القائمة الرئيسية

الصفحات



الاتجاه نحو قبول التحكيم بدون اتفاق في إطار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار

 



 الاتجاه نحو قبول التحكيم بدون اتفاق في إطار
 المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار

تمهيد وتقسيم:  

 

يعتبر الاتفاق على التحكيم نقطة البداية في نظام التحكيم، إذ بدون هذا الاتفاق لا يمكن أن يجري التحكيم أو يتم([1]). فالقاعدة العامة في هذا الشأن هي أنه: " لا تحكيم بدون اتفاق تحكيم "([2])، بمعنى أنه يجب على الأطراف الموافقة تعاقدياً على اللجوء إلى هذا النوع من الإجراءات، بل وتحديد القواعد المنظمة للإجراءات بشكل مفصل، أو الإشارة إلى قواعد تحكيم إحدى المؤسسات التحكيمية. وقد ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 1/6/1999 إلى أنه: " وفقاً للمبادىء الأساسية للتحكيم الدولي فإن العقد التحكيمي هو الذي يجيز تنصيب المحكم، فالإرادة المشتركة للطرفين هي وحدها حصراً التي تمنح المحكم سلطته القضائية "([3]). ويستوي في اتفاق التحكيم الذي يحيل المنازعات الناجمة عن عقود الاستثمار أن يأخذ صورة بند يتم إدراجه في عقد الاستثمار ويسمى (شرط التحكيم)، أو صورة اتفاق مستقل عن العقد ويسمى (مشارطة التحكيم)([4]).

 

         وعندما أنشىء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بموجب اتفاقية واشنطن المبرمة عام 1965 ليكون مختصاً بفض منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى المتعاقدة([5])، فقد استلزمت المادة 25 /1 من اتفاقية إنشاء المركز موافقة الدول المصدقة على الاتفاقية على الخضوع للتحكيم عند وقوع المنازعات وفقاً لقواعد المركز، وكذلك موافقة أخرى من الأطراف المتنازعة لإحالة منازعاتهم إلى التحكيم أمام المركز المذكور. بمعنى أنه حتى يكون لهيئة التحكيم المشكلة وفقاً لقواعد المركز المذكور الاختصاص الكامل بنظر النزاع لا يكفي للدولة الطرف في العقد أن تكون عضواً في الاتفاقية وأن يكون المستثمر من رعايا دولة أخرى عضو في الاتفاقية، بل يجب أن تكون هناك موافقة كتابية إضافية من كل من الدولة المتعاقدة والمستثمر، حيث يعد توافر هذين الشرطين ضرورياً لمنح الاختصاص لهيئة التحكيم المشكلة طبقاً لقواعد المركز([6]).

 

         والواقع أنه خلال العقدين الأوليين من حياة المركز، فإن هيئات تحكيم المركز كانت ملتزمة بهذا الأساس لانعقاد اختصاصها بنظر النزاع، أي أنها كان تتطلب وجود شرط أو مشارطة تحكيم. إلا أنه في السنوات الأخيرة مع اتجاه عدد كبير من الدول إلى تضمين تشريعاتها لتشجيع الاستثمار بنوداً تتضمن إحالة نزاعاتها مع المستثمرين الأجانب إلى تحكيم المركز، وكذلك مع التزايد الهائل في اتفاقيات الاستثمار الثنائية والمتعددة الأطراف والتي تتضمن نصوص تسوية المنازعات فيها غالباً الإشارة إلى التحكيم وفقاً لقواعد المركز، فقد لوحظ اتجاه هيئات تحكيم المركز نحو توسع جذري في اختصاص المركز، عن طريق قبول هذه الهيئات الاختصاص بنظر النزاع في حالة اللجوء المنفرد من جانب المستثمر إلى تحكيم المركز استناداً إلى تشريع وطني خاص بالاستثمار أو اتفاقية للاستثمار دون أن يكون هناك اتفاق تحكيم أو أية علاقة تعاقدية مع الدولة المحتكم ضدها، وحيث تلتزم الدولة المحتكم ضدها بالتحكيم دون أن تكون قادرة على المبادرة بتحريك إجراءات التحكيم، بل لا يكون أمامها إلا تقديم دعوى مضادة أو طلبات فرعية.

