القائمة الرئيسية

الصفحات



حقوق المتهم المتعلقة بالحكم الجنائي

 




تعريف الحكم الجنائي

 

إن غالب الفقهاء يذكر تعريفاً للقضاء في الاصطلاح الشرعي، ولا يذكر تعريفاً للحكم القضائي أو الجنائي، ولعل هذا راجع لأن القضاء في حقيقته يدور حول معنى فصل الخصومات ([1])، ولأن أهل اللغة يطلقون الحكم على القضاء، والقضاء على الحكم ([2]) .

ولكن ثمة بعض الفقهاء من يذكر تعريفاً خاصاً للحكم القضائي والذي يعد تعريفاً للحكم الجنائي فكلاهما حكم صادر من القاضي على وجه الإلزام([3]).

ومن هذه التعاريف ما ذكره بعض الأحناف بأنه: "الإلزام في الظاهر على صيغة بأمر ظن لزومه في الواقع شرعاً" ([4]).

وعرفه بعض الحنابـلة بأنه : "الإلزام بالحكم الشـرعي، وفصل الخصومات"([5]) .

وعرفه بعض المعاصرين بأنه: "ما يصدر من القاضي قولاً أو فعلاً أو ضمناً، يلزم بإعطاء شيء أو بالامتناع عن شيء أو بتقرير واقعة معينة" ([6]) .

وعرفه آخرون بأنه : "فصل الخصومة بقول أو فعل يصدر عن القاضي بطريق الإلزام" ([7]).

وهذا التعريف قد تميز عن التعريف الأول والثاني بذكر مُصدر الحكم والملزم به وهو القاضي ، وامتاز عن التعريف الثالث أنه تضمن أساس الأحكام القضائية وهو فصل الخصومة.

وهنا يحسن بنا أن نقوم بشرح موجز لهذا التعريف ([8])، فيقال: (فصل الخصومة) : أي قطع النـزاع، وهو عبارة عن الحل الذي يقع في ذهن القاضي في القضية القائمة أمامة، وهذا الحل مستقى من أصول الشريعة .

(يصدر من القاضي): هذا القيد أخرج من ليس له ولاية قضائية، لأن الأحكام القضائية لا يصدرها إلا قاض صاحب ولاية .

(بطريق الإلزام):  هذا القيد يخرج أفعال القاضي التي لا يكون فيها إلزام كالصلح ونحوه .


المطلب الثاني
شروط الحكم الجنائي

 

إن الحكم الجنائي يعد من المراحل الأخيرة في مرحلة المحاكمة ، ويعد أهم ما يجري فيها، وهو الذي من أجله صار الاختصام إلى المحكمة، ولما قد ينطوي عليه الحكم من إضرار أحد الطرفين أو التعدي عليه، فكان لابد أن يحاط بسياج منيع حتى يخرج بالشكل المطلوب ، ولذا نجد في كتب الفقهاء القدامى الإشارة لشروط الحكم الجنائي، والذي يهمنا في هذا المقام الشروط المتعلقة بذات الحكم ونصه، وليست الشروط العامة لإصدار الحكم مثل: تزكية الشهود، أو حضور الخصوم عند من اشتراطه ، أو مشاورة الحاكم لغيره عند من أوجبه .

وعلى هذا نقول إن شروط الحكم الجنائي من المنطلق الذي ذكرناه هي كالتالي:

1 – أن يقع الحكم على إثر دعوى :

وهذا يعني أن لا يقوم القاضي بإصدار حكم في قضية ما دون أن يسبق هذا الحكم دعوى يرفعها شخص هو المدعي أو وكيله على آخر . وهذا في الدعاوى التي هي من حقوق العباد، حيث إن منها ما يدخله الإسقاط أو الإباحة، وذلك كالهبة ونحوها، فمن سرق مال شخص لا يصدر عليه حكم ما لم يطالب صاحب الحق ، حيث إن المالك قد يهبه أو يعفو عنه .

أما حقوق الله فلا يشترط للحكم بها أن يسبقه دعوى، حيث يجوز لكل من توافرت فيه الشروط أن يقيم دعوى حبسه إذا انتهك حق من حقوق الله([9]).

2 – أن يكون الحكم موافقاً للشريعة الإسلامية وأصولها :

لقد تواترت الأدلة على وجوب الحكم بها أنزل الله في شريعته الإسلامية، وحرمت مخالفتها ومن ذلك ما جاء في الآيات الثلاث من سورة المائدة وهي قوله تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ([10]) والآية الثانية قال سبحانه: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ ([11]) والثالثة قوله تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ ([12]) وفي تقارب هذه الآيات في المعنى وفي نفس السورة دليل على وجوب كون الحكم مما يوافق شرع الله، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ونحوها مما قرره أهل الأصول في أدلة الشرع.

وكذلك جاء في نفس السورة الأمر بالحكم بما يوافق ما جاءت به الشريعة وذلك في قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً نبيه: ]فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[ ([13]) .  وهذا الخطاب عام يشمل وجوب الحكم بما أنزل الله عند القضاء بين أي أحد من الناس ([14]) .

أما في السنة فثمة حديث عن النبي e يعد قاعدة عظيمة في رد ما لم يوافق الشريعة وذلك ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول e قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ([15]) .

3 – أن يكون الحكم مسبباً ([16]):

وذلك بأن يذكر القاضي الدليل الذي بنى عليه الحكم في القضية، من حكم فقهي بدليله، والوقائع المؤثرة وتفسيرها، وبيان كيفية ثبوتها بدليلها، والرد على الحجج والبينات المخالفة .

ويسمى أحياناً حيثيات الحكم أو مسنده أو وجهه أو تعليله ([17]) .

وقد اختلف الفقهاء في حكم التسبيب للحكم الذي يصدره القاضي؟ وأشهر ما قيل في هذه المسألة قولين:

القول الأول:

ذهب إليه بعض الأحناف وابن حزم ([18]) الظاهري إلى وجوب التسبيب ، وذلك بأن يذكر القاضي الحكم في القضية مع دليله وكيفية ثبوته ([19]).

القول الثاني:

ذهب إليه بعض الأحناف وبعض المالكية وهو قول الشافعي وذهبوا إلى استحبابه ([20]).

والذي يظهر وجوب التسبيب ، وما بنى عليه القاضي حكمه من إثباتات، ولكن إذا كان الحكم ظاهراً ومشتهراً فلا يلزم ذكر مستنده، وهذا الذي عليه العمل ([21]).

ولا شك أن هذا يجعل القاضي يمحص في القضية أكثر، ويراجع كتب الفقهاء فيخرج الحكم قوياً وإلى الصواب أقرب ([22]) ، وحتى لا يطعن القاضي بحيف في حكمه من قِبل بعض الناس، وفي هذا سداً لقضاة السوء من التلاعب بالأحكام .

4 – أن يكون الحكم مصاغاً بوضوح :

وذلك بأن يذكر القاضي بماذا حكم، ولمن حكم، وعلى من حكم، بحيث يميز ذلك تمييزاً لا يشتبه مع غير في القضية ، ويكون واضحاً لجميع أطراف الدعوى ، ولا يشق عليهم معرفته ([23]) ، حيث إن عدم الوضوح يجعل الأمر يعود لمصدر الحكم وذلك فيه اشغال له وتضييع لوقت الناس، وقد ينفذ الحكم على وجه آخر غير الذي حكم به .

5 – أن يكون الحكم مضافاً على سبيل الإلزام والجزم:

إذ الفرق بين القاضي والمفتي هو ما يتعلق بالإلزام بالحكم من لدن القاضي دون المفتي ، مع اشتراكهما في تبين الحكم الشرعي . ويجب للإلزام الجزم بالصيغة والتأكيد ([24])، ولا تكون الصيغة فيها تردد أو ظن أو شك ، فلا يقول في الحكم: وأعتقد أن فلان هو السارق بل يقول :ثبت لدي أن فلان هو السارق .


المطلب الثالث
الاعتراض على الحكم الجنائي

 

لما كانت الأحكام الجنائية صادرة عن قضاة بشر، يعتريهم النسيان والسهو والخطأ والحيف، كان لابد من النظر في أحكامهم وهل وقعت في موقع العدل أم زاغت إلى الظلم والعدوان .

حيث إن المتهم قد يحكم عليه في مسألة وهو منها بريء ، فحفاظاً على حقه في ذلك ، ولما قد ينطوى عليه الحكم من أمور عظيمة قد تتعلق بالدماء والفروج ، كان للمتهم حق الاعتراض على الحكم الجنائي الصادر من ناظر القضية .

وهذا الاعتراض على الحكم قد يكون موجهاً من المتهم أو وكيله إلى القاضي مصدر الحكم، وقد يكون موجهاً إلى قاضٍ آخر طلباً في نقض حكم القاضي الذي أصدر الحكم أولاً .

وإن العلماء – رحمهم الله – قد تناولوا مسألة الاعتراض على الحكم في كتبهم ، وسأقوم إن شاء الله بذكر شيء من آرائهم على ما ذكرته في تقسيم من يوجه إليه الاعتراض ، وهو على النحو التالي:

أ – الاعتراض على الحكم الموجه من أحد أطراف القضية إلى مصدر الحكم :

لقد أجاز الفقهاء اعتراض أحد أطراف القضية على الحكم الصادر من القاضي نفسه، وقالوا على القاضي نقض حكمه الذي أصدره على المتهم، وذلك إذا كان هذا الحكم يخالف نصاً من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة، فهنا يجب نقضه لأن خطؤه متيقن فلا يجوز له الظلم والتمادي فيه ([25]) .

وقد جاء القرآن والسنة وفعل السلف بذلك ، فمن القرآن قوله تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ([26]) فلما كان الحكم بغير ما أنزل الله كفر فيجب نقض هذا الحكم الذي خالف التنـزيل .

وأيضاً ما جاء في حديث عائشة، أن النبي e قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ([27]) والحكم الذي خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة هو مردود ويجب نقضه؛ لأنه ليس عليه عمل الشارع .

وأيضاً روي عن عمرt أنه كان يفاضل بين الأصابع في الدية لتفاوت منافعها ، حتى روى له الخبر في التسوية ، فنقض حكمه ([28]).

أما إذا كان الحكم الذي قضى به هو اجتهادي، وصدر عن قاض مجتهد بعد اجتهاد فلا يجوز الاعتراض عليه ([29])، والدليل حديث معاذ بن جبل t حينما بعثه النبي e إلى اليمن فقال له : (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟) قال: أقضي بكتاب الله . قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسـول الله . قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا ألو، فضرب رسول الله e صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ما يرضي رسول الله) ([30]) .

فالرسول e أجاز اجتهاد القاضي فيما لم يرد به نص من الكتاب والسنة، وصحح ذلك الاجتهاد وصوبه ، فدل على عدم جواز نقضه لصحته .

على أن الفقهاء اتفقوا على أن القاضي لو تغير اجتهاده في قضية تالية وحكم بخلاف حكمه الأول القائم على اجتهاد فلا يجوز له نقض حكمه الأول بعد إصداره ([31]) .

