القائمة الرئيسية

الصفحات



انقضاء الالتزام المقاصة

انقضاء الالتزام

المقاصة

محمود جلال حمزة






أولاً: ما هية المقاصة وتعريفها:

1- ماهية المقاصة: قد يحدث في المعاملات المالية، وخاصة منها بين التجار، وفي حسابات البنوك، أن يصبح الدائن مديناً لمدينه في وصف الدين وجنسه، فيحدث بينهما الوفاء بما يسمى في الاصطلاح القانوني بالمقاصة. فالمقاصة تفترض وجود دينين لشخصين كل منهما دائن ومدين في الوقت ذاته، فهي وسيلة من وسائل انقضاء الالتزام. فبدلاً من أن يوفي المدين بدينه، ثم يطالب دائنه بالدين المترتب عليه ينقضي الدينان بقدر الأقل منهما، فيكون المدين بالدين الأقل قد وفّى دينه ببعض حقه، ويكون الدائن بالدين الأكبر قد استوفى جزءاً من حقه، ويتعين على المدين بالباقي الزائد أن يقوم بالوفاء وفاءً عادياً. فهي طريق سهلة للوفاء يتم الوفاء فيها دون نقل النقود إلى الدائنين تجنباً لما ينجم عن ذلك من عناء النقل أو ارتفاع في النفقات في معاملات التجار وحساباتهم ومعاملاتهم المالية مع البنوك والمصارف.

وإذا كانت المقاصة وسيلة من وسائل انقضاء الالتزام فهي في الوقت ذاته أداة ضمان؛ لأنها تجنب طرفيها مزاحمة دائني الطرف الآخر فيما لو اضطر إلى الوفاء بما عليه، ثم الرجوع بما له على مدينه. وعلى هذا الأساس فإن المقاصة تعدّ حالة نادرة يتمتع فيها الدائن العادي بالأفضلية على باقي دائني مدينه، فيستوفي حقه متقدماً على جميع الدائنين، وقد أشارت إلى ذلك المذكرات الإيضاحية للقانون المدني المصري؛ إذ قالت: يتفرع عن المقاصة معنيان: أولهما معنى الوفاء، فكل من المدينين يقاص وفاء بالدين الآخر، والثاني معنى الضمان، لأن من يتمسك بها لتلافي ما وجب في ذمته مما يوجب له في ذمة هذا الدائن من حيث القصاص؛ ضَمن استيفاء دينه مقدماً على سائر الدائنين.

2- تعريف المقاصة: اختلفت المدونات العربية، واختلف رجال القانون في تعريف المقاصة، فمنهم من قال إنها: إيفاء دين مطلوب لدائن بدين مطلوب منه لمدينه (المادة 343 مدني أردني). ومنهم من قال إنها: وسيلة سلبية في تسوية الديون المتقابلة بين ذمتين، كل منهما دائنة للأخرى ومدينة لها في الوقت ذاته، سواء بموجب رابطة بعينها، أم روابط مختلفة مستقلة مُنبتّة الأسباب وذلك بمقدار الأقل. ومنهم من قال إنها: وفاء مزدوج يضمن للدائن استيفاء حقه، وتتحقق عندما يتلاقى دينان في ذمة شخصين اجتمعت في كل منهما صفة الدائن والمدين فينقضي الدينان بقدر الأقل منهما. وعرّفها آخرون فقالوا: إنها طريق لقضاء الدين أو لوفائه عندما يصبح المدين دائناً لدائنه؛ إذا كان الدينان نقوداً أو مثليات متحدة بالنوع والجودة، وكانا خاليين من النزاع، ومستحقي الأداء حيث ينقضي الدينان بقدر الأقل منهما. ولعل من الواضح أن التعريفات جميعها تصب في معين واحد مع اختلاف في التعبير، فتعرف المقاصة بصفاتها، وأنها طريق مزدوجة مختصرة لحصول الوفاء بها، وهي في حدّ ذاتها تعدّ ضماناً لاستيفاء الديون. ومهما يكن من أمر فإن المقاصة تحصل عندما يتقاص دينان في شخصين كل منهما دائن ومدين للآخر تقاصّاً متعادلاً في كلا الدينين فيتم فيه الوفاء. ويكون التقاص متعادلاً عندما يكون الدينان متساويين فينقضي الدين كلياً، أما إذا كان أحد الدينين أكثر من الآخر انقضى الدين الأقل بما يعادله بالجزء الأكبر، وعلى المدين بالباقي أن يفي به.

