العنوان : جريمة الردّة
المؤلف : هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
جريمة الردّة
د/ هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى
آله وصحبه ومن ولاه .
أمّا بعد :
فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل
الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع ، وأمره ( أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في
الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله . ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق من
بطونهم ، بل يُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ، ويجرى أحكامه
في الآخرة على قلوبهم ونياتهم ، فأحكام الدنيا على الإسلام ، وأحكام الآخرة على
الإيمان .
ولهذا قبل إسلام الأعراب ، ونفى عنهم أن يكونوا
مؤمنين ، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا ، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا ،
وأنّهم في الدرك الأسفل من النار .
فأحكام الله تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما
لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه )([1])
.
فانقسم الناس تجاه دعوته إلى المؤمنين الصادقين ،
والكفار الظاهرين ، والمنافقين المستترين ، فعامل كلاً بما أظهر ، ثم إن أهل
الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال
تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } ( سورة فاطر آية 32 ) .
وحكم على من أظهر كفره من المنافقين ، أو كفر من
المسلمين بالقتل كفًّا لشرهم درعًا لغيرهم فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من
محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان ، وفتنة هذا في
القلوب والإيمان ، وهذا بخلاف الكافر الأصلي ؛ فإن أمره كان معلومًا ، وكان مظهرًا
لكفره غير كاتم له ، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه ، وجاهروه بالعداوة والمحاربة ،
ولو ترك ذلك الزنديق لكان تسليطًا له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين
ومسبّة الله ورسوله وأيضًا فإن من سب الله ورسوله وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله
وسعى في الأرض فسادًا فجزاؤه القتل حَدًّا ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله
وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة
دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين من أعظم
المفاسد . ([2])
وبين يديك - أخي القارئ الكريم - ورقات قليلة في
جريمة الردّة تعرض جانبًا من نظرة الإسلام إليها وإلي عقوبتها سائلاً الله تعالى
أن ينفع بها .
تعريف الردّة :
الردّة
في اللغة : الرجوع عن الشيء والتحول عنه ، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبْل ،
أو لأمرٍ جديد .
ويقال
: ارتدّ عنه ارتدادًا ، أي : تحوّل .
ويقال
: ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه . ([3])
وتدل
في الاصطلاح الشرعي : على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد . ([4])
وقوع الردَّة وحصولها :
الردّة
عن الإسلام والتحوّل عنه – أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه – أمر ممكن الحصول
فقد ذكرها الله تعالى في كتابه محذرًا منها ، ومبينًا عاقبتها ؛ قال تعالى : { ومن
يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ( سورة
البقرة آية 217 ) .
وقال
تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه } ( سورة المائدة آية 54 ) .
وقال
تعالى : { من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب
عظيم } ( سورة النحل آية 109 ) .
في
آيات كثيرة تبين هذه المعنى .
كما
أخبر تعالى عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم .
قال تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من
بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سَوّل لهم وأملى لهم } ( سورة محمد آية 25 ) .
وقال
: { ولئن سألتهم ليقولُن إنما كنا نخوص ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ( سورة التوبة آية 65 ، 66 ) .
وقال : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا
بعد إسلامهم } ( سورة التوبة آية 74 ) .
وقال
: { إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله
ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } ( سورة النساء آية 137 ) .
كما
وقعت الردة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
في مواقف نذكر منها : قصّة عبيد الله بن جحش فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع
زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فرارًا بدينه .
قالت
أم الحبيبة : رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهها ، ففزعت وقلت :
تغيّرت والله حالُهُ ! . فإذا هو يقول حيث أصبح : إنّي نظرت في الدين ، فلم أر
دينًا خيرًا من النصرانية ، وكُنت قد دنت بها ، ثم دخلت في دين محمد ، وقد رجعتُ ،
فأخبرتُهُ بالرؤيا ، فلم يحفِل بها ، وأكبَّ على الخمر .. حتى مات . ([5])
ومنها
ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
قال
شيخ الإسلام ابن تيميّة : " مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث
والتفسير والسِّير أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا ، وكان يجرى ذلك لأسباب :
منها أمر القبلة لما حوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة ، وكانت محنة امتحن
الله بها الناس . قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من
يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } (
سورة البقرة آية 143 ) "([6])
ومنها
ما حصل في غزوة تبوك أن قال رجل في غزوة تبوك : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا
بطونًا ، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا
نخوض ونلعب . فقال { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم } وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ([7])
وقريب
من هذا ما حصل لهشام بن العاص رضي الله عنه فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ثم إنّه حبس عنه وفتن فافتتن .
قال
ابن إسحاق وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال : فكنا نقول : ما
الله بقابلٍ ممن افتتن صرفًا ولا عدلاً ولا توبة ، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى
الكفر لبلاءٍ أصابهم ! .
قال
: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرحيم } (
سورة الزمر آية 53 ) .
فقدم
المدينة بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ([8])
وسيأتي
في ثنايا المقال مواقف ونصوص أخرى تدل على حصول الردة في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وأنها لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج
عن الإسلام وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره .
بل
إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه ، وهذه ردّة
أيضًا .
قال
شيخ الإسلام ابن تيميّة : " وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشجّ وجه النبي
صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته ، ارتد طائفةٌ نافقوا .. قال تعالى : { وما
أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } (
سورة آل عمران آية 166 ، 167 ) . فإن ابن أبيّ لما انخزل عن النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحد انخزل معه ثلث الناس ، قيل : كانوا ثلاثمائة ، وهؤلاء لم يكونوا قبل
ذلك كلهم منافقين في الباطن ؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق ...
وفي
الجملة : ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ويطول ذكره "([9])
.
عظم جريمة الردّة :
إنّ
أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي
الشرك والكفر والتحذير منهما ، وقد جاءت أيضًا بحفظه في نفوس من اعتنقه وذلك أن
العالَم لا يستقيم بدونها ، فضياعها مهلك للبشر ، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة
عند بعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام فسيجد أنّه بعث على فترةٍ من الرسل في زمن
تخبطت فيه البشريّة كما وصفوا في الحديث القدسي : ( إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم ،
وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم([10])
عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانًا
وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب .. ) ([11])
.
وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه([12])
، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت
عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب .
(
فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات
والهدى ، هدايةً جلّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين ، حتى حصل لأمته
المؤمنين عمومًا ولأولي العلم منهم خصوصًا ، من العلم النافع والعلم الصالح ،
والأخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ، ما لو
جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً إلى الحكمة التي بُعث بها لتفاوتا تفاوتًا يمنع
معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى ) . ([13])
ولذا صار الشرك بالله تعالى أعظم الذنوب
. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟
قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة
أن يطعم معك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) ([14])
.
وعند تأمل حال أمة ليس فيها سلطان للدين
ولا رقيب منه وكيف يتسلط بعضهم على بعض عند ذلك ، لأن أهواء الناس تتفاوت وتختلف
وكل شخص سيفعل ما يراه مصلحةً له بحسب هواه ، وإن منعه وازع من السلطان في العلن ،
فلن يتحفظ في السرّ ، وعند ضعف الوازع السلطاني ؛ عن الاعتداء على الأموال والأنفس
والأعراض ، فترى النفوس تغتال والأموال تختلس
والأعراض تنتهك ، والشاهد الجلي لهذا حال الدول غير المسلمة إذا ضعفت فيه السلطة
فتحصل الاغتيالات وانتهاب الأموال وانتهاك الأعراض . ([15])
ولذا كانت البيعة التي يأخذها النبي صلى
الله عليه وسلم من الرجال والنساء تتضمن أن لا يشركوا ولا يزنوا ولا يقتلوا كما في
سورة الممتحنة وكتب الحديث . ([16])
بل ( ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي
عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعةً : الشرك والزنا وقتل النفس ، ذلك أنها كلها
جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى قتل للفطرة ، والثانية جريمة قتل للجماعة ,
والثالثة جريمة قتل للنفس المودة ، إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد : فطرة
ميتة .. ومن ثَمّ يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسم العقوبات ؛ لأنّه يريد
حماية مجتمعه من عوامل الدمار .. ) ([17])
.
والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة
النظام الاجتماعي القائم على الدين ، فكان لابد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم
من المجتمع ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من
العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ، ويمنع من ارتكاب
الجريمة في أغلب الأحوال . ([18])
ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع
الجرائم فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقابًا موازيًا لها في الشدة . ([19])
ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة
بجسامة العقوبة ، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل على ارتفاع جسامة الوصف
القانوني للجريمة .