 

         وحتى يمكننا استيعاب هذا الاتجاه الجديد في قبول هيئات تحكيم المركز للتحكيم في منازعات عقود الاستثمار بدون اتفاق تحكيمي، فقد رأينا أن نعرض لدور المركز الدولي في تسوية منازعات الاستثمار قبل أن نعرض لفكرة التحكيم بدون اتفاق في منازعات عقود الاستثمار، وذلك في مطلبين على النحو التالي:

 

         المطلب الأول: دور المركز الدولي في تسوية منازعات الاستثمار.

         المطلب الثاني: التحكيم بدون اتفاق في منازعات عقود الاستثمار.

  

 

المطلب الأول
دور المركز الدولي في تسوية منازعات الاستثمار([7])

تمهيد وتقسيم:

        

         يعتبر وجود نظام محايد وفعال لتسوية منازعات الاستثمار ما بين الدول المضيفة والمستثمرين الأجانب من أهم عناصر الجذب للاستثمارات الأجنبية الخاصة، حيث أن التسوية النزيهة والفاعلة لهذه النزاعات تمثل عنصر أمان للمستثمرين. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل لهذا الجانب العديد من السلبيات، حيث لا توفر المحاكم الوطنية في الدولة المضيفة في أغلب الأحيان الضمانات الحمائية الكافية للمستثمرين الأجانب، كما لا يعتبر اللجوء إلى محاكم دولة المستثمر أو إلى محاكم دولة ثالثة بديلاً واقعياً في أغلب الأحيان، فضلاً عن أن الحماية الدبلوماسية لا تعد مصدر طمأنينة بالنسبة للمستثمرين ولا مصدر راحة بالنسبة للدولة المضيفة، وعلى الرغم من أن التحكيم الخاص يعتبر وسيلة مفيدة في هذا الخصوص إلا أنه هو الآخر ذو مساوىء إجرائية.

 

         وقد دفعت تلك الثغرات الموجودة في أنظمة تسوية منازعات الاستثمار البنك الدولي، وهو من أهم المؤسسات الدولية المعنية بالتنمية الاقتصادية، إلى القيام بمبادرة جديدة في الستينيات من القرن العشرين - بهدف إيجاد جو من الثقة المتبادلة بين الدولة المضيفة والمستثمرين الأجانب لتشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة - إلى القيام بصياغة اتفاقية دولية متعددة الأطراف لتوفير إطار مؤسساتي يتم من خلاله تسوية منازعات الاستثمار بين الدول الأعضاء ومواطني الدول الأخرى الأعضاء في الاتفاقية، وقد تم التوقيع على هذه الاتفاقية في 18 مارس 1965، وحددت رسمياً على أنها اتفاقية لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى، وبموجبها تم إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار([8])، وهذا هو سبب تسميتها باسم اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID([9]). وقد أصبحت الاتفاقية نافدة اعتباراً من 14 أكتوبر 1966، وذلك بعد مضي ثلاثين يوماً على اكتمال وثائق تصديق 20 دولة على الاتفاقية وفقاً للمادة 68/2 من الاتفاقية([10]).

 

         وقد كان اللجوء إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في أوائل ظهوره محدوداً للغاية، حيث لم تعرض على المركز أية قضية حتى عام 1974، والذي شهد تسجيل أول قضية لدى المركز([11])، ومنذ ذلك الحين والأمور تأخذ منحىً آخر، فقد شهدت حقبة التسعينيات زيادة كبيرة في عدد القضايا المسجلة لدى المركز، حيث بلغ عدد القضايا التي تم تسجيلها لدى المركز 129 قضية مع نهاية عام 2003([12]).

 

         وأعرض في هذا المطلب من الدراسة للغرض من إنشاء اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، والخصائص الميزة لها، وذلك في فرعين على النحو التالي:

 

         الفرع الأول: الغرض من اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار. 

