القائمة الرئيسية

الصفحات



"الرقابة القضائية على قرارات المحافظ العقاري" بقلم ذ. فكير عبد العتاق رئيس غرفة بمحكمة النقض






"الرقابة القضائية على قرارات المحافظ العقاري"
بقلم ذ. فكير عبد العتاق
رئيس غرفة بمحكمة النقض
استهلالا لهذا البحث، لابد من الإشارة إلى أن موضوع الرقابة القضائية على قرارات المحافظ على الأملاك العقارية، كان دائما محل اهتمام وانشغال الباحثين من جهة، لأنه مجال خصب لتقاطع الفقه الإداري والعمل القضائي اتفاقا واختلافا، ومن جهة أخرى لأن القرارات المذكورة هي تمظهر واقعي وتجسيد مادي لتعامل مرفق عام وحساس، هو مرفق المحافظة العقارية مع مرتفقيه من المواطنين، وما يفرزه هذا التعامل من طعون تعرض على القضاء.
إذا كانت المنهجية المعتمدة في البحث، تقوم أساسا على عرض النصوص القانونية المتعلقة بالموضوع على ضوء التعديل والتتميم اللاحق بظهير التحفيظ العقاري، بمقتضى القانون رقم 07-14 والتعليق عليها تبعا للملاحظات المثارة، فإنه قد تم إغناؤه بمواقف الفقه وبالقرارات القضائية الحديثة الصادرة عن محكمة النقض في غرفتها الإدارية، وكل ذلك بهدف محاولة الإحاطة ما أمكن بتشعبات الموضوع، وعرض أهم الإشكاليات المطروحة بصدده، مع ضرورة الاعتراف هنا بأن حسم المشرع في الاختصاص النوعي لجهة قضائية معينة بالبت في قرارات محددة، رغم أن طبيعتها وخاصيتها هي أقرب إلى جهة قضائية أخرى، يجعل من الصعب إن لم أقل من المحظور إعمال معايير معينة لتجاوز هذا التحديد في ما يتعلق بالاختصاص النوعي بالنظر إلى اتصاله بقواعد النظام العام، وقد ارتأيت حصر الموضوع وتركيزه في قرارات المحافظ العقاري الأكثر شيوعا من زاوية الطعن فيها أمام القضاء، وهي القرارات التالية: 
* قرار رفض التحفيظ:
إذا كان الفصل 30 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 07-14، يعطي للمحافظ العقاري صلاحية تحفيظ العقار الذي كان موضوع مسطرة التحفيظ، بما يتخللها من إجراءات للتحديد والإشهار، وذلك بعد تحققه من إنجاز جميع الإجراءات المقررة في هذا القانون، ومن شرعية الطلب وكفاية الحجج المدلى بها ومن عدم وقوع أي تعرض، فإن الفصل 37 مكرر من القانون نفسه، يعطيه بالمقابل صلاحية رفض طلب التحفيظ شريطة تعليل قراره وتبليغه لطالب التحفيظ. وينص على أن القرار المتخذ بهذا الشأن يكون قابلا للطعن فيه أمام المحكمة الابتدائية التي تبت فيه مع الحق في الاستئناف، وعلى أن القرارات الاستئنافية قابلة للطعن بالنقض كما أن الفصل الموالي 38 من القانون نفسه، رتب على رفض مطلب التحفيظ لأي سبب كان وفي أي مرحلة من مراحل المسطرة اعتبار التحديد لاغيا، وحدد آثار هذا الرفض بالنسبة إلى طالب التحفيظ وباقي المعنيين بالأمر. ولعل أهم ما تضمنه الفصل 37 مكرر المذكور هو إلزامه للمحافظ بتعليل قراره القاضي برفض التحفيظ، فالتعليل شرط شكلي في القرار الإداري، يترتب عن عدم الإفصاح عنه كتابة في صلبه، اعتبار ذلك القرار غير مشروع – بصريح المادة الأولى من القانون رقم 01-03 بشأن إلزام الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية بتعليل قراراتها الإدارية، فالتعليل يشكل ضمانا للأمن القانوني للفرد تجاه السلطة الإدارية ويمنح الفرد قناعة بأن الإدارة تتصرف في إطار الشرعية ويحد من السلطة العامة للإدارة ويجنبها إصدار قرارات تعسفية وتحكمية. 