3- الأصول التاريخية للمقاصة: تطورت فكرة المقاصة في تاريخها بين الأحقاب المختلفة من الزمن باعتبارها عند الرومان مقاصة اتفاقية، ثم أضحت بعد ذلك مقاصة قضائية، وانتهت إلى أنها مقاصة تتم بقوة القانون بصورة حتمية ولو لم يكن المدين عالماً بها. وأخذ بهذا الاتجاه القانون الفرنسي القديم والتشريعات اللاتينية. أما في التقنينات الجرمانية فإن المقاصة إرادية ولا تقع بقوة القانون؛ بل تتطلب التعبير عن إرادتين؛ تصدر من الطرف الأول إلى الطرف الثاني، عندئذٍ تقع بأثر مستند إلى تاريخ توافر شروطها. إضافة إلى ذلك فإن التشريعات الجرمانية غالت في الأخذ بفكرة الضمان وامتياز الدائن على جميع الدائنين الآخرين، فأقرت للدائن عند إفلاس المدين أن يستوفي حقه كاملاً ويتقدم على جميع الدائنين؛ ولو كان دائناً عادياً فهو في حكم الدائن المرتهن؛ ولو لم تكن ديونه مستحقة الأداء. ومنحت المدين المفلس إذا أصبح دائناً لدائنه أن يتمسك بها أيضاً، فمن شأن المقاصة إذن أن تقدم تأميناً للدائن، فهي من هذه الزاوية تعدّ أداة ضمان. (السنهوري، الوسيط، ج3، أحكام الالتزام، ف535، ص875، وسيشار إليه لاحقاً: السنهوري، أحكام).

4- المقاصة في مذهب القانون المدني السوري: اتجه التشريع المدني السوري اتجاه المذهب اللاتيني فأخذ بالمقاصة القانونية ورأى فيها وسيلة للوفاء، كما هي أداة ضمان لكل من المتداينين.

ثانياً: صور المقاصة:

المقاصة باعتبارها وسيلة للوفاء ولا تقع إلا بقوة القانون إذا توافرت شروطها سواء رضي الطرف الآخر أم رفض، وعلى القضاء أن يحكم بوقوعها متى عرض عليه النزاع. إلا أن هذا لا يحول دون اتفاق الطرفين على وقوعها بين دينين لم تتوافر فيهما شروط المقاصة القانونية، فتسمى عندئذٍ المقاصة الاختيارية أو الرضائية لأنها تتم برضاء الطرفين المتداينين. فإذا لم تتحقق شروط المقاصة القانونية وتعذر اتفاق الطرفين على المقاصة الرضائية. تتم المقاصة عندئذٍ بحكم قضائي، فتسمى عندئذٍ بالمقاصة القضائية، وللمقاصة صور ثلاث: المقاصة القانونية، المقاصة الرضائية، المقاصة القضائية.

1- المقاصة القانونية: هي التي تتم بقوة القانون متى توافرت شروطها، وقد اقتصر القانون المدني السوري على تنظيم أحكامها، في حين ترك الصورتين الأخريين إلى القواعد العامة وآراء رجال القانون. وبيّن أحكامها في موضوع انقضاء الالتزام، وسارت على منواله القوانين العربية الأخرى كالقانون المدني الجزائري، والقانون المدني القطري، والقانون المدني الأردني.





