القائمة الرئيسية

الصفحات



حقوق المتهم أثناء المحاكمة

 


 حقوق الحدث أثناء المحاكمة

المطلب الأول

المقصود بالحدث

 

قبل الكلام عن حقوق الحدث في هذه المرحلة يحسن بنا أن نحرر المقصود بالحدث، حيث إن هذه اللفظة يتنازع فيها الفقه والنظام، على أن الجميع يتفق على أنها مرحلة لها حقوق خاصة، ولهذا سنذكر تعريفها في اللغة ثم الفقه ثم النظام وبشكل موجز:

- أما اللغة:

قال ابن فارس ([1]) : "الحاء والدال والثاء أصل واحد، وهو كون الشيء لم يكن" ([2]) . والحَدْث  في اللغة هو الفتي السن، فكل فتى من الناس حدث، والأنثى حدثة، وتقول هؤلاء غلامان حُدثان أي أحداث .

والخلاصة أن كل من لم يبلغ مبلغ الرجال هو حدث، فإذا بلغ الحلم صار رجلاً ([3]).

- أما في الفقه :

فإن الفقهاء استخدموا بعض الألفاظ المتقاربة المعنى منها:

الطفل والغلام والقليل قد يستخدم الحدث ، وهؤلاء الثلاثة هم الأشخاص الذين لم يبلغوا .

أما الطفل فشاهده من القرآن : ]وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ[([4]) .

أما الغلام فشاهده قول أنس بن مالك t : (... وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله e ....) ([5]) ومعنى راهقت : أي قاربت البلوغ([6]) .

أما الحدث فهو أقل استخداماً منهما، على أن بعض الفقهاء قد ذكره كابن نجيم ([7])، حيث أشار إلى أن الحدث عند الفقهاء هو الغلام حتى البلوغ([8]).

- أما في النظام :

فقد تباينت الأنظمة المعاصرة في تحديد الفترة العمرية لسن الحدث، ولكن الذي يمكن قوله بصفة عامة أن الحدث في الأنظمة المختلفة هو: "الصغير في الفترة بين السن التي حددهـا القانون للتميـيز والسن التي حددها لبلوغ الرشد". ([9]) .

على أن بلوغ سن الرشد يختلف بين الدول فبعضهم يربطها بالبلوغ ، وآخرون يربطونها بسن معينة ([10]) .

أما المنظم السعودي جعل أعلى سن للحداثة ثماني عشرة سنة حيث جاءت اللائحة التنفيذية لدور الملاحظة لتذكر المراد بالأحداث فذكرت أنهم: [... الذكور الذين لا تقل أعمارهم عن سبع سنوات ولا تتجاوز ثماني عشرة سنة ... ] ([11]) .

 

 


المطلب الثاني
محاكمة الأحداث في الفقه

 

 

"تعتبر الشريعة الإسلامية أول شريعة ميزت بين الصغار والكبار من حيث المسؤولية الجنائية ([12]) تميـيزاً كاملاً، وأول شريعة وضعت لمسئولية الصغار قواعد لم تتطور ولم تتغير من يوم أن وضعت ، ولكنها بالرغم من مضي أربعة عشر قرناً عليها تعتبر أحدث القواعد التي تقوم عليها مسؤولية الصغار في عصرنا الحاضر"([13]).

ولعل أبرز ما تميزت به محاكمة الأحداث في الشريعة ما يتعلق (بالمسؤولية الجنائية) ، وعلى هذا يمكن أن تقسم المرحلة العمرية التي يمر بها الحدث إلى قسمين:

أ – مرحلة انعدام الإدراك .

ب – مرحلة الإدراك الضعيف .

هذا على سبيل الإيجاز ، أما على سبيل الإيضاح فكالتالي :

أ – مرحلة انعدام الإدراك:

وتبدأ هذه المرحلة من حين الولادة حتى بلوغ الصبي سن السابعة، ويسمى في هذه المرحلة صبي غير مميز، وهذه التسمية قد خرجت مخرج الأعم الأغلب للصبيان .

ولا شك أن تعليق السن بأمر ظاهر منضبط يسهل بناء الأحكام عليه ، بالإضافة إلى أنه يجعل مهمة القاضي أسهل ([14]) .

وقد استدل الفقهاء بأن ما دون السابعة يأخذ حكم الصبي الغير مميز بعدة أدلة نذكر منها:

1 – قول المصطفى e : (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها) ([15]).

ووجه الدلالة من الحديث: أن السنوات السبع جُعلت حداً للأمر بالصلاة، ولن يكون لذلك فائدة إلا إن كان مميزاً، فدل على أن بلوغ سن التمييز يكون بالسابعة .

2 – أن الغالب على الصبيان أنهم إذا بلغوا هذه السن يكونوا على درجة من الفهم والتمييز ([16]).

أما عن المسؤولية الجنائية للحدث في هذه المرحلة فلما كانت قدرته الذهنية لم تصل بعد إلى درجة فهم الخطاب، ولا يعرف ماسيترتب عليه فعله من عقوبة ، فقد اتفق العلماء على أنه: إذا ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص فلا يحد ([17]) ولا يقتص ([18]) منه، بل إنه لا يعزر ولا يعاقب بأي عقوبة تأديبية ، وذلك لعدم الفائدة لتأديبه في هذه الفترة ([19]) .

ولكن هذا لا يمنعه من المسئولية المدنية في كل فعل يرتكبه، فهو مسؤول عن تعويض الضرر الذي ألحقه بالغير إن كان مما يُضمن ، ولأن هذا من باب الحكم الوضعي وليس الحكم التكليفي([20]) . والأعذار الشرعية لا تنافي عصمة أملاك الغير([21]) .

