه عليهما إذا حكم بما يسوغه الشرع وافق حكم قاضي بلدهما أو خالفه .

وأما في خصوص نقض الخصمين حكم المحكم قال المالكية : إذا حكم المحكم فليس لأحد المحكمين أن ينقض حكمه وإن خالف مذهبه إلا أن يكون جورا بينا لم يختلـف فيـه أهـل العلـم وقال المازري : إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك ، لزم حكمه ، وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين ، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك وأصحابه ، وكذلك إذا كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك (2) .

قال الماوردي فيما يكون الحكم به لازما للمحكمين : أن فيه للشافعي قولين :

أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا ، لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارهما في الانتهاء ، وهو قول المزني .

وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون بحكم المحكم لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما .

وحكى أبو سعيد الأصطخري فيه وجها ثالثا : أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحكم ، فإذا شرع فيه صار لازما لهما ، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفا على خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه فيصيـر التحكيـم لغوا (3) .

التحكيم الدولي

ــــــــــ

اهتمت الدول بالتحكيم لما تضمنه من ميزات - سبق الإشارة إليها - ولقد سبقت الدول الأوروبية في الأخذ به باعتباره نظاما رديفا للنظام القانوني ، كما ساهمت به الدول العربية ، ولا يكاد يخلو قانون من إفراد فصل للتحكيم ، وبعض الدول تفرد له قانونا مستقلا (1).

ونتناول فيما يأتي باختصار الكلام على التحكيم الدولي والقضاء ، مع ذكر الفروق بينهما ، ثم نعرض لمحكمة العدل الدولية ، ونقتصر على تكوينها واختصاصاتها .

كما نتكلم عن محكمة العدل الأوروبية ، ثم نختار من اتفاقيات التحكيم ، اتفاقية نيويورك لسنة 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية ، ونقتصر على ذكر نطاق ، ومكان التحكيم والدفوع المتعلقة باختصاص محكمة التحكيم ، كما نتكلم عن مركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي ثم نفصل قليلا عند الكلام عن محكمة العدل الإسلامية الدولية ، من حيث تأسيسها وتشكيلها والقانون واجب التطبيق ، ولغات المحكمة ، وإلزامية الحكم .

التحكيم الدولي :

ــــــــ

التحكيم الدولي هو ذلك الإجراء أو تلك الوسيلة التي يمكن بواسطتها التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع الدولي من خلال حكم ملزم تصدره هيئة تحكيم خاصة يختارها أطراف النزاع ، وانطلاقا من مبدأ تطبيق القانون واحترام قواعده .

والتحكيم الدولي ، بهذا المعنى له خصائصه المميزة التي نذكر منها :

أولا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم الدولية ( محكم واحد أو أكثر ) لا يعتبر قرارا عاديا وإنما هو حكم يقرر حل النزاع عن طريق تطبيق قواعد القانون الدولي العام أو قواعد العدل والإنصاف أو أية قواعد قانونية أخرى يرتضيها النزاع ويطالبون هيئة التحكيم بتطبيقها .

ثانيا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم هو قرار ملزم بالضرورة لأطراف النزاع ، ما لم يكونوا قد اتفقوا صراحة – في اتفاق أو مشارطة التحكيم – على خلاف ذلك .

ثالثا : أن الدول عادة ما تحدد – على سبيل الحصر – الموضوعات التي يمكن أن يكون النزاع بشان أي منها محلا للتحكيم ، مستثنية من ذلك كل ما يتعلق بالاستقلال السياسي والشرف الوطني والمصالح الحيوية ، وكذا المسائل التي تدخل ضمن نطاق اختصاصها الداخلي ومع ذلك ، فالمشاهد أنه لا توجد قاعدة عامة في هذا الشأن ، لأن المعول عليه في التحليل الأخير هو إرادة الدول المتنازعة ذاتها وتكييفها لأهمية النزاع القائم بينها ، ولذلك فكثيرا ما نجد نزاعا دوليا معينا قد عرض على محكمة تحكيم دولية للفصل فيه ، على الرغم من تعلقه بالمصالح الحيوية والاستقلال السياسي لكل أو لأحد أطرافه ، ولعل المثال النموذجي الذي يمكن أن يشار إليه تدليلا على مصداقية هذا الاستنتاج هو ذلك المتعلق بتحكيم الألباما الشهير عام 1872 بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان أصل النزاع بين الدولتين متعلقا أساسا بموقف سياسي اتخذته الدولة الأولى ( بريطانيا ) تجاه الصراع في الحرب الأهلية الأمريكية .

والتحكيم الدولي نوعان : التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري ، ففي حالة النوع الأول يكون لكل دولة الحق في قبول أو رفض اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع ، أما في حالة النوع الثاني – التحكيم الإجباري – فإن الدولة متى وافقت – سواء بمقتضى اتفاقات خاصة أو بمقتضى نصوص معينة ترد ضمن اتفاقات عامة – على قبول اللجوء إلى التحكيم بالنسبة لطائفة معينة من المنازعات لفضها سلميا فهنا لا يكون لها أن ترفض اللجوء إلى التحكيم في حالة نشوب نزاع مع دولة أخرى متى كان هذا النزاع داخلا ضمن طائفة المنازعات التي سبق الاتفاق على تحديدها . (1)

القضاء الدولي :

ــــــــ

يشير اصطلاح القضاء الدولي إلى ذلك الإجراء الذي يتم بموجبه الفصل في نزاع دولي عن طريق جهاز دولي دائم مختص بإدارة العدالة الدولية ، وذلك بموافقة أطراف هذا النزاع ومن خلال تطبيق قواعد القانون وباتباع نظام معين للإجراءات .

ويمكن القول بأن فكرة القضاء الدولي بهذا المعنى قد تداخلت إلى حد كبير وحتى قيام عصبة الأمم مع فكرة التحكيم الدولي ، وليس أدل على ذلك من حقيقة أنه عند إنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1920 والتي تعتبر في نظر غالبية الفقه وبحق أول تجسيد حقيقي لفكرة القضاء الدولي الدائم ، كان من بين الأسماء التي اقترحت لها اسم محكمة العدل التحكيمي .

والواقع أن مثل هذا التداخل لا يزال قائما إلى اليوم ، حتى إن بعض الكتابات درجت على عدم التمييز بين القضاء الدولي والتحكيم الدولي ونظرت إليهما على أنهما مترادفتان ، وذلك على خلاف الحقيقة ، فالثابت أن التحكيم الدولي يتميز عن القضاء الدولي من عدة نواح :-

فمن حيث النشأة التاريخية ، يلاحظ أن التحكيم الدولي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ البشري ، حيث أن القضاء الدولي لم يظهر كمصطلح قانوني إلا في نهايات القرن التاسع عشر كما أنه لم يظهر كنظام مؤسس إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى بقيام المحكمة الدائمة للعدل الدولي .

كما يتميز الاصطلاحان أحدهما عن الآخر من حيث الدور الذي تلعبه الإرادة المشتركة لأطراف النزاع ، ففي ظل نظام التحكيم الدولي تتجلى هذه الإرادة في مختلف مظاهرها ، أما في ظل نظام القضاء الدولي – والقضاء عموما – فإن دور هذه الإرادة ينتهي عند لحظة الموافقة عند عرض النزاع على المحكمة الدولية المختصة ، التي هي منشأة أصلا قبل نشوب هذا النزاع والتي يكون لها بموجب دستورها أو نظامها الأساسي قانونها الذي تطبقه وقواعد الإجراءات التي تتبعها .

يتميز القضاء الدولي عن التحكيم الدولي من حيث إن الأولى يقوم على وجود أجهزة دائمة لا يرتبط وجودها بتوقيت حدوث النزاع ، أما التحكيم الدولي فهو – كقاعدة عامة – ذو طابع مؤقت حيث إن الأصل بالنسبة لمحكمة التحكيم أنها تشكل للفصل في نزاع معين ثم تنفض إثر ذلك .

يختلف الاصطلاحان ، كذلك من حيث دور كل منهما في إنشاء وتطوير القواعد القانونية فالثابت أن القضاء الدولي يسهم بدور أكبر في هذا المجال من خلال ما يرسيه من قواعد وسوابق ، أما التحكيم الدولي فإن دوره في هذا المجال يكون بدرجة أقل ويتحقق بشكل مباشر من خلال الإسهام – على المدى البعيد – في تكوين القواعد القانونية العرفية ، أو في الكشف عنها .