ويدل على هذا ما ورد عن عمر t حينما لم يُشرّك بين الإخوة لأم والإخوة الأشقاء في المسألة المشرّكة ([32]) ، ثم شرك بينهم، فقيل له: إنك لم تشرّك بينهم، فقال: تلك على قضيناه يومئذ ، وهذه على ما قضينا اليوم ([33]). ولم ينقص حكمه السابق .

ولكن إذا تيقن أن اجتهاده الأول كان باطلاً ومجانباً الصواب فهنا ينقض حكمه لقول عمر بن الخطاب t : (ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق ومراجعته خير من الباطل والتمادي فيه) ([34]) .

ب – الاعتراض الموجه إلى قاضٍ آخر غير مصدر الحكم:

سواء كان لدى خَلَف القاضي مصدر الحكم، أو كان لدى قاض أعلى مرتبة من المصدر فإن الأمر لا يخلوا :

إما أن يكون الحكم الذي حكم القاضي يخالف نصاً قاطعاً من كتاب أو سنة أو إجماع فهنا على القاضي نقض هذا الحكم الذي أصدره القـاضي الأول([35]). ويستدل لهذه المسألة بما ذكرناه في نقض القاضي لحكم نفسه إذا خالف النص أو الإجماع .

وإما أن يكون الحكم اجتهادياً ولم يخالف به النص القاطع، فهنا هل يمكن أن ينقض حكمه من القاضي الخلَف أو من جهة قضائية أعلى؟

وللإجابة على هذا السؤال نقول إن الفقهاء قد قسموا القضاة بصفة عامة إلى قسمين:

القسم الأول: القاضي الذي يكون من أهل الاجتهاد .

القسم الثاني: القاضي المقلد .

فأما ما يتعلق بالقاضي المجتهد:

فإنه لا يجوز نقض حكمه، ولو خالف اجتهاد آخر وقد نقل بعض العلماء الإجماع في ذلك ([36]).

وأدلتهم في ذلك ما يأتي:

1-    أن الصحابة الخلفاء كانوا يجتهدون في بعض القضايا التي لم يرد فيها نص صريح ويختلفون في الاجتهاد ولم يكن بعضهم ينقض حكم بعض ([37]) .

2-    ولأنه لا مزية للمجتهد الثاني على المجتهد الأول ([38]) .

3-    ولأنه لو جاز نقض حكم المجتهد من قبل قاضٍ مجتهد آخر، لجاز نقض الحكم الناقض، وهذا يؤدي إلى التسلسل ، وعدم استقرار الأحكام وهذا ينافي الغاية من القضاء وهي فصل الخصومات وقطعها([39]) .

أما ما يتعلق بالقاضي المقلد :

فقد اختلف العلماء في نقض حكمه الذي يدخله الاجتهاد على عدة أقوال :

 

 

 

 

القول الأول:

أن القاضي المقلد تنقض أحكامه كلها ولو كانت صواباً ، وهذا هو المشهور من مذاهب الحنابلة وبعض الشافعية ([40]) . حيث إن المقلد فاقد لشرط القضاء . ولكن هذا القول فيه شيء من البعد، ولاسيما في الأزمنة المتأخرة والتي احتيج فيها إلى قاضي الضرورة وهو القاضي المقلد .

القول الثاني:

أنه ينقض من أحكام المقلد ما خالف فيه مذهبه ، وهذا مذهب الحنفية ومتأخري الشافعية ([41]) . وقالوا: لأنه ليس من أهل الترجيح حتى يعدل عن قول إمامه إلى قول آخر .

القول الثالث:

أن ينقض من أحكام المقلد ما فيه جور، وما لم يشاور فيه العلماء،  وهذا قول المالكية ([42]) .

القول الرابع:

أنه لا ينقض حكم المقلد في الأمور الاجتهادية إلا ما كان خطأ ، أما الصواب فلا ينقـض وهذا قول لبعض محققي الحنابلة ([43]) ، كابن قـدامة([44])، وابن تيمية ([45])، وأبي الوفاء ابن عقيل ([46]) .

وقالوا: لا فائدة في نقض الحكم الصواب، حيث إن الحق وصل إلى مستحقه، ولا شك أن تعليلهم هذا وجيه وقوي ، وقد يكون المقلد قد بحث حكم المسألة بحثاً جيداً فوجد من أقوال العلماء وأدلتهم ما يجعله يترك مذهبه في هذه المسألة إلى قول عالم آخر. ولهذا يترجح لدي هذا القول على غيره.


المطلب الرابع
 
أثر الاعتراض على الحكم الجنائي

 

حينما قرر الفقهاء أن للمتهم الحق في الاعتراض عن ما صدر ضده من أحكام ، فإنهم بلا شك قد رصدوا النتيجة والأثر الذي سيظهر بعد صحة الاعتراض .

وتقرير الفقهاء لهذه الآثار والنتائج دليل على رعايتهم لحق المتهم بأن لا يضيع حقه بمجرد حكم من القاضي والذي قد يعتريه ما يعتريه من الخطأ والسهو. ولهذا ضمنوا له التعويض العادل في ذلك إن لم يمكن استرجاع ما ارتكب في حقه .