         الفرع الثاني: خصائص اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

 

الفرع الأول

الغرض من اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار   

يتمثل الغرض من إنشاء اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في النهوض بالتنمية الاقتصادية من خلال توفير مناخ استثماري ملائم، حيث يعد إنشاء نظام فعال لتسوية منازعات الاستثمار عنصراً هاماً من عناصر تحسين مناخ الاستثمار، ولتحقيق هذه الغرض تعمل الاتفاقية على الموازنة والتوفيق بين مصالح كل من المستثمر والدولة المضيفة.

 

أولاً- التنمية الاقتصادية:

 

         إن الهدف الأساسي من اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار هو النهوض بالتنمية الاقتصادية، حيث صُممت بغرض تسهيل الاستثمار الدولي الخاص من خلال توفير مناخ استثماري مواتي.

 

ويتضح ذلك من خلال مقدمة الاتفاقية التي ورد فيها ما يلي: " تقديراً لضرورة التعاون الدولي في العمل على التنمية الاقتصادية، ولأهمية الدور الذي تؤديه الاستثمارات الدولية الخاصة في هذا المجال..."([13]).

 

ثانياً- تشجيع الاستثمار:

 

         يعد إنشاء نظام فعال لتسوية منازعات الاستثمار عنصراً هاماً من عناصر تحسين مناخ الاستثمار. ويتضح الربط ما بين التسوية المنظمة لمنازعات الاستثمار وتشجيع الاستثمار وكذلك التنمية الاقتصادية في التقرير المقدم من قبل المديرين التنفيذيين بالبنك الدولي، وعلى وجه الخصوص في البندين التاليين: " 9- إن المديرين التنفيذيين وهم يقدمون الاتفاقية المرفقة للحكومات، فإنهم مدفوعون بالرغبة في تقوية الشراكة بين الدول من أجل التنمية الاقتصادية وإنشاء مؤسسة تهدف إلى تسوية منازعات الاستثمار، يمكن أن تكون خطوة هامة على طريق خلق مناخ أساسه الثقة المتبادلة، وبالتالي تشجيع الاستثمار في الدول التي تسعى لجذبه إليها ... 12- إن الالتزام من قبل دولة ما بالاتفاقية يزيد من فرص الاستثمار في أراضيها، وهذا هو الهدف الأساسي للاتفاقية"([14]).

 

         وقد أوضحت هيئة التحكيم في قضية Amco ضد الحكومة الاندونيسية أن تحكيم المركز الدولي ليس في مصلحة المستثمر وحسب وإنما أيضاً الدولة المضيفة، وأنهت قائلة: " وبالتالي فإن الاتفاقية تهدف إلى حماية المستثمر وكذلك الدولة المضيفة بنفس الدرجة والحماس مدركةً لحقيقة أن حماية الاستثمار في الأصل يعني حماية المصلحة العامة للتنمية بالدول المضيفة "([15]).

ثالثاً- الموازنة بين مصالح المستثمر والدولة المضيفة:

 

         تعمل اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في صالح كل من المستثمر والدولة المضيفة، حيث يوفر تحكيم المركز العديد من المزايا للمستثمر وكذلك للدولة المضيفة. فقد حرص واضعو الاتفاقية على التأكيد بأن الهدف الأساسي من نظام المركز يتمثل في بذل العناية الدقيقة للتوفيق بين مصالح المستثمرين وكذلك الدول المضيفة للاستثمار([16])، حيث يؤكد تقرير المديرين التنفيذيين على مبدأ الموازنة بين المصالح في البند 13 الذي ينص على أنه: " إذا كان الهدف من الاتفاقية تشجيع الاستثمار الدولي الخاص، فإن بنود الاتفاقية تحفظ في نفس الوقت توازناً ما بين مصالح المستثمرين ومصالح الدول المضيفة، هذا فضلاً عن أن الاتفاقية تسمح بأن يبدأ أي من الطرفين إجراءات التقاضي "([17]).

 

أ- مزايا تخص المستثمر:

 

         يوفر تحكيم المركز الدولي للمستثمر فرصة مباشرة للتمتع بمزايا التحكيم إذا ما نشب نزاع بينه وبين الدولة المضيفة. ومما لا شك فيه أن إمكانية اللجوء إلى التحكيم تعتبر عنصراً هاماً من عناصر الأمان القانوني القضائي الحساس بالنسبة لاتخاذ قرار الاستثمار، خصوصاً وأن التحكيم من شأنه أن يبدد مخاوف المستثمرين الأجانب بشأن خضوع منازعاتهم لقضاء الدولة العادي الذي قلما يكون مصدر ترحيب بالنسبة للمستثمرين الأجانب.