أ- شروط المقاصة القانونية:

بالرجوع إلى المادتين (360) و(362) من القانون المدني السوري، يتبين أن شرائط المقاصة القانونية هي:

(1) الشريطة الأولى: أن يكون الدينان متقابلين لشخصين كل منهما دائن ومدين للآخر، أي هناك شخصان كل منهما دائن للآخر ومدين له في الوقت ذاته في دين معين؛ حتى لو لم يكن بين الدينين ارتباط سواء كان ذلك  بالجنس أم بالحق، فلا تصح المقاصة لو كان الشخص دائناً بصفته الشخصية للآخر ومديناً بغير هذه الصفة، كما لو كان مديناً بصفته الشخصية ودائناً بصفته وصيّاً أو وكيلاً أو مديراً لشركة، ولا تجوز المقاصة لو كان أحد الطرفين مديناً لآخر وكان لكفيله دين في ذمة الدائن، فليس لهذا المدين أن يطلب المقاصة فيما بذمته بما لكفيله من دين في ذمة مدينه (أي المدين الأول) لعدم تقابل الدينين. أما إذا طولب الكفيل بالدين فباستطاعة الكفيل أن يتمسك بالمقاصة بين الدين المترتب في ذمة مكفوله وبين الدين المترتب لمكفوله في ذمة الدائن؛ لأن التزام الكفيل بالوفاء تابع لالتزام المدين المكفول بالوفاء، فإذا انقضى الأصل انقضى معه التابع؛ فانقضاء ما بذمة المدين يؤدي إلى براءة الكفيل.

(2) الشريطة الثانية: أن يكون الدينان متحدين بالنوع والجودة، فالمقاصة تقع إذا كان الدينان متماثلين، كأن يكونا نقوداً أو مثليات متحدة في النوع والجودة. (المادة 360 مدني سوري). فإذا كان الدينان نقوداً جاز التمسك بالمقاصة، ولا يجوز التمسك بها ولو كان أحد الدينين نقوداً وكان الآخر من غير النقود، أو كان أحد الدينين قطناً فلا يجوز الوفاء به قمحاً. وإذا كانا من صنف واحد فيجب للتمسك بالمقاصة أن يكونا متحدي الجودة، فلا تقع المقاصة بين عدس أبيض جيد وعدس صغير سيئ، أو بين تمر عالي الجودة وتمر رديء الجودة. كما لا يجوز المقاصة في دينين محل أحدهما القيام بعمل والثاني امتناع عن عمل.

(3) الشريطة الثالثة: أن يكون الدينان خالييين من النزاع، أي أن يكونا محققي الوجود ومحددي القدر، فلا تقع المقاصة إذا كان أحد الدينين متنازعاً عليه أو متنازعاً في وجوده؛ شريطة أن تكون المنازعة جدية وليست صورية؛ وقاضي الموضوع هو الذي يقدر الجدية من عدمها. أو كان غير معلوم المقدار؛ كالتعويض عن فعل ضار قبل صدور الحكم به، كما لا تقع المقاصة بين دينين أحدهما محقق الوجود والثاني معلق على شرط موقف. أما إذا كان معلقاً على شرط فاسخ فتصح فيه المقاصة لكونه محقق الوجود إذا لم يتحقق الشرط، فإذا تحقق زال الدين فلا تتحقق المقاصة بل تزول بأثر رجعي. ولكي تتحقق المقاصة يجب أن يكون الدين معلوم المقدار، فلا يقاص دين المتضرر من فعل ضار بدين المسؤول عن هذا الفعل إلا إذا صدر الحكم بتقدير التعويض تقديراً نهائياً؛ أو إذا اتفق الطرفان على مقدار التعويض.

(4) الشريطة الرابعة: أن يكون الدينان مستحقي الوفاء على المدين أن يقوم بوفاء ما بذمته عند حلول أجل الدين، فإن لم يفعل يجبر على ذلك، ولا يجبر إلا إذا كان الدين مستحق الأداء، لذلك لا يمكن التمسك بالمقاصة بين دينين لم يحل أجل أحدهما أو أجلهما بعد.

