القائمة الرئيسية

الصفحات



دراسات مقارنة: تراجع بعض المبادئ التقليدية في القضاء الإداري الفرنسي

دراسات مقارنة: تراجع بعض المبادئ التقليدية في القضاء الإداري الفرنسي




الموضوع: دراسات مقارنة: تراجع بعض المبادئ التقليدية في القضاء الإداري الفرنسي

دراسات مقارنة: تراجع بعض المبادئ التقليدية في القضاء الإداري الفرنسي: مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة، و مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية ما لم يوجد نص يوجب ذلك

      الدكتور خليفة سالم الجهمي

  

مقدمة :

         من المعلوم أن القانون باعتباره أحد العلوم الاجتماعية يتطور تبعا لما يطرأ على المجتمعات الإنسانية من مستجدات في شتى المجالات فهو انعكاس لما يسود فيها من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية ، وفي ظل تنامي منظومات حقوق الإنسان وتعاظم دور الضمانات القانونية للنفاذ إلى القضاء وتوفير متطلبات المحاكمة المنصفة ، والتوجه نحو إرساء مبادئ الشفافية الإدارية ([1]) وديمقراطية الإدارة ([2]) ، وبزوغ فجر الإدارة الإليكترونية في عصر ثورة المعلومات والإنترنت ، بدأت مع نهايات القرن العشرين تهل في فرنسا تباشير التراجع عن بعض المفاهيم القانونية التي كانت تحكم مسيرة القضاء الإداري ردحا من الزمن منذ إنشاء مجلس الدولة الفرنسي عام 1872 من ميلاد المسيح عليه السلام ([3]) ، فلم يعد ممكنا التمسك بمبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة أو الحلول محلها ، بعد أن أصدر المشرع الفرنسي القانون رقم 539/1980 بتاريخ 16/7/1980 وما تلاه من تعديلات ، إذ غدا باستطاعة القاضي الإداري أن يوجه أوامر للإدارة بل ويفرض عليها غرامات تهديدية لضمان تنفيذ قراراته وأحكامه ، كما بات من غير المقبول التذرع بمبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية ما دام لا يوجد نص يوجب هذا التسبيب  منذ أن استن المشرع الفرنسي القانون رقم 587/1979 في تاريخ 11/7/1979 

بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور المعدل بالقانون رقم 76/1986  إذ أصبح الأصل في القرارات الإدارية الفردية الصريحة هو وجوب تسبيبها ، وهذا العدول عن المبادئ الراسخة في مسيرة القضاء الإداري الفرنسي يمثل انقلابا جذريا وتراجعا حقيقيا عن مفاهيم قانونية سادت ردحا من الزمن ، وهو ما عبر عنه الفقيه الفرنسي دراجو قائلا بأننا قد أصبحنا أمام قاضي إداري جديد ، وسوف نحاول في هذه المقالة الموجزة أن نلقي نظرة سريعة على هذا التجديد في المبادئ والمفاهيم القانونية لعله يكون محفزا لمزيد من الدراسات والأبحاث في هذا المضمار ، ومؤشرا للاستفادة منه عند النظر في إصلاح نظمنا الإدارية وأوضاع قضاءنا الإداري بما يتمشى مع بيئة وظروف مجتمعنا الليبي .



 ( أولا )
 مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر
 للإدارة أو حلوله محلها

   يعود هذا المبدأ تاريخيا إلى بعض التشريعات التي صدرت في فرنسا عقب الثورة عام 1789  وقبل حتى إنشاء مجلس الدولة بها ، وذلك لمنع المحاكم العادية من التدخل في أعمال الإدارة لما ينطوي عليه ذلك من تعطيل لنشاطها ، خاصة وأن رجال الثورة كانوا ينظرون إلى قضاة تلك المحاكم بريبة وشك ، وهو ما أدى في الواقع إلى تشكيل هيئات تكون مختصة بأقضية الإدارة تطورت فيما بعد وأصبحت مجلس الدولة الفرنسي الذي تبنى بعد إنشائه هذا المبدأ من غير أن يكون هناك نص صريح يوجب عليه ذلك ، ودون أن يعني ببيان الأساس القانوني الذي يفرض عليه تبنيه ، وذلك تبعا لسياسته المعهودة في صياغة أحكامه بصورة موجزة على قدر من المرونة تكفل له حرية الحركة مستقبلا لتطويرها مع ما يتلاءم وظروف الحياة الإدارية بما فيها من تطور وتجديد ، إذ بفضل هذه السياسة الحكيمة تمكن المجلس من تطوير مبادئه القانونية ونظرياته القضائية بما يواكب مستجدات الحياة الإدارية ، فما هو مضمون هذا المبدأ ؟ وما هو الأساس الذي يقوم عليه ؟ وما هي الكيفية التي تم بها التراجع عنه ؟ ذلك ما نتطرق إليه بإيجاز فيما يلي:

1) مضمون المبدأ :

    ينصرف مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة في مضمونه إلى أنه يمتنع على القاضي الإداري أن يكلف الإدارة القيام بعمل معين أو الامتناع عنه ، أو يحل محلها في عمل أو إجراء يدخل في صميم اختصاصها ، حيث يقتصر عمله على ممارسة وظيفته القضائية من خلال بسط رقابته على أعمال الإدارة وإنزال حكم القانون على ما يعرض عليه من منازعات إعمالا لمبدأ المشروعية ، دون أن يتجاوز دوره هذه الحدود ، إذ ليس له أن يحل تقديره محل تقدير الإدارة أو أن يقوم بعمل أو إجراء مما هو معهود لها اتخاذه أو أن يوجهها لأمر معين سواء بصورة صريحة أو ضمنية ، بحسبانه ليس رئيسا أعلى للإدارة فهو يحكم ولا يدير وذلك لاستقلاله عنها وظيفيا وعضويا ، ويثير القضاء الإداري من تلقاء نفسه هذا المبدأ في أي مرحلة من مراحل التقاضي ولو لم تتمسك به الإدارة ، فعلى سبيل المثال لا يجوز للقاضي الإداري إذا ما قضى بإلغاء القرار المطعون فيه لمخالفته للقانون أن يصدر هو القرار الصحيح أو أن يعدل في هذا القرار باعتبار أن ذلك مما يخرج عن نطاق وظيفته ويدخل في إطار وظيفة الإدارة .

2. أساس المبدأ :

     يرتد مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة  في أساسه إلى عدة تبريرات قال بها الفقه يمكن حصرها في ثلاث نعرض لها بإيجاز فيما يأتي :
 أولها : النصوص التشريعية التي تقررت غداة الثورة الفرنسية لتفادي عرقلة القضاء للأعمال التي يقوم بها رجال الثورة ، ومن قبيل ذلك مرسوم 22/12/1789 الذي حظر على المحاكم القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة وحدات الإدارة العاملة في ممارستها لوظيفتها الإدارية ، وقانون التنظيم الصادر في 24/8/1790 الذي حظر على المحاكم القضائية التعرض بأي وسيلة لأعمال الإدارة أو التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتعلق بوظائفهم أو النظر في أعمال الإدارة أيا كانت .
ثانيها :  مبدأ الفصل بين الهيئات القضائية والهيئات الإدارية ، ومن مقتضاه التزام القاضي الإداري بحدود وظيفته وهي الفصل في المنازعات والحكم على مدى مشروعية الأعمال الإدارية في ضوء القواعد القانونية دون التدخل في عمل الإدارة ، والتزام الإدارة في المقابل بنطاق وظيفتها الإدارية دون التعدي على اختصاصات القضاء ، وذلك لاستقلال كل منهما عن الآخر وظيفيا وعضويا .
ثالثها : أن طبيعة سلطات قاضي الإلغاء تقف عند مجرد الحكم على مدى مشروعية القرار الإداري وذلك بإلغائه أو الإبقاء عليه دون أن يتجاوز ذلك إلى تعديله أو إصدار قرار آخر بديل عنه ، إذ أن ذلك مما يتنافى ووظيفته التي تقتصر على الفصل في الخصومات ولا يجوز له أن يتعداها إلى الحلول محل الإدارة أو القيام بعمل من أعمالها .




