القائمة الرئيسية

الصفحات



غسيل الأموال في المنطور القانوني الجزائر

 


.

غسيل الأموال في المنطور  القانوني الجزائر

 

                               مداخلة من إعداد: أ جمال عياشي

 

 

مقدمة

 

استُغلت العشرية السوداء من قِبل بعض الأشخاص لتكوين ثروات، وبمجرد إصدار تلك القوانين المتعلقة بالمصالحة الوطنية تأسيسا على ميثاقها المنشود، وبدأت نتيجةً له المشاكل العامة لاسيما اللاأمن منها تندثر، بدأ غسيل الأموال وتبييضها يطفو بين المجرمين.

ولجريمة غسيل الأموال عوامل أخرى أنشأتها، وأسباب رسختها، ونتائج كرستها، فعُرفت بالضرورة؛ وعولجت بعد أن اكتشفت، في محافل دولية وإقليمية ووطنية على التوالي والتتابع، وأصبحت بعد ذلك، وكل ما ارتبط بها، واقع لا بد من تقبله والتعايش معه، وكشف دائه لمعرفة دوائه.

وجدير بالتأكيد على أن جريمة غسل الأموال تمر عبر مراحل بدءا بالتوظيف، مرورا بالتجميع وانتهاء بإدماج الأموال غير المشروعة، ولها أساليب تتجسد أهمها في تهريب الأموال عبر إنشاء الشّركات والصفقات الوهمية، وكذا أجهزة الصرف الآلي والبطاقة الذكية وغيرها.

ثم إن آثار غسيل الأموال السلبية كثيرة وتمس المجالات المتعددة في الدول، إذ تؤثر على المجال الاجتماعي كما تؤثر على المجال السياسي فضلا عن الاقتصادي.

وللاختلاف الذي مس التكييف القانوني للجريمة بين كونها مساهمة تبعية أو إخفاء طفا موقف آخر للفقه جعل من جريمة غسيل الأموال جريمة من الجرائم الخاصة، يجدر الفصل في تكييفها على الوجه الأمثل لترجيح مكانتها القانونية ضمن الجرائم.

هذا، وقد أقام المقنن الجزائري الجرم على أركان ثلاثة المشروعية في التجريم والمادية والمعنوية في الأركان فبدون توافرها الثلاثة لا يمكن القول بأننا بصدد جرم غسيل الأموال.

وبالموازاة، قام المقنّن من ناحية أخرى بتحديد الحالات اللاتي تشكلن جرم تبييض الأموال والعناصر المادية المكونة للجرم بموجب القانون رقم 04-15 المتعلق بتبييض الأموال وفي القانون رقم 05-01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما.

ومن أجل ذلك، جعل المقنن ولضمان حسن تسيير المالية العامة وحسن استغلالها، هيئات رقابية إدارية وقضائية، تباينت أدوارها بتباين خصائصها وصلاحياتها، مع وحدة آثارها، البارزة على الخصوص في وقاية المال العام بحماية الذمة المالية للخزينة العامة.

غير أن الأهم هو النظر في العقبات التي تجابه التعرض لهذه الجريمة والعمل بجد وبسرعة متلازمان على تذليلها ليتسنى في الأخير السيطرة وإن كانت جزئية على الجرم الذي ينهش جسد الدول بإفقار الخزينة العامة للدولة.

للإجابة على كل هذه الإشكالات القانونية يتوجب التطرق للموضوع مقسما ضمن مبحثين يخصص الأول منهما لمفهوم جريمة غسيل الأموال عموما فيما يخصص الثاني منهما للمجال القانوني لجريمة غسيل الأموال، على ذلك يتم التحليل.

المبحث الأول: مفهوم غسل الأموال

لا بد من تعريف غسيل الأموال والنظر في المراحل التي يمر بها، ليكون له كيان وخصائص يتخصص بها عن غيره من الأفعال المقاربة أو المشابهة له ( مطلب أول ) ليُتسنى فيما بعد النظر في طبيعة الفعل القانونية ( مطلب ثاني )، وهو ما سيتم التطرق له تبعا:

المطلب الأول: تعريف غسل الأموال

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية لغسل الأموال

المطلب الأول: تعريف غسل الأموال

لا يُغني النظر في المراحل التي يمر بها غسيل الأموال وآثاره ( فرع ثاني ) عن النظر في تعريفه ( فرع أول ) وعلى أساسه يتم التطرق لـ:

الفرع الأول: غسل الأموال لغة واصطلاحا

الفرع الثاني: مراحل وآثار غسل الأموال

الفرع الأول: غسل الأموال لغة واصطلاحا

يقتضي التطرق لتعريف أي مصلح متخصص، النظر في مفهومه اللغوي (فقرة أولى) ليبرز المفهوم الاصطلاحي سلسا قريبا للإيضاح (فقرة ثانية)، وهو مناط النظر في هذه الجزئية من المداخلة:

الفقرة الأولى: غسل الأموال لغة

يرتبط فعل الغسل في اللغة عموما بغسل الأشياء المادية وخصوصا بغسل الأشياء المعنوية، فمن تلك اللباس ومن هذه المخ، كما يرتبط المال عموما بكل ممتلك وخصوصا بالنقد.

الغسل هو تنقية الشيء لإزالة ما علق به من قذارة حسية، وقد تكون معنوية، والغَسِيْلُ لغة هو الشيء المغسول[1]، فتقول ثوب غسيل وميْت غسيل، أي تم غسله.

وأما الأموال فجمعٌ للفظ المال؛ والمال هو كل ما يملكه الإنسان، وإن كان قد خُص هذا اللفظ عند العرب بإطلاقه على الماشية كما خُص بالذهب والورق لفظ النقد[2].

فلفظ الغسيل في هكذا مقام خاطئ إذن، والأصل أن يقال "غسل الأموال" أو "الغسيل من الأموال" كناية على تنقيتها مما شابها من عدم المشروعية، نتيجة طريقة كسبها اللامشروعة.

الفقرة الثانية: غسل الأموال اصطلاحا

إن أول بروز لمصطلح غسيل الأموال كان في الولايات المتحدة الأمريكية بمناسبة اكتشاف الدولة لمؤسسات مالية تملكها المافيا، تقوم بواسطتها بغسل الأموال المكتسبة من موارد لا مشروعة[3]، وقد تعارف على هذا المصطلح دوليا وإقليميا ومحليا في كثير من المحافل الدولية لاسيما ما تعرَّض منها لتجريم غسيل الأموال ومكافحته بإنشاء آليات دولية.

ومنه ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية[4] أين ذكر هذا المصطلح، كما ذُكر في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، أما إقليميا فقد تعرض مشروع القانون العربي الاسترشادي لمكافحة غسل الأموال[5] لنفس المصطلح وذكره، وداخليا أيضا تعرض المقنن الفرنسي في عديد من النصوص القانونية[6] للمصطلح وذكره أيضا، فضلا عن المقنن الأمريكي باعتباره أول مكتشف للجرم في إصداره لقانون الحسابات السرية سنة 1970 وقانون 1989 المتعلق بالسيطرة على غسل الأموال.

هذا وقد تطرق المقنن الجزائري لهذا الجرم بعد أن وجد الضرورة لذلك، غير أنه أحدث على المصطلح تغييرا فعوَّض كلمة غسيل بكلمة تبييض، وجرَّم تأسيسا عليه فعل " تبييض الأموال"، وهو البادي بوضوح في كل النصوص القانونية التي أصدرها لمحاربة هذه الآفة، سواء تعلقت النصوص القانونية بتنظيم وتشكيل وعمل آليات المكافحة والرقابة، أو تعلقت بالتقنين على التجريم والعقوبة، فمن الأولى المرسوم التنفيذي رقم 02-127 في مادته الرابعة التي جاء فيها : ( تكلف الخلية بمكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال ) ومن الثانية القانون رقم 05-01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، وهو الأمر البادي على تسميته.

وتجدر الإشارة إلى أن الجرم واحد وتسمياته تعددت بين الدول وتقنيناتها، بين غسيل الأموال[7] وتبييضها وتنظيفها وتطهيرها، والمهم أن كل هذه المصطلحات مؤدية لنفس المعنى.

ويجدر التنويه هاهنا بأن الجرم عُـرِّف بتعريفات عدة، أهمها وأدقها على الإطلاق ذاك الذي جاء به القانون الأمريكي الصادر سنة 1986 والمتعلق بالسيطرة على غـسل الأموال حينما اعتبر الجريمة: " كل عمل يهدف إلى إخفاء طبيعة أو مصدر الأموال الناتجة عن النشاطات التجريمية "[8].

الفرع الثاني: مراحل ونتائج غسل الأموال

باد مما سلف أن جريمة غسيل الأموال من الجرائم المركّبة، والتي لا تتم بفعل إجرامي واحد وإنما يشترط لقيامها توفر أفعال متتابعة للاعتداد بركنها المادي ( الفقرة الأولى ) وذلك ما يؤثر بالسلب على مجالات متعددة لكل الدول ( الفقرة الثانية )، وهو ما يتم النظر إليه تتاليا:

الفقرة الأولى: مراحل غسل الأموال

بعد اكتساب المال غير المشروع بسبيل غير شرعي، يسعى المالك له إلى تغيير صفة المال ذاك، من مال غير مشروع إلى مال مشروع، فيباشر أفعالا تشكل بتجميعها الركن المادي للجريمة، وهي أفعال متتالية ومتتابعة تبرز جلها في مراحل لا تعدو أن تتجلى في ثلاث مراحل[9]:

المرحلة الأولى: مرحلة التوظيف

وتتجسد هذه المرحلة في إقحام المال المشبوه بل غير المشروع بعد الحصول عليه في مؤسسات مالية عن طريق فتح حسابات بها، أو صفقات بالسعي إليها، أو مشاريع بالمشاركة فيها، وتمثل هذه الخطوة في جريمة غسل الأموال الأخطر على الإطلاق بالنسبة لأصحاب المال غير المشروع؛ إذ قد يتعرضون للمسائلة نتيجة تصرف مثيل، لاسيما إذا كان المال الموظَّف بحجم كبير، ما يدفع بممتلكي هذا النوع من المال إلى السعي وراء ذمم مالية عديدة يقسمون فيها تلك الأموال اللامشروعة، الأمر الذي يشكل عائقا من عوائق كشف الجريمة وحائلا دون اكتشافها.

إن الصور التي يتخذها إعمال هذا النوع من الأموال عديدة، ومن أهمها على الإطلاق: فتح دور القمار والكازينوهات؛ باعتبارها قطاعات تتعامل كثيرا بالسيولة النقدية، إبدال النقد بالثروات النّفيسة كالذهب والفضة والتحف النادرة وغيرها، فضلا عن السوق الموازية التي تستغل في كثير من الأحيان كوسيلة من وسائل غسل الأموال[10].

المرحلة الثانية: مرحلة التجميع

وفيها يسعى الغاسلون للأموال اللامشروعة إلى تجميعها مع الأموال المشروعة، وهو الأمر الذي لا يتم بسبيل أو طريقة واحدة، بل يتعدد بين تهريب الأموال من الدول إلى غيرها، وبين إنشاء الشركات الوهمية والصفقات المشبوهة والحسابات المالية الواهية، البطاقات الذكية، وأجهزة الصرف الآلي.

ويتمثل الهدف الساعي إليه من قبل المجرمون وشركائهم في هذه المرحلة إلى فصل الأموال اللامشروعة عن مصادرها الأصلية وربطها بالمصادر المشروعة التي اختُيرت لها من قبلهم.

وتعد هذه المرحلة أكثر تعقيدا مقارنة بالمرحلة الأولى بالنسبة للهيئات والآليات المنشَأة من أجل مكافحة الآفة الإجرامية، نظرا للسبل الحديثة والمتطورة التي يستعملها الغاسلون في كل عملية، كما هو حال التحويل الالكتروني والبرقي للأموال، فسرعة العمليات ودقتها العلمية تحولان دون اكتشاف الأموال خلال مرحلة التجميع، ما يؤدي إلى تحقيق المرحلة دون اكتشافها من قبل تلك الهيئات.

المرحلة الثالثة: مرحلة الإدماج

وفيها يتم الدّمج النّهائي للأموال ذات المصادر اللامشروعة في السوق حقيقة، ما يحقق لها مكانة بين الأموال الأخرى ضمن الكيان المالي للسوق الدولية بصفة عامة، بارزة محققة لوجودها المشروع في ظاهره.

وكما تتم المراحل السّالفة بوسائل أو تتجسد في صور متعددة، فكذلك تتخذ هذه المرحلة صورا جمة، من أهمها وأشهرها في الجزائر: اتخاذ السوق العقارية مجالا لغسل الأموال؛ إذ يقوم المجرمون أصحاب الأموال اللامشروعة بشراء العقارات ويعيدون بيعها لتبرز السيولة التي يمتلكون نهايةً في مظهر الأموال المشروعة، فضلا عن استغلالها في شراء سندات الخزينة وغيرها من الصور التي لا يسمح المقام ولا المقال إيرادها جميعها.

الفقرة الثانية: نتائج غسل الأموال

ينتج عن إتباع تلك المراحل بالسبل المشاعة والمتداولة بين المجرمين العديد من النتائج والكثير من المجالات، فمصدر الجرم اللامشروع ما يفتأ يتسع، بنجاح عمليات الغسل للأموال المكتسبة منه، وسواء تعلقت الآثار الناشئة عنه بالاجتماع أو الاقتصاد أو حتى السياسة، فإنه حري بالقول بأن الجرم نفسه يمس لا محالة الجانب السياسي ولو كان ذلك بالتبعة إلا أنه يمسه وهذا متَأَكَّد منه، ما يعني أن الجرم مؤثر على جل المجالات على النحو الموالي:

الأثر الأول: على الجانب الاجتماعي

تؤثر الجريمة على الجانب الاجتماعي للدولة أو مجموع الدول التي تمارس فيها تأثيرا بالغا، إذ اعتُبرت بعد اكتشافها من أكثر الأسباب إنشاء لظاهرة البطالة، نظرا للعجز الذي تحدثه سحب تلك الكميات الضخمة للأموال من المؤسسات المالية، وهو ما يحدث للدولة عجزا في دفع مستحقات الأجراء بموازاة التخرج المستمر للإطارات من الجامعات والهيئات التنظيمية الأخرى، واستغلال اليد العاملة بأجور بخسة وذاك كله مطية تجلي عامل البطالة.

ومن آثار الجرم الاجتماعية أيضا، تدني مستوى العيشة كنتيجة حتمية لظاهرة استغلال اليد العاملة، فلا يأخذ أي صاحب حق حقه، وانتشار الأوبئة للفقر الذي قد يصيب النسب الكبيرة في المجتمعات وغيرها من التأثيرات الاجتماعية السلبية، التي لا يسمح المقال إلى ذكر جميعها.

الأثر الثاني: على الجانب الاقتصادي

يعد عامل التضخم وهبوط قيمة العملة الوطنية في السوق العالمية، أهم وأخطر الظواهر الاقتصادية على الإطلاق والتي تنشئهما جريمة تبييض الأموال.

إن افتقار الخزينة العامة في أي دولة لا يؤدي إلا إلى نتيجة حتمية ليست بالوحيدة ولكنها الأهم، وهي المتمثلة في التضخم، الذي ينشأ نتيجة تطور عامل السيولة مقابل تراجع عامليّ الإنتاج والخدمات، وهو بالضرورة يؤدي إلى خرق قانون العرض والطلب، على أساس أن الطلب يضحى أكثر من العرض فيتجلى التضخم في أعظم صوره، وتجدر الإشارة إلى أن نسبة التضخم تتماشى ونسبتي السيولة للأموال اللامشروعة والعرض، فكلما كثرت الأولى وقلت الثانية كلما تفاقم مشكل التضخم.

ومن الآثار أيضا، هبوط قيمة العملة الوطنية الذي ينشأ بدوره نتيجة الإجرام نفسه[11] ويتحقق بتحويل الأموال اللامشروعة إلى المؤسسات المالية الأجنبية التي تُفيد من وفرة عاملي السيولة والإنتاج، ما يؤدي إلى الإقبال على العملة التي تفرغ فيها تلك الأموال، وهو ما يؤدي بدوره إلى نتيجة الطلب المتزايد على العملة، لبروزها بالعاملين كسوق تجارية كبرى، كما يؤدي إلى ارتفاع قيمتها وخفض قيمة سائر عملات الدول التي تتخذ مظهر المستهلكة في العملية الاقتصادية.

الأثر الثالث: على الجانب السياسي

إن كسب تلك الجماعات الإجرامية للأموال عن طريق السبل اللامشروعة واستغلالها لها في مشاريع، كما سلف التنويه له، يبلّغ تلك الجماعات إلى أن تصير قوى فاعلة في المجتمعات المختلفة، وهو ما قد يؤدي -إن لم يكن مؤد لا محالة- إلى بلوغ تلك الجماعات إلى ذروة السلطة الحاكمة وهو عين الداء السياسي الذي يصعب معه الحل.

ثم إن تلك الأموال قد تستغل كأقل معيار في تشجيع بعض المنتخبين الجشعين في العمليات الانتخابية مقابل وعود من هؤلاء الأخيرين للمجرمين بمناصب مالية أو سياسية ، ليجد المجتمع نفسه في ذات الإشكال المشار إليه آنفا، والمفضي إلى التحكم فيه من قبل سلطة مجرمة بأصلها.

صورة أخرى لتأثير الأموال اللامشروعة على السياسات الداخلية للدول، وتتمحور حول سعي المجرمين لإثارة النزاعات بين أهل البلد الواحد أو البلدان المختلف، لتمكنهم من بيع الأسلحة التي بها يتاجرون، وخلق الفوضى والنزاعات يؤسس أسما صور التأثيرات السياسية سعيا لتوفير أكثر الأسواق رواجا لسلعهم والتي يسعى لها هؤلاء المجرمون.

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية لغسل الأموال

تقتضي الطبيعة القانونية لنظام معين؛ بيان كنهه، وإنه لِحداثة جرم غسل الأموال، صار من المقتضى ضرورة، وبلا ريب، النظر في تصنيفه ( الفرع الأول ) فتكييفه في ( فرع ثاني )، وهو ما يتم التطرق له تبعا:

الفرع الأول: التصنيف القانوني لجرم غسل الأموال

يخول محل الجرم المتمثل في الأموال، البروز بقوة على الساحة العالمية والدولية ( فقرة أولى )  مؤثرا لطابعه ذاك على الناحية الاقتصادية خصوصا، ليتخذ منها مظهرا إجراميا محدَّدًا بتضافر جهود المجرمين فيه ( فقرة ثانية )، وهو الذي يُرى تواترا:

الفقرة الأولى: جريمة غسل الأموال جريمة عالمية

لقد صار المجرمون في سعي حثيث حول نشر الجريمة، لا لغاية نشرها في الأساس، وإنما لطمس معالم الجرم، فكلما كثرت الذمم المالية التي تفرغ فيها الأموال اللا مشروعة وقلَّ فيها مقدار الإيداع، صعُب اكتشاف الفعل المجرَّم، وهذا ما يعني أن أصحاب الأموال تلك صاروا ينشرون أموالهم فأفعالهم في كل الدول، مفضلين منها ما استقر فيه الاقتصاد والسياسة.

إن الذي سبق بيانه لا يعني بالضرورة أن تلك الدول ذات النظام القانوني الهش تـنأى عن هذه الجريمة، بل العكس من ذلك تماما، فهي تحقق الوجهة الأمثل للمجرمين بأموالهم تلك، ولذلك قال يوم براون[12] : " يمكن غسل الأموال في أي مكان، وبالتالي فقد بات المجرمون يقومون باختيار الدول التي إما أن تكون القوانين فيها غير موجودة أصلا أو تتسم بالانحلال والتراخي، أو تلك الدول التي لا تكون فيها جهود الشرطة من القوة بما يكفي لإلقاء القبض عليهم"[13]، وبين هذه الدول وتلك، يفرض الواقع نفسه بأن الجرم عالمي المجال.

الفقرة الثانية: جريمة غسل الأموال جريمة اقتصادية منظمة

لا يمكن أن لا تؤثر جرائم الأموال على النظم الاقتصادية بصفة عامة ( أولا )، وبصفة خاصة تقـتـضي جريمة غسيل الأموال كمَّا من المشاركين لإتمامها ( ثانيا )، ولذلك فإن جرم الغسيل جرم اقتصادي منظم:

أولا _ اقتصادية الجريمة

تلك الأموال ولوصفها وصفتها المؤثرة في جل المجالات الحياتية، فإنّها تؤثر باستغلالها ِسلْبًا من قبل المجرمين على اقتصادات الدول التي يُمارس فيها جرم غسيل الأموال، إذ تُحدث بالخزينة للدولة الممارس فيها الجرم العجز، كما تحدث خللا في السوق المالية لكونها من الأسباب الرئيسة في التضخم وإحداث العجز في القدرة الشرائية، وقد تؤثر على قيمة العملة الوطنية للدولة التي تمارس فيها، وذلك كله بمجرد سحب الأموال اللامشروعة من المؤسسات المالية؛ متى اتخذت مظهر الأموال المشروعة، ما يحتم اتخاذ هذه الجريمة مظهر الجريمة الاقتصادية.

ثانيا _ نظامية الجريمة

وإن الأموال التي تكون محالا للجرم، وكما تجعل -بحكم طبيعتها- مجال الجرم لأصحابها واسعا، فهي تحقق كذلك لهم كثرة فيما بينهم أو تعددهم، مع وحدة المقصد والنية، ما يضفي على الجرم الشراكة فيه، وهو فعل مجرَّم واحد ووحيد، وبمقاربة ركن التعدد في المجرمين مع ركن وحدة الجريمة يتضح مليا طابع التنظيم في الجرم، ليتحقق للجريمة إذن وصف الجريمة المنظمة.

الفرع الثاني: التكييف القانوني لجرم غسل الأموال

تضاربت الآراء الفقهية حول التكييف القانوني لجرم غسيل الأموال، بحيث انقسمت إلى اعتباره من جرائم المشاركة ( فقرة أولى )، وإلى اعتباره من الجرائم الخاصة ( الفقرة الثانية )، ولذلك يتم التطرق لما يلي:

الفقرة الأولى: جريمة غسل الأموال من جرائم المشاركة

لقد اختلفت الآراء الفقهية حينما كيفت جريمة غسل الأموال ضمن جرائم المشاركة بين جرائم التبعية ( أولا ) وجرائم الإخفاء ( ثانيا ) وإلى كل منهما يتم النظر:

أولا_ جريمة غسل الأموال جريمة تبعية

انتهج بعض الفقهاء تبعية المؤسسة المالية للفعل المجرم الذي يرتكبه المجرمون الجامعون للمال بسبل غير مشروعة مساهمة من المؤسسة المالية لأولئك، فتقوم تبعية المؤسسة لجمع المجرمين، لينظم إليهم مكونين جمعية الأشرار باللفظ القانوني، ما يتأتى باجتماع الشخص المعنوي بالأشخاص الطبيعية أو المعنوية المرتكبة للفعل المجرم أولا؛ والمتمثل في جمع تلك الأموال المجرم مصدرها أو سبيل تجميعها.

لـكن؛ التبعية تشترط عموما وحدة مكانية، بحيث يحضر كل المساهمين مسرح الجريمