القائمة الرئيسية

الصفحات



الرجوع في الإذن الخاص بالتعامل في جسم الإنسان

 


الرجوع في الإذن الخاص بالتعامل
في جسم الإنسان

تمهيد و تقسيم :

508- إن المبدأ العام في المعاملات المالية عمومًا يقضي بأن العقد شريعة المتعاقدين ، فهو تعبير عن القوة الملزمة للعقد ، والفكرة الأساسية في فكرة سلطان الإرادة هي "أن العقد يستمد قوته الملزمة من القوة الذاتية للإرادة"([1]). وإذا كان مصدر القوة الملزمة للعقد هو الإرادة ، فهذا يعني أن الإرادة هي صاحبة القول الفصل في مصير العقد ، وهذا يعني أنه لا يجوز حل الرابطة الملزمة أو التعديل في مضمونها إلا بذات الإرادة التي أنشأتها ، وهي إرادة أطراف العقد ، وعليه ، فلا يمكن لطرف من أطراف العقد منفردًا أن ينقضه أو يقوم بتعديله ، كما لا يُسمح بذلك لا للقاضي ولا للقانون([2]).

509- فالأصل العام هو لزوم العقد لعاقديه ، وعدم جواز نقضه أو تعديله إلا بإرادة أطرافه مجتمعة([3]). ولكن هذا الأصل وردت عليه حالات استثنائية يكون فيها العقد غير لازم ، أي جائز نقضه والرجوع فيه بالإرادة المنفردة لأحد عاقديه أو لكليهما ، ففي مثل هذه الحالات يجوز نقض العقد والرجوع فيه بالإرادة المنفردة لأحد عاقديه أو لكليهما ، إعمالاً لخيار الرجوع([4]) الذي يمنحه العقد غير اللازم([5]). كما توجد حالات استثنائية أخرى أجاز فيها القانون للقاضي تعديل العقد بسبب ما قد يطرأ من ظروف استثنائية بعد إبرامه.

510- إذًا ، فالعقد غير اللازم له تطبيقات ثلاثة : فهو إما أن يكون غير لازمًا بطبيعته ومقتضاه، وإما باتفاق المتعاقدين ، وإما بنص القانون.

511- فبالنسبة للعقود غير اللازمة بطبيعتها يميز الفقه الإسلامي بين طائفتين : الأولى عقود غير لازمة لكلا طرفيها ، وفيها يجوز لكلا العاقدين الرجوع فيها - أي فسخها وفقًا لتعبير الفقه الإسلامي- بإرادته المنفردة دون حاجة لرضا المتعاقد الآخر ، من هذه العقود عقد الوكالة([6]) ، والشركة([7]) ، والوديعة([8]) ، والعارية([9]) ، والهبة، ، والطائفة الثانية عقود غير لازمة لأحد طرفيها فقط ولكنها لازمة للطرف الآخر ، كالرهن بعد القبض ، فهو لا يلزم المرتهن الذي يجوز له فسخه أي الرجوع فيه بإرادته المنفردة ، بينما لا يجوز ذلك للراهن ، كذلك الكفالة لا تلزم الدائن بل يجوز له الرجوع فيها أو إنهاؤها بإرادته المنفردة ، في حين لا يملك الكفيل ذلك([10]).

512- ويتحقق خيار الرجوع الاتفاقي في التعاقد باتفاق وتراضي المتعاقدين عليه ، صراحة أو ضمنًا، وقد يتقرر لأحد المتعاقدين أو لكليهما. ويمكن إجمال تطبيقات وأحوال الرجوع الاتفافي في الآتي :

1-   بيع الوفاء.

2-   عربون الرجوع أو العدول.

3-   البيع بشرط التجربة.

4-   البيع بشرط المذاق.

5-   البيع مع خيار الرجوع.

513- كما يتحقق خيار الرجوع في الفقه الإسلامي باقتران العقد بأحد الخيارات الاتفاقية ، كخيار الشرط، وخيار النقد ، وخيار الوصف ، وخيار التعيين([11]).

ولقد هدف الفقه الإسلامي من تقرير هذه الخيارات ، الاستيثاق والتأكد من صحة الرضا ، وهذا يتطلب منح المتعاقد مهلة يتمكن  خلالها من  التحري والتروي في أمر الصفقة ، وما يعود عليه منها من نفع([12]).

514- أما عن الرجوع القانوني فيكون عندما يتدخل القانون في تعاقد معين ويجعل لأحد طرفيه خيار الرجوع فيه ، والتحلل منه بإرادته المنفردة خلال فترة محددة . ولقد انتشر هذا النوع من الرجوع في التعاقد في الآونة الأخيرة ، وبصفة خاصة في مجال البيوع الاستهلاكية التي تتم خارج محال وأماكن البائع. ويمكن اعتبار  حق المؤلف في سحب مؤلفه من التداول من تطبيقات هذا الرجوع القانوني، كما يمكن اعتبار الرجوع في الهبة من أبرز التطبيقات في هذا المجال، وهو ما سنفرد لـه البحث في هذا النوع من أنواع الرجوع القانوني وذلك لكون الهبة تصرف تبرعي.

