📁 آخر الأخبار

ضـمـــان حقــوق المتهم فــي مرحلــة جمـع الاســتدلالات وَفقاً لقانــون الإجــراءات الجنائيـة

ضـمـــان حقــوق المتهم فــي مرحلــة جمـع الاســتدلالات وَفقاً لقانــون الإجــراءات الجنائيـة

ضـمـــان حقــوق المتهم فــي مرحلــة جمـع الاســتدلالات وَفقاً لقانــون الإجــراءات الجنائيـة 




 د. عمر محمد حامد إبراهيم()
مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية                           العـــدد الحــادي عشــر 1426هـ ـــ 2005م

الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرماًً بين عباده، وهو القائل :                           [المائدة: 8]. 
والصلاة والسلام على نبي الرحمة والعدل والهدى، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر المحجلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،
فقد اخترت ضمان حقوق المتهم في مرحلة جمع الاستدلالات وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية لعام 1991م موضوعاً للبحث، لأظهر الضمانات التي وضعها المشرع السوداني لحماية المتهم في هذه المرحلة من عمر الدعوى الجنائية.
والأصل أن الحريات العامة مكفولة لجميع الناس بالدستور ، وقبله بالقرآن والسنة، فلكل فرد من أفراد المجتمع الحق في حرية الحركة والتنقل والتصرف والتعبير والانتماء، ولا تنتقص الحريات إلا بالقانون، وأهم قانون ينتقص من هذه الحريات قانون الإجراءات الجنائية، الذي ينظمها وينسقها لتتناغم مع حريات الآخرين حتى لا تكون خصماً عليها.
ومتى ما أسند الاشتباه في ارتكاب جريمة أو الاتهام بارتكابها إلى شخص ما، تتعارض مصالحه مع مصالح الجماعة أو الأفراد الذين ارتكبت الجريمة في حقهم حسب الأحوال، وهنا تَدَخَّلَ المُشرِّع ، ووضع قيوداً على حقوق المتهم، ثم وضع مبادئ وشروطاً لتطبيق هذه القيود، حماية للمتهم، وحقوقه، وتخفيفاً من آثار القيود بحيث تكون هذه الاستثناءات بالحد الأدنى والضروري لتنسيق حقوق الأطراف .
المبحث الأول
تعريفات

المطلب الأول : تعريف قانون الإجراءات الجنائية


يقصد به مجموعة القواعد القانونية التي تبين كيفية متابعة المتهم من لحظة وقوع الجريمة أو الاشتباه وحتى صدور الحكم النهائي بالبراءة أو الإدانة وكيفية تنفيذ العقوبة . فهو يبين الأجهزة الجنائية التي تنفذه ودرجاتها واختصاصها (المحاكم والنيابة الجنائية والشرطة ). 
ويبين مرحلة جمع الاستدلالات والبلاغ والشكوى وفتح الدعوى الجنائية والتحري والتكليف بالحضور والإحضار والقبض والتفتيش ) وكيفية التصرف في الاستدلالات ويومية التحري وشطب الدعوى من النيابة أو رفعها إلى المحكمة للتقاضي .
ويبين الإجراءات الوقائية التي تتخذ لمنع وقوع الجريمة. كما يبين إجراءات المحاكمة بدءاً من استلام المحكمة للدعوى وختاماً بتفيذ الحكم ، بل يتجاوز ذلك بتحديد آثار الجريمة مثل سقوط الإدانة بالتقادم أو بالعفو من رئيس الجمهورية كما تنقضي العقوبة بالتقادم أو العفو، وشروط كل ذلك مبين في هذا القانون. 
فهو قانون شكلي ( إجرائي ) يبين الإجراءات التي تتخذ في تنفيذ القانون الجنائي من لحظة وقوع المخالفة أو الاشتباه وحتى تنفيذ الحكم وسقوط آثار الإدانة عبر المراحل المذكورة أعلاه .
علاقة قانون الإجراءات الجنائية بالقانون الجنائي :
فهو قانون إجرائي موضوع لتنفيذ القانون الجنائي، فلا يتحرك إلا بعد أن تحدث مخالفة للقانون الجنائي بأن يعتدي على قيمة اجتماعية عامة أو خاصة يحظر المجتمع عبر جهازه التشريعي الاعتداء عليها في القانون الجنائي أو أي قانون آخر مكمل للقانون الجنائي . والقانون الجنائي يظل ساكناً بعد وقوع المخالفة حتى يتحرك قانون الإجراءات الجنائية، ويبدأ بالتحري الأولي ثم فتح الدعوى وجمع الاستدلالات والمحاكمة، وبعد ثبوت الإدانة يتحرك القانون الجنائي بصدور العقوبة وتنفيذها . وحتى هذا يتم وفقاً للإجراءات المبينة وفقاً لهذا القانون. ومن ثم يمكننا أن نقول وبكل ثقة فهو بمثابة الدينمو أو الروح للقانون الجنائي. كما وأن القانون الإجرائي هذا موضوع لخدمة القانون الموضوعي ومن ثم تدب فيه الروح بعد الاعتداء على القانون الموضوعي إذاً كل منهما يأخذ حيويته من الآخر، فهما مرتبطان ببعضهما ارتباط الروح بالجسد ، وهما كشقي المقص لا يعمل أحدهما دون الآخر .
التطور التاريخي لقانون الإجراءات الجنائية في السُّـودان :
منذ دخول الإسلام وقيام الدويلات الإسلامية في السودان كانت المحاكم تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في كل نواحي الحياة ومنها الجنايات ، وكانت تتبع الإجراءات التي تحقق العدالة من غير أن تكون هناك إجراءات مكتوبة عدا الموجهات الموجزة المنتشرة في أوساط كتب الفقه في باب البينات أو الدعوى أو القضاء، والتي تبين كيفية الاستماع إلى الطرفين وكيفية النطق بالحكم وتنفيذه.
وهذه الموجهات ومنْحُ  القاضي الحرية في الإجراءات ليتبع ما يراه يحقق العدالة، كان كافياً في الماضي حيث لم يسمح بتولي القضاء إلاَّ لمن توافرت فيه شروط الاجتهاد أو اقترب من ذلك، وكذلك كانت الدعوى الجنائية شخصية، ومن ثم فهي في الأصل بين المعتدى عليه والمتهم بالاعتداء، وكذلك قلة أفراد المجتمع تؤدي إلى قدرة القاضي لجمع الاستدلالات عبر الخصوم .
وقد حدث تطور في العالم ، وضعف في تحصيل العلم فقرر علماء الاجتماع أن الجريمة موجهة إلى المجتمع وإن كان ضحيتها فرداً، ومن ثم وبناء على تضامن المجتمع يعد الاعتداء على أي فرد من أفراده اعتداء على المجتمع بأثره . ويمثل المجتمع في الدفاع عن قيمه وأفراده ضد المجرمين الدولة ، فأصبحت هي الشاكية ضد المتهم . كما وأن كثرة المجتمع أدت إلى كثرة المجرمين ومن ثم أصبح من الصعب على القاضي تغطية جميع الدعاوى، وحتى يخفف عليه في هذا الإطار كلفت الشرطة أو النيابة بجمع الاستدلالات للتأكد من أن الدعوى لها ما يسندها من الأدلة. فإذا رأت هذه الجهة أن الدعوى ليس لها ما يسندها شطبتها ولا ترفع إلى المحكمة ، وإنما يرفع إلى المحكمة الدعاوى الجنائية التي تشبه، وبمعنى آخر يرفع إلى المحكمة ما يؤمل فيه الإدانة ،  وهذا يؤدي إلى توفير وقت المحكمة بحيث لا يملأ بقضايا لا أمل على نجاحها لعدم كفاية الأدلة .
وفي السودان كانت المحاكم تشرف على عمل الشرطة في التحري وإجراءات الضبط منذ عام 1899م وحتى صدور قانون 1991م . وفي هذا القانون عقد هذا الاختصاص للنيابة كما سنبينه فيما بعد .
وإذا كانت قواعد الإجراءات متروكة لاجتهاد القاضي لوفرة علمه قد تغير الوضع لتغير الظروف التي ذكرنا من قبل فوضع المشرع القواعد الإجرائية المكتوبة وقصر اجتهاد القاضي في فهم النصوص المكتوبة موضوعاً وشكلاً .
وفي عام 1899م صدر أول قانون إجراءات جنائية في السودان باسم قانون تحقيق جنايات السودان بأمر من كتشنر قائد الحملة العسكرية ضد الثورة المهدية. ثم بدأ تطبيقه ممرحلاً بأوامر صادرة في هذا الشأن ، فكلما خضعت منطقة للحملة واستقرت الأوضاع فيها يمتد إليها تطبيق قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية، حيث قبل الاستقرار تخضع لظروف الحرب والقوانين العسكرية . وصدرت أوامر التعميم في التواريخ التالية : أكتوبر 1899م ، مارس 1901م، نوفمبر 1902م ، يناير 1906م ، حيث شملت كل السودان عدا مديرية بحر الغزال ثم الأمر الأخير في فبراير 1907م والذي عمَّمَّ العمل بهذا القانون في السودان بحدوده الحالية بما فيها بحر الغزال. ثم أعيد إصداره في عام 1925م بعد أن خضع للتعديلات بالزيادة والنقصان، ثم استمر مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة كلما كان ذلك ضرورياً حسب ظروف كل مرحلة .
والأصل فيه كان باللُّغة الإنجليزية التي صدر بها ، وكان مترجماً إلى العربية وتعطي فيه العربية دورها بقدر اتفاقها مع الإنجليزية، حيث وضع من الجهاز التشريعي بالأخيرة .
وفي عام 1974م صدر باللغة العربية وصارت فيه أصلاً ودخلته بعض التعديلات . وفي عام 1983م تم تعديل قانون العقوبات ليتسق مع الشريعة الإسلامية ويتمرد على أصله الهندي أو الإنجليزي فأدخلت فيه جرائم الحدود والقصاص وعدلت فيه بعض المواد فلزم من ذلك تعديل الإجراءات الجنائية، فتم تعديله ليتوافق مع تعديل العقوبات . وجدير بالذكر أن تعديل الدستور في أبوابه المتعلقة بحقوق الإنسان وتعديل قانون العقوبات يستلزمان في الغالب العام ، تغيير قانون الإجراءات الجنائية . ثم خضع لبعض التعديلات في عام 1986م بعد وصول الأحزاب للحكم. وفي كل هذه المراحل كانت تُمارس إجراءات مرحلة جمع الاستدلالات بواسطة الشرطة وبإشراف الجهاز القضائي وفي بعض الصور التي تعتبر فيها الشرطة طرفاً أو التي يحتاج الأمر فيها إلى وضع خاص اسند التحقيق الجنائي إلى قضاة أو لجنة يرأسها قاضٍ.
وأدخل النائب العام طرفاً في الدعوى له حق إيقاف الدعاوى الجنائية بقرار مسبب وفي مرحلة من مراحل التحري أو المحاكمة قبل صدور الحكم النهائي، وكان النزاع في هل هو قرار إداري أم قضائي ؟ ولم يكن للديوان أثر يذكر في سير إجراءات التحري والمحاكم غير هذا الحق المذكور أعلاه والذي أدخل في الأربعينات من القرن الماضي . وفي عام 1983م صدر قانون النائب العام وعدل في عام 1986م. وهذا القانون جعل مرحلة جمع الاستدلالات ورفع الدعوى الجنائية أمام المحاكمة حقاً خالصاً للنائب العام ومن يمثله من وكلاء النيابة.
وهنا ثار الجدل بين أهل القانون، وكانت مادته قانون الإجراءات الجنائية الذي يعطي هذا الوضع للشرطة بإشراف القضاء وقانون النائب العام الذي يعطي هذا الحق للنائب العام، وبعد ممارسة الجهات الأخرى لهذا الحق بالتوكيل أو بالإنابة . 
وهذا الوضع يرجع إلى أن القوانين الجنائية السودانية بمجملها تنتسب إلى القوانين الإنجليزية. 
وفي عام 1991م أدخلت تعديلات جوهرية في قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991م وهو القانون الحالي، فعدل بحيث يستوعب قانون النائب العام لعام 1983م المعدل في عام 1986م .
ومن هنا عقد الاختصاص أصالة في مرحلة جمع الاستدلالات للنائب العام ووكلاء النيابة ، وإذا مارست الشرطة هذه الإجراءات، تمارسها بالإنابة عن النيابة وبإشرافها ، وهو تحول جوهري جعل الشرطة تمارس هذا الحق بالإنابة بدلاً من أنها كانت تمارسه أصالةً، وبإشراف النيابة بدلاً عن القضاء، وأبعد القضاء عن هذه المرحلة تماماً إلا في صور استثنائية منها:
[1] تجديد الحبس لأكثر من ثلاثة أيام وإصدار أمر التفتيش العام .
[2] ممارسة إجراءات الضبط والتحري والإشراف عليها في حالة عدم وجود وكيل نيابة لحين حضوره .
وقد صدر هذا القانون الحالي في عام 1991م من المجلس الوطني الإنتقالي ووقع من رئيس الجمهورية ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 12/11/1991م وبما أنه ينص على أن يعمل به بعد شهر من نشره في الجريدة الرسمية فقد عمل به من 12/12 /1991م. وعدد مواده (213) مادة . وملحق به جدولان :
الأول : في الجرائم التي يجوز فيها التنازل الخاص عن الدعوى الجنائية.
الثاني : في الجرائم التي يجوز فيها القبض بدون أمر .
ويتكون هذا القانون من سبعة أبواب عناوينها كما يلي :
الباب الأول: أحكام تمهيدية .
الباب الثاني: الأجهزة الجنائية وسلطاتها .
الباب الثالث: الدعوى الجنائية والتحري فيها .
الباب الرابع: الإحضار والضبط والضمان .
الباب الخامس: المحاكمة .
الباب السادس: العفو وسقوط الإدانة والعقوبة .
الباب السابع: التشريعات الفرعية والنماذج .

المطلب الثاني : التعريف بالحق


الحق: هو استئثار شخص بقيمة معينة طبقاً للقانون. والقيمة قد تكون مالية وقد تكون معنوية، كالحق في وسلامة الجسم والحرية( ).
وبما أن الحق قُيَّد هنا بالقانون، وأن القيود الجنائية الواردة على حرية المتهم – كما سنعرف في حينه – تُعدَ قيوداً على حقه في الحرية، للادعاء باعتدائه على حق عام ، أو خاص ، من هنا لزم أن نسيح قليلاً مع علماء الاجتماع والقانون في أيهما الأصل : الحق أم القانون ؟ ثم أذكر بإيجاز، ملخص ما في الشريعة الإسلامية في هذا الموضوع وذلك في النقاط التالية : 

الحق والقانون :
اختلف علماء الاجتماع عامة ، وعلماء القانون خاصة في أيهما أسبق: الحق أم القانون ؟ وذلك لأن الحق يجعل الإنسان في مركز إيجابي ويمنح صاحبه الاستئثار والحرية، بينما يعد القانون قيداً على الحريات، فالإنسان حر، ولكن تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين، ولذا سميت وظيفة القانون بتنسيق الحريات . فمن ذهب إلى أن الأصل الحق وأن الاستثناء القانون ( القيود ) توسع في الحرية الفردية . ومنع التوسع في تقييد حرية الشخص، لأنه استثناء يظل في الحد الأدنى لحماية حريات الآخرين، أو قل لتنسيق الحقوق والحريات في المجتمع، وهؤلاء هم أصحاب المذهب الفردي أو الحريات الفردية .
وقد ذهب فريق آخر إلى أن الأصل القانون ولا ينشأ الحق إلا بقانون، ومن ثم الأصل عندهم الحظر، والاستثناء الإباحة ، وهؤلاء أصحاب المذاهب الجماعية مع تفاوت في درجات تطرفهم في هذا الباب.
وأصل هذا الخلاف مبني على خلاف آخر وهو : أن أصحاب المذهب الفردي جعلوا الحق هو المرتكز الأساس للقانون حيث أن الحق في رأيهم سابق للقانون، والإنسان يولد بحق وتسبق أهلية الوجوب الولادة، فالإنسان صالح لاكتساب الحقوق من لحظة الحمل به بشرط عام أن يولد حياً بينما لا تنشأ أهلية أدائه إلا بعد مرور أعوام على ولادته .
وافترضوا أن الإنسان الأول كان يعيش في عزلة تامة. ويتمتع بالحقوق من غير أن يتدخل الآخرون لتحديد ما يأخذ وما يدع ، ثم اختلط بالآخرين وعاش في مجتمع ، وخرج بذلك عن العزلة التي كان يعيشها، وترتب على عيشه في مجتمع تعارض المصالح أو الحقوق، فتنازل الناس عن بعض حقوقهم لفرد هو الرئيس لينظم لهم العلاقة الاجتماعية الطارئة على العزلة ، ومن ثم فليس للحاكم التدخل إلا بالقدر الضروري لتنظيم العلاقة الاجتماعية، وتدخله هو القانون استثناء لتنظيم الحقوق الموجودة أصلاً .
وذهب أصحاب المذاهب الجماعية بمختلف درجاتها إلى أن جميع الموجودات خلقت لمصلحة الجميع، ومن ثم لا يستأثر بها أحد دون الآخرين إلا بقانون، وعليه لا ينشأ حق للفرد بما في ذلك حق الحرية إلا بالقانون ، والأصل عندهم الحظر ، والاستثناء الإباحة ، ولعلهم لا يسلمون بالعزلة .
ثم ظهر متمردون على المذهبين السابقين بدعوى تخليص القانون من الأفكار الخيالية ومنها ـ في نظرهم ـ الحق حيث يرون أن فكرة عيش الإنسان الأول في عزلة، وفكرة تنازل المجتمع عن بعض حقوقه للحاكم ، وفكرة التمتع بالحقوق في فترة العزلة، كلها عبارة عن خيال ليس له ما يثبته في الواقع، بل أن الإنسان في رأيهم لم يعش في عزلة أبداً . ولذا استبدلوا فكرة الحق بالمركز القانوني ، فالمركز الذي يشغله الإنسان يكون إيجابياً إذا كان يأخذ أو يُلّزم الآخرين ، ويكون سلبياً إذا كان يُعطي أو يلزّم تجاه الآخرين . وذلك لأن الإرادات متساوية ولكن يكلف الشخص بعمل أو بالامتناع عن عمل لصالح غيره ، ومن هنا يكون المكلف في مركز سلبي، والمكلف لمصلحته، أو المستفيد من التكليف في مركز إيجابي( ).
وفي التحقيق أن فكرة المركز القانوني هي نفس فكرة الحق ولم تأت بجديد غير زيادة التعقيد .
الحقوق والقيود في الشريعة الإسلامية :
الشريعة الإسلامية لا تسلم لأي من الآراء الواردة أعلاه مع وجود بعض القواسم المشتركة بينها وبين ما ورد أعلاه وذلك للآتي :
[1] أن الإنسان الأول لم يعش في عزلة قطعاً ، فأول إنسان خلق هو آدم  ، وعاش في الجنة مع الملائكة ، ومع زوجته حواء ـ عليهما السلام ـ ثم مع ذريتهما فقد يقلَّ العدد ولكن ليس هناك عزلة .
[2] أن الحرية والقيد أو ( الحق والقانون ) جاءا معاً لآدم  في آن واحد، ولكن كانت الحرية أوسع ، قال تعالى:                                           [البقرة: 35]، فأباح لهما كل ما في الجنة وبحرية تامة وحظر عليهما شجرة واحدة . إذاً خوطب آدم  بالحرية والقيد في آن واحد وهو أبو البشر .
[3] مع ما ذكر أعلاه فقد اختلف الفقهاء في أيهما الأصل : الإباحة أم الحظر؟ ولكن لم يكن أساس اختلافهم ما سبق في أساس اختلاف علماء الاجتماع .
وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأصل الإباحة والاستثناء الحظر كما هو معلوم في مبادئ عامة في الأصول ومن أمثلتها: (البراءة الأصلية)، و(الأصل في التكاليف العدم)، و( الأصل براءة الذمة)، و(الأصل في التصرفات الإباحة). وقد ذهب المعتزلة البغداديون إلى أن الأصل الحظر( ).

المطلب الثالث : التعريف بالجريمة والتهمة والمتهم


الجريمة :
لا وجود للمتهم إلا بعد وجود الجريمة والتهمة بارتكابها ولذا وجب تعريف الجريمة، ثم التهمة، وأخيراً تعريف المتهم .
عُرّفت الجريمة في المادة (3) من القانون الجنائي السوداني في العام 1991م بما يلي: (جريمة تشتمل كل فعل معاقب عليه بموجب أحكام هذا القانون أو أي قانون آخر). 
وعرفها الفقهاء بقولهم: "محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو بتعزير".
والجريمة اعتداء على حق عام أو خاص . ومن ثم يقسها الفقهاء إلى كبائر وصغائر                               [النساء: 31]، وقال تعالى :                           [النجم: 33].
ويقسمها القانونيون حسب المدارس التي ينتمون إليها :
فأهل المدرسة اللاتينية يقسمونها إلى: جرائم، وجنح، ومخالفات. ويقسمها بعضهم إلى: جنح، ومخالفات. 
وأخذ بالتقسيم الأول القانون الفرنسي، والمصري، والبلجيكي، والعراقي. والتقسيم الثاني أقرته إيطاليا، وهولندا( ).
أما المدرسة الأنجلو أمريكية فتقسم الجرائم ابتداءً إلى قسمين: جرائم كبرى، وجرائم صغرى. 
ثم تقسم الجرائم الكبرى إلى ثلاثة أقسام هي: خيانات، وجنايات، وجنح.
ويرتب القانون الإنجليزي على هذا التقسيم آثاراً عدة ، من ناحية الاختصاص وكيفية رفع الدعوى واتخاذ الإجراءات، والتفرقة بين إجراءات المساهمة الجنائية، كذلك في القبض والتصالح ، والتعويضات المدنية .
وهذا التقسيم أيضاً موجود في قانون الولايات المتحدة الأمريكية لأنه مشتق عن الشريعة الإنجليزية ( العرف الإنجليزي ) .
ويترتب على هذه التفرقة ما يلي :
[1] القبض جائز في الجنايات ولكنه غير جائز في الجنح .
[2] القتل في سبيل القبض جائز في الجنايات بينما هو غير جائز في الجنح.
[3] المحاكمات في الجنايات : يجب أن يكون المتهم فيها حاضراً طيلة المحاكمات، بينما ليس ذلك ضرورياً في الجنح .
[4] يجوز الصلح في الجنح بينما لا يجوز ذلك في الجنايات( ).
والقانون الجنائي السوداني مصدره التاريخي قبل عام 1983م كان القانون الإنجليزي ومصدره المباشر القانون الهندي مما يجعله عضواً أساسياً في المدرسة الأنجلو أمريكية ، وبعد عام 1983م تحوَّل القانون السُّـوداني إلى الشريعة الإسلامية، ومع ذلك طبق بعقلية القانوني الذي تربى على المدرسة السابقة والتي طبقت لأكثر من ثمانين عاماً ، ففهمت وطبقت النصوص بذلك المفهوم فيما لا يتعارض مع النصوص الشرعية تعارضاً واضحاً .
ومع كل ما سبق فإن المشرع السوداني منذ عام 1899م وحتى آخر قانون في عام 1991م لم يقسم الجريمة، ولكن يراعي هذا التقسيم عند التطبيق العملي والتنظير العلمي .
التهمة :
عرفها المشرع السوداني في قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991م في المادة الخامسة بقوله : ( التهمة يقصد بها الإدعاء بارتكاب جريمة، مثل وتشمل أياً من فروع التهمة المركبة ). 
والتهمة قد تكون في مواجهة معلوم وقد تكون في مواجهة مجهول والإدعاء قد يكون في شكل بلاغ وهو مجرد إخطار جهات الاختصاص وقد يكون في شكل شكوى وهي حسب تعريفها في المادة الخامسة من قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991م : ( الشكوى يقصد بها الإدعاء شفاهة أو كتابة المقدم من شخص ارتكبت الجريمة في حقه أو في نطاق مسئوليته ) .
وتبدأ متابعة الجريمة في الغالب بمجرد الاشتباه بوقوع جريمة فيتطور ليصبح تهمة لها ما يسندها من الأدلة المبدئية التي يتوقع معها الإدانة ثم تتحول إلى جريمة تامة بعد ثبوتها أمام محكمة .
المتهم :
لم يعرف المشرع السوداني المتهم ، مع أن تعريف المتهم مهم للغاية، ولذلك سأورد تعريفه مستخلصاً من التهمة والجريمة والشبهة والدعوى الجنائية كما سأورد بعض التعريفات للمتهم عند الشراح مع التركيز على أهمية التعرف على المتهم، وذلك على النحو التالي : 
المتهم : الشخص المدعي عليه بارتكاب جريمة أو المشتبة في ارتكابه جريمة. أو هو الشخص المواجه بإجراءات جنائية بسبب ارتكابه ، أو الاشتباه في ارتكابه فعلاً قد يشكل جريمة .
ويشمل الشخص : الشخص الطبيعي بشرط أن يكون مؤهلاً للمساءلة الجنائية، كما يشمل كل شركة أو جمعية أو مجموعة من الأشخاص سواء كانت ذات شخصية اعتبارية أم لم تكن. وذلك وفقاً لتعريب الشخص الوارد في القانون الجنائي لعام 1991م في المادة الثالثة. ويلاحظ أن القانون هنا لم يشترط في الشركات والجمعيات ومجموعة الأشخاص الشخصية الاعتبارية، وذلك ليرتب العقاب على الأحزاب والتجمعات ذات الصبغة الاجتماعية أو السياسية حتى ولو لم تكن ذات شخصية اعتبارية، فمثلاً لو أن مجموعة من الأشخاص كونوا حزباً سياسياً محظوراً فلم تكن لحزبهم الشخصية الاعتبارية لعدم التسجيل ولكن يعاقبوا في شكل أفراد وتصادر الممتلكات المنسبة إليه.
وعرف المتهم أ. د عوض محمد عوض بما يلي : ( المتهم هو كل من تنسب إليه سلطة الاتهام ارتكاب فعل يعده القانون جريمة سواء بوصفه فاعلاً  أصلياً أو شريكاً )( ).
وتحقيق صفة المتهم مهمة للغاية فهي من جهة تلقي على عاتق من اتصف بها أعباء . وترتب له حقوقاً بالمقابل، ومن الأعباء تكليفه بالحضور، والقبض عليه بل وحبسه في ذمة التحقيق، وتفتيشه، والإطلاع على أسراره، بما في ذلك رسائله ومكالماته .
ومن حقوقه أن يطلع على كل ما يتخذ في شأنه فيطلع على ما يقدم في الدعوى من أوراق، ويحضر كل ما يتخذ فيها من اجراءات.
فواجباته تهدف إلى تيسير الوصول إلى أدلة الإثبات ومنعه من وضع العراقيل للحيلولة دون ذلك، وأما حقوقه فتهدف إلى كفالة حقه في الدفاع عن نفسه( ).
والمجتمع تهُمه مصلحة المتهم بوضع أكبر مما يهُمه عقاب الجاني، ومن ثم إفلات المجرم من العقاب أولى من عقاب برئ .
إذاً الاتهام هو إدعاء على حق أو مصلحة يحميها المجتمع بالقانون الجنائي أو أي قانون آخر ذي صبغة جنائية مكمل للقانون الجنائي مثل: قوانين مكافحة التهريب والتهرب من الضرائب والمخدرات وغيرها.
والدساتير في عمومها تمنح المواطنين حرية التصرف والتنقل، والتملك والتعبير ، والانتماء، وتمنع انتقاص هذه الحريات إلا بموجب قانون. والقانون في هذا الإطار يعد بمثابة منسق لهذه الحقوق أو الحريات.
وهذا الاستثناء على الرغم مما يتبادر من بساطته إلا أنه يترتب عليه هدم كل ما أُرسي من حريات . فما فائدة النص على الحرية ثم إتاحة الفرصة للأجهزة التشريعية المركزية ، والولائية بل والأجهزة التنفيذية وخاصة القوات النظامية لأن تقيد هذه الحريات بقوانين ولوائح معتمدة على هذا الاستثناء فترد القيود من الجهات المختلفة قيداً بعد آخر حتى لا يبقى من الحرية إلا اسمها وإذا بقى يكون استثناء بعد أن كانت الحرية أصلاً.
الخلاصة : 
[1] الحقوق التي تستحق حماية القانون في الجنايات واردة على سبيل الحصر في القانون الجنائي والقوانين المكملة له ، حيث لا يسمح بالتجريم والعقاب إلا بنص تشريعي ، ومن ثم لا يضار المتهم إلا إذا اتهم بالاعتداء على مصلحة يرى المجتمع حمايتها جنائياً سواء أكانت المصلحة عامة أم خاصة .
[2] الأصل براءة المتهم – كما سيأتي – ومن ثم لا يعتدي على حقوقه في مرحلة جمع الاستدلالات واستثناء من ذلك يجوز تقييد حريته بالقدر اللازم لمنع هروبه ، كما يجوز تفتيشه، وتكليفه بالحضور للإطلاع على ما يخفيه من أدلة الجريمة أو لتقديم أقواله أو المستندات التي بطرفه للوصول إلى الحقيقة المجردة.
[3] ولكل ما تقدم ، وضع المشرع السوداني مبادئ وشروطاً لحماية المتهم في مرحلتي جمع الاستدلالات والمحاكمة .

المبحث الثانيالمبادئ التي وضعها المشرع السوداني في المادة الرابعة لحماية المتهم


وضع المشرع السوداني في قانون الإجراءات الجنائية، وهو استثناء على الحريات الواردة في الدستور ومنفذ لتوجيه الدستور بعدم الاعتداء على الحريات والحقوق الدستورية إلا بقانون .
وبعد وضعه لهذه القيود على حرية التنقل والتصرف والسرية، وضع مبادئ وشروطاً لتخفف من وطأة القيود وتجعلها بالقدر الضروري لتنسيق المصالح وذلك :
أولاً: مبادئ عامة قصد منها حماية المتهم المادية والمعنوية بصفة عامة في المادة الرابعة منه .
ثانياً: وضع شروطاً للممارسة عند تطبيق الاستثناءات قصد بها أيضاً حماية حق المتهم، وعدم التعرض له بما يزيد عن الحد الأدنى لتنسيق المصالح.

المطلب الأول : مبدأ لا تجريم ولا جزاء إلا بنص تشريعي سابق

هذا النص استوعب قاعدتين من قواعد الجنايات الأساسية .
القاعدة الأولى : لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص :
( هذه القاعدة من مواليد الثورة الفرنسية ، نص عليها إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789م في مادته الثامنة)( ). 
وهي تقرر أصلاً عاماً مؤداه الأصل الإباحة والاستثناء الحظر، فالإنسان يمارس نشاطه اليومي ويرعى مصالحه ، وهي قد تتعارض مع مصالح الآخرين في المجتمع، وبموجب هذا النص يعد مأذوناً له في رعاية مصالحه، وإن تعارضت مع مصالح الآخرين على الأقل على المستوى الجنائي ما لم يكن هناك نص بالمنع .
والحظر غير كاف لمساءلة الإنسان عن نشاطه جنائياً ما لم يشفع بالعقاب فلا معنى للتجريم من غير تحديد عقاب .
والفقه الإسلامي لا يفاجئ المكلف بتجريم فعل قد أتاه مباحاً ليعاقبه عليه بأثر رجعي، قال تعالى                   [الإسراء: 15]، وقال تعالى                                   [الإسراء: 16]، فالأمر أولاً ثم إذا فسق المأمور بالخروج عن الطاعة كانت العقوبة وهي هنا التدمير.
ولكن الأفعال المجرمة التي لم يوضع لها عقاب شرعي محدد ، كان لولي الأمر أو القاضي أن يعاقب عليها بما يراه مناسباً ولا يشترط فيها تحديد العقوبة مسبقاً، وهذا مبني على أنَّ الولاية العامة والقضاء لم يكن يتولاهما إلا من توافرت فيه شروط الاجتهاد .
وأما في زماننا هذا وبعد أن ضعفت الهمم وتولى الولاية العامة، والقضاء من لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد انتقل الناس إلى الاجتهاد الجماعي المؤسس على التخصصات وقامت بمهمة التشريعات المجالس التشريعية بالإنابة عن ولي الأمر والمجتمع وهو في غالبه اجتهاد اختيار، ووجب على القاضي الالتزام بما أقره هذا المجلس، ومن ثم ليس من حقه أن يعاقب إلا على جرم حددت عقوبته مسبقاً.وأرى أن هذا يوافق قواعد الشريعة الغراء عامة ومن ثم يطلق عليه أنه حكم شرعي ملزم،  ولا يعاب ما كان عليه أسلافنا من إطلاق يد القاضي ليعاقب بما يراه مناسباً، كما لا يعاب ما صار إليه أمرنا في زماننا هذا فلكل زمان وضعه وظروفه.


القاعدة الثانية : 
هي قاعدة تطبيق القانون الجنائي بأثر فوري بعد صدوره أو بأثر متراخ،  ولا يجوز أن يطبق بأثر رجعي – لا في التجريم ولا في العقاب – واستثناء من ذلك يجوز رجوعه إذا كان هو الأصلح للمتهم ، أو كان شكلياً ولم يؤثر على مصلحة المتهم موضوعياً ، وهذا يناسب الشريعة الإسلامية في التجريم أما في العقاب فكان محل نظر وقد وضحته في القاعدة السابقة.
وهذا المبدأ العام وضعه المشرع ليحمي به حرية الأفراد، حتى لا يواجه الإنسان بالاتهام بناء على المزاج الشخصي للقائمين على أمر الاتهام، فبموجب هذا النص لا نستطيع أن نحرك أي إجراء في مقابل الشخص مهما رأينا خطورة تصرفه ما لم يمنع القانون هذا التصرف فلا تجريم ولا عقاب بالقياس أو بالتقدير وإنما يكون ذلك بالتشريع فالجهاز التشريعي الذي ينوب عن المجتمع في هذا الإطار هو وحده الذي يقرر ما إذا كانت هذه المصلحة تحتاج إلى حماية أم لا؟

المطلب الثاني : مبدأ المتهم برئ حتى تثبت إدانته وله الحق في أنيكون التحري معه ومحاكماته بوجه عادل وناجز


هذا النص ذهبي في حماية المتهم، في مرحلتي جمع الاستدلالات والمحاكمة، وقد اشتمل على قاعدتين هما :
القاعدة الأولى :  أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فوق الشك  المعقول. ثم يكون في مركز متقدم ، فلا يطالب بإثبات براءته وهذا لا ينافي ما يطلب من المتهم من بينات الدفاع التي ترُد أو تدحض بينات الاتهام مثل : من يثبت وجود بصماته على الخزانة المسروقة فيُثبت سبباً مشروعاً لوجودها ، والكلام هنا عن الثبوت. وأما مستوى الثبوت في الجنايات فلا بد أن يكون فوق الشك المعقول ومتى ظهر شك معتدل فسر لمصلحة المتهم .
وبما أن المشرع قد افترض افتراضاً بسيطاً قابلاً لإثبات العكس بأن المتهم برئ فيجب على كل الجهات الرسمية والشعبية التي تتعامل معه استصحاب هذا المعنى .
القاعدة الثانية : أن يكون التحري معه ومحاكمته بوجه عادل وناجز،  ومن العدالة أن لا تطبق عليه القيود الواردة في هذا القانون في حرياته وتصرفاته وأسراره إلا بالحد الأدنى والضروري لتنسيق المصالح وذلك لأن مصلحة المجتمع قد تقتضي التضييق عليه ومصلحته تقتضي عدم المساس بأي من حقوقه وبعد الاتهام يجوز تقييد بعض حرياته وتصرفاته ولكن بالقدر الضروري والحد الأدنى الذي يقتضيه الأمر .
ومن العدالة سرعة البت في الموضوع حتى لا يضار بالانتظار مع تقييد حريته في نفسه وماله ، فقد يكون محبوساً في ذمة التحقيق أو في  انتظار محاكمة وقد يكون مفرجاً عنه بضمان أو كفالة مالية أو تعهد أو حظره من السفر والانتقال .
ولكن يجب أن لا تكون السرعة هي الأخرى على حساب العدالة فالمطلوب : السرعة والعدالة معاً .

المطلب الثالث : مبدأ حظر الاعتداء على نفس المتهم وماله ، ولا يجبر المتهم على تقديم دليل ضد نفسه ولا توجه إليه اليمين إلا في الجرائم غير الحدية التي يتعلق بها حق خاص للغير

هذا النص تضمن ثلاث قواعد لحماية المتهم وهي :
القاعدة الأولى :  يحظر الاعتداء على نفس المتهم وماله وذلك لأن المتهم برئ ومن ثم لا يحل الاعتداء على نفسه وماله .
وهذه ضمانة كبرى قعدها المشرع لحماية المتهم ، فهو لا يجيز الاعتداء على المتهم في نفسه مادياً ومعنوياً ، فلا يجوز ضربه بأي حال ومهما كانت الأسباب ولا يجوز تهديده واستثنى المشرع من هذا تقييد حريته بالقبض عليه وحبسه إذا تطلب الأمر ذلك، ولكن لهذا الاستثناء شروطاً تقلل من آثاره في موضعه فهذا لا يعد اعتداء وإنما تنفيذ للقانون .
كما أجاز القانون تقييد حرية المتهم في تصرفاته المالية بوضع كفالة مالية أو بمنع تصرف في مال معين إذا لزم الأمر ولكن أيضاً بشروط سأعرض لها في موضعها وهذا أيضاً لا يعد اعتداء على المال وإنما تنفيذ للقانون .
وإذا ثبت هذا فما نراه ونسمع عنه مما يحدث في مراكز الشرطة فمصدره ليس القانون وإنما تصرف شخصي من بعض القائمين عليها .
والشرطة لا تقره، بل إذا ثبت لديها شيء من هذا القبيل تعرض فاعله للمساءلة القانونية وسوابق رجال الشرطة الذين خضعوا للمحاكمة عندما ثبت عليهم الاعتداء على المتهم بما يصل إلى درجة الإعدام تشهد بذلك ومنها سابقة قانونية تتلخص في أن المجني عليه قطع خط مياه بين الصهريج والحلة وهو يعمل بصناعة الطوب النيئ ففتح بلاغ في مواجهته من لجنة القرية وتم تكليف المتهم وهو شرطي بإحضار المجني عليه باعتباره متهماً في البلاغ الأول ومعه أمر قبض صادر من المحكمة. وعندما طلب منه الذهاب معه إلى المحكمة رفض، فأمسك بيده ليجره منه فجر منه يده وعندما أراد الحضور التدخل منعهم الشرطي وقال لهم أبعدوا عنا ثم تراجع خطوتين واستخرج مسدسه وأطلق منه طلقة مباشرة أصابت المتهم في رأسه فأرداه قتيلاً، ثم أحضره إلى المحكمة ميتاً. ففتح بلاغ بالقتل العمد وأدين فحكم عليه بالإعدام وأيد الحكم ولم تتدخل الشرطة .
القاعدة الثانية : لا يجبر المتهم على تقديم دليل ضد نفسه. فلا يجبر ولكن عدم الجبر لا يمنع أن يتبرع بالأدلة من تلقاء نفسه، كما لا يمنع أن يطلب منه الإدلاء بالحقائق من غير إكراه فالممنوع إكراهه وإجباره .
والإسلام أيضاً لا يجبره أداء الشهادة ضد نفسه ولكن يحثه عليها .
القاعدة الثالثة :  لا توجه إليه اليمين إلا في الجرائم غير الحدية التي يتعلق بها حق خاص للغير.
وهي استكمال للقاعدة السابقة ، فتوجيه اليمين إجبار على تقديم دليل ضد نفسه فإذا كان قد ارتكب الجريمة وسئل عنها من غير يمين فقد يتحاشى الإجابة المباشرة وقد يطلب إعفاءه من الإجابة إذا كانت تؤدي إلى إدانته، ولكن إذا وجهت إليه اليمين فهذا إجبار معنوي حيث لا يستطيع أن يجيب بغير الحقيقة وعدم الإجابة يعد نكولاً وهو دليل إثبات، فاليمين في الجنايات توجه إلى المدعي أو الشاكي وتوجه إلى الشاهد ولكنها لا توجه للمتهم .
وقد استثنى المشرع حالة خاصة يوجه فيها اليمين إلى المتهم وذلك إذا كانت الدعوى الجنائية بالاعتداء على حق خاص في غير الحدود مثل: دعاوى الشيكات والسخرة والاحتجاز غير المشروع فإنها دعاوى أشبه بالدعاوى المدنية ومعلوم أنه يجوز توجيه اليمين إلى المدعى عليه في الدعاوى المدنية .
وفي الشريعة الإسلامية يجوز توجيه اليمين إلى المدعى عليه فيما هو مال أو آيل إلى مال، قال  ( البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)( ).
كما أجاز الفقهاء القسامة وهي يمين يستحق بها القصاص أو الدية. فإذا أقسمها أولياء الدم استحقوا القصاص والدية، وإذا ردت على المتهم. فإن حلفها برئ وإن نكل اعتبر نكوله اعترافاً ، وسأعقد لها بحثاً خاصاً إن شاء الله.

المطلب الرابع : مبدأ ( يراعي الرفق كلما تيسر في إجراءات التحري والاستدعاء ولا يلجأ لممارسة سلطات الضبط إلا إذا كانت لازمة )

وهذا هو النص الأخير في القواعد العامة التي وضعت لحماية المتهم، وكأن المشرع يقول لوكلاء النيابة والشرطة منحتكم سلطات الضبط عند الضرورة لتقيدوا بها حقوق وحرية المتهم أو المشتبه فيه ولكن لا تلجأوا لاستعمالها إلا عند الضرورة القصوى وعندها استعملوها بالرفق والتيسير. فمن لجأ إلى سلطات الضبط مع إمكان اللجوء إلى غيرها يعتبر مخالفاً لهذا القانون.
ويقصد بسلطات الضبط القبض والتفتيش والحبس في ذمة التحقيق، وحجز المال أو منع التصرف فيه وتحديد الإقامة وحظر السفر.

المطلب الخامس : مبدأ ( تستخدم اللُّغة العربية في جميع الإجراءات الجنائية ويجوز عند الضرورة استخدام لغة أخرى )

فالجزء الأخير من هذا النص موضوع لحماية حق المتهم وذلك لاتخاذ كل الإجراءات باللغة التي يفهمها حتى يستوعب كل ما يدور حوله. فإذا لم يكن يفهم اللغة فتترجم له الإجراءات إلى اللغة التي يفهمها بل حتى ولو كان يعرف العربية ولكنه لا يفهم المصطلحات والإجراءات التي تتخذ ضده فتبسط له الإجراءات والكلمات حتى يفهم ما يدور حوله ليستطيع أن يؤسس دفاعه بصورة صحيحة( ).

المبحث الثالث
الشروط التي وضعها المشرع ضماناً لحماية المتهم عند ممارسة سلطات الضبط والاستدعاء

المطلب الأول : فتح الدعوى والتحري

يعد فتح الدعوى من أهم القيود التي توضع على حرية المتهم ففتح الدعوى هو المدخل الطبيعي والباب الرئيس الذي تدخل منه كل القيود الأخرى. ولذلك وضع المشرع شروطاً لفتح الدعوى وضوابط للتحري فيها ضماناً لحرية المتهم وتخفيفاً لآثار الاستثناءات ومن أهم هذه الشروط والضوابط ما يلي :
[1] التحري الأولي: 
وجه المشرع الشرطة والنيابة بإجراء التحري الأولي إذا لم تكن التهمة من تهم التلبس التي يغني وضوحها عن التحري عنها . والتحري الأولي يقصد به (التحري الذي يقع قبل فتح الدعوى الجنائية للتأكد من صحة الشبهة 
بجريمة)( ). فهو جمع للاستدلالات قبل تدوين الدعوى للاستيثاق .
ويشمل تحليف الشاكي أو المبلغ على صحة شكواه أو بلاغه وأن كل ما أدلى به صحيح ، وكل ذلك حتى لا تفتح دعوى ضد معلوم أو مجهول إلا بعد الاستيثاق بأن عليها أدلة مبدئية يؤمل معها على الإدانة لننقل بها شخصاً ما، من شخص عادي حرٍّ إلى متهم عليه بعض الاستثناءات على حريته على الرغم من افتراض براءته حتى تثبت إدانته فوق الشك المعقول.
[2] فتح الدعوى: 
قسم المشرع الجرائم الواردة في القانون الجنائي السوداني لعام 1991م إلى قسمين : قسم أجاز فيه للشرطة فتح الدعوى مباشرة دون الرجوع إلى النيابة كما أجاز لها فيه القبض دون إذن مسبق بذلك من النيابة أو القضاء وذلك في معظم حالات التلبس والجرائم التي يؤثر فيها التأخير تأثيراً ضاراً بالعدالة. ومع ذلك حماية لحق المتهم ألزمهم بإخطار النيابة خلال أربع وعشرين ساعة واتباع توجيهاتهم، وإلا اعتبر اعتقالهم غير مشروع مما يجعلهم عرضة للمساءلة الجنائية. وكل ذلك لحماية المتهم وحقوقه .
وقسم جعل اختصاص فتح الدعوى والقبض فيه للنيابة، فمنع الشرطة من اتخاذ أي إجراءات جنائية فيه إلا بواسطة النيابة وفي حال غياب النيابة عن الدائرة انعقد الاختصاص للقضاء فإن لم يوجد فللشرطة بصورة استثنائية( ). 
[3] حظر التأثير على التحري : 
أوجب المشرع السوداني على المتحري أو المشرف على الدعوى الجنائية أن يتنحى عنها إذا كانت تربطه بها أي علاقة أو مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا أيضاً لحماية حقوق المتهم والمعتدي عليه إذ يتصور أن تكون العلاقة بالدعوى سالبة أو موجبة حتى لا يكون هو الخصم والحكم . كما حظر المشرع التأثير على التحري بالإكراه أو الإغراء أو الجاه أو غيره وذلك حسب نص المواد ( 40 ،43 ) من قانون الإجراءات الجنائية.
[4] الاستدعاء :
 أوجب المشرع أن يكون الاستدعاء واضحاً في مضمونه يحدد مكان وزمان الحضور، ويكون مكتوباًَ يسلم منه المستدعي نسخة ويوقع على الأخرى بالاستسلام ويكون التسليم بواسطة موظف عام موكل بذلك.
ولا يلجأ إلى طرق الإعلان البديل إلا استثناء لعدم العثور على المستدعى في مظانه أو تهربه من استلام الإعلان( ).
[5] توجيه التهمة : 
بعد البدء في التحري وجمع المعلومات حول المتهم وعلاقته بالتهمة قد تصل جهات التحري إلى ضعف الأدلة وعدم كفايتها للإدانة ومن ثم تشطب الدعوى . وقد تقتنع بأن للتهمة ما يسندها من الأدلة وأن علاقة المتهم بالتهمة المعنية قوية بحيث يمكن تأسيس الإدانة عليها حسب الأدلة المبدئية المتوفرة عبر التحري، وعندها تتخذ قراراً بتوجيه التهمة إلى المتهم ويكون القرار مكتوباً ويبلغ به المتهم ويبين له سببه ، وهو قرار يتيح الفرصة للاستمرار في تقييد حرية المتهم، ولذا أوجب المشرع على النيابة أن تخطر المتهم بحقه في استئناف هذا القرار، فإذا استأنفه وجب إيقاف إجراءات التحري، لحين صدور قرار الاستئناف فإذا أيد بدأ التحري وإذا شطب كان بمثابة شطب للتهمة.

المطلب الثاني : ضمان حق المتهم مع إجراءات القبض والحبس

القبض والحبس يمثلان قمة الاستثناءات على الحرية الفردية بعد أن يوصف الشخص بأنه متهم . والأصل أن يكون القبض بعد فتح الدعوى الجنائية واستثناء من ذلك قد يكون قبل فتح الدعوى مثل حالات التلبس فإذا وجد الشرطي شخصاً يضرب آخر أو يسرق متجراًً يقبض عليه ليحضره إلى مركز الشرطة ثم يفتح الدعوى وهذا القبض السابق لفتح الدعوى تعارفوا على تسميته بالاستياق والذي قد ينتهي بإطلاق سراح المستوقف وقد ينتهي إلى فتح الدعوى وحبس المتهم حسب الأحوال .
[1] الشروط والضمانات التي وضعت لحماية المتهم عند إجراءات القبض:
[أ] أجاز للشرطة القبض المباشر على المتهم في بعض الجرائم ودون الرجوع إلى النيابة أو القضاء، ومع ذلك أوجب عليهم أن يكون الاحتجاز في مركز الشرطة وأن تسجل البيانات عن المتهم وسبب القبض ومكانه وزمانه ومن نفذه في دفتر معد لهذا الغرض في المركز كما أوجب عليهم إبلاغ النيابة بالقبض في خلال أربع وعشرين ساعة من القبض .
[ب] في غير حالات الجدول الثاني أوجب المشرع أن يكون القبض بأمر صادر من النيابة أو القضاء ، وهؤلاء لا يصدرون الأمر بالقبض إلا بعد التأكد من أن الحالة تستدعي ذلك فلا يصدرون أمر قبض مع إمكان معالجة الحالة بالاستدعاء وفي هذه الحالة أجاز أن يكون الأمر شفاهة إذا كان المتهم حاضراً ولكن يسجل في المحضر. والأصل أن يكون كتابة .
وإذا لم يكن المتهم حاضراً وجب أن يكون الأمر كتابة وبالشروط والمواصفات التالية : يكتب فيه اسم المتهم وسبب القبض وإذا كان لسبب مال فيكتب فيه المبلغ الذي لو دفعه يفرج عنه ، ويكتب فيه اسم الشرطي الذي يكلف بتنفيذه وقد يوجه لأكثر من شرطي ولكن يجب وجود أسمائهم في أمر القبض ومع كل منهم صورة من أمر القبض وعليه ختم وتوقيع الجهة التي أصدرته .
يجوز أن ينفذ أمر القبض شرطي آخر غير الذي وجه إليه ولكن يجب عليه أن يسجل اسمه على ظهر ورقة أمر القبض . وكل ذلك حتى لا يقوم بالقبض من ليس معه سبب قانوني لإجراء القبض فهذه ضمانات لعدم التعرض للأفراد إلا بأسباب قانونية واضحة .
[ج] عند تنفيذ أمر القبض يجب على من ينفذه إطلاع المقبوض عليه على أمر القبض ، ليعلم الجهة التي أصدرته وسببه ، والمكان والزمان الذي يطلب حضوره فيهما .
كما يجب أن يتعرف على الشخص الذي ينفذ أمر القبض باسمه والجهة التي يتبع لها وكما سبق بيانه فإن اسمه ورتبته موجودان في الأمر إما أصالة وإما بتظهيره الأمر بذلك .
[د] إذا كان أمر القبض خارج دائرة اختصاص الجهة التي أصدرته فلا يتم تنفيذه إلا بعد عرضه على جهة الاختصاص وأخذ الإذن اللازم منها.
[هـ] في كل الأحوال يجب إخطار النيابة أو المحكمة بحالات القبض التي تمت في دائرتها سواء بأوامر صادرة منها ، أو بأوامر صادرة من دائرة أخرى ومنفذة في دائرتها أو كان القبض وفقاً للجدول الثاني من هذا القانون والذي يجيز للشرطة القبض في بعض الجرائم على سبيل الحصر دون إذن مسبق ويكون الإخطار في مدى مدة أقصاها أربع وعشرون ساعة وهذا أيضاً ضمان لحقوق المتهم( ).
[2] الشروط والضمانات لحماية المتهم عند حبسه للتحقيق أو انتظار المحاكمة:
في الفقرة السابقة تحدثنا عن القبض وهو ينتهي بإفراج بضمان أو من غير ضمان وقد ينتهي بالحبس المؤقت وسيكون الحديث هنا عن ضمان أن يكون الحبس بالحد الأدنى اللازم لتنظيم الحقوق والأولويات بين الأفراد والجماعات على النحو التالي :
[أ] يجب أن يحضر المقبوض عليه فوراً إلى النيابة أو القاضي الذي أصدر أمر القبض ليتخذ ما يراه مناسباً، وإذا تم القبض بواسطة غير شرطي فيجب إحضار المقبوض عليه إلى مركز الشرطة، فإذا انتهى الأمر بالحبس فيجب أن يكون في مركز الشرطة ، ولا يجوز أن يكون في أي مكان أخر ثم يحول إلى السجن العام للحبس فيه في انتظار إكمال إجراءات التحري أو المحاكمة حسب الأحوال .
[ب] لا يجوز للشرطة أن تحبس المتهم لأكثر من أربع وعشرين ساعة ثم تحوله إلى النيابة والتي يجوز لها تجديد الحبس لمدة لا تتجاوز ثلاثة أيام ثم تحوله إلى المحكمة والتي تختص بتجديد الحبس لأكثر من ثلاثة أيام بضوابط وشروط إذا اقتضى الأمر ذلك . والمحكمة لا تجدد الحبس إلا إذا كانت هناك ظروف تقتضي تقييد حرية المتهم وهذا كله لحماية حق المتهم بحيث لا يتعرض لأكثر مما يقتضي تنظيم الحقوق .
[ج] يجب إخطار ذوي المحبوس أو من يعمل معهم ، وله الحق في أن يتحصل على قدر معقول من المواد الغذائية والثقافية والملابس على نفقته مع مراعاة الشروط المتعلقة بالأمن والنظام العام ، كما وأن الدولة ملزمة بإعاشته بالحد الأدنى وعلاجه في فترة الحبس .
[د] يعامل المقبوض عليه معاملة تحفظ كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً ولا يُعرض لأكثر مما يلزم لمنع هربه . وله الحق في الاتصال بمحاميه أو وكيل النيابة أو القاضي .
[هـ] وعلى وكيل النيابة والقاضي المختص المرور اليومي على الحراسات والسجن الذي يحول إليه المحبوسون للوقوف على أحوال المحبوسين والاستماع إلى تظلماتهم . والاطمئنان على أنهم محبوسون وفقاً للقانون ويعاملون أيضاً وفقاً للقانون( ). 
وكل الذي سبق في هذه الفقرات الخمس وضعه المشرع ليحمي به حرية الأفراد في وسط الجماعة ولحماية المتهم من أن تتعرض حريته وحقوقه لأكثر مما يلزم في إطار اتصافه بالمتهم ولتأكيد أن حبس المتهم ليس عقوبة وإنما هو ضمان لعدم هروب المتهم بعد أن ارتكب الجريمة كما وأنه تأكيد على أن المتهم في مرحلة بين مرحلتين فهو ليس بالفرد العادي البريء تماماً وليس بالمجرم المدان ولذا يطلق سراحه بضمان مالي أو تعهد بالحضور أو بكفالة غيره إذا توافرت شروط معينة وقد يتحول من الحبس إلى مراقبة الشرطة ومن حقه أن يسمع لاعتراضه ويدون كما يجوز حظر سفره خارج دائرة الاختصاص إلا بموافقة النيابة أو المحكمة حسب الأحوال .

المطلب الثالث : ضمان حق المتهم عند التفتيش

التفتيش إهدار لحرية الأسرار فهو يؤدي إلى الإطلاع على أسرار الجهة التي يتم تفتيشها ويلجأ إليه استثناء للحصول على الأدلة الجنائية فهو يمارس في خدمة التحري أو جمع الاستدلالات الجنائية وهو لا يمارس في حق المتهم فقط وإنما يشمل غير المتهم فحين يتم تفتيش المنزل أو المكتب فقد يسفر التفتيش عن أدلة جرائم أخرى لم تكن في الحسبان ولم يكن لها علاقة بالمتهم الأول وإنما أنتجت متهماً أو متهمين جدداً اطّلع على أسرارهم بوضع قانوني موجه لغيرهم.
والمشرع السوداني وضع شروطاً لممارسة هذا الاستثناء تعد بمثابة ضمانات قوية لأن لا يفلت جان وأن لا يضام برئ وتتمثل هذه الشروط فيما يلي : 
[أ] التفتيش الخاص لمكان معين أو شخص بعينه يختص بإصداره كل من وكيل النيابة والقاضي ، والأصل أن يكون مكتوباً يحدد فيه المكان أو الشخص وسبب التفتيش ويجوز أن يكون شفاهة إذا كان بحضور القاضي أو وكيل النيابة المختص .
[ب] يجوز للشرطي تفتيش الشخص المقبوض عليه أو من تقوم في مقابله شبهة. وإذا كان الذي يتم تفتيشه امرأة وجب على من ينفذ أمر التفتيش أن ينتدب لها امرأة .
[ج] التفتيش العام لأمكنة أو أشخاص تختص بإصداره المحكمة بعد التأكد من ضرورة إجرائه حيث تزيد نسبة إهدار قيمة حرية الأسرار في التفتيش العام.
[د] يجري التفتيش وفقاً للضوابط التالية :
[1] يجري التفتيش بحضور شاهدين عدلين يفضل أن يكونا من أقاربه أو من جيرانه يحضران كل وقائع التفتيش ويوقعان على الكشف الذي سجل فيه ما أسفر عنه التفتيش .
[2] يحضر المتهم التفتيش ويسمح لشاغل المحل حضور التفتيش .
[3] كل ما أسفر عنه التفتيش من أدلة يسجل في كشف يوقع عليه الشاهدان، ومن نفذ التفتيش ويعطى المتهم صورة منه .
[4] تعرض الموجودات فوراً على وكيل النيابة لاتخاذ ما يراه مناسباً بشأنها، وتحفظ المستندات في مكان آمن ويمنح صاحبها صوراً منها بتوقيع وكيل النيابة إذا كانت له فيها مصلحة عاجلة كالرخصة مثلاً( ).

الخاتمة

[1] تبين من البحث أن القيود الواردة في قانون الإجراءات الجنائية قيود ضرورية لحماية مصالح المجتمع والأفراد .
[2] أن الفرد بمجرد وصفه بالمتهم ينتقل من مرحلة الحرية الكاملة إلى مرحلة جديدة تلقي عليه ببعض الأعباء .
[3] وضع المشرع في قانون الإجراءات الجنائية بجانب القيود الواردة على حرية المتهم الشروط والضوابط التي تجعل هذه القيود بالحد الأدنى والضروري ومن ثم تعد ضمانات لحقوق المتهم بأن لا يعتدي على حريته بأكثر مما يلزم .
[4] على الرغم من كثرة هذه الضمانات يتعرض بعض المتهمين لانتهاك حقوقهم وذلك لسببين:
[أ] أن معظم أفراد المجتمع غير مدركين لحقوقهم ومن ثم لا يعلمون شيئاً عن هذه الحقوق والضمانات .
[ب] الذين يقومون بتطبيق هذه الإجراءات أفراد الشرطة وفي الغالب العام هم ضباط صف وجنود وهؤلاء ثقافتهم عن حقوق الإنسان وكرامته ضعيفة فإذا أردنا أن يحمي لنا هؤلاء حقوق المتهم بنفس قوة حمايتهم لحقوق الجماعة فلابد من أن نزودهم  بالأخلاق الدينية السمحة التي تمنع المتصف بها من أن يظلم الآخرين لأنه يعلم أن الظلم ظلمات يوم القيامة وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب كما ولابد أن نزودهم بثقافة حماية حقوق الإنسان وكرامته حتى تجري منهم مجرى الدم وتكون ملكة عالية في ذلك.

.. وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل ..


تعليقات