القائمة الرئيسية

الصفحات



المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي

 



 

المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي (1-2)

 

د. عبدالله بن ناصر السلمي

أضيف فى 1431/05/04 الموافق 2010/04/18 - 12:00 ص

 

 

 

 

 

المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي[1]

 

لفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي[2]

 

المقدمة:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:

 

فإن من أعظم سمات الخير في المجتمع هو أداء الحقوق والواجبات، والإنسان مدني بالطبع، ولا يمكن أن ينفك عن العلاقات الإنسانية، ومن هنا فإن من أهم واجبات تلك العلاقة بين الناس في مجتمعاتهم هو حسن التعامل، والوفاء، وعدم المماطلة في الحقوق والاستيفاء، وإذا كان من المستقر لدى المطلعين في الشريعة الإسلامية أن حقوق العباد مبناها على المشاحة، وحقوق الله مبناها على المسامحة، فلا غرو إذا أن نجد النصوص الشرعية، والآثار السنية، تؤكد على هذا الأمر وتهتم به أيما اهتمام، فتعِالج هذه القضية قبل حصولها وبعد حصولها، للعلم بأن مشكلة المطل في الوفاء بالحقوق من أعظم الأضرار على المجتمعات الإنسانية، فلا يكاد يوجد المطل في أداء الحقوق والواجبات في مجتمع إلا وتكثر الحيل، ويفشو الخداع والمكر ويتفاقم المين والكذب كما قال - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: « إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف »[3]  [4].

 

ولا يمكن أن يتوصل إلى الحلول الناجعة، والتنظيمات الرادعة، قبل معرفة أسباب المطل ومظاهره، وصوره في أداء الحقوق، فهذا هو هدف الدراسة في هذا الموضوع.

 

أولا: أسباب اختيار الموضوع:

 

1 - هو انتشار ظاهرة المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق لدرجة أنك لا تكاد تجد إلا القلة من الناس الذين يقومون بإقراض الناس القرض الحسن لأنهم مع إحسانهم للغير، لا يستطيعون رد حقوقهم إلا بالمشقة والعنت.

 

2 - الإحصاءات الرسمية في كثرة الشيكات المرتجعة، والتي لا يوجد لها رصيد لأداء الحقوق، يظهر مدى كثرة المماطلات، وضرورة الاهتمام بمعالجة هذه القضية الخطيرة، بمعرفة أسبابها ومظاهرها وصورها وأضرارها.

 

3 - تهاون بعض الناس بسرعة أداء الحقوق، واستثمار أموال الغير مع مطالبتهم بها، يعد من أكل أموال الناس بالباطل، لذا كان من الواجب بيان حكم الشريعة الإسلامية في مثل هؤلاء.

 

ثانيا: خطة البحث:

 

جعلت البحث مشتملا على مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.

 

أولا: المقدمة وتشمل على أهمية الموضوع وأسباب اختياره، ومفردات البحث.

 

ثانيا: التمهيد، وفيه ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح.

 

المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح.

 

المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة.

 

ثالثا: المباحث:

 

المبحث الأول: وجوب إبراء الذمة من الحقوق، وتحته ثلاثة مطالب:

 

المطب الأول: أهمية إبراء الذمم.

 

المطلب الثاني: أنوع الحقوق.

 

المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها.

 

المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليها، وتحته مطلبان:

 

المطلب الأول. مظاهر المماطلة والتسويف.

 

المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة، وتحته فرعان:

 

الفرع الأول: الضرر المادي.

 

الفرع الثاني: الضرر الأدبي.

 

المبحث الثالث، أنواع المطل، وتحته ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول: مطل المدين المعسر.

 

المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور.

 

المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر.

 

المبحث الرابع، أسباب المطل، وتحته أربعة مطالب.

 

المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق.

 

المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق.

 

المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما.

 

المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق.

 

رابعا: الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.

 

التمهيد وفيه ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح:

 

المماطلة لغة: من المطل، وهو كما يقول الأزهري: هو إطالة المدافعة وكل مضروب طولا من حديد وغيره فهو ممطول[5].

 

والمطل أصل يدل على مد الشيء وإطالته كما يقول ابن فارس[6].

 

وهو مشتق من مطلت الحديدة إذا ضربتها ومددتها لتطول.

 

ومنه يقال: مطله بدينه مطلا، وماطله مماطلة: إذا سوفه بوعد الوفاء مرة بعد أخرى[7].

 

وفي الاصطلاح الفقهي: فقد حكى النووي، وملا علي القاري أن المطل شرعا: منع قضاء ما استحق أداؤه وزاد القرطبي قيدا فقال: "عدم قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه"[8].

 

وقال الحافظ ابن حجر: ويدخل في المطل كل من لزمه حق، كالزوج لزوجته والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس[9]

 

وعلى هذا فلا تعتبر المدافعة والتسويف في قضاء الدين مطلا إذا كان الدين مؤجلا في الذمة؛ لأن الدائن لما رضي بتأجيل دينه، فقد أسقط حقه في التعجيل، ولم يعد له قبل المدين حق في استيفائه قبل حلول الأجل، ومن ثم فلا يعتبر الممتنع عن الوفاء في هذه الحالة مماطلا، بل متمسكا بحق شرعي[10].

 

وقد أوضح الباجي هذا المعنى بقوله: "المطل: هو منع قضاء ما استحق عليه قضاؤه فلا يكون منع ما لم يحل أجله من الديون مطلا، وإنما يكون مطلا بعد حلول أجله، وتأخير ما بيع على النقد عن الوقت المعتاد في ذلك على وجه ما جرت عليه عامة الناس من القضاء"[11].

 

ولا يعتبر مماطلا أيضا من امتنع عن الوفاء لأجل عذر طرأ عليه مثل العجز المالي أو نقص في السيولة، وقد صالح الدائن ببعض ما له عليه من الحق بأشياء عينية من عقار أو سلع ونحوه. لأنه ربما يحصل كساد لبعض السلع، فلا يمكن بيعها، وليس عنده من المال ما يوفي به الدين الذي عليه، فالدائن إما أن يصبر وإما أن يعتاض عن دينه بهذه الأشياء العينية التي يمتلكها المدين.

 

مسألة: وهل يتصف بالمطل، من ليس القدر الذي استحق عليه حاضرا عنده، لكنه قادر على تحصليه بالتكسب والعمل والتجارة مثلا؟

 

اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال.

 

- قول بعدم الوجوب وهو إطلاق أكثر فقهاء الشافعية.

 

- وقول بالوجوب مطلقا.

 

- وقول بالتفصيل بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب، وإلا فلا. وقال جمال الدين الإسنوي، وهو واضح؛ لأن التوبة فيما فعله واجبة وهي متوقفة في حقوق الآدميين على الرد، وقال العراقي: "ولو قيل: بوجوب التكسب مطلقا لم يبعد، كالتكسب لنفقة الزوجة والقريب، وكما أن القدرة على الكسب كالمال في منع أخذ الزكاة"[12].

 

وعلى هذا التفصيل فإذا وجب عليه نفقة زوجته أو ولده وليس عنده القدر الكافي لنفقتهم لكنه قادر على العمل والوظيفة فيجب، وإلا فلا. لأن نفقة الزوجة والأبناء الصغار واجبة. والله أعلم.

 

المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح:

 

الحق في اللغة خلاف الباطل، وهو مصدر حق الشيء، يحق إذا ثبت ووجب[13] ويطلق على العدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت والصدق[14]، ويقال: حق الله الأمر: إذا أثبته وأوجبه[15]

 

وعرفه الجرجاني بقوله: "هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره"[16] والحق اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.

 

أما في الاصطلاح، فقد عرفه عبد العزيز البخاري صاحب كشف الأسرار بأنه: "الموجود من كل وجه الذي لا ريب في وجوده"[17].

 

وعرفه الأستاذ السنهوري بأنه: مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون[18] أما الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا فقد قال: لم أر للحق بمفهومه العام تعريفا صحيحا جامعا لأنواعه كلها لدى فقهاء الشريعة أو القانون، ثم عرفه بأنه: اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا[19]. وذلك كحق الولي في التصرف على من تحت ولايته، فإنه سلطة لشخص على شيء.

 

والمراد بالاختصاص: علاقة تشمل الحق الذي موضوعه مالي، كاستحقاق الدين في الذمة بأي سبب كان، والذي موضوعه ممارسة سلطة شخصية كممارسة الولي ولايته، والوكيل وكالته.

 

وهذه العلاقة لكي تكون حقا يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة، إذ لا معنى للحق إلا عندما يتصور فيه ميزة ممنوحة لصاحبه، وممنوعة عن غيره. أما ما كان من قبيل الإباحات العامة، كالاصطياد، والاحتطاب فلا تعتبر حقا بالمعنى المراد هنا، إذ لا يوجد شخص مطالب بأداء هذا الحق لصاحبه.

 

ثم إن هذا الاختصاص لا يكون معتبرا ما لم يعتبره الشرع، ولذا اشترط إقرار الشرع له، إذ لا حق إلا ما اعتبره الشرع حقا.

 

والمراد بالسلطة: ما يشمل سلطة شخص على شخص كحق الولاية على النفس فهي للولي على القاصر، إذ له حق تأديبه وتطبيبه، والسلطة على شيء معين كحق الملكية، فهي سلطة على ذات الشيء.

 

والمراد بالتكليف: تكليف الغير بأداء ما في عهدته لصاحب الحق، كقيام الأجير بعمله، وقيام المدين بأداء دينه[20].

 

وما ذكره فضيلة الشيخ الزرقا في تعريفه وجيه وجامع، غير أن الفقهاء المتقدمين - رحمهم الله - لم يلتزموا في تعاريفهم ما التزمه المناطقة والأصوليون ومتأخرو الفقهاء بأن التعريف لا بد وأن يكون جامعا مانعا؛ لأن أكثر تعاريفهم إنما هو تعريف شمولي في الجملة وهو ما يعرف عند المناطقة بالتعريف بالرسم ولهذا نجد أن الفقهاء - رحمهم الله - يستعملون الحق بمعان عديدة، ومواضع مختلفة، وكلها ترجع إلى المعاني اللغوية للحق.

 

أ - فقد استعملوه بمعنى عام يشمل كل ما يثبت للشخص من ميزات، سواء أكان الثابت شيئا ماليا أو غير مالي.

 

ب - كما استعملوه في مقابل الأعيان والمنافع المملوكة، بمعنى المصالح الاعتبارية الشرعية التي لا وجود لها إلا باعتبار الشارع، كحق الشفعة وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية.

 

ج - كما أنهم يلاحظون أحيانا المعنى اللغوي فقط في الاستعمال كما في قولهم حقوق الدار، أي مرافقها كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل ونحو ذلك؛ لأنها ثابتة للدار ولازمة لها، ويقولون حقوق العقد، ويقصدون بذلك ما يتبع العقد من التزامات ومطالبات تتصل بتنفيذ حكمه، فعقد البيع مثلا حكمه نقل ملكية المبيع، وحقوقه: تسليم المبيع ودفع الثمن.

 

المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة:

 

إن من أعظم أسباب الغنى، وأهم وسائل السعادة الاعتدال في تدبير المال والاقتصاد في النفقة، وذلك لأن الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، كان الإسراف في الإنفاق والتبذير في المال داعية للفقر، وسببا لتحمل الديون والالتزامات المالية، وهو أشد أنواع الفقر، فالدين هم بالليل، وذل بالنهار، وهو يحمل المدين على انتحال الأسباب الكاذبة،

 

واختلاق المعاذير الواهية وخلف المواعيد المحترمة، وعدم الوفاء بالواجب، فيجعل الآمن خائفا والمطمئن مضطربا، والصادق كاذبا، وكم تورطت أنفس بالديون فأصابها الفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، والضعف بعد القوة وأصبحت تئن تحت أعباء الديون أنين الثكلى[21] ولقد تساهل كثير من الناس في الديون حتى أصبحت ذمم كثير منهم مشغولة منهكة وإذا نظرنا وسبرنا أسباب شيوع الاستدانة نجد أنها أسباب كثيرة لا تقتصر على شيء واحد، ولعل من أهمها:

 

أولا: التوسع في الشهوات، والترف البالغ، والتنعم الزائد، وحب الظهور الكاذب، واستهواء المظاهر الباطلة، ومجاراة المدنية المسرفة، فكل هذا أدى بالبعض لمجاراة هذه المظاهر إلى الاستدانة وإظهار خلاف الواقع، كي يظهر بالمظهر الكاذب من التنعم والترف.

 

ثانيا: تحكم العادات القبيحة في الأفراح والحفلات والمناسبات والتشبه بالأغنياء في أساليب معيشتهم ومناسباتهم، فبسبب هذه العادات جعلت محدودي الدخل، ينافس هؤلاء، فيستدين للإسراف غير العقلاني في الإنفاق البذخي، والمجاراة غير المحدودة مغترا براتبه الشهري، ومكتفيا بما تحققه له اللحظة الحاضرة دون النظر إلى المستقبل، وما يحمل وراءه من أثقال الدين، وأحماله.

 

ثالثا: ومن أسباب الاستدانة، أن يقوم التاجر بدراسة مشروع استثماري، يستغرق مالا كثيرا، والجدوى الاقتصادية لهذا المشروع ناجحة، فيستدين لإتمام هذا المشروع، ويغطى الدين الذي عليه من أرباح هذا المشروع.

 

رابعا: ومن الأسباب أيضا العمل غير المشروع المقتضي لثبوت الدين على الفاعل، كالقتل العمد الذي عفا أولياء المقتول عن القصاص إلى الدين، أو كالجنايات الموجبة للأرش، وإتلاف مال الغير، وكتعدي يد الأمانة، أو تفريطها في المحافظة على ما كانت بيده - فكل هذه الأعمال غير المأذون فيها يترتب عليها أموال والتزامات للغير[22]، فربما لا يكون عنده من المال ما يقضي به لأصحاب الحقوق حقوقهم فيضطر للاستدانة.