1- الرجوع في عقد الهبة :

515- المقـصـود بـالـهـبـة لـغـة : التبرع  والتفضل بما ينفع الموهوب له مطلقاً([13])سـواء أكان الموهوب مالاً أو غيره. وتعرف الهبة أيضًا بأنها : "العطية الخالية عن الأعواض والأغراض"([14]).

أما في اصطلاح الفقهاء فهي تعني : تمليك المال في الحال مجاناً ، أو تمليك المال بلا عوض حال حياة المملك([15]).

و لقد عرفها القانون المدني المصري في المادة (486) على أنها " عقد يتصرف بمقتضاه الواهب في مال له دون عوض ".

كما عرفها قانون المعاملات المدنية الإماراتي في المادة (614 / 1) بأنها " تمليك مال أو حق مالي لآخـر حال حيـاة المالك دون عوض " ، أما القانون المدني الكويتي فقد عرفها من خلال المادة (524) بأنها " عقد على تمليك مال في الحال بغير عوض ".

516- ومسألة الرجوع في الهبة ، تستلزم توضيح معنى الرجوع لغة واصطلاحًا.

فالرجوع لغة ، يعني : الانصراف ، ورجع في الشيء أي عاد فيه ، و من هنا قيل : رجع في هبته إذا أعادها إلى ملكه([16]).

والرجوع في الاصطلاح القانوني، ينصرف إلى زوال عقد الهبة بإرادة طرف واحد بسبب من الأسباب المحددة قانوناً. و يشترط عدم وجود مانع من الموانع القانونية للرجوع ، فالرجوع في الهبة هو حق للواهب ، يستطيع بموجبه أن يسترد هبته من الموهوب له إذا توافر له عذر يبرر ذلك، ولم يكن هناك مانع من موانع الرجوع([17]).

517- و يتسم حق الواهب في الرجوع بعدة سمات ، من أهمها أنه من الحقوق التي يترك تقدير استعمالها إلى الواهب نفسه ، و من ثم لا ينتقل حق الرجوع إلى ورثة الواهب ، و لا يجوز لغير الواهب استعمال هذا الحق ، كما أن حق الرجوع يتعلق بالنظام العام ، وبالتالى فلا يجوز للواهب أن يتفق مع الموهوب له على التنازل عنه مقدماً ، و إنما يجوز له التنازل عن هذا الحق بعد وجوده([18]).

518- و على الرغم من أن مبدأ القوة الملزمة للعقد يقضي بعدم جواز نقضه أو تعديله أو إنهائه إلا برضا الطرفين ، إلا أن المشرع قـرر للواهـب حق الرجوع في الهبة بالتراضي ، أو بالتقاضي ودون توقف على إرادة الموهوب له ، و الحكمة في ذلك تتمثل في دفـع الضرر عن الواهب أو تحقيق مصلحة مشروعة له ، كما أن ضرورة استقرار المعاملات تستوجب إباحة الرجوع في كثير من الأحيان ، وهو أمر تقتضيه قواعد العدالة([19]).

غير أن القانون قيد حق الرجوع في الهبة عن طريق القضاء ، واشترط لذلك أن يستند الواهب إلى عذر مقبول يبرر الرجوع ، و ألا يوجد مانع من موانع الرجوع ، فضلاً عن ضرورة صدور حكم قضائي بالرجوع([20]).

519- وغاية مايهمنا في مسألة الرجوع في الهبة أن الحق في هذا الرجوع يعود سببه إلى أن التعامل أساسًا كان بدون مقابل مالي ، فأجاز القانون للواهب الرجوع في هبته تلك بناءً على ذلك الأساس.

520- هذا بالنسبة للهبة التي تنصب على شيء أجاز القانون للواهب الرجوع في هبته ، أفلا يكون من الأولى تقرير هذا الحق ونحن بصدد التعامل في جسم الإنسان؟

فالواضح من العرض السابق ، أن الهدف من تقرير حق الرجوع ، هو حماية ركن الرضا في التعاقد ، وضمان وجوده وجودًا متمهلاً مترويًا فيه. وبالرغم من اتصال خيار الرجوع بركن الرضا ، إلا أنه يبعد عن نطاق الحماية التي تقررها النظرية التقليدية في عيوب الإرادة، فهذه الأخيرة تهدف إلى تحقيق رضـا واعٍ مختار صحيح متبصر وحر ، وخالٍ من عيوب الإرادة التقليدية وهي : الغلط والتدليس والإكراه ، أما الرجوع في العقد فيهدف إلى تحقيق رضا المتعاقد رضا متروٍّ متمهل وغير متسرع فيه، وهذا لا تشمله نظرية عيوب الإرادة بمفهومها التقليدي([21]).

