القائمة الرئيسية

الصفحات



مفهوم المجموعة العقدية

 


 

 

الفصل الثاني

مفهوم المجموعة العقدية

تقسيم

وسنتكلم هنا عن التعريف بالمجموعة العقدية، وهذا يستلزم معرفة مفهوم المجموعة العقدية وتمييزها عن غيرها، وصورها، ولذا سنقسم هذا الفصل إلى المبحثين التاليين:

المبحث الأول : التعريف بالمجموعة العقدية وتمييزها عن غيرها.

المبحث الثاني : صور المجموعة العقدية.


المبحث الأول

التعريف بالمجموعة العقدية

وتمييزها عن غيرها

تقسيم

وسنتناول في هذا المبحث التعريف بالمجموعة العقدية، ثم سنميزها عن غيرها من الأنظمة القانونية الأخرى التي قد تشتبه بها.

          

المطلب الأول : التعريف بالمجموعة العقدية.

المطلب الثاني : تمييز المجموعة العقدية عن غيرها.

 


المطلب الأول

التعريف بالمجموعة العقدية

وسنتناول هذا المطلب من خلال الفروع الآتية:

الفرع الأول    : نشأة المجموعة العقدية.

الفرع الثاني   : ماهية المجموعة العقدية.

                  

الفرع الأول

نشأة المجموعة العقدية

         إن وجود أي نظام قانوني يستلزم أولا وجود مشكلة واقعية حتمّتها ظروف الحياة، نتج عنها مصاعب قانونية، مما يؤدي ذلك إلى ضرورة إيجاد نظام قانوني يقوم على حل تلك المشكلات القانونية التي أوجدها الواقع الفعلي.

         وعند النظر إلى المجموعة العقدية، نجد أنها وجدت من الناحية الفعلية بوجود العقود التي كونت المجموعة العقدية، والعقد عمومًا هو توافق إرادتين على ترتيب آثار قانونية([1])، وتوافق تلك الإرادات لم ينشأ إلا بعد وجود تطور اقتصادي للمجتمع،حيث أدى ذلك التطور إلى وجود علاقات بين أفراد المجتمع، وهذه العلاقات تتطور تبعًا للتطور الاقتصادي لتلك المجتمعات([2])، فنجد مثلا أن ظهور المعاملات بين الناس جاء نتيجة لتطور نظام الملكية من ملكية جماعية إلى ملكية خاصة، وكذا بوجود نظام التخصص في العمل وتقسيمه إلى زراعة ورعي ونحوه، حيث أدى هذا أيضًا إلى وجود فائض في المنتجات، فصاحب الزراعة يأخذ جزءا مما ينتجه ويسد به حاجاته ويفيض منه شيء، ومثله – أيضًا- صاحب الماشية ونحوه، كما أن حاجة كل شخص لا تكفيه ما لديه من منتجات، فصاحب الزراعة يحتاج إلى صاحب

الصناعة لسد حاجاته منه والعكس كذلك؛ ولذا لزم أن يأخذ كل واحد من الآخر حاجته، ويعطيه مقابله ما يحتاجه الجانب الآخر منه، وهنا ظهرت أهمية التبادل في الأشياء بين الأفراد، ويكون هذا التبادل بتلاقي إرادتين وهي إرادة كل صاحب حاجة مع الآخر وبتلاقي تلك الإرادات وجد نظام العقد والذي ينظم ذلك التبادل في الحاجات والمنافع، فالعقد إذًا نظام وجد بسبب التطور الاقتصادي الذي أدى إلى الحاجة في تبادل الأشياء بين الناس، والذي جاء أيضًا بسبب التطور الاجتماعي بين الأفراد([3]).

         وقد كان التبادل في البداية بين السلع فيما يعرف بالمقايضة أي المبادلة، ولكن هذا أوجد مشاكل عملية وذلك أنه قد لا يكون الشخص الآخر بحاجة للسلعة عند الأول كحاجة الأول للسلعة عند هذا المتعاقد، مما أدى بالناس إلى ضرورة البحث عن سلعة تكون وسيطة لتبادل السلع، وتكون هذه السلعة مرغوبة للجميع، وعندما تطور المجتمع وتم اكتشاف الذهب والفضة أصبحت هي السلعة الوسيطة بين الأفراد، وأطلق عليها النقود([4])، وأطلق على العقد الذي تكون فيها النقود محل المبادلة بعقد البيع كما ظهرت الحاجة إلى التبادل بين تلك السلعة الوسيطة (النقود) وعرف ذلك بالصرف([5]).

         كما ظهرت الحاجة إلى الانتفاع بالشيء دون تملكه حيث أصبحت المنفعة هي محل العقد وعرف هذا بالإيجار، سواء كان ذلك منفعة شيء ثابت كالدور للسكني أو متحرك كالدواب للانتقال والذي عرف بعقد النقل، وقد تكون الحاجة إلى الانتفاع بعمل الشخص كإجارة الخياط على إخاطة ثوب وعرف هذا بعقد العمل([6]).

         كما أدى التطور الاقتصادي إلى حاجة الناس إلى نوع من التبادل المركب، وذلك مثل التبادل بين النقود وبين العين والعمل، وعرف ذلك بعقد المقاولة حيث يقدم المقاول العمل وكذا المواد([7])، وهذا فيه اختلاط بين البيع والإجارة فهو بيع باعتباره يؤدي إلى تملك شيء وهو إجارة باعتباره يؤدي إلى منفعة شخص ولذا لم يعرف عقد المقاولة بهذا الاسم في الشرائع السابقة وعرف كنوع من أنواع عقد الإيجار([8]).

         ذلك التطور السابق في المعاملات بين الأفراد والعقود المنظمة لها لم يقف على ما هو عليه، فبظهور الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر نتيجة لظهور الاختراعات الجديدة، وما نتج عنه من إحلال الآلة محل الإنسان في كافة المجالات والذي أدى ذلك إلى تطور كبير في عملية الإنتاج واتساع مجالات التبادل وظهور علاقات جديدة أدت إلى التطور في مفهوم فكرة العقد([9]).

         ففي مجال تبادل الأعيان مثلا، نجد أن الصناعات تطورت كثيرًا مما عليه سابقًا وأدى ذلك إلى ظهور صناعة الأشياء الثقيلة ذات القيمة المالية المرتفعة كالطائرات والسفن والأجهزة الكهربائية، كما أن التطور في الآلات المصنعة أدى إلى كثرة المنتجات والمصنوعات، وبالتالي لزم توزيعها إلى أكثر من مستهلك، وهذا يؤدي إلى كثرة عمليات التبادل لتلك المنتجات وتعاقب تلك التصرفات على تلك المنتجات وظهرت هنا البيوع المتعاقبة والمتوالية على مال واحد، حيث تنقل الأموال عن طريق عدة عقود بيع من المنتج إلى الموزع إلى المستهلك، فعقود البيع تلك وإن كانت مستقلة عن بعضها البعض من حيث الأطراف إلا أنها مترابطة من حيث اتحاد المحل بتعاقبها على مال واحد([10])، كما إن التصرفات على مال واحد لم يكن على تملك ذلك المال كما في عقود البيوع المتوالية على مال واحد فحسب، بل أصبح ذلك التعاقب على منفعة المال دون تملكه كما في عقود الإيجار المتعاقبة على مال واحد، حيث يقوم المستأجر بالتأجير من الباطن للعين التي ملك منفعتها بعقد الإجارة الأول بتأجير تلك العين إلى مستأجر ثاني، ويعتبر عقد الإيجار الثاني مستقلا عن عقد الإيجار الأول، من حيث التكوين  إلا أنه مرتبط به من ناحية التنفيذ باتحاد المحل الوارد عليه تلك العقود([11]).

         كما أن النهضة الصناعية واكبها نهضة شاملة في شتى المجالات، ومنها النهضة العمرانية، فقد أدى ذلك إلى تطور هائل وسريع في الحركة العمرانية، من إنشاء الأبنية الضخمة والعمارات الشاهقة، وما شابهها، وهذا ما أتى إلا بتطور أساليب الفن المعماري، والتي جاء فيها التنوع في الأعمال العمرانية مما أدى إلى وجود التخصص فيها، كأعمال البناء والنجارة والكهرباء.. الخ، كل ذلك أدى إلى ندرة أن يقوم مقاول واحد بعملية البناء لوحده، فيضطر بالتالي إلى القيام بعدة عقود مقاولة من الباطن تكون مستقلة عن عقد المقاولة الأصلي، تهدف تلك العقود إلى تحقيق هدف مشترك هو تحقيق عقد المقاولة الأصلي([12])، فعقود المقاولة هذه ارتبطت مع بعضها البعض بقصد تحقيق هدف واحد. كما أن التطور الاقتصادي وكثرة الإنتاج أدى إلى اتساع دائرة التبادل التجاري بين الدول، ولذا أدى ذلك إلى وجود شركات تتولى عملية النقل البحري والجوي والبري للبضائع والأشخاص أيضًا، ولكن طول المسافات أدى إلى وجود بعض القيود القانونية، التي قد لا يستطيع الناقل بسببها من تنفيذ عقد النقل كنقل البضاعة مثلا مما يؤدي إلى أن يعهد هذا الناقل إلى طرق أخرى تساعده في إتمام نقل تلك البضاعة، وذلك بإنشاء عقود نقل من الباطن مع شركات أخرى تكون مستقلة عن عقد النقل الأصلي، حيث تترابط عقود النقل تلك بقصد تحقيق هدف واحد هو تنفيذ عقد النقل الأصلي بتوصيل البضائع – مثلا- إلى مكانها([13]).

         فهكذا نجد أن التطور الاقتصادي السابق أدى إلى ظهور مجموعات متعددة مستقلة عن بعضها البعض من العقود من حيث التكوين والنشأة إلا أنها مرتبطة من حيث التنفيذ والغاية الأخيرة([14])

وتظهر مجموعات العقود المتعددة تلك في صورتين:

الصورة الأولى: مجموعة العقود المتعاقبة على مال واحد، وفي هذه الصورة يكون محل الالتزام واحدًا حيث يكون هو القاسم المشترك بين هذه العقود، كالعين المبيعة في عقود البيع المتوالية على عين واحدة وكالعين المؤجرة في عقود الإجارة من الباطن المتعاقبة على عين واحدة ، وتعرف بسلاسل العقود([15])

أما الصورة الثانية: فهي مجموعة العقود المترابطة بقصد تحقيق هدف مشترك، حيث يربط بين هذه العقود وحدة الهدف والغاية كما في عقود المقاولة من الباطن الهادفة إلى تحقيق هدف واحد وهو تحقيق المشروع التي قامت من أجله، وتعرف بمجموعات العقود ([16])

         ومثلها أيضًا عقود النقل من الباطن والتي ترابطت بقصد تحقيق هدف واحد وهو تنفيذ عقد النقل الأصلي([17]).

         فمن خلال الصور السابقة لمجموعة العقود المترابطة ظهر اصطلاح قانوني حديث يعني بدراسة تلك الصور ودراسة العلاقات القانونية الناتج عنها، ومدى العلاقة بين أطرافها.

         وأول من درس تلك الصور هو الفقيه الفرنسي Teyssi (B) في دراسته المتخصصة عام 1975م عن المجموعة العقدية، وأطلق على تلك الصور السابقة بالمجموعة العقدية([18]).

الفرع الثاني
ماهية المجموعة العقدية

أولا: تعريف المجموعة العقدية

         وأما عن تعريف المجموعة العقدية فيعرفها أستاذنا الدكتور فيصل ذكي عبد الواحد في بحثه المتخصص والمتعمق بعنوان المسئولية المدنية في إطار الأسرة العقدية([19]) حيث عرفها من خلال صورها بأنها: "مجموعة الأشخاص الذين يساهمون في تكوين تصرفات قانونية متعاقبة على مال واحد أو مترابطة بقصد تحقيق هدف مشترك"([20])، وهو تعريف يشمل صور المجموعة العقدية.

         ويعرف بعض الفقه المجموعة العقدية مقتصرًا على بعض صورها وهي التعاقب على مال واحد حيث جاء في تعريفها بأنها: "مجموعة من العقود تنصب على شيء واحد بتتابع زمني ومن خلالها تتتابع آثار العقود بدءا من المالك أو المنتج وصولا إلى المستهلك"([21]).

         كما عرفها البعض "بأنها مجموعة عقود تتابع وترد على محل واحد وإن كان أطرافها مختلفين([22]).

         وبعض الفقه يعرف المجموعة العقدية بأنها "ارتباط عدة عقود مستقلة بوحدة الغاية والهدف"([23]).

ويمكن أن نعرف المجموعة العقدية بأنها: "مجموعة من العقود ارتبطت بتعاقبها على مال واحد أو بتحقيقها لهدف مشترك دون اتحاد أطرافها " حيث يكون هذا التعريف قد خص العقود دون التصرفات؛ لأن التصرفات تكون أشمل من العقود ويدخل فيها التصرف القولي والفعلي وكذا التصرف المفرد، بينما العقود هو اتفاق إرادتين([24]).  

         و من التعريف السابق نجد أن الفكرة الجوهرية للمجموعة العقدية تقوم على الترابط بين مجموعة العقود التي تتكون منها المجموعة العقدية، وهذا الترابط قد يكون في وحدة المحل كما في العقود المتعاقبة على مال واحد، أو وحدة السبب كما في العقود المترابطة بقصد تحقيق هدف واحد([25]).

         والترابط ذلك يقتضي تتابع عقود المجموعة العقدية من حيث الزمن، ومن حيث تاريخ انعقادها، أي أن أحدهما يسبق الآخر بالضرورة([26])، ولكن لا يشترط في ذلك التتابع أن يكون العقد اللاحق لاحقًا في التنفيذ أيضًا كما في البيوع المتتالية على مال واحد، فالبيع الثاني لا يأتي إلا بعد تنفيذ عقد البيع الأول حيث يجب أن يتم تنفيذ عقد البيع الأول وبنقل ملكية المبيع وتسليمه للمشتري([27])، حتى يقوم هو بدوره ببيعه للشخص الثاني، حتى نكون هنا بصدد عقود متعاقبة على مال واحد، وبالتالي نكون بصدد مجموعة عقدية([28]).

         حيث يمكن أن توجد مجموعة من العقود متتابعة في تاريخ الانعقاد ومع هذا فإنها تكون أيضًا متراكمة في التنفيذ، بمعنى أن العقد اللاحق يعقد قبل تنفيذ العقد الأول ويتم تنفيذ عقود المجموعة العقدية في وقت واحد، وهذا مثل عقد المقاولة من الباطن فإنه يتم انعقاده بعد انعقاد العقد الأصلي، ولكنه يعقد قبل تنفيذ العقد الأصلي؛ لأنه أصلا ما وجد إلا من أجل تنفيذ العقد الأصلي فنكون هنا بصدد تعاقب في الانعقاد وتراكم في التنفيذ([29]).

         كما لا يجب من أجل تحقيق مجموعة عقدية أن يكون الهدف المراد تحقيقه هو كل الهدف كما في العقد الأصلي، إذا قد يجوز أن يكون غرض التعاقد من الباطن هو تنفيذ جز من غرض العقد الأصلي كما إذا تعاقد رب العمل مع مقاول على بناء معين، فيقوم المقاول الأصلي بالتعاقد من الباطن مع مقاول من الباطن على تنفيذ جزء من ذلك البناء ونحوه([30]).

         كما أنه لا يشترط في المجموعة العقدية أن تكون عقودها متجانسة كما في عقود البيوع المتتالية على مال واحد وكذا عقود الإجارة من الباطن المتعاقبة على عين واحدة، ومثلها عقود المقاولة من الباطن المترابطة بقصد تحقيق مشروع واحد([31])

         حيث تتحقق المجموعة العقدية ولو كانت العقود ا لتي تتكون منها غير متجانسة، والمقصود بالعقود غير المتجانسة هي التي لا تتشابه من حيث الطبيعة القانونية كأن يتصل عقد البيع بعقد المقاولة، كما إذا قام المقاول بإبرام عقد بيع شراء المواد المستخدمة في البناء، فعقدا البيع والمقاولة هنا ارتبطا بقصد تحقيق هدف واحد وهو إتمام البناء([32])، وهكذا نجد أن المجموعة العقدية تتضمن مجموعة من العقود تكون مستقلة من حيث التكوين إلا أنها تشترك من حيث التنفيذ وسبب الاشتراك في التنفيذ هو ترابطها في وحدة المحل أو وحدة السبب([33]).

ثانيا: مصطلح المجموعة العقدية

         ويطلق بعض الفقه على مصطلح المجموعة العقدية بمصطلح السلسلة العقدية أو سلسلة العقود المتتالية([34]) إلا أنهم يقصدون بذلك صورة تعاقب العقود على مال واحد ولا يدخل فيها صورة ترابط العقود بقصد تحقيق هدف مشترك، ويطلق البعض مجموعة العقود المترابطة بقصد تحقيق هدف مشترك بالمجموع التعاقدي([35]).

         ويفضل أستاذنا الدكتور فيصل ذكي عبد الواحد إطلاق مصطلح الأسرة العقدية على المجموعة العقدية حيث يقول معللا لذلك: "وقد فضلنا معالجة هذا الموضوع تحت مسمى "الأسرة العقدية" لأن مجموعة التصرفات القانونية المتعاقبة على محل واحد أو المترابطة بقصد تحقيق عملية اقتصادية واحدة مشتركة تنبثق من تصرف قانوني أصلي لولا وجوده لما تكونت هذه التصرفات، وهذا هو الحال بالنسبة للأسرة المدنية، حيث أنها تبدأ برابطة قانونية بين شخصين ثم تتفرع بعد ذلك إلى روابط أخرى"([36]).

         ونحن نفضل مصطلح المجموعة العقدية؛ لأن هذ المصطلح يشمل المجموعة العقدية بصورتيه، كما أنه بعيد عن المجاز، وهذا يوافق ما يجب أن تكون عليه المصطلحات القانونية من كونها ألفاظا حقيقية تدل على معانيها بوضوح دون أي غموض يستدعي ضرورة البحث عن العلاقة التي صرفت  اللفظ عن حقيقته.

 

 

 

 

 

 


المطلب الثاني
تمييز المجموعة العقدية عن غيرها

         واستكمالا لتوضيح مفهوم المجموعة العقدية، سوف نميزها عما يشابهها من العقود المترابطة وسنقسم هذا المطلب إلى الفروع الآتية:

 

الفرع الأول    : تمييز المجموعة العقدية عن العقود المشتركة.

الفرع الثاني  : تمييز المجموعة العقدية عن العقد المركب .

الفرع الثالث  : تمييز المجموعة العقدية عن التنازل عن العقد.

الفرع الرابع  : تمييز المجموعة العقدية عن التبعية العقدية.

الفرع الأول

تمييز المجموعة العقدية عن العقود المشتركة

         يقصد بالعقود المشتركة أنها العقود التي يكون أحد أطرافها عدة أشخاص أي أن هناك أكثر من شخص يلتزمون بتنفيذ نفس العقد على قدم المساواة فهنا نجد عدة مساهمين يشتركون من أجل تنفيذ هدف مشترك، كما في تنفيذ الأعمال المعمارية عن طريق إبرام مجموعة من عقود المقاولة مع مقاولين مختلفين من أجل تنفيذ هدف مشترك، ومثال ذلك أن يقوم رب العمل بإبرام عدة عقود مقاولات من أجل تنفيذ مشروع معين([37])، فمجموع تلك العقود قد تشبه المجموعة عقدية على اعتبار أنها مجموعة من العقود ترابطت بقصد تحقيق هدف واحد، ولكننا نجد هنا اختلافًا كبيرًا بين النظامين فعقود المجموعة العقدية تكون مستقلة من حيث التكوين تمامًا عن العقد الأصلي المراد تنفيذه بينما نجد هنا أن العقود المشتركة هنا تكون مرتبطة بعلاقة مباشرة بالعقد الأصلي([38]).

الفرع الثاني

تمييز المجموعة العقدية عن العقد المركب

         والعقد المركب أو العقد المختلط هو العقد الذي يشتمل على عدة عمليات ويكون ممتزجًا بعدة عقود مختلفة اختلطت فأصبحت عقدًا واحدًا، مثل عقد الفندقة الذي يتم بين النزيل وصاحب الفندق، فهو مزيج من عقود مختلفة، منها الإيجار بالنسبة للسكن، والبيع بالنسبة للمأكل والمشرب، وكذا العمل بالنسبة للخدمة التي تقدم له، والوديعة بالنسبة لحفظ الأمتعة، فالعقد المركب هنا مجموعة من العقود اجتمعت من اجل تحقيق هدف واحد هو إقامة النزيل في الفندق([39])، ولكنها تختلف عن المجموعة العقدية من حيث أن عقود المجموعة العقدية مجموعة من العقود المستقلة من حيث التكوين أي أن أطراف كل عقد ليسوا هم أطراف العقد الآخر، وهذا بعكس العقد المركب الذي هو مجموعة من العقود المختلفة من حيث الطبيعة والمحل إلا أن أطرافها متحدون.

 

الفرع الثالث

تمييز المجموعة العقدية عن التنازل عن العقد

         التنازل عن العقد هو عبارة عن اتفاق بين شخصين يحل بمقتضاه المتنازل له محل المتنازل  فيما له من حقوق و ما عليه من التزامات في علاقة قانونية قائمة من قبل، فالتنازل عن العقد هو عقد متعدد الأطراف، ذو علاقة ثلاثية هم المتنازل والمتنازل له، والمتنازل لديه([40]) ، فتقوم هذه العملية على مجموعة من العقود وهي العقد الأصلي بين متعاقدين، ثم عقد آخر يقوم أحد المتعاقدين وهو المتنازل بالتنازل إلى المتنازل له، فهذه مجموعة عقود تعاقبت على مال واحد. ولكنها مع ذلك لا تشكل مجموعة عقدية حيث أنه في عملية التنازل ينتهي العقد الأصلي بين المتنازل لديه والمتنازل حيث ينتهي ولا يصبح للمتنازل في علاقة التنازل أي مركز قانوني، وهذا بعكس المجموعة العقدية فإن الطرف الوسط بين أطراف المجموعة العقدية لا تنهي صفته القانونية حيث لا يزال طرفًا في علاقته في العقود والتي شارك في تكوينها، فالمقاول الأصلي عندما يعقد مقاولة من الباطن فإنه لا يتنازل عن حقوقه من عقد المقاولة الأصلي، وهو بعكس  التنازل عن عقد المقاولة أو الإجارة حيث لا يكون للمقاول الأصلي مركزًا قانونيًا([41]).

الفرع الرابع

 تمييز المجموعة العقدية عن التبعية العقدية

         وهنا قد يلجأ أحد المقاولين إلى الاستعانة بأشخاص آخرين يعملون معه في تنفيذ عقد المقاولة مثل عقود العمل التي يبرمها مع العمال والفنيين، فهنا نلاحظ وجود عدة عقود أبرمه المقاول الأصلي مع العمال والفنيين من أجل تنفيذ عقد المقاولة الأصلي([42])، وهنا يحدث التشابه بين المجموعة العقدية على اعتبار أنها مجموعة من العقود ترابطت بقصد تحقيق هدف مشترك، ولكننا نجد هنا أن هؤلاء يعتبرون مستخدمين ومتبوعين للمقاول الأصلي؛ ولذا يكون هو مسئول عن أخطائهم مسئولية المتبوع عن فعل تابعه، أمام رب العمل([43])، وهذا بعكس المقاول من الباطن الذي يكون مستقلا في علاقته برب العمل ولا يكون متبوعًا ونتيجة لذلك فإننا نجد أنه في حالة الشرط المانع من التصرف لمنع المقاولة من الباطن لا يمنع الاستعانة بأشخاص آخرين في انجاز العمل([44]).


المبحث الثاني

صور المجموعة العقدية

         وفي هذا المبحث سنتناول الوجود القانوني لصور المجموعة العقدية سواء ما كان منها في توالي العقود على مال واحد أو ترابطها بقصد تحقيق هدف مشترك، ونرى هل اعترف القانون بوجود المجموعة العقدية، وسنذكر الوجود القانوني لمفهوم المجموعة العقدية، بتناول صورة توالي العقود على مال واحد، ثم الوجود القانوني لصورة ترابط العقود بقصد تحقيق هدف مشترك.

ولذا سنقسم هذا المبحث إلى المطلبيين الآتيين:

المطلب الأول : صورة توالي العقود على مال واحد.

المطلب الثاني : صورة ترابط العقود بقصد تحقيق هدف مشترك.

 


المطلب الأول

صورة توالي العقود على مال واحد

أولا: موقف القانون المصري

وتوالي العقود على مال واحد قد يكون بتعاقب ملكيتها كما في عقود البيع وقد يكون عن طريق التعاقب على ملكية منفعتها كما في عقود الإجارة من الباطن على عين واحدة، وقد عرف القانون صورة توالي العقود على مال واحد فيما يعرف في الفقه القانوني بالخلافة الخاصة، فقد عّرف الفقه القانوني الخلف الخاص([45]) بأنه هو كل من تلقى من سلفه مالا معينًا

أو هو من يتلقى عن سلفه ملكية شيء معين بالذات أو حقًا عينيًا على هذا الشيء فالمشتري خلف خاص للبائع في الشيء المبيع، وهذا استخلاف في ملكية عين مبيعه([46]) ومعنى أن يكون المشتري خلفًا خاصًا للبائع هو أن الخلف الخاص يستفيد من الحقوق التي اكتسبها سلفة، حيث يفترض هنا أن السلف يكون قد اشترى عينًا معينة من البائع الأول وله حقوق على تلك العين، فإنه إذا باعها إلى شخص ثاني وهو الخلف الخاص فإنه تنقل إليه تلك الحقوق التي لسلفه([47])، وهذا يعني أن هناك مجموعة من العقود توالت على مال واحد، العقد الأول بين السلف ومن تلقى عنه الحق، والعقد الثاني بين السلف والخلف الخاص، مما يشكل هنا مجموعة عقود تعاقبت على مال واحد وهذه هي صورة من صور المجموعة العقدية.

وقد نص القانون المدني المصري على الخلافة الخاصة ورتب عليها أحكامها: حيث نصت المادة 146 مدني مصري على أنه: "إذا أنشأ العقد التزامات وحقوقًا شخصية تتصل بشيء انتقل بعد ذلك إلى خلف خاص فإن هذه الالتزامات والحقوق تنتقل إلى هذا الخلف في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء. إذا كانت من مستلزماته، وكان الخلف يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه".

وجاء في الأعمال التحضيرية للنص السابق في الخلافة الخاصة ما نصه: "الخلف الخاص هو من يكتسب ممن يستخلفه حقًا عينيًا على شيء معين كالمشتري والموهوب له والمنتفع، فإذا عقد المستخلف عقدًا يتعلق بهذا الشيء انتقل ما يترتب على هذا العقد من حقوق والتزامات إلى الخلف الخاص بشروط ثلاثة:

 

الأول   : أن يكون تاريخ العقد سابقًا على كسب هذا الخلف لملكية الشيء.

الثاني  : أن تكون الحقوق والالتزامات الناشئة عن العقد مما يعتبر من مستلزمات هذا الشيء، ويتحقق ذلك إذا كانت هذه الحقوق مكملة له كعقود التأمين مثلا، وإذا كانت تلك الالتزامات تحد من حرية الانتفاع به، كما هو الشأن في الالتزام بعدم البناء.

الثالث  : أن يكون الخلف قد علم بما ينتقل إليه من حقوق والتزامات وأن يكون في مقدوره أن يعلم بذلك([48])".

        

وهكذا نجد من النصوص السابقة أن المشرع المصري وضع للخلافة الخاصة آثارًا قانونية إلا أنه اشترط لوجود تلك الآثار أن يكون العقد الذي أنشأ الالتزامات التي يقع فيها الاستخلاف سابقًا في إبرامه على انتقال الشيء من السلف إلى الخلف([49])، وهذا يشابه صورة المجموعة العقدية في أن العقود يجب أن تكون متتابعة كي تكون بصدد مجموعة عقدية، كما يشترط في تعاقب البيوع أن يكون قد تم البيع الأول صحيحًا ويكون ذلك بنقل ملكية المبيع إلى البـائع الثاني كي يتسنى له لتصرف فيه وبيعه للخلف الخاص (المشتري الثاني) فإن كان المبيع لا ينتقل إلا بناء على قيام البائع الأول بعمل كالفرز أو التسجيل([50])، فإنه بالتالي لا يحق للبائع الثـاني التصرف فيه إلى الخلف الخاص لأنه لم يملكه بعد([51]).

         وهكذا نجد أن المشرع المصري قد اعترف بالمجموعة العقدية في صورة توالي العقود وتعاقبها على مال واحد، فيما يعرف بالخلافة الخاصة. إلا أننا نجد أن الخلافة الخاصة لا تشمل كافة توالي العقود على مال واحد، حيث أن توالي عقود الإجارة من الباطن على مال واحد لا تدخل ضمن الخلافة الخاصة، إذ الخلف الخاص كما سبق هو من يتلقى من سلفه ملكية مال معين كالمشتري بالنسبة للبائع، أما المستأجر من الباطن فإنه لا يتلقى منه مالا معينًا من المؤجر بمعنى أنه لا يمتلك العين المؤجرة، فالمستأجر من الباطن هنا لا يكون خلفًا خاصًا، للمؤجر من الباطن بل يكون دائنًا له؛ لأن هذا الأخير رتب له حقًا شخصيًا في ذمته، ولم ينقل له حقًا عينيًا([52])،         وسنتناول الوجود القانوني لعقود الإجارة من الباطن في صورة التعاقد من الباطن.

ثانيا: موقف القانون اليمني

وجاء أيضًا اعتراف المشرع اليمني بالخلافة الخاصة كصورة من صور المجموعة العقدية حيث نصت المادة 207 مدني: "إذا ترتب على العقد حقوق أو التزامات شخصية تتصل بشيء وانتقل الشيء بعد ذلك إلى خلف خاص فإن هذه الحقوق والالتزامات تنتقل إلى هذا الخلف في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء إذا كانت من مستلزماته وكان الخلف الخاص يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه، وإذا لم يعلم كان له الخيار".

         وجاء في المذكرة الإيضاحية للنص السابق أن تلك المادة تتحدث عن التصرف في شيء معين، وانتقال هذا الشيء بعد ذلك إلى المتصرف إليه الذي يعتبر خلفًا خاصًا للمتصرف له إذ تقتصر خلافته له على هذا الشيء وحده وتختص به، ومدى هذه الخلافة أن ما كان للمتصرف من حقوق والتزامات تتعلق بالشيء أو هي من مستلزماته فيشملها العقد تنقل إلى خلفه فيه إن كان يعلمها وقت انتقال الشيء إليه فإذا لم يكن يعلم بها كان له الخيار إن شاء أمضى العقد وإن شاء فسخه([53]).

         ويعرف الفقه اليمني الخلف الخاص بأنه الذي يخلف سلفه في عين معينة بالذات أو في حق عيني([54]). كما يلاحظ أن المذكرة الإيضاحية استخدمت لفظ التصرف في الشيء كمرادف لمصطلح الخلافة الخاصة([55]).

ثالثا: المقارنة بين القانونين المصري واليمني

         مما سبق نجد أن المشرع المصري وكذا اليمني قد عرفا صورة التعاقب على مال واحد بغرض تملكه وهي تعد إحدى أشكال الصور الأولى من صور المجموعة العقدية، المتمثلة في تعاقب العقود على مال واحد كالبيوع والإيجارات، وعرفوا صورة البيوع المتتالية ورتبوا لها أحكامًا قانونية خاصة بشرط أن تكون صحيحة وأن يكون هناك تعاقب زمني في تلك العقود وأن تكون متعاقبة على مال واحد، وعرف هذا بالخلافة الخاصة.

 


المطلب الثاني
صورة ترابط العقود بقصد تحقيق هدف مشترك

أولا: موقف القانون المصري

         كما عرف القانون المصري أيضًا صورة ترابط العقود بقصد تحقيق هدف مشترك باعتبارها من صور المجموعة العقدية، فيما يعرف من الناحية القانونية بالتعاقد من الباطن، ويعد التعاقد من الباطن من أهم صور المجموعة العقدية إذ يدخل فيه مجموعة العقود المتعاقبة على مال واحد كعقد الإيجار من الباطن ويدخل فيه أيضًا العقود المترابطة بقصد تحقيق هدف مشترك كعقود المقاولة من الباطن.

والتأجير من الباطن هو عقد بين المستأجر وشخص ثالث بمقتضاه يؤجر الأول للثاني العين التي سبق له استئجارها، ويسمى المستأجر في هذه الحالة بالمستأجر الأصلي أما الشخص الثالث فيسمى بالمستأجر من الباطن([56])، فهنا عقد إجارة جديد مستقل نشأ بجانب العقد الأول والارتباط بينها هو وحدة المحل.

         أما عقد المقاولة من الباطن، فهو عقد يتفق فيه مقاول البناء الأصلي مع مقاول البناء من الباطن على تنفيذ كل أو جزء من البناء الذي التزم بإنشائه مع رب العمل([57]). فهنا يوجد عقد مقاولة آخر بجانب الأول ومستقل عنه من حيث التكوين يرتبط([58]) معه بغرض تحقيق هدف مشترك.

 والتعاقد من الباطن عمومًا صورة مشروعة من صور التعاقد عرفها القانون وأهم العقود التي جاء فيها التعاقد من الباطن هي عقود الإيجارة والمقاولة والوكالة([59]).

         ففي مشروعية عقد الإجارة من الباطن نصت الماد 593 مدني مصري "للمستأجر حق التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن وذلك عن كل ما استأجره أو بعضه ما لم يقض الاتفاق بغير ذلك".

         أما في مشروعية المقاولة من الباطن فقد نصت المادة (661/1) (مدني مصري) على أنه: "يجوز للمقاول أن يوكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه إلى مقاول من الباطن إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أو لم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية".

         كما عرف القضاء التعاقد من الباطن وأصبح أمرًا قانونيًا مشروعًا فقد عرفت محكمة النقض-بشأن أحد الطعون المطروح أمامها- عقد الإيجار من الباطن بقولها: "الإيجار من الباطن عقد يؤجر به المستأجر الأصلي حقه في الانتفاع بالعين المؤجرة كلها أو بعضها إلى آخر فيلتزم بتمكينه من الانتفاع بتلك العين"([60]).

         وجاء أيضًا: "المقصود بالتأجير من الباطن المعنى المراد في الشريعة العامة بتأجير المستأجر حقه في الانتفاع بالعين المؤجرة إليه إلى آخر لقاء جعل يتفق عليه بينهما، ويستوي أن يكون التأجير من الباطن واردًا على العين المؤجرة كلها أو بعضها"([61]).

         فمن النصوص السابقة نجد أن المشرع قد أجاز التعاقد من الباطن، وجعل إباحته هـو الأصل، وأن التعاقد من الباطن لا يحتاج إلى إذن مسبق أو إقرار لاحق([62])؛ ويرجع سبب ذلك إلى أن الحقوق الشخصية يجوز التصرف فيها سواء بنقلها أو باستغلالها أو بتداولها إذا كانت قابلة لذلك لأنها أموال وينطبق عليها مبدأ حرية التداول، كما أن الوفاء يصح أن يكون من غير المدين وليس للدائن الاعتراض على ذلك، كما أنه يجوز للمقاول الاستعانة بعمال أو مساعدين بصرف النظر عن طبيعة العلاقة بينهم وبين المدين([63]).

         والتعاقد من الباطن باعتباره من صور المجموعة العقدية لا تكون له حجة قانونية وتنطبق عليه آثاره إلا إذا كان غير ممنوع منه حسب الأصل، إذا يجوز – وهو الاستثناء- المنع من التعاقد من الباطن، وهو ما يعرف من الناحية القانونية بالشرط المانع من التصرف: وهو شرط يلزم المالك أن يمتنع عن التصرف فيما يملك([64])، وقد أجازه المشرع ففي عقد الإيجار نص في المـادة 593 بقوله: ".... ما لم يقض الاتفاق بغير ذلك" وفي عقد المقاولة نص في المادة 661/1 "... إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد".

         والشرط المانع من التصرف يمنع مالك المنفعة في عقد الإيجار من التصرف في تلك المنفعة سواء بالتنازل عن الإيجار أو بالإيجار من الباطن([65]) وبالمثل أيضًا يمنع المقاول من المقاولة من الباطن([66]).

         والشرط المانع قد يكون صريحًا في العقد كما إذا نص المتعاقدان في العقد على ذلك([67]) وهو الغالب في ذلك وقد يكون الشرط غير صريح ولكنه يفهم ضمنًا حيث يمكن استخلاصه من مضمون العقد وطبيعته، كما إذا كان العقد قائمًا على شخصية المتعاقد([68]) أو كانت طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفاية المقاول الشخصية، كأن يكون العمل محل المقاولة عملا فنيًا لجأ فيه رب العمل إلى مقاول بالذات نظرًا لكفايته الفنية، فإنه يفهم من ذلك وجود شرط مانع ضمني يمنع المقاول من المقاولة من الباطن، حيث يتحتم أن يقوم به شخصيًا، كما إذا قاول شخص رسامًا أو طبيبًا أو مهندسًا، فإنه يغلب أن يستخلص من الظروف أن رب العمل قد اعتمد على كفاية المقاول الشخصية، فلا يجوز لهذا الأخير أن يقاول من الباطن كأن يعهد بالعمل أو ببعضه إلى رسام آخر أو طبيب آخر أو مهندس آخر يقوم به مكانه، حتى لو لم يكن منصوصًا صراحة في العقد على المنع من التعاقد من الباطن([69])، وأشار المشرع إلى ذلك في المادة 661/1 مدني مصري بقوله ".. إن لم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية"، وتطبيقًا لذلك نجد المشرع افترض في عقد المزارعة شرط المنع من التصرف على اعتبار أنه عقد اعتبر فيه شخصية المتعاقد وهو المزارع حسب نص المادة 625 مدني مصري على أنه "لا يجوز في المزارعة أن ينزل المستأجر عن الإيجار أو أن يؤجر من الباطن إلا برضاء المؤجر".

         وإذا وجد الشرط المانع، صريحًا كان أم ضمنيًا، ولم يثبت التنازل عنه صراحة أو ضمنا([70])، وجب على المستأجر أو المقاول مراعاته، وإذا لم يراع ذلك ثبت في حقهما الإخلال بالتزام عقدي؛ ويكون بالتالي للمؤجر ورب العمل الخيار بين طلب التنفيذ العيني، بأن يتم إخلاء العين المؤجرة من المستأجر من الباطن([71])، أو بإجبار المقاول من الباطن بتنفيذ العقد شخصيًا دون المقاول من الباطن أو بالتنفيذ بمقابل عن طريق تعويض المؤجر أو رب العمل عن الأضرار الناتجة عن مخالفة للشرط المانع بالإيجار من الباطن أو المقاولة من الباطن، كما يجوز للمؤجر أو رب العمل مطالبة المستأجر الأصلي أو المقاول الأصلي بفسخ العقد، نظرًا لإخلالهما بالتزامهما العقدي([72]).

         فإذا أدى مخالفة الشرط المانع إلى فسخ العقد من الباطن، فإنه لا تقوم هنا مجموعة عقدية لعدم وجود مجموعة من العقود تعاقبت على مال واحد أو ارتبطت بقصد تحقيق هدف مشترك، أما إذا لم يوجد شرط مانع من التصرف أو وجد ولكن تم التنازل عنه صراحة أو ضمنًا؛ فإن العقد من الباطن هنا يكون صحيحًا، ويكون تابعًا للعقد الأصلي ويكون هناك طرف مشترك يكون مسئولا عن العقد الأصلي، وينتج عنه تشابه مركز الأطراف في التعاقد من الباطن مع مراكز الأطراف في العقد الأصلي ، ويكون ذلك في حدود العقد الأصلي كحد أقصى من حيث الحقوق والمدة([73]).

ثانيا: موقف القانون اليمني

         ومثلما اعترف المشرع المصري بوجود قانوني للتعاقد من الباطن باعتباره صورة من صور المجموعة العقدية، نجد أيضًا أن المشرع اليمني قد اعترف بذلك، وأجاز العقد من الباطن، باعتبار أن التعاقد من الباطن هو الأصل وأن المنع يعد استثناء كما في عقد المقاولة حيث نصت المادة 890 (مدني يمني) بقولها: "يجوز للمقاول أن يسند تنفيذ العمل كله أو جزء منه إلى مقاول آخر إلا إذا منعه شرط في العقد أو كانت كفاءته الفنية معتمدًا عليها منظورًا إليها في تنفيذ العمل" وجاء في المذكرة الإيضاحية معللة لجواز التعاقد من الباطن وكونه الأصل ما نصه: "غالبًا ما تكون المقاولة كبيرة وتشتمل على أعمال عديدة متباينة كالبناء يحتاج إلى أعمال نجارة وأعمال تبييض ونقش وأعمال كهرباء وما إلى ذلك وطبقًا لما جرى عليه العرف فإنه قد أجيز للمقاول الأصلي أن يسند العمل إلى مقاول آخر كليًا أو جزئيًا إلا إذا منعه شرط صريح في العقد أو كانت كفاءته الفنية منظورًا إليها ومعتمدًا عليها في تنفيذ المقاولة أخذًا بقرائن الأحوال"([74]).

         فمن خلال النصوص السابقة نجد أن المشرع اليمني قد أجاز التعاقد من الباطن وجعله هو الأصل وجعل المنع منه هو الاستثناء ويكون ذلك بسبب نص في العقد أو بسبب طبيعة العقد كما إذا كان شخصية المقاول محل اعتبار بسبب كفاءته الفنية، حيث يعتبر هذا بمثابة شرط ضمني.

         وهذا بعكس التعاقد من الباطن في عقد الإيجار فإن المشرع اليمني قد اعتبر الأصل هو المنع والجواز هو الاستثناء وجعل ذلك قاعدة عامة فقد نصت المادة 707 (مدني يمني) على أنه: "لا يجوز للمستأجر أن يؤجر الشيء المستأجر أو يتنازل عن الإيجار لغيره ما لم يتفق على غير ذلك" ثم ذكرت المذكرة الإيضاحية سبب جعل المنع هو الأصل بقولها: "لما كان تأجير المستأجر أو تنازله عنه يثير النزاع عادة فقد رأت اللجنة أن يمنع المستأجر من ذلك إلا أن يتفق مع المؤجر على ذلك صراحة قطعًا للنزاع"([75]).

         ويبدو من خلال النص السابق أن المشرع اليمني بذكره لمسألة النزاع قد اعتبر شخصية المستأجر محل اعتبار، لأن النزاع إنما يثار إذا كان المؤجر قد اعتبر شخصية المستأجر فإذا ما قام المستأجر بالتأجير من الباطن فإنه هنا يثور النزاع.

         وتطبيقًا لذلك منع المشرع اليمني التعاقد من الباطن في إيجار المباني حيث نصت المادة 740 (مدني يمني) "ليس للمستأجر حق التنازل عن الإيجار للعين أو عقد إيجار العين المستأجرة مع الغير سواء لكل ما استأجره أو لبعضه إلا بإذن المؤجر..." وجاء في المذكرة الإيضاحية "طبقًا للقاعدة العامة في الإيجار تنهي المادة عن التنازل عن الإيجار أو التأجير للغير إلا بإذن المؤجر...."([76]).

         وبالمثل أيضًا جاء المنع من التعاقد من الباطن في عقد المزارعة على أساس شخصي وباعتباره من تطبيقات عقد الإيجار، فقد نصت المادة 768 (مدني يمني) على أنه: "لا يجوز للمزارع أن يتنازل عن الأرض أو يؤجرها لغيره إلا بإذن المؤجر" وجاء في المذكرة الإيضاحية – أيضًا- "نصت المادة صراحة على أنه ليس للمزارع أن يتنازل عن الأرض مدة الإجارة أو يؤجر لغيره في خلالها إلا بإذن المؤجر قطعًا للنزاع بينهما وهو ما يتفق مع القاعدة العامة التي أخذ بها القانون"([77]).

         فهذا النص يجعل شخصية المزارع محل اعتبار فلا يجوز تعاقده مع الغير من الباطن إلا بإذن المؤجر، وهذا مما لا إشكال فيه حيث يقوم عقد المزارعة على اعتبارات فنية اعتبرها المؤجر في تعاقده مع المزارع، ولكن عقد الإيجار عمومًا لا يكون معه شخصية المستأجر محل اعتبار إذ أن عقد الإيجار يرتب حقوقًا مالية متعلقة بالعين محل الإيجار في ذمة المتعاقدين وبالتالي فإن هذا يخضع للقاعدة العامة في التصرف في المال، والمستأجر إنما يتصرف في منفعة تلك العين من عقد الإجارة فبالتالي فإن هذا لا يؤثر في حقوق المؤجر وهذا ما جاء عليه الفقه القانوني عامة من أن شخصية المستأجر عادة لا تكون محل اعتبار في العقد([78]).

وبغض النظر عن ما هو الأصل هل التعاقد من الباطن أو عدمه، فإن المشرع اليمني قد اعترف بالتعاقد من الباطن باعتباره صورة من صور المجموعة العقدية في كونها مجموعة عقود تعاقبت على مال واحد كما في عقود الإيجار من الباطن على عين واحدة، أو مجموعة من العقود ترابطت بقصد تحقيق هدف مشترك كما في عقود المقاولة من الباطن بقصد تحقيق مشروع مشترك([79]).

ثالثا: المقارنة بين القانونين المصري واليمني

مما سبق نجد إتفاق كل من المشرع المصري ونظيره اليمني في الإعتراف بالتعاقد من الباطن باعتبار أنه يشمل إحدى صور المجموعة العقدية المتمثلة في مجموعة من العقود ترابطت بقصد تحقيق هدف مشترك، كما يدخل فيه الشكل الثاني من أشكال تعاقب العقود على مال واحد بغرض الانتفاع كما في عقود الإجارة من الباطن، حيث لا يشملها مبدأ الخلافة الخاصة إذ هو مختص بتلقي الخلف عن السلف مالا معينًا، بينما في الإجارة لا يتلقى المستأجر من الباطن مالا فالعين لا تزال مملوكة للمؤجر الأصلي وإنما يتلقى عنه حقا شخصيا يتمثل في الانتفاع بتلك العين مدة عقد الإيجار. وفي التعاقد من الباطن يشترط أن يكون مشروعًا أي لا يوجد شرط مانع من جواز التعاقد من الباطن، سواء كان صريحًا بالنص عليه في العقد أو ضمنيًا يفهم من طبيعة العقد وطبيعة العمل الذي يلتزم به المتعاقد ومدى جواز التصرف فيه من عدمه.

وكما نجد اتفاق المشرعين المصري واليمني في أن عقد المقاولة الأصل فيه جواز التعاقد من الباطن وأن المنع هو الاستثناء، على اعتبار طبيعة المقاولة وكونها الغالب فيها عدم اعتبار شخصية المقاول، كما اتفقا في كون عقد المزارعة من الباطن الأصل فيه المنع على اعتبار أن من طبيعته أن يكون شخصية المزارع محل اعتبار، ولكنهم اختلفوا في عقد الإيجار من الباطن فبينما اعتبر القانون المصري أن شخصية المستأجر ليست محل اعتبار وبالتالي فالأصل جواز التعاقد من الباطن والمنع هو الاستثناء، نجد بالعكس من ذلك يرى المشرع اليمني أن الغالب أن شخصية المستأجر محل اعتبار، فلذا جعل الأصل هو المنع من التعاقد من الباطن والجواز هو الاستثناء وسبب اعتبار شخصية المستأجر و منع التعاقد من الباطن هو المنع من النزاع.


تعليقات