القائمة الرئيسية

الصفحات



التعويض عن مصروفات الدعوى «أضرار التقاضي»

 



التعويض عن مصروفات الدعوى «أضرار التقاضي» (1 من 2)

د. عبد اللطيف القرني

مع تنوع الأحداث وتشابكها تزداد القضايا في المحاكم، ويتضرر على أثر ذلك بعض المترافعين في الدعاوى سواء عند المطالبة بحقوقهم, التي تعذر الوصول إليها إلا عن طريق المحاكم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتعهد البعض برفع الشكاوى على بعض الأشخاص لغرض جرهم إلى المحاكم والنيل منهم، ومع ازدياد التبعات على مثل هذه التصرفات كان لزاماً على القضاة وأصحاب النظر أن يهتموا بمبدأ التعويض عن أضرار التقاضي ومصروفات الدعوى لتقليل التصرفات اللاأخلاقية التي يمارسها البعض استغلالا لمبدأ القضاء المجاني وقبول المرافعات فيها.

وبالنظر فيما كتبه فقهاء الإسلام على مر العصور، نجد أنهم تكلموا عن بعض مثل هذه المسائل ونظائرها، ومن ذلك ما ورد في ''كشاف القناع في الفقه الحنبلي'' ''ولو مطل المدين رب الحق حتى شكى عليه، فما غرمه رب الحق فعلى المدين المماطل''.

وفي قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام في الفقه الشافعي ''إذا لزم المدعى عليه إحضار العين لتقوم عليها البينة فأحضرت، فإن ثبت الحق كانت مؤونة الإحضار على المدعى عليه، وإن لم يثبت كانت مؤونة الإحضار والرد على المدعي، لأنه مبطل''.

وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية ـــ رحمه الله: إذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء ومطله، حتى أحوجه الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل''.

وعلى هذا سارت الأنظمة المرعية في المملكة، فمن ذلك ما جاء في المادة 236 من نظام المرافعات الشرعية، التي تنص على: ''لكل مدع بحق على آخر أثناء نظر الدعوى أو قبل تقديمها مباشرة, أن يقدم إلى المحكمة المختصة بالموضوع دعوى مستعجلة لمنع خصمه من السفر، وعلى القاضي أن يصدر أمراً بالمنع إذا قامت أسباب تدعو إلى الظن أن سفر المدعى عليه أمر متوقع، وبأنه يعرض حق المدعي للخطر أو يؤخر أداءه، ويشترط تقديم المدعي تأميناً يحدده القاضي لتعويض المدعى عليه متى ظهر أن المدعي غير محق في دعواه، ويحكم بالتعويض مع الحكم في الموضوع، ويقدر بحسب ما لحق المدعى عليه من أضرار لتأخيره عن السفر''.

وجاء في اللائحة التنفيذية للنظام ما يلي:

ــــ 236/4 التعويض للممنوع من السفر يقدره القاضي بواسطة أهل الخبرة.

ــــ 236/5 يقدم المدعي التعويض الذي حدده القاضي بشيك مصرفي محجوز القيمة باسم المحكمة ويودع في صندوق المحكمة.

وجاء في المادة 80 من النظام المذكور: للمدعى عليه أن يقدم من الطلبات العارضة ما يأتي:

أ ــــ طلب الحكم له بتعويض عن ضرر لحقه من الدعوى الأصلية أو إجراء فيها.

وجاء في اللائحة التنفيذية للنظام (80/1): للمدعى عليه المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه من الدعوى، ولا يستحقه إلا في حال كذبها.

والتكييف الفقهي لهذا الموضوع ينطلق من عدة ركائز أهمها:

1ــــ أن إلجاء صاحب الحق ــــ بالامتناع عن أداء حقه ــــ إلى التقاضي، أو إقامة الدعوى على الشخص بغير حق ظلم، والظلم يجب منعه وإزالته, ومن وسائل ذلك الإلزام بالتعويض، لأن غير المحق في إقامة الدعوى إذا عرف أنه سيتحمل ما يترتب على إقامتها لم يقمها إلا بحق واضح، والمماطل إذا عرف ذلك لم يمتنع عن أداء الحق، تفاديا لما سيترتب من التعويض عن أضرار التقاضي.

2 ــــ أن إلجاء صاحب الحق ــــ بالامتناع عن أداء حقه ــــ إلى التقاضي، ورفع الدعوى على الشخص ــــ بغير حق ــــ يرتب عليه أضرارا كثيرة، بتعطيله عن عمله، وتفويت مصالحه والنيل من سمعته، وبما يكلفه التقاضي من المصروفات المالية، والنفقات. والضرر تجب إزالته، لقوله ـــ صلى الله عليه وسلم: ''لا ضرر ولا ضرار'' الذي هو أصل القاعدة الشرعية: ''الضرر يزال''.

وما وقع للخصم من الضرر بسبب التقاضي لا يمكن إزالته، فيجب جبره، ولا يتأتى ذلك إلا بالتعويض عنه.

3 ــــ أن التكاليف المترتبة على التقاضي ناشئة عن المتسبب فيها، فيلزمه التعويض عنها كما لو أتلفها.

4 ــــ أن الإلجاء إلى التقاضي بغير حق يشبه الغصب في تفويت الانتفاع بالمغصوب بما يفوته من وقت وجهد، وما يبذل فيه من أموال، والغصب يوجب الضمان، لقوله ــــ صلى الله عليه وسلم: ''على اليد ما أخذت حتى تؤديه''، فكذلك ما يشبهه.

5 ــــ أن عدم الإلزام بالتعويض عن أضرار التقاضي يجرى على المماطلة وأكل الأموال بالباطل، وذلك لا يجوز، لقوله ــــ تعالى ــــ في سورة البقرة (188): ''ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل'', وقوله ــــ صلى الله عليه وسلم: ''إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم''. فتجب إزالته بالإلزام بالتعويض.

6 ــــ أن عدم الإلزام بالتعويض يؤدي إلى التجرؤ في إقامة الدعوى، وكثرة الخصومات، وإشغال القضاء وجهات التنفيذ بغير وجه حق، وهذا لا يجوز، فيجب منعه أو الحد منه بالإلزام بالتعويض، لأنه من أقوى وسائل ذلك كما تقدم.

7 ــــ أن ترك الإلزام بالتعويض قد يحمل بعض أصحاب الحقوق على ترك المطالبة بها, لأنها قد تكلف أكثر من الحق الذي تقام به الدعوى، وهذا يؤدي إلى تضييع الحقوق، ويساعد على أكل أموال الناس بالباطل، وهو لا يجوز كما تقدم، فيمتنع ما يؤدي إليه، وهو عدم الإلزام بالتعويض.

وللحديث بقية في المقال القادم ــــ بإذن الله.

التعويض عن مصروفات الدعوى .. «أضرار التقاضي» (2 من 2)

د. عبد اللطيف القرني

تحدثنا في المقال السابق في مسألة التعويض عن أضرار التقاضي وما يلزم على ذلك من مصروفات الدعوى ونحوها. وليعذرني القارئ الكريم على التفصيل في هذا الموضوع وطوله؛ وذلك لأني رأيت أثر هذا من خلال الحياة الواقعية للعمل القضائي والمشكلات والتبعات التي تتولد من القضايا، فبعض القضايا الكيدية تتفرع لقضايا أخرى كردة فعل، وبعد مضي سنوات من إشغال المحاكم بمثل هذه القضايا يتبين أن الدافع الأساسي لها الانتقام والتشفي وليس فيها طلب حق ضائع أو دفع ضرر قائم، وهذا كله فيه إشغال للسلطات القضائية، سواء كانت في المحاكم العامة والجزئية التابعة لوزارة العدل ــ حاليا ــ أو المحاكم الإدارية في ديوان المظالم. وتحدثنا في المقال السابق عن التكييف الفقهي والنظامي لأحقية التعويض عن أضرار التقاضي والتطبيقات الفقهية التي نص الفقهاء عليها قديما في حوادث وتطبيقات متفرقة، وبقي القول عن شروط استحقاق التعويض.

وأهم شروط التعويض لأضرار التقاضي ومصروفات الدعوى ما يلي:

الشرط الأول: كسب الدعوى، فلا يختلف الفقهاء و شرّاح الأنظمة على أن التعويض لا يكون إلا لمن يكسب الدعوى، وهو من يكون الحكم لمصلحته، سواء كان الكسب كليا بكامل الطلبات أو جزئيا، وأن من يخسر القضية هو من يتحمل النفقات.

الشرط الثاني: ثبوت الضرر، فمتى ما وجد الضرر وجد التعويض، ويثبت الضرر بالأدلة والبراهين، سواء كانت بالمستندات الرسمية أو العرفية أو حال أصحاب الدعوى أو تقرير جهة خبرة محايدة وغيرها من وسائل الإثبات المقررة في الشرع والنظام.

الشرط الثالث: واقعية أسباب الضرر، فيلزم أن تكون أسباب الضرر واقعية ومعقولة بأن تكون متناسبة مع واقع الدعوى وحجمها وواقع صاحب الشأن وحالته المادية والاجتماعية وكل الظروف المرتبطة بالقضية والمؤثرة فيها، وهذا الشرط يقضي على ظاهرة العقود الوهمية التي يفعلها بعض المحامين مع أصحاب الدعوى من أجل طلب مبالغ كبيرة بحجة مصروفات الدعوى، وأذكر أن أحد المدعين ووكيله المحامي طلبا مبلغ خمسة ملايين ريال في قضية موضوعها طلب صرف علاوة وظيفية، واستندا في ذلك إلى العقد المبرم بين الطرفين، واللافت للنظر أن كل مبلغ المطالبة لا يتجاوز عشرة آلاف ريال.. فكيف تكون مصروفات الدعوى خمسة ملايين ريال؟!

الشرط الرابع: انتفاء العذر في الإلجاء إلى رفع الدعوى، ومعنى هذا الشرط تعذر الوصول إلى الحق إلا عن طريق رفع القضية، بحيث إن صاحب الحق لا يمكنه الحصول على حقه بالطرق الودية.

والتعويض عن أضرار التقاضي يشمل الأضرار المعنوية مثل الابتذال والامتهان بالإحضار إلى مجلس القضاء والانتظار فيه والاستدعاء بالشرطة وغيرها، وتشويه السمعة أمام الأسرة والعائلة والناس وتضييع الوقت بالتقاضي أو التعويض عن الأضرار المادية، مثل: مصروفات الدعوى الرسمية في الدول التي تطبق الرسوم في التقاضي، وأتعاب المحاماة وأتعاب الخبراء وهيئات النظر ومصروفات الشهود ومصروفات الحضور إلى محل الدعوى في الدعاوى الكيدية ومصروفات السكن، وغير ذلك مما يراه القاضي ناظر القضية.

وتقدير التعويض عن أضرار التقاضي يعود إلى المحكمة التي تفصل في الموضوع، وهي سلطة تقديرية للقاضي، وتحكم بها المحكمة ولو لم يطلب ذلك منها، هذا عند رأي الأغلبية، وهناك من قال بعدم الحكم إلا عند طلب صاحب الشأن، والأمر عندي متروك للاجتهاد القضائي، بمعنى أنها سلطة تقديرية للقاضي. ويمكن للمحكمة أن ترجع في ذلك إلى من تراه من أصحاب الخبرة وأهل النظر.

ولعل فيما سبق إشارة عامة إلى العناصر الأساسية لهذا الموضوع، الذي أصبح حاجة ملحة لعموم الناس، وأيضا للجهات القضائية التي أصبحت القضايا فيها تزداد يوما بعد يوم، خاصة مع تزايد التعداد السكاني وتداخلهم وانتشار التجارة وسرعتها مدعومة بالتقنية الحديثة. إن حاجة الناس اليوم إلى مثل هذه الإجراءات والأحكام باتت ماسة في عملية التطوير القضائي ما دامت تستند في تكييفها القضائي إلى الشرع المطهر والتجربة القانونية؛ ولذلك فإن التطوير القضائي يجب أن يطول الاجتهاد القضائي والظروف المحيطة بالقضاء المحلي والدولي، إذ إن تغير الظروف والأحوال عامل مؤثر في تغيير نمط الاجتهاد وطريقة الإجراءات المساندة للعمل القضائي، وكلما كان الاجتهاد قريبا من الواقع الفعلي لحياة الناس وهمومهم كان أدعى لتنظيم العمل واستقراره بصورة متزنة بين الجهات القضائية وحاجات الناس اليومية، ورحم الله ابن القيم الجوزية عندما قال: ''ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله''. (أعلام الموقعين) 1/88.


تعليقات