وإذا كان الاختصاص النوعي بالبت في قرار المحافظ العقاري، القاضي برفض التحفيظ محسوما لفائدة القضاء العادي بنص الفصل 37 مكرر فإن التمسك بعيب عدم التعليل عيبا شكليا مختلفا عن مسطرة طلب الإفصاح عن الأسباب القانونية والواقعية خلال الدعوى، وطلب ترتيب جزاء الإخلال به يبقى متاحا أمام الطرف الطاعن حتى أمام المحاكم العادية المختصة ما دام المحافظ سلطة إدارية تسير مرفقا عاما وما دام القرار هو في أصله إداري منح استثناء الطعن فيه لجهة القضاء العادي. وقد قضت محكمة النقض في قرار حديث لها صدر تحت عدد 792 وتاريخ 12/06/2014 في الملف رقم 1544/4/1/2014– غير منشور وذلك في إطار بتها كجهة استئنافية للأحكام الابتدائية الصادرة في الاختصاص النوعي : "وعليه فإن ما اعتمده الحكم المستأنف من اعتبار رفض المحافظ تأسيس الرسم العقاري موضوع مطلب التحفيظ المودع من طرف الطاعن بمثابة امتناع عن تنفيذ الحكم القضائي المشار إليه أعلاه، مخالف للواقع، سيما أنه لا جدال بين الطرفين حول صحة واقعة قيام المحافظ فعلا بالتشطيب على التعرضات المحكوم بعدم صحتها بمقتضى القرار الاستئنافي المحتج به، لذلك كان ما قضى به تأسيسا على هذا الاستنتاج الخاطئ من اعتبار اختصاص البت في الطلب منعقدا للقضاء الإداري مجانبا للصواب، وخارقا للفصل 37 مكرر من قانون التحفيظ العقاري الذي أسند اختصاص البت في طلب إلغاء قرار المحافظ برفض تحفيظ عقار في هذه الحالة للمحاكم الابتدائية»، وهو ما أكده أيضا القرار عدد 570 الصادر بتاريخ 24/04/2014 في الملف الإداري رقم 853/4/1/2014- غير منشور.
* قرار إلغاء مطلب التحفيظ:
إذا كانت الجهة القضائية المختصة نوعيا بالبت في الطعن في قرار المحافظ العقاري القاضي برفض التحفيظ محددة قانونا، فإن ظهير التحفيظ العقاري كما تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 07-14 لم يحدد الجهة القضائية المختصة بالنسبة إلى قرار المحافظ القاضي بإلغاء مطلب التحفيظ، والذي يوقع بعض الباحثين في الخلط بينه وبين قرار رفض التحفيظ، وفي إطار التفرقة بين القرارين صدرت دورية عن المحافظ العام تحت عدد 383 بتاريخ 16/12/2010 . فالفصل 23 من ظهير التحفيظ العقاري ينص على أنه «دون المساس بأحكام الفصل 6 من هذا القانون إذا نص المحضر على تغيب طالب التحفيظ أو من ينوب عنه أو على عدم قيامه بما يلزم لإجراء عملية التحديد فمطلب التحفيظ يعتبر لاغيا وكأنه لم يكن إذا لم يدل بعذر مقبول داخل أجل شهر من تاريخ توصله بالإنذار. يعتبر مطلب التحفيظ كذلك لاغيا وكأن لم يكن إذا تعذر على المحافظ على الأملاك العقارية أو نائبه إنجاز عملية التحديد لمرتين متتاليتين بسبب نزاع حول الملك. وهكذا اعتبر بعض الفقه، أن الطعن في قرار المحافظ العقاري القاضي بإلغاء مطلب التحفيظ يصبح الاختصاص النوعي بشأنه للمحاكم الإدارية على اعتبار أن المحافظ يعتبر سلطة إدارية، وإن كان يفصل في مصلحة خاصة وأن قراراته تبقى في الأصل خاضعة للولاية العامة للقضاء الإداري، إلا ما استثني بنص صريح يسند الاختصاص للقضاء العادي.
- المحاكم الابتدائية هي المختصة نوعيا بالبت في طعون رفض التحفيظ وإلغائه: 
اعتبر الجانب الغالب من الفقه، ونسانده الرأي، أن المحاكم الابتدائية تبقى هي المختصة نوعيا بالبت في الطعن المذكور، وما يعزز هذا الرأي هو عبارة «في جميع الحالات» الواردة في الفصل 37 مكرر، والتي نعتبر بأنها تستوعب وتشمل قراري رفض التحفيظ وإلغاء المطلب،
وفي هذا الاتجاه أصدرت محكمة النقض قرارا حديثا تحت عدد 82 بتاريخ 15/01/2015 في الملف رقم 3538/4/1/2014-غير منشور- ورد فيه « حيث صح ما عاب به الطاعن الحكم المستأنف ذلك أن القوانين الإجرائية المتعلقة بالاختصاص تطبق بأثر فوري من تاريخ صدورها ولو على القضايا التي لم يصدر بشأنها حكم نهائي، ومن الثابت أن المستأنف التمس إلغاء قرار المحافظ القاضي بالتشطيب على مطلب التحفيظ وهو ما يندرج ضمن حالات رفض طلب التحفيظ المنصوص عليها في الفصل 37 مكرر من ظهير التحفيظ العقاري، كما تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 07-14، والذي ينعقد الاختصاص النوعي بشأن الطعن في القرارات المتخذة بخصوصها للمحكمة الابتدائية خلافا لما نحاه الحكم المستأنف الذي جانب الصواب، فيكون واجب الإلغاء والتوجه نفسه أكدته محكمة النقض الإداري رقم 1679/4/1/2014 وكذلك قرارها عدد 312 الصادر بتاريخ 13/03/2014 في الملف الإداري رقم 11/4/1/2014 الذي أدرج حالة تعذر إنجاز عملية تحديد الملك موضوع النزاع لمرتين متتاليتين بسبب النزاع حوله ضمن حالات رفض التحفيظ التي يشملها الفصل 37 مكرر.
وباستعراضنا للنصوص القانونية المتعلقة بحالات إلغاء مطلب التحفيظ تستوقفنا بعض العبارات الواردة فيها والتي تستدعي في نظرنا التوقف عندها والتعليق، ذلك أنه ورد في الفصل 23 من ظهير التحفيظ العقاري أن عدم قيام طالب التحفيظ بما يلزم لإجراء عملية التحديد يترتب عنه جزاء إلغاء مطلبه، فأول ما يلاحظ على عبارة «عدم القيام بما يلزم» هو أنها وردت عامة وفضفاضة، وبالتالي فإنها تترك للمحافظ سلطة تقديرية واسعة لإلغاء المطلب بحسب تقديره لتلك الواقعة السلبية وهذه السلطة التقديرية تمتد إلى عدم الإدلاء، «بعذر مقبول» كما ورد في الفصل 23 المذكور، وقد يعارض بعض الممارسين هذا التخوف من جانبنا المؤسس على صياغة النص المذكور باستعراضهم بعض صور عدم القيام بما يلزم لإجراء عملية التحديد، كعدم إحضار الأحجار أو الطلاء أو عدم معرفة طالب التحفيظ للحدود، لكننا نجيبهم أن الصياغة المذكورة غير دقيقة وتحمل في طياتها مخاطر المس بحقوق طالبي التحفيظ والمثل الفرنسي يقول «في التفاصيل يوجد الشيطان»، لذلك نعتبر حقوق الأفراد والجماعات تبدأ من صياغة النصوص القانونية وما تسمح به من تأويلات ليأتي دور القضاء حال التمسك بذلك ممن له المصلحة .
كما أن جزاء إلغاء مطلب التحفيظ، في حال تعذر إنجاز عملية التحديد لمرتين بسبب نزاع حول الملك، يعتبر جزاء قاسيا، ويتعارض أصلا مع مقتضيات الفصل 20 من ظهير التحفيظ العقاري الذي نص على أنه :
«ينجز التحديد في التاريخ والوقت المعين له ولتوفير الظروف الملائمة لإجراء عمليات التحديد يجب على وكيل الملك تسخير القوة العمومية عند الاقتضاء بطلب من المحافظ على الأملاك العقارية أو كل من له مصلحة».
وهو جزاء يعاقب طالب التحفيظ بإلغاء مطلبه، رغم أنه لا يتحمل أي مسؤولية مباشرة في ذلك التعذر، ما دام النزاع حول الملك هو أمر وارد دوما (إن لم نقل محقق) بالنظر إلى واقع ووضعية العقارات غير المحفظة، وأن الإطار القانوني المناسب الذي يجب أن يصنف ضمنه ذلك النزاع هو تسجيله كتعرض على المطلب لا إلغاء هذا الأخير، وإلا فإن أغلب مطالب التحفيظ إن لم نقل كلها ستلغى تطبيقا للقانون بمجرد أن ينتبه ذوو النيات السيئات للمقتضيات المذكورة مع استثناء الحالات التي يتم فيها المس بالأمن والنظام العام بشكل خطير – كالمنازعات بين الجماعات السلالية المختلفة، والتي يكون فيها جزاء إلغاء المطلب أهون وأسلم مما قد يترتب عن مواصلة الإجراءات بشأنه.
ولا يفوتنا أن نشير ولو بعجالة إلى أن الطعن في قرار رفض تأسيس رسم عقاري جزئي بخصوص جزء غير منازع فيه بعد إجراء تحديد تكميلي، يكون منعقدا للمحكمة الابتدائية بصريح الفصل 23 من القرار الوزيري المؤرخ في 03/06/1915 المتعلق بتفاصيل تطبيق نظام التحفيظ العقاري، وكذلك الطعن في حالة رفض تسليم نظير جديد للرسم العقاري أما بناء على تقدير المحافظ أو لوقوع تعرض على ذلك – الفصل 103 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 07-14. أما بخصوص قرار رفض إرجاع نظير رسم عقاري لأصحابه رغم ثبوت انتهاء التسجيلات التي كانت سبب وضع النظير المذكور لدى المحافظ، فقد اعتبره المجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا قرارا إداريا متسما بالشطط في استعمال السلطة وقابلا للطعن فيه بالإلغاء لعدم وجود دعوى موازية أمام القضاء الشامل –القرار عدد 158 الصادر بتاريخ 06/04/1995 في الملف الإداري رقم 10058/94 – منشورات المجلس الأعلى في ذكراه الأربعين – سنة 1997- ص 309.
أما بالنسبة إلى قرار تأسيس الرسم العقاري، فلا يقبل الطعن باعتباره المنطلق الوحيد للحقوق العينية والتحملات العقارية المترتبة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداه من الحقوق غير المقيدة، وهو ما ينص عليه الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري وأكده العمل القضائي المتواتر على مستوى محكمة النقض 4 وبالتالي يبقى للمتضرر من التحفيظ المذكور الحق فقط في المطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن التحفيظ نتيجة التدليس.

تعليقات