القائمة الرئيسية

الصفحات



خطورة استعمال السلاح في المناسبات

 


أحكام وقضايا

 

خطورة استعمال السلاح في المناسبات

إعداد الشيخ: محمد علي زهير البارقي*

 

 

                                                                                   

الحمد لله القائل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70] .

     أحمده وأثنى عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بعثه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً وأنزل عليه شريعة كاملة شاملة، جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجاً، ولا تشهد فيها نقصاً، توجب العدل وتحرِّم الظلم، وتضمن للبشرية حق الحياة الكريمة، وحق التملك، وحق صيانة العرض، وحق الحرية وحق المساواة، وحق التعليم، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته هداة الأنام ومصابيح الظلام وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فهذه قضية نظرتها والحقيقة أنه ليس لها ما يميزِّها عن غيرها من القضايا غير أنني قصدت من إبرازها في هذا الباب أمرين:

* قاضي محكمة مركز قنا بمنطقة عسير.

الأمر الأول: رجاء أخذ العبرة مما حصل بسبب مخالفة المدعي عليه لأمر ولي الأمر، حيث منع استعمال الأسلحة النارية في المناسبات والأفراح لما ينجم عن استعمالها من مآس تقلب الأفراح إلى أحزان وأتراح.


 

الأمر الثاني: أردت عرض ما حصل من اختلاف في وجهات النظر بين عرضت عليهم هذه القضية من أصحاب الفضيلة القضاة حول نوع القتل الحاصل من الجاني وذلك للفائدة، وهذه عناصر القضية إجمالاً:

أولاً: الدعوى:

ادعى المدعي العام قائلاً بتاريخ (..... ) قام هذا الحاضر (...... ) باطلاق النار من بندقيته الرشاش وذلك في حفل ختان لشقيقه الأصغر في أثناء أداء ((العرضة))بهذه المناسبة من قبل المدعوين وكانوا بالتقريب خمسين فرداً وكان هذا وسط ((العرضة)) والرشاش في يده ثم وجّه الرشاش إلى جهة السماء وأطلق عدة طلقات في الهواء وقد مال به السلاح باتجاه الأرض نتيجة لقوة قهر الطلقات، حيث لم يكن يمسكه إلا بيد واحدة هي اليمن.

وقد نتج عن ذاك إصابة (........) بطلق ناري توفي على أثره وإصابة (....... ) بطلق آخر إلا أنه شفي من ذاك حسبما يتضح من التقرير الطبي المرفق بالمعاملة، وقد أدين هذا الحاضر في القضية للأدلة التالية:

أ ـــــ اعترافه المصدق شرعاً بإصابة المذكورين من بندقيته الرشاش التي مالت من يده عندما كان يطلق النار ابتهاجاً بختان أخيه.

     ب ـــــ ما جاء بأقواله في أثناء التحقيق المطابقة لما جاء باعترافه.

     ج ــــــ ما جاء بالتقرير الطبي الذي جاء به أن سبب وفاة (....... ) إطابة بطلق ناري أدى إلى نزيف شديد وتهتك بالكبد والرئة اليمنى.

     د ــــ ما جاء بالتقرير الطبي الصادر بحق ( ....... ) المتضمنة إصابته بطلق ناري من جهة العانة أدى إل جروح مختلفة.

     هـــ ـــــ ما جاء بأقوال شاهد الحال (.......) من أن هذا الحاضر كان يطلق النار تعبيراً عن فرحه بشقيقه وكان يمسك الرشاش بيده اليمنى وأنه مال منه اتجاه الأرض وأصاب شخصين بدون قصد.

      و ــــ ما جاء بأقوال والد المصاب المدعو (........ ) من وصف الحادث كسابقة.

      ز ــــ ما جاء بمحضر الانتقال والمعاينة من وصف الحادث.

     ح ــــ ضبط السلاح المستخدم في الحادث مع هذا الحاضر.

      لم يوجد له سوابق وانتهى الحق الخاص بالنسبة للشخص المتوفى بموجب الحكم الشرعي وبتنازل المصاب الآخر عن حقه.

      أطلب مجازاته الجزاء الرادع لقاء ما أقدم عليه علماً أن السلاح غير مرخص من جهة الاختصاص.

 

ثانياً: الإجابة على الدعوى:

صادق المدعي عليه على ما ورد بدعوى المدعى العام واعترف أنه أطلق النار من بندقيته الرشاش بمناسبة ختان أخيه وأنها مالت بحكم قوة الطلقات وأصاب المذكورين وأنه غير مأذون له في حمل أو اقتناء هذا السلاح.