ولتوضيح ما ذكره الفقهاء في آثار الاعتراض على الحكم الجنائي، يمكن القول بأن الاعتراض إن كان صحيحاً ، وتوجه القول بنقضه – على ما ذكرناه في المطلب السابق - فإن الأمر لا يخلو من حالتين :

الحالة الأولى :

أن يتم الاعتراض على الحكم ويتوجه نقضه، وذلك قبل التنفيذ فهذه الحالة لا إشكال فيها، فبعد صدور الحكم ثم الاعتراض عليه من قبل المتهم أو غيره، وتوجه نقضه على الأصول الشرعية التي ذكرناها. فإن الحكم ينقض ولا ينفذ شيء منه، ويكون الحكم كأن لم يكن؛ لأن الحكم يحتاج إلى إعادة إصادر وذلك بالنظر في القضية مرة أخرى من قبل القاضي نفسه إن كان هو الناقض،

أو من خلفه إن كان هو من نقض حكم سابقة ([47]) .

الحالة الثانية:

أن يتم الاعتراض على الحكم بعد تنفيذ الحكم، مع صحة الاعتراض ([48]).

فهذه لا تخلو من صورتين :

الصورة الأولى :

أن يمكن استرجاع ما حكم به القاضي كالأموال والأعيان الباقية التي لم تنفد، فهنا يجب تصحيح الحكم بنقضه، وإعادة النظر في القضية ، ليحكم القاضي بالحكم الشرعي الذي يراه ([49]) .

الصورة الثانية:

إذا لم يمكن استرجاع ما حكم به القاضي كالحدود والقصاص والتعزيرات البدنية ونحوها، فإن الأمر لا يخلو من حالتين :

أ – أن يتبين عمد القاضي في ذلك :

وذلك بأن يحكم بقتله أو قطع يده ، والقاضي في ذلك معتدٍ عالماً بذلك فهل يلحق القاضي المتعمد بالشخص الطبيعي الذي يتعمد قتل آخر بصورة العمد العدوان ؟

لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

 

القول الأول:

أنه يجب عليه القصاص أو الدية تجاه ما ارتكبه من فعل عمد ، وهذا قول جمهور العلماء ([50]) .

واستدلوا إلى ما ذهبوا إليه بما يأتي:

1 – ما ورد في أثر علي بن أبي طالب t أن رجلين أتياه فشهدا على رجل أنه سرق ، فقطع علي يده، ثم أتياه بآخر فقالا هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول، فلم يجز شهادتهما على الآخر وغرمهما دية الأول، وقال : (لو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما) ([51]) .

فدل على أن من تسبب في قتل آخر أو قطع يده ونحو ذلك ظلماً وعدواناً ولو لم يباشر ذلك الفعل أن عليه القصاص أو الضمان .

 

 

القول الثاني:

وهو قول الحنفية وبعض الحنابلة ([52]) أنه لا يجب عليه القصاص بل الدية، وقالوا: لأن القتل هذا كان تسبباً، والقتل الموجب للقصاص هو المباشرة وليس القتل بالتسبب.

 والذي يترجح القول الأول؛ لأن الحكم الجائر من الإمام كان سبباً في إتلاف العضو أو النفس أو الاعتداء على البدن، ولو لم يصدر القاضي الحكم عليه لم يصيبه ما أصابه ، وعدم القصاص من المتسبب الذي في حكم المباشر المتعمد سينشر الفساد بجعل من يريد الاعتداء يسلك طريق التسبب .

ب – إذا كان الحكم ناشئ عن خطأ القاضي:

فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول:

وهو قول الحنفية ورواية في مذهب الشافعية والحنابلة أنها على بيت المال في القليل والكثير ، "لأنه نائب للمسلمين ووكيلهم، وخطأ الوكيل في حق موكله عليه" ([53]) .

ولأنه يكثر خطأ القاضي لكثرة تصرفاته ، وحكوماته، وإيجاب الضمان عليه أو على عاقلته فيه إجحاف بهم ومشقة عليهم ([54]) ، وهذا يجعل القضاة يتنحون عن الحكم بين الناس خشية الوقوع في الخطأ الذي سيغرمه .

القول الثاني:

وهو قول المالكية والرواية الثانية في مذهب الشافعية والحنابلة أنها على العاقلة مخففة ومؤجلة إذا بلغت ثلث الدية ([55])، لما روي أن عمر بن الخطاب t أرسل إلى امرأة مغيّبة ([56]) كان يُدخل عليها، فقيل لها أجيبي عمر. فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر؟ فبينا هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب رسول الله e ، فأشار عليه بعضهم ألا شيء عليك ، فإنما أنت مؤدب، وصمت علي t فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول؟ قال: (أرى أن ديته عليك، فإنك أفزعتها وألقت ولدها بسببك) فأمر عمر علياً أن يقسم عقلة على قريش ([57]) .

ولو كانت في بيت المال لم يقسمها عمر على قريش، ولأنه ناتج عن خطأ فتحمله العاقلة .

والذي يظهر توجه القول الأول القائل بأن التبعة تكون على بيت المال، ولو لم يكن في ذلك إلا أن تحميل العاقلة أخطاء القاضي يجحف بهم، وقد يكثر عليهم وهذا يكفي في رجحان القول الأول .

أما حديث عمر فيمكن القول بأن المسألة خلافية وليس فيها نص قاطع بدليل أن بعضهم رضوان الله عليهم قال: (لا شيء عليك فإنما أنت مؤدب) . فدل على اختلاف الصحابة في أصل المسألة .

 


Zone de Texte: المبحــــث الثاني
Zone de Texte: الاعتراض على الحكم الجنائي في النظام 

وفيه مطلبان:

المطلب الأول:  الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز .

المطلب الثاني:   الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر .

Zone de Texte:

Zone de Texte: المطلب الأول
Zone de Texte: الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز 

وفيه فرعان:

الفرع الأول: إجراءات  الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز .

الفرع الثاني: أثر  الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز .

Zone de Texte:
الفرع الأول

 


إجراءات الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز

 

لما كان الحكم الجنائي قد يعتريه ما يعتريه من خطأ القاضي في إصداره ، أو تعسفه في تقديره سواء كان ذلك بعمد أو شبهة ، كانت من أهم الضمانات للمتهم في مرحلة المحاكمة ما يتعلق بحقه في تمييز الحكم ، ولا سيما إن كان ينطوي وراء هذا الحكم أثر كبير يتعلق بالدماء والأعراض. والمنظم السعودي قد حرص على عدم تفويت شيء من حقوق الناس، فسار بصفة عامة في تقسيم الأحكام من حيث وجوب تمييزها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: واجبة التمييز:

وهي القضايا التي يصدر بها الحكم بالقتل والرجم والقطع والقصاص فيما دون النفس ([58])، وكذا القضايا التي يحكم فيها ضد ناظر الوقف أو الوصي أو الولي أو الغائب ([59]).

ولا شك أن وجوب تمييز هذه القضايا ناشيء عن خطورة هذه الأمور لتعلقها بفوات النفس أو المنافع، وكذلك حماية لمن ضعف جانبه، وكان احتمال ظلمه بعدم إفصاحه أكبر.

القسم الثاني: جائز التمييز:

وهو في حالة عدم قناعة أحد أطراف القضية بالحكم الذي أصدره ناظر القضية فله حق طلب التمييز ([60])، على ألا يكون من الدعاوى واجبة التمييز ولا الدعاوى اليسيرة .

ويجب على القاضي في هذين القسمين عند النطق بالحكم أن يفهم المحكوم عليهم بطرق الاعتراض المقررة له، سواء كان الحكم واجب التمييز أو جائز التمييز ([61]).

القسم الثالث: ما لا يجوز تمييزه:

وهو في الدعاوى اليسيرة التي يحددها مجلس القضاء الأعلى بهيئته العامة بناء على اقتراح وزير العدل ([62]) .

وهذا أمر حسن ففيه سرعة إنجاز لقضايا الناس، ولا يكون طريقاً للمسوفين والمماطلين في إتعاب أهل الحقوق ، فيكون سبباً لأن يتركوها. وكذا لا يشغل وقت قضاة التمييز بقضايا يسيرة أثرها غير كبير. وتصدر قرارات محكمة التمييز من ثلاثة قضاة إلا في قضايا القتل والرجم والقطع فتصدر من خمسة قضاة، بعد أن ينظرها ثلاثة من قضاة المحاكم العادية ([63]).

وإجراءات تمييز الأحكام الجنائية تبدأ باستلام الشخص الطاعن في الحكم صورة لصك الحكم، والذي يجب أن يخرج بعد النطق بالحكم في موعد أقصاه عشرة أيام. ويجب أن يثبت طلب الطاعن في التمييز في ضبط القضية ، ويؤخذ توقيعه في دفتر الضبط ([64]) .

فإذا استلم الطاعن صورة الحكم فيضرب له أجلاً ثلاثين يوماً لإبداء ملاحظاته على الحكم، وتحسب هذه المدة من يوم استلامه إن كان حاضراً ، أو من التاريخ المحدد لاستلامه صورة الحكم إذا لم يحضر([65]) .

ويقدم ملاحظاته إلى إدارة المحكمة مكتوبة وتسمى : (اللائحة الاعتراضية) وتشمل هذه اللائحة بيان الحكم المعترض عليه ، وتاريخه ، والأسباب التي بُني عليها الاعتراض من الحجج والأدلة التي تؤيد قوله ، وكذا طلباته في هذا الاعتراض ([66]) .

فإذا لم يقدم الطاعن في الحكم لائحة باعتراضة خلال الثلاثين يوماً، فترفع المحكمة الحكم إلى محكمة التمييز خلال خمسة وأربعين يوماً من تاريخ النطق بالحكم ([67]) .

وهنا على القاضي مصدر الحكم أن ينظر في هذه اللائحة الاعتراضية ، فإذا ظهر له ما يقتضي عدوله عن حكمه الأول عدل عنه لما رآه صائباً، ويجب عليه أن يبلغ أطراف الدعوى بالحكم المعدل ([68]) .

أما إذا لم يظهر للقاضي خطأه في حكمه ، ولم يظهر له رجحان الأدلة التي ذكرها الطاعن، فإن القاضي يرفع جميع أوراق القضية إلى محكمة التمييز، فإذا كان موضوع القضية مرفوضاً من حيث الشكل فتصدر قراراً مستقلاً بذلك([69])، وإذا قبلت الاعتراض من حيث الشكل والموضوع فتحيل محكمة التمييز الحكم إلى المحكمة التي أصدرته مشفوعاً برأيها لتعيد المحكمة النظر في القضية على ما قدمته محكمة التمييز من ملحوظات ، فإذا ظهر للمحكمة صحت الملحوظات فيجب عليها تعديلها، فإذا لم يظهر لها ذلك فتبقى على حكمها الأول الذي تراه، ولكن يجب عليها أن تجيب عن أدلة محكمة التميز وملاحظاتهم([70]).

وإذا اقتنعت محكمة التمييز بإجابة المحكمة على ملحوظاتها فعليها أن تصدق على الحكم ، أما إذا لم تقتنع فعليها أن تنقض الحكم المعترض عليه مع ذكر المستند الشرعي أو النظامي لذلك ، ثم تحيل الدعوى إلى قاضٍ آخر لنظرها.