بيد أن نظرة الميسرة التي يمنحها القاضي للمدين لا تمنع من وقوع المقاصة متى أضحى المدين مستعداً للوفاء؛ ذلك لأن نظرة الميسرة لا يمنحها القاضي للمدين إلا بعد الوثوق من أن حالته لا تسمح بالوفاء في حينه، لكنها مع ذلك لا تغير من طبيعة الدين وإن كانت إجراءات استيفائه قد توقفت؛ إذ يبقى الدين حالاً مستحق الأداء متى أصبح المدين قادراً على الوفاء عن طريق المقاصة بين ما استجد بذمته وبين ما في ذمة دائنه، لأن قيام الأجل في هذه الحالة لا يحول دون المقاصة، فإذا كان الدينان أو أحدهما مضافاً إلى أجل؛ فلا تقع المقاصة إلا بعد حلول الأجل وانقضاء مدته؛ أو النزول عنه ممن كان مقرراً لمصلحته، فإذا سقط الأجل قبل حلوله استحق الدين وأمكن التمسك بالمقاصة. (المادة 360/2 مدني سوري).

(5) الشريطة الخامسة: أن يكون الدينان صالحين للمطالبة بهما قضائياً، الالتزام الذي يفقد عنصر المسؤولية يعدّ التزاماً طبيعياً لا يحميه القانون، وكذلك الدين الطبيعي فلا تقع المقاصة به إذ لا جبر للوفاء به. وكذلك لا تقع المقاصة إذا مضت على الدين مدة التقادم مع دين مقابل حل أجل استحقاقه بعد تقادم الدين الأول، ذلك لأن الدائن الذي تمسك بالمقاصة يقابله المدين المتمسك بالتقادم فلا تتم المقاصة.

(6) الشريطة السادسة: أن يكون الدين قابلاً للحجز عليه قانوناً. يحرص القانون على أن يستوفي صاحب الحق حقه، والمقاصة وسيلة جبرية لاستيفاء الحق، وتقع إذا كان الدينان المتقابلان قابلين للاستيفاء جبراً بالحجز عليه فإذا كان أحد الدينين غير قابل للحجز عليه، لا تجوز المقاصة. فالمدين بدين النفقة في ذمة دائنه ليس له أن يتمسك بالمقاصة بين دينه بالنفقة وحقه العادي بامتناعه عن الوفاء بالنفقة؛ فالنفقة ضرورية لحياة مستحقها لذلك لا يجوز الحجز عليها.

ب- حالات تمتنع فيها المقاصة قانوناً:

نص القانون المدني السوري على حالات يمتنع فيها التقاص على الرغم من توافر الشروط السابقة، وهي:

(1) حالة كون محل أحد الشيئين نُزع دون حق من يد صاحبه يجب رده إليه، كمن يستولي أو يغصب مالاً وطالبه مالكه برده، فليس لمن غصب الشيء أن يتمسك بالمقاصة بين ما غصبه وبين ما له بذمة مالكه؛ ولو اتحد الدينان جنساً. والحكمة من ذلك هي منع الشخص من استيفاء حقه بالقوة، فعلى الدائن أن يستعيد حقه بالطرق القانونية، ثم يطالب ما له من دين في ذمة الآخر.

(2) حالة كون أحد الدينين شيئاً مودعاً أو معاراً مطلوب رده. إذا أودع شخص شيئاً أو مالاً لدى شخص آخر أو أعاره إياه عارية استعمال؛ فللمودِع أن يسترد الوديعة أو العارية وليس للمودَع لديه أو المستعير أن يمتنع عن رد الوديعة أو العارية إلى صاحبها؛ متمسكاً بالمقاصة بين حق له لدى المودع أو المعير وبين حقه الذي له عليه، حتى لا يضطرب استقرار التعامل وتزول الثقة بين الناس .

(3) حالة إذا كان الشيء غير قابل للحجز.

ج- التمسك بالمقاصة القانونية والآثار التي تترتب عليها:

إذا كانت المقاصة القانونية تقع بقوة القانون، إلا أنها لا تقع بصورة آلية - ولو توافرت شرائطها - دون أن يتمسك بها صاحب المصلحة. (المادة 363 مدني سوري، و365 مدني مصري، و300 مدني جزائري، و392 مدني قطري).

(1) إعمال المقاصة والنزول عنها: إن المقاصة نوع من الوفاء، لذلك يجب أن يتمسك بها أمام القاضي من له مصلحة في التمسك بها، فهي لا تقع بشكل آلي، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بها من تلقاء نفسه. وإذا لم يتمسك بها الخصم دلّ ذلك على نزوله عنها، بيد أن التمسك بالمقاصة القانونية ليس من النظام العام، فيجوز الاتفاق على النزول عنها صراحة أو ضمناً ولا يجوز النزول عنها قبل ثبوت الحق فيها(المادة 363/1 مدني سوري)؛ إذ لا يجوز النزول عن الحق قبل ثبوته. ويعدّ نزولاً عن المقاصة إذا قام المدين بالوفاء بما عليه من دين مع علمه بها، بل منع المشرع السوري كما المصري النزول عن المقاصة مقدماً؛ إذ ليس من المنطق في شيء أن ينزل إنسان عن حق لم يثبت له بعد، ويترتب على التنازل عن المقاصة بقاء الدين في ذمة طرفيها بكل الخصائص والتأمينات وكأنما بعثا من جديد بحكم القانون. وهنا يجب التفريق بين حالتين هما: حالة وفاء المدين وهو عالم بوجود حق له في ذمة دائنه يمكن أن يقاص به الدين، وحالة قيامه بالوفاء من دون علمه بهذا الحق. ففي الحالة الأولى يعود حقه الأصلي من دون التأمينات؛ لأن في عودتها ضرر للغير، أما في الحالة الثانية - وهي قيام المدين بالوفاء مع جهله بوجود حق له في ذمة دائنه - فلا يكون المدين في هذه الحالة قد نزل عن حقه في المقاصة لعدم علمه بحقه الذي يمكن التقاص به، لذلك حق له المطالبة بحقه وبالتأمينات الخاصة به بما فيها الكفالة الشخصية أو العينية شريطة أن يثبت جهله بوجود حق له عند وفائه بما في ذمته.

من له الحق في التمسك بالمقاصة؟ التمسك بالمقاصة لا يقتصر على المدين وحده، بل لكل ذي مصلحة أن يتمسك بها، فالكفيل الذي يُطالب بالدين له أن يتمسك بها بين الدائن والمدين؛ ذلك لأن انقضاء الدين يعني انقضاء كفالته تبعاً لذلك. وللمدين المتضامن أن يتمسك بالمقاصة التي تقع بين الدائن وأي من المدينين المتضامنين بقدر حصته من الدين.

(2) الآثار التي تترتب عن المقاصة: تترتب عن المقاصة الآثار التالية:

¯ تؤدي المقاصة إلى انقضاء الدينين المتقاصين، ويكون ذلك منذ الوقت الذي توافرت فيه شروطها، لا من وقت التمسك بها، فالتمسك بالمقاصة لا ينشئ أثرها من وقت حدوثه، بل يكشف أثرها عند استكمال شروطها (المادة 363/2 مدني سوري). وينقضي الدينان بقدر الأقل منهما إذا لم يكونا متساويين، فإذا كانا متساويين انقضى الدينان كلياً، وإذا كانا متفاوتين في القيمة انقضى الدين الأقل كلياً مع تأميناته، وبقي الفرق بين الدينين ديناً واجب الوفاء في ذمة المدين به مع تأميناته ضماناً للباقي منه (المادة 363 مدني سوري، و365 مدني مصري).

¯ إذا كانت الدعوى لا تسمع بالدين لمرور الزمن - أي مضت عليه مدة التقادم وقت التمسك بالمقاصة - فلا يمنع ذلك من وقوع المقاصة به ما دام التقادم لم تكن مدته قد تمت في الوقت الذي أصبحت فيه المقاصة ممكنة، فلو أصبح دينان صالحين للمقاصة وتأخر المدين عن التمسك بها حتى انقضت مدة التقادم؛ فإن مضي هذه المدة لا يمنع من التمسك بالمقاصة طالما تحققت شرائطها قبل انقضاء مدة التقادم. (المادة 364 مدني سوري، 394 مدني قطري، 301 مدني جزائري، 366 مدني مصري).

¯ إذا تلاقت ديون متعددة من جنس واحد في ذمة المدين لدائن واحد مع دين للمدين في ذمة الدائن، وكانت كلها صالحة للمقاصة، غير أن أحد هذه الديون مكفول بتأمين عيني فتقع المقاصة بين دين وأحد الديون الأخرى، ففي هذه الحالة يكون الدين الآخر المكفول بتأمين عيني، هو الأشد كلفة على المدين، فتقع فيه المقاصة. (السنهوري، الوسيط، ف552، ص926. المادة 343 مدني سوري، 345 مدني مصري، وفي هذا المعنى المادتان 332 و333 مدني أردني). شريطة أن تكون الديون المتقابلة قائمة وقت تلاقيها مع الدين المقابل، أما إذا كان أحد الديون هو الذي كان قائماً وحده، فإنه هو وحده الذي ينقضي بالمقاصة سواء كان مضموناً أم غير مضمون .

¯ أما بالنسبة للغير فلا يجوز التمسك بالمقاصة إضراراً بالغير على الرغم من توافر شروطها، فإذا تعلق حق للغير بأحد الدينين امتنعت المقاصة؛ لأن وقوعها يؤدي إلى الإضرار بالغير، فإذا أوقع شخص حجزاً تحت يد المدين، ثم أضحى المدين دائناً لدائنه، فلا يجوز له أن يتمسك بالمقاصة إضراراً بالغير (المادة 365 مدني سوري، 367 مدني مصري). كذلك إذا حوّل الدائن حقه إلى الغير، وقبل المدين الحوالة دون تحفظ؛ فلا يجوز لهذا المدين أن يتمسك بالمقاصة قِبَل المحال له؛ وكان له أن يتمسك بها قبل قبول الحوالة، وليس له في هذه الحالة إلاّ الرجوع على المحيل. (المادة: 366 مدني سوري، 368 مدني مصري، 301 مدني جزائري، 396 مدني قطري). ذلك لأن قبول الحوالة في وقت كان بإمكانه التمسك بالمقاصة وكان يعلم ذلك يعدُّ من جانبه نزولاً عنها. أما إذا كان لا يعلم بثبوت حقه في التمسك بالمقاصة، وقبل الحوالة دون تحفظ، يفضل عليه المحال له؛ إذ يعتقد المحال إليه بوقوع الحوالة منجزة بما يوجب حماية حقه الذي تعلق بالدين بسببها.

أما إذا كان المدين لم يقبل الحوالة ولكنه تبلغها فلا تمنعه هذه الحوالة من أن يتمسك بالمقاصة. (المادة 366/2 مدني سوري، 368/2 مدني مصري، 417 مدني عراقي).

وإذا قام المدين بوفاء الدين للدائن على الرغم من أن له حق في ذمة هذا الدائن وكان بإمكانه أن يتمسك بالمقاصة ولم يفعل، وكان المدين وهو يقوم بالوفاء عالماً بوجود حق له في ذمة المستوفي يمكن أن يقاص به، ولم يتمسك بالمقاصة؛ فإن هذا يعدُّ نزولاً عن حقه في التمسك بالمقاصة نزولاً ضمنياً، وينقضي الدين الذي كان في ذمة المدين بالوفاء ويعود للمدين حقه الذي كان انقضى بالمقاصة بعد أن نزل عنها، ولا يعود من التأمينات التي كانت تكفل الحق ما تضر عودته بالغير، فلا يضار دائن مرتهن متأخر في الرتبة عن مرتبة الرهن الذي كان يكفل الحق. أما إذا كان المدين وهو يقوم بالوفاء يجهل وجود الحق الذي يمكن أن يقاصص به الدين، فلا يعدّ وفاؤه نزولاً ضمنياً عن المقاصة، وقد جعل القانون من جهل المدين حقه المكفول حجة مقبولة يقع عليه إثباتها، ويبقى حقه في ذمة الدائن بما يكفله من تأمينات ولو أضر بقاؤها بالغير رعاية لحسن نية المدين.