ويطلق على هذا المبدأ : مبدأ التناسب بين
الجريمة والعقوبة .
أسباب الردّة :
عند تأمل التأريخ والواقع
نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة ، وهي إن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية
وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة
على حصول الردة .
ومن
هذه الأسباب :
1-
كيد الكفار بالمسلمين :
فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في
الإسلام - ظاهرًا - حتى
إذا سكن إليهم المسلمون ، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به
، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدونهم عن سبيله .
وقد ذكر
الله تعالى هذه المكيدة منهم في كتابه قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه
النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } ( سورة آل عمران آية 72 ) .
قال قتادة : قال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم أوّل
النهار واكفروا آخره ، فإنّه أجدر أن يصدقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما
تكرهون ، وهو
أجدر أن يرجعوا عن دينهم . ([20])
قال
السُّدي : كان أحبار قرى عربيّة أثني عشر حبرًا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين
محمد أوّلَ النهار وقولوا : نشهد أن محمد حق صادق ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا
وقولوا : إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم ، فحدثونا أن محمدًا كاذب ، وأنكم لستم على شيء وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب
إلينا من دينكم ، لعلهم يشكّون ، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار ،
فما بالهم ؟
فأخبر
الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك . ([21])
2-
ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن :
فمن خالط
الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل
أن يسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله فكان مما سأله
هل يرتدّ أحد منهم – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – سخطةً لدينه بعد أن يدخل
فيه ؟ فقال أبو سفيان : لا . فقال هرقل : وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
([22])
وفي
رواية زاد : لا يسخطه أحد ، وفي رواية : وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج
منه . ([23])
ولما ذكر
شيخ الإسلام ابن تيميّة من اتخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أبي قال :
" أولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان .. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا
على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين امتحنوا
فثبتوا على الإيمان ، ولا من المنافقين حقًّا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة ،
وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم ، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع
فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا وينافق
أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردّة . إذا كان العدوّ غالبًا ؛ وقد
رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة .
وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم
كانوا مسلمين ..) ([24]) .
ولهذا
كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب .
قال تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أ، يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين }
( سورة العنكبوت آية 2 ، 3 ) .
وقال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين ونبلوا أخباركم } (
سورة محمد آية 31 ) .
3- الافتتان
بما لدى الكفار :
وهذا الافتتان يتخذ صورًا عديدة يجمعها ويربط
بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ .
فمن ذلك الفتنة بما قد يمكّن للشخص من شهوات ، ولما
حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من
البحر كل وقت حتى أنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة ؟! ، فقدم
إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة ، حتى إنّ كثيرًا من فسقة
المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة . ([25])
وذكر ابن كثير([26])
أيضًا قصة مجاهد يدعى : عبده بن عبد الرحيم وأنّه في بعض الغزوات نظر إلى امرأة من
نساء الروم فهويها وتنصّر من أجلها فاغتمّ المسلمون بسبب ذلك فلما كان بعد مدة
مروا عليه وهو معها فقالوا : يا فلان ما فعل قرآنك ؟ فقال : اعلموا أنّي نسيت
القرآن كله إلا قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا
ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ( سورة الحجر آية 2 ، 3 ) .
ومنها :
الافتتان بما لديهم من إتقان لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها ، مع عجز
المسلمين عن ذلك ، ( فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنّه على الحق ، وأنّ من عجز
عنها متخلّف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ... فقد أوضح جل وعلا في قوله تعالى :
{ يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } ( سورة الروم آية 7 )
.
أن أكثر الناس لا يعلمون
ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيويّة دخولاً أوليًا ؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم .. ورزقهم ،
ولم يعلموا شيئًا عمن مصيرهم الأخير ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من
يعلم .. بل علمهم في غاية الحقارة بالنسبة لما فاتهم ) ([27])
لأنه لا يجاوز ظاهر الحياة الدنيا .
4- سعي
اليهود والنصارى :
وهذا السبب أوضح من استشهد
عليه أو أقرره فقد بيّنه الله تعالى أتم بيان بقوله : { ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع
ملتهم } ( سورة البقرة آية 120 ) .
وقال عن الكفار : { ولا
يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } ( سورة البقرة آية 217 ) .
قال : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من
الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ( سورة آل عمران آية 100 ) .