على أنه يجوز لمحكمة التمييز إذا كان الأمر المعترض عليه صالحاً للحكم ، واستدعت الظروف سرعة البت في الحكم أن تنظر هي بنفسها وتصدر الحكم بعد حضور الحكم ([71]).

ويجب على محكمة التمييز أن تحكم هي في القضية إذا تم نقض الحكم فيها

 

للمرة الثانية ([72]) .

والملاحظ أن المنظم السعودي قد أولى المتهم العناية الفائقة عند تمييز حكمه، وهذه العناية والحفظ تجلت من عدة صور:

1-           أنه ألزم تمييز الأحكام التي يصدر فيها الحكم بالقتل أو القطع أو الرجم أو القصاص فيما دون النفس، حتى ولو قنع المحكوم عليه بالحكم، ولا ريب أن بهذا الإجراء مزيد عناية لحق المتهم حتى لا يصدر ضده حكم جائر لا عدل فيه، وفي هذا رد على من اتهم الشريعة الإسلامية والقضاء السعودي الذي يمثل هذا الاتجاه من كون الأحكام تصدر جزافاً أو من اجتهادات شخصية ، ولكن مثل هذه الأحكام لا تنفذ حتى تمر على أكثر من عشرة قضاة هم على درجة من الفهم والإدراك والخبرة.

2-           أنه أعطى الحرية للمتهم في بعض القضايا المتوسطة حتى يبدي قناعته بالحكم القضائي الصادر ضده، فهو إما أن يرى أن الحكم هو عين العدل والإنصاف له فيقتنع بذلك ولا يطلب التمييز ، وفي هذا إسراع في فصل القضايا وإيصال الحقوق لأهلها.  وإما أن يبدي عدم قناعته ويرى أنه ظُلم في ذلك ، فيراجع الحكم ويدقق حتى يطمئن قلبه ويقتنع بما صدر ضده .

3-           أن المنظم السعودي جعل استلام لائحة الاعتراض من المتهم لدى المحكمة التي أصدرت الحكم ، ولا يكلف أن يسلمها لمحكمة التمييز ، وفي هذا من الفوائد أن يقوم القاضي مصدر الحكم بمراجعة أقوال المتهم في لائحته والنظر في مطاعنه، إذ قد ينبه القاضي لصفة مؤثرة غفل عنها، فيعدل القاضي عن حكمه وهذا سرعة لإنجاز القضايا ، وأن يصوب القاضي خطأه بنفسه. وأيضاً في هذا الإجراء تسهيل على المتهم من الذهاب لمحكمة التمييز والتي قد يبعد عنها المسافات الطويلة ، إذ من المعلوم أنه لا يوجد في المملكة العربية السعودية إلا محكمتي تمييز إحداهما في الرياض والأخرى في مكة. وفي هذه الحالة تتكفل المحكمة بإيصال لائحة الاعتراض لمحكمة التمييز .

 


الفرع الثاني

 

أثر الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز

 

يترتب على الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق التمييز أثران :

الأثر الأول:

أنه يمتنع تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الكبرى أو المستعجلة، حيث إن التمييز مؤداه وقف تنفيذ الحكم المعترض عليه.

فالحكم قبل أن يصدّق من محكمة التمييز لا يسوغ تنفيذه ، وعقب التصديق عليه يجب ذلك ويكتسب الحكم حينئذ القطعية، ولكن بشرط ألا يكون مما يجب رفعه إلى مجلس القضاء الأعلى كالأحكام الصادرة بالقتل أو القطع أو الرجم ([73]).

الأثر الثاني:

أن محكمة التمييز تنظر في القضية في الموطن الذي تم الاعتراض عليه، فهي لا تنظر في مسألة لم يدرجها الطاعن في لائحة اعتراضه ([74]). ولهذا جاء في نظام الإجراءات الجزائية ما نصه: [ تفصل محكمة التمييز في موضوع الاعتراض استناداً إلى ما يوجد في ملف الأوراق ...] ([75]) .


Zone de Texte: المطلب الثاني
Zone de Texte: الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر 

وفيه أربعة فروع:

الفرع الأول:  الفرق بين إعادة النظر والتمييز .

الفرع الثاني:   إجراءات  الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر . 
الفرع الثالث: مسوغات الاعتراض على الحكم  الجنائي عن طريق إعادة النظر.
الفرع الرابع: أثر الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر.

Zone de Texte:
الفرع الأول

الفرق بين إعادة النظر والتمييز

 

من الطرق المقررة نظاماً للاعتراض على الأحكام بجانب الطعن بالتمييز ما يسمى بالتماس إعادة النظر، وذلك في حكم سبق أن قامت المحكمة بإصداره، وهو يوافق التمييز بكونه طريق للاعتراض على الأحكام ، وبيان عدم قناعة المحكوم عليه بما صدر ضده .

ولكن ثمة بعض الفروق بين إعادة النظر والتمييز ، وسأذكر أهم الفروق التي استقيتها من نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية ، ومن أهمها:

1-     الأصل أن جميع الأحكام قابلة للتمييز إلا ما استثناه النظـام من الدعاوى اليسيرة ([76]).  أما التماس إعادة النظر فالنظام السعودي حصرها في صور معينة على ما سنذكره إن شاء الله في مسوغات الاعتراض على الحكم الجنائي ([77]).