ب – مرحلة الإدراك الضعيف :

وتبدأ هذه المرحلة من بلوغ الصبي السابعة حتى بلوغه الحلم، ويسمى صبياً مميزاً .

فإذا بلغ الصبي هذه المرحلة كان أهلاً أن يسأل عما يرتكبه من أفعال، ولكن هذه المسؤولية في الحقيقة متوسطة بين غير المميز والبالغ، فهي مسؤولية تأديبية لا جنائية، فالقصد منها التأديب والتهذيب لا الزجر والردع.

فعليه يجب أن يوقع على الصبي عقوبة تعزيرية من توبيخ أو ضرب غير مبرح أو إيداعه داراً إصلاحية ونحو ذلك ، على أن لا تخرج عن نـطاق التأديب([22]) .

وكما ذكرنا قبل قليل في عديم الإدراك أن إعفاءه من المسؤولية الجنائية لا يعفيه من المسؤولية المدنية فهو يسأل عما ألحقه بالغير من ضرر فكذلك هنا في هذه المرحلة .

على أن التضمين لهما في الفعل الخطأ الذي لا يدخل تحت ما تحمله العاقلة ([23]) الأصل فيه أن يكون من مال الصبي نفسه ، فأهلية ثبوت الأحكام في الذمة مستفاد من الإنسانية التي بها يستعد الإنسان لقبول قوة العقل الذي يفهم به الخطاب([24]). فالصبي مؤاخذ بأفعاله  فما تعدى عليه يجب أن يدفع من ماله ما يضمن به ما أتلفه، فهو كالبالغ في ذلك .

لكن الفقهاء استثنوا من ذلك مسائل لم يضمنوا فيها الصبي، منها إذا كان المالك هو المتسبب في ضياع ماله ([25]) .

 

أما إذا عمد الصبي لجناية يوجب الخطأ مثلها أن تكون على العاقلة فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :

 

القول الأول:

 أن عمد الصبي يعتبر خطأ ، حيث إنه غير مكلف ، فعليه يكون الضمان على العاقلة، والدية تكون مخففة ، وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة ([26]) .

القول الثاني:

أن عمد الصبي يعتبر عمداً ، وعليه الضمان من ماله، والدية تكون مغلـظة ، ولكن لا يـقتص منه في شيء لـعدم تكليفه، وهذا قـول الشـافعية ([27]) .

والذي يظهر ترجح القول الثاني، حيث إن تكليف العاقلة بالتحمل إنما هو في الخطأ ، أما هذا الصبي العابث المتعمد فمن تعزيره أن يكون الضمان عليه.

 

 

 


المطلب الثالث
 
حقوق الحدث في مرحلة المحاكمة في النظام

 

لقد درجت معظم الأنظمة القضائية على تخصيص إجراءات خاصة للأحداث، والتي تكون مناسبة للفترة العمرية التي يمر بها ، ومراعاة لنفسيته التي غالباً ما تكون سريعة التأثر ، فالهدف من محاكمتهم تقويم سلوكهم وتوجيه أفعالهم للوجهة الصحيحة، وليس الهدف هو العقاب لذات العقاب ولا فضحهم والتشهير بهم، بل يرجى أن يكون الحدث بعد محاكمته لبنة صالحة تساعد في بناء المجتمع ([28]) .

ولقد حرصت الدولة – وفقها الله – في وقت مبكر على إنشاء إصلاحية خاصة للأحداث الذين يرتكبون بعض الجرائم والمخالفات، ففي عام 1374هـ أنشأت أول مؤسسة إصلاحية للأحداث، ثم كان هناك تطور تاريخي لهذه الإصلاحيات ([29]) . والذي يعنينا في هذا المقام هو إبراز حقوق الحدث في مرحلة المحاكمة، والتي أرشد إليها المنظم السعودي سائراً في ذلك بما لولي الأمر من سلطة في سن الأنظمة التي تحقق المصلحة للجميع في الدارين، ولن أشير في هذا المطلب إلا بما للحدث المتهم من حقوق يتميز بها عن سائر المتهمين الآخرين. أما أبرز هذه الحقوق فهي على النحو التالي:

1 – أن لا تكون محاكمة الحدث في المحاكم العادية :

وقد جاء النص على وجوب كون المحاكمة داخل دار الملاحظة الاجتماعية في اللائحة الأساسية لدور الملاحظة الاجتماعية، فنصت على أن :     [ تتم محاكمة الأحداث ومجازاتهم داخل دور الملاحظة، وذلك بالاتفاق بين وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والجهات المختصة] ([30]).

بل إن المنظم أوجب أن تكون المحاكمة سرية ولا يحضرها إلا من كان لحضوره ضرورة فجاء في تعميم رئاسة القضاة جملة من التنظيمات منها:

[..يكون نظر القضية في جلسة خاصة لا يحضرها إلا من يرى القاضي حضوره، من ولي أمر الشاب الذي لم يبلغ ، وكاتب الضبط ، والشهود، وكذا متولي التحقيق إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، ويكتفى به عن حضور مدع عام ] ([31]).

والذي عليه العمل الآن أنه لا يخصص قاضٍ معين لنظر قضايا الأحداث، وإنما يتناوب قضاة المحكمة المستعجلة للذهاب للدار للحكم هناك، ويستثنى من ذلك رئيس المحكمة فلا يذهب للدار لانشغاله بأمور أخرى ([32]) .