وقال : { ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من
بعد أيمانكم كفارًا } ( سورة البقرة 109 ) .
ويظهر هذا بجلاء في المساعي التنصريّة التي لا
تزال تمارس نشاطاتها في العالم الإسلامي بصورة مباشرة حينًا ، وبدعم التوجيهات غير
الدينيّة من داخل بلاد الإسلام أحيانًا أخرى .
وهي مساعٍ عظيمة جدًا ينفق عليها بسخاء كبير . ([28])
واستعملوا لتحقيقها عدة طرق
: من التطبيب ، والتعليم ، ونشر الفتن والحروب ، والأعمال الاجتماعية وغيرها .
ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم مدى تأثير الدين في
الحياة الأمريكية حتى يمتزج بجميع نواحي الحياة ، وحتى يصبح من أقوى العوامل في
نجاح المرشح في الانتخابات وفي فشله أيضًا . ([29])
عقوبة المرتد :
المسلم باعتناقه للإسلام يعصم دمه وماله في
الدنيا ، وأما قبل إسلامه فإنّ الأصل أنه مباح الدم إلا إذا طرأ له عهد أو ذمة أو
أمان أو مانع يمنع من قتله .
فكل شخص لم يعتنق الإسلام فالأصل أنّه مباح الدم
إلا لعارض .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ) ([30])
.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله
فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلّوا صلاتنا ، واستقبلوا
قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ) ([31])
.
فقوله : عصموا مني دماءهم ، وقوله : حرمت علينا
دماؤهم ، يدل ( على أنه كان مأمورًا بقتل من أبى الإسلام ..فإذا نطق بالشهادتين
عُصم دمه وصار مسلمًا فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتي الزكاة وقام
بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ) ([32])
ويدل لذلك قوله تعالى : { وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( سورة
البقرة آية 193 ) . وقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
} ( سورة التوبة آية 5 ) .
فالإسلام ه والعاصم عن إباحة دم الإنسان في الأصل
وأما غيره من الأسباب التي تمنع من قتل غير المسلم فهي أسباب طارئة تنتهي بانتهاء
غايتها .
والمسلم نفسه متى ترك الإسلام عاد للحال التي كان
عليها من حل الدم والمال بل هو أشد ؛ لأن ضرره أعظم ، ولأنه قد قامت عليه من
الحجّة ما هو أبلغ من غيره .
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر بعض أسباب القتل وكان
منها : الكفر وبيّن أن من الفقهاء من جعل نفس الكفر مبيحًا للدم ، ومنهم من جعله
وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه ، قال بعد ذلك : ( أما المرتد فالمبيح عنده هو
الكفر بعد الإيمان ، وهو نوع خاصٌّ من الكفر ، فإنّه لو لم يقتل لكان الداخل في
الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين واللدين ، فإنّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من
الخروج عنه ، بخلاف من لم يدخل فيه ، فإنّه إن كان كتابيًا فقد وجد إحدى غايتي
القتل في حقّه وإن كان وثنيًا .. ولم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرًا
لا منفعة في حياته لنفسه ؛ لأنه بزداد إثماً ، ولا للمؤمنين ؛ فيكون قتله خيرًا من
إبقائه ) ([33])
.
إذا تقررت هذه القاعدة من أن أكبر عاصم لمال
الإنسان ودمه هو الإسلام فإننا نعلم أن خروج الإنسان عن الإسلام بعده رافع لهذه
العصمة ، ولذا جاء الشرع في نصوص كثيرة جدًا تبيّن حد المرتد وأنّه القتل .
فمنها قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد
قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن
أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم عذابًا
أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } ( سورة التوبة آية
74 ) فبين تعالى أن من كفر بعد إسلامه إن تاب وإلا يعذّب عذابًا أليمًا في الدنيا
والآخرة .
وعذابه في الدنيا هو الحد .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( .. ولكونهم
أظهروا الكفر والردة ، لهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فإن يك خيرًا لهم وإن
يتولوا } عن التوبة { يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة } وهذا لمن أظهر الكفر
فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة ) ([34])
.
وقال ابن الجوزي : ( قوله
تعالى : { وإن يتولوا } أي يعرضوا عن الإيمان { يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا } بالقتل
وفي الآخرة بالنار ) ([35])
.
وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في نصوص
نبويّة كثيرة ..