 

خامسا: ومن الأسباب هلاك المال في يد الحائز إذا كانت يد ضمان مهما كان سبب الهلاك، كهلاك الشيء في يد الأجير المشترك فهلاك السيارات عند أصحاب الورش مثلا وتعرضها لحريق يجعل أصحاب المحلات مسؤولين مسؤولية تامة لأنهم أجراء مشتركون والأجير المشترك يضمن سواء تعدى أو لم يتعد[23] فيضطر أصحاب المؤسسات للاستدانة لتسديد الأموال التي يطالب بها أصحاب السيارات مثلا.

 

سادسا: ومن الأسباب أيضا، أن المرء قد يكون قليل ذات اليد وعنده زوجة لا يستطيع الإنفاق عليها، مع العلم بأن نفقة الزوجة واجبة سواء أكان الزوج موسرا أم معسرا، فإن كان الزوج حاضرا وله مال، أنفق من ماله جبرا عنه، وإن كان معسرا، فإن فقهاء الحنفية يرون أن القاضي يفرض لها النفقة، ثم يأمرها بالاستدانة عليه، فإن لم تجد من تستدين منه، أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوجة، أما إن كان غائبا، وليس له مال حاضر، فإنه لا تفرض لها نفقة عليه، خلافا لزفر من الحنفية، علما بأن قوله هو المفتى به عند الحنفية.

 

ومذهب الشافعية والحنابلة قريب من ذلك حيث يرون أنه يجب عليه أن يستدين لها، ولها أن تستدين، ولو بغير إذن، وترجع عليه بما استدانت.

 

وبهذا الوجوب تجعل كثيرا من المعدمين يستدينون لأجل إطعام من تحت أيديهم.

 

المبحث الأول، وجوب إبراء الذمم من الحقوق وتحته ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول: أهمية إبراء الذمم من الحقوق

 

حقوق العباد مبناها على المشاحة، فلا يجوز إسقاط حق الغير بغير إذنه ولا يجوز أخذ ماله من غير رضاه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس»[24]

 

ولقد حرص الإسلام بتعاليمه وتوجيهاته أن لا تكون ذمة المرء مشغولة بحقوق العباد ومظالمهم، فحذر ورغب، ووعد وتوعد، تارة بالتهديد والتخويف، وتارة بالترغيب والتحفيز، كي يلقى المرء ربه، وليس أحد يطلبه في مظلمة في عرض ولا مال.

 

ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه»[25]  [26] وفي هذا الحديث العظيم دلالة ظاهرة على وجوب التخلص من حقوق العباد في الدنيا، وطلب التحلل والسماح منهم، قبل أن يأتي يوم القيامة، ولا ينفع بعد ذلك دينار ولا درهم، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[27] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[28] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}[29] {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}[30].

 

والمصيبة والفضيحة يوم أن لا يكون عند المرء حسنات يقتص بها منه لصاحبه، فحينئذ يؤخذ من سيئات صاحبه فتطرح عليه ثم يلقى في النار. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغبة أخذ أموال الناس بأي وسيلة كانت وهو ينوي عدم إرجاعها إلى أصحابها، سواء كانت باسم البيع أو الإجارة أو القرض أو الوديعة، بأن مآله الخسران في الدنيا، والعذاب الشديد ينتظره في الآخرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله»[31].

 

فمن كانت نيته الوفاء بالديون التي عليه وهو قادر على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يعينه على ذلك، ولو مات أدى الله عنه ذلك لما يعلم سبحانه من عبده الصدق في الوفاء.

 

وهل إذا أخذها، وهو يعلم من نفسه العجز عن الوفاء، يكون كمن أخذها يريد أداءها أم يريد إتلافها؟

 

ذكر ابن المنير أن الأخذ مقيد بالعلم بالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز، فقد أخذ لا يريد الوفاء، إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.

 

وقد تعقب الحافظ ابن حجر فهم ابن المنير هذا وقال: وفيه نظر؛ لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه، فقد نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال، فهناك مرتبة ثالثة، وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز[32]

 

أما من كانت نيته المماطلة والجحود وعدم الوفاء - كما هو عمل بعض المسلمين اليوم والله المستعان - فقد قصد إتلاف حق الدائن، ومن أراد إتلاف حق الدائن أتلفه الله سبحانه وتعالى، والويل لمن يكون الله تعالى خصمه، وظاهر الحديث أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه كما قال الحافظ ابن حجر ثم قال: وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين[33].

 

وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة، غير أن إطلاق الحديث يفيد العموم والله أعلم.

 

وفي هذا الحديث الشريف الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل، كما قال ابن بطال - رحمه الله -[34].

 

وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم التسارع إلى أخذ أموال الناس حتى لا يبقى المسلم مدينا، وحذر من مغبة الدين، فمن تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: أنه «كان عليه الصلاة والسلام إذا مات الميت وأتي به للصلاة عليه سأل عليه الصلاة والسلام هل عليه دين، فإن قيل نعم قال: فهل ترك شيئا، فإن قالوا: ترك صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم»[35]

 

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة" [36].

 

وكأن الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -[37].

 

وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه الصلاة والسلام أو جائزة؟ فيه وجهان عند أهل العلم رجح النووي - رحمه الله - الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم" ا. هـ[38].

 

ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بترك الصلاة على المدين، ليبين خطورة بقاء أموال الناس في ذممهم، ووجوب المسارعة بإبراء الذمم من حقوق العباد، بل أخبر عليه الصلاة والسلام «أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»[39].

 

ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - «معلقة بدينه»[40] أي محبوسة عن

 

مقامها الكريم وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة، ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا[41].

 

وظاهر الحديث على عمومه سواء ترك الميت وفاء أم لا، وهذا ما عليه أكثر الشافعية.

 

وقال الشوكاني - رحمه الله -: "وفي الحديث الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه..."[42].

 

ولقد كان السلف الصالح يحرصون على أداء ديون موتاهم لعلمهم الأكيد أن الميت محبوس بدينه، قال معمر بن راشد - رحمه الله - قيل لابن طاوس بن كيسان التابعي المشهور في دين أبيه: لو استنظرت الغرماء قال: أستنظرهم، وأبو عبد الرحمن - يعني أباه طاوسا - عن منزله محبوس!: قال: فباع مال ثمنه ألف بخمسمائة"[43] استعجالا لتسديد الدين فرحمهم الله رحمة واسعة.

 

فإذا كان الدين بهذه المثابة من التغليظ والتشديد والوعيد، فلماذا إذن يتساهل الكثير بأمره، ولم يقدروه حق قدره، حتى أصبح غالب الناس إما مدينا يطالبه غرماؤه، وإما منتظرا حلول أقساطه التي عليه، وإذا كان من أعظم القربات وأجل الطاعات هو إراقة الدماء في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبذل النفس في الجهاد في سبيله تعالى وقد جاء في فضله وفضل المجاهد في سبيله من الفضائل والمكرمات، والشرف في القرب عند الرحمن ما جاء.

 

ومع ذلك كله فإن حقوق العباد تقف حاجزا منيعا دون نيل هذه المكرمات والفضائل، « فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت: قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك »[44] رواه مسلم[45]. فانظر رحمك الله فضل المجاهد في سبيل الله وأنه إن قتل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر فإن خطاياه كلها مكفرة، وذنوبه مغفورة، وسيئاته معفوة، ومعايبه مستورة، إلا الدين، فهذا يدل على عظم حقوق الآدميين ولهذا قال النووي - رحمه الله - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى ا. هـ[46] فإذا كان كبار الصحابة الذين شهدوا بدرا وأحدا والخندق وغيرها من الغزوات العظيمة الذين شهد بصدقهم الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة يخاطبون بذلك، ويطبق عليهم هذا الحكم، فما ظنك بغيرهم الذين هم أقل منهم في المنزلة، والعبادة والتقوى، فالبدار البدار والنجاة النجاة فلقد نزل من السماء تشديد ووعيد في الدين وحقوق الآدميين جعلت الحبيب عليه الصلاة والسلام يتعجب منه فهذا محمد بن جحش الصحابي رضي الله عنه يقول: «كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه»[47].

 

وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أعظم الذنوب بعد الكبائر أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء»[48].

 

فالسعيد كل السعادة من لقي ربه وليس أحد من العباد يطلبه بمظلمة في عرض ولا مال، فلا يحجب عن خير له، ولا يحبس بسبب دين عليه.

 

المطلب الثاني: أنوع الحقوق:

 

الحق له أنواع وتقسيمات باعتبارات عدة ومختلفة..

 

ومرجع هذه التقسيمات، إما بالنظر إلى صاحب الحق، أو بالنظر إلى من عليه الحق، أو بالنظر إلى الشيء المستحق، أو بالنظر إلى ما يتعلق به الحق.[49]

 

والذي يهمنا في هذا البحث هو تقسيمه باعتبارين اثنين:

 

أولا: باعتبار المستحق أو باعتبار عموم النفع وخصوصه يقسم الحق بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام:

 

القسم الأول: حق خالص لله تعالى، وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم، فلا يختص به أحد، وإنما هو عائد على مجموع الأفراد والجماعات وشرع حكمه للمصلحة العامة، وإنما نسب إلى الله تعظيما لشأنه، أو لئلا يتجرأ أحد على دعوى اختصاصه به وقدرته على إسقاطه عن نفسه أو عن غيره، وإلا فالله الغني عن كل شيء؛ لأن الله تعالى وتقدس أن ينتفع بشيء، فلا يجوز أن يكون شيء حقا له بهذا الوجه.

 

وهذا القسم تحته أنواع ثمانية[50]:

 

1 - العبادات المحضة (الخالصة): كالصلاة والصيام، والزكاة، والحج وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، وهذه العبادات فرض على المكلف الإتيان بها، وفي ترك بعضها ترك للإيمان والإسلام كما في ترك الإيمان أو الإسلام، أو في ترك الصلاة على الخلاف فيه عند الفقهاء. وهذه العبادات فيها مصلحة للعباد والبلاد، إذ بها قيام الدين، وهو ضروري لقيام المجتمع على أسس سليمة ونظم فاضلة.

 

2 - العبادات التي فيها معنى المؤونة مثل صدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله تعالى بالصدقة على الفقراء والمساكين، وهي طهرة للصائم يشترط في صحة أدائها النية، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى التحمل عن الغير؛ لأنها وجبت على الإنسان بسبب نفسه وبسبب غيره، وهم الأشخاص الذين يمونهم ويلي عليهم، ولكونها وجبت على المخرج بسبب الغير لم تكن عبادة خالصة، وإنما كان فيها معنى المؤونة؛ لأن العبادة المحضة (الخالصة) لا تجب بسبب الغير.

 

3 - مؤونة فيها معنى العبادة، وهي العشر: وهو ما يؤخذ مما تخرجه الأرض العشرية المملوكة لمسلم، كزكاة الزروع والثمار المقدرة بالعشر، أو نصف العشر حسب شروطها، وإنما كانت مؤونة؛ لأنها وظيفة مقدرة شرعا على نماء الأرض من الزروع والثمار، وتجب بسبب ما يخرج منها، اعترافا بفضل الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو المنبت والرزاق ووجه العبادة فيها لأمور منها:

 

أ - أنها وجبت ابتداء على المسلم فقط، ولم تجب ابتداء على غير المسلم من الزراع، والعبادة لا يكلف بها غير المسلم.

 

ب - أنها تعطى لفئات معينة ممن تستحق الأخذ من الزكوات.

 

4 - مؤونة فيها معنى العقوبة، مثل الخراج على الأرض الزراعية ووجه المؤونة، فلتعلق بقاء الأرض لأهل الإسلام بالمقاتلين الذين هم مصارف الخراج. ووجه العقوبة أنه فرض بسبب بقاء أهل الأرض على

 

غير الإسلام، ففرضت الجزية على رقابهم، والخراج على أرضهم.

 

5 - عقوبات كاملة، وهي كحد الزنى، وحد السرقة وحد شرب الخمر ونحو ذلك، وكونها عقوبة ظاهر، وأما تسميتها كاملة، فلأنها كانت على جنايات كاملة، والمراد بالجناية الكاملة، ما لا يشوبها معنى الإباحة، فإنها لا تحل بحال، ولأن المقصود بالجزاء حماية المجتمع كله من هذه الجرائم، فكانت حقا خالصا لله لا يملك أحد إسقاطه.

 

6 - عقوبات قاصرة: مثل حرمان القاتل من الإرث ومن الوصية وسميت قاصرة؛ لأنها عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني أو غرم مالي، وهو حق لله؛ لأن المقتول لا ينتفع بهذا الحرمان.

 

7 - عقوبات فيها معنى العبادة: وهي الكفارات ككفارة اليمين، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، عمدا بلا عذر، وكفارة القتل والظهار، ووجه العقوبة فيها أنها وجبت جزاء على معصية لتسترها، ووجبت في مقابل أفعال محظورة في الأصل، ووجه العبادة فيها هو أن فعل الكفارة يكون بعبادة كالصوم في كفارة الظهار والقتل واليمين أو الإعتاق أو الصدقة.

 

8 - حق قائم بذاته، وهو الحق الذي ثبت لله تعالى ابتداء من غير أن يتعلق بذمة إنسان يؤديه، كخمس الغنائم، وزكاة المعادن، والكنوز التي توجد في باطن الأرض.

 

القسم الثاني: حق خالص للعباد:

 

والمراد به ما تعلقت به مصالح العباد، وصح إسقاطه من قبلهم[51].

 

وهو ما يكون نفعه مختصا بشخص معين، مثل الحقوق المالية للأشخاص، أو المتعلقة بالمال، كحق الدية، وحق استيفاء الدين، وحق استرداد المغصوب إن كان موجودا، أو حق استرداد مثله أو قيمته إن كان المغصوب هالكا وحبس العين المرهونة وغير ذلك.

 

ومما ينبغي التنبيه عليه ما ذكره الإمام القرافي بقوله: "ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه، فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى" ا. هـ[52].

 

فجعل هذا الشيء حقا للعبد إنما هو من قبل الله تعالى، وإيصال الحق إلى صاحبه طاعة لله، وطاعة الله حق لله على العباد[53]، وهذا ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الأنظمة الوضعية، فالأنظمة الوضعية يطبقها المكلفون خوفا من عقوبة السلطة، فإذا أمنوا من رقابتها لم يردعهم شيء، وأما الشريعة الإسلامية فإن المسلم يتقيد بأحكامها بوازع من داخله، وهو خشيته من الله تعالى ومراقبته له، سواء اطلع عليه الخلق أم لم يطلعوا[54]

 

القسم الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق الله هو الغالب، مثل حد القذف بعد تبليغ المقذوف، وثبوت الحد على القاذف وإلا فقبل رفع الأمر للحاكم وتبليغه بالقذف هو حق خالص للعبد، ولذلك يملك التبليغ عنه ويملك عدم التبليغ[55].

 

ووجه كونه فيه حق لله، فلأن في إقامته صيانة لأعراض الناس ومنعا للخصومات بينهم، وهذا يحقق مصلحة عامة، فكان حقا لله، وأما أن فيه حقا للعبد، فلأنه يدفع العار عن المقذوف، ويظهر براءته، وكذب المفتري عليه، وهذه مصلحة خاصة.

 

وكون حق الله تعالى غالبا فلأمور منها:

 

أ - تداخل العقوبة فيه، بمعنى أنه لو قذف جماعة بكلمة أو كلمات متفرقة، لا يقام عليه إلا حد واحد فقط.

 

ب - ولأن القصاص في حقوق العباد مبني على المماثلة، ولا مماثلة القذف بالزنا والجلد.

 

ج - ولأن استيفاءه يكون بواسطة السلطان، وليس كذلك شأن حقوق العباد[56].

 

القسم الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العباد فيه غالب: مثل القصاص في القتل العمد، فإن القصاص فيه حياة للناس وتأمين لهم على

 

أنفسهم كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[57]. وهذه مصلحة عامة، فكانت حقا لله تعالى، ومن جهة أخرى فإن فيه حقا للعباد من جهة أن القصاص شفاء لصدور أولياء المقتول وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل، وهذه مصلحة خاصة للعبد.

 

ويرى الفقهاء - رحمهم الله - أن في جواز عفو ولي الدم عن القصاص والتنازل عنه إلى الدية أم إلى غير مال، دلالة على أن حق العبد في هذا غالب[58].

 

ثانيا: تقسيم الحق باعتبار متعلق الحق.

 

ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى قسمين: مالي وغير مالي.

 

أولا: الحق المالي: وهو ما كان متعلقا بالمال، كملكية الأعيان، أو الديون أو المنافع.

 

وهذا القسم يتنوع إلى نوعين:

 

النوع الأول: الحق العيني:

 

وهو علاقة حقوقية بين شخص وشيء مادي معين بذاته تخوله سلطة مباشرة عليه[59] وذلك كحق الملكية، فإنه سلطة قانونية مباشرة لصاحبه المالك على الشيء المملوك. وهذا الحق لا يحتاج وجوده إلى شخص آخر غير صاحبه، فليس في الحق العيني سوى أمرين هما صاحبه ومحله.

 

النوع الثاني: الحق الشخصي:

 

وهو مطلب يقره الشرع لشخص على آخر، وهو كل علاقة شرعية بين شخصين يكون أحدهما فيها مكلفا تجاه الآخر على أن يقوم بعمل فيه مصلحة ذات قيمة للآخر، أو أن يمتنع عن عمل مناف لمصلحته، ويقابل هذا الحق التزام من الآخر بأداء هذا الحق. وهذا الحق يتنوع فتارة يقتضي القيام بفعل، وتارة يقتضي امتناعا عن فعل.

 

فمثال الأول: حق المشتري في تسليم المبيع، والتزام القاتل بدفعها[60].

 

ومثال الثاني: حق المودع على المستودع في أن يمتنع عن استعمال الوديعة.

 

ثانيا: الحق غير المالي:

 

وهذا الحق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

 

أ - حق غير مالي، يتعلق بالأموال، ولكن لا يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل الشفعة حيث إن حق الشفعة قبل بيع الشريك، حق مجرد، وبعد البيع حق ثابت، وهو حق ضعيف لا يصح الاستعاضة عنه بمال؛ لأنه شرع لدفع الضرر[61] إلا أن الشفعة حق يتعلق بالعقار وهو مال بالإجماع.

 

ب - حق غير مالي، لا يتعلق بالأموال، ولكن يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل القصاص؛ لأنه حق غر مالي، ولا يتعلق بالأموال؛ لأنه عقوبة القتل العمد، وهذا ليس مالا، ولكن يجوز الاستعاضة عن القصاص بمال، وذلك عند الصلح على مال[62].

 

ج - حق غير مالي، ولا يتعلق بالأموال، ولا يجوز الاستعاضة عنه بمال، ولكن قد يترتب عليه حقوق مالية مثل الأبوة والأمومة والبنوة، وحق الولي في التعرف على الصغير.

 

المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها:

 

التوثيق له عدة معان لا تكاد تخرج عن معنيين:

 

الأول: الإحكام، والتقوية: يقال: وثق الشيء إذا أحكم ويقال: وثق الأمر توثيقا: أحكمه وقواه، فهو وثيق أي ثابت محكم[63].

 

الثاني: الشد والربط والإلزام: فالتوثيق مصدر وثق الشيء إذا شده وربطه لأنها تربط المتعاقدين، أو من ألزم نفسه ما يلزمه ومنه سمي الحبل والقيد وثاقا[64].

 

وأما في الاصطلاح الفقهي: فقد ذكر الإمام الكيا الهراسي في كتابه

 

"أحكام القرآن" أن معنى الوثيقة في الديون "ما يزداد بها الدين وكادة"[65].

 

أما التوثيق فهو أعم وهو علم فيه عن كيفية إثبات العقود والتصرفات وغيرها على وجه يصح الاحتجاج والتمسك به، واستيفاء الحق منه[66]. التعريف عام يشمل استعمالات الفقهاء لمصطلح توثيق الدين الذي لا يخرج عن أمرين:

 

الأول: تقوية وتأكيد حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال، بشيء يعتمد عليه، كالكتابة أو الشهادة - لمنع المدين من الإنكار وتذكيره عند النسيان، أو لدفع دعاواه بأن الدين أقل من المطلوب أو دعوى الدائن بأن الدين أكثر منه، أو لدفع دعوى عدم حلول الأجل إن كان تم أجل، ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتعاملين فيعتبر هذا الكتاب أو الشهادة وثيقة ووسيلة يحتج بها لإثبات الدين المتنازع فيه أمام القضاء[67].

 

الثاني: تأمين حق الدائن، والتمكين من استيفائه عند امتناع المدين عن الوفاء - لأي سبب من الأسباب، مثل الرهن أو الكفيل ونحو ذلك من عقود التوثيقات.[68]

 

ومن هنا نلاحظ أن ثمة توافقا بين مفهوم "إثبات الدين" وبين مفهوم "توثيق الدين"؛ لأن الإثبات والتوثيق كلاهما يهدفان إلى غاية واحدة وهي حماية الحقوق ومنع التلاعب بها، والقضاء بها لأصحابها وقطع دابر المنازعة والخصومة بين الناس، مع أن التوثيق يعتبر مقدما للإثبات حيث إنه يوجد عند إنشاء التصرف المقتضي ثبوت الدين في الذمة، فهو يسبق الإثبات، وكذلك فإن توثيق الدين بالطرق التي تقويه، وتؤكده يمثل بعض وسائل الإثبات، كالكتابة والشهادة، لا كلها، حيث إن وسائل الإثبات وطرق الإثبات كثيرة تعتبر حججا معتبرة تحكم بموجبها في القضاء، وإن كانت ليست توثقه[69].

 

وللتوثيق أهمية كبيرة في تنظيم سير المعاملات، وجعلها على أساس مكين، وركن ركين من الاطمئنان والراحة حين التعامل بين الأطراف وتظهر أهميته في أمور أهمها:

 

أولا: إن التوثيق يعد ذا أهمية بالغة لكشف نوايا المتعاقدين لأنه لا يقوم - غالبا - من أراد التلاعب، وجحد حقوق الآخرين، لتوثيق الحق الذي عليه، فإثبات التصرفات والعقود والوثائق والحقوق، والتصديق على التصرفات النظامية الواردة فيها، والحكم بصحتها ولزومها، يكفل تحقيق الطمأنينة التامة على الحقوق، واستقرار المعاملات، وإغلاق أبواب

 

الحيل والتحايل، والشر والمنازعات.

 

ثانيا: إن في التوثيق صيانة للأموال من أن تكون عرضة للضياع بإنكارها، وعدم التمكن من إثباتها.

 

فوجود الوثائق الكتابية مثلا وتصديقها أوكد وأضمن في صيانة الأموال ولا يغني الشهود عن الوثيقة الكتابية؛ لأنه وإن كان الشهود يثبتون الحقوق، ويلزمون بالحكم بهم، إلا أنهم عرضة لأن يموتوا، أو يوجد لديهم ما يمنعهم من الحضور أمام القضاء لأداء الشهادة وقد يرد القاضي شهادتهم لقصور فيها أو لطروء الفسق عليهم، وقد ينسون أو يخافون من عقاب، أو يرغبون في مال، وغير ذلك من الصوارف التي تصرف الشهود على الإدلاء بشهادتهم.

 

ثالثا: إن في التوثيق قطع المنازعة بين المتعاملين ذلك أن الزمن كفيل بنسيان أحد الأطراف مقدار الأصل أو مقدار الثمن، أو غير ذلك من الشروط، فيكون إنكاره على بعض الحق لا جحودا، ولكن نسيانا، فيكون ذلك موجبا للنزاع ووجود التوثيق يمنع كل ذلك غالبا؛ لأنهما يرجعان إليه، فيعرفان الحق من الباطل قال ابن العربي في حكمة مشروعية كتابة الدين قال: ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل فالنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ، فيشرع الكتاب الإشهاد.

 

رابعا: إن في التوثيق تحرزا من بطلان العقود وفسادها. فإذا كتبا بما

 

تعاقدا عليه، ووثق ذلك من قبل كاتب العدل مثلا أو عند عارف بأصول المعاملات وبالقواعد الشرعية؛ لأن الفقيه يعلم بما يلزم من الشروط في التوثيق، وأدرى بما يجب ذكره، وما يجب تركه، وقد لا يهتدي المتعاقدان إلى الأسباب المفسدة للعقود، فإذا لم يكتبا ذلك عند عارف بالشروط المفسدة للعقود والتصرفات فقد يكون ما تعاقدا عليه مشتملا على ما يفسده وهما لا يدريان فيبقى عقدهما قابلا للبطلان في المستقبل، خاصة إذا حصل بينهما اختلاف وترافعا إلى قاض للحكم بينهما.

 

خامسا: إن في التوثيق رفعا ودفعا للشك والارتياب بين المتعاملين.

 

فقد يشتبه على المتعاملين أو على ورثتهما إذا تطاول الزمان في مقدار الأجل أو الثمن أو في بعض الشروط، فقد يقعان في النزاع والمخاصمة من غير قصد لإبطال حق كل واحد منهما فإذا كان ثم توثيق للعقود، ورجعا إليه، فلا يبقى بعد ذلك شك ولا ارتياب.

 

سادسا: إن في التوثيق تأمينا لحق الدائن. فإذا توثق الدائن من حقه بكفيل أو ضمان أو رهن، ثم عجز المدين عن السداد أو ماطل أمكن استيفاء الدائن حقه من هذه الوثيقة.

 

إذا ثبت هذا فإن للتوثيق وسائل متعددة، وطرقا متفاوتة، فقد تكون بعقد - وهو ما يسمى عقود التوثيقات كالرهن والكفالة والضمان - وقد

 

يكون عقدا كالكتابة والإشهاد وحق الحبس والاحتباس، ومنه ما هو وثيقة بمال، كالرهن والمبيع في يد البائع، ومنه ما هو وثيقة بذمة كالكفالة[70].

 

وبيان ذلك فيما يلي:

 

أ - الكتابة: كتابة المعاملات التي تجري بين الناس، وسيلة قوية لتوثيقها وقد أمر الله سبحانه وتعالى بها في أطول آية في القرآن وهي آية المداينة بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}[71]، وقد وثق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة في معاملاته، فباع وكتب ومن ذلك الوثيقة التالية: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء ولا غائلة، ولا خبثة بيع المسلم المسلم.

 

وقد ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة توثيق الدين بالكتابة، وأنها بينة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النسبة إلى كاتبها.

 

قال ابن تيمية - رحمه الله -: والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف"[72].

 

وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام: "وإن قال لفلان عندي أو قبلي كذا وكذا بخط يده قضي عليه به؛ لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق".

 

وهذا القول بلا شك هو الراجح والأدلة كثيرة ومنها ما جاء في الصحيحين.

 

عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوية عند رأسه»[73].

 

وأما دعوى أن الخطوط تتشابه، وقد يعتريها التبديل والتزوير والمحاكاة وقد يكتب من غير قصد للبيع ولا مريد له، فهذا غير مسلم؛ لأن الاعتماد على الخط والكتابة إنما هو لمجرد معرفة خط كاتبه، ثم بعد ذلك يكون الخط كالعلم بنسبة قائله إليه.

 

يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يفرض من اشتباه الصور والأصوات وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته"[74].

 

وعليه فإذا كتب إقراره على الدين الذي عليه، أو قيد ذلك، بالقيود والسندات والوصولات الرسمية وغيرها، فإن ذلك يعتبر حججا معتمدة في توثيق الدين وإثباته.

 

جاء في مجلة العدلية مادة (1609): "إذا كتب أحد سندا أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعا بإمضائه أو مختوما، فإذا كان مرسوما - أي حرر موافقا للرسم والعادة - فيكون إقرارا بالكتابة، ويكون معتبرا ومرعيا كتقريره الشفاهي، والوصولات المعتاد إعطاؤها هي من هذا القبيل"[75].

 

ب - الإشهاد: إشهاد الشهود على التصرفات والعقود وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد، إذ هي إخبار لإثبات حق، أو دفع باطل ولقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهود بينة لوقوع البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: «البينة أو حد في ظهرك»[76] وقد اتفق الفقهاء على مشروعية الشهادة، وأنها مشروعة لتوثيق الدين والمعاملات[77]، وقد أوجبها الظاهرية[78]

 

لظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[79] غير أن الذي عليه عامة أهل العلم هو استحباب الشهادة لا وجوبها قال ابن العربي - رحمه الله -: "والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب"[80].

 

وقد جاء تقييد الشهادة بقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[81]..." وهم أهل العدالة والفطنة، وسبب ذلك؛ لأن الشهادة ولاية عظيمة تقتضي تنفيذ القول على الغير بدون رضاه... ولهذا وجب أن يكون لصاحبها شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها، حتى يكون له على غيره مزية توجب له رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره، والحكم بشغل ذمة المطلوب بالدين بشهادته عليه[82]. والبينات مرتبة بحسب الحقوق المشهود فيها، ويختلف عدد الشهود من حكم لآخر حسب الشهود فيه أيضا، كما هو موضح في كتب الفقه ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء حتى يحصل له به العلم، إذ لا يجوز الشهادة إلا بما علم وقطع بمعرفته لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته له مع إمكان حصول العلم فيه، وإلا فيجوز الشهادة على غلبة الظن في مسائل ذكرها العلماء وهو ما يسمى عندهم الشهادة بالاستفاضة.

 

ج - الرهن: يطلق الرهن ويراد به أحيانا العقد فيعرفونه بقولهم: "حبس شيء مالي بحق يمكن استيفاؤه منه"[83]

 

ويطلق ويراد به أحيانا المرهون، ويعرفونه بقولهم: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه[84].

 

وإذا رهن الدائن حقه، فإنه يصير أحق بالرهن من سائر الغرماء فإذا كان على الراهن ديون والتزامات مالية لا تفي بها أمواله ثم بيع الرهن لسداد ما على الراهن من ديون، كان للمرتهن الحق أولا أن يستوفي دينه من ثمنه، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء[85].

 

والرهن ثابت مشروعيته في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ففي الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[86].

 

وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه»[87].

 

وأما الإجماع فقد أجمع سائر أهل العلم على جواز توثيق الدين بالرهن[88].

 

وقد اختلف العلماء في شروط الدين الذي يصح الارتهان به على أقوال أربعة ليس هذا موطن بحثها فلتراجع في مظانها[89].

 

د - الكفالة (الضمان): كفالة الدين هي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما[90]. وكون الدائن يحق له مطالبة الكفيل بدينه مع التزام الكفيل بذلك خاصة عند تعذر استيفائه من الأصيل، فهذا يعتبر توثقة في الدين الذي له على الغير.

 

وقد جاءت مشروعية الكفالة في الكتاب والسنة والإجماع.

 

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[91].

 

وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم»[92].

 

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الكفالة في الجملة وإن اختلفوا في بعض فروعها[93].

 

هـ - حق الحبس والاحتباس، ومعناه: حق المالك بإبقاء العين المنقولة عن ملكه، لحين استيفاء حقه إذا كان الدين يتعلق به.

 

إذ إن المقصود الأعظم من التوثيق، هو صيانة الحقوق والاحتياط لها؛ لذلك كان من حق الدائن أن يتوثق لحقه بحبس ما تحت يده لاستيفاء حقه ولذلك صور فمنها:

 

1 - حق احتباس المبيع إلى قبض الثمن.

 

يقول ابن عابدين - رحمه الله -: "للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن، ولو بقي منه درهم، ولو كان المبيع شيئين بصفقة واحدة وسمى لكل ثمنا فله حبسهما إلى استيفاء الكل، ولا يسقط حق الحبس بالرهن، ولا بالكفيل، ولا بإبرائه عن بعض الثمن حتى تستوفي الباقي ".

 

2 - حق المؤجر في حبس المنافع إلى أن يتسلم الأجرة المعجلة.

 

7 - حق المستصنع في حبس العين المصنوعة بعد الفراغ من العمل حتى يستوفي حقه، إذا كان لعمله أثر.

 

المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليه وتحته مطلبان:

 

يبتع في الجزء الثاني بمشيئة الله تعالى...

 

 

 

[1]   نشر بمجلة البحوث الإسلامية العدد (79).

 

[2]   الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

 

[3]   صحيح البخاري الأذان (833)، سنن النسائي الاستعاذة (5472).

 

[4]   أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب الدعاء قبل السلام برقم 833.

 

[5]   انظر: الزاهر ص 231.

 

[6]   انظر: معجم مقاييس اللغة (5 \ 331).

 

[7]   انظر: المصباح المنير (2 \ 700) أساس البلاغة ص 432، تحرير ألفاظ التنبيه ص 101.

 

[8]   انظر: المفهم فيما أشكل على صحيح الإمام مسلم (4 \ 438).

 

[9]  فتح الباري (4 \ 466).

 

[10]   انظر: دليل الفالحين (4 \ 459)، قضايا فقهية معاصرة، د \ نزيه حماد، ص 322.

 

[11]   المنتقى شرح الموطأ للباجي (5 \ 66).

 

[12]   انظر: طرح التثريب (6 \ 261)، فتح الباري (4 \ 465).

 

[13]   انظر: لسان العرب (10 \ 49 وما بعدها).

 

[14]   انظر: القاموس المحيط (ص 1129) ولسان العرب (10 \ 50) والصحاح (4 \ 1460)

 

[15]   انظر: أساس البلاغة ص 187 والمصباح المنير (1 \ 174).

 

[16]   التعريفات للجرجاني ص 48.

 

[17]   كشف الأسرار (3 \ 134).

 

[18]   مصادر الحق في الفقه الإسلامي (1 \ 9).

 

[19]   المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي ص 11.

 

[20]   انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي (ص 11 وما بعدها).

 

[21]   انظر: مجلة الإسلام العدد (23) ص 22.

 

[22]   انظر: القوانين الفقهية لابن جزي ص: 360، والموسوعة الفقهية الكويتية 21 \ 110.

 

[23]   انظر: المغني (8 \ 103).

 

[24]   أخرجه الإمام أحمد (24 \ 241) والدارقطني في السنن (3 \ 26) والحديث حسن بشواهده راجع إرواء الغليل (5 \ 279).

 

[25]   صحيح البخاري الرقاق (6534)، مسند أحمد (2/506).

 

[26]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6534).

 

[27]   سورة المعارج الآية 11

 

[28]   سورة المعارج الآية 12

 

[29]   سورة المعارج الآية 13

 

[30]   سورة المعارج الآية 14

 

[31]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2387) وفتح الباري (5 \ 53)

 

[32]   انظر: فتح الباري (5 \ 54).

 

[33]   انظر: فتح الباري (5 \ 54)

 

[34]   انظر: فتح الباري (5 \ 54)

 

[35]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289 و 2298) ومسلم في صحيحه (3 \ 1237).

 

[36]   انظر: فتح الباري (4 \ 468).

 

[37]   انظر: شرح الإمام مسلم للنووي (11 \ 60) وفتح الباري (4 \ 478).

 

[38]   انظر: فتح الباري (4 \ 478).

 

[39]   أخرجه الترمذي في جامعه (3 \ 389) وابن ماجه في سننه (2 \ 806) وأحمد في مسنده (15 \ 425) والحديث حسن الإسناد حسنه الترمذي. وصححه يحيى بن سعيد القطان انظر التمهيد لابن عبد البر (23 \ 236).

 

[40]   سنن الترمذي الجنائز (1079)، سنن ابن ماجه الأحكام (2413)، مسند أحمد (2/507)، سنن الدارمي البيوع (2591).

 

[41]   انظر: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (4 \ 164) دار الكتب العلمية.

 

[42]   انظر: نيل الأوطار (4 \ 53) ط. دار الجيل. 1973.

 

[43]   انظر: شرح السنة للبغوي (8 \ 203)

 

[44]   صحيح مسلم الإمارة (1885)، سنن الترمذي الجهاد (1712)، سنن النسائي الجهاد (3157)، الجهاد (3158)، مسند أحمد (5/304)، موطأ مالك الجهاد (1003)، سنن الدارمي الجهاد (2412)

 

[45]   أخرجه مسلم في صحيحه (13 \ 1501).

 

[46]   انظر: شرح مسلم للنووي (13 \ 29) والتمهيد لابن عبد البر (23 \ 232).

 

[47]   أخرجه النسائي في المجتبى (7 \ 314).

 

[48]   انظر: كشف الأسرار (4 \ 134) والتلويح على التوضيح لمتن التنقيح (1 \ 150) وما بعدها.

 

[49]   أخرجه أبو داود في سننه (3 \ 637) وأحمد في المسند (32 \ 246) والحديث في إسناده أبو عبد الله القرشي، قال عنه الذهبي لا يعرف، وقال الحافظ مقبول، وفي الباب أحاديث تقويه راجع تخريج المسند (32 \ 247). فائدة: قال الطيبي - رحمه الله -: فإن قلت قد سبق أن حقوق الله مبناها على المساهلة، وليس كذلك حقوق الآدميين في قوله يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين وهاهنا جعله دون الكبائر فما وجه التوفيق قلت: قد وجهناه أنه على سبيل المبالغة تحذيرا وتوقيا عن الدين، وهذا مجرى على ظاهره ا. هـ وقال بعض العلماء: فعل الكبائر عصيان الله تعالى، وأخذ الدين ليس بعصيان، بل الاقتراض والتزام الدين جائز، وإنما شدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من مات وعليه دين ولم يترك ما يقضي دينه كيلا تضيع حقوق الناس. راجع عون المعبود في شرح سنن أبي داود (9 \ 137).

 

[50] هذا التقسيم عند الحنفية راجع كشف الأسرار (4 \ 135).

 

[51]   انظر: الفروق للقرافي (1 \ 256).

 

[52]   الفروق للقرافي (1 \ 256) وانظر الموافقات للشاطبي (2 \ 333).

 

[53]   انظر: الموافقات للشاطبي (2 \ 333).

 

[54]   لفقهاء المالكية وغيرهم تقسيم باعتبار وجود حق للعبد، وعدم وجود حق له راجعه في كل من تهذيب الفروق...

 

[55]   انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (18 \ 18).

 

[56]   انظر: كشف الأسرار (4 \ 160) والموسوعة الفقهية الكويتية (18 \ 18).

 

[57]   سورة البقرة الآية 179

 

[58]   انظر: تيسير التحرير (2 \ 174 - 182).

 

[59]   انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي ص 20.

 

[60]   انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي (ص 17 - 20).

 

[61]   انظر: شرح منتهى الإرادات (2 \ 265) بدائع الصنائع (6 \ 49)، تحفة الفقهاء (3 \ 425).

 

[62]   انظر: المغني (7 \ 458).

 

[63]   انظر: القاموس المحيط ص 1197، لسان العرب (10 \ 371) معجم مقاييس اللغة (6 \ 85).

 

[64]   المراجع السابقة.

 

[65]   أحكام القرآن للكيا المراسي (1 \ 421).

 

[66]   انظر: وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية (1 \ 27).

 

[67]   انظر: دراسات في أصول المداينات ص 76، الديون وتوثيقها في الفقه الإسلامي ص 126.

 

[68]   انظر: دراسات في أصول المداينات ص 77، وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي (1 \ 27).

 

[69]   انظر: المراجع السابقة.

 

[70]   انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (14 \ 138).

 

[71]   سورة البقرة الآية 282

 

[72]   مختصر الفتاوى المصرية (ص601)

 

[73]  أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري 5 \ 355) ومسلم في صحيحه (5 \ 70).

 

[74]   انظر: الطرق الحكمية لابن القيم (ص 207).

 

[75]   انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4 \ 139).

 

[76]   أخرجه البخاري من كتاب الشهادات باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، فتح الباري (5 \ 283).

 

[77]   انظر: أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1 \ 482).

 

[78]   انظر: المحلى لابن حزم (8 \ 80).

 

[79]   سورة البقرة الآية 282

 

[80]   انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 \ 258).

 

[81]   سورة البقرة الآية 282

 

[82]   انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 \ 254).

 

[83]   المصباح المنير (1 \ 287).

 

[84]   شرح منتهى الإرادات (2 \ 288).

 

[85]   انظر: أحكام القرآن للجصاص (1 \ 523).

 

[86]   سورة البقرة الآية 283

 

[87]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم 2509 و 2513، ومسلم في صحيحه 3 \ 1226.

 

[88]   انظر: المغني (6 \ 444).

 

[89]   انظر: دراسات في أصول المداينات د \ نزيه حماد ص 109.

 

[90]   شرح منتهى الإرادات (2 \ 245).

 

[91]   سورة يوسف الآية 72

 

[92]   أخرجه الإمام أحمد في مسنده (36 \ 628) وعبد الرزاق في المصنف رقم (7277) بإسناده حسن.

 

[93]   انظر: المغني (7\ 72).


تعليقات