كل ما سبق الحديث عنه كان في أمور الجنح والتعزيرات والحدود الشرعية التي ليس فيها قتل ولا قطع ولا رجم، وأما القضايا التي بها قتل أو قطع أو رجم فتنظرها المحاكم العامة إذا اتضح بلوغ الحدث([33]).

وسبب كون هذه الجرائم الكبيرة لدى المحكمة العامة أن المنظم أوجب أن ينظر مثل هذه الجرائم التي فيها إتلافٌ ثلاثة قضاة من المحكمة للفصل فيها ([34]) ، ومن العسير ندب هؤلاء القضاة للدار في وقت واحد، ففي هذا             تعطيل للآخرين، فكان الأولى حضور الحدث للمحكمة العامة وهو أخف الضررين. ويجب في هذه الحالة أن يحضر بغير قيود ولا أغلال ([35]) ، وعلى من يرافقه من عسكريين أن يكون مرتدياً اللباس المدني ([36])، حتى يكون أكثر  طمأنينة للحدث.

والذي ينبغي أن لا يحضر جلسة المحاكمة إلا من يلزم حضوره، وهذا استثناء من مبدأ علنية الجلسات .

ولا ريب أن إبعاد الحدث عن مجلس القضاء في المحاكم العامة أو     حصر الحاضرين للجلسة بمن يلزم حضورهم فيها عدة محاسن منها: أن في ذلك إبعاد للحدث عن الرهبة والخوف الذي قد يلازمه، ففي سرية الجلسة إعانة ومراعاة لسنه، وفي هذا أيضاً صيانة لسمعة الحدث وهو في مقتبل العمر ومطلوب منه تعديل سلوكه والانخراط في المجتمع دون تمييز عن غيره وسرية الجلسة تشجعه على هذا التعديل لعلمه أن مخالفته لم يطلع عليها إلا العدد القليل جداً .

2 – كتابة تقرير اجتماعي عن حالة الحدث للقاضي :

من أبرز حقوق الحدث في مرحلة المحاكمة أن النظام ألزم دور الملاحظة بتقديم تقرير اجتماعي يعطى لناظر قضية الحدث، ويشمل هذا التقرير الظروف الاجتماعية المحيطة بالحدث والأسباب التي قد تكون سبب انحرافه والطريق المقترح لعلاجه. وهنا على القاضي الاطلاع عليه للاستئناس به عند الحكم . وقد جاء في اللائحة التنفيذية لدور الملاحظة الاجتماعية ما نصه : [.... يجب عند تقديم الحدث أمام محكمة الأحداث أن يزود القاضي بتقرير اجتماعي مفصل عن حالة الحدث يبين فيه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والعوامل التي يرجح أن تكون السبب في انحراف الحدث وخطة العلاج والتدابير المقترحة لتقويمه للاستئناس به عند نظر القضية ] ([37]).

3 – أن لا تسجل على الحدث سابقة :

فمراعاة لسن الحدث الذي غالباً ما يقع في هذه المخالفات نتيجة لعدم نضجه، أو بسبب تأثره الشديد والسريع بمحيطه إما لتصدع الأسرة أو لضعف اقتصادي لها إلى غير ذلك ([38]) ،  وتشجيعاً له على الاستقامة ، جاء المنظم السعودي ليجعل تنظيماً خاصاً بما ارتكبه الحدث من جنح، فهو لا يسجل على الحدث سابقة جنائية تكتب في سجله حتى يموت، والتي تؤثر عليه من الناحية النفسية والاجتماعية والعملية . ولكن الذي تفيأه المنظم هو جعل سجل خاص لرصد جنح الأحداث بشكل عام، ودون أن تكون في سوابقهم الجنائية ([39]) . ولا شك أن المنظم السعودي قد أجاد حينما اتخذ هذا الإجراء ، فهو قد توسط في الأمر فلم يلغِ تسجيل ما ارتكبه الحدث ، ولم يجعله ضمن السوابق، بل جعل له سجلاً خاصاً ينظر إليه عند الحاجة له فيما بعد .

4 – معاملة الحدث في المحاكمة معاملة خاصة :

وذلك بالرفق معه أثناء الحديث والاستجواب من القاضي، وفي جوٍ يحس من خلاله الحدث بالطمأنينة والراحة النفسية ، مما يشعره أن الهدف من محاكمته هو تقويم سلوكه وتوجيهه الوجهة الصالحة([40]).

 

 


 المطلب الأول

 
حقوق الإناث أثناء المحاكمة في الفقه

 

إن القارئ لكتب الفقهاء القدامى يعتريه الإكبار لهم والدهشة لدقتهم في تصانيفهم ، فتجدهم كثيراً ما ينصون على مسائل دقيقة وهامة مما لها ملامسة بالحياة الواقعية وحاجة الناس .

ومن الأمور التي اعتنوا بها ما يتعلق بحقوق الأنثى المتهمة في مرحلة المحاكمة ، فقد أجادوا وأفاضوا في ذكر حقها في هذه المرحلة وما ينبغي أن تعطاه من أمور تختص بها عن الذكر حتى يتحقق كمال العدل والإنصاف ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ]وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[ ([41])  فالله سبحانه ميز الرجل بصفات تختلف عن المرأة، ولهذا كان من العدل أن تراعى المرأة في جوانب أخرى أكثر مما يراعى الرجل.