فمنها : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( من بَدّل دينه فاقتلوه ) ([36])
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ دخل رجلان وافدين
من عند مسيلمة فقال لهما رسول الله : ( أتشهدان
أني رسول الله ؟ ) فقالا له : أتشهد أنت مسيلمة رسول الله ؟ فقال : ( آمنت بالله
ورسله لو كنت قائلاً وافدًا لقتلتكما ) ([37])
.
وجاء من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي : أما والله
لو لا أنّ الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما . ([38])
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ارتدت
امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ
قتلت فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل ، فقُتلت . ([39])
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل
وقد كان مسلمًا ثم ارتد مشركًا . ([40])
وعن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث :
الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ([41])
.
وروت عائشة رضي الله عنها مثله عن النبي صلى الله
عليه وسلم .([42])
وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر
بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسًا بغير نفس )([43]).
وفي رواية : ( أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل )([44])
.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لقيت خالي
أبا بردة ومعه الراية ، فقالت : إلى أين ؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله ، أو أضرب عنقه . ([45])
وزاد في رواية : وآخذ ماله ، أو : أصفي ماله ، أو : أخمّس ماله .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة
: " إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافرًا إلا فاسقًا ، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله
"([46])
لأنه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربّه ، وجحود لآية من
القرآن .
وفي السنة من النصوص الواردة في قتل الساحر ما
ينضم إلى ما تقدَّم أيضًا .
وثبت القتل للمرتد من فعل صحابة النبي صلى الله
عليه وسلم .ورضي عنهم .
فقد أُتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزنادقة
فأحرقهم بالنار . ([47])
وورد ذلك عن ابن عمر وعثمان وأبي بكر رضي الله
عنهم . ([48])
ولما قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري رضي
الله عنهما إذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا ؟ قال : كان يهوديًا فأسلم ، ثم
تهوّد ، قال : أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فأمر به فقتل . ([49])
والحكم بقتل المرتد محل إجماع من المسلمين ([50])،
فلم يقع في أصله خلاف ، وإن حصل اختلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع
المكفرات .
ولكن هذا القتل لا يكون إلا بأمر حاكم ، لأن مرجع
تنفيذ الأحكام إليه ، عند جمهور أهل العلم ، كما لا يقبل حتى يستتاب ويصرّ على
ردّته ، ولابد من تحقق الردّة بثبوت موجبها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها من الخطأ
والإكراه ونحو ذلك . ([51])
ومعنى ما سبق أن إثبات الحد الشرعي شيء ، وتطبيقه
في الواقع شيء آخر ، فإن تنزيل الأحكام على الوقائع مختص بأهله .
شبهات حول حد الردّة :
يظهر مما سبق أن الحكم بقتل المرتد حدًا حد
شرعيٌّ ثابت بالنص النبوي قولاً وفعلاً وبإجماع المسلمين ودَلّ عليه كتاب الله
تعالى : - تفقهًا - وعمل الصدر الأول من الأمّة .
وهو متّسق مع قاعدةٍ كلية وهي إباحة دم الكافر
إلا بطروء ما يعصمه .
وكل ما سبق مثبتٌ - بلا شك - أن القتل للمرتد
واجب من واجبات الدين .
إلا أن هذا العصر لما شهد إعراض بعض الأمم عن
تطبيق هذا الحد ، أخذ بعضهم يبحث عن وسائل يجعل هذا الحد محل تردد وأورد لذلك
شبهات وتوصّل بعد ذلك إلى تحريم الردّة ولكن جعل عقوبتها تعزيريّة عائدة لرأي
الإمام إما بالقتل أو بالسجن أو بغيرهما . ([52])
وآخر بحث مثله عن شبهات وتوصل بعد عرضها والكلام
حولها إلى أنّه لا عقوبة على الردة ! ([53])
ومجمل الشبهات التي أوردها هؤلاء هي :
أن عقوبة الردة وردت في
أحاديث آحاد ، والحدود لا يثبت بحديث آحاد .
وقد تبيّن مما سبق أن حد الردة محل إجماع ،
والإجماع يرفع الحكم إلى القطعيات ، كما أنّه ورد بعدة طرق وأخرجه صاحب الصحيح مما
يجعله محفوفًا بالقرائن التي ترفعه إلى إفادة العلم كما قرره الحافظ ابن حجر في
نزهة النظر([54])
. وقد نقل أيضًا في نفس الموضع الإجماع على وجوب العمل بما في الصحيح .