2- المقاصة الاختيارية وآثارها:

أ- المقاصة الاختيارية: ويسميها بعض القانونيين المقاصة الإرادية، وتقع عندما تتخلف شريطة من شرائط المقاصة القانونية، فيتفق طرفاها بإرادتهما المشتركة على إجراء المقاصة بين الدينين. وتقع المقاصة الاختيارية عند عدم تماثل الدينين أو عدم التقابل بينهما. وهكذا فإن المقاصة الاختيارية يمكن التمسك بها عندما يقوم مانع من وقوع المقاصة القانونية، وتراعى في ذلك مصلحة أحد طرفي العلاقة أو كليهما.

ب- آثار المقاصة الاختيارية: المقاصة الاختيارية لا تنتج آثارها إلا من وقت إعلان صاحب المصلحة بإرادته إجراءها، فلا يكون لها أثر رجعي، ولا ينقضي الدينان من وقت تلاقي الدينين، بل من وقت إعلان الإرادة في إجرائها . ولا تجوز المقاصة الاختيارية بين دينين غير متساويين إلا إذا رضي الدائن بالدين الأكبر.

3- المقاصة القضائية وآثارها: وتسمى بهذا الاسم لأن القاضي هو الذي يقضي بها. وتقع هذه المقاصة إذا تحققت شرائط المقاصة القانونية، عدا ما كان منها متعلقاً بخلو الدين من النزاع ومعلومية مقداره. فالقاضي في هذا المجال هو الذي يحسم النزاع في الدين أو هو الذي يحدد مقداره من دون الحاجة إلى رضاء الطرف الآخر، وللقاضي سلطة واسعة في قبول طلب المدعى عليه في إجراء المقاصة أو عدم إجرائها.

وتقع المقاصة التي يحكم بها القاضي من تاريخ صدور الحكم وليس من تاريخ طلبها، وهي تختلف عن المقاصة الاختيارية التي تقع من وقت الاتفاق عليها.

مراجع للاستزادة:

- مصطفى الزرقا، أحكام الالتزام في ذاته، ط1 (مطبعة دار الحياة، دمشق 1964).

- جلال علي العدوي، أحكام الالتزام (الدار الجامعية، القاهرة 6891).

- السنهوري، الوسيط، ج3، أحكام الالتزام (مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1958).

- سليمان مرقس، الوافي، ط2، المجلد الرابع، أحكام الالتزام (دار النهضة العربية، القاهرة 1992).

- سليمان مرقس، أحكام الالتزام (مطابع دار الجامعات للنشر، عام 1957).

- صلاح الدين الأهواني، مجلة نقابة المحامين الأردنيين. الأبحاث. الملحق رقم 19، أحكام الالتزام (كانون الأول 1985).

- عبد المجيد الحكيم وزملاؤه، القانون المدني العراقي وأحكام الالتزام، ج2 (عام 1996، لم يذكر الناشر ولا مكان النشر).

- كولان وكابيتان، دروس في أولويات القانون الفرنسي (باريس).

- ماجد الحلواني، نظرية الالتزام العامة، ج3، انقضاء الالتزام (مطبعة جامعة دمشق، 1961).

- مجموع الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري.

- محمود جمال الدين زكي، ج2، أحكام الالتزام (مطبعة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1967).

- محمود جلال حمزة، التبسيط في شرح القانون المدني الأردني، ج3، آثار الحق الشخصي والالتزام (2005).

- ويل وتيري، الالتزامات (باريس، عام 1987).

تعليقات