القائمة الرئيسية

الصفحات



أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية في أحكام النكاح والطلاق

 



أثر مقاصد الشارع
في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية
في أحكام النكاح والطلاق

 

د. محمد بن عبد الله الحوسني


أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية

في أحكام النكاح والطلاق

المقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إلَه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:

قد أنزل الله شريعته لأهداف ومقاصد عظيمة حيث إنها تنظم في إطارها حياة الإنسان وتحقق مصالح العباد، وتدرء عنهم المفاسد وتجعلهم يسيرون وفق منهج الله العليم الخبير الذي خلقهم ويعلم مصالحهم وما يحقق لهم ذلك، قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}[1].

كما أن معرفة مقاصد الشارع تعين العالم والمجتهد على فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بالشكل الصحيح عند تطبيقها واستنباط الأحكام منها، وكما أن الاسترشاد بمقاصد الشارع تعين المجتهد لتحديد مدلولات الألفاظ ومعرفة معانيها عند الاستنباط منها.

ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة لمقاصد الشارع، ولأهمية معرفتها في فهم أحكام الشريعة ومعرفتها، ونظراً لاهتمام شيخ الإسلام في فقهه وفتاويه بمقاصد الشارع، وامتزاجها بفقهه، اخترت أن يكون عنوان بحثي (أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية في أحكام النكاح والطلاق).

وبالاضافة إلى هذه الأهمية الكبيرة للموضوع فإنه كانت هناك أسباب أخرى لاختيار هذا الموضوع، ومن أهمها:

1- الرغبة في معرفة مقاصد الشارع، وحدود ومعالمها، ومعرفة حقيقة المصلحة التي جلبها مقصد الشارع، وحدود وضوابطها وتفاصيلها.

2- الرغبة في معرفة حكم الشريعة وأسرارها في أحكامها.

وبعد اختيار الموضوع بدأت بالقراءة حول الموضوع  فكانت خطة البحث كالتالي:

المقدمة: وتشتمل على أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وخطة البحث.

التمهيد: ويحتوي على تعريف المقاصد لغة واصطلاحاً .

المبحث الأول: أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية في أحكام النكاح.

المبحث الثاني: أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية في أحكام الطلاق.

الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج.

فهرس المصادر والمراجع.

 

التمهيد

تعريف المقاصد لغة: المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، والمقصَد مصدر من الفعل (قَصَدَ) يقال: قَصَدَ، يَقصِد، قَصداً، ومَقصداً [2].

وتأتي كلمة القصد في اللغة لمعان عديدة:

المعنى الأول: الاعتماد والأم، وإتيان الشيء[3].

قال ابن فارس (ت 395هـ)[4]: "القاف والصاد والدال أصول ثلاثة يدل أحدها على إتيان الشيء وأمِّه.."[5].

ومنه: أقصَدَه الهم: إذا أصابه فقتل مكانه وكأنه قيل ذلك لأنه لم يحِد عنه[6].

المعنى الثاني: الكسر، قال ابن فارس: "قصدت الشيء كسرته، والقِصدة: القطعة من الشيء إذا تكسر، والجمع قِصد"[7].

المعنى الثالث: القصد استقامة الطريق[8].

تعريف مقاصد الشارع اصطلاحاً:

عرفها الريسوني بقوله: "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي دفعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[9].

المبحث الأول
أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام في أحكام النكاح

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}[10].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "افتتح - الله - السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة وأن زوجها مخلوق منها وأنه بث منهما الرجال والنساء، أكمل الأسباب وأجلها، ثم ذكر ما بين الآدميين من الأسباب الكسبية الشرطية، كالنكاح ثم قال: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}، قال طائفة من المفسرين من السلف (تساءلون به) تتعاهدون، وتتعاقدون، وهو كما قالوا، لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه.."[11].

وقال أيضاً: "أن الأرحام والعهود هما جماع الأسباب التي بين بني آدم، فإن الأسباب التي بينهم إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم فالأول (الأرحام)، والثاني: (العهود) ولهذا جمع الله بينهما في مواقع"[12] في مثل قوله تعالى في أول البقرة: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}[13].