  

ب- مزايا تخص الدولة المضيقة:

 

         إن أهمية تحكيم المركز الدولي بالنسبة للدولة المضيفة هي مزدوجة، حيث يوفر لها مناخاً استثمارياً جيداً وبالتالي مزيداً من الاستثمارات من ناحية، كما أن الموافقة على تحكيم المركز تحمي الدولة من أي أشكال تحكيمية دولية أخرى([18])، وتمثل بالتالي درعاً واقياً ضد الحماية الدبلوماسية التي قد تلجأ إليها دولة المستثمر من ناحية أخرى([19]).

 

الفرع الثاني
خصائص اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار

يمثل المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار حالة خاصة وسط الكثير من مؤسسات ومراكز التحكيم التي تطبق وتنفذ مجموعة معينة من القواعد لتسيير إجراءات التحكيم والتوفيق([20]). ويرجع ذلك إلى كون هذا المركز يمثل مؤسسة دولية حقيقية أُنشأت بموجب اتفاقية دولية متعددة الأطراف لخلق نظام لا يعمل إلا في مجال تسوية منازعات الاستثمار بين السلطات الحكومية في الدولة المضيفة والمستثمر الأجنبي المنتمي لدولة تعتبر طرفاً في اتفاقية إنشاء المركز.

 

وأحاول فيما يلي أن أعرض لأهم الملامح المميزة لعمل هذا المركز: 

 

أولاً- اختيار طرق تسوية النزاع:

 

         توفر اتفاقية إنشاء المركز أمام الأطراف طريقتين لتسوية النزاع هما التوفيق والتحكيم. حيث تنص على أن مهام المركز هي " توفير الإمكانيات للتوفيق والتحكيم في منازعات الاستثمار بين الدولة العضو ومواطني دولة عضو أخرى طبقاً لنصوص هذه الاتفاقية "([21]).

 

         ويعتبر التوفيق كطريقة لتسوية النزاع أقل رسمية وأكثر مرونة من التحكيم، إذ يهدف إلى مساعدة الطرفين من أجل الوصول إلى تسوية متفق عليها([22]). حيث ينتهي التوفيق بتقرير يقترح حلاً، ولكن هذا الحل لا يكون ملزماً. ولهذا فإن هذه الطريقة تعتمد في الأساس على رغبة الطرفين في استمرار التعاون والعمل المشترك.

 

         أما التحكيم فيعتبر طريقة  تسوية أكثر رسمية على الرغم من وجود عدد ليس بقليل من حالات التحكيم التي انتهت بتسوية ودية قبل صدور الحكم. وإذا لم يتم التوصل إلى تلك التسوية فإن النتيجة تتمثل بصدور حكم ملزم للطرفين.

 

         لذلك يفضل من الناحية العملية اللجوء إلى التحكيم بدلاً من التوفيق، إذ أن الغالبية العظمى من القضايا التي تم رفعها إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار كان التحكيم هو الفاصل فيها. فالحقيقة أن التوفيق في ظل المركز نادر جداً([23])، ويرجع هذا بعض الشيء لحقيقة أنه في حالة الاختيار بين هاتين الطريقتين فإن الاختيار يكون في يد الطرف البادىء في إجراءات التقاضي، وكقاعدة معروفة فإنه من المفيد والحكمة أن تكرس الجهود والتكاليف للطريقة التي تنتهي في النهاية بحكم ملزم.

 

ثانياً- التخصص في منازعات الاستثمار:

 

         تتخصص الاتفاقية في تسوية منازعات الاستثمار، ولهذا فإن ظهور نزاع ناجم عن استثمار أو نشاط استثماري يعتبر شرطاً ضرورياً لتطبيق الولاية القضائية للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار([24]). وعلى الرغم من ذلك فلا تحتوي نصوص الاتفاقية على مفهوم محدد للاستثمار.

 

         وتشتمل العديد من المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف على تعريفات للاستثمار، ولكن هذه التعريفات لا تحسم بالضرورة المعنى الخاص بالاستثمار بموجب اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار. فعلى سبيل المثال إذا كانت هناك بعض المعاهدات تشمل الحق في الاستثمار، فإن اتفاقية المركز لا تسري إلا عند حدوث استثمار فعلي.

 

         وتكشف الممارسة العملية عن أن مفهوم الاستثمار هو مفهوم واسع، حيث ينظر إلى عدد متنوع من الأنشطة في عدد كبير من المجالات الاقتصادية على أنها استثمار. وبالإضافة إلى إدراج هذه الأنشطة فإن المفهوم يتسع أيضاً ليشمل الصكوك المالية كشراء سندات حكومية ومنح القروض([25]).

 

         ومن المعايير الهامة في تحديد مفهوم الاستثمار أن تستغرق الأنشطة والعمليات مدة زمنية معينة، انتظام الربح والعائد، وجود مخاطرة اقتصادية، التزام واضح بتنمية الدولة المضيفة، ملاءمة المشروع الاستثماري لأهداف التنمية([26]).

 

ثالثاً- القانون الواجب التطبيق:

 

         لا تتضمن اتفاقية إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار قواعد موضوعية لحل النزاع فهي توفر فقط قواعد إجراءات لتسوية المنازعات.

 

         ولقد لعبت مسائل اختيار القانون دوراً هاماً في ممارسات هيئات التحكيم، فتطبيق النظام القانوني الصحيح هو مطلب أساسي لإصدار حكم تحكيمي شرعي، والفشل في تطبيق القانون الصحيح والمناسب يعد إفراطاً في استعمال السلطة وقد يؤدى إلى إبطال الحكم الصادر.

   

         وقد أوجبت الاتفاقية على هيئات تحكيم المركز الفصل في النزاع المطروح أمامها بما يتفق مع قواعد القانون المتفق عليها بين الأطراف، وفي حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق يقومون بتطبيق قانون الدولة المضيفة للاستثمار بالإضافة إلى القواعد المناسبة في القانون الدولي([27]).

 

         وعند تطبيق القانون الدولي فإن هيئات التحكيم تطبق المعاهدات (خاصة معاهدات الاستثمار ثنائية الأطراف)، وكذلك القانون الدولي العرفي، هذا فضلاً عن الدور البارز الذي تلعبه المبادىء العامة للقانون والممارسات القضائية، خاصة منها تلك الصادرة عن هيئات تحكيم المركز السابقة([28]).

 

         ولقد لعبت العلاقة ما بين القانون الوطني والقانون الدولي دوراً هاماً في قضايا المركز، فهيئات تحكيم المركز رأت أنه في حالة إمكانية تطبيق القانونين فإن الأولوية تكون للقانون الوطني للدولة المضيفة في حين يكون القانون الدولي قانوناً إضافيا أو تصحيحياً([29]).

 

         كما تستطيع هيئة التحكيم تطبيق مبادىء العدل والإنصاف (ex aequo et bono)  بدلاً من القانون وذلك في حالة موافقة الأطراف على ذلك([30]).

 

رابعاً- أطراف التقاضي:

 

         تتسم إجراءات التقاضي بموجب الاتفاقية بكونها دائماً مختلطة، حيث أن أحد الطرفين لا بد وأن يكون دولة مضيفة وطرف في الاتفاقية أما الطرف الآخر فهو مستثمر أجنبي ينتمي لدولة أخرى هي طرف في الاتفاقية([31]). ويجوز لأي من الطرفين أن يبدأ في إجراءات التقاضي.

 

         ويشترط لسريان أحكام الاتفاقية أن تكون كل من الدولة المضيفة وكذلك الدولة التي ينتمي إليها المستثمر قد صدقتا على الاتفاقية، وإذا ما كانت إحدى هاتين الدولتين غير طرف في الاتفاقية فإن الاتفاقية لا تسري، ولكن يمكن حينئذ التقاضي بموجب قواعد التسهيلات الإضافية([32]).

 

         ويجوز للدول أن تفوض جهات فرعية أو وكالات تابعة لها لأن تصبح طرفاً في إجراءات التقاضي بالنيابة عنها([33]). ويمكن أن يكون المستثمر الأجنبي شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً ولكن في هذه الحالة يجب أن يكون شركة خاصة([34]). وكلا النوعين من الأشخاص لا بد وأن يستوفي متطلبات وشروط الجنسية الواردة في الاتفاقية. ويشترط أن يكون المستثمر الأجنبي من غير مواطني الدولة الطرف في النزاع، ويستثنى من ذلك الشخص المعنوي الذي يحمل جنسية الدولة الطرف في النزاع إذا اتفق على معاملته معاملة " المستثمر الأجنبي وذلك لوجود مصلحة أجنبية مسيطرة عليه "([35]).

 

خامساً- قبول الولاية القضائية للمركز:

 

إن المشاركة في اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار لا تعني الخضوع للولاية القضائية للمركز، فلكي ينعقد الاختصاص للمركز لا بد وأن يقدم كل من الطرفين موافقته الكتابية على الخضوع لاختصاص المركز([36]).

 

         ويتسم قبول الطرفين على الخضوع لتحكيم المركز بالإلزام، حيث أنه بمجرد إعلان الطرفين قبول الخضوع لتحكيم المركز كتابياً فإنه لا يمكن الرجوع فيه من طرف واحد([37])، ولا يجوز لأي طرف أن يفصل بنفسه في مسألة ما إذا كان قدم القبول أم لا بل أن هيئة التحكيم هي تتولى الفصل في هذه المسألة([38]).

 

         وقد يخضع القبول لعدد من الشروط، فيجوز مثلاً للدولة المضيفة أن تقدم للمركز قبولاً يتعلق بنزاعات معينة دون غيرها، كتلك المتعلقة بالمطالبة بتعويضات المصادرة([39]).

 

سادساً- الدعم المؤسساتي:

 

         يوفر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار الدعم المؤسساتي الهام واللازم لإجراءات التوفيق أو التحكيم التي تجري في ظله([40])، ومن أبرز مظاهره:

 

أ- حفظ السجلات:

 

         تحتفظ الأمانة العامة للمركز بقائمة بأسماء الدول الأعضاء في الاتفاقية، حيث تحتوي هذه القائمة على المعلومات المتعلقة بمشاركة جميع هذه الدول. كما يحتفظ المركز لنفسه بقائمة من الموفقين وأخرى من المحكمين، حيث يجوز لكل دولة متعاقدة أن تقوم بتعيين أربعة أشخاص في كل قائمة، ويكون هؤلاء الأشخاص من جنسية الدولة المتعاقدة، كما يجوز أن يكونوا من جنسية أية دولة أخرى. كما يمكن لرئيس المجلس الإداري أن يقوم بتعيين عشرة أشخاص في كل قائمة على أن يكون هؤلاء من جنسيات مختلفة([41]). كذلك تحتفظ الأمانة بسجل بجميع طلبات التحكيم يحتوي على جميع التطورات الإجرائية الهامة، وأرشيف يحتوي على جميع النصوص الأصلية والوثائق المرتبطة بأية قضية.

 

ب- المساعدة عند التقاضي:

 

         يوفر السكرتير العام والعاملين بأمانة المركز الدعم المادي الكافي لإجراءات التحكيم، ويتخذ هذا الدعم صورة تحديد مكان الاجتماعات في المركز أو في مكان آخر. فضلاً عن تقديم مساعدات أخرى كالترجمة والترجمة الفورية والنسخ، كما يعين السكرتير العام واحداً من ذوي الخبرة في المركز ليكون سكرتيراً لكل هيئة تحكيم، وليكون مسئولاً عن التحضير للمرافعات والجلسات والاحتفاظ بمحاضرها، وإعداد مسودات الأوامر الإجرائية، والقيام بدور قناة الاتصال بين الأطراف والمحكمين.

 

ج- المحاسبة:

 

         يحدد السكرتير العام للمركز المبالغ المستحقة للمركز ويتشاور مع هيئة التحكيم لتحديد المصروفات والرسوم، كما يحدد أتعاب المحكمين، ويتلقى المبالغ من الأطراف مسبقاً ويجهزها دائماً للإنفاق.   

 

سابعاً- خاصية الاحتواء الذاتي واستقلالية إجراءات التحكيم:

 

         تتميز إجراءات التقاضي أو التحكيم بموجب اتفاقية إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بخاصية الاحتواء الذاتي، أي أنها لا تتطلب أي تدخل من أية جهة خارجية. وبالتحديد لا تتمتع المحاكم الوطنية بسلطة ما تفرضها على إجراءات التقاضي أو التحكيم الخاصة بالاتفاقية باستثناء سلطة إصدار إجراءات تحفظية إذا ما اتفق الأطراف على ذلك([42]). ومن غير المسموح به أن تقوم محكمة وطنية بإبطال أو مراجعة الحكم الذي أصدرته هيئة التحكيم، مما يترتب عليه أن مكان التحكيم لا تكون له أية عواقب قانونية عملية بموجب الاتفاقية.

 

         كما تتميز إجراءات التحكيم بعدم التأثر بمحاولة أحد الأطراف تعطيل هذه الإجراءات، حيث توفر الاتفاقية نظاماً مرناً يسمح باستمرارية هذه الإجراءات. فيقوم المركز بتسمية المحكمين في حالة عدم قيام الأطراف بذلك([43])، كما أن عدم تسليم المذكرات من قبل أي من الطرفين أو عدم حضور الجلسات لن يوقف الإجراءات([44]). أي أن عدم التعاون من قبل أحد الطرفين لن يؤثر في القوة الملزمة للحكم ولا في قابليته للتنفيذ.

 

ثامناً- فاعلية التنظيم:

 

         يتميز نظام التحكيم بموجب اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بأنه على درجة كبير من الفاعلية، ويرجع ذلك إلى عدد من العوامل من أهمها:

 

أ- الطبيعة الإلزامية للأحكام الصادرة:

 

         تعتبر الأحكام الصادرة عن هيئات تحكيم المركز ملزمة ونهائية([45])، فلا يمكن الطعن فيها بالاستئناف أو بأي طريق آخر للطعن إلا في حدود ما ورد في هذه الاتفاقية([46]). ويجب على كل دولة أن تحترم الحكم وتنفذه، وإلا اعتبر ذلك انتهاكاً للاتفاقية([47]) وقد يؤدي إلى إنعاش حق الحماية الدبلوماسية من جانب الدولة التي يتبعها المستثمر بجنسيته([48]).

 

ب- تنفيذ الأحكام:

 

         تضمن الاتفاقية تنفيذ ما يصدر عن هيئات تحكيم المركز من أحكام، حيث تلتزم جميع الدول الأطراف في الاتفاقية بالاعتراف بأحكام التحكيم التي تصدر في نطاق الاتفاقية على اعتبار أنها أحكام ملزمة، وتضمن داخل أراضيها تنفيذ الآثار المالية التي يرتبها الحكم كما هو الحال بالنسبة للأحكام الصادرة عن المحاكم الوطنية للدولة([49]). ولا تتمتع المحاكم الوطنية بسلطة مراجعة الأحكام أثناء تنفيذها، إلا أنه في حالة إصدار حكم ملزم ضد الدولة الطرف فإن القواعد المعروفة والخاصة بالحصانة ضد التنفيذ لن تسري على الأصول المرتبطة بتأدية الدولة لمهامها العامة([50]).

 

ج- التأثير الوقائي:

 

         يتمتع نظام تسوية منازعات الاستثمار بموجب اتفاقية إنشاء المركز بتأثير فعال حتى ولو لم يتم استخدامه. إذ أن مجرد وجود مثل هذا النظام من شأنه أن يؤثر على سلوك الأطراف فيما يتعلق باحتمال ظهور النزاعات، فلهذا النظام ما يشبه التأثير المقيد للطرفين، فكلاهما سيحاول تجنب القيام بأي أعمال تدفعه في النهاية إلى الدخول في تحكيم قد لا يكون في صالحه، فضلاً عن أن إمكانية التقاضي تزيد من رغبة الأطراف في التسوية الودية.




تعليقات