2-     الطعن بالتمييز يرد على الأحكام غير النهائية ، فالحكم إذا طلب أحد الأطراف تمييزه يوقف تنفيذه حتى يصدر حكم من محكمة التمييز ([78]). أما في التماس إعادة النظر فيرد في الأحكام النهائية، سواء كان هذا الحكم النهائي نشأ عن قناعة المحكوم عليه أو مصادقة التمييز أو كان حكماً صادراً منها ([79]) .

3-    مدة حساب التمييز تحسب من تاريخ تسليم إعلام الحكم للمحكوم عليه ، أو من التاريخ المحدد لتسلمه إذا لم يحضر، أو من تاريخ تبلغ المحكوم عليه أو وكيله بالحكم إن كان غيابيـاً([80]). أما التماس إعادة النظر فتحسب مدته من يوم علم الملتمس بالسبب الذي يجيز له النظام طلب إعادة النظر ([81]).


الفرع الثاني

إجراءات الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر

 

لقد أورد المنظم السعودي في نظام الإجراءات الجزائية الإجراءات التي يتم على ضوئها الاعتراض على الحكم الجنائي بإعادة النظر، فذكر أن على طالب الالتماس والذي توافرت فيه الشروط أن يرفع طلبه إلى المحكمة التي أصدرت الحكم بصحيفة تشمل الحكم المطلوب إعادة النظر فيه وأسباب هذا الطلب ([82]).

وهنا على المحكمة أن تقوم بالنظر في الالتماس وتبدأ بالطلب من حيث الشكل كالشروط الواجب توافرها في مقدم الالتماس ، فإذا ظهر لها صحة الصفة التي تقدم بها الملتمس فإنها تضرب لأطراف الدعوى موعداً جديداً يبلغ به الجميع للنظر في موضوع الالتماس ([83]) .

وهنا يجب أن يلاحظ أن قبول المحكمة لطلب إعادة النظر من حيث الشكل لا يرتب وقف تنفيذ الحكم إلا إذا كان هذا الحكم القضائي قد صدر بعقوبة جسدية كقصاص أو حد أو تعزير بدني، ولكن النظام السعودي أعطى لناظر القضية سلطة تقديرية في إيقاف تنفيذ الحكم وإن كان من غير العقوبات الجسدية ([84]) .

فأما إذا تم رفض إعادة النظر في الحكم فإنه لا يجوز إعادة النظر في ذات القضية وبذات السبب، ولكن يجوز الالتماس مرة أخرى في ذات القضية إن كان بسبب آخر ([85]) .

فإذا تم إصدار حكم من المحاكم الكبرى أو المستعجلة  بناءً على طلب ملتمس لإعادة النظر فإنه يجرى لهذا الحكم ما لغيره من ناحية تمييزه ([86]).

وقد أحسن النظام هنا حينما أعطى للمتهم التعويض المناسب إذا ظهرت براءته ، ولحقه ضرر من هذه التهمة فجاء في النظام ما نصه: [ كل حكم صادر بعد الإدانة – بناءً على طلب إعادة النظر – يجب أن يتضمن تعويضاً معنوياً ومالياً للمحكوم عليه لما أصابه من ضرر إذا طلب ذلك ] ([87]).

 


الفرع الثالث

مسوغات الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر

 

كما سبق أن أشرنا إليه أن من وجوه اختلاف إعادة النظر عن التمييز ما يتعلق بتحديد صور خاصة يجوز فيها تقديم إعادة النظر ، وهذه المسوغات التي جاء النظام بها وردت في نظام المرافعات الشرعية، ونظام الإجراءات الجزائية . وسوف نقوم إن شاء الله بذكر هذه الصور مع إيضاح موجز لها :

الصورة الأولى :

إذا صدر حكم فبان بالأدلة القطعية أنه باطل . وذكر النظام لذلك مثالين:

الأول: إذا حكم على المتهم في جريمة قتل ثم ظهر أن الشخص المدعى قتله حياً ([88]).

الثاني: إذا صدر حكم على شخص من أجل واقعة ، ثم صدر حكم على شخص آخر في نفس الواقعة ، وكان بين الحكمين تناقض يفهم منه عدم إدانة أحد المحكوم عليهما ([89]) .

ففي هذين المثالين يظهر أن الحكم الصادر على المتهم غير صحيح ويحتاج إلى مراجعة وتدقيق أكبر، والخطأ في الحكم واقع بلا ريب، فكان لابد من إعادة النظر في الحكم الصادر تجاه المتهم .

وهنا لابد من شرطين في ذلك ([90]) :

الأول: إصدار الحكم ، سواء كان بالقتل كما في الصورة الأولى، أو الحكم المتناقض في الثانية .

الثاني: وجود العنصر الدال على خطأ الحكم، وهو وجود من ادعي قتله، أو وجود التناقض في الحكم .

الصورة الثانية :

إذا كان الحكم قد بني على دليل ظهر فساده بعد الحكم. وقد مثل المنظم لذلك بمثالين:

الأول: إذا كان الحكم قد بُني على أوراق أو شهادة ظهر بعد الحكم تزويرها وكذبها ([91]).

الثاني : إذا وقع من الخصم غش من شأنه التأثير على الحكم([92]).

وأرى أن التعبير بلفظ (الغش) تعبير أعم وأفضل من غيره، إذ تحوي جميع  ما يقوم به الخصوم من محاولة إخفاء الحقائق في القضية، ولا تخص تزويراً في الأوراق أو في الأقوال .

ويمكن القول بأن لهذه الصورة شرطين ([93]) :

الأول: أن يقع الغش والتزوير في الأوراق أو الأقوال بدليل قاطع لا شك فيه، إذا الشك لا يلتفت إليه في هذه الأمور، ولو نظرنا إليه لما استقرت الأحكام.

الثاني: أن يكون هذا الغش أو التزوير من شأنه أن يغير الحكم الجنائي إذا ظهر ، أما إن كان هذا الغش لا يؤثر في الحكم ولا يغير منه شيء فلا يلتفت إليه لأنه لا فائدة من إعادة النظر حينئذ .

وقد أورد المنظم السعودي صورة قريبة من الحكم الذي بني على دليل فاسد، ألا وهو الحكم الذي بُني على حكم قضائي آخر صادر من إحدى المحاكم ثم ألغي هذا الحكم ، فإن للخصم التماس إعادة النظر في الحكم الذي بني على حكم ألغي([94]) . ويمكن القول بأن هذه الصور يجمعها قاعدة واحدة وهي أن ما بُني على باطل فهو باطل.

الصورة الثالثة :

إذا ظهرت أدلة مؤثرة بعد الحكم ولم يمكن إظهارها قبله. وقد ذكر المنظم لهذا مثالين :

الأول : إذا ظهر بعد الحكم وقائع وأمور تبين الحق ولم تكن معلومة وقت المحاكمة، وكان من شأن هذه البينات ألا تدين المحكوم عليه أو تخفف عنه الحكم ([95]) .

الثاني: إذا حصل الشخص بعد الحكم على أوراق تقطع الدعوى وتحسمها ، وكان قد تعذر عليه إبرازها قبل الحكم ([96]) .

ويظهر من هذه الصورة أنه لابد من شرطين لصحة إعادة النظر فيها وهما([97]):

الأول: أن تكون البينات والأوراق التي تخص الدعوى قاطع في إثبات حق في القضية .

الثاني: أن يكون عدم إبراز هذه البينات والأدلة أثناء الدعوى ناشيء عن عدم القدرة على إبرازها، إما لكونها غير معلومة له، أو لفقدها ونحو ذلك .

الصورة الرابعة:

إذا حكم القاضي بشيء لم يطلبه الخصوم، أو بأكثر مما طلبوه([98]).

فللملتمس طلب إعادة النظر، إذ المحكمة مقيدة بطلبات الخصوم، والخروج عن طلبات الدعوى يعرض الحكم للبطلان ([99]) .

الصورة الخامسة :

إذا كان منطوق الحكم يناقض بعضه بعضاً ([100]) .

والمراد بالتناقض هنا هو التناقض الحاصل بين أجزاء المنطوق بعضه مع بعض ([101]).

ولكن مثل هذه الصورة نادرة الوقوع ، وقد يقع تصحيف وسبق قلم، وفي هذه الحالة يتم التعامل مع هذا الخطأ بما ورد في نظام المرافعات الشرعية في تصحيح الأحكام وتفسيرها ([102]).

الصورة السادسة:

إذا صدر الحكم على من لم يكن مُمَثلاً تمثيلاً صحيحاً في الدعوى([103]) .

كما لو حضر شخص للمحاكمة على أنه وكيل لفلان ثم بعد صدور الحكم ظهر عدم صحة هذه الوكالة، فالذي لم يكن مُمَثلاً تمثيلاً صحيحاً له طلب إعادة النظر.

ومثل ذلك لو عمل الوكيل عملاً لم يأذن له موكله فيه كقناعته بالحكم أو الصلح، ثم صدر حكم على إثر ذلك فللموكل الالتماس .


الفرع الرابع

أثر الاعتراض على الحكم الجنائي عن طريق إعادة النظر

 

إن من أهم الآثار المترتبة على الاعتراض على الحكم الجنائي بإعادة النظر ما يتعلق بوقف تنفيذ العقوبة ، فإذا تم تقديم طلب إعادة النظر للمحكمة فإن الأمر لا يخلو من حالات :

أ – إذا تم رفض الالتماس فلا يظهر أثراً لهذا الاعتراض في الحكم الجنائي، ويكون كأن لم يكن.

ب – إذا تم قبول الالتماس من ناحية الشكل _ككون مقدم الطلب ممن له الصفة الشرعية في ذلك _فالأصل أن ذلك لا يكون سبباً في إيقاف تنفيذ الحكم ، ولكن إذا كان الحكم الجنائي صادراً بعقوبة جسدية كالقصاص أو الحد أو التعزير فإن الحكم يوقف حتى يتم إعادة النظر في الدعوى مرة ثانية، إذ الحدود تدرأ بالشبهات ، والقصاص والتعزيرات البدنية لا تستوفي بصفة عامة إلا بيقين، والشارع الحكيم يحتاط للدماء وفوات المنافع أكثر من غيرها . على أن المنظم السعودي أعطى للقاضي سلطة تقديرية بالأمر بإيقاف التنفيذ في غير العقوبات الجسدية إذا رأى ذلك ([104]) .

ج – إذا تم قبول الالتماس من ناحية الموضوع _ وهو الجانب الذي طلبه الملتمس _ فإن الحكم السابق ينقض ولا ينفذ، فإذا كان الحكم السابق قد ترتب عليه جوانب مالية فتعاد، أما العقوبات الجسدية فكما أسلفنا أنها لا تنفذ ولهذا فيتم إلغاؤها ([105]).

ومن الآثار المترتبة على الاعتراض على الحكم الجنائي في هذا الصدر ما يتعلق بالتعويض العادل للمتهم الذي يلحقه ضرر جرّاء تهمة ظهر بعد ذلك عدم إدانته ، وهذا التعويض يشمل التعويض المعنوي والمالي، وقد اشترط النظام لهذا التعويض أن يطالب المتهم بالتعويض لما أصابه ([106]) .




تعليقات