فقد بين شيخ الإسلام أن مقصود الشارع المحافظة على هذه العقود، وأنه جعل النكاح من الأسباب الجامعة بين بني آدم.

1- يصح عقد النكاح بكل لفظ يدل على مقصوده:

يرى شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن العقود تصح بكل لفظ يدل على مقصودها من قول أو فعل، وهذا عنده من القواعد في العقود. حيث قال: "وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب.."[14].

فهذه القاعدة مطردة عن شيخ الإسلام في جميع العقود ومنها عقد النكاح فهو يرى أن عقد النكاح يصح بكل ما يدل على مقصوده، ولا يشترط له لفظ من الألفاظ على وجه خصوص[15].

وقال: "ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر، وإنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى: {محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان}[16]. وقال: {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان}[17]. فأمر بالولي والشهود ونحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح وصيانة للنساء عن البغايا حتى شرع فيه الضرب بالدفوف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا جاء في الأثر (المرأة لا تزوج نفسها) فإن البغى هي التي تزوج نفسها وأمر فيه بالاشهاد أو بالاعلان أو بهما جميعاً .. فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر"[18].

فقد بين شيخ الإسلام أن مقصد الشارع الحكيم ليس التزام لفظ مخصوص، بل مقصده في النكاح أمور أخرى التي ذكرت في الكتاب والسنة مثل الولي، والشاهد والشهرة ونحو ذلك ما يميز النكاح عن السفاح.

2- ليس للولي إجبار ابنته البالغة على نكاح من لا تريد:

فقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن في حكم إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح قولان للعلماء مشهوران:

أحدهما: أنه يجبر البكر البالغ، كما هو مذهب مالك والشافعي.

والثاني: لا يجبر كمذهب أبي حنيفة وغيره ..

وذكر أن بعض أصحاب الإمام أحمد اختار القول الأول، وبعضهم اختار القول الثاني، وقال أن القول الثاني هو الصواب، وهو القول بعدم الإجبار[19].

وذكر أن الخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في (مناط الإجبار). هل هو البكارة أو الصغر، أو مجموعهما أو كل منهما ؟ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره[20].

وقال: "والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح"[21]. واستدل على مذهبه هذا بأدلة من السنة وأصول الشريعة ومقتضى مقاصد الشارع[22].

وقال: "فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها فكيف يجوز له أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها. وأيضاً فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام، فإن الشارع لم يجعل البكارة سبباً للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع"[23].

وذكر أن على القول بإجبار البكر البالغ "يترتب من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى"[24].

وقال: "تزويجها مع كراهتها للنكاح مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومباشرة من تكره معاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك"[25].

فذكر شيخ الإسلام أن إجبارها على نكاح من لا تريده مخالف لمقاصد الشارع حيث أن الشارع جعل النكاح من أسباب المودة والرحمة، والمودة والرحمة لا تحصل مع نفورها من زوجها، وإجبارها على نكاح من لا تريده فبناء على ذلك إجبارها مخالف لمقاصد الشارع. وكذلك ذكر أنه يترتب على ذلك الضرر والفساد والشر بالنسبة لها، ودفع الفساد والضرر من مقاصد الشارع. وأيضاً فقد ذكر أن اجبارها على النكاح مخالف لأصول الشريعة.

3- إعلان النكاح:

يرى شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن النكاح لابد له أن يعلن ويشتهر ولا يصح عنده نكاح السر[26].

وقال في حكمة ذلك: "فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به، لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال تزوجتها ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر إنه يزني بها إلا قال ذلك. فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين"[27].

وقال: "ولهذا إذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إعلانه بالاشهاد فالإشهاد قد يجب في النكاح لأنه يعلن به ويظهر، لأن كل نكاح لا ينعقد إلا بشاهدين"[28].

فقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مقصد الشارع الحكيم من مشروعية الإعلان في النكاح، وهو التفريق بين النكاح وبين السفاح واتخاذ الأخدان. وكذلك فإن عدم إعلان النكاح يؤدي إلى أن يخوض الناس في عرض من نكح نكاحاً بدون إعلان وشهرة، وأيضاً يؤدي نكاح السر إلى أن يتخذ المفسدون صديقات لهم ثم يقولوا عند انكشاف أمرهم أنهم تزوجوا بهن. وإعلان النكاح يؤدي إلى حفظ النسل الذي هو مقصد ضروري من مقاصد الشارع.

 

المبحث الثاني
أثر مقاصد الشارع في فقه شيخ الإسلام في أحكام الطلاق

1-  حكمة مشروعية الطلاق:

قال شيخ الإسلام في ذلك: "أن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق، فإن الله يبغض الطلاق .. وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه، أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد، يطلق الرجل المرأة، ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضراراً، فقصرهم الله على الطلقات الثلاث أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، ولولا أن الحاجة إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، كما دلت عليه الآثار والأصول ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحياناً، وحرمه في مواضع باتفاق العلماء كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن مسألته الطلاق، فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء"[29].

وقال: "ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر- لكان الناس يطلقون دائماً إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك، ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط، كالطلاق في الحيض حتى يباح دائماً بسؤالها، بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء، إما نهي تحريم أو نهي تنزيه، وما كان مباحاً للحاجة قدر بقدر الحاجة، والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة"[30].

وقال: "والطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة، فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره عقوبة له لينتهي الإنسان عن إكثار الطلاق"[31].

وقال: "ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق بل فرقة بائنة، وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها وهذه إحدى الروايتين عند أحمد. ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلها فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما، بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته، بل ذلك شر بلا خير، وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجاً إليه بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة"[32].

2- الطلاق البدعي لا يقع:

قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى-: "وإن طلقها في الحيض، أو طلقها بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها، فهذا طلاق محرم ويسمى (طلاق البدعة) وهذا حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وهل يقع هذا الطلاق أو لا يقع ؟ فيه قولان معروفان للسلف والخلف"[33].

القول الأول: أن الطلاق يقع، والثاني: لا يقع[34].

واختار شيخ الإسلام القول بعدم الوقوع وقال بأنه أشبه بالأصول والنصوص[35].

واستدل للقول بعدم الوقوع بأدلة كثيرة، ومنها موافقة هذا القول لمقاصد الشارع وأصول الشريعة. وقال بأنه: "أشبه بالأصول والنصوص.. إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا إن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام مع السلف وأئمة الفقهاء، لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون بفساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم"[36].

وقال: "ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة بل فيه مضرة عليها فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق وتطويل المدة وتعذيب الزوجين جميعاً"[37].

وقال: "وأيضاً فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة أو الراجحة ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد وجعله معدوماً، فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فجعله لازماً نافذاً كالحلال لكان ذلك إلزاماً منه بالفساد الذي قصد عدمه، فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع"[38].

3- الطلاق ثلاثاً في طهر واحد بكلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة:

وإن طلقها ثلاثاً في طهر واحد بكلمة واحدة، أو كلمات مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق طالق طالق، أو نحو ذلك ..

فقد ذكر شيخ الإسلام أن العلماء اختلفوا في حكم ذلك وقال: "فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال"[39].

القول الأول: أنه طلاق مباح لازم، والثاني: أن الطلاق محرم لازم، والثالث: أن الطلاق محرم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة. وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم[40].

واختار  شيخ الإسلام القول الثالث وقال: "هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي، لم يشرعه الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعاً، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقاً بائناً، ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإذا انقضت عدتها بانت منه"[41].

وقال: "وليس في الكتاب والسنة ما يوجب إلا لزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة، بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله، وعلى هذا يدل القياس الاعتبار بسائر أصول الشرع، فإن كل عقد يباح تارة ويحرم تارة كالبيع والنكاح إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازماً نافذاً كما يلزم الحلال الذي أباحه الله ورسوله.