ومن الأمور التي نص الفقهاء عليها مما يخص حق المتهمة في مرحلة المحاكمة ما يأتي :

1 – إفرادهن بزمان للمحاكمة :

وقد ذكر الفقهاء أن الأولى بالقاضي أن لا يشرك بين الرجال والنساء في مجلس النظر ، فإن رأى أن يجعل للنساء وقتاً، وللرجال وقتاً، فله ذلك، حيث أنه  أستر لهن وأحفظ ([42]) ، وهنا ينبغي أن لا يحضر أحد من الرجال عند تخاصم النساء ممن يُستغنى عن حضوره .

أما إذا كانت المخاصمة بين رجل وامرأة فهنا يجب مراعاة حق الطرفين وذلك بأن لا يحضر الرجل في وقت تحاكم النساء ، ولا تحضر المرأة في وقت تحاكم الرجال، بل يفرد لمثل هؤلاء وقت آخر ([43]).

وإفراد النساء بزمن في القضاء له عدة ثمرات منها :

1 – أن في ذلك محافظة على العفة والحياء والطهر، بأن لا يختلط الرجال بالنساء .

فإذا كثرت الخلطة في ذلك فقد يزاد فيها مما يكسر حاجز الحياء ثم العفة.

2 – وفيه محافظة على كرامة الأُسر وأسرارهم، بأن لا يطلع على شيء من ذلك أحد من الرجال .

3 –  أنه يساعد المرأة أن تبوح بما لديها من أدلة وبراهين على صدق قولها، و يسهل لها الاعتراض عما قام ضدها من بينات، لأن الغالب على المرأة الحياء من الرجال، فإذا أفردن عن الرجال كان ذلك معيناً لها على مباشرة القضية بنفسها ([44]) .

على أن الفقهاء أجازوا أن يخصص ولي الأمر قاضياً للنظر في قضايا النساء ، أو التي تكون المرأة طرفاً فيها ([45]) .

 ولا شك أن في هذا من الفوائد صيانة للمرأة عن الاختلاط بالرجال والفتنة في ذلك، وأيضاً فيه فائدة للقاضي بأن يكون أعرف بأمور النساء وأحوالهن وحيلهن ومخاطبتهن وعاداتهن، فيكون عنده شيء من ذلك مما يكون أضبط في الحكم، وقد يختار لهذا المنصب من كبر سنه وكان أبعد أن يُفتن أو يَفتن .

ويمكن الاستدلال لمبدأ إفرادهن بالزمان بما ورد في السنة عن أبي سعيد الخدري t أنه قال: قالت النساء للنبي e : غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك . فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن ، وأمرهن، فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كن لها حجاباً من النار) قالت امرأة واثنين ؟ فقال: (واثنين)([46]) .

و إفراد النبي e النساء بيوم للتعليم دليل أنه يجوز إفرادهن في القضاء للنظر في قضاياهن ، وسؤال المرأة في الحديث دليل على جواز المحاورة والمناقشة لأهل العلم إذا أمنت الفتنة والقاضي كذلك .

فإن كان يصعب إفرادهن بزمان لا يحضر فيه الرجال ، وصعب إفرادهن بقاض للنظر في قضاياهن فإنه ينبغي إفرادهن بمكان كما في الفقرة التالية.

 

2 – إفرادهن بمكان عند المحاكمة:

وذلك بأن يفصل القاضي في مجلسه بين الرجال والنساء، فلا يجمعهم في مجلس واحد إلا إذا كان لأجل الخصومة، فهنا يجتمعون مع الحرص على أن يبتعد الرجل عن المرأة؛ لأن هذا أبعد عن الفتنة بينهما، وفي هذا صون للحياء والحشمة وحتى لا يطمع الذي في قلبه مرض ([47]) . ولأن النبي e يقول : (ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء) ([48]) .

3 – أن تكون المحاكمة في غير المسجد حتى تتمكن الحائض والنفساء من الحضور :

 وقد ذهب الشافعية إلى أنه يكره القضاء في المسجد بصفة عامة من أجل ذوات الأعذار([49])، حيث إن مكوثهن لا يجوز لحديث : (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض) ([50]) .

وذهب الأئمة الثلاثة_ رحمهم الله _ إلى أنه يُقضى في المسجد , على خلاف بينهم في سنيته وإباحته([51]) .

 واستدلوا على ذلك بفعل النبي e في حديث اللعان ([52]) ، حيث كانت المحاكمة بين الرجل والمرأة في المسجد وبين يدي رسول الله e .

أما عن الحائض والنفساء فقالوا إنها توكل ، وإن لم يمكنها ذلك أتت القاضي في بيته ([53]) .

والذي يظهر جواز ذلك لا سنيته كما ذكر فقهاء الحنابلة ،  وفعل النبي e جاء عرضاً وليس المكان مقصوداً بذاته ([54]) .

4 – تقديمهن على الرجال :

وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى تقديـم النساء في مجلس القضاء على الرجال، وإن أتين متأخرات عن الرجال لأن هذا أستر لهن وأحفظ وأفضل من انتظارهن ، ولأن المرأة مطلوب منها القرار في بيتها لقوله تعالى: ]وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [ ([55]) ، ولكن اشترط الفقهاء في ذلك: ألا يكثرن عند القاضي، بحيث يصلن إلى عدد الذكور أو يضر ذلك بهم، فهنا يرجع إلى الأصل وهو تقديم الأسبق في الحضور لمجلس القضاء، فإن جهل الأسبق يصار إلى القرعة ([56]) .