ومع ذلك فهناك سمات عديدة تجمع بين التحكيم الدولي والقضاء الدولي : فبادئ ذي بدء يعتبر كل منهما وسيلة قانونية لتسوية المنازعات الدولية سلميا ، ومن ناحية ثانية يلاحظ أن كلا من التحكيم الدولي والقضاء الدولي يفصل في النزاع المطلوب عن طريق إصدار حكم ملزم وبات ونهائي كقاعدة عامة ، ومن ناحية ثالثة فإن كلا منهما يقوم – من حيث المبدأ – على فكرة القبول الاختياري من جانب أطراف النزاع .

والدول عادة تفضل اللجوء إلى التحكيم الدولي على اللجوء إلى القضاء الدولي .

ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها : أن اللجوء إلى التحكيم عادة ما يكون ميسورا مقارنة باللجوء إلى القضاء ، حيث إن هذا الأخير يتطلب شروطا معينة لإمكان التقاضي أمامه ، كذلك هناك حالات تكون فيها بعض المنازعات الدولية غير قابلة للعرض أمام القضاء الدولي نظرا لأن أحد أطراف النزاع ليس له حق التقاضي أمام محاكم هذا القضاء ( كحالة نزاع طرفاه دولة من جانب وشركة أجنبية من جانب آخر ) ، كما قد تلعب طبيعة النزاع دورها في تفضيل إحدى هاتين الوسيلتين على الأخرى ، فالمشاهد في ضوء الخبرة التاريخية أنه كلما كان النزاع ذا طابع فني كان من الملائم حله عن طريق التحكيم لا القضاء .(1)

محكمة العدل الدولية

ــــــــــــــ

محكمة العدل الدولية هي الهيئة القضائية الأساسية للأمم المتحدة التي تقوم بحل الخلافات التي تنشأ بين الدول وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي وتقوم بعملها وفق النظام الأساسي للمحكمة الملحق بالميثاق الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ منه م ( 92 ) من الميثاق .

ومحكمة العدل الدولية الحالية استمرار لمحكمة العدل الدولية الدائمة التي أنشأتها عصبة الأمم عام 1920 مع بعض التعديلات الطفيفة في نظامها الأساسي الذي يقع في سبعين مادة يتناول كيفية تكوينها وطريقة عملها واختصاصاتها .

لقد شعر المجتمع الدولي بحاجته إلى إيجاد نظام يضمن له حماية حقوقه وتوفير قدر معين من حسن العلاقات بين الدول وتجنب المجتمع الدولي اللجوء إلى استعمال القوة لحل الخلافات الناشئة عندما يعجز أسلوب المفاوضات والتحقيق والتوفيق عن إيجاد حل لمثل هذه الخلافات .

ورغبة في إيجاد نظام قانوني لحل المنازعات ظهرت فكرة التحكيم الدولي لأول مرة في معاهدة مايو 1794 المبرمة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي قررت إنشاء لجنة مختلطة للفصل في عدد من المنازعات القائمة بين الدولتين يعين كل طرف نصف الأعضاء ويرأسها حكم ليكون فيصلا بين الطرفين وقد أصدرت هذه اللجنة قرارها التحكيمي الأول بشأن قضية الألباما عام 1873 ملزمة بريطانيا بدفع تعويض إلى الولايات المتحدة عن قيامها ببعض الأعمال العدوانية وغرق السفن الأمريكية وإمداد ولايات الجنوب الأمريكية بالسلاح .

وبموجب اتفاقية لاهاي عام 1899 المعدلة باتفاقية لاهاي 1907 تقرر إنشاء محكمة التحكيم الدولي الدائمة ومقرها لاهاي إلا أن هذه المحكمة لم تحقق ما تهدف إليه البشرية من إقامة نظام قضائي دولي دائم وثابت ، لذلك عهد إلى لجنة قانونية إعداد مشروع بالنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الدائمة إعمالا لنص المادة 14 من عهد العصبة وقد تم المصادقة عليه في 16 ديسمبر 1920 ، ومع بداية عام 1922 تم تشكيل المحكمة ومارست عملها بمقرها بلاهاي إلا أنها تعطلت عن العمل بسبب الحرب العالمية الثانية إلى أن قدم قضاتها استقالتهم لأمين عام العصبة عام 1946 وبدأت الجلسة الأولى لمحكمة العدل الدولية الجديدة في 18 إبريل 1946 .

وقد استطاعت محكمة العدل الدولية الدائمة تسوية عدد كبير من المنازعات الدولية بالطرق السلمية حيث أصدرت 31 حكما كما عرضت أمامها 79 دعوى قضائية وقدمت 27 فتوى ، وقبلت 38 دولة اختصاص المحكمة الإلزامي من أصل 51 دولة كانت عضوا بالعصبة .

وقـد انتقل اختصاص المحكمة الأولى إلى المحكمة الجديدة بالنسبة إلى القضايا التي لم يتم البت فيها .

واللغات المستعملة في المحكمة هي : الإنجليزية والفرنسية ، والمحكمة لا تتعطل إلا بالعطل القضائية أما الإجراءات التي تتبع فقد أشار إليها النظام الأساسي للمحكمة ( المواد 39 - 64 ) وكذلك اللائحة الداخلية للمحكمة ( المواد 31 - 81 ) وتنقسم هذه الإجراءات إلى قسمين : كتابي وشفوي فالإجراءات الكتابية تشمل تقديم المذكرات والأوراق والمستندات المؤيدة للدعوى ، أما الإجراءات الشفوية فتشمل سماع المحكمة لشهادة الشهود وأقوال الخبراء والوكلاء والمستشارين والمحامين وقرارات المحكمة إلزامية ونهائية لا تقبل الطعن بالاستئناف إلا أنه يجوز اللجوء إلى المحكمة للحصول على تفسير لمدلول الحكم الصادر كما يجوز إعادة النظر في الدعوى إذا اكتشفت واقعة حاسمة في الدعوى لم تكن تحت نظر المحكمة عند صدور الحكم ، كما أن الحكم الصادر لا تكون له حجة إلا في مواجهة أطراف الدعوى وفي خصوص النزاع الصادر بشأنه الحكم .

والحكم الصادر من المحكمة يصدر بأغلبية القضاة الحاضرين ، وإذا تساوت رجح الذي منه الرئيس ، وجلسات المحكمة علنية ما لم يطلب المتقاضون أو ترى المحكمة خلاف ذلك ، وإذا لم يصدر الحكم بإجماع القضاة فمن حق كل قاضي أن يصدر بيانا مستقلا برأيه الخاص ويرفق بالحكم .

تكوين المحكمة :

ــــــــ

تتكون هيئة المحكمة من خمسة عشر قاضيا مستقلين ينتخبون من الأشخاص ذوي الصفات الخلقية العالية الحائزين في بلادهم على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أرفع المناصب القضائية أو من المشرعين المشهود لهم بالكفاية في القانون الدولي وبغض النظر عن جنسيتهم ( م2 ) من النظام الأساسي للمحكمة .

الاختصاص القضائي للمحكمة :

ـــــــــــــــ

تختص المحكمة بالنظر في القضايا التي ترفع إليها من قبل الدول وإصدار الأحكام القضائية الملزمة أو الرأي الاستشاري المطلوب .

على أن اختصاص المحكمة يعتبر ذا طبيعة اختيارية إذ لا يكون للمحكمة ولاية إلزامية إلا عن طريق تصريح إرادي من جانب دولة في مواجهة دولة تقبل الالتزام بولاية المحكمة الإلزامية ، وهو بذلك يختلف عن القضاء الداخلي الذي يعتبر صاحب الولاية الإلزامية ، دون غيره .

وطبقا للمادة 38 من نظامها الأساسي تستند المحكمة في أحكامها عند النظر في المنازعات المعروضة عليها إلى المصادر التالية :-

الاتفاقيات الدولية التي تضع قواعد معترفا بها من جانب الدول المتنازعة .

العرف الدولي المعتبر بمثابة قانون جرى العمل بمقتضاه .

مبادئ القانون العامة التي تعترف بها الدول .