 

ثالثاً:

جرى تأمل أوراق المعاملة فاتضح أن هذه القضية سبق أن نظرت من قبل أحد القضاة وأصدر فيها فضيلته قرار شرعياً تضمن أنه ثبت لديه أن القتل قتل خطأ وحكم بتعزير المدعي عليه بالسجن والجلد، وبعرض الحكم على محكمة التمييز لاحظت بأن الخطأ المحض هو أن يفعل الجاني ماله فعله فيصيب إنساناً والجاني في هذه القضية قد فعل ما ليس له فعله، حيث عبث بالسلاح القاتل في مجمع من الناس ولعل نسبة العمد أقرب.

كما جاء بالمادة الثانية من قرار محكمة التمييز أنه ينبغي إثبات وصف القتل وإفهام المدعي عليه أن الجزاء من قبل الجهة المختصة حسب التعليمات، وقد أصر فضيلة القاضي على حكمه فنقض الحكم، وأحيلت لنا القضية للنظر فيها من جديدة.

رابعاً: الحكم:

بعد سماع أقوال الطرفين ودراسة المعاملة أصدرت في القضية الحكم التالي نصه:

وبناء على ما تقدم من الدعوى والإجابة وحيث صادق المدعي عليه على ما جاء بدعوى المدعي العام واعترف أنه قام باطلاق النار من بندقيته الرشاش وذلك في أثناء الاحتفال بختان أخيه الأصغر، وأن ذلك حصل في أثناء مشاركته في (( العرضة)) وأنه لم يكن يمسك البندقية سوى بيد واحدة هي يده اليمين، وأنه لم يستطع التحكم في السلاح نتيجة اندفاع الطلقات، فمالت البندقية من يده وأصابت الشخصين المذكورين بالدعوى توفي أحدهما بسبب الإصابة واعترف أن البندقية التي استخدمها لم تكن مرخصة ولا مأذوناً له باستخدامها واقتنائها.

وبعد الاطلاع على أوراق المكاتبة واعترفات الجاني المدونة بملف التحقيق وكذا القرار الصادر من الدائرة الجزائية (.....) بمحكمة التمييز وحيث إن قتل الخطأ هو: أن يفعل المكلف ما يباح له فعله كأن يرمي صيداً أو يقصد غرضاً فيصيب إنساناً معصوماً فيقتله، ولا ينطبق هذا الوصف على ما أقدم عليه المدعى عليه في هذه القضية، فقد فعل ما ليس له فعله حيث خالف التعليمات الصادرة من ولي الأمر والتي تمنع اقتناء السلاح أو استخدامه بدون إذن من جهة الاختصاص وتمنع اطلاق النار في المناسبات العامة مثل حفلات الزواج والختان والأعياد ونحو ذلك، وطاعة ولي الأمر واجبة ما لم يأمر بمعصية كما أن الجاني لم يأخذ الحيطة والحذر عند اطلاق النار فقد دخل بهذا السلاح الخطير وسط (( العرضة)) ثم أمسكه بيد واحدة وأطلق منه النار مما جعل السلاح يخرج عن سيطرته ويقتل إنساناً معصوماً بدون حق، ولما تقدم فقد ثبت لدي إدانة (........) بقتل ( ........) حيث أصابه بطلقة من بندقيه الرشاش التي أطلق النار منها في أثناء الاحتفال بختان أخيه، كما ثبت لدي أن هذا القتل هو قتل شبه عمد وليس بخطأ محض لما سبق ايضاحه من المسوِّغات وأفهمت القاتل أن الجزاء على هذا القتل عائد لولي الأمر هذا ما ظهر لي وبه حكمت.

 

خامساً: تُلي الحكم على المدعي عيله فقرر قناعته به.

     سادساً: رفع الحكم لمحكمة التمييز فتمت المصادقة عليه من الدائرة المختصة بالإجماع.

سابعاً: التعليق:

    مما تقدم يتضح أن هذه القضية نظرت مرتين، حيث نظرت أولاً من قبل أحد القضاة وأصدر فيها حكماً، حيث ثبت لديه أن القتل الحاصل من الجاني خطأ محض، يترتب عليه ما يترتب على القتل الخطأ من أحكام.

    وعزر الجاني بالسجن والجلد.

    وبعرض هذا الحكم على الدائرة المختصة بمحكمة التمييز، لاحظوا عليه وجاء بالقرار الصادر منهم بأن القتل ليس خطأ، حيث إن الخطأ أن يفعل الجاني ماله فعله فيصيب إنساناً، والجاني في هذه القضية قد فعل ما ليس له فعله، حيث عبث بالسلاح القاتل في جمع من الناس ولعل نسبة العمد أقرب، وقد أصر فضيلة القاضي على رأيه فنقض الحكم كما سبق إيضاحه، وإذا عدنا لأقوال الفقهاء في القتل العمد والخطأ وتعريفهم لكل منهما وأي التعريفين ينطبق على هذه المسألة نجد أن أكثرهم قد عرّف القتل الخطأ: (( بأنه أن يفعل الإنسان ما يجوزه فعله فيئول إلى إتلاف حر مسلماً كان أو كافراً))([1]) وإذا نظرنا لقضيتنا هذه نجد أنها لا تدخل تحت هذا التعريف، فالجاني قد فعل ما لا يحق له فعله وترتب على عمله إزهاق نفس بدون حق.

    غير أنه ورد بالإقناع قوله: فصل: والخطأ كرمي صيد أو غرض أو شخص ولو معصوماً أو بهيمة ولو محترمة فيصيب آدمياً معصوماً لم يقصده. ([2]) ويتضح من هذا عدم اشتراطه في القتل الخطأ أن يكون فعل الجاني مما يحق له فعله، ويؤيد هذا ما جاء في المغني، حيث قال المؤلف: فصل: وأن قصد فعلاً محرماً فقتل آدمياً مثل أن يقصد قتل بهيمة أو آدمي معصوم فيصيب غيره فيقتله فهو خطأ أيضاً لأنه لم يقصد قتله ([3])، ولعل فضيلة القاضي الذي رأى أن القتل في هذه القضية هو قتل خطأ قد استند إلى هذه الأقوال إلا أن أصحاب الفضيلة قضاة التمييز لم يوافقوا على هذا الرأي ورأوا أن القتل هنا أقرب إلى العمد منه إلى الخطأ وإن كانوا لم يجزموا بأنه قتل عمد.

     وبالرجوع إلى تعريفات الفقهاء للقتل العمد نجد أن أكثرهم عرّفوه(( بأن يقتل قصداً بما يغلب على الظن موته به عالماً بكونه آدمياً معصوماً)).

     قال في الإقناع: فالعمد: أن يقتل قصداً بما يغلب على الظن موته به عالماً بكونه آدمياً معصوماً. ([4])

     وجاء في التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة قوله: القتل العمد: هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجني عليه.([5])

     وذكر أركان القتل العمد ثلاثة:

     الأول: أن يكون المجنى عليه آدمياً.

     الثاني: أن يكون القتل نتيجة لفعل الجاني.

     الثالث: أن يقصد الجاني إحداث الوفاة.([6])

    وقال: يشترط أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن يثبت القصد للقتل ثبوتاً لا شك فيه فإن كان هناك شك في أن الجاني قصد القتل اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد.([7])

    وقال الدكتور عبد الله العلي الركبان في كتابه ((القصاص في النفس)) ما معناه: أنه يرى أكثر الفقهاء اعتبار قصد الجاني عند ارتكاب القتل فإذا قصد القتل فالقتل عمداً وإن لم يقصد القتل فشبه عمد.([8])

      وبتطبيق حد القتل العمد على هذه الحادثة نجد أنه لا ينطبق عليها، إلا أن هناك قولاً لبعض العلماء: أن من فعل ما ليس له فعله فترتب عليه قتل معصوم أن القتل يكون عمداً، فقد جاء في ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) أن قتل الخطأ قسمان: أحدهما أن يرمي الصيد أو يفعل ما يجوز له فعله فيؤول إلى إتلاف حر مسلماً كان أم كافراً)) وقال الشارح بعد ذلك ما معناه: أنه يفهم من قوله (( أو يفعل ما يجوز له فعله )) أنه لو فعل ما

ليس له فعله فأصاب غيره أنه يكون عمداً.([9])

      ومما تقدم يظهر لنا أنما حكم به فضيلة حاكم القضية السابق من اعتبار القتل في هذه القضية خطأ محض قد قال به بعض العلماء إلا أن هذه المسألة لا تدخل تحت حد قتل الخطأ المشهور السالف ذكره والذي أشار إليه أصحاب الفضيلة قضاة محكمة التمييز وقد كان رأيهم أن هذا القتل أقرب إلى وصف العمد غير أنهم لم يجزموا بأنه قتل عمد ولعلهم قصدوا شبه العمد لأنه يطلق عليه عمد الخطأ والخطأ العمد.

     أما ما توصلت إليه في هذه القضية وحكمت به فقد ترجح لدي أن القتل الصادر من الجاني شبه عمد فليس خطأ محضاً لأن الجاني فعل ما ليس له فعله فاستعمل سلاحاً نارياً خطراً غير مأذون له في استعماله من ولي الأمر في جمع من الناس، وفرط عند الاستعمال فلم يَحْتَطْ ويمسك هذا السلاح كما يجب.

     كما أن هذا القتل ليس عمداً محضاً لأنه لم يوجد فيه قصد القتل للمجني عليه وقصد القتل ركن من أركان القتل العمد، ولهذا لم يبق إلا أن يكون القتل في هذه القضية شبه عمد، وقد رأى أصحاب الفضيلة قضاة محكمة التمييز وجاهة هذا الرأي فصدقوا الحكم كما سبق إيضاحه. ولا يخفى أن لكل من قال بأن هذا القتل خطأ محض أو عمد محض مستند من أقوال العلماء سبقت الإشارة إليه ولكن أرى أن القول بأنه شبه عمد هو الأقرب إلى الصواب، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.



تعليقات