521- ولقد قصدنا من هذا العرض السريع للمبدأ العام في المعاملات المالية ، والاستثناءات الواردة عليه، أن نطرح تساؤلاً مؤداه ،  إذا كان الأصل في المعاملات المالية أن العقد شريعة المتعاقدين ، قد خفف القانون من حدته وإطلاقه ، وقرر استثناءات ترد عليه لاعتبارات تتعلق بتحقيق مصلحة عامة، أو خاصة، أو سعيًا لإحلال العدالة ، فهل هذا الأصل العام يسري في مجال التعامل في جسم الإنسان؟

من الملاحظ أن القانون راعى الطبيعة الخاصة التي يتمتع بها هذا التعامل الخاص بجسم الإنسان عما سواه من تعاملات مالية ،  وذلك بدءًا من عقد العمل الذي أعطى العامل الحق في إنهاء العقد محدد المدة إذا تجاوز خمس سنوات ، وحقه كذلك في إنهاء العقد غير محدد المدة بإرادته المنفردة، لارتباط عقد العمل بالطاقة الجسمانية ، مروراً بحق المؤلف في سحب مؤلفه من التداول، وانتهاءاً بالحقوق اللصيقة بالشخصية عندما راعى الجانب المعنوي للشخصية متمثلاً في حق احترام الحياة الخاصة "الخصوصية" .

522- وعليه، فللتعرف على مدى أحقية الشخص في الرجوع في الإذن الخاص فيما يخص التعامل في جسمه ، كان لزامًا البدء بتناول حالات الرجوع في العقود الآتية:

1- عقد العمل

2- الحق الأدبي للمؤلف.

3- الحق في احترام الحياة الخاصة .

1- إنهاء عقد العمل بالإرادة المنفردة :

523- إذا كان التصرف مرتبطًا بجسم الإنسان ، فإن فكرة إنها العقد بالإرادة المنفردة لم تغب عن نظر القانون  وهو بصدد تنظيم المعاملات المالية المتصلة بجسم الإنسان  كعقد العمل([22]).

فإنهاء عقد العمل وانحلال الرابطة القانونية التي نشأت عنه ، تعتبر مصيرًا محتومًا لكل العقود الواردة على العمل ، إذ لا يمكن أن تدوم هذه العقود إلى الأبد([23]).

524- ومن المبادئ المستقرة في قانون العمل ، أنه إذا كان العقد غير محدد المدة فإنه يجوز للعامل أن يُنهيه في أي وقت ، و إذا كان العقد محدد المدة وزادت تلك المدة عن خمس سنوات ، جاز للعامل أن يُنهيه بعد خمس سنوات([24]).

ومن تطبيقات محكمة النقض المصرية في إنهـاء العقـد غيـر محـدد المدة ، استنادًا للمادة (694 / 2) من القانون المدني ، و المادة (725 / 1) من قانون العمل رقم (91 / 59) " المقابلة للنص الحالي"  : أن لكل من طرفي عقد العمل غير محدد المدة ، أن يضع حدًّا لعلاقته مع المتعاقد الآخر بشرط مراعاة مهلة الإخطار المقررة في القانون ، و لقد كان استعمال حق الفسخ بإرادة المتعاقد المنفردة ، لا يرتب مسئولية طالما استند إلى ما يبرره ، فإن أعوزه المبرر كان للمتضرر الحق في تعويض تقدره المحكمة ، تمشياً مع المبدأ العام الذي يقضي بأن الـعـقـد غـير مـحـدد الـمـدة هـو عـقـد مـؤقـت بـطبـيـعـته و ليس أبديًّا([25]).

525- فكما هو معروف ، توجد عقود محددة المدة وأخرى غير محددة المدة. والعقد محدد المدة هو العقد الذي يتفق فيه على تحديد ميعاد انتهائه مع تعليق هذا الانتهاء على حادث مستقبل محتم الوقوع ، وهو لا يعتمد في إنهائه على إرادة أحد عاقديه ، وإنما ينتهي تلقائيًّا بمجرد تحقق الحادث المستقبل، وعادة ما يُحدد فيه العاقدان مدة سريانه ، والأجل الذي ينتهي فيه التزام كل منهما([26]).

526- أما العقد غير محدد المدة ، فهو الذي يبرم بدون تحديد لمدته ، أو دون بيان للعمل الذي ينتهي بانتهائه([27]) . وفي كلا العقدين – المحدد وغير محدد المدة – يحق للعامل إنهاء العقد. فكما جاء في المادة(678/2) من القانون المدني المصري أنه " إذا كان عقد العمل لمدة حياة العامل أو رب العمل، أو لأكثر من خمس سنوات ، جاز للعامل بعد انقضاء خمس سنوات أن يفسخ العقد دون تعويض، على أن يُنظر رب العمل إلى ستة أشهر".

527- ومن الواضح هنا أنه في العقد محدد المدة ، الذي تزيد مدته عن خمس سنوات يجوز للعامل فقط أن يفسخه ، وذلك حتى لا ينقلب عقد العمل إلى نوع من أنواع الرق ، وكذلك بالنسبة للعقد غير محدد المدة، يحق للعامل أن يُنهيه بإرادته المنفردة ، لأن عـدم اتفاق الطرفين على إنهاء العقد في وقت محدد ، يؤدي إلى استمرار العقد إلى فترة مؤبدة، وهذا بلا شك يتعارض مع أبسط ضرورات الحرية الفردية([28]).

528- مما سبق نرى أن القانون قد راعى ارتباط عقد العمل بشخص الإنسان وجهده ، وعليه، فقد أوجب احترام حريته الشخصية فيما يتعلق بجهد بدنه ، لأن محل التصرف في الأساس ينصب على طاقته الجسمانية ، ومراعاة لذلك أجاز للعامل الرجوع في عقد العمل ، أفلا يتقرر أيضاً هذا الحق بالنسبة للتعامل في جسم الإنسان من باب أولى؟

2- حق المؤلف في سحب مصنفه من التداول:

529- التفكير هو عبارة عن عملية ذهنية ، من خلالها نستطيع رسم خريطة عمل لتحقيق هدف محدد.

و لكل إنسان في هذا العالم ، مهما كانت صفته ، أو مهنته ، أو درجة الثقافة التي وصل إليها ، الـحـق في التعبير عـن أفـكـاره بأية طريـقـة كانت ، سـواء بالقول ، أو بالكـتـابـة ، أو مـن خـلال الرسـم أو الحركة أو الصوت([29]).

و لقد نصت المادة (86) من القانون المدني المصري على أن " الحقوق التي ترد على شيء غير مادي تنظمها قوانين خاصة " ([30]).

و المقصود بالشيء غير المادي من خلال المادة السابقة ، الأفكار و الآراء و المخترعات التي ينتجها الفكر و الجهد الذهني للإنسان([31]).

530- ويُعرف الحق الذهـني بأنه "عـبارة عن استئثار شخص بسلطات يقرها القانون على شيء معنوي ، أيًّا كان نوعه من نتاج ذهنه أو ابتكاره ، و قد يتعلق هذا الحق بشيء صناعي ، مثل براءات الاخــتراع والرسوم و النماذج الصناعية ، و قد يتعلق بمحل تجاري مثل مكونات المحل التجاري المعنوية ، كالاسم التجاري ، و العلامة التجارية ، و السمعة و ثقة العملاء ، و قـد يـرد على نتاج فـني معين ، و ذلك كالإنتاج الأدبي ، مثل حق مؤلف كتاب على ما ورد به من أفكار ، و حق المخترع في اختراعه.

و يتمتع صاحب الحق الذهني في نسبة ما أنتجه إليه ، باعتباره امتدادًا لشخصيته ، وهذا يُشكل الجانب المعنوي للحق ، كما يتمتع بجانب مالي وهو حقه في استغلال ما أنتجه استغلالاً ماليًّا([32]).

531- و عليه يمكن القول،  أن للمؤلف على مصنفه حقين : حق أدبي ، و حق مالي([33]) والحق الأدبي هو ذلك الحق الذي يُخول للمؤلف حرية التفكير و الابتكار([34]) ، و حماية نتاجه الفكري([35]) ، فهذا الحق يُعطي للمؤلف سلطات على نتاجه الذهني تؤكد ملكيته للمصنف. وسوف نقصر الدراسة في هذا الجزء على الحق الأدبي باعتبار أن هذا الحق يتضمن حق الرجوع.

532- يحدث في كثير من الأحيان أن ينشر المؤلف مصنفه عن طريق التعاقد مع ناشر معين ، تنتقل إليه حقوق استغلال المصنف ، ثم يرى المؤلف لأسباب أدبية يقدرها أن هذا المصنف لم يعد مطابقًا لآرائه ، ومن ثم يكون الاستمرار في تداوله إساءة إلى سمعته الأدبية ، فيعمد المؤلف إلى سحب مصنفه من التداول.

533- ولقد اعترفت كثير من قوانين حق المؤلف بهذا الحق([36]) ، ونصت صراحة على حق المؤلف في سحب مصنفه من التداول ، فأكد القانون الفرنسي([37]) على هذا الحق ، ونص عليه صراحة بقوله : "إنه على الرغم من انتقال حق الانتفاع بالمصنف للغير ، فإن المؤلف يتمتع بحق العدول ، أو سحب مصنفه قبل الغير الذي تنازل له عن حق الانتفاع المالي بعد نشره، ولا يستطيع المؤلف مباشرة هذا الحق مالم يُعوض المسحوب منه عما أصابه من ضرر بسبب العدول أو السحب".

كما اعترف بهذا الحق أيضًا القانون المصري([38]) ، ونص عليه صراحة في قانون الملكية الفكرية، بقوله : " للمؤلف إذا طرأت أسباب خطيرة أن يطلب من المحكمة الابتدائية الحكم بسحب مصنفه من التداول، أو بإدخال تعديلات جوهرية عليه برغم تصرفه في حقوق الاستغلال المالي .. ويُلزَم  المؤلف في هذه الحالة أن يُعوض من آلت حقوق الاستغلال المادي إليه تعويضًا عادلاً يُدفع في غضون أجل تحدده المحكمة ، وإلا زال كل أثر للحكم". وأيضًا اعترف القانون الألماني([39]) بحق المؤلف في إلغاء الاستعمال في مواجهة صاحبه ، عندما يصبح المصنف غير مطابق لمعتقداته ، إذ لا يمكن إجباره على استمرار استغلال المصنف بهذه الحالة ، كما لا يمكن التنازل مقدمًا عن استعمال الحق في العدول.