5 – عدم الخلوة بها في مجلس القضاء :

حيث جاءت النصوص العديدة العامة التي تمنع اختلاء الرجل مع المرأة غير ذات المحرم في مكان واحد ومن ذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي e قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذي محرم) ([57]) .

وأيضاً جاء في حديث عمر بن الخطاب t أن النبي e قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) ([58]) .

ويفهم من عموم الحديثين عدم جواز اختلاء الرجل مهما كان صلاحه بامرأة أجنبية ([59])، وأيضاً في ذلك حفظاً للعرض أن يلمز بشيء يشينه .

6 – أن لا تخرج المرأة المخدرة إلى مجلس القضاء:

وقد أجاد الفقهاء ـ رحمهم الله – حينما قسموا النساء اللاتي يدّعى عليهن إلى قسمين:    الأولى: البرزة "وهي التي تبرز لقضاء حوائجها" ([60]) .

الثانية: المخدرة أو الخفرة ([61]) ، وهي عكس الأولى ([62]) .

وقالوا إن البرزة كالرجل في وجوب حضورها لمجلس القضاء عندما يدّعى عليها ([63]) . لأنه لا إشكال في حضورها وهي قد تعودت على الخروج والمخاطبة والحديث، وهذا لا يشق عليها ولا يفوت شيئاً من حقها.

أما المخدرة فإن الفقهاء قد اعتنوا بشأنها وقدروا حالها، فأجازوا لها عدم الحضور لمجلس الحكم والتوكيل لغيرها، فإن لزمها يمين في هذه الحالة فيبعث القاضي شاهدين لتحلف بحضرتهما ([64])، ويكون ذلك في بيتها ودون تكليف لها بالحضور بل إنهم نصوا على أن تكون خلف ستر تتكلم من ورائه ([65]) .

ومن الفقهاء من ذهب إلى ما هو أكثر من ذلك ، وهو أن المرأة المخدرة هي التي يأتي إليها القاضي مع من ادعى عليها في دارها، أو يذهب نائبه مع المدعي إليها ([66]) . ولا ريب أن هذا من أسمى حقوق المرأة في مرحلة المحاكمة فهي بذلك محفوظة ومصونة ومشجعة لما أبدته من قرار .

وهذه رسالة لكل من ظن أن ديننا قد انتقص المرأة وأجحف في حقها وظلمها، فأي ظلم مزعوم إن كانت المرأة لا تحب الخروج وقد صارت إلى المكوث في بيتها أن يندب إليها من يحكم في أمرها في دارها . على أن قلة من الفقهاء من ألزمها بالحضور لمجلس القضاء ([67])، ولكن هذا القول مرجوح لأنه "لا فائدة في إحضارها؛ لأن الحياء يمنعها عن التكلم، وربما يصير ذلك سبباً لفوات حقها" ([68]) .



الفرع الأول

حقوق المرأة ([69]) أثناء المحاكمة

 

 

لما كان المجتمع السعودي ولله الحمد يمتاز على كثير من المجتمعات الأخرى بجملة من المحاسن وعلى رأسها قضية المرأة وخصوصيتها والتي تعد من أولويات ما يحافظ عليه الجميع ويصونونه، وقد انعكس ذلك على المنظم السعودي فقد أولى النظام المرأة اهتمامه، ومن ذلك أنه قام بتخصيص سجن خاص لهن بعيد عن الرجال ويشرف عليه طاقم نسائي متكامل، كما جاء في نظام المرافعات الشرعية ما يشير إلى أن المرأة التي لا تبرز لقضاء حوائجها إن أُدعي عليها فللقاضي الانتقال إليها أو ينيب غيره لاستجوابها إن رأى أن هذا عذراً يمنعها . فنص على  [ إذا كان للخصم عذر مقبول يمنعه من الحضور بنفسه لاستجوابه ينتقل القاضي أو يندب من يثق به إلى محل إقامته لاستجوابه...] ([70]).

وهنا في اللائحة الأولى لهذه المادة أعطت القاضي السلطة التقديرية في العذر المانع من الحضور، ولا شك أن كون المرأة مخدرة نادرة الخروج يعد عذراً عن حضورها كما ذكره عامة الفقهاء.

ومن الأمور التي أجادها ووفق إليها النظام أن جعل المحاكمة علنية، ولكنه استثنى من ذلك ما فيه شيئاً من الخصوصية ، والذي قد يرتب السمعة السيئة للمرأة وللأسرة فجعلها محاكمة سرية، فجاء في نظام الإجراءات الجزائية ما نصه: [جلسات المحاكم علنية، ويجوز للمحكمة استثناء أن تنظر الدعوى كلها أو بعضها في جلسات سرية أو تمنع منشآت معينة من الحضور فيها؛ مراعاة للأمن أو محافظة على الآداب العامة...] ([71]) .

ولا شك أنه في قضايا الأعراض ونحوها مما يمس كرامة الأسر، تعد سرية المحاكمة من أهم المهمات، وفي هذا أيضاً تسهيلاً لتوبة المرأة وصلاحها، لعلمها أن قضيتها سرية ولم تنشر .

وفي الحقيقة أن النظام السعودي لم يخص المرأة بمحكمة معينة ولكنه أجاز إنشاء محاكم متخصصة بأمر ملكي، وذلك بناء على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى ([72]).

ولهذا نجد أن القضاء في المملكة قد خصص في بعض القضايا، مثل تخصيص ديوان المظالم بدعاوى الموظفين على دوائرهم ، وتخصيص قاض للنظر في قضايا الأحداث، وآخر في قضايا الفتيات في مؤسسة رعاية الفتيات .