    وأيا كانت التبريرات التي قيلت كأساس لمبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، فإنها جميعا تلتقي حول فكرة واحدة وهي منع القاضي الإداري من التدخل في عمل الإدارة ، ولهذا لم يجد مجلس الدولة الفرنسي حرجا في عدم إسناده هذا المبدأ لأي تبرير أو أساس يرتكز عليه تمشيا مع سياسته القضائية المعهودة في صياغة أحكامه بقدر من المرونة تتيح له مستقبلا حرية الحركة نحو تطويرها ، وهكذا بات مستقرا في قضاء مجلس الدولة الفرنسي تكريس مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، وجرت أحكامه في صيغة تكاد تكون متواترة بأن سلطة قاضي الإلغاء تقتصر على إلغاء القرار أو رفض طلب إلغائه ، وإذا ما انتهى القاضي إلى إلغاء القرار المعيب ، فليس له أن يرتب بنفسه الآثار والنتائج الحتمية لهذا الحكم ، بأن يقوم بإصدار القرار الصحيح محل القرار المعيب ، أو أن يعدل في القرار المعيب ليزيل ما لحقه من عدم مشروعية ، أو أن يصدر القرار الذي يتعين اتخاذه كأثر لإلغاء القرار غير المشروع  ([4]) .
     وقد أخذ القضاء الإداري العربي سواء في مصر أو في ليبيا بهذا المبدأ شأنه في ذلك شأن المبادئ والنظريات الأخرى التي نقلها عن مجلس الدولة الفرنسي باعتباره المبتكر الأول لنظام القضاء الإداري ، وهو ما أعربت عنه المحكمة الإدارية العليا المصرية في حكمها الصادر بتاريخ 29/3/1992 في الطعن رقم 397/36ق بقولها ” أن قاضي المشروعية لا يملك أن يصدر أمرا إلى الإدارة ، أساس ذلك استقلال السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية ، والسلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار أحكام الدستور وقانون مجلس الدولة ” ([5]) ، ورددته من بعدها المحكمة العليا الليبية في حكمها الصادر بتاريخ 17/5/1998 في الطعن الإداري رقم 36/42ق الذي جاء فيه أنه ” من المقرر وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة أنه لا يسوغ للقضاء أن يحل محل جهة الإدارة في عمل أو إجراء هو من صميم اختصاصها ، ولا يسلط رقابته إلا بعد إعمال الإدارة رأيها واتخاذ قرارها ” ([6]) ، ومما يلاحظ في هذا الشأن أن مجلس الدولة المصري قد أسند مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة إلى مبدأ الفصل بين الهيئات القضائية والهيئات الإدارية وجعل قواعد الدستور هي الأساس في الركون إليه ، مما يكون معه قد قيد نفسه بأحكام الدستور أمام أية فرصة سانحة لتطوير قضائه نحو العدول عن هذا المبدأ .

      3. التراجع عن المبدأ :

    انتقد جانب من الفقه الإداري موقف مجلس الدولة الفرنسي لتبنيه مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، وشكك في مدى مشروعيته ، وأرجع موقف المجلس بهذا الصدد إلى عدم رغبته في الاصطدام المباشر بالإدارة ، والحفاظ على صورته كهيئة قضائية موكول إليها مهمة إقامة العدل ، وحماية الحقوق والحريات حتى ولو كان أحد طرفي الخصومة هو الدولة ، وهذا الوضع جعل القاضي الإداري محاصر بين أمرين : أولهما– تحقيقه للعدالة وإنزاله حكم القانون على ما يعرض عليه من منازعات ، وثانيهما – ارتهان تنفيذ أحكامه بإرادة إدارة ذات حساسية شديدة لما تتمتع به من امتيازات ، ومحاولة التوفيق بين هذين الأمرين ليس بالأمر الهين ، ولعل هذا هو ما دفع بالمجلس إلى إظهاره نوعا من المجاملة تجاه الإدارة ، فهو حين يصدر حكمه يبدو وكأنه يناشد رجال الإدارة أن ينفذوا حكمه فيقول لهم لقد بينت لكم عدم مشروعية قراركم وانتهي دوري هنا ، وعليكم أيها السادة أن تقوموا بالباقي ([7]) ، وقد أدى هذا الوضع إلى تساؤل البعض حول الطبيعة القضائية لمجلس الدولة ، وقاد إلى تساؤل أكبر حول سبب وجود القانون الإداري نفسه ، وما إذا كان هو أحد فروع الفنون الجميلة أم أنه أحد عناصر النظام الذي تفرضه الدولة على إدارتها ، فإذا كانت بعض الأحكام تعد دليلا على العبقرية الجريئة للقضاء الإداري ، فإنها تعطي أيضا مثلا واضحا للأخلاق الإدارية السائدة وللفاعلية الحقيقية للنظام القضائي ، وللقيود على حركة العدالة داخل قواعد النظام الإداري الذي يعتبر القاضي الإداري هو مبدعها ومنشؤها غير أن وسائله في تحقيق ذلك وإرادته لبلوغ الأهداف المرجوة ليست بمستوى طموحه ([8]) .  
    وقد انبرى فريق من الفقه إلى تفنيد المبررات التي قيلت كأساس لمبدأ عدم توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، خصوصا في ظل تزايد ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها ، فأوضح الفقيه الكبير الأستاذ ريفيرو أن تشريعات الثورة التي استهدفت حرمان المحاكم العادية من التدخل في عمل الإدارة خشية عرقلة نشاطها ، هي نفسها التي قادت إلى إنشاء القضاء الإداري بل هي أساس وجوده ، وبالتالي فإن امتناع مجلس الدولة عما يعتقد أنه تدخل في عمل الإدارة مرده قيد ذاتي وضعه على نفسه ولا يعود إلى أي أمر آخر خارج عن إرادته ، ودون أن تكون هناك ضرورة منطقية لذلك ، إذ أن الوضع الطبيعي يفرض أن تشمل سلطة القاضي حق إصدار أوامر ضد من يثبت أن إدعائه لا يقوم على أساس من القانون ، وأن مجرد كون الإدارة طرفا في الخصومة لا ينبغي أن يحد من هذه السلطة ، باعتبار أن المدعي لا يعنيه في النهاية سوى النتيجة العملية للحكم ، وامتداد سلطة القاضي لإصدار الأوامر ليس فيه تجاوز لنطاق الخصومة ، وإنما وقوفه عند حد الحكم بإلغاء القرار المعيب دون أن يرتب على ذلك آثاره اللازمة ، يكون كمن وقف في منتصف الطريق ، فهو أشبه بمن أراد أن يقتلع شجرة فأكتفي بقطع جذورها فقط تاركا لعواصف الشتاء مهمة إسقاطها ، وقد دلل على أن القاضي سيظل في نطاق وظيفته إذا ما أصدر أمرا للإدارة باتخاذ القرار الذي يتطلبه تنفيذ الحكم الصادر عنه دون أن يكون قد مارس عملا إداريا بضربه مثالا لنزاع يعرض على أحد القضاة بين اثنين من الصيادين يدعي كل منهما أنه صاحب الحق في الفوز بالحيوان الذي تم صيده ، فإن القاضي حينما يحدد أيا من الصيادين هو صاحب الحق في الحيوان المتنازع عليه يقوم في الواقع بعمل يدخل في صميم اختصاصه وهو عمل قضائي يتمثل في تطبيق القواعد المنظمة للصيد على النزاع المطروح عليه ، وذلك لا يجعل منه صيادا ، لأن القاضي وهو يقوم بعمله القضائي لا يكتسب صفة أطراف النزاع ، وينطبق هذا المنطق ذاته عند قيام القاضي بتوجيه أوامر للإدارة لاتخاذ الإجراء الإداري الذي يتطلبه تنفيذ الحكم الصادر عنه ضدها ، فهو هنا لا يتحول إلى جهة إدارية ، ولا يعتبر العمل الذي قام به عملا إداريا ، وإنما يظل هذا العمل على طبيعته قضائيا ، وحذر الفقيه الكبير من خطورة الوضع المترتب على هذا المبدأ والذي يدفع الأفراد الصادرة لصالحهم أحكام ضد الإدارة إلى رفع دعاوى جديدة للمطالبة بإلغاء امتناع الإدارة عن تنفيذ تلك الأحكام وتعويضهم عما حاق بهم من أضرار جراء ذلك نتيجة إهدارها لقوة الشيء المقضي به ، إذ من شأن هذه السلسلة من الدعاوى أن تقودنا إلى حلقة مفرغة ، فالمشروعية لا تتحقق بشكل كامل حينما يجيز النظام القانوني للإدارة أن تشتري حريتها في مخالفة أحكام القضاء والامتناع عن تنفيذها بمقابل تعويض مادي تؤديه إلى صاحب الشأن ، فضلا على أن هذا التعويض سيتحمله المواطنون في النهاية باعتباره سيتم تمويله من حصيلة الضرائب المفروضة عليهم ، وقد انتهى الفقيه الكبير إلى مناشدة القضاء الإداري التخلي عن خجله وحيائه وتسامحه حيال الإدارة ، ودعاه إلى التسلح في مواجهتها بالجرأة وإصدار الأوامر إليها باتخاذ الإجراءات التي تكفل تنفيذ أحكامه ، لكي تكتمل لهذه الأحكام الفاعلية وتتحقق بذلك سيادة القانون في صورة تامة ([9]) . 
    وكان الفقيه الفرنسي العميد هوريو قد عبر من قبل عن هذا الوضع بقوله ” أنه في الصراع بين مجلس الدولة الذي لا يستطيع سوى أن يراقب ، وبين رجل الإدارة الذي لا يضع في اعتباره قوة الشيءالمقضي به ، فإن مجلس الدولة يعتبر مهزوما مقدما … ذلك أن الإدارة تقع في نظامنا القانوني أعلى من القاضي أيا كان نوعه ، وسيكون أكثر اتفاقا مع أحكام القانون أن يصبح القاضي الإداري أعلى من الإدارة ، ولدينا الاقتناع بأن هذا الانقلاب في الأمور سوف يحدث مستقبلا ” ([10]) .
    وقد علق البعض على هذا الوضع بقوله أنه إذا لم يفلح القضاء الإداري في إجبار الإدارة على تنفيذ ما يصدره من أحكام ضدها ، فإن ذلك قد يشكل نوعا من إنكار العدالة ، بل إنه يقلب قاعدة التدرج في القانون رأسا على عقب لما يتضمنه من تنكر الإدارة للالتزامات المفروضة عليها بمقتضى أحكام الدستور والقانون من احترام قوة الشيء المقضي به ، إذ أن الإدارة إذا كانت مصابة بداء التميز والعلو فإنها ستكون قادرة في ظل العمل بمبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر لها ، على أن تعلو فوق القانون نفسه ([11]) ، وهو ما صاغه الأستاذ جيز في عبارة أخرى بقوله أن هذا المبدأ ليس إلا مجرد خرافة قديمة نشأت ونمت في ظل نظام قائم على التحكم والاستبداد ، ولا يتفق مع القيم الديمقراطية الحديثة ، ومن ثم فلا يستقيم وجوده الآن بما يرتبه من آثار مع دولة سيادة القانون ([12]) .
     ومن اللافت للنظر أن محاكم القضاء العادي الذي كان هذا المبدأ موجها إليها في الأساس لم تتردد في توجيه أوامر للإدارة ابتداء من مرحلة نظر الدعوى حتى صدور حكم فيها ويشمل ذلك أوامر التحقيق وأوامر الحكم ، فقد أقرت لنفسها الحق في توقيع غرامة تهديديه على الإدارة في حالات الاعتداء المادي وأعمال الغصب التي تختص بنظرها ،  فعلى سبيل المثال أصدرت محكمة باريس بتاريخ 18/3/1993 أمرا إلى الإدارة بوقف إجراءات ممارسة تقوم بها لتعارضها مع القواعد القانونية التي تكفل حرية المنافسة([13]) ، وأيدت محكمة النقض الفرنسية اتجاه المحاكم العادية إلى عدم الالتزام بمبدأ حظر توجيه القاضي أوامر للإدارة استنادا إلى أن ذلك ليس فيه إخلال بمبدأ الفصل بين الهيئات الإدارية والهيئات القضائية ([14]) ، وهو ما تأيد في وقت لاحق بقرار المجلس الدستوري الفرنسي الذي سوف نشير إليه فيما بعد .
      وقد حاول مجلس الدولة الفرنسي في السنوات الأخيرة التلطيف من حدة النتائج المترتبة على هذا المبدأ من خلال استعمال أسلوب التهديد المالي لإلزام أطراف الخصومة على تنفيذ أوامره ([15]) إذ ليس هناك أمرا يسوء القاضي كعدم  احترام قراراته وأحكامه ، لاسيما إذا كان هذا القاضي هو الذي يتعهد عمليا بخلق قواعد القانون الإداري التي تسير على هديها الإدارة ، فإذا جرد هذا القضاء من الوسيلة لإرغام الإدارة على تنفيذ أحكامه ، فإن جميع ما يصدره من أحكام ستكون _ على حد وصف الفقيه الكبير فالين – مجرد شرح نظري للقواعد القانونية ليس لها من قيمة أو فاعلية أكثر من المناقشات الأكاديمية أو الكتابات الفقهية ([16]) ، مأخوذا في الاعتبار ما هو مستقر عليه فقها وقضاء من أن وظيفة القاضي أيا كان لا تقتصر على بيان حكم القانون فقط على النزاع المطروح عليه ، وإنما هي تمتد إلى سلطة الأمر والإلزام بما فصل فيه ، وبهذين العنصرين معا يكتمل العمل القضائي وبالتالي فإن انحسار عنصر الأمر والإلزام على أحكام القاضي الإداري يؤدي إلى عدم اكتمال عمله القضائي ويجرد حكمه من قيمته العملية .