534- وفيما يتعلق بموقف الفقه القانوني فقد اعترف بهذا المبدأ غالبية الفقه القانوني الفرنسي([40]) ، وذلك تأسيسًا على الرابطة التي تربـط المؤلف بمصنفه ، والتي تجعل من الأخـير صورة حية للأول ، تُعبر عن آرائه ومعتقداته ، فإذا تغيرت هذه الآراء ، لم يعد المصنف التعبير الحي عن شخصية المؤلف ، ومن ثم يكون من حقه سحبه من التداول ، بغرض تعديله أو تدميره. كما اعترف به أيضًا غالبية الفقه القانوني المصري ([41])، وذلك تأسيسًا على أن المؤلف هو مبتكر المصنف ، وله سلطة إعدامه متى شاء، ولا يحول دون استعمال هذا الحق تعاقد المؤلف على نشر مصنفه ، فله سحب المصنف من التداول بالرغم من تصرفه في حقوق الاستغلال المالي إذا طرأت أسباب أدبية خطيرة تدعوه إلى ذلك، وهذا يعني أنه لابد من الاعتراف بحق المؤلف في سحب مصنفه من التداول ، بالرغم من تعاقده مع شخص آخر على نشره.

535- ويمكن إجمال الشروط التي يجب توافرها للقول بحق المؤلف في سحب مصنفه من التداول بالآتي([42]):

1-   طروء أسباب خطيرة – بعد نشر المصنف – تدعو المؤلف لسحب مصنفه من التداول.

2-   أن يكون المصنف قيد التداول عند سحبه ، فالحق في السحب يقتضي أن يكون المصنف قد نُشر وانتقل إلى الغير وأصبح متداولاً.

3-   تعويض المُحال له حق الانتفاع المالي بالمصنف تعويضًا عادلاً.

والشاهد في موضوع الحق الأدبي للمؤلف ، أن القانون خرج عن القواعد العامة والتي تقضي بأن العقد شريعة المتعاقدين ، فأجاز للمؤلف الرجوع  ونقض عقد النشر الذي كان بينه وبين الناشر لأسباب رآها جدية ، واقتنعت بها المحكمة ، كما راعى فيه الجانب المالي للطرف الآخر المتمثل هنا في شخص الناشر.

536- ولا شك أن الاعتراف بحق المؤلف في سحب مصنفه من التداول، يرجع إلى مراعاة الطبيعة القانونية الخاصة لهذا الحق، فهو يندرج تحت قائمة الحقوق غير المالية ، أو بمعنى آخر فإن هذا الحق يتميز بطبيعة خاصة تجمع بين قيمتين معنوية ومالية.

فالقيمة المعنوية ، تتجلى في اعتبار هذا الحق من الحقوق اللصيقة بالشخصية ، التي لا تُقَوم بالمال ، ولا يـسـري عليها التقادم، كما لا يجوز التنازل عنها  ولا الحجر عليها ولا تنتقل بالإرث ، فهذه الحقوق تهدف إلى حماية الشخصية.

أما القيمة المالية ، فتظهر من خلال حق المؤلف في استثمار ناتجه الفكري واستغلاله ماليًّا ، وأن يكون له وحده حق احتكار هذا الاستغلال، فهو يهدف إلى حماية مصلحة مالية ، ومن ثم يخضع للقواعد المتعلقة بالملكية الأدبية والفنية([43]).

537- ومما سبق ، رأينا كيف أن القانون راعى حق المؤلف في سحب مصنفه من التداول نظرًا لارتباط هذا الحق بشخص المؤلف ، فإذا كان هذا هو الحال في حق اقترب من صفة الإنسان ، فما بال التعامل المباشر في جسم الإنسان ، ألا يُعطى الشخص حق الرجوع في الإذن الصادر منه فيما يتعلق بعمل طبي على جسده ؟.

3- الحق في احترام الحياة الخاصة " الحق في الخصوصية "

538- لكل إنسان حياة خاصة به ، و أسرار لا يود أن يطلع عليها الغير إلا بإذنه ، فالحق في الخصوصية حق قديم قدم الحضارات ، و لقد أجمعت الأديان السماوية على تأكيدها ، كما حرصت كثير من القوانين الوضعية على تنظيمها([44]).

وخصوصية الشيء في اللغة : هي خاصيته([45])، والخصوصية تكون بضم الخاء و فتحها والفتح أفصح ، فيقال : اختصه بكذا أي خصه به ، و الخاصة ضد العامة([46]).

ولم يرد للخصوصية تعريف في الدستور أو القانون ، وإن كان معنى الخصوصية يقترب من السرية ([47])، ولكنها لا ترادفها ، لأن السر يفترض الكتمان التام ، أما الخصوصية فقد توجد بالرغم من عدم وجود السرية.

539- ويمكن تعريف الحق في الخصوصية بأنه : "حق الشخص في أن نتركه  يعيش وحده، يعيش الحياة التي يرتضيها ، مع أدنى حد من التدخل من جانب الغير"([48]).

540- و يمكن إجمال طائفة القيم التي تحميها فكرة الحق في الخصوصية ، في الآتي :

1- حالة التجسس على الحياة الخاصة.

2- نشر وقائع تعتبر من قبيل الوقائع الخاصة.

3- نشر وقائع تشوه الحقيقة في نظر الناس.

4- نشر المغامرات العاطفية ، و الأمور المتعلقة بالعلاقة الزوجية ، أو الذكريات الشخصية.

5- نشر معلومات تتعلق بالذمة المالية للشخص.

6- نشر معلومات تتعلق بالحالة الصحية و الرعاية الطبية([49]).

7- نشر الآراء السياسية للمواطنين.

8- نشر ما يتعلق بقضاء أوقات الفراغ للأشخاص.

9- الكشف عن محل إقامة و رقم تليفون الشخص.

10- نشر ما يتعلق بالمعتقدات الدينية للأشخاص.

11- نشر ما يتعلق بالحياة الحرفية أو الوظيفية للشخص.

12- الكشف عن الاسم و المساس بالخصوصية([50]).

541- وقد يكون من الملائم التعرض لمسألة مدى جواز الرجوع في الرضا بالنشر فيما يتعلق بالحياة الخاصة للإنسان ، وذلك باعتبار أن القيم التي تحميها فكرة الحق في الخصوصية تدخل في دائرة الحقوق اللصيقة بالشخصية. ولقد انقسمت الآراء في هذا الشأن إلى اتجاهين :

الأول([51]) ، ذهب إلى عدم جواز الرجوع في الرضا بنشر صورة أو معلومة تتعلق بخصوصيات حياة إنسان ، وذلك لاعتبارين مهمين : 1- وجود تعارض ظاهر بين السرية أو الخصوصية من جهة، وبين إعلانها والكشف عنها من جهة أخرى ، فالكشف عن السر ولو لمرة واحدة ينفي عنه إلى الأبد صفة السرية، ويدخله في دائرة العلانية ، فمن يوافق على نشر صورته أو أمر يتعلق بخصوصيته ، وتم النشر على أساس تلك الموافقة وفي حدودها ، فلا يعقل أن يعود ويسحب موافقته تلك ، بحجة أنه قد وقع مساس في خصوصية حياته . 2- لا يجوز قياس حالة سحب المؤلف لمصنفه من السوق بحالة الرجوع في الرضا بنشر الصورة مثلاً ، لأنه قياس مع الفارق ، فالمؤلف قد يجد فيما سبق ونشر في مصنفه من أفكار أو حقائق علمية ما يسيء إلى شخصه وسمعته الأدبية التي حققها فيما بعد، فرأى أنه من الأفضل أن يقوم بسحب مصنفه ، حفاظًا على سمعته ، وشخصيته الأدبية. أما في مجال الحق في الخصوصية فيما يتعلق في الرجوع في الرضا بنشر الصورة فهذا الرجوع أو العدول عن الرضا لن يُعيد ما أصبح علنًا إلى حظيرة السرية.

والاتجاه الثاني ، ذهب إلى جواز سحب الرضا في مجال الحق في الخصوصية ، وذلك للاعتبارات التالية :

1-    أن الحق في الصورة باعتباره من الحقوق اللصيقة بالشخصية ، الأصل فيه عدم دخوله دائرة التعامل القانوني ، كما لا يجوز التنازل عنه إلا استثناءً ، وبالتالي فإذا قرر صاحب الصورة العدول عن رضاه بالنشر ، فهذا ما يقضي به الأصل ، ومن ثم يحق له سحب موافقته في أي وقت. فإذا كان من الجائز للمؤلف سحب مصنفه من السوق ، للصلة الوثيقة بين المصنف وشخصية المؤلف ، فمن الأولى تقرير الحق في العدول عن الرضا في نشر الصورة ، لأن الصورة تُمثل الشخص ذاته.

2-    أن القول بجواز العدول عن الرضا في العقود المتصلة بالحقوق اللصيقة بالشخصية في أي وقت من شأنه أن يردع الفضوليين ، وأصحاب النفوس الضعيفة من اقتحام الحياة الخاصة للآخرين ، ومحاولة التكسب من ورائها ، لأنهم سيدركون أن القوة الملزمة للعقد لا يمكنها أن تصمد أو تقاوم إرادة الشخص الذي ندم على نشر صورته ، ويرغب في العدول عن ذلك.

3-    أن رضا الشخص بنشر صورته ، قد يكون أحيانًا رضاءً ضعيفًا ، كونه صدر مثلاً بقصد المجاملة لا أكثر ، وفيما بعد  رأى أن هذا النشر يُقلل من قدره وهيبته أمام الرأي العام([52])، فيكون من حقه العدول عن رضائه ، خاصة إذا كان الإذن بالنشر قد تم بدون مقابل. أما إذا وُجد المقابل ، فيشترط حينئذ أن تكون الأسباب الداعية إلى ذلك العدول أسباب قوية وجدية([53])، وأن يكون العدول ذا أثـر مجدٍ ، بمعنى أنه يمكنه طلب عدم النشر مستقبلاً .

542- وأيًّا كان الأمر ، فإذا قُبِلت فكرة العدول عن الرضا في نشر الصورة أو نشر معلومة خاصة عن الإنسان ، باعتبار أنها من الحقوق اللصيقة بالشخصية ، والتي لا يجوز في الأصل التنازل عنها، فمن باب أولى – إذًا- إقرار الحق في العدول عن الرضا فيما يتعلق بالمساس بالكيان المادي للإنسان.

543- رأينا إذًا كيف أصبحت القاعدة العامة ، التي تقضي بأن العـقـد شـريـعـة المتعاقدين ، بحيث لا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاقهما (الإقالة)، وأن هذه القاعدة تحكم المعاملات المالية فقط ، أما إذا تعلق التعامل بشـخـص الإنـسـان مـن قـريب أو بعيد ، أو بحق من حقوقه اللصيقة بشخصيته ، أو بصـفـتـه و كـونه إنساناً ، أصبح من الضروري في هذه الحالة النظر إلى ذلك التعامل من زاوية أخرى.

544- فها هو عقد العمل ، رأينا كيف أن فكرة كون التصرف غير لازم لم يغفلها القانون وهو بصدد تنظيم المعاملات المالية المرتبطة بجسم الإنسان ، فأجاز للعامل في العقد غير محدد المدة أن يُنهيه في أي وقت ، أما إذا كان العقد محدد المدة وزادت تلك المدة عن خمس سنوات ، أصبح  للعامل الحق في أن يُنهيه بعد الخمس سنوات ، و هذا كله مراعاة من القانون للجانب الإنساني في أي تعامل حتى و لو كان تعاملاً مالياً، فهو في حقيقته يعتبر إنهاء للعقد بالإرادة المنفردة وليس بالإتفاق.

545- وكذلك الحق الأدبي للمؤلف ، وجدنا أن القانون من خلاله أجاز العدول عن نشر المصنف رعاية منه لطبيعة هذا التعامل ، و كونه يتعلق بشخص الإنسان ، فعلى اعتبار أن المصنف ينبثق من تلك الشخصية ، أجاز العدول و سحب المصنف مع إلزام العادل بدفع التعويض مقدماً ، فهو إذًا أجاز السحب و لكنه وضع قيودًا على الساحب مراعاة للجانب المادي المرتبط بهذا الحق.

546- ثم رأينا في موضوع الحق في احترام الحياة الخاصة ، كيف أن القانون أجاز العدول عن الموافقة عن النشر مراعاة منه أيضاً لطبيعة هـذا التعامل ، حيث تتضح فيه الصفة الإنسانية أكثر، على اعتبار أن هذا الحق يُمثل الشخصية الإنسانية نفسها ، وبالتالي أقر العدول مع إلزام الطرف الذي عدل عن موافقته بتعويض يُدْفَع لاحقاً.

547- أما عن عقد الهبة ، فأجاز القانون فيه رجوع الواهب في هبته وعطيته، فهو يعد في الحقيقة رجوعاً عن التصرف برمته وبنص القانون، فالتعامل تم في الأساس بدون مقابل مالي، وبالتالي، طالما انعدم المقابل ، فإن أمر الرجوع يصبح ميسورًا ، بل إن عقد الهبة كان يدخل في إطار مسائل الأحوال الشخصية قبل صدور القانون المدني المصري لسنة 1947.

548- أما بالنسبة للتعامل في جسم الإنسان، فالرجوع في الإذن الخاص بالتعامل المباشر بصدده وذلك من خلال الأعمال الطبية – سواء كانت علاجية أو غير علاجية- فالأولى أن يكون هو الأصل، حتى و لـو صدر عن إرادة حرة واعية و مستنيرة ، وذلك لحفظ الحق في التفكير والتروي حتى تمام التنفيذ.

549- اتضح لنا إذاً أن قاعدة العقد شريعة المتعاقدين لا تُلائم التعامل في جسم الإنسان ، بل يجب أن تتقرر حرية العدول دون أدنى مسئولية كمبدأ وأصل عام يحكم مثل هذا التعامل الذي لا يحتاج إلى تقرير استثناء يرد عليه، على اعتبار أن التعامل فيه لا يرتبط بمسائل مالية مثل الحق في احترام الحياة الخاصة، أو الحق الأدبي للمؤلف. كما أن التعامل فيه ليس من قبيل المعاملات المالية البحتة التي تكون فيها الحقوق المالية متقابلة ، و هـذا مـا راعـتـه كـثـيـر مـن القوانين التي نـظمت عمليات استئصال وزرع الأعضاء البشرية ، فأكدت على حرية المتبرع في العدول عن رضاه في أي وقت قبل القيام بإجراء عملية الاستئصال ، و دون أن يترتب على رجوعه أدنى مسئولية -ولو أدبية- نحو المريض و أهله([54]).

ونعتقد أن جواز الرجوع في الإذن الخاص بالتعامل في جسم الإنسان ، يُعد تأكيدًا لمبدأ حرية الرضا ، فالشخص محل التصرف يستطيع الرجوع في رضاه وإذنه فيما يتعلق بالتعامل في جسده في أي وقت يشاء ، وبدون اشتراط شكلية أو إجراء معين([55]) . فإذا كان القضاء الفرنسي أجمع على جواز عدول الشخص عن الموافقة على العمل الجراحي الذي يقصد تحقيق مصلحة علاجية مباشرة له ، فمن الأولى أن يُعطى الحق في العدول عن رضاه ، إذا كان الهدف من وراء المساس بسلامة جسده هو تحقيق مصلحة علاجية للغير.

فيمكن للمتبرع بعضو أو منتج من جسده ، أن يعدل عن رضاه في أي وقت قبل لحظة الاستئصال وبدون إبداء أسباب لعدوله ، وبغير أن يترتب على عدوله أدنى مسئولية عليه ، وبالتالي فلا محل لمطالبته بالتعويض([56]).

550- كما روعي هذا الحق أيضاً في مجال التجارب الطبية ، حيث درجت قوانين كثيرة على تقرير حق الشخص الخاضع لتجربة ما العدول عن موافقته في الاشتراك فيها ، فنصت المادة (9) من قانون نورنبرج على أنه : "طوال مدة التجربة يكون للمريض المتطوع أن يقرر وقف التجربة ، إذا وجد أن الاستمرار فيها يسبب له أذى نفسي أو جسدي ...". كما أكد على جواز هذا العدول إعلان هلسنكي، فبعد أن أُلزم الطبيب بالحصول على رضا المريض الحر بتجربة العلاج الجديد ، عاد فأكد على حق الشخص الخاضع للتجربة أو وصيه في إيقافها في أي وقت. وانفرد إعلان طوكيو بإلزام الطبيب بتبصير الخاضع للتجربة بحقه في العدول عن رضاه في أي وقت ، وأن رفضه الاستمرار فيها لا يؤثر بأية صورة على علاقته بطبيبه المعالج([57]).

ولقد سار على نفس النهج القانون الفرنسي الصادر في  20 ديسمبر 1988([58]) ، وذلك عندما نص في المادة (209/9) من قانون الصحة العامة من خلال الفقرة الثانية على أن : " على الباحث أو الطبيب الذي يُمثله أن يُبصر الشخص الذي يتعين الحصول على رضاه بحقه في رفض الاشتراك في التجربة، أو الرجوع عن موافقته في أي وقت ، ودون أية مسئولية تترتب عليه".

كما توجب الفقرة الخامسة من المادة السابقة تسليم الشخص الذي يتعين الحصول على رضاه وثيقة مكتوبة تتضمن ملخص للمعلومات التي يجب أن يُلم بها الشخص الخاضع للتجربة ، بالإضافة إلى حقه في رفض الاشتراك في التجربة أو العدول عن رضاه في أي وقت ، ودون أدنى مسئولية([59]).

ومن الواضح أن تقرير حرية العدول تؤدي – على نقيض ما تقضي به القواعد العامة- إلى عدم ترتب خطأ على عدم تنفيذ العقد ، فالتجربة ستستمر طالما أراد الخاضع لها ذلك ، وهذا يؤكد عدم إلزامية التعامل الذي يكون جسم الإنسان محلاًّ له. وهذا ما أكدته اتفاقية حماية حقوق الإنسان وكرامته - السابق الإشارة إليها- وذلك من خلال المادة (16) حين نصت على أنه يمكن سحب أو إلغاء هذه الموافقة بكل حرية وفي أي وقت ودون تحمل أية تبعات([60]).

كما جاء في توصيات اللجنة الفرعية لوضع الأسس و القواعد المتعلقة بآداب المهنة الطبية في مجالات الأبحاث الصحية على الإنسان بوزارة الصحة العامة في دولة الكويت المنعقدة في 20/12/1978 ، أنه: "يحق للشخص المراد إجراء التجارب عليه ، أن يعدل عن رضاه بالاستمرار في البحث في أي وقت يشاء ، و في جميع الأحوال يجوز للشخص أو ولي النفس أن يعدل عن رضاه، دون الحاجة لاتخاذ أية إجراءات و دون أدنى مسئولية تجاه الباحث".

551- ونخلص إلى القول أن الحق في العدول عن الرضا فيما يتعلق بالتعامل في جسم الإنسان، إنما يعد من الحقوق المتعلقة بالنظام العام ، لأنه يتعلق بحماية كرامة الإنسان وحقه في اتخاذ ما يراه مناسبًا في كل ما يتعلق بسلامة جسده ، وتمام صحته. وإذا كان القانون يسمح في أحوال معينة بالرجوع عن الالتزام بالإرادة المنفردة ، فحق العدول فيما يتعلق بالتعامل في جسم الإنسان يجب أن يتقرر دائمًا، ومن ثم فلا مجال للبحث عن تبرير له في قواعد نظرية الالتزام ، فالشخص من حقه أن يُطيل التفكير ليدبر أمره ، و يراجع نفسه، وهو بصدد اتخاذ قرار من شأنه المساس بسلامة جسمه ، فالرجوع إذًا هو العودة إلى الأصل والذي يقضي بعدم جواز المساس بسلامة الجسم ، لذلك يجب أن يكون مُتاحاً بصفة دائمة ومطلقة ، ودون أن يرتب أدنى مسئولية.

وهذا ما أكدته فتوى الجمعية العمومية لمجلس الدولة ، عندما اعتبرت أن الرضا الصادر من الشخص فيما يتعلق بجسده، هو رضا غير لازم، فهو مجرد إذن وإجازة تتعلق بحق من الحقوق اللصيقة بالشخص بموجب إنسانيته وآدميته([61])، والعدول عن هذا الإذن متروك لمطلق تقدير من يخصه الجسم دون أن يـخضع لأية رقابة من القضاء أو غيره ، ولا يُلْزَم في ذات الوقت بتقديم مـبررات لـهـذا الـعـدول ، كـمـا لا يمكن أن يُرتب هذا الـعـدول أية مسئولية على عاتـق الـعـادل ، حتى لا يكون هناك ما يعوق حرية العدول([62]).



تعليقات