ولذا لو أُفردت محكمة واحدة في كل المدن الكبيرة لقضاء النساء لكان شيئاً جيداً حتى تتحقق الثمار المذكورة، فإذا كان يصعب ذلك فلا أقل من أن يسند لبعض القضاة في المحاكم العامة والمستعجلة قضاء النساء.

وأيضاً يحسن بالقاضي أن يقوم بتوزيع القضايا التي يحصل من خلالها تقليل اختلاط الرجال بالنساء بأن يجعل مواعيد النساء في وقت مغاير لوقت الرجال، ودون القضايا التي يكون فيها الرجل والمرأة هما الأخصام. ولا ريب أن بذلك الإجراء مصلحة وسياسة شرعية لا ينكر ثمارها إلا جاحد .


الفرع الثاني

حقوق الفتاة ([73]) أثناء المحاكمة

 

لما كانت الفتيات يختلفن عن غيرهن من الذكور الأحداث بعدة اختلافات ظاهرة، ترتب على ذلك قلة نسبة الإجرام عندهن، ولذا لا نجد الاهتمام الكبير بهذه الفئة عند المؤلفين وفي التعاميم الحكومية مقارنة مع ما يرد في حق الأحداث الذي كثيراً ما يُنص عليهم في ذلك.

وقد يقال إن كثيراً مما يرد في حق الأحداث يرد في حق الفتيات ولكن الذي يشكل أن المنظم حدد عمر الحدث أنه ما بين سن السابعة والثامنة عشرة([74])، أما بالنسبة للفتاة فقد أوردت اللائحة الأساسية لمؤسسة رعاية الفتيات ما نصه: [ يلحق بـهذه المؤسسة الفتيات اللاتي لا تزيد أعمارهن عن ثلاثين سنة.... ] ([75]).

فهل المنظم جعل الفتيات اللاتي يزدن عن ثمانية عشرة سنة في حكم من بلغ هذا السن من الذكور فلا يكون لها ما للحدث من حقوق نظامية ؟

ولكنه جعلهن في هذه المؤسسة حفظاً لهن من الاختلاط بغيرهن من الكبيرات. أم أن جعل هؤلاء الفتيات في هذه المؤسسة فيه تغليب لمن هو دونهن، بأن يكون للجميع الحقوق النظامية كما للأحداث الذكور؟

وقبل الفصل في هذا الكلام ينبغي القول بأن الفتاة التي لم تتجاوز الثلاثين لها من الحقوق النظامية ما للحدث من حقوق بنص النظام في أمرين:

1- أن لا تكون محاكمة الفتاة في المحاكم العادية، بل تكون داخل مؤسسة رعاية الفتيات بشكل سري([76]). أما قضايا القتل والقطع والرجم فتنظر من قبل المحاكم العامة([77]) ، حيث إن هذه الجرائم لابد من نظرها من ثلاثة قـضاة ([78]) .

2- كتابة تقرير عن حالة الفتاة للقاضي يتضمن الجانب النفسي والاجتماعي لها، وأسباب انحرافها ، والمقترحات لحلها، حتى يستأنس بها القاضي عند إصدار الحكم ([79]) .

ولكن الذي يهمنا في هذا الصدد وتظهر ثمرة التفريق هو ما ورد في تعميم سمو وزير الداخلية -حفظه الله - برقم 16/1991م في 13/1/1402هـ فيما يتعلق بعدم تسجيل السوابق على الأحداث، بل يكتفى بكتابة ذلك في سجل خاص بهم، فهل تدخل الفتيات في ذلك، وهل يدخل في ذلك كل فتاة في مؤسسة رعاية الفتيات أم أنه خاص بمن لا تتجاوز الثامنة عشرة ؟

فنقول الذي عليه العمل في مؤسسة رعاية الفتيات أن لا تسجل السوابق القضائية على نزيلات المؤسسة ولكن تسجل في سجل خاص بذلك ، كما هو الحال بالنسبة لجرائم الأحداث ([80]) .

 و الذي أراه أن من الأفضل جعل تسجيل السوابق على الفتيات كما هو للأحداث ، بأن لا تسجل سابقة على من دون ثمانية عشرة سنة ، ففي هذا تسوية بينهما.

فكيف يقال بأن من بلغ العشرين من الذكور يسجل عليه ، أما من بلغت الثلاثين فلا يسجل عليها ؟ .

 

 

 

 


المطلب الأول
محاكمة أصحاب العاهات العقلية ([81]) في الفقه

 

إن العاهة العقلية مرض قد يصيب بعض بني آدم في فترات مختلفة وعلى أشكال متنوعة، فقد يبدأ في أول عمره أو بسبب عارض معين أو بسبب كبر في السن، وقد يكون على شكل تخيلات يظنها حقيقة أو جنون ونحوه. ومما تميزت به الشريعة الإسلامية في شأن المحاكمة أنها راعت أصحاب هذه العاهات، ولم تكلفهم ما لا يستطيعون .

ولا أدل على ذلك أنها جعلت مناط المسئولية الجنائية في الإدراك والاختيار، وصاحب العاهة العقلية لما لم يكن مدركاً ومتمتعاً بالقوة العقلية لم يكلفه الشارع في ذلك ([82]) . وهذا بلا شك من أهم حقوقه في مرحلة المحاكمة . وكثيراً ما يذكر الفقهاء – رحمهم الله – صورة لصاحب العاهة العقلية وهي الجنون، وفي الحقيقة أن لفظ (المجنون) عندهم لفظ عام يشمل كل صاحب عاهة عقلية، بخلاف الاستخدام المعاصر للجنون، فهو يخص حالة عقلية معينة .

وقد قسم الفقهاء الجنون إلى نوعين:

أ – جنون مطبق : وهو الذي يستوعب جميع أوقات الشخص فيزول عقله بصورة دائمة .

ب – جنون متقطع: وهو الجنون الذي تتخلله فترات يعقل ويفيق فيها المجنون ([83]) .

فأما المجنون جنوناً مطبقاً فالفقهاء اتفقوا على عدم تكليفه شرعاً، فلا مسئولية جنائية عليه ([84])، فإذا قتل لم يقتل وإذا أصاب حداً لم يحد، ولا تعزير عليه، ولكن هذا لا يمنع عنه الضمان أو الدية فيما أتلفه أو تعدى عليه. حيث إن أفعاله تأخذ حكم الخطأ، فحقوق العباد لا تذهب هدراً ، فلابد أن يكون فيها التعويض المالي ([85]) .

وقد استدل الفقهاء فيما ذهبوا إليه من تفصيل بعدة أدلة منها:

1.   حديث علي بن أبي طالب t أن النبي e قال : (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)([86]).

2-                  "ولأن الضمان يستوي فيه المكلف وغيره" ([87]).

3-        ولأن غير المكلف إذا كان يسقط عنه التكليف في العبادات والإثم في المعاصي ، فسقوط الحد المبني على الدرء بالشبهة أولى ([88]).

4-        ولأن فعله يشبه فعل العاقل المخطئ، فإذا قصد العاقل شخصاً ظنه حياً فقتله، فتبين أنه من قومه فلا مسؤولية جنائية عليه، لكن الدية ثابتة ([89]).

5-        وحتى لا يحرض البعض المجانين على الإفساد والتعدي على من صار بينهم مشكلة، فلا يردع هؤلاء إلا إن كان هناك تعويض سيأخذ منهم لمن تضرر.

أما صاحب الجنون المتقطع فلا يخلو من أحوال :

أ – أن يرتكب الجريمة في أثناء جنونه .

ب – أن يرتكب الجريمة في أثناء إفاقته، ويكون عند المحاكمة في إفاقته.

ج – أن يرتكب الجريمة في أثناء إفاقته، ويكون عند المحاكمة قد جن .

أما صاحب الجنون المتقطع الذي ارتكب جريمة في أثناء جنونه ، فإنه يعد كصاحب الجنون المطبق، فلا مسؤولية جنائية عليه، ولكن الضمان والدية ثابتة عليه ([90]) سواء أكان حال المحاكمة مجنون أو مفيق .

أما إن كان حين ارتكابه للجريمة غير مجنون فيعامل معاملة الإنسان المكلف ولا فرق إن كان أثناء المحاكمة مفيق ولو تخلل ذلك جنون. حيث إنه ارتكب الجريمة وهو عاقل، وحُكم عليه وهو عاقل ومكلف، فلا تأثير للجنون في الفعل والحكم، فلم يفترق عن الإنسان العادي .

أما إن كان قد طرأ عليه الجنون بعد ارتكابه للجريمة واستمر حتى المحاكمة فقد اختلف العلماء في (مسؤوليته الجنائية)على قولين:

القول الأول:

أن الجنون الطارئ عليه بعد أن ارتكب الجريمة وهو عاقل لا يمنع معاقبته ما دامت أن الأدلة قائمة وثابتة بارتكابه ، حيث إن القصد الصحيح والمعتبر هو وقت الفعل والجناية، لا وقت المحاكمة وتنفيذ العقوبة، والدليل أن سبب العقاب قد تحقق بفعله وهو عاقل، فإذا حصل السبب وزال المانع فإن العوارض لا تبطل العقاب، وهذا قياساً على من علق طلاق امرأته على شيء ثم جن بعد ذلك فوقع ما علق الطلاق عليه فإن زوجته تطلق. وهذا قول الشافعية والحنابلة ([91]) .

إلا أنهم يرون أن من ارتكب جريمة توجب الحد ثم أقر بها وهو عاقل ثم طرأ عليه الجنون فإنه لا يحد حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان عاقل لرجع ([92]) .

القول الثاني:

أنه لا مسؤولية جنائية عليه حتى يفيق ويزول الجنون فإن كان ميؤوس من إفاقته فلا مسؤولية جنائية عليه ولكن الضمان والدية ثابت، حيث إن العقل شرط للتكليف والمعاقبة والمحاكمة، والمجنون غير عاقل فلا تثبت المسؤولية الجنائية، وهذا قول الحنفية والمالكية ([93]) .

والذي يظهر لي رجحان القول الثاني لقوة تعليله، حيث إن تأخير الحكم عليه بالعقوبة حتى يفيق ويكون مسؤولاً مسؤولية جنائية كاملة أولى من الحكم عليه أثناء جنونه، حيث قد يكون له دليل يعارض ما بدى من الحكم عليه، وقد يكون له مناقشة معنية، على أن إيقاع العقوبة عليه أثناء جنونه حتى وإن كان يظن أنه سيفيق ليس فيها إنصاف كما لو أخرت حتى يفيق، فللعقوبة في الشريعة فوائد منها الردع والزجر والتشفي، وقد لا يحصل كما لها إلا إن كان المحكوم عليه يعقل ما يعاقب من أجله .