ثم إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول
من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات ، ولم يقسّم الحديث إلى
آحاد ومتواتر إلا الجهميّة في القرن الثالث الهجري . ([55])
ولذا قال ابن حبان رحمه الله : " فأما
الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد ؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم
خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي
ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما استحال هذا ، وبطل ، ثبت أنَّ
الأخبار كلها أخبار آحاد . وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد عمد إلى ترك
السُّنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد "([56])
.
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات
حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الآحاديّة .
ومع كل ذلك فإنَّ لدينا على
هذا الحد دليل من القرآن تقدم ، وإجماع مَرّ معنا .
ونظير هذه الشبهة : أن هذا الحكم لم يذكر في
القرآن .
وهو مع الإشارة إليه في القرآن ، ومع اعتقادنا
أنَّ السنة مصدر التشريع فإني ذاكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذ لعن
الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن
المغيرات خلق الله . فقالت امرأة قرأت القرآن يقال لها أم يعقوب : ما هذا ؟ فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ .
قال : والله لو قرأتيه لقد وجدتيه { وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه
فانتهوا } ( سورة الحشر آية 7 ) . ([57])
ولاشك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة
بنفسه فهو عليه الصلاة والسلام { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحيٌ يوحى } (
سورة النجم آية 3-4 ) .
ومن الشبهات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم
يعاقب أحدًا من المرتدين بقتله .
وقد تبين مما سبق أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك . ([58])
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم .
الردّة وحريَّة الاعتقاد :
لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ
الإسلام هو الدين الحقّ وأنّ ما عداه باطل { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين }( سورة آل عمران آية 85 ) .
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين ،
فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم وخالف مقتضى العقل ، وداعي الفطرة .
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير ، بل هو
بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله تعالى .
وعلى هذا فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد ، بل
مطلوب منه الإيمان ، ولكن لا يُكره عليه ، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفقه ؛ لأنّه
لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب .
قال تعالى : { فلما رأوا
بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا }(
سورة غافر آية 84 ، 85 ) .
أي : أنهم ما عاينوا وقوع العذاب بهم وحدوا الله
وكفروا بالطاغوت ، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة .
إنَّ الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان
الحق ودلالة الخلق وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم
إلى الإيمان { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا الله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما
بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } ( سورة سبأ آية 46 ) .
وهذا فيه حريّة ظاهرة إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام
مع أنّه المخلص للبشريّة من ضلالاتها ، وسائر مشكلاتها ، { لا إكراه في الدين قد
تبين الرشد من الغي } ( سورة البقرة آية 256 ) .
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون
على دينهم دون أن يعرض أحد لهم ، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت
على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه .
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام
الإسلام وعقيدة الإسلام والتي منها أن من ارتدّ عنه قتل ، فهو بدخوله في الإسلام
التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به .
وإذا كانت الإنسان مخيرًا في دخول أي بلد ، فإذا ما
دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله ، وليس له أن يحتج
بأنّه كان مخيرًا قبل دخوله لها .
مع أن المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم ؛ جريمة في
حق نفسه إذ أضلها ، وجريمة باستخفافه بعقيدة
أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام ، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم ،
وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته
ولم يسرّ بها ؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقًا ، وما أعلنها صار مرتدًا مجاهرًا .
([59])
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة ،
فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك . إن القوانين الوضعيّة تقتل الخائن لها
والمحطّم لنظمها دون أن تتذرع بأنّه يمارس حريته الشخصيّة فكيف بمن يجرم في حق
نفسه ومجتمعه وعقيدة أمته ؟!
وبعد فقد كان من المناسب بيان أصول المكفرات
وشروط الحكم بالكفر على من وقع فيه فلعل أحدًا من المختصين أن ينبري لبيانها أو
بيان شيء من المهم منها والله الموفق والهادي لا إله إلا هو .
([19])عقوبة
الإعدام عقوبة مقررة في الشرائع السابقة وفي القوانين الوضعية المعاصرة وقد أيدها
عدد من المفكرين منهم روسو وفولتير ومونتسيكو وغيرهم بل بعض الدول الغربيّة التي
ألغت عقوبة الإعدام عادت فأقرتها مثل إيطاليا ، والاتحاد السوفيتي بحجّة أن من
ارتكب جرمًا خطيرًا أو شديد الضرر فعليه أن يدفع حياته ثمنًا لإثمه الكبير ،
وكونها عقوبة ضرورية لتخليص المجتمع من الأشخاص الخطرين ، وأنها تصرف عن الإقدام
على الجريمة .
انظر
: علم الإجرام والعقاب للدكتور عبّود السرّاج ص 407 – 417 ؛ أساسيات علم الإجرام والعقاب للدكتور فتوح الشاذلي ص 106 – 119 ؛
النظريّة العامة لقانون العقوبات د. سليمان عبد المنعم ص 729 فما بعدها .
([28])فالرسائل
التي كتبها ( المبشرون ) من سوريا والشرق الأدنى بين عامي 1830م بلغت ثمانية
وثلاثين مجلدًا ، ولما اجتمع مؤتمر التبشير العالمي عام 1910م أصدر تقريرًا عن
النواحي التي يجب أن يهتم لها المبشرون ثم طبعه في عشر مجلدات ، أما مؤتمر التبشير
في القدس عام 1928م الذي اجتمع لمدة أسبوعين فقط فقد وضع تقريرًا في ثمانية مجلدات
ومؤتمر كلورادو عام 1978م قدمت فيه أربعون دراسة ورصد للتبشير فيه ألف مليون دولار
.
أما المجلات التي صدرت في بلدان مختلفة
وبلغات مختلفة لغرض التنصير فأكثر من أن تحصى وكذلك الإذاعات والقنوات .====
وأحيل
القارئ الكريم إلى : كتاب الغارة على العالم الإسلامي الذي تولى نشره محب الدين
الخطيب ، وكتاب التبشير في البلاد العربيّة لمصطفى خالدي وعمر فرّوخ ، وكتاب
الغارة الجديدة على الإسلام لمحمد عمارة وهو يتضمن الترجمة الكاملة لتقرير مؤتمر
كولورادو ، وكتاب أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للميداني .
([45])
مسند أحمد ( 4/295 ) ؛ سنن أبي داود ( 4457 ) ؛ الترمذي ( 1362 ) ، ابن ماجة (
2607 ) وصححه ابن حبان ( 4112 ) ؛ والحاكم ( 2/191 ) ووافقه الذهبي . وصححه
الألباني في إرواء الغليل ( 8/18 ) وفيه روايات الحديث .
([46])مجموع
الفتاوى ( 20/92 ) . ولابد أن تعلم أن هذا ليس مجرد فاعل معصية بل فعل ذلك مستحلاً
للحرام فصار كافرًا .
([51])انظر
: حاشية الروض المربع ( 7/399 ) فما بعدها ؛ مغني المحتاج ( 4/142 ) ؛ حاشية ابن
عابدين ( 4/668 ) ؛ الموسوعة الفقهيّة الكويتية ( 22/194 ) ؛ التشريع الجنائي
الإسلامي لعبد القادر عودة ( 2/706 ) .
([52])انظر
: موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر ( 3/439 ) ؛ موقع إسلام أون لاين : الإسلام
وقضايا العصر مقال بعنوان : عقوبة الردة تعزير لا حدّ لمحمد سليم العوّا .
([53])موقع
إسلام أون لاين ، ملف : قضيّة الردة هل تجاوزتها المتغيرات ، مقال لجمال البنا
بعنوان : لا عقوبة لردة ؛ كتاب حرية الفكر في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي .
([58])وقد
حاول هؤلاء جمع نصوص فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل بعض من كفر بعد
إسلامه .
ومما ذكروه قصة الأعرابي الذي بايع النبي صلى الله عليه
وسلم فلما استوخم المدينة قال : يا محمد أقلني بيعتي . فأبى فخرج الأعرابي ، وهذا بيّن الحافظ
ابن حجر في فتح الباري ( 4/116 ) ، ( 13/212 ) أنه استقال من الهجرة
الواجبة وليس من الإسلام وإلا لكان قتله على الردة ، ولو كان مرتدًا لما احتاج أن
يستأذن النبي !! .
وذكروا
قصة الرجل النصراني الذي كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد نصرانيًا
فلما مات ودفن لفظته الأرض وهذا خرج كما في صحيح مسلم فارًا حتى لحق بأهل الكتاب .
فتح الباري ( 6/723 ) .
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم