القائمة الرئيسية

الصفحات



 


 

 

مفهوم فسخ العقد

تقسيم :

وسنتناول مفهوم فسخ العقد من خلال التعريف بفسخ العقد، ثم سوف نميزه عن غيره المصطلحات القانونية التي تشابهه، ثم نذكر الصور القانونية التي يأتي عليها فسخ العقد، وسنقسم هذا الفصل إلى المبحثين التاليين.  

 

المبحث الأول: التعريف بفسخ العقد وتمييزه عن غيره

المبحث الثاني: صور الفسخ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول
التعريف بفسخ العقد وتمييزه عن غيره

تقسيم:

وسنذكر هنا التعريف بفسخ العقد، ثم سنميزه عن غيره من الأنظمة القانونية الأخرى، كالبطلان والإنفساخ وغيرها ، وهكذا  سنقسم هذا المبحث إلى المطالب الآتية:

 

المطلب الأول          : التعريف بفسخ العقد.

المطلب الثاني : تمييز فسخ العقد عن البطلان.

المطلب الثالث   : تمييز فسخ العقد عن الإنفساخ وغيره.


 المطلب الأول

التعريف بفسخ العقد

         وسنتناول هنا التعريف اللغوي للفسخ، ثم التعريف الاصطلاحي في القانونين المصري واليمني وأخيرًا نذكر تعريفا شاملا لكافة خصائص الفسخ وسوف نبدأ بتعريف مفهوم العقد باعتباره من أجزاء مصطلح فسخ العقد،وسنقسم هذا المطلب إلى الفروع الآتية.

                الفرع الأول: تعريف العقد لغة واصطلاحًا.

                الفرع الثاني: تعريف الفسخ لغة.

                الفرع الثالث: تعريف الفسخ اصطلاحاً.

 

الفرع الأول

تعريف العقد لغة واصطلاحًا

         يطلق العقد لغةً على عدة معاني منها الربط والشد والإحكام والتوثيق والجمع بين أطراف الشيء وربطها، والمعنى المناسب هنا هو الربط والشد وهو نقيض الحل، ويقال عقدت الحبل إذا شددت طرفيه وربطت بينهما([1]).

         أما العقد اصطلاحًا فيعرفه الفقه المصري بأنه: "توافق إرادتين أو أكثر على ترتيب آثار قانونية، سواء أكانت هذه الآثار هو إنشاء الالتزام أم نقله أو تعديله أم إنهائه"([2]).

         فالعقد هنا يناسب المعنى اللغوي وهو الربط، وهذا الربط يكون بين إرادتين هي إرادة المتعاقدين، والتوافق هنا هو جوهر العقد، فيجب أن تكون إرادة كل من المتعاقدين إرادة صحيحة لا يشوبها غلط أو إكراه أو عيب من عيوب التراضي(كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال) والتي هي معيبة للإرادة، وينتج عن هذا التوافق بين إرادتين، وجود آثار قانونية ([3]).

         أما العقد في القانون اليمني فهو كما جاء في نص المادة 138 منه: "العقد إيجاب من أحد المتعاقدين يتعلق به قبول من الآخر أو ما يدل عليهما على وجه يترتب أثره في المعقود عليه (المحل) ويترتب على العقد التزام كل من المتعاقدين بما وجب به للآخر، ولا يشترط التقيد بصيغة معينة بل المعتبر ما يدل على التراضي"([4]).

         فمن النص السابق نلاحظ أن ذلك التعريف قد اشتمل على العناصر اللازمة للعقد فمن حيث صحة التراضي فلابد أن يكون التراضي صحيحًا وصادرًا من المتعاقدين بما يدل عليه من لفظ أو إشارة أو كتابة، وأن يتفق الإيجاب والقبول على إرادة إنشاء الالتزام، وفقًا للصيغة المعتبرة شرعًا وقانونًا، أما من حيث وصف الإرادة الصادرة عن طريق العقد فتجب أن تكون الإرادة الصادرة عن كل المتعاقدين مؤهلة قانونًا لإبرام العقد، كما أن المشرع اليمني لم يهمل ذكر المحل بأن تنعقد الإرادتان على محل مشروع ومقدور على تسليمه باعتباره المقصود الأصلي مـن التعاقد وهذا يؤكد النزعة الموضوعية للقانون اليمني المأخوذة من الفقه لإسلامي([5])، كما أن التعريف السابق قد وصف الرابطة المنتجة للالتزام العقدي، حيث استلزم في الإرادتين أن تتجها إلى أحداث الأثر الشرعي المقصود من التعاقد([6]).

الفرع الثاني

تعريف الفسخ لغة

         والفسخ لغة مصدر فسخ وللفسخ عدة معان، منها التناقض، فيقال: تفاسخت الأقاويل أي تناقضت، ومنها النقض يقال: فسخت البيع بين المتبايعين أي نقضته، ومن معاني الفسخ الفك يقال فسخت يده أي فككت مفصله من غير كسر، ومنها الإزالة، يقال: تفسخ الشعر عن الجلد أي زال وتطاير، ومنها الفساد يقال: تفسخ رأيه فسخًا أي فسد، ومنها التفريق يقال: فسخ الشيء أي فرقه، ومنها الطرح والإلقاء يقال: فسخت عن ثوبي إذا طرحته وألقيته، ومنها التقطع، يقال: تفسخت الفأرة في الماء أي تقطعت([7]).

         وبإضافة المفهوم اللغوي للفسخ إلى المفهوم اللغوي للعقد نجد أن المعني اللغوي المناسب لفسخ العقد هو نقض العقد وهو الرباط بين المتعاقدين، أو هو فك ذلك الترابط، وهو كذلك إزالة للترابط، وتفريق له، وطرح له، فعلى هذا يكون فسخ العقد من إضافة الشيء إلى نقيضه، فالفسخ والعقد معنيان متناقضان.

الفرع الثالث

تعريف الفسخ اصطلاحا

أولا: تعريف الفسخ في القانون المصري

         لم يتعرض القانون المصري لتعريف الفسخ واكتفى بذكر شروطه وآثاره تاركًا للفقه مهمة تعريفه، وللفسخ عند فقهاء القانون معنيان، عام ويدخل فيه الانفساخ، وخاص لا يدخل فيه الانفساخ.

         أما المفهوم العام فقد جاء ذلك في تعريف الدكتور على حسن الذنون حيث عرفه بأنه: "انقضاء الرابطة التعاقدية لاستحالة التنفيذ أو الامتناع عنه أو للإخلال به"([8]) ونفس التعريف السابق جاء به الدكتور محمد رفعت الصباحي إبراهيم([9]).

         فمن التعريفين السابقين نلاحظ إدخال مصطلح انقضاء العقد بسبب استحالة التنفيذ ضمن مصطلح الفسخ وهذا المعنى يعرف بالانفساخ. ويبدو أن سبب إدخال مصطلح الانفساخ مع الفسخ في التعريف السابق كان تماشيًا مع المشرع المصري الذي أدخل هذين المصطلحين (الفسخ والانفساخ) تحت موضوع واحد وهو انحلال العقد، وذلك للتشابه بينهما في الأحكام والآثار فآثر المشرع المصري أن يدخلهما تحت موضوع واحد وهو انحلال العقد.

         أما الفسخ بمعناه الخاص وهو ما لا يدخل فيه مصطلح الانفساخ، فقد تعددت تعاريف فقهاء القانون المصري فيه ما بين موسع بذكر الكثير من القيود التي تجعله جامعًا لما فيه من الأحكام ومانعًا لما يخالفه، وهناك من يتجه اتجاه التضييق في التعريف مكتفيًا بذكر بعض قيوده.

         فمن التعاريف المضيقة نجد تعريف الدكتور محمد إبراهيم دسوقي، حيث يقول: "الفسخ هو انحلال العقد نتيجة لعدم تنفيذ أحد الطرفين لالتزامه"([10]) ويعرفه الدكتور سيف الدين البلعاوي بأنه: "حل الرابطة التعاقدية بسبب إخلال أحد المتعاقدين في تنفيذ التزامه"([11]) ويعرفه الدكتور نبيل إبراهيم سعد بأنه: "حل الرابطة العقدية في العقود الملزمة للجانبين نتيجة عدم قيام أحد الطرفين بتنفيذ التزامه"([12]) فمن تلك التعريفات السابقة نلاحظ أنها اقتصرت على موضوع الفسخ وهو الانحلال وعلى سببه وهو عدم التنفيذ دون ذكر خصائصه.

إلا أننا نجد تعاريفًا أكثر اتساعًا مثل تعريف الدكتور حمدي عبد الرحمن حيث جاء فيه أن الفسخ هـو: "إنهـاء الرابطة العقدية بناء على طلب المتعاقد جزاء لعدم قيام المتعاقد بتنفيذ التزامه"([13])، وجاء أيضًا في تعريف الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي أنه: "حل الرابطة العقدية، بناء على طلب أحد أطراف العقد، إذا خل الطرف الآخر بالتزاماته"([14])، فهكذا نجد أن التعريفين السابقين أوسع نوعًا ما من التعاريف السابقة.

أما تعريف الدكتور جميل الشرقاوي فهو أكثر شمولا حيث يعرف الفسخ بأنه: "حل ارتباط العقد الملزم للجانبين بحكم يصدر من القضاء بناء على طلب أحد المتعاقدين بسبب تقصير المتعاقد الآخر لالتزامه"([15]) وجاء أيضًا تعريف مجمع اللغة العربية أكثر وضوحًا وشمولا فعرفت الفسخ بأنه: "حل الرابطة العقدية بسبب عدم قيام أحد طرفيها بتنفيذ التزامه وهو يؤدي إلى زوال العقد بجميع آثاره في الماضي والمستقبل"([16]).

ثانيا:  التعريف الاصطلاحي للفسخ في القانون اليمني

أما مفهوم الفسخ في القانون اليمني، فلا يكاد يختلف عنه في القانون المصري، فجاء في المذكرة الإيضاحية في القانون اليمني ما يأتي: "انحلال العقد أو فسخه هو الرجوع فيه لسبب من الأسباب الموجبة لذلك مما ينص عليه القانون الشرعي"([17]) وفي هذا التعريف جاء المعنى الشامل للفسخ وهو حل الرابطة العقدية سواء بسبب عدم التنفيذ أو غيره إلا أن المذكرة الإيضاحية جاءت لتوضيح المقصود بهذا التعريف ولتستثنى بعضًا من طرق إنهاء العقد فلا تدخله في معنى الفسخ حيث نصت على: "وهو غير التفاسخ بالتراضي بين المتعاقدين، وغير الرجوع في العقود والتي لا يجوز فيها ذلك لأحد الطرفين أو لكل منهما بإرادته المنفردة طبقًا لما ينص القانون الشرعي كالوكالـة والهبة.."([18])، ورغم هذا الاستثناء إلا أن الفسخ مازال معناه واسعًا حيث يدخل فيه الفسخ بسبب اقتران العقد بالخيار أو الفسخ بسبب استحالة التنفيذ (الانفساخ) وسبب هذا التداخل هو التشابه في أحكام تلك الطرق المنهية للعقد وآثارها.

ونجد من الفقه اليمني من يأخذ بهذا المعنى الشامل، فيعرفه الدكتور مطهر علامة بأنه: "حل الرابطة العقدية الملزمة للجانبين بحكم قضائي، وبناء على طلـب أحد المتعاقدين لامتناع المدين عن تنفيذ التزامه، أو استحالة التنفيذ"([19]) أما الفقه اليمني الغالب فيجعل تعريفه بمعناه الخاص فيعرفه الدكتور عبد الله العلفي بأنه: "حل ارتباط العقد الملزم للجانبين بحكم يصدر من القضاء بناء على طلب أحد المتعاقدين بسبب تقصير المتعاقد الآخر في تنفيذ التزامه"([20]) ويعرفه الدكتور محمد حسين الشامي بأنه: "انحلال أو زوال العقد بجميع آثاره في الماضي أو المستقبل بسبب عدم تنفيذ المتعاقد لالتزامه"([21]) ويعرفه الدكتور عبد الله الخياري بأنه: "حل الرابطة العقدية بسبب عدم قيام أحد طرفيها بتنفيذ التزامه"([22]). ونلاحظ من تعاريف الفقه اليمني أنها تكاد تكون منقولة من الفقه المصري([23]).

ثالثا: التعريف المختار

مما سبق نلاحظ أن التعاريف في كل من القانون المصري واليمني متقاربة إلا أننا لا نكاد نجد تعريفًا شاملا يضم كافة خصائص الفسخ ولذا سنحاول أن نختار تعريفًا شاملا للفسخ يضم فيه كافة الخصائص المميزة للفسخ، وسنختار هذا التعريف من مجموع التعاريف السابقة فنقول: فسخ العقد هو: " هو حل الرابطة العقدية الصحيحة الملزمة لطرفيها بسبب إخلال أحد طرفيها بالتزاماته، سواء تم الاتفاق عليه أم لم يتم، ويكون بحكم القاضي بناء على طلب الدائن ويؤدي إلى زوال العقد بأثر رجعي أو في المستقبل" وبهذه المحاولة نكون قد استوفينا في هذا التعريف كافة عناصر الفسخ وخصائصه، فمن ناحية الموضوع حل الرابطة العقدية، ومن ناحية المحل وهو أن يكون في العقود الصحيحة الملزمة للجانبين، ومن ناحية السبب وهو إخلال أحد الطرفين بالتزامه، وذلك بامتناعه عن التنفيذ مع قدرته على تنفيذه، أو بتسببه في استحالة التنفيذ، ومن حيث كيفية وقوعه بناء على طلب الدائن، ومن ناحية صوره إما بناء على اتفاق مسبق أو من غير اتفاق، وأخيرًا من ناحية أثر وقوعه وهو زوال العقد بأثر رجعي أو في المستقبل فقط.

كما يتبين من التعريف السابق أن الفسخ يدخل ضمن الحقوق الترخيصية الإرادية السلبية والتي تؤدي إلى اكتساب الحق، وهي: مكنة تعطى للشخص بسبب مركز قانوني خاص في أن يحدث أثرًا قانونيًا بمحض إرادته، مثل حق من وجه إليه الإيجاب، وحق المسترد في أن يسترد الحصة المبيعة وحق الشخص في أن يأخذ الشفعة([24]).

كما يلاحظ من التعريف السابق للفسخ أن الفسخ ذو طبيعة جزائية حيث يكون الفسخ جزاء لواقعة الإخلال بالتنفيذ، كما أنه ذو طبيعة تأمينية يضمن به الدائن حقه حيث يستطيع أن يهدد بها المدين الممتنع عن التنفيذ([25]).


المطلب الثاني
تمييز الفسخ عن البطلان

         يعتبر البطلان من أكثر الأنظمة القانونية قربًا من الفسخ، والبطلان لغةً ضد الحق، وهو مصدر بطل، بمعنى ذهب وضاع وخسر([26])، والبطلان جزاء قانوني يترتب على الإخلال بأركان العقد وشروطه، فإذا كان الإخلال بأركان العقد وشروط وجوده فيعرف هذا بالبطلان المطلق، أما إذا كان الإخلال بشروط صحة تلك الأركان، فيعرف هذا بالبطلان النسبي([27])، وسوف نتناول التمييز بين الفسخ والبطلان بنوعيه، وسنقسم هذا المطلب إلى ما يلي:

الفرع الأول: تمييز فسخ العقد عن البطلان المطلق.

الفرع الثاني: تمييز فسخ العقد عن البطلان النسبي.

 

الفرع الأول

تمييز فسخ العقد عن البطلان المطلق

         سنتناول هنا تعريفًا موجزًا بنظام البطلان المطلق في كل من القانونيين المصري واليمني، ثم نعقد مقارنة بينه وبين نظام فسخ العقد على ضوء الأحكام السابقة كالآتي:

         يعرف البطلان المطلق في فقه القانون المصري بأنه: "هو الجزاء القانوني الذي يترتب على تخلف شرط من شروط انعقاد العقد كانعدام الرضا أو السبب أو المحل أو الشكل في العقود الشكلية([28]).

         فالعقد الذي قضي ببطلانه بطلانًا مطلقًا، على الوجه المتقدم هو عقد غير موجود قانونًا، ومن ثم فلا تترتب عليه آثاره، وفي حالة البطلان المطلق يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك به، والمقصود بالمصلحة هنا هي تلك التي تستند إلى حق يتأثر بصحة العقد أو بطلانه([29])، بل يمكن للمحكمة أن تتصدى وتقضي ببطلان العقد من تلقاء نفسها ولو لم يطلبه الخصوم، والبطلان المطلق لا تلحقه الإجازة فلا يمكن أن يصحح بالإجازة لأنه عقد منعدم أصلا([30])، ويزول آثار ذلك العقد ويعود العاقد إلى ما كان عليه قبل العقد، والبطلان المطلق لا يحتاج إلى حكم قضائي يقضي ببطلانه، ولكن الضرورة قد تُلجئ هذا المتعاقد إلى رفع دعوى البطلان، وذلك كأن يكون البائع مثلا نفذ التزامه بتسليم الشيء المبيع في البيع، ويريد البائع استرداده فيرفض المشتري، فهنا يرفع البائع دعـوى البطلان ويكون حكم القاضي هنا كاشفًا للبطلان لا منشئًا له([31])، وأما مدة التقادم في البطلان فهي في حالة رفع الدعوى خمسة عشر سنة أما في حالة الدفع فهي مطلقة لا تتقيد بوقت لأنه يدفع([32]).

         ويعرف العقد الباطل بطلانًا مطلقًا في القانون اليمني بأنه: ما انعدمت فيه أحد أركان العقد المتمثلة في التراضي والمحل والسبب مثل عقد الهازل، والتعاقد على محل غير موجود أصلا، أو هو ما قامت به الأركان الثلاثة ولكنه اختل فيه شرط من شروط وجود التراضي أو المحل أو السبب، ومثال ذلك عقد الصبي غير المميز أو التعاقد على محل غير مشروع أو كان سبب العقد غير مشروع، ومثله إذا تخلف الشكل الذي أوجبه القانون في بعض العقود أو تخلف ركن التسليم في العقود العينية، مثل عقد القرض والصرف، فإذا ما أصيب العقد في أحد هذه المقومات كان حكمه البطلان المطلق، من تاريخ إبرامه، وبالتالي فهو والعدم سواء وحق التمسك بالبطلان المطلق في القانون اليمني يكون لكل ذي مصلحة: العاقدين أو غيرهما وللمحكمة أن تحكم به من نفسها ولا تلحق العقد الباطل إجازة، ويعود المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد فإن كان ذلك مستحيلا جاز الحكم بتعويض عادل، كما أنه يسقط بمضي خمس وعشرين سنة في حالة رفع الدعوى ولا ينتهي البطلان المطلق بالتقادم في حالة الدفع([33]).

         وبالمقارنة بين كل من فسخ العقد والبطلان المطلق نجد أن فسخ العقد يشبه البطلان المطلق من حيث كون كل منهما جزاءا قانونيا يترتب على الإخلال، إلا أن سبب الجزاء يختلف فهو في حالة الفسخ جزاء الإخلال بالتنفيذ وهو في حالة البطلان جزاء الإخلال بأركان العقد وشروط وجوده([34])، ونلاحظ أيضًا أنهما يختلفان في المحل فهو العقد الصحيح في الفسخ إذ يرد على عقد وقع صحيحًا من حيث النشوء وإنما حصل العيب في التنفيذ، أما في البطلان المطلق فإن العقد هنا ورد على عقد منعدم، وغير موجود أصلا([35]).

ويختلف فسخ العقد عن البطلان المطلق من حيث صاحب الحق في طلبه حيث يكون الفسخ خاصًا بالدائن الذي وقع الإخلال بالتزام في حقه ولا يحق للمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها إلا بناء على طلب الدائن، بينما هو في حالة البطلان المطلق لكل من له مصلحة فيه وللمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها([36]).

ويختلفان أيضًا من حيث ضرورة الحكم به وسلطة القاضي وطبيعة حكمه به ففي الفسخ لا يكون الفسخ إلا بناء على حكم القاضي، أما البطلان المطلق فلا يشترط فيه الحكم فيمكن لمن له مصلحة أن يبطل العقد وللقاضي سلطة تقديرية في حالة فسخ العقد القضائي، وليست له هذه السلطة في حالة البطلان المطلق فإذا ما توفرت شروطه وجب على القاضي أن يحكم بالبطلان، وهذا أيضًا يتفق مع الفسخ الاتفاقي، أما عن طبيعة حكم القاضي فالحكم هنا بالعكس من ذلك فهو كاشف للبطلان وليس منشئًا له ومثله الفسخ الاتفاقي، لأن البطلان موجود أصلا بقوة القانون والحكم القضائي جاء ليكشف عنه.

وأخيرًا نجد أن فسخ العقد يختلف مع البطلان المطلق من حيث الوجود القانوني له قبل الحكم به فالعقد في حالة الفسخ له وجود قانوني حيث يحكم بالفسخ، أما في حالة البطلان المطلق فإنه ليس له وجود قانوني أصلا، ومن حيث الأثر نلاحظ أنه يجب العودة إلى الحالة قبل العقدية في فسخ العقد وفي حالة تعذر ذلك يحكم بالتعويض على أساس المسئولية التقصيرية وكذا في حالة البطلان المطلق([37]).


الفرع الثاني
تمييز فسخ العقد عن البطلان النسبي

         وسنتناول هنا أيضًا تعريفًا موجزًا بنظام البطلان النسبي أو العقد القابل للإبطال في كل من القانونين المصري واليمني ثم نقارن- على ضوء ما سبق- بين فسخ العقد والبطلان النسبي كالآتي:

         والبطلان النسبي في القانون المصري وهو ما يعرف بالعقد القابل للإبطال: وهو جزاء قانوني يترتب على تخلف شرط من شروط صحة العقد، وهي تتصل باكتمال الأهلية وسلامة الرضاء ([38])، فهو جزاء يلحق العقد المستوفي أركانه إلا أنه تخلف عنه شرط من شروط صحة تلك الأركان، وذلك مثل أن يكون أحد العاقدين ناقص الأهلية مثل الصبي المميز أو السفية أو ذوي الغفلة، أو كانت إرادة أحد المتعاقدين مشوبة بعيب من عيوب الإرادة مثل الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال([39])، ففي هذه الحالة يحق للعاقد الذي له مصلحة في إبطال العقد أن يطالب بإبطال العقد، فإذا كان سبب قابلية العقد للإبطال هو نقص الأهلية، فناقص الأهلية، وحده هو الذي يجوز له أن يتمسك بالإبطال، وإذا كان سبب البطلان هو عيب في الإرادة فإنه من شابه هذا العيب هو وحده الذي يجوز له التمسك بالإبطال([40]).

         أما عن كيفية تقرير البطلان فالعقد القابل للإبطال، عقد موجود قانونًا، وهو منتج لكل آثاره ولكنه مهدد بالزوال، فإذا لم يتفق الطرفان على إبطال العقد جاز لصاحب الحق في الإبطال - مثل ناقص الأهلية أو من تعيبت إرادته-  أن يرفع دعوى للمطالبة به، والقاضي لا يملك من تلقاء نفسه أن يحكم بإبطال العقد، وإلا يكون قد قضى بما لم يطلبه الخصوم، وهذا ممتنع عليه، ولذلك يجب أن يتمسك به صاحب الحق فيه، فإذا توافرت شروط الإبطال وجب على القاضي هنا الحكم بالإبطال، وحكم القاضي في هذه الحالة منشئ للإبطال، لأنه يزيل العقد الموجود قانونًا، فينشئ حالة البطلان([41])، كما أن العقد القابل للإبطال يمكن أن تلحقه إجازة من قبل الشخص الذي تقرر الإبطال لصالحه، ويصير العقد في هذه الحالة عقد صحيحًا وينتج جميع آثاره ويسقط الحق في الإبطال، كما أن العقد القابل للإبطال يسقط بمرور مدة التقادم، وهذه المدة تختلف حسب أحوال الإبطال وأسبابه فتكون المدة ثلاث سنوات إذا كان سبب الإبطال الغلط أو التدليس أو الإكراه، أو بمرور خمس عشر سنة من وقت إبرام العقد، وبالنسبة لنقص الأهلية فيكون بمرور ثلاث سنوات من وقت زوال نقص الأهلية، والأثر العام للبطلان هو إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد فالبطلان يترتب عليه اعتبار هذا العقد كأن لم يكن، ويكون هذا بأثر رجعي من وقت إبرام العقد، وأما إذا استحال عودة الشيء إلى ما قبل التعاقد، يكون الحكم هنا بتعويض عادل([42]).     

         وسبب البطلان النسبي في القانون اليمني هو نقص الأهلية وهي مرحلة سن التمييز من بلوغ الرشد، وعيوب التراضي مثل وقوع غلط أو تدليس أو إكراه أو غرر، ويلحق بها تصرفات السفيه بعد الحجز وتصرفات المصاب بعاهة دون مشاركة المساعد القضائي، وتصرفات المريض مرض الموت المتعلقة بأعيان التركة. فتلك الأسباب ونحوها مما لا يتعلق بأركان العقد أو مشروعيته تجعل العقد قابلا للإبطال ويترتب على العقد القابل للإبطال ثبوت حق التمسك بالإبطال للمتعاقد الذي وقع لصالحه هذا الإبطال، ولا يحق للمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها: كما أن العقد القابل للإبطال تلحقه الإجازة، وهي عبارة عن تصرف قانوني يعبر عن التنازل عن الحق في إبطال العقد بالإجازة الصريحة أو الضمنية. ويسقط حق الإبطال بمضي مدة التقادم، وهي ثلاث سنوات مع عدم وجود مانع، وتبدأ لمدة بالنسبة للصغير من يوم بلوغه رشيدًا، وبالنسبة لناقص الأهلية غير الصغير كالسفيه، أو من أصيب بعته أو نحو ذلك، من يوم زوال سبب ذلك، وفي حالة عيوب الإرادة الأخرى كالغط أو التغرير فتحسب من اليوم الذي ينكشف منه ذلك، ويترتب على الحكم بالبطلان النسبي وجود إعادة الحال إلى الحالة التي كان عليها المتعاقدان قبل التعاقد، فإن استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض العـادل([43]).

         وبالمقارنة بين كل من فسخ العقد والبطلان النسبي نجد أنهما يتفقان من حيث الطبيعة، حيث كل منهما يعد جزاء قانونيًا رتبه القانون على إخلال كل من المتعاقدين، فهو في حالة الفسخ إخلال بالتنفيذ، أما في حالة البطلان النسبي فإخلال بشروط صحته ؛ ولذا اختلف سبب إنهاء العقد في كل منهما([44]). ويتفقان في أن كلا منهما يردان على عقد، غير أنه في حالة فسخ عقد صحيح غير معيب عند نشوئه أما في حالة البطلان النسبي فيرد على عقد غير صحيح معيب أي أنه ينشأ معيبًا كما أن فسخ العقد يختص بوروده على العقود الملزمة للجانبين فقط بعكس البطلان النسبي الذي لا يختص بالعقود الملزمة للجانبين فيمكن أن يرد على العقود الملزمة لجانب واحد أو غير اللازمة أصلا([45]).

         كما نجد أن كلا من الفسخ والبطلان النسبي يتفقان في صاحب الحق بالتمسك بهما فيكون عمومًا لكل من له مصلحة من المتعاقدين فقط، فيكون في حالة الفسخ للدائن الذي وقع الإخلال بالتنفيذ لصالحه، وفي حالة البطلان النسبي لمن كان البطلان وقع لصالحه؛ فلذا لا يحق للمحكمة أن تحكم بفسخ العقد أو البطلان النسبي من تلقاء نفسها دون طلب ممن له هذا الحق([46]).

         ويتفق الفسخ الاتفاقي مع البطلان النسبي في أن القاضي ليس له سلطة تقديرية بعكس الفسخ القضائي الذي يكون للقاضي سلطة تقديرية فيه، ويتفق أيضًا الفسخ بنوعيه مع البطلان النسبي في أن كلا منها له وجود قانوني ويرتب آثاره حتى الحكم به، ويتفق أيضًا الفسخ القضائي مع البطلان النسبي من حيث طبيعة الحكم في كونه منشئًا للحق وليس كاشفًا للحق، وهذا بعكس الفسخ الاتفاقي الذي يكون الحكم فيه كاشفًا للحق لا منشئًا للحق، ويتفقان أيضًا في حالة أثر كل منهما إذا هما يؤديان إلى إنهاء الرابطة العقدية وعودة المتعاقدين إلى الحالة قبل العقدية، فإن تعذر ذلك حكم القاضي بالتعويض على أساس المسئولية التقصيرية([47]).


المطلب الثالث
تمييز فسخ العقد عن الانفساخ وغيره

         وفي هذا المطلب سنتناول تمييز الفسخ الانفساخ لأنه أقرب المصطلحات شبهًا به ولذلك أدخلها المشرعان المصري واليمني مع أحكام الفسخ، وبعض الفقـه يجعل الانفساخ من أنواع الفسخ ويسمونه بالفسخ القانوني([48])، ولذا سنوضح الفرق بينهما ثم نشير أيضًا إلى الفرق بين الفسخ والدفع بعدم التنفيذ والمسئولية العقدية، كما سيأتي:

الفرع الأول: تمييز فسخ العقد عن الانفساخ.

الفرع الثاني: تمييز فسخ العقد عن الدفع بعدم التنفيذ.

الفرع الثالث تمييز فسخ العقد عن المسئولية العقدية.

 

الفرع الأول

تمييز فسخ العقد عن الانفساخ

         وسنتناول هنا التعريف بالانفساخ في القانون المصري واليمني ثم نعقد مقارنة بين نظام فسخ العقد والانفساخ.

         نصت المادة 59 من القانون المدني المصري على أنه: "في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى الالتزام بسبب استحالة تنفيذه انقضت معه الالتزامات المتقابلة وينفسخ العقد من تلقاء نفسه" فمن خلال النص السابق نلاحظ أن العقد ينفسخ قانونًا باستحالة التنفيذ، وبذلك تنقضي الالتزامات الناشئة عنه، واستحالة التنفيذ يقصد بها هنا: "هي سبب من أسباب انقضاء الالتزام يقع في حالة ما إذا أصبح الوفاء بالالتزام مستحيلا لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه"([49]) فاستحالة التنفيذ كي تكون سببًا للفسخ يجب أن تكون بسبب أجنبي، وهذا أيضًا ما أكدته المادة 273 من القانون المدني حيث جاء فيها: "ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء به أصبح مستحيلا لسبب أجنبي لا يد له فيه" فهذه المادة توضح أن من أسباب انقضاء الالتزام هو استحالة التنفيذ بسبب أجنبي([50])،ولا داعي في حالة الانفساخ للإعذار لأنه لا جدوى منه ولا يلزم هنا أن يكون الفسخ بحكم القاضي فيمكن للدائن أن يفسخ بنفسه وإنما حكم القضاء هنا يكون في حالة الاختلاف، ولذا لا يكون للقاضي هنا سلطة تقديرية، ويجب عليه الحكم بالانفساخ في حالة توافر شروطه، ويكون الحكم في هذه الحالة كاشفًا للفسخ لا منشئًا، وبعد الحكم بالفسخ يرجع المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد إلا أنه لا يحكم بالتعويض، لأن الالتزام انقضى هنا بسبب قوة قاهرة ولكن تظهر في حالة الانفساخ مشكلة تحمل تبعة الهلاك التي حدثت بسب قوة قاهرة لايد للمدين فيها فمن يتحملها؟([51]).

         فإذا كان الهلاك قبل العقد فالدائن هو الذي يتحمل كأن تهلك السيارة قبل بيعها إذ هي في ملكه وحدث الهلاك عنده وكذا إذا هلكت السيارة بعد التعاقد وبعد التسليم فيتحمل الهلاك المشتري مالكها الجديد، أما إذا حدث الهلاك بعد التعاقد وقبل التسليم كأن تهلك السيارة المبيعة بعد البيع  وقبل التسليم، فهنا يتحمل المدين تبعه الهلاك؛ لأنه ما ذنب الدائن في هذه الحالة إذ هو لم يتسلم المبيع بعد، وهذه هي القاعدة في العقود الملزمة للجانبين، وعلى العكس في العقود الملزمة لجانب واحد مثل عقد الوديعة، إذا هلك الشيء المودع لدى المدين المودع لديه بسبب أجنبي فإن الدائن وهو المودع هو الذي يتحمل تبعة الهلاك في هذه الحالة، والسبب في التفريق بين تبعة الهلاك في الحالتين أنه في حالة العقود الملزمة للجانبين، كان تحمل التبعة على أساس الترابط بين الالتزامات المتقابلة فالتزام المشتري بدفع الثمن في عقد البيع ينقضي باستحالة تنفيذ البائع بتسليم المبيع، وينفسخ بذلك العقد الذي هو أيضًا مصدر الالتزامات، ولا علاقة هنا للمشتري (الدائن) في تحمل تبعة الهلاك. أما في العقد الملزم لجانب واحد فلا يكون هناك علاقات متقابلة، فالدائن هنا وهو المودع في عقد الوديعة ليس في ذمته التزام يتحلل منه في مقابل تحلل المدين- وهو المـودع عنده- من التزامه فالدائن هو الذي يتحمل الخسارة في هذه الحالة([52]).

         وبالمثل جاءت أحكام الانفساخ في القانون اليمني، فقد نصت المـادة (223) من القانون المدني على أن "عقود المعاوضات الملزمة للجانبين إذا استحال تنفيذ التزام أحد المعاقدين انقضى معه التزامات المتعاقد الآخر المقابلة له، وينفسخ العقد من تلقاء نفسه"، وعلى ضوء هذه المادة عرف الفقه اليمني الانفساخ بأنه: "حل الرابطة العقدية لاستحالة التنفيذ بسبب قهري لايد للمدين فيه كالقوة القاهرة"([53]). ويشترط في الانفساخ أن تكون هذه الاستحالة ناتجة بسبب أجنبي، وعلى المدين إثبات ذلك وإلا كان الأصل أن الاستحالة بسبب المدين ما دام أن هذا الهلاك حصل عنده ولذا سيتحمل في هذه الحالة المسئولية العقدية، وعليه التعويض على أساسها، وبانفساخ العقد يسقط التزام الدائن إذا كان الدائن قد وفى التزامه فيلزم على المدين رد ما دفعه الدائن، أما عن تبعة الهلاك فقد أخذ بما أخذه القانون المصري بشأن نظرية تحمل تبعة الهلاك وهي أن المدين هو الذي يتحمل تبعة الهلاك إلا أن أحكام تحمل تبعة الهلاك ليست من النظام العام فيجوز الاتفاق على مخالفتها([54]).

         وبمقارنة نظام فسخ العقد مع الانفساخ نلاحظ أنهما يتفقان من حيث أن كلا منهما يؤديان إلى انتهاء العقد إلا أن الانفساخ يختلف عن فسخ العقد في كونه سببًا من أسباب انقضاء العقد وانقضاء الالتزام، ويختلفان من حيث سبب الانحلال فهو في حالة فسخ العقد الإخلال بالتنفيذ ويكون إما بالامتناع عن التنفيذ أو باستحالة التنفيذ بسبب المدين أما في حالة الانفساخ فإن سبب الانحلال هو استحالة التنفيذ بسبب قوة قاهرة أجنبية لا يد للمدين فيها، فلذا يختلفان من حيث الطبيعة فهو ذو طبيعة جزائية في حالة فسخ العقد حيث الانحلال جزاء ترتب على الإخلال بالتنفيذ، بعكس الانفساخ حيث ليس هناك عنصر الخطأ وهو الإخلال، وإنما عدم التنفيذ وقع بسبب قوة قاهرة أجنبية، فليس هناك جزاء قانوني، وليس للانفساخ طبيعة جزائية، وفي حالة الانفساخ ينفسخ العقد بقوة القانون وليس للقاضي سلطة تقديرية في الحكم به وإنما عليه الحكم به متى ما ثبت ذلك ويكون حكمه كاشفًا لا منشئًا له، وهذا يتفق مع الفسخ الاتفاقي بخلاف الفسخ القضائي الذي يكون للقاضي فيه سلطة تقديرية، ويكون الحكم منشئًا للفسخ لا كاشفًا له.

وأخيرًا فإن الفسخ يتفق مع الانفساخ من حيث أثره على المتعاقدين في رجوع المتعاقدين إلى حالة ما قبل العقد ويسري هذا الأثر على الغير هنا إلا أنهما يختلفان في أنه في حالة فسخ العقد يلزمه التعويض عند تعذر إعادة الحال إلى ما كان عليه، وهذا بعكس الانفساخ حيث لا يكون هنا للتعويض محل، لأن المدين قد انقضى التزامه بقوة قاهرة، وتأتي هنا مسألة من يتحمل تبعة الهلاك كما ذكرناها([55]).

وهكذا فإن الانفساخ يختلف تمامًا عن الفسخ من حيث السبب والطبيعة وكذا في بعض الآثار.

الفرع الثاني
تمييز فسخ العقد عن الدفع بعدم التنفيذ

         وسنتناول في هذا الفرع تمييز فسخ العقد عن الدفع بعدم التنفيذ باعتباره يتشابه مع الفسخ في أنهما من جزاءات عدم التنفيذ ووسائل لحماية الدائن حقه من الضياع كالآتي:

         يعتبر الدفع بعدم التنفيذ من أهم الجزاءات التي رتبها القانون في حالة عدم التنفيذ في العقود الملزمة للجانبين، والدفع بعدم التنفيذ يتشابه مع فسخ العقد في كثير من الأحكام، ولذا أدخله المشرعان المصري واليمني مع فسخ العقد، تحت موضوع انحلال العقد، وسوف نتناول هنا التعريف بالدفع بعدم التنفيذ في كل من القانونين المصري واليمني ثم نعقد مقارنة بينه وبين الفسخ.

         نصت المادة 161 مدني مصري على أنه: "في العقود الملزمة للجانبين إذا كانت الالتزامات المتقابلة مستحقة الوفاء جاز لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ ما التزم به" فمن هذا النص نلاحظ أن الدفع بعدم التنفيذ يرد على العقود الملزمة للجانبين، فإذا لم يقم أحد طرفي التعاقد بتنفيذ التزامه، فإنه يحق للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ التزامه المقابل، استنادًا إلى أن المتعاقد الأول لم يقم بتنفيذ التزامه المقابل. كما أنه يشترط أن يكون في حالة التزام مستحق الأداء، فلا يجوز لمن كان التزامه غير مستحق الأداء أن يمتنع عن التنفيذ متمسكًا بعدم تنفيذ الالتزام المقابل، كما إذا كان مضافًا إلى أجل([56]) ويجب أيضًا في التمسك بالدفع بعدم التنفيذ مراعاة حسن النية، فيجب عدم التعسف في استعمال هذا الحق، فإذا كان المتمسك بعدم التنفيذ هو الذي تسبب في تأخير التنفيذ المقابل فلا يحق له أن يتمسك بعدم التنفيذ أو كان ما بقى من التزام الذي بسببه كان الدفع بعدم التنفيذ يسيرًا بالنسبة إلى ما نفذه من الالتزام في جملته فإنه لا يحق للمتعاقد التمسك بالدفع بعدم التنفيذ، وإلاكان متعسفاً في استعمال حقه([57]).

ويترتب على التمسك بعدم التنفيذ وقف تنفيذ الالتزام إلى أن يعرض المتعاقد الآخر للالتزام، وبالتالي لا يجوز لمن وجه إليه الدفع بعدم التنفيذ أن يطلب حقه بطريقة التنفيذ العيني، فالدفع بعدم التنفيذ مؤقت إلى أن يتجلى الأمر، إما باستئناف التنفيذ المتبادل، وأما أن يكون الموقف صعبًا؛ فلا يمكن التنفيذ فيؤدي ذلك إلى فسخ العقد([58])، ولا يعد المتعاقد الذي يمنع عن التنفيذ مقصرًا في عدم الوفاء ولا يترتب عليه أي مسئولية عن عدم التنفيذ؛ لأنه يقوم بهذا استعمالا لحقه، ومن أهم أثار الدفع بعدم التنفيذ هو وقف التنفيذ المقابل، فإذا باع شخص لآخر شيئًا ولم يدفع المشتري الثمن فإنه يحق للبائع الدفع بعدم التنفيذ وبالتالي الامتناع عن تسليم العين المبيعة والذي يؤدي بالتالي إلى حبس العين المبيعة وهو ما يعرف بحق الحبس([59])، والتي جاء بها المشرع المصري كإحدى وسائل الضمان حيث نص المادة 246 عنه على "لكل من التزم بأداء شيء أن يمتنع عن الوفاء به، مادام الدائن لم يعرض الوفاء بالتزام مترتب عليه مادام التزام المدين مرتبط به أو مادام الدائن لم يقم بتقديم تأمين كاف للوفاء بالتزامه هذا" فحق الحبس هو وسيلة لحماية المدين بدين واجب الأداء على سداد هذا الدين عن طريق امتناع هذا الأخير عن تسليم شيء يجب عليه تسليمه للمدين مادام أن هناك ارتباطًا بين حق الدائن والتزامه بالتسليم، إلا أنه يلاحظ أن الحق في الحبس أعم من الدفع بعدم التنفيذ، حيث الحق في الحبس يشمل الالتزامات الناشئة عن العقد أو غيرها كما إذا انفق على عين حائز لها مصروفات ضرورية فإنه يخوله في هذه الحالة حبس هذه العين إلى أن يسترد تلك المصروفات([60])، أما في حق الدفع بعدم التنفيذ فهي خاصة بالالتزامات العقدية في العقود الملزمة للجانبين.

         وبالمثل جاءت أحكام الدفع بعدم التنفيذ في القانون اليمني حيث نصت المادة 225 منه على أن "عقود المعاوضة إذا كانت الالتزامات المتقابلة مستحقة الوفاء جاز لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يوافيه المتعاقد الآخر بما التزم به ويكون له حبس العين في يده تبعًا"، وهكذا يتبين أن الدفع بعدم التنفيذ يكون في عقود المعاوضات وهي العقود الملزمة للجانبين، وكذا يجب أن يكون الجزء المتبقي من تنفيذ العقد قليل الأهمية بالنسبة لما قد تم تنفيذه، وأن يتسبب المتمسك بعدم التنفيذ في تأخير الالتزام المقابل وهذا مما يوجبه حسن النية، وعدم التعسف في استعمال الحق([61])، ومن آثار الدفع بعدم التنفيذ في القانون اليمني أنه يحقق العدالة العقدية هنا كما أنه يؤدي إلى وقف التنفيذ كما أنه يعتبر بداية الطريق إلى الفسخ في حالة الاستمرار في عدم التنفيذ وعدم الاتفاق على الفسخ([62])، كما أنه يؤدي إلى حبس العين في يد المتمسك بعدم التنفيذ تبعًا لعدم تنفيذ الالتزام المقابل، وهنا تظهر الصلة بين الدفع بعدم التنفيذ وحق الحبس، فعدم التنفيذ إنما هو صورة من صور الحق في الحبس فإذا كان حق الحبس يكون في كافة الالتزامات عقدية أو غير عقدية في العقود الملزمة للجانبين أم غير اللازمة، فإنه في حالة الدفع بعدم التنفيذ خاص بصورة الالتزامات العقدية في العقود الملزمة للجانبين بالذات، ولقد أورد المشرع اليمني الحق في الحبس تحت وسائل ضمان تنفيذ الحق، و جاء بعنوان الدفع بعدم التنفيذ وحق الحبس، حيث أجاز المشرع اليمني للدائن في الالتزامات المتقابلة أن يطلب من المدين تنفيذ التزامه المقابل أولا، ويترتب على الدفع بعدم التنفيذ، حبس العين محل التنفيذ، كما أوضح المشرع اليمني أن حق الحبس لا يكون فقط في الالتزامات العقدية المتقابلة بل يكون أيضًا لمحرز الشيء إذا هو انفق عليه مصروفات ضرورية أو نافعة، حتى يستوفي ما أنفقه، وهكـذا تظهـر الصلة بين الحق في الحبس والدفع بعدم التنفيذ في القانون اليمني([63]).

         وبمقارنة فسخ العقد مع الدفع بعدم التنفيذ نجد أن الفسخ يتفق مع الدفع بعدم التنفيذ في أن كلا منهما يعد سببًا واضحًا لإخلال المتعاقد الآخر بالتزامه المقابل، وكما يتفقان في السبب فهما أيضًا يتفقان في أساس الفسخ وهو فكرة الترابط بين الالتزامات المتقابلة، ويتفقان أيضًا من حيث الطبيعة في أن كلا منهما يعتبر جزاء قانونيًا ترتب عن الخطأ وهو الامتناع عن التنفيذ فيكون كل منها ضمانًا للدائن وجزاء للمدين، ومع ذلك فهما يختلفان في كيفية وقوعه فهو في الفسخ لابد أن يكون عن طريق القضاء، ولكنه في حالة عدم التنفيذ يمكن أن يوقعه الدائن دون الحاجة إلى الرجوع إلى القضاء، وكما أنهما يختلفان في أنه في الفسخ يجب أن يعذر المدين أولا، وهذا لا يشترط في حالة الدفع بعدم التنفيذ، كما أنهما يختلفان من حيث الأثر ودورهما كجزاء لعدم التنفيذ، فدور الدفع بعدم التنفيذ سلبي يهدف إلى وقف التنفيذ فهو حل مؤقت لعدم التنفيذ، أما في حالة الفسخ فدوره إيجابي يهدف إلى حل العقد ولذا يجب في الفسخ أن يكون عدم التنفيذ فيه قطعًا محتمًا مؤكدًا أما في حالة الدفع بعدم التنفيذ فإنه يمكن أن يكون ولو كان عدم التنفيذ غير مؤكد ومحتمل.

         وأخيرًا. فإن عدم التنفيذ يعد مرحلة تمهيدية إذ الغالب والذي يجري عليه العمل أن الدائن لا يقوم بالفسخ إلا بعد الدفع بعدم التنفيذ([64]).


الفرع الثالث

تمييز فسخ العقد عن المسئولية العقدية

         والمسئولية العقدية لها علاقة بفسخ العقد على اعتبار أنها جزاء لعدم قيام المدين بتنفيذ التزامه، ولمعرفة العلاقة بينهما يجب أولا معرفة أحكام المسئولية العقدية في كل من القانونين المصري واليمني ثم بعد ذلك نعقد مقارنة بين فسخ العقد والمسئولية العقدية لنتعرف على أوجه الشبه والخلاف بينهما حسب الآتي:

         والمسئولية العقدية في القانون المصري هي جزاء عدم قيام المتعاقد بتنفيذ التزامه أو تأخره في هذا التنفيذ وهي تؤدي إلى تعويض الدائن عما أصابه من ضرر بسبب عدم تنفيذ العقد وهذا ما يسمى بالتنفيذ عن طريق التعويض أو التنفيذ بمقابل([65])، وللمسئولية العقدية أركان ثلاثة. الخطأ والضرر ورابطة السببية بينهما، فالخطأ هو عدم تنفيذ الالتزام أو التأخر فيه، سواء كان هذا الخطأ عمدًا أو بسبب إهمال المدين ([66]).

         أما الركن الثاني للمسئولية العقدية، فهي الضرر، وهو الذي يصيب الدائن من عدم التنفيذ، والضرر قد يكون ماديًا وهو ما يصيب الدائن في ماله، ويجب أن يكون حالا واقعًا بالفعل أو على الأقل أن يكون محقق الوقوع في المستقبل أما الضرر الأدبي، وهو ما لا يكون في مال الدائن بل يتعلق بشيء معنوي مثل إفشاء الطبيب لسر مريضه، لأنه يصيب المريض ضررًا أدبيًا في سمعته، والضرر الذي يتم التعويض عنه في نطاق المسئولية العقدية هو الضرر المباشر والمتوقع فقط، وهو الضرر الذي يوقعه الشخص المعتاد، إلا إذا كان الخطأ الذي ارتكبه المدين جسيمًا أو ارتكب المدين غشًا، ففي هذه الحالة لا يكون التعويض عن الضرر المتوقع فحسب بل يشمل جميع ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب([67]).

         أما الركن الثالث من أركان المسئولية العقدية فهو رابطة السببية بين الخطأ والضرر فيلزم لقيام المسئولية العقدية وجود علاقة السببية بين خطأ المدين وضرر الدائن، أي أن المدين هو الذي تسبب بخطئه في إحداث الضرر بالدائن، فإذا انقطعت الصلة بينهما، وذلك بأن كان الخطأ لا يرجع إلى المدين وإنما كان بسبب أجنبي أو بسبب الدائن فلا تكون هنا مسئولية عقدية، ومن آثار المسئولية العقدية هو التعويض عن الضرر، وأخيرًا فإن أحكام المسئولية العقدية ليست من النظام العام فيمكن الاتفاق على تشديدها أو تخفيفها أو الإعفاء منها([68]).

         وتتشابه المسئولية العقدية في القانون اليمني مع القانون المصري، فالمسئولية العقدية في القانون اليمني: هي جزاء للإخلال العقدي سواء لعدم التنفيذ أو تأخيره، وهو يقوم على أركان ثلاثة، الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما كما سبق في القانون المصري، إلا أن القانون اليمني قد حرم حالة التعويض عن التأخير في الوفاء النقدي واعتبرته من الفائدة الربوية المحرمة فكل اتفاق على فائدة ربوية باطل ولا يعمل به، وهذا بخلاف ما ذهب إليه المشرع المصري([69]).

         وبمقارنة الفسخ مع المسئولية العقدية نجد أن المسئولية العقدية وفسخ العقد يتفقان في أن كلا منهما يعدان جزاءً لعدم التنفيذ، فهما ضمان للدائن وجزاء للمدين، فلهما طبيعة مزدوجة جزائية وتأمينية إلا أنهما يختلفان من حيث الأثر فهو في الفسخ يؤدي إلى انحلال العقد وزواله بينما هو في المسئولية العقدية يؤدي إلى تعويض الدائن عن الضرر الناتج بسبب خطأ المدين، ويتفق الفسخ مع المسئولية العقدية في حالة إذا ما تعذر عودة المتعاقدين إلى الحالة قبل العقدية في الفسخ فيحكم هنا بالتعويض  فالفسخ اتفق مع المسئولية العقدية في الحكم بالتعويض إلا أن أساس التعويض يختلف في الحالتين فأساسه هو المسئولية العقدية في حالة المسئولية العقدية، وفي حالة الفسخ يكون أساسه المسئولية التقصيرية، وأخيرًا فإن الفسخ طريق مفتوح دائمًا أمام الدائن؛ لأنه يمكن أن يتم تعديل أحكام المسئولية العقدية([70])، وبالتالي قد لا يكون ضمانًا كافيًا للدائن فيلجأ بالتالي إلى نظام الفسخ([71]).

         كما يختلف الفسخ عن الدعاوى الخاصة في مجال المسئولية العقدية كدعوى الاستحقاق التي تعد التنفيذ بمقابل في الالتزام بضمان التعرض، وكذا دعوى ضمان العيوب الخفية حتى إذا كان موضوع تلك الدعوى هو رد المبيع فهي تشبه دعوى الفسخ من حيث الآثار إلا أنه إذا تعذر الرد، فإن التعويض في حالة دعوى ضمان يكون على أساس المسئولية العقدية لبقاء العقد، أما في الفسخ فإنه يكون على أساس المسئولية التقصيرية، بسبب زوال العقد ([72]).




تعليقات