أما إن كان ميؤوس من إفاقته فيصار إلى الضمان والدية ، فالحكم عليه بذلك أولى من المساءلة الجنائية التي قد يكون له فيها مناقشة لا يمكنه أثناء

 

الجنون البوح بها . وفي هذا إنصاف له ولخصمه.

ولكن الذي ينبغي أن نعلمه في هذا الصدد أن للقاضي تعزير المجنون الذي له نوع تمييز إذا رُجي من تعزيره أن يكف عن إيذائه لغيره ولا يتخذ ذلك عادة، وفي هذا إصلاح له وتهذيب ([94]).

وأما المجنون الذي ظهر عليه كثرة تعرضه للناس بالإيذاء ، فالذي ينبغي لولي الأمر أياً كانت مرتبته أن يحجر عليه في مكان لا يؤذي غيره ([95])، سواء كان ذلك في مصحة أو في بيت ونحوه. ولو كان هذا المجنون لا يدرك شيئاً ، فالقاعدة الشرعية أنه لا ضرر ولا ضرار .

وهنا مسألة :

إذا قتل المجنون أو جرح جرحاً بما يقدر بثلث الدية فأكثر فعلى من تكون الدية؟

وهنا نقول إن هذه المسألة كمسألة عمد الصبي في جريمة القتل، وقد سبق الحديث عنها عند الكلام عن محاكمة الأحداث في الفقه ([96]) .

أما إن كان دون الثلث فالأصل أن يكون من مال المجنون نفسه([97]).


المطلب الثاني
محاكمة اصحاب العاهات العقلية ([98]) في النظام

 

الناظر في الكتب النظامية التي تحدثت عن محاكمة أصحاب العاهات العقلية يجد أنها أبرزت حق المتهم هنا في شيئين أساسيين :

1-        المسؤولية الجنائية .

2-        حقه في التأكد من سلامة قواه العقلية، حيث أنه ينبغي للقاضي ألا يفرّط في التأكد من سلامة المتهم من الناحية العقلية والنفسية .

       أما المنظم السعودي فقد أولى صاحب العاهات العقلية الحماية الجنائية ([99])، فجعل لناظر القضية إذا شك في حالة المتهم العقلية أن يرسله إلى مستشفى الصحة النفسية عن طريق الشرطة كي تقوم لجنة خاصة بالنظر في حالته العقلية وتصدر هذه اللجنة الطبية الشرعية تقريراً بحالة هذا المتهم، وهنا يشترط أن يرفقون مع المتهم أوراق حتى تنظر حالته هذه اللجنة وهذه الأوراق :

1- خطاب تحويل من صاحب الصلاحية .

2- تقرير طبي أولي من طبيب السجن موضحاً الدواعي التي أدت إلى الاشتباه في قواه العقلية .

3- تقرير دراسة حالة من الأخصائي الاجتماعي بالسجن يوضح فيه سلوكه وتصرفاته داخل السجن .

4- تلخص القضية المدان بارتكابها هذا المريض .

5- صورة من ملف التحقيق .

 وفي حالة اكتمال هذه المتطلبات يبقى المتهم تحت الملاحظة لدى مستشفى الصحة النفسية في الأقسام الداخلية مدة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً .

وبعد ذلك تنظر اللجنة حالة المتهم وتدرس أوراق قضيته ثم تصدر تقريراً عنه، وهنا ناظر القضية ينظر في هذا التقرير وكذلك ينظر في البينات والشهود من أقاربه وجيرانه ومن يخالطه في العمل حتى يستطيع تحديد المسئولية الجنائية التي قد تلحقه ، وكل هذا النظر يحاط بسياج الشريعة، فالقاضي ينظر لتقرير اللجنة مع أقوال الشهود ليعطي هذا المتهم الوصف الذي يستحقه ، ويحكم على أثر هذا الوصف بما شرعه الله فيه.

ولكن في رأيي أنه ثمة ملاحظتين على الإجراء السابق :

أما الملحوظة الأولى: فهي في تحديد الفترة التي يمكث فيها المتهم في مستشفى الصحة النفسية ، فالنظام جاء بأن لا يمكث أكثر من خمسة عشر يوماً، وبرأيي أن تحديد ذلك يحتاج لإعادة نظر، فالمدة فيها شيء من القصر وقد يستطيع البعض التمثيل في هذه الفترة بما يقلل المسؤولية الجنائية عليه ، لاسيما وإن علم تحديدها ، فلو قيل بأنها راجعة إلى تقدير أهل الاختصاص بحسب حالة

كل فرد لكن أولى.

فإن كان لابد من التحديد فيكون في مدة متوسطة كما فعل المنظم المصري إذا جعلها خمسة وأربعين يوماً ([100]) .

أما الملحوظة الثانية: فهي أننا لا نجد الإشارة الواضحة إلى أصحاب العاهات العقلية والأمراض النفسية وسُبل التأكد من مرضهم في النظم القضائية في المملكة، وكان الأولى الإشارة لذلك حتى يتنبه القضاة، فكثير من هذه العاهات لا تظهر بوضوح ، فوجود مثل هذا في أنظمة القضاء يذكر القضاة بهذا الأمر .

ويمكن القول بأن من أهم الحقوق لمثل هذا المتهم في مرحلة المحاكمة والتي نص عليها النظام السعودي ، ما يتعلق برفع دعوى الحق الخاص عليه ، فتكون الدعوى على وليه أو وصيه، فإن لم يكن له أحد من ذلك، فهنا يجب على المحكمة أن تعين ولياً لصاحب هذه العاهة لتقام الدعوى بالحق الخاص ([101]) .




تعليقات