أحكام المحاكم وآراء كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم باعتبارها وسائل مساعدة في تحديد قواعد القانون .

ويجوز للمحكمة أن تطبق مبادئ العدل والإنصاف دون التمسك بحرفية القانون إذا تراضى على ذلك أطراف الدعوى المعنية .

الاختصاص الاستشاري للمحكمة :

ـــــــــــــــــ

الاختصاص القضائي الثاني لمحكمة العدل الدولية هو الإفتاء في المسائل القانونية باعتباره إفصاحا عن رأي القانون بصدد نزاع معين أو وجهات نظر متعارضة ، لذلك تنص المادة 96 من الميثاق على أنه ( لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أية مسألة قانونية ، ولسائر فروع الهيئة والوكالات المتخصصة المرتبطة بها ، ممن يجوز أن تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت ، أن تطلب أيضا من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من المسائل القانونية الداخلية في نطاق أعمالها ) .

والرأي الاستشاري على عكس الحكم الصادر من المحكمة ليس له صفة إلزامية بعكس الحكم القضائي أي لا يتمتع بحجة في مواجهة من طلب استصداره ، كما أنه لا يلزم المحكمة إذا ما طلب إليها مرة أخرى إصدار رأي في مسألة مشابهة لتلك التي صدر فيها الرأي السابق ، كما أنه إذا طلب من المحكمة إصدار رأي في مسألة تمثل موضوعا لنزاع بين دولتين أو أكثر معروض عليها إصدار حكمها فيه ، فالرأي الذي تصدره في هذا الشأن لا يقيدها بالضرورة في الحكم الذي ستصدره من بعد في شأن هذا النزاع .(1)

محكمة العدل الأوروبية :

ــــــــــــ

غني عن البيان بادئ ذي بدء أن التنظيم الدولي المعاصر قد شهد تطورات نوعية على قدر كبير من الأهمية بقيام الجماعات الاقتصادية لدول أوروبا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وغني عن البيان أيضا أن أحد أبرز هذه التطورات يتمثل في واقعة إنشاء محكمة العدل الأوروبية أو محكمة عدل الجماعات الاقتصادية كما يطلق عليها أحيانا .

وقد أنشئت هذه المحكمة بموجب أحكام معاهدة باريس المعقودة في 18/4/1951 والتي أنشأت الجماعة المسماة بالجماعة الأوروبية للفحم والصلب ، وبعد عام 1957 ، وبموجب معاهدة روما التي أنشأت جماعتين اقتصاديتين أوروبيتين صارت المحكمة المذكورة محكمة لهاتين الجماعتين الجديدتين أيضا ، وهما : الجماعة الاقتصادية الأوروبية ، والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية .

ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا يطلق على هذه المحكمة أحيانا محكمة عدل الجماعات الأوروبية .

ومنذ عام 1986 وبالتحديد منذ 1/1/1986 وعلى إثر انضمام كل من إسبانيا والبرتغال إلى الجماعة الأوروبية الغربية أصبحت المحكمة تتكون من اثني عشر قاضيا يتم اختيارهم من الشخصيات التي تتمتع بالاستقلال والحيدة مع توافر الشروط التي تؤهلهم لشغل أعلى المناصب في بلادهم أو من الفقهاء المشهود لهم بالكفاءة ، ومدة ولاية القاضي هي ست سنوات قابلة للتجديد .

الاختصاصات التي خولت لهذه المحكمة :

ــــــــــــــــــــ

اختصاصاتها عديدة وتشمل : الرقابة على شرعية القرارات والتصرفات التي تصدر عن الأجهزة الأخرى التابعة للجماعات الأوروبية الثلاث ومعرفة مدى اتفاقها أو تعارضها مع المعاهدات والمواثيق المنشئة .

الرقابة على شرعية تصرفات الدول الأعضاء في الحدود التي تقررها المعاهدات المنشئة

الفصل في المسائل الأولية التي تعرض أمام القضاء الوطني لأي من الدول الأعضاء وذلك في حدود المجالات التي يسمح بها .

تسوية الخلافات بين الدول الأعضاء سواء تلك التي تتعلق بتطبيقها وذلك ما لم يتسن تسويتها بطريقة أخرى ... ويلاحظ في هذا المقام ، أن محكمة العدل الأوروبية - وعلى خلاف الحال بالنسبة لمحكمة العدل الدولية - لم تخول اختصاصا إفتائيا إلا في أضيق الحدود ( انظر المادة 228 من المعاهدة المنشئة للجماعة الاقتصادية الأوروبية ) .

كما تعمل المحكمة بوصفها محكمة إدارية للجماعات الأوروبية الثلاث .(1)

اتفاقية نيويورك لسنة 1958

ــــــــــــــــــ

وهي الخاصة بالاعترافات وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية التي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالتحكيم التجاري الدولي المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو - 10 يونيو سنة 1958م .

المادة الأولى :

تطبق الاتفاقية الحالية للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة في إقليم دولة غير التي يطلب إليها الاعتراف وتنفيذ هذه الأحكام على إقليمها وتكون ناشئة عن منازعات بين أشخاص طبيعية أو معنوية . كما تطبق أيضا على أحكام المحكمين التي لا تعتبر وطنية في الدول المطلوب إليها الاعتراف أو تنفيذ هذه الأحكام .

يقصد " بأحكام المحكمين " ليس فقط الأحكام الصادرة من محكمين معينين للفصل في حالات محددة بل أيضا الأحكام الصادرة من هيئات تحكيم دائمة يحتكم إليها الأطراف .

لكل دولة عند التوقيع على الاتفاقية أو التصديق عليها أو الانضمام إليها أو الإخطار بامتداد تطبيقها عملا بنص المادة العاشرة أن تصرح على أساس المعاملة بالمثل أنها ستقصر تطبيق الاتفاقية على الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة على إقليم دولة أخرى متعاقدة كما أن للدولة أن تصرح أيضا بأنها ستقصر تطبيق الاتفاقية على المنازعات الناشئة عن روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية التي تعتبر تجارية طبقا لقانونها الوطني .

المادة الثانية :

تعترف كل دولة متعاقدة بالاتفاق المكتوب الذي يلتزم بمقتضاه الأطراف بأن يخضعوا للتحكيم كل أو بعض المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم بشأن موضوع من روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية المتعلقة بمسألة يجوز تسويتها عن طريق التحكيم .

مكان التحكيم :

ـــــــ

مــــادة 16 :

ما لم يكن الطرفان قد اتفقا على المكان الذي يجري فيه التحكيم ، فإن هذا المكان تحدده محكمة التحكيم مع مراعاة ظروف التحكيم .

الدفوع المتعلقة باختصاص محكمة التحكيم :

ــــــــــــــــــــــ

مـــــادة 21 :

يكون لمحكمة التحكيم سلطة الفصل في الاعتراضات المؤسسة على أنها غير مختصة ، ويشمل ذلك أية اعتراضات تتعلق بقيام أو صحة شرط التحكيم أو اتفاق التحكيم المنفصل .(1)

يكون لمحكمة التحكيم سلطة تحديد مدى قيام أو صحة العقد الذي يشكل شرط التحكيم جزءا منه ولأغراض المادة 21 يعتبر شرط التحكيم الذي يشكل جزءا من العقد والذي ينص على إجراء التحكيم طبقا لهذه القواعد اتفاقا مستقلا عن سائر شروط العقد الأخرى ، وإذا صدر قرار من محكمة التحكيم ببطلان العقد فإن ذلك لا يستتبع بقوة القانون عدم صحة شرط التحكيم .

مركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي

ـــــــــــــــــــــ

أنشئ المركز بالقاهرة بناء على قرار صادر عن اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا بدورتها التي عقدت بالدوحة في يناير 1978 ، وذلك كجزء من نظام اللجنة المتكامل لتسوية المنازعات في المجال الاقتصادي والتجاري .

ويأتي إنشاء المركز الإقليمي تكليلا لسلسة من الجهود من جانب البلدان النامية منذ مؤتمر هفانا ، الذي عقد في 1947 - 1948 ، على المستويين الدولي والإقليمي داخل الأمم المتحدة وخارجها من أجل إيجاد نظام عادل وكفء لتسوية المنازعات الناشئة عن المعاملات التجارية الدولية بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية .

وقد عهد إلى المركز بمهام متعددة واسعة النطاق بحكم كونه وكالة تنسيق في إطار نظام اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا المتكامل لتسوية المنازعات ، الذي يتضمن توفير الاستقرار والثقة في المعاملات الاقتصادية الدولية داخل المنطقة ، والنهوض بنظام التحكيم كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات ، واستخدام قواعد اليونسيترال للتحكيم لعام 1976 (1) وتطبيقها على نطاق أوسع داخل المنطقة وإنشاء وتطوير مؤسسات ووكالات التحكيم الوطنية وتشجيع التعاون فيما بينها وتقديم المساعدة في تنفيذ أحكام التحكيم وبخصوص تلك الوظائف فإن المركز يستهدف خدمة الدول العربية في منطقة غرب آسيا وفي إفريقيا وكذلك أية دولة أخرى في إفريقيا ترغب في الاستفادة من خدمات المركز .

وفضلا عن ذلك ، يعمل المركز أيضا كمؤسسة تحكيم ، وذلك بتوفير تسهيلات التحكيم وفقا لقواعده . وقواعد التحكيم بالمركز هي قواعد اليونسيترال للتحكيم لعام 1976 مع الأخذ بتعديلات وتطويعات محددة ، كما يقوم المركز بتوفير التسهيلات الفنية وسائر صور المساعدة فيما يتعلق بإجراء التحكيمات الخاصة ، ومن الممكن أن يستفيد من هذه الخدمات أي طرف يطلبها سواء أكان حكومة أم شركة أم فردا عاديا كما أن المركز يقدم أيضا خدمات استشارية بالنسبة للجوانب الإجرائية لتسوية المنازعات وتنفيذ أحكام التحكيم .

وتتضمن أهداف المركز ما يلي :-

مباشرة التحكيم تحت إشراف المركز ، ووفق شروطه وفي هذا الخصوص فإن القواعد الإجرائية التي يطبقها المركز هي ذاتها قواعد لجنة الأمم المتحدة للتجارة الدولية (اليونيسترال) .

النهوض بالتحكيم التجاري الدولي في المنطقة .

تنسيق ومساعدة أنشطة مؤسسات التحكيم القائمة وخاصة فيما بين المؤسسات الموجودة داخل المنطقة .(1)

محكمة العدل العربية :

ـــــــــــ

كانت الدول العربية تعي جيدا أهمية إنشاء محكمة عدل عربية ، لحل المنازعات التي تنشأ فيما بينها . ولكن ميثاق جامعة الدول العربية – الذي أعلن في مارس 1945 – لاحظ أن كثيرا من الدول العربية لا يزال يرضخ لضغوط خارجية ، لا تمكنه من حرية اتخاذ القرار ، فاكتفى بتخويل مجلس الجامعة أن يقوم بحل المنازعات التي تنشأ بين أعضائه ، عن طريق الوساطة أو التحكيم الذي قد يصدر عنه حكم يلزم أطراف النزاع ، إذا تم بناء على طلبهم ، وقد جاء في المادة ( 19 ) مـن الميثاق : " يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق ، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق ، ولإنشاء محكمة عدل عربية " .

وتم تشكيل لجنة ( سنة 1982 ) من كبار الخبراء العرب في القانون الدولي ، وفي السياسة ومنهم من تولى منصب القضاء في محكمة العدل الدولية ، فاستلهموا مبادئ الجامعة والواقع العربي واستأنسوا بأنظمة المحاكم الدولية ، وأعيد تشكيل هذه اللجنة في سنة 1985 ، ثم في سنة 1991 وأعد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية ، وعرض على مجلس الجامعة في عدة دورات وينتظر إقراره في الدورة الرابعة بعد المائة .

وأبرز ما جاء في هذا المشروع :

لا يقتصر حق التقاضي أمام هذه المحكمة على الدول الأعضاء ، بل تمنح الدول غير الأعضاء حق اللجوء إلى المحكمة إذا كانت تربطها بالدول الأعضاء اتفاقيات أو معاهدات وقبلت بولاية المحكمة .

لمحكمة العدل العربية ولاية إلزامية في حالات محددة ، من أهمها : النزاعات التي تهدد الأمن القومي العربي .

تطبق المحكمة على النزاعات التي ترفع إليها : أحكام الشريعة الإسلامية ، والعرف العربي والمبادئ العامة للقانون التي استقرت في الدول العربية بالإضافة إلى مبادئ وقواعد ميثاق الجامعة وأحكام القانون الدولي .

تتألف المحكمة من سبعة قضاة ، ينتخبهم مجلس الجامعة بأغلبية الثلثين ، من بين مواطني الدول الأعضاء الحائزين على المؤهلات القانونية المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية ، ومن المشهود لهم بالكفاءة في الشريعة أو القانون الدولي .

تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للمحكمة ، ويؤدي القضـاة قبـل أداء وظائفهـم اليميـن التالية : " أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة " .(1)

محكمة العدل الإسلامية

ـــــــــــــ

كان أمير الكويت قد أعرب بكلمته بمناسبة إطلالة العام الهجري الخامس عشر عن أمله بإقامة محكمة عدل إسلامية ، فتقدّمت الكويت لمؤتمر القمة الثالث 1981 بهذا الاقتراح الذي وافق عليه المؤتمر وحدّد مهمتها في أن " تكون حكما وقاضيا وفصلا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات " وحتى تكون هيئة قضائية إسلامية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي لتعزيز دور المنظمة ومكانتها والإسهام في تحقيق أهدافها ، والعمل على تنقية أجواء العلاقات بين الأعضاء .

وتقرر دعوة الخبراء القانونيين من الدّول الأعضاء لوضع نظام أساسي للمحكمة وكلف الأمين العام بالتحضير لاجتماع الخبراء .

وقدمت الكويت لاجتماع الخبراء مشروع نظام المحكمة ، وتم تنقيحه وتعديله خلال اجتماعات لجنة الخبراء التي كانت محدودة ، ثم عرض المشروع على القمة الإسلامية الرابعة 1984 ، فأشار بإعادة النظر فيه من قبل لجنة موسعة من الخبراء تضم كافة الدول الأعضاء تأخذ في اعتبارها مجمل مناقشات القمة الرابعة للمشروع ، وملاحظات الدول الأعضاء . ولما عرض المشروع المنقح على المؤتمر الوزاري السادس عشر في فاس في يناير 1986 أشار على لجنة الخبراء بالمزيد من الدراسة ، وعرض المشروع النهائي على القمة الإسلامية الخامسة في الكويت ، التي وافقت عليه ، كما وافقت على تعديل المادة الثالثة من ميثاق المنظمة بحيث تصبح المحكمة الجهاز الرئيسي الرابع .

تأسيس المحكمة ومقرها :

ـــــــــــــ

نص النظام الأساسي (68) على أن تكون المحكمة هي الجهاز القضائي الرئيسي للمنظمة وتعمل بصفة مستقلة ، وفق الشريعة الإسلامية ، وأحكام الميثاق والنظام .

وتقرر أن يكون مقرها الكويت ، على أن تعقد جلساتها في أي دولة أخرى (69) وأصدر أمير الكويت في 31/8/1987 المرسوم بقانون رقم 47 لسنة 1987 بشأن الموافقة على التصديق على نظام المحكمة وتعديل الميثاق (70) وهذا المرسوم يعتبر استقبالا للقانون الداخلي لالتزامات الكويت في القانون الدولي المتمثلة في نظام المحكمة ، وهي معاهدة دولية منشئة لمنظمة دولية .

ويحدد نظام المحكمة حالات عقد اجتماعات المحكمة خارج الكويت وهذا النظام معمول به في محكمة العدل الدولية التي يمكن أن تعقد جلساتها خارج مقرها وهي مدينة لاهاي إذا رأت المحكمة ذلك ملائماً ( المادّة 22 ) . ويجوز أن تعقد دوائر المحكمة اجتماعاتها خارج مدينة لاهاي ولكن في هذه الحالة يتعين موافقة أطراف الدعوى ( المادّة 28 من نظام المحكمة ) .

تشكيل المحكمة :

ــــــــ

عدد القضاة : تضم المحكمة سبعة قضاة ، وينتخب قضاة المحكمة الإسلامية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة .

وتنتخب المحكمة الرئيس ونائبه من بين أعضائها (72) . ولا يجوز انتخاب أكثر من عضو من رعايا دولة واحدة ، كما يعتد بجنسية الدولة التي يمارس فيها العضو حقوقه السياسية والمدنية إذا حمل أكثر من جنسية (72) .

شروط عضوية المحكمة :

ـــــــــــــ

واشترط نظام المحكمة (74) فيمن يرشح لمنصب القاضي خمسة شروط هي :

أن يكون مسلما عدلا من ذوي الصفات الخلقية العالية ، فلا يعين في هذا المنصب غير المسلم مهما كانت سعة ثقافته الإسلامية وتضلعه في علوم الشريعة الإسلامية التي تشترط فيمن يعين في أية وظيفة فيها (75) .

أن يكون من رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة .

ألا يقل المرشح عن أربعين عاما .

أن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم ، وله خبرة في القانون الدولي .

أن يكون مؤهلا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده .

يحلف كل عضو من أعضاء المحكمة في أول جلسة علنية ، اليمين التالية :

" أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أدائي واجباتي وأن أعمل بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف دون محاباة وأن ألتزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي " .

اختصاصات المحكمة :

ـــــــــــ

للمحكمة ثلاثة اختصاصات تستوي في اثنتين منها مع المحكمة العالمية وتنفرد المحكمة الإسلامية بالاختصاص الثالث . وهذه الاختصاصات الثلاثة هي :

أولا : الاختصاص القضائي :-

تختص المحكمة بالفصل فيما يعرض عليها من منازعات عن طريق الأعضاء وغير الأعضاء وتصدر في شأنها أحكاما وفق إجراءات رفع الدعوى ونظرها ، فصلها نظام المحكمة (89) . ويصدر الحكم بالأغلبية البسيطة مبينا أسبابه وأسماء القضاة الذين اشتركوا في إصداره (90) . ولا يكون له قوة الإلزام إلا على أطرافه وعلى النزاع موضوع الدعوى (91) .

وقد قرر النظام أن يكون الحكم قطعيا لا طعن فيه وللمحكمة أن تفسره عند الخلاف حوله بناء على طلب أحد الأطراف (92) ، كما فصل النظام أحكام إعادة النظر في الحكم (93) .

ثانيا : الوظيفة الإفتائية :-

يجوز للمحكمة أن تفتي في المسائل القانونية غير المتعلقة بنزاع معروض عليها وذلك بناء على طلب أية هيئة مخولة بذلك من قبل مؤتمر وزراء الخارجية (123) .

فطلب الرأي الاستشاري يتطلب توفر ثلاثة شروط :

الأول : أن تكون المسألة المستفتى فيها مسألة قانونية وليست سياسية ، وهذا أمر يترك تقديره للمحكمة التي يحق لها أن ترفض إعطاء الرأي الاستشاري إذا تبين لها عدم توفر هذا الشـرط .

الثاني : ألا تتعلق المسألة المستفتى فيها بنزاع معروض على المحكمة .

الثّالث : ألا تطلب الرأي دولة عضو ، بل إن حق طلب الرأي قاصر على المنظمات والهيئات التي يخولها ذلك مؤتمر وزراء الخارجية .

ومعنى هذا أن المؤتمر ذاته له - من باب أولى - حق طلب الرأي الاستشاري ، وللقمة بالطبع هذا الحق ، كما يجوز للمؤتمر الوزاري أن يرخص للأمانة العامة بأن تستخدم هذا الحق .

ثالثا : الوظيفة ذات الطابع السياسي والتحكيمي :-

يجوز للمحكمة أن تقوم - عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة ، أو عن طريق كبار المسئولين في جهازها - بالوساطة أو التوفيق والتحكيم في الخلافات التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي إذا أبت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك ، أو إذا طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء (129) .

انفرد نظام المحكمة الإسلامية بهذا النص على الوظيفة ذات الطابع السياسي والتحكيمي . ولكن المحكمة نفسها لا تقوم بهذه الوظيفة وإنما تستخدم إطارا مقبولً يسمح بالاستفادة من جهود عدد من الشخصيات الإسلامية المرموقة ، أو من بعض قضاتها والمسئولين في جهازها الإداري والقضائي ، للقيام بالوساطة والتوفيق والتحكيم في المنازعات التي تثور بين أعضاء المنظمة .

القانون واجب التطبيق :

ــــــــــــ

الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها .

تسترشد المحكمة بالقانون الدولي والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف أو العرف الدولي المعمول به أو المبادئ العامة للقانون أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية ، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول .

ولاية المحكمة :

ــــــــ

تشمل ولاية المحكمة :

القضايا التي تتفق الدول الأعضاء المعنية في منظمة المؤتمر الإسلامي على إحالتها إليها .

القضايا المنصوص على إحالتها إلى المحكمة في أي معاهدة أو اتفاقيّة نافذة .

تفسير معاهدة أو اتفاقية ثنائية أو متعددة الأطراف .

بحث أي موضوع من موضوعات القانون الدولي .

تحقيق واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقا لالتزام دولي .

تحديد نوع التعويض المترتب على خرق أي التزام دولي ومدى هذا التعويض .

اللغات في المحكمة :

ــــــــــ

العربية لسان القرآن المبين ، لغة المحكمة الأولى ، وهي مع الإنجليزية والفرنسية اللغات الرسمية المعتمدة .

للمحكمة بناء على طلب أي من أطراف النزاع ، أن تجيز استعمال لغة أخرى غير رسمية شريطة أن يتحمل هذا الطرف الأعباء المالية المترتبة على الترجمة إلى إحدى اللغـات الرسمية .

تصدر المحكمة أحكامها باللغات الرسمية الثلاث .

إلزامية الحكم :

ـــــــ

لا يكون للحكم قوة الإلزام إلا على أطراف الدعوى وفي النزاع الذي فصل فيه .

يصدر الحكم قطعيا غير قابل للطعن .

عند الخلاف على مفهوم الحكم ومدى تنفيذه ، تتولى المحكمة تفسيره بناء على طلب من أحد الأطراف (1) .

القوانين الوضعية والتحاكم الدولي :

ـــــــــــــــــ

التحاكم الدولي فرع يتحدد حكمه بناء على حكم العمل بالقوانين الوضعية بجامع الحكم بغير ما أنزل الله فإذا جاز ، جاز التحاكم وهو لا يجوز قطعا لأنه حكم بغير ما أنزل الله والتحكيم الدولي حكم بعير ما أنزل الله فيحرم ونذكر ههنا أدلة حرمة الأصل ونتبعها بعد بأدلة حرمة الفرع بخصوصه وإن لم يحتج بالقياس إلى أدلة :

قال تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (1) .

قال الإمام ابن تيميه عن هؤلاء : الإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه ، كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء ، وفي مثل هذا نـزل قولـه تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (2)، أي هو المستحل للحكم بغيـر ما أنزل الله .

ويقول فيمن تابع من حكم بغير ما انزل معتقدا حل حكمه : هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله إن علموا أنهم بدلوا دين الله ، فتابعوهم على التبديل ، واعتقدوا تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركا ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم ، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك ، دون ما قاله الله ورسوله ، مشركا مثل هؤلاء (3).

ويقول أيضا : ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله ، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا ، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : " المص ، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون " (4).

ويقول الإمام ابن كثير في قوله تعالى : " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (1) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بالكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهـو كافر (2).

ثم إن القوانين الوضعية تبديل ودين جديد : فقد نبه العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى إلى أن القوانين التي حكمت في رقاب المسلمين إنما هي تبديل لدين الله ، وتغيير لشرع الله .

يقول رحمه الله تعالى في ذلك : هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافر العداوة ، هي في حقيقتها دين آخر ، جعلوه دينا للمسلمين بدلا من دينهم النقي السامي ، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها ، وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها ، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيرا كلمات " تقديس القانون " ، " حرمة المحكمة " ، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية ، وآراء الفقهاء الإسلاميين ، بل هم حينئذ يصفونها بكلمة " الرجعية " " الجمود " ، " الكهنوت " ، " شريعة الغاب " ، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية ، التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين .

وبين الشيخ أن القوانين الوضعية تعتبر تشريعا جديدا ودينا جديدا سواء منها ما وافق الشرع أو خالفه فيقول : وصار هذا الدين الجديد هو القاعدة الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها ، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها وكله باطل وخروج ؛ لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة ، لا اتباعا لها ، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله ، ، فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة ، يقود صاحبه إلى النار ، لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به .

فهو يقرر أن هذه الشرائع كلها باطلة ، وهي خروج على الدين الإسلامي ، ولا عبرة بما جاء فيها موافقا لأحكام الشريعة الإسلامية لأن هذه الموافقة جاءت مصادفة ، والتشريع الإسلامي يؤخذ من حيث كونه منزلا من عند الله دون سواه .

ثم بين كيف تدرج الأمر بالمسلمين فصاروا يطلقون على هذه القوانيـن ودراستهـا كلمـة " الفقه " ، "والفقيه " و " التشريع " ، " والمشرع " وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها .

ثم بين أن المسلمين انحدروا درجة وتجرأوا على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترى الجديد .

ثم بين كيف وصل الحال بهم إلى الدرك الأسفل فنفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر ، وأنها شرعت لقوم بدائيين ، غير متمدنين ، فلا تصلح لهذا العصر الإفرنجي الوثني !! خصوصا في الحدود المنصوصة في الكتاب والعقوبات الثابتة في السنة (1).

وانتهى إلى القول : وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها (2).

وقال في موضع آخر : والذين نحن فيه اليوم ، هو هجرة لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله (3).

وينبه الشيخ إلى قضية جديرة بالنظر وهي استمراء القوانين والاندماج فيها وحبها وهذا حال أسوأ من حال التتار وقانون الياسق ، فيقول : الشيء الغريب المدهش أن الإسلام غلب التتار ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته ، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وإن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك ، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة ، ولم يتعلموه ، ولم يعلموه أبنائهم ، فما أسرع مازال أثره .

والمسلمون الآن أسوأ حالا ، وأشد ظلما وظلاما من حالهم في ذلك العصر ؛ لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة ، والتي هي أشبه شيء بذلك " الياسق " الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر (1).

الحكم بغير ما أنزل الله غير المخرج من الملة :

ــــــــــــــــــــــــ

غالب حال الأمة الإسلامية اليوم الحكم بغير ما أنزل الله مغلوبة مقهورة مكرهة عليه ، وهذا ليس عذرا في جميع الأحوال والظروف ، وهو وإن كان من كبائر وعظائم الأمور إلا أنه لا يخرج من الملة ، لاعتقاد المسلم خلافه ، وإنما يؤاخذ المسلم على اعتقاده وفي هذا يقول محمد بن أبي العز شارح الطحاوية : إن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفرا : إما مجازيا ، وإما كفرا أصغر ، على القولين المذكورين .

وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله : فهذا وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافرا كفرا مجازيا ، أو كفرا أصغر ، وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور (2).

وتحدث الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية الأسبق رحمه الله تعالى عن هذا النوع من الكفر فقال : وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله ، وهو الذي لا يخرج عن الملة ففي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (3)، وقد شمل هذا القسم ، وذلك في قوله رضي الله عنه " كفـر دون كفـر " وقولـه أيضا : " ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " ، وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله ، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق ، واعترافه على نفسه بالخطأ ، ومجانبـة الهوى .

فهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة ، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر ، كالزنا ، وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس ، وغيرها ، فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا ، أعظم من معصية لم يسمها كفرا ، نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادا ورضاء ، إنه ولي ذلك والقادر عليه (1).

حرمة التحاكم الدولي :

ـــــــــــ

مما سبق يظهر حرمة الحكم بغير ما أنزل الله ، وينبني عليه حرمة تحاكم المسلمين فيما بينهم أو فيما بينهم وبين غير المسلمين إلى محكمة دولية لا تحكم بالشريعة الإسلامية سواء أكان قضاتها كلهم مسلمون أو كلهم غير مسلمين ، أو كانوا مسلمين وغير مسلمين .

وأدلة تحريم التحاكم بخصوصه كثيرة ومتضافرة ، وقبل ذكر الأدلة لا بد من تحرير محل الكلام في الموضوع ، فإن محل الخلاف هو التحاكم إلى محكمة دولية يمثل فيها قاض أو أكثر ، غير مسلمين كلهم أو بعضهم ، ويطبق قانون وضعي في أمور التشريع أو غيرها ، وقد يطبق فيها ما يوافق الشريعة ، وبهذا لا يدخل معنا التحالف ، إذ الإسلام يقره وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال : " شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " (2)، فالحلف جائز ما دام تعاونا على البر والتقوى والأخذ على يد الظالم ، وإنصاف المظلوم ، ورد الحقوق إلى أصحابها فالأطراف فيه متكافئة ولا حكم فيه لرفع نزاع بين طرفين أو أكثر حتى يكون تحيكما أو تحاكما .

ومن هذا أيضا المعاهدات والاتفاقات الدولية ، وهي اتفاق دولي يحقق مصالح دولتين أو أكثر والعبرة بمضمون المعاهدة ، فإن كان مشروعا كالاتفاقات أو المعاهدات التجارية والثقافية ونحوها فلا ريب في جوازها وإن كانت معاهدات أو اتفاقات موضوعها محرم شرعا كالمتاجرة بالمحرمات أو إباحة المحرمات فإنه محرم الدخول في هذه المعاهدات أو الاتفاقيات قطعا .

بعد هذا نذكر بعض أدلة تحريم التحكيم فيما يأتي :-

قوله تعالى : " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " (3).

وقوله تعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس " (1).

قوله تعالى : " فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى " (2).

وقال تعالى : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (3).

وقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " (4).

ووجه الدلالة من هذه الآيات أنها نص جلي لا يحتمل الخلاف في أن الغاية في إنزال القرآن الكريم إنما هي الحكم بين الناس ، وترك الحكم بالهوى ، والهوى كل ما تبع فيه الإنسان رأيه واجتهاده مقطوع الصلة عن هدى الله عزل وجل ، ثم إن التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لفض النزاع بين المؤمنين دليل الإيمان ، والتحاكم إلى غيرهما ينزع عنهم صفة الإيمان حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

ولم يكتف القرآن بتحديد جهة التحاكم واشتراط أن تكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل أمرنا بنبذ أحكام الكفر واعتبرها طاغوتا فكيف يلجأ المسلم إلى الطاغوت لأخذ الحكم قال تعالى : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " (5).

يقول الإمام بن القيم : " من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله (6).

قال ابن كثير في الآية : هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (1).

وما اشتراط الإسلام في القضاة فهذا مما أجمع عليه الفقهاء فاشترطوا في القاضي الإسلام والمحكم كالقاضي (2) لما له من الولاية قال تعالى : " ولن يجعل الله للكافريـن علـى المؤمنيـن سبيلا " (3)، ولا ريب أن حكم غير المسلمين على المسلمين سبيل لهم علينا ، فيكون منهيا عنه بظاهر الآية .

هذا وهناك اتجاه يرى أصحابه جواز لجوء الدول الإسلامية إلى محكمة العدل الدولية قال الدكتور وهبة الزحبلي : لا مانع من تطبيق القانون الدولي " قواعد الحق والعدالة " في التحكيم لأن الرسول حدد مقدما لسعد بن معاذ في قضية التمكين في يهود بني قريضة القواعد التي يقضي بها وقواعد التمكين في محكمة العدل الدولية لا تخرج عن كونها إما اتفاقا دوليا أو عرفا عاما سارت الدول على مقتضاه ، أو قاعدة من قواعد العدل والإنصاف ، فإذا أضرت قاعدة بالمسلمين كانوا بالخيار كما هو المقرر دوليا في عدم عرض النزاع على محكمة العدل (4).

وهذا رأي يحتاج إلى دليل يسنده فقياس قواعد التمكين في محكمة العدل الدولية على قواعد التمكين عند سعد بن معاذ رضي الله عنه قياس مع فارق واضح ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم سعد بن معاذ ، وسعد هو من هو مكانة بين المسلمين ، ولن يحكم إلا بهدى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشرع وقواعده . ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " ولا ريب أن مرجع الاتفاقات والأحكام الدولية إلى القوانين الدولية ثم إن القضاة من غير المسلمين ، كيف وقد أجمع الفقهاء على اشتراط الإسلام في القاضي ، بل هم الآن يشترطون في المحكمين أن يكونوا من كبار القضاة ، والتحكيم الدولي قضاء .

ومن جانب آخر فقد نصت المادة ( 38 ) من مواد القانون الواجب التطبيق في محكمة العدل الدولية - كما سبقت الإشارة - على التالي :-

الاتفاقات الدولية ، سواء كانت عامة أو خاصة ، التي تقرر قواعد تعترف بها صراحة الدولة المتنازعة .

العادات الدولية المتواترة ، المقبولة بمثابة قانون .

المبادئ القانونية العامة التي اعترفت بها الأمم المتمدنة .

أحكام القضاء وآراء جهابذة القانونيين في مختلف الأمم ، على أن يكون الاعتماد عليها بصفة تبعية .

وهذه المادة صريحة في أن القضاة ملزمون بالحكم بالاتفاقات الدولية والأعراف الدولية والمبادئ القانونية العامة ، وأحكام القضاة وليس شيء من ذلك يمت إلى شرع الله بصلة ، فقد تكون اتفاقات أو مبادئ مخالفة لنصوص قطعية ، أو أعراف فاسدة في حكم الشرع ، وما وافق منها حكم الشرع فلا يغير من وصف هذه الأحكام شيئا حتى يضفي عليها القبول الشرعي .

وهناك رأي آخر يحاول الوسطية بين الرأيين فيرى : أن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون بينهم مسلمون ، وأن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم أو أن لا يكون القانون أو القواعد التي يلجأ إليها المحكمون متعارضة مع نص الشريعة الإسلامية أو مقاصدها الشرعية ، لا سيما وأن فيها من البنود ما يجعل وضع قواعد التحكيم متروكا للدولتين المتنازعتين (1).

وما سبق من ردود يأتي هنا ويضاف عليه أن وجود بعض القضاة من المسلمين لا يكفي في وصف الشرعية للحكم ، فإن الحكم يصدر باسم المحكمين مسلمين وغير مسلمين ، وهذا يجعل لغير المسلمين ولاية وسبيلا ، كما أن موافقة بعض النصوص لأحكام الشريعة ومقاصدها لا يغير من الأمر شيئا ، فإن وصف الحكم بحيثياته وديباجته وما يبنى عليه من أسس ، والحكم في محكمة العدل الدولية ديباجة قانونية بحتة مبنية على فقرات القانون الواجب التطبيق السابق ذكره فلا توصف بالشرعية ، إذ ليس في الديباجة من مثل : بناء على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قوله تعالى كذا أو قوله صلى الله عليه وسلم كذا ، وهذا أمر لا ينفك عن وصف الحكم الصادر بالشرعية الإسلامية ، أو القانونية الدولية .

التحاكم الدولي على خلاف الأصل في وحدة الدولة والتشريع :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

مما لا شك فيه أن وحدت الدولة الإسلامية واجبة ، ووحدة الدولة من وحدت المسلمين ، فلا يقر الإسلام تعدد الدولة ، وإن حكمت كل منها بالشريعة الإسلامية ، فإن ذلك مظهر من مظاهر التفرق ومظنة للخلاف والشحناء بين المسلمين وقد قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (1) وقال تعالى : " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " (2)، وقال الماوردي فيه تأويلان : أحدهما أن المراد بالريح الدولة ، والثاني أن المراد بها القوة (3).

وقد أجمع الفقهاء على أن الأصل وحدة الدولة واستندوا إلى أدلة كثيرة منها ما رواه عرفجة بن شرع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه " (4)، وعن عبد الله بن عمـرو بـن العـاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده ، وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه ، فاضربوا عنق الآخر " (5)، وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " (6).

فدلالة هذه الأحاديث نص في حرمة مبايعة خليفتين ، أو إقرار خليفتين للمسلمين ولذا قال الماوردي : " إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما ، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد ، وإن شذ قوم فجوزوه " (7) وحين خرج المسلمون عن هذا الأصل ، فتعددت الخلافة أو الإمامة فيهم إلى اثنتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر من ذلك ، فكان ضعفهم جميعا ، وكان الخلاف ، بل كانت الحروب بينهم مستعرة ، حتى وصل الأمر بينهم أن يستعينوا بالكفار على بعضهم البعض .

ولقد اتجه بعض الفقهاء المعاصرين إلى جواز تعدد الدول الإسلامية وتعدد الإمامة فقال " لا مانع من تعدد الحكومات في بلاد الإسلام ، وقد أفتى الفقهاء بجواز تعدد الإمامة عند اتساع المدى وتباعد الأقطار " (1).

والصواب الناصع أن هذا من الخطأ البين إذ الجواز يقتض إباحة تجزؤ كلمة المسلمين وتشتت قوتهم وذهاب ريحهم ، لكن إن كان القصد قبول الواقع وإقرار كل حاكم على ما تحت يده ، لنبذهم الاجتماع والتوحد تحت راية إمام واحد ، فهذا قبول للواقع ونفس الأمر ، ولا يعني أنه أصل مقـر ثابت .

وقد يقال : أن العبرة بتحكيم شرع الله ولو تعددت الدول ، مادامت تحقق هدفا واحدا ، وتسير في خطة واحدة يقول الأستاذ عبد القادر عودة : " يظن البعض أن تقسيم العالم دار إسلام ودار حرب يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة والبلاد الأجنبية تحت حكم دولة واحدة وهو ظن لا أساس له من الواقع ، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون محكومة بحكومة واحدة ، إنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام ، والإسلام يقتضي أن يكون المسلمون في كل بقاع الأرض يدا واحدة يتجهون اتجاها واحدا وتسوسهم سياسة واحدة وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة لكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي تحقق أهداف الإسلام ، إذ من الممكن تحقيق هذه الأهداف مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت تتجه اتجاها واحدا وتسير على سياسة واحدة ، والإسلام لا يتنافى مع نظام كنظام الولايات المتحدة ، ولا مع نظام كنظام الولايات القائم في روسيا ولا مع نظام كنظام الدومنيون الإنجليزي ولا يتنافى مع النظام القائم الآن في البلاد العربية " (2)، فالمقصود من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب ليس جعل العالم تحت حكم دولتين أو وحدتين سياسيتين .

هذا الكلام يصح في حكم الواقع ، والواقع ليس دليلا على أصل الحكم الشرعي خاصة إن خالف النصوص ، ويبعد عن الصواب كثيرا القول بأن النظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون محكومة بحكومة واحدة ، إنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام . فإن النظريات في الإسلام مبنية على النصوص ، ولا نجد نصا واحدا يجعل الأصل هو تعدد الخلفاء والدول مع اتحاد اليد والسياسة الواحدة ، وهذا يصح أن لو كان المقصود إمام واحد وحكام ولايات إسلامية يأتمرون بأمره وهذا لا يمنع أن تعطى لهم الصلاحيات التي تحقق مقاصد الشرع في حفظ الدين والنفوس والأموال والأعراض والعقـول ، فحينئـذ لا بـأس بنظـام الولايـات القائـم فـي هـذا العصـر

لكن أن يكون لكل دولة إمامها، وصلاحيته المطلقة ، فلا يستقيم والنصوص وروح الشريعة ومصالحها ومقاصدها هذا من حيث الأصل ، لكن لو كان بحكم ضعف المسلمين وتوزع كلمتهم فهو مقبول وخير لا ريب من التحاكم للقوانين الوضعية .

التحاكم للضرورة :

ـــــــــ

لا شك أن التحاكم محرم إذا كان تحاكم المسلمين إلى محكمة غير إسلامية قولا واحدا لا يسع خلافه للأدلة الصريحة السابقة ، لكن حل تدخله الضرورة فتغير حكمه إذ الضرورات تبيح المحظورات ، الضرورة إذا كانت كلية قطعية بحيث يؤدي تفويت التحكيم فيها إلى مفاسد يقينية تلحق بالمسلمين ، وتفوت مصالح يقينية كلية فإن الأمر يحتمل النظر ، وحينئذ يتقيد بحد الضرورة ، فإذا أمكن أن يكون القضاة كلهم أو جلهم مسلمين فيجب المصير لذلك ، وإذا اقتضى اشتراك العديد الأقل فكذلك .

ويعمل على استخلاص الأحكام غير المعارضة للنصوص والمقاصد والمصالح الشرعية ويشترط قبل هذا انتقاء وجود محكمة عدل إسلامية ، وهي الآن قائمة تحتاج إلى تنشيط لتزاول مهامها إن وجدت وعليه فلا ضرورة لرفع التحاكم إلى محكمة العدل الدولية أو غيرها .

ويمكن أن يستأنس للضرورة بما قاله بعض المالكية ، فقد أجاز بعض المالكية كالإمام الخرشي اشتراط الكفار في عقد المهادنة أن يحكموا بين المسلم وغير المسلم إذا دعت لذلك ضرورة فيقول في شرحه لمتن خليل عند استعراضه لشروط المهادنة : ويجب أن يخلو عقدها من شرط فاسد وإلا لم يجز كشرط بقاء مسلم أسيرا بأيديهم ، أو بقاء قرية للمسلمين خالية منهم ، وأن يحكموا بين مسلم وكافر وأن يأخذوا منا مالا ، إلا لخوف ، فيجوز كل ما منع (1).

التحكيم بين المسلمين فى البلاد غير الإسلام

من المعلوم أن أحكام الشريعة تلزم المسلم سواء أكان فى البلاد الإسلامية التى تلتزم تطبيق أحكام الشريعة ’أوتلك التى لاتلتزمها ’أم كان فى البلاد التى لا تدين بدين الإسلام .

وهذه الأحكام منها ما هو فى العقائد والواجبات والأركان والآداب و غيرها ’وكلها محل الإلتزام ’ سواء فى جانب الفعل أو الترك . فلا يسع المسلم ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم ’ او الحج ’ أو الوقوع فى الشرك أو الكفر ’ وفعل المنكرات من نحو السرقة و الزنا والكذب والخيانة والغدر ’بحجة أن الدولة غير إسلامية ’فإن وصل الأمر فى بلد منع أداء الواجبات فلا يسع القادر على ترك البلادإلا أن ينتقل إلى غيرها ’ وإلا كان ظالما لنفسه ’ مالم يكن مستضعفا لايجد بلدا يؤويه’ ومع ذلك لايسقط ذلك عنه الواجبات والأركان والإلتزام بأصول العقيدة والشريعة . قال الله تعالى :" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنامستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيعا فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا .إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولائك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا " .(97’98’99) .

وكثير من المسلمين اليوم لم يجدوا بدا من الهجرة من بلاد أهلها مسلمون ودينها الإسلام اسما ’فتضيق ذرعا بالمسلمين ’إما لدعوتهم للعودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة حقا وصدقا ’وإما لضيق ذات أيديهم فيضربون فى أرض الله ابتغاء السعة ’ أو ربما كفاءة علمية لم تجد من يقدرها حسن تقديرها’فيجد هؤلاء وغيرهم سعة فى أرض الله عند غير المسلمين فيهاجروا إليها’ ولا حول ولا قوة إلا بالله .

واليوم فإن هؤلاء المسلمين المهجرين او المهاجرين أكبر الأقليات ’أو هم على أقل تقدير أقلية لها وجود وتأثير . ولقد أصبح وجود المسلمين هناك أجدى لهم بل وأنفع للإسلام من عودة كثير منهم إلى ديارهم ؛ لما يمكنهم وجودهم من نشر الدعوة وترسيخ وجودها فالإقامة فيها غدت أفضل من العودة إلى ديار للمسلمين لايقام لهم فيها شرع .يقول الإمام الماوردى :"إذا قدر المسلم على إظهار الدين فى بلد من بلاد الكفار ’فقد صار البلد به دار الإسلام " .

ولا شك أن وجود المسلمين فى تلك الديار يحتاج إلى من يتدبر تهيئة تطبيق أحكام الشرع فيما لايسعهم إلا تطبيقه منها كالعبادات والزواج والطلاق والعدة والنسب والمحرمات والإرث والوصية ونحو ذلك مما يتعبدون الله به أداء والتزاما بشروط صحته ولزومه . وكذا فض المنازعات الناشئة فيما بينهم ’ أومع غير المسلين ’إذا ارتضوا التحاكم إلينا .

ومن هنا فإن اللجوء إلى التحكيم فى الأغلب الأعم من القضايا حتم لازم إذ محل القضاء حال الضرورة ’وهى حينئذ تقدر بقدرها . فما يلزم أو يسع فيه الحكم لا يلجأ فيه إلى القضاء .

ودول العالم اليوم تعتد بالتحكيم وسيلة لفض المنازاعات ’ كما أنها تعتد بالصلح وتجيز التحكيم فيما يجوز فيه الصلح ’وهذا الجواز فى التحكيم والصلح مخرج واسع لإجراء الأحكام الشرعية على المسلمين إما بصفة تحكيم الشريعة الإسلامية إذا سمحت نظم الدول النص على ذلك فى عقد التحكيم ’أو بصفة الصلح عند عدم جواز النص . 

وعلى هذا يمكن تقسيم تقاضى أو تحاكم المسلمين فى البلاد الأجنبية إلى أحوال :

أولاً : إذا سمح نظام الدولة للمسلمين بالتحكيم فى عقودهم ومنازعاتهم . فواجب المسلمين فى هذه الديار أن يوحدوا ملجأ التحكيم بواسطة مؤسساتهم الكثيرة ’ وبخاصة اتحاداتهم الدعوية أو الثقافية أو الخيرية أو غيرها . ويلزم أن تتفق الجالية الإسلامية على من يختارهم أهل الرأى والقرار للتحكيم ولا يبعد الإلزام الشرعى لهذا الاختيار أو التعيين ؛ لئلا يخلوا المسلمون من تطبيق حكم الله حيث أمكنهم ’وللحيلولة دون اللجوء إلى المحاكم الأجنبية. وقد نص الفقهاء على ذلك فقال ابن أبى الدم :"إن القيام بالقضاء بين المسلمين والانتصار للمظلومين وقطع الخصومة الناسئة بين المتخاصمين من أركان الدين ’ وهو أهم الفرو المعنوية بالكفاية ’ فإذا قام به الصالح له سقط الفرض عن الباقين ’وإن امتنع كل الصالحين له أثموا " . ( أدب القضاء 1/290 ) ونقل ابن فرحون عن المازرى قوله : "القضاء ينعقد بأحد وجهين :أحدهما عقد أمير المؤمنين ..والثانى عقد ذوى الرأى وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء.. " (تبصرة الحكام 1/15) وقال الماوردى : "لو لو خلا بلد من قاض فقلد أهل البلد على أنفسهم قاضيا منهم كان تقليدهم له باطلا إن كان فى العصر إمام لافتياتهم عليه فيما هو أحق به " . (أدب القضاء 1/139 ).

ولا يضير حكم المحكمين المسلمين اشتراط اعتماد الحكم من السلطات القضائية فى البلاد بعد ذلك ؛ لأنه يكسبه صفة الإلزام التنفيذية .

ثانياً : إذا لم يسمح نظام الدولة بصلاحية التحكيم للمسلمين ’فيطبق حد الضرورة فى اللجوء إلى المحاكم غير الإسلامية ’ والضرورة حينئذ أظهر منها مما يقال من الضرورة أو عموم البلوى فى التحاكم إلى القوانين الأجنبية فى البلاد الإسلامية ’ ولكن لاتسع المسلمين الضرورة فيما يتعلق بعقائدهم وواجباتهم وأركان دينهم وأحوالهم الشخصية أو كل ماكان حكما تكليفيا أوحكما وضعيا –أى ما كان بشرط شرعى أوسبب شرعى أو مانع شرعى – وبخاصة الأحوال الشخصية من الزواج وحقوق الزوجية والطلاق والعدة والنسب والميراث والوصية وماإلى ذلك فيلزم تحكيم من يرضونه دينا وعلما ’ويلزم المؤسسات والاتحادات الإسلامية أن تضطلع بدور التحكيم والصلح ’ وأن تضع لذلك نظاما محكما يلتزم أحكام الشريعة ’ ولا يصادم النظام العام فى البلاد . أ

تعليقات