والطلاق هو مما أباحه الله تارة وحرمه أخرى فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازماً نافذاً كما يلزم ما أحله الله ورسوله.. وقد قال تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}[42]، فبين أن الطلاق الذي شرعه الله للمدخول بها - وهو الطلاق الرجعي مرتان - وبعد المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"[43].

وقال: "إن الشارع قد بين حكمته في منعه مما نهى عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}[44]. يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد فحرمه منعاً من هذا الفساد، ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله إذا اعتقد الفاعل أنه مباح، أو أنه صحيح، فأما مع اعتقاده أنه محرم باطل والتزم أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله والمفاسد فيه فتنة وعذاب. قال الله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}[45]. [46].

4- طلاق السكران لا يقع:

في حكم طلاق السكران هل يقع أم لا يقع ؟ قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "هذه المسألة فيها قولان للعلماء، أصحهما أنه لا يقع طلاقه .. ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم وهو قول كثير من السلف والخلف"[47].

واستدل على ذلك بأدلة من السنة وغيرها. وقال: "ولأن السكران وإن كان عاصياً في الشرب فهو لا يعلم ما يقول، وإذا لم يعلم ما يقول لم يكن له قصد صحيح .."[48].

ثم قال: "ومن تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب وأن إيقاع الطلاق بالسكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها .. والصحيح أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول"[49].

وفي معرض رده على استدلال من قال بوقوع طلاق السكران بأنه يقع ذلك عقوبة له قال: "وهذا ضعيف، فإن الشريعة لم تعاقب أحداً بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه، ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره، ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد ونحوه، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة .."[50].

فاستدل شيخ الإسلام على عدم وقوع طلاق السكران بمقاصد الشارع حيث أن الشارع ليس من قصده أن يعاقب أحداً بذنب غيره، كما هو واضح من أصول الشريعة. واستدل على أن ضرر ذلك يتعدى على زوجته، وأولاده ومعلوم أن من مقاصد الشارع دفع الضرر.

5- الحث على اتباع الكتاب والسنة في أحكام الطلاق وفي غيرها، لأن فيهما العدل والحكمة والرحمة:

فقد حث شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - على اتباع الكتاب والسنة في أحكام الطلاق وغيرها من الأحكام الشرعية، وعدم اتباع الأقوال المرجوحة في ذلك، وإن كان أصحابها مأجورين ومعذورين في ذلك، إلا أنه لا ينبغي اتباع هذه الأقوال إذا تبين رجحان غيرها عليها[51].

قال رحمه الله: "إنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة وما فيها من الحكمة والعدل والرحمة، وبين الأقوال المرجوحة، وأن ما بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة مجمع مصالح العباد في المعاش والمعاد على أكمل وجه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وقد جمع الله في شريعته ما فرق في شرائع من قبله من الكمال إذ ليس بعده نبي فكمل به الأمر، كما كمل به الدين فكتابه أفضل الكتب وشرعه أفضل الشرائع ومنهاجه أفضل المناهج وأمته غير الأمم وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة .."[52].

 

الخاتمة

 

من خلال ما سبق من بحث في فقه شيخ الإسلام في أحكام النكاح والطلاق يمكن القول أن السمة البارزة لفقه شيخ الإسلام واختياراته في هذه الأبواب هي أن شيخ الإسلام كان فيما يصدر عنه من اجتهاد يتوخى التيسير على الناس ودفع أسباب المشاق عنهم وذلك في حدود ما يترجح لديه من استقراء الأدلة وأصول الشريعة ومقاصد الشارع على نحو من التعمق، والاعتدال، مراعياً في ذلك مقاصد الشارع في جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فهرس المصادر والمراجع

    - القرآن الكريم، وهو تنزيل من رب العالمين.

    - بغية الوعاء في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق عبد العظيم    ديب، الطبعة الثانية 1400هـ المكتبة العصرية.

-         لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين ابن منظور الأفريقي المصري، طبع دار صادر بيروت لبنان، بدون تاريخ.

-         مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المطبعة الحكومية، الطبعة الأولى.

-         معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، طبع دار الفكر بدون تاريخ.

 .


تعليقات