    وإزاء هذا الوضع الذي أحاط بمجلس الدولة الفرنسي ، وفي ظل ما هو منصوص عليه بقانون الاتحاد الأوربي من إلزام محاكم الدول الأعضاء بإصدار أوامر للإدارة كلما كان ذلك ضروريا لحماية حقوق الأفراد التي يكفلها لهم النظام القانوني للاتحاد ، استجاب المشرع الفرنسي لنداءات الفقه وأصدر في تاريخ 16/7/1980  القانون رقم 539/1980 المعدل بالقانون رقم 321/2000 الصادر في 12/4/2000 بشأن تنفيذ الأحكام بواسطة أشخاص القانون العام والغرامات التهديدية التي تصدر في المجال الإداري ، والذي تم بموجبه النص على وسائل ضاغطة لحمل الإدارة على تنفيذ الأحكام المالية الصادرة ضدها ، حيث يتعين عليها أن تؤدى المبلغ المحكوم به خلال أربعة أشهر ، فإذا امتنعت أو تأخرت عن هذه المدة ، فإن سلطة الوصاية الإدارية تتولى تحرير إذن الصرف ، أو يفرض عليها المجلس غرامة تهديدية لإجبارها على التنفيذ ، ثم تلا ذلك صدور القانون رقم 125/1995 بتاريخ 8/2/1995 الذي خول محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها سلطة توجيه أوامر للإدارة والحكم عليها بغرامة تهديدية لضمان تنفيذ الأحكام الصادرة منها ضد الإدارة ، إضافة إلى صدور بعض القوانين الأخرى التي تتصدى نصوصها لامتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام ، ومن قبيل ذلك قانوني 29/1/1993 و 24/7/1995 اللذين يمكن وفقا لهما إحالة الموظف المختص بتنفيذ الأحكام القضائية إلى المحاكمة التأديبية أمام المحكمة التأديبية للميزانية والشئون المالية ، إذا ثبتت مسئوليته عن عدم التنفيذ ، حيث يكون معرضا للحكم عليه بجزاءات مالية جسيمة .     
  وقد تأكد أفول مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة إلى الأبد ، بما قضى به المجلس الدستوري الفرنسي في قراره رقم 360/95 الصادر بتاريخ 2/2/1995 الذي انتهى فيه إلى دستورية القانون رقم 125/1995 بتخويل محاكم مجلس الدولة بإصدار أوامر للإدارة وفرض غرامات تهديدية عليها لضمان تنفيذ أحكامه ، بحسبان أن ذلك ليس فيه تعارض مع مبدأ الفصل بين الهيئات ، وإنما هو من مستلزمات مبدأ خضوع الإدارة للقانون ([17]) .
            ولم يقف المشرع الفرنسي عند هذا القدر من تفعيل سلطة القضاء الإداري في مواجهة الإدارة  حيث أصدر قانون 30/6/2000 الذي جرى بمقتضاه توسيع وتفعيل سلطة القضاء الإداري المستعجل في توجيه أوامر إلى الإدارة لحماية الحريات الأساسية وتحسين الإجراءات التحفظية المستعجلة التي يتعين على الإدارة اتخاذها دون تأخير .  
   وعلى ضوء تلك التشريعات بات من المتاح لمحاكم مجلس الدولة الفرنسي بمختلف درجاتها تقدير ما إذا كان الحكم الصادر عنها يتطلب تنفيذه اتخاذ قرار أو إجراء معين من شخص اعتباري عام أو خاص يكون مكلفا بتسيير مرفق عام ، أن توجه بناء على طلب صاحب الشأن أمرا إلى ذلك الشخص في نفس الحكم ، بوجوب اتخاذه القرار أو الإجراء المطلوب لتنفيذ مقتضى الحكم تنفيذا كاملا ، وإذا تقاعس أو تلكأ الشخص المطلوب منه اتخاذ القرار أو الإجراء اللازم لتنفيذ الحكم ، جاز لصاحب الشأن اللجوء مجددا إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لكي تأمر بفرض غرامة تهديدية على الشخص المذكور لإجباره على تنفيذ الحكم ، وليس هناك ما يمنع من الجمع في حكم واحد بين الأمر باتخاذ إجراء أو قرار معين وبين فرض غرامة تهديدية لإجبار الإدارة على تنفيذ الحكم الصادر عن إحدى محاكم المجلس ، كل ذلك إذا توافرت الشروط التالية ([18]) :

أ‌)       أن يكون هناك حكم قضائي صادر عن إحدى محاكم مجلس الدولة متضمنا إلزاما للإدارة باتخاذ إجراء أو قرار معين .
ب‌)  أن يكون هذا الحكم قابلا للتنفيذ سواء من الناحية القانونية أو المادية .
ت‌)  أن يثبت امتناع الإدارة عن تنفيذ الحكم أو عدم مباشرتها الإجراءات اللازمة لتنفيذه.
ث‌)  أن يكون توجيه الأمر أو فرض الغرامة التهديدية لازما وضروريا لتنفيذ الحكم .

  ( ثانيا )
 مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية
ما لم يوجد نص يوجب ذلك

      يلعب التسبيب دورا مؤثرا في تسليط القضاء الإداري رقابته على عنصر السبب في القرار الإداري ، ويشير ذلك إلى وجود علاقة بين التسبيب وعنصر السبب في القرار الإداري باعتبار أن التسبيب يترجم السبب ايجابيا في المظهر الخارجي للقرار ، فالتسبيب إذن يستهدف بيان عنصر السبب في القرار الإداري ، وعلى الرغم من هذه العلاقة بين التسبيب والسبب إلا أن التسبيب يختلف على عنصر السبب في القرار الإداري ، ذلك أنه من المسلم به في الفقه والقضاء الإداريين أن لكل قرار إداري حتما سببا يقوم عليه يكون موجودا وقت صدوره يبرره واقعا وقانونا ، أي هو الحالة الواقعية أو القانونية التي دفعت الإدارة لاتخاذ القرار ، فالسبب بهذه المثابة يجسد أمرا موضوعيا يمثل أحد العناصر الداخلية التي لا يتصور قيام قرار إداري بدونه ، وذلك بغض النظر عما إذا كان هذا السبب صحيحا أم منتحلا ، مشروعا أم غير مشروع ، بينما التسبيب هو أمر شكلي يدخل في أحد العناصر الخارجية للقرار الإداري وينصرف مضمونه إلى بيان أو ذكر الأسباب التي بني عليها القرار في صلبه ، وهو لا يلزم توافره في القرار الإداري كأصل عام ما لم يوجد نص يوجب ذلك ، وبالتالي فإذا خلت القواعد القانونية من النص على وجوب تسبيب القرار ، فإن الإدارة لا تكون ملزمة قانونا بتسبيب قرارها  غير أن ذلك لا يحول دون قيامها بالتسبيب اختيارا ، فالتسبيب عندما لا يكون وجوبيا فإنه يظل جوازيا ، وهكذا بات من المستقر عليه في القضاء الإداري الفرنسي ومن بعده المصري والليبي أن المبدأ العام هو أن الإدارة غير ملزمة بتسبيب قراراتها ما لم يوجد نص يوجب عليها ذلك ، أي أن الأصل العام هو عدم التسبيب ، والاستثناء هو التسبيب بنص ، فما هو مضمون هذا المبدأ ، وما هو أساسه ، وكيف تم التراجع عنه ؟ ذلك ما نحاول إلقاء الضوء عليه في الفقرات التالية :    
1.    مضمون المبدأ :

      يشير مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية في فحواه إلى عدم التزام الإدارة بتسبيب قراراتها ما لم يوجد نص يوجب عليها ذلك ، أي أن الإدارة تكون في حل من الإفصاح عن الأسباب القانونية أو الواقعية التي دفعتها لاتخاذ القرار في صلب هذا القرار ، طالما خلت القواعد القانونية من نص يفرض عليها ذكر أو بيان تلك الأسباب وإفراغها في متن القرار الصادر منها بالخصوص ، فالقاعدة العامة إذن هي عدم لزوم تسبيب القرار الإداري ، والاستثناء هو تسبيبه في حالة وجود نص يفرض على الإدارة ذلك .
      وقد جرى قضاء مجلس الدولة الفرنسي على تطبيق هذا المبدأ بإخلاص ردحا من الزمن ، منذ إصدار حكمه في قضية  Harrouelبتاريخ 30/4/1880 ([19]) ، وما تلاه من أحكام في هذا الخصوص ، لعل أحدثها نسبيا ما قرره في حكمه الصادر بتاريخ 24/4/1964 في قضية السيد Delahayeالذي أورد فيه القول بأنه لا يلزم أن تكون قرارات اللجان المشتركة للقيد في قائمة شهر الأطباء مسببة ما دامت النصوص التشريعية واللائحية قد خلت مما يوجب ذلك ([20]) ، والتطبيقات القضائية في هذا الاتجاه تزخر بها مجموعات أحكام مجلس الدولة الفرنسي إلى وقت قريب ، ولم يقبل المجلس أي استثناء على هذا المبدأ إلا بمناسبة صدور حكمه في قضية Billard بتاريخ 27/1/1950 والذي انتهى فيه إلى إلزام لجان ضم الأراضي الزراعية ( وهي هيئات إدارية ذات اختصاص قضائي )بتسبيب قراراتها في غياب نص صريح يوجب عليها ذلك  أخذا بما ذهب إليه مفوض الحكومة الأستاذ Letourneur  في تقريره المقدم بخصوص هذه القضية بأن طبيعة عمل تلك اللجان يحتم عليها تسبيب قراراتها حتى يتسنى لقاضي تجاوز السلطة ( أي قاضي الإلغاء أو المشروعية ) إعمال رقابته في شأنها ([21]) ، وقد ردد المجلس هذا الاستثناء بعد مرور عشرين عاما على حكمه السابق ، وذلك في حكمه الصادر في قضية Agence Martime Marsaille-fret  بتاريخ 27/11/1970 ([22]) .
   وإذا كان لهذا المبدأ ما يبرره بالنسبة للقرارات الإدارية ذات السمة العامة أي التنظيمية أو اللائحية ، فإنه بالنسبة للقرارات ذات الطابع الفردي يبدو أن فيه مساس بحقوق ومراكز الأشخاص المخاطبين بها ، فضلا عما يتضمنه عدم التسبيب من صعوبة بالغة تقف حجر عثرة أمام القضاء الإداري لبسط رقابة حقيقية وفاعلة على أسباب القرار الإداري .
   ولقد استشعر الأستاذ Odent مفوض الحكومة لدى مجلس الدولة ، بالحرج الناجم عن هذا المبدأ وهو يقدم تقريره في قضية عزل السيدين Matteil et Aramu فعقد مقارنة بين بعض القرارات الواجب تسبيبها بنص قانوني ( مثل قرارات الإحالة إلى المعاش أو الاستيداع بدون طلب ) ، وبين غيرها من القرارات التي لم يفرض القانون تسبيبها ( مثل قرارات العزل الناشئة عن التطهير ) رغم أن تسبيب القرارات الأخيرة يكون أولى وأوجب لشدة وجسامة الجزاء المترتب عليها ، ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يخالف مبدأ عدم وجوب التسبيب في حالة غياب النص على وجوب التسبيب ، واكتفى بمجرد التنبيه إلى ما تقدم ([23]) .
   وشايع القضاء الإداري المصري والليبي مجلس الدولة الفرنسي في الأخذ بهذا المبدأ ، بل أنهما أصبحا أشد إخلاصا منه في تبنيه ، فقضاء المحكمة الإدارية العليا المصرية مستقر منذ أمد بعيد حتى الآن على أنه ” إذا لم يوجب القانون على الإدارة تسبيب قرارها ، فلا يلزمها ذلك كإجراء شكلي لصحته ، بل ويحمل القرار على الصحة كما يفترض فيه ابتداء قيامه على سبب صحيح حتى يثبت العكس “([24]) ، وهو ما تردده أيضا المحكمة العليا الليبية بقولها أنه ” قد يشترط القانون تسبيب بعض القرارات الإدارية وحينئذ يصبح هذا الإجراء شكلا أساسيا في القرار يترتب على إهماله بطلانه ، وأما إذا لم يلزم المشرع الإدارة بذلك فليس عليها حرج في إخفاء تلك الأسباب ، وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن الإدارة غير ملزمة ببيان أسبابها إلا حيث يوجب عليها القانون ذلك ” ([25]) . 

2.أساس المبدأ :

    يمكن إرجاع الأساس الذي يقوم عليه مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية ما لم يوجد نص يوجب ذلك إلى التبريرات التالية :
-    السرية في أعمال السلطة الإدارية ([26]) : إلى وقت قريب نسبيا يعود إلى ظهور مبادئ الشفافية الإدارية كانت السرية تغلف معظم أعمال السلطة الإدارية سواء أكانت هذه الأعمال مادية أم قانونية ، عن طريق وقوف الإدارة موقفا سلبيا حيال ذكر الأسباب التي دفعتها للقيام بتلك الأعمال بغض النظر عن الباعث لذلك ، بذريعة أن هذه السرية هي التي تمكنها من أداء عملها بنجاح واقتدار في سبيل الصالح العام ، وهي وسيلتها للهيمنة وفاعلية نشاطها ، وليس أدل على ذلك من أن غالبية دول العالم لا تزال حتى اليوم تحظر نشر الوثائق والمعلومات التي تصفها بأنها سرية إلا بعد انقضاء عدة سنوات من تاريخ وقوعها قد تصل إلى ربع قرن أو أكثر ، مع اشتراطها موافقة جهة معينة على ذلك في بعض الأحوال ، وهذه السرية ولئن كان يمكن تبريرها أحيانا فيما يتصل بالمعلومات المتعلقة بأعمال الحرب والأمن القومي وحرمة الحياة الخاصة ، فإنها قد امتدت إلى ما لا يمكن تبريره ، وهو القرار الإداري الذي تستطيع الإدارة بواسطته وبإرادتها المنفردة ، باعتباره أحد امتيازاتها ، إنشاء الحقوق وفرض الالتزامات ، خلافا للقاعدة العامة في القانون الخاص الذي يسوده مبدأ سلطان الإرادة ، ومرد ذلك إلى أن الإدارة تمثل الصالح العام الذي يتعين تغليبه على المصالح الفردية الأمر الذي لم يسع معه المشرع أن يلزم الإدارة بأن تذكر أسباب قراراتها الفردية في جميع الأحوال كقاعدة عامة ، وإنما جعل الإفصاح عن تلك الأسباب في متن القرار مرهونا بوجود نص يوجب عليها ذلك ، وفي حالات معينة تخضع لاعتبارات يقدرها هو وذلك على سبيل الاستثناء ، ومن هنا أصبح المبدأ هو عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية الفردية ، والاستثناء هو وجوب تسبيبها ، وأضحت قاعدة السرية لها السيادة على أعمال السلطة الإدارية حتى ولو تعلق الأمر بما تصدره من قرارات إدارية فردية من شأنها المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم .




-   قرينة المشروعية المصاحبة للقرارات الإدارية : مؤدى هذه القرينة هو أن الأصل المفروض في القرارات الإدارية أنها قد صدرت صحيحة مطابقة للقانون وبناء على أسباب مشروعة ، ويقع عبء إثبات خلاف ذلك على من يدعيه ، ومن ثم فإذا لم يوجد نص يوجب على الإدارة الإعراب عن أسباب قراراتها الفردية في صلبها ، فإنها لا تكون ملزمة بالإفصاح عن هذه الأسباب في متن القرار الصادر منها بالخصوص أو في شكله ومظهره الخارجي ، بافتراض أن تلك الأسباب مشروعة اصطحابا للأصل المفروض في القرارات الإدارية وهو أنها صحيحة ومطابقة للقانون ، وهكذا استمد مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية الفردية ما لم يوجد نص يوجب ذلك ، أساسه من قرينة المشروعية والصحة المصاحبة للقرارات الإدارية ، بحسبان أن هذه القرارات تمثل أحد امتيازات الإدارة ومظهر واضح للسلطة التي تتمتع بها .
-   فاعلية الرقابة القضائية على أسباب القرار الإداري : منذ أن امتدت رقابة مجلس الدولة الفرنسي على عنصر السبب في القرار الإداري عام 1907 وما آلت إليه رقابته على هذا العنصر من توسع وتعمق ، أعتبر البعض أن في ذلك ما يغني عن وجوب تسبيب القرار الإداري ، باعتبار أنه من خلال الطعن القضائي على عنصر السبب في القرار الإداري يمكن لذوي الشأن معرفة أسباب القرار المتعلق بهم عن طريق إلزام القضاء للإدارة بالإفصاح عن تلك الأسباب ، وذلك للوقوف على مبلغ صحتها وما إذا كانت تبرر صدور القرار المحمول عليها من عدمه .      

 3.التراجع عن المبدأ :

     لم يكن من العسير تفنيد المبررات التي سيقت كأساس لمبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية الفردية ما لم يوجد نص يوجب ذلك ، خاصة في ظل الإدراك التام لأهمية تسبيب القرارات الإدارية الفردية التي تواتر الفقه والقضاء الإداريين على إبرازها حماية للمصلحة العامة والخاصة على حد سواء ([27]) ، ومن قبيل ذلك ما يلي ([28]) : 
-   يقوم تسبيب القرار الإداري الفردي بالنسبة للإدارة بذات الوظيفة التي يقوم بها تسبيب الحكم بالنسبة للقاضي ، فهو يستهدف التأني والتروي والبحث والدراسة ، لكي تنأى الإدارة بنفسها عن التسرع والارتجال في اتخاذ قراراتها ، وفي ذلك تحقيق للمصلحة العامة .
-   يكفل تسبيب القرار الإداري الفردي تناسق سلوك الإدارة في المواقف المتشابهة ، ويفرض عليها التزاما ذاتيا باتخاذ نفس الحلول للأوضاع المتماثلة ، وفي ذلك ضمان لحسن سير العمل الإداري .
-   يتيح تسبيب القرار الإداري الفردي السبيل أمام صاحب الشأن للإحاطة بأسباب القرار الإداري الصادر بحقه وتحديد مركزه القانوني حياله ، ويسهل عليه مهمة إثبات ما قد يشوب القرار من عيوب عند قيامه بالطعن عليه قضائيا بالإلغاء أو طلب التعويض عنه .
-   يؤدي تسبيب القرار الإداري الفردي إلى تركيز القاضي الإداري رقابته على مشروعية أسباب القرار بمناسبة دعوى الإلغاء أو التعويض المطروحة عليه ، وإعمال رقابته بصورة فعالة على موطن العيب الذي يشوب القرار .
   وعلى ضوء ما تقدم فقد حاول القضاء الإداري الفرنسي ومن بعده المصري والليبي ،  التقليص ولو قليلا من نطاق تطبيق مبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية الفردية ما لم يوجد نص يوجب ذلك ، عن طريق دوره الإنشائي في خلق قواعد القانون الإداري ، بأن فرض على الإدارة تسبيب بعض قراراتها الفردية حتى في حالة غياب النص على وجوب التسبيب ، اهتداء بالمبادئ العامة للقانون ، كما هو الشأن بالنسبة للقرارات الصادرة في مجال التأديب ([29]) ، أو تلك الصادرة عن الجهات الإدارية ذات الاختصاص القضائي على ما مر بنا ([30]) ، فضلا عن إقدامه على إلزام الإدارة ببيان أسباب قرارها كلما قدر أن أوجه الطعن بالإلغاء الموجهة للقرار المطعون فيه قد زحزحت قرينة المشروعية والصحة المصاحبة له ، إذ من شأن زعزعة تلك القرينة نقل عبء إثبات صحة القرار ومشروعيته على عاتق الإدارة .
          وهكذا بات من غير المشكوك فيه أن هناك أهمية وضرورة قصوى لتسبيب القرارات الإدارية الفردية ، مما دفع بجانب من الفقه الإداري إلى نقد مبدأ عدم وجوب تسبيب هذه القرارات إلا بنص ، فقد شخص أحد الفقهاء الفرنسيين استمرار الأخذ بهذا المبدأ في ظل المتغيرات العالمية في شتى مناحي الحياة العصرية بالداء الناجم عن شيخوخة مزمنةتعاني منها الإدارة يجعلها غير قادرة على التكيف مع الواقع المعاش ، ويؤدى بها إلى حالة شلل شبه كامل وتضخم في بعض الأجهزة نتيجة التسلط والاستبداد وعدم الشعور بالمسئولية مما يباعد بينها وبين تحقيق أهدافها وتوثيق العلاقة بجمهور المتعاملين معها ([31]) ، وشايع فقهاء آخرون في فرنسا هذا الرأي مقررين أن التطور الذي طرأ على النظام السياسي الفرنسي لم يمتد أبدا إلى النظام الإداري الفرنسي ، وأنهم يحسون بشيء من الخجل إزاء غياب الديمقراطية في المجال الإداري لا سيما في الأحوال التي تتعلق فيها أعمال الإدارة بحقوق الأفراد وحرياتهم ([32]) ، وأن الإدارة من خلال غموض قراراتها وما يكتنفها من سرية ( عدم التسبيب ) قد وضعت نفسها في سجن كبير محاطةبتقاليد بالية عملت على تقديسها دون أن تقبل تعريضها لرياح التغيير والإصلاح مهما كانت المبررات ([33]) .
      وبناء على هذه الانتقادات لمبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية إلا بنص ، التي تبرز الدور الكبير المناط بالفقه في تتبع المعوقات القانونية والدعوة إلى تلافيها ، خاصة وأنه قد تبدى أمامه أن القضاء يسير في ذات الدرب نحو التقليص من عمومية هذا المبدأ عن طريق ابتداع استثناءات عليه دون أن يستطيع إهداره كلية لخروج ذلك عن حدود ولايته ، وجد المشرع الفرنسي نفسه مدفوعا إلى إحداث إصلاحات جذرية في النظام الإداري الفرنسي يجاري بها من ناحية ما طرأ في هذا الشأن على الأنظمة القانونية لدول الاتحاد الأوربي التي فرضت على إداراتها التزام عام بوجوب تسبيب قراراتها كألمانيا والسويد وسويسرا ([34]) ، فضلا عما يفرضه قانون الاتحاد الأوربي الذي تم التصديق عليه في معاهدة روما ، وفرنسا عضو فيه ، على أجهزة الاتحاد من وجوب تسبيب قراراتها ، واعتبار هذا التسبيب من المسائل التي يمكن للمحكمة الأوربية إثارتها من تلقاء نفسها ([35]) ، ويواكب بها من ناحية أخرى تطورات العصر التي أدت إلى قلب مبدأ لا تسبيب إلا بنص رأسا على عقب  أو بالأقل خلخلته ، عن طريق تغليب مفاهيم الشفافية الإدارية على  مبادئ السرية الإدارية بهذا الصدد .
      وبدأ المشرع الفرنسي هذا الإصلاح بإنشاء نظام الميدياتير أو الوسيط الإداري في فرنسا بالقانون رقم 6/1973 الصادر في 3/1/1973 والمعدل بالقانون رقم 1211/1976 مستلهما إياه من نظام الأمبودسمان المعمول به في الدول الاسكندينافية منذ زمن بعيد ، والذي تتمحور وظيفته الرئيسية في العمل على تطوير النظام الإداري وتهيئة المناخ المناسب لقبول مساهمة أكبر من الأفراد المتعاملين معها ، وذلك من خلال تمكين ذوي الشأن من الإطلاع على الوثائق الإدارية المتضمنة أسباب ومبررات القرارات الإدارية التي تؤثر في مراكزهم القانونية ، وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي قادت إلى إصدار القانون رقم 587/1979 في تاريخ 11/7/1979 بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور ([36]) ، المعدل بالقانون رقم 76/1986 الصادر في 17/1/1986 ، مرورا بالقانون رقم 17/1978 الصادر في 6/1/1978 بشأن معالجة البيانات الشخصية للأفراد عن طريق الحاسبات الآلية ، والقانون رقم 753/1978 الصادر في 17/7/1978 بتقرير حق الأفراد في الإطلاع على الملفات والوثائق الإدارية .         
    ويبدو أن الإنسان قد جبل على مواجهة كل جديد بالحذر والريبة ، فقد دار الجدل في فرنسا على أكثر من صعيد حيال وجوب تسبيب القرارات الإدارية ،  وحامت الشبهات والشكوك حول مدى دستورية تدخل المشرع لتنظيم الإجراءات الإدارية بما تتضمنه من وجوب تسبيب القرارات الإدارية ، وذلك لتحديد الدستور الفرنسي بناء على اعتبارات تاريخية وسياسية وقانونية تتعلق بالمجتمع الفرنسي ، مجالات التشريع ( القانون) بموضوعات معينة على سبيل الحصر ، وإطلاقه مجالات اللائحة فيما عدا ذلك من موضوعات ، وإذ أورد الدستور من بين المسائل التي أسندها للمشرع حصرا ( تنظيم وتحديد القواعد المتعلقة بالإجراءات الجنائية ) ، فقد دل ذلك بمفهوم المخالفة على أن تنظيم كل ما يتعلق بالإجراءات غير الجنائية مما يخرج عن اختصاص المشرع ويدخل في اختصاص السلطة اللائحية ، غير أنه قد تم تبديد هذه الشكوك والشبهات من خلال نص الفقرة الأولى من المادة 34 من الدستور الفرنسي التي جعلت موضوع كفالة الحقوق العامة والضمانات الأساسية الممنوحة للمواطنين لممارسة الحريات العامة ضمن المجالات المحجوزة للتشريع ، ولما كان التسبيب يشكل في حقيقته ضمانة أساسية لممارسة الحريات ، فإن تقرير وجوبه يدخل في اختصاص المشرع ، وهكذا تم الانتصار لصالح القانون رقم 587/1979 المعدل بالقانون رقم 76/1986 بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور .
      ويستفاد من أحكام القانون رقم 587/1979 المعدل بالقانون رقم 76/1986 بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور ، أن المشرع الفرنسي قد فرض على الإدارة تسبيب قراراتها الفردية الصريحة كمبدأ عام  ، وجعل عدم التسبيب هو الاستثناء بالنسبة لهذه القرارات ، حيث وسع نطاق تطبيق مبدأ التسبيب الوجوبي ، فأخضع له القرارات الفردية الصريحة الصادرة عن الأشخاص الاعتبارية العامة كالدولة وهيئاتها المركزية والمحلية والهيئات والمؤسسات العامة ، كما أخضع له أيضا القرارات الفردية التي تتخذها الأشخاص الاعتبارية الخاصة وهي بصدد تقديمها خدمة عامة للجمهور من خلال إدارتها لمرفق عام ، ومد كذلك مجال الاستفادة من هذا المبدأ إلى كافة الأشخاص المخاطبين بمقتضى تلك القرارات سواء أكانوا أشخاصا طبيعيين فرنسيين أم أجانب ، أو أفرادا عاديين أم موظفين ، وسواء أكانوا من الأشخاص الاعتبارية الخاصة أم العامة ، وحدد أخيرا الإطار الذي يعمل فيه هذا المبدأ باستبعاد القرارات غير الفردية كالقرارات اللائحية والتنظيمية ([37])، وإخضاع  طوائف من القرارات الفردية لهذا المبدأ ، أي أنه حدد قائمة معينة من القرارات الفردية الصريحة الواجب تسبيبها ، وقسمها إلى ثلاثة طوائف رئيسية ، وذلك على النحو الذي نوجزه في النقاط الآتية ([38]) :    

أ. (الطائفة الأولى) القرارات الإدارية الفردية الصريحة الضارة بالأشخاص المخاطبين بها ([39]) ، وهي تشمل ستة أنواع كما يلي :

-   القرارات المقيدة لممارسة إحدى الحريات العامة أو المشكلة لإجراء ضبطي ، ومن قبيل ذلك القرارات الصادرة بمنع القيد بالدراسة لاعتدائها على حق التعليم ، وبرفض نشر أحد الأعمال الفكرية لمساسها بحق التعبير ، وبإسقاط الجنسية الفرنسية لانتهاكها حق المواطنة ، وكذلك قرارات طرد الأجانب .
-   القرارات المتضمنة جزاء إداريا ، كالقرارات التأديبية الصادرة بحق الموظفين ، والجزاءات التي توقعها الإدارة على المتعاقدين معها ، والجزاءات الضريبية ، والعقوبات التي توقع على الأشخاص المكلفين بخدمة عامة أو الذين يمارسون نشاطا مهنيا منتظما ، وسائر الجزاءات الإدارية التي يتعرض لها المنتفعون بالمرافق العامة مثل الإغلاق والغرامات المالية .
-   القرارات الصادرة برفض التراخيص أو التصاريح التي يخضع منحها لشروط مقيدة ، أو تلك التي تفرض قيودا على ذلك ، وهي تشمل مجموعة من القرارات ، كرفض الترخيص بشغل الدومين (المال) العام ، ورفض التصريح بالاشتراك في امتحانات الالتحاق بالوظيفة ، وعدم قبول طفل يقل عمره عن ست سنوات في المدارس الابتدائية ، ورفض الموافقة على تسريح العمال لأسباب اقتصادية ، ورفض الإعفاء من رد نفقات الدراسة للإخلال بالتعهد بخدمة الدولة مدة معينة ، وما شابه ذلك من قرارات 
-   القرارات التي تسحب أو تلغي قرارا منشئا للحقوق ، مثل القرار الصادر بإلغاء إذن للعمل نصف الوقت قبل حلول الأجل المحدد لذلك ، والقرار الصادر بسحب رخصة البناء ، والقرار الصادر بفصل موظف لعدم الكفاية المهنية . 
-   القرارات التي يحتج بها لسقوط الحقوق ، ومن أبرزها القرارات التي تحدد مدة معينة لسقوط الحق في دفع الديون المستحقة للدولة ، وقرارات سقوط الحق في تراخيص البناء لانقضاء المدة القانونية لصلاحيتها .
-   القرارات التي ترفض منح ميزة مقررة رغم استيفاء شروط استحقاقها ،  وهي تنصرف إلى جميع القرارات التي تتضمن رفض منح ميزة مقررة قانونا لذوي الشأن رغم حيازتهم الشروط اللازمة لاستحقاقها ، سواء صدرت بناء على سلطة تقديرية للإدارة أم مقيدة ، مثلما هو الحال بالنسبة للقرارات الصادرة بمنح ميزة الحصول على لقب المحاربين القدماء لمن أدى الخدمة العسكرية في إحدى الوحدات المحاربة ، وقرار رفض منح ميزة الإعفاء من أداء واجب التجنيد لمن يمثل مركزه خطورة استثنائية في مواجهة الأعباء العامة .

ب. (الطائفة الثانية) القرارات الإدارية الفردية الصريحة التي تتضمن خروجا أو استثناء من القواعد العامة في القوانين أو اللوائح ،  وهذه القرارات ليست في الغالب ضارة بالأشخاص المخاطبين بها وإنما هي صادرة لصالحهم ، باعتبارها تتضمن استثنائهم من بعض القواعد العامة المنصوص عليها في القوانين واللوائح ، ومع ذلك فقد أخضعها المشرع الفرنسي لمبدأ التسبيب الوجوبي ضمانا لمصالح الغير الذين قد تمس حقوقهم أو مراكزهم القانونية ، وتحقيقا للرقابة على الظروف والاعتبارات التي قادت إلى الخروج بها عن الأحكام العامة في التشريع ، ومثالها القرارات التي تستثني المقاول من بعض القواعد العامة المتعلقة بالتطوير العمراني ، وإعفاء رب العمل من بعض القيود اللائحية المتصلة بتنظيم وقت العمل والراحة .

ج. (الطائفة الثالثة) القرارات الصريحة لهيئات التأمين الاجتماعي ، وهذه الهيئات لا تعتبر ، كقاعدة عامة ، من أشخاص القانون العام في فرنسا ، وبالتالي فلا تندرج قراراتها في مفهوم القرارات الإدارية بالمعنى الاصطلاحي ، ومع ذلك فقد أخضعها المشرع الفرنسي لمبدأ التسبيب الوجوبي استنادا إلى أن المؤمن عليهم في مواجهة هيئات التأمين الاجتماعي في مركز مماثل للمتعاملين مع الإدارة ، ويشمل ذلك قرارات صناديق المساعدات العائلية والتنظيمات التعاونية الاجتماعية والزراعية والتنظيمات العمالية المختصة بدفع بدلات البطالة للعمال ، وذلك سواء أكانت تلك القرارات مبنية على الاختيار أو الإجبار ، وسواء كانت صادرة برفض منح المساعدة أو الإعانة أو البدل  أم بمنحها .

     وعلى الرغم من أن المشرع الفرنسي قد اعفي الإدارة من وجوب تسبيب القرارات المتقدمة إذا توافرت شروط واحدة من حالات ثلاث عددها حصرا وهي : مقتضيات السرية ، والاستعجال المطلق ، والقرارات الضمنية ، دون أن يمنع ذلك القاضي الإداري من إلزام الإدارة بالإفصاح عن تلك الأسباب في وقت لاحق ، فإنه مع ذلك قد خطا خطوات واسعة نحو تحقيق الضمان والاطمئنان لجمهور المتعاملين مع الإدارة بفرضه مبدأ التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية الفردية الصريحة المنصوص عليها في القانون رقم 587/1979 بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور المعدل بالقانون رقم 76/1986 ، وذلك على النحو السالف البيان ، والذي لطف بمقتضاه من حدة المبدأ العام المقرر وهو عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية إلا بنص ، وحقق بذلك ديمقراطية النظام الإداري الفرنسي ، وكفل تقليل احتمالات صدور قرارات إدارية خاطئة أو متعجلة ، وسهل مهمة القاضي الإداري في ممارسة رقابته على المشروعية الداخلية للقرار الإداري .

   الخاتمة

     وهكذا بات من المؤكد أن هناك تراجع حقيقي عن بعض المبادئ التقليدية التي كانت تحكم مسيرة القضاء الإداري الفرنسي ردحا من الزمن ، من خلال العدول عن مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، والتلطيف من حدة المبدأ العام في عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية ما لم يوجد نص يوجب ذلك ، وقد تحقق ذلك عن طريق تضافر جهود المشرع والفقيه والقاضي كل بحسب دوره ، الأمر الذي لا يسعنا معه إلا أن نناشد المختصين والمهتمين بمتابعة نظمنا الإدارية وإصلاح أوضاع قضائنا الإداري أن يسايروا هذه التطورات ، إذ ليس من المفيد دائما أن نبدأ من أول الطريق وإنما قد يكون من الأجدى أن نبدأ من حيث انتهى الآخرين ، ومما أثلج صدرنا في هذا الخصوص ما طالعتنا به بعض التشريعات العربية على شبكة الانترنت وهي تتجه نحو مواكبة مستجدات العصر في ديمقراطية الإدارة وشفافيتها ، وذلك من خلال مسارعة المشرع المغربي في تاريخ 23/7/2002  إلى إصداره القانون رقم 01-03 بشأن إلزام الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية بتعليل ( أي تسبيب ) قراراتها الإدارية ، وكذلك تضمين المشرع الجزائري قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد الصادر برقم 08-09 في تاريخ 25/2/2008 ما يفيد كسر مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة ، بأن أجاز له فرض غرامة تهديدية على الإدارة لضمان تنفيذ أحكامه والامتثال لأوامره واتخاذ ما يراه من تدابير ضرورية في حالة الاستعجال القصوى ، ونأمل أخيرا أن نكون قد القينا بعض الضوء على هذا التجديد في المفاهيم والمبادئ القانونية .

والله من وراء القصد وهو يهدي سواء السبيل ،،،

الهوامش
[1] يقصد بالشفافية الإدارية انفتاح الإدارة على كل الأطراف ذوي العلاقة  قصد توفير المعلومات وجعل القرارات المتصلة بالأوضاع الإدارية متاحة ومنظورة ومفهومة من خلال النشر والإعلان في وسائل الإعلام  المتاحة .
[2] ينصرف  مدلول ديمقراطية الإدارة إلى مساهمة الأفراد الفعالة والحقيقية في صنع القرار الإداري .
[3] هذا هو التاريخ الذي أصبح فيه مجلس الدولة الفرنسي بموجب قانون 24/5/1872  ذو اختصاص قضائي نهائي فيما أطلق عليه بمرحلة القضاء المفوض ، بعد أن كان المجلس يدور في فلك الإدارة فيما يعرف بمرحلتي الوزير القاضي والقضاء المحجوز حيث لم يكن خلالها يصدر أحكاما قضائية تكون ملزمة ونافذة بمجرد صدورها ، وإنما كان بمثابة هيئة استشارية تصدر توصية أو اقتراحا بالحل يكون معلقا على تصديق أو اعتماد جهة الإدارة .
[4] C.E.,24 Avr. 1874 , Abbe’ Douphm, Rec.,p.349 .
[5]مجموعة المبادئ القانونية  ، س 37 ، ص 1201 .
[6]حكم غير منشور .
[7] Weil(P.) : Les consequences d’annulation d’un acte administratife pour exces de pouvoir , These 1952 , p.61 .
[8] ًWaline(M.) : Note sous C.E., 2 Mai 1962 Caucheteux et Demonts, R.D.P., 1963 , p. 279 .
[9]Rivero(J.) : – Le huron au palais royal , ou reflexions naives sur le recours pour exces de pouvoir , Dalloz.,1962 , chroniques, p.37 .
- Le systeme francais de protection des citoyens contre L’epreuve des faits , Mel.  J.Dubin.1963, Bruxelle, Bruylant, p.813 .
[10]Hauriou(M.) : Note sous C.E., 22 Juillet 1910 , fabregues, Sirey. 1911-3-121.
[11] Diqual(L.) : La competence liee, These Paris, L.G.D.J., 1964 , p.548.
[12]Jeze(G.) : Prencipes generaux de droit administratif, Paris, 1914 , p.9ets.
[13]Le Berre(J.M.) : Les pouvoirs d’injonection et d’astreinte du juge judiciare a l’egard de l’administation, A.J.D.A., 1979, No.2, p.14 ets.
[14]Cass.Civ., 16 Juillet 1986 sivorm de region d’aigues C/Mor lureux Bull civil 1986 , T.I.No.211.
[15] أنظر حكم المجلس الصادر بتاريخ 10/5/1974 في قضية بار وهونيه  ( مجلة أحكام مجلس الدولة لعام 1974 ص 276 ) .
[16]Walline(M.) : Le controle juridictionnel de L’adminisration , Le caire 1949, p.199 ets.
[17] J.C.P., 1995 No.67295.
[18]أنظر في تفصيل ذلك : د. حسني سعد عبد الواحد ، تنفيذ الأحكام الإدارية ، رسالة دكتوراه حقوق القاهرة 1984 ، خصوصا ص 499 وما بعدها ، د.يسري محمد العصار ، مبدأ حظر توجيه أوامر من القاضي الإداري للإدارة وحظر حلوله محلها وتطوراته الحديثة ، دراسة مقارنة ، دار النهضة العربية القاهرة ط/ 2000 ، خصوصا ص 236 وما بعدها ، د.صلاح يوسف عبد العليم ، أثر القضاء الإداري على النشاط الإداري للدولة ، دار الفكر الجامعي الإسكندرية ط/ 2008 ، خصوصا ص 366 وما بعدها ، د.محمد سعيد الليثي ، امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة ضدها ، رسالة دكتوراه حقوق القاهرة 2009 ، خصوصا ص 491 وما بعدها ، د.منصور محمد أحمد ، الغرامة التهديدية كجزاء لعدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري ، دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية ط/ 2002 خصوصا ص 74 وما بعدها ، د.عصمت عبد الله الشيخ ، الوسائل القانونية لتنفيذ الأحكام الإدارية ، دار النهضة العربية القاهرة ط/ 2005 ، خصوصا ص 84 وما بعدها .
[19]أ.د. محمد عبد اللطيف ، تسبيب القرارات الإدارية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ط/ 1993 ، ص 81 .
[20]303-11 p.243. No.C.E.,24 Avril 1964 , sieur Delahaye, A.J.D.A.,
[21]C.E.,27 Janvier 1950 , Sirey, p.41 .Conclusion Letourneur.
[22]C.E., 27 Novembre 1970, Rec., P.704 .
[23]Hostiou(R.): procedure et formes de l’acte administratif unilateral en droit francais , L.G.D.J., Paris 1975 , p.170 ets.
[24]الحكم الصادر بتاريخ 12/7/1958 في الطعن رقم 58/4ق ( مجموعة المبادئ التي قررتها المحكمة في عشر سنوات 1955/1965 ص 1169) .
[25]المجموعة المفهرسة لكافة مبادئ المحكمة العليا في عشر سنوات 1964/1974 للمستشار عمر عمرو،  ج ا المبادئ الإدارية والدستورية ، ص 366 ، رقم 280 .
[26]أنظر في تفصيل ذلك أ.د. ماجد راغب الحلو ، السرية في أعمال السلطة التنفيذية ، الدار الجامعية للطباعة والنشر بيروت ط/ 1993 .
[27] عبرت المحكمة العليا الليبية عن أهمية تسبيب القرارات الإدارية في حكمها الصادر بتاريخ 9/5/1966 في الطعن الانتخابي رقم 73و74 بقولها ” أن الحكمة التي أرادها المشرع من وجوب تسبيب قرارات لجان الطعون الانتخابية هي لكي تكون الأسباب مرآة صادقة لما يختلج في نفس اللجنة عند إصدارها القرار الواجب التسبيب ، فتفصح الأسباب عن دوافع إصداره ، وتضفي الاطمئنان على نفوس المتنازعين ، وذلك بتوافر رباط منطقي وثيق بين منطوق القرار وأسبابه ، وبذلك يرتفع القرار عن مظنة الشك والشبهات ” المجموعة المفهرسة لكافة مبادئ المحكمة العليا في عشر سنوات 64/1974 للأستاذ المستشار عمر عمرو ، دار مكتبة النور ، طرابلس ب.ت ، ج 1 المبادئ الإدارية والدستورية ، ص 367 ، رقم 281 .
[28]أنظر في حكمة التسبيب وأهميته ، تعليق أ.د. عبد الفتاح حسن ، التسبيب كشرط شكلي في القرار الإداري ، مجلة العلوم الإدارية ، س 8 ، ع 2 ، القاهرة 6/1966 ، ص 175 وما بعدها ، ومؤلف أ.د. ماجد راغب الحلو ، المرجع السابق ، ص 143 وما يعدها ، ورسالة المستشارالدكتور/ الديداموني مصطفى أحمد ، الإجراءات والأشكال في القرار الإداري ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ط/1992 ، خصوصا ص 189 وما بعدها .
[29]ومن تطبيقات ذلك في قضاء المحكمة الإدارية العليا المصرية ، ما قررته في حكمها الصادر بتاريخ 21/3/1959 بأنه ” إذا كان الأصل في القرار الإداري عدم تسبيبه إلا إذا نص القانون على وجوب هذا التسبيب ، فإن القرار التأديبي على النقيض من ذلك ، وهو قرار ذو صبغة قضائية إذ يفصل في موضوع مما يختص به القضاء أصلا ، يجب أن يكون مسببا “  مجموعة المبادئ ، س 4 ، ع 2 ، ص 982 ، قاعدة 85 .
[30]  ومن تطبيقات ذلك في قضاء مجلس الدولة الفرنسي حكمه الصادر بتاريخ 27/1/1950 في قضية بيلار ( سبقت الإشارة إليه ) ، وهو ما نسجت على منواله أيضا المحكمة العليا الليبية بالنسبة لقرارات لجان الطعون الضريبية في حكميها الصادرين في الطعنين الإداريين رقمي 1/18ق بتاريخ 9/6/1971 و 13/16ق بتاريخ 13/6/1971 ومما جاء فيهما ” أن القرار الصادر من لجان التظلمات الضريبية  وهو قرار ذو صبغة قضائية إذ يفصل في موضوع مما يختص به القضاء أصلا ، يجب أن يكون مسببا ويجب على تلك اللجان وقد أعطاها القانون ولاية القضاء في خصومة بين الممول ومصلحة الضرائب أن تلتزم بالأصول العامة والمبادئ العامة للتقاضي إذ أن ثمة قدرا من الضمانات الجوهرية يجب أن يتوافر كحد أدنى في كل خصومة تعرض على تلك اللجان للفصل فيها ، وذلك بما يكفل الاطمئنان بصحة الوقائع المادية والقانونية التي تكون منها تلك اللجان عقيدتها ، ويتيح للقضاء الإداري إعمال رقابته على ذلك كله ” المجموعة المفهرسة لكافة مبادئ المحكمة العليا في عشر سنوات 64/1974 للأستاذ المستشار عمر عمرو ، دار مكتبة النور، طرابلس ب.ت ،  ج 1 المبادئ الإدارية والدستورية ، ص 285 ، رقم 219  .
[31]Manesse(J.) : Le probleme de la motivation des decisions administratives , These pour le doctorat d’Etat, CUJAS,1976, p.126 ets.
[32]Issac(G.): La procedure administrative non contenticuse, L.G.D.J.,1968, p.220 ets.
Rivero(J.): Le systeme Francais de protection des administers contre l’arbitraire administratif a la prevue des faits, Melanges J.Debin, E.D.C.E.,1961.
[33]Issac(G.): La Bastille Administrative, Le Monde, 11 Mars 1975 .
[34] يلاحظ أن أ.د. عبد الفتاح حسن قد أشار من قبل إلى عدة دول أخرى تأخذ بوجوب تسبيب القرارات الإدارية كأصل عام ، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية ( تعليقه السابق ، ص 175 وما بعدها ) .
[35]د. محمد السيد عبد المجيد ، نفاذ القرارات الإدارية وسريانها في حق الأفراد ، دار النهضة العربية ، القاهرة ط/2002 ، ص 144 وما بعدها .
[36]J.O. 18 Juillet 1978 , p.2851.
[37] وكذلك القرارات غير اللائحية وغير الفردية ، وهي تلك التي يطلق عليها في فرنسا تعبير القرارات الوسيطة أو المختلطة لجمعها بين خصائص القرار الفردي والقرار اللائحي ، ومثالها القرار الصادر بتقرير المنفعة العامة لمشروع معين ، تمهيدا لإصدار قرار بنزع الملكية ، حيث يتسم بصبغة القرارات اللائحية فيما يتعلق بميعاد الطعن عليه خلال شهرين من تاريخ نشره ، كما أنه يتصف بطابع القرارات الفردية فيما عدا ذلك ( أنظر في ذلك حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر بتاريخ 18/4/1984 منشور بمجلة القانون العامR.D.P., 2002 III, p.14.   ).
[38]أنظر في تفصيل ذلك رسالة الدكتور/ أشرف  عبد الفتاح أبو المجد ، المرجع السابق ، ص 151 وما بعدها .
[39]وقد التزم مجلس الدولة الفرنسي تفسيرا دقيقا لهذه الطائفة من القرارات حيث أستقر على عدم انصرافها للقرارات الفردية الصريحة الصادرة لصالح الأشخاص المخاطبين بها ولو تضمنت الإضرار بالغير ( أنظر على سبيل المثال حكمه الصادر  بتاريخ  20/1/1989A.J.D.A., 1989 , p. 308 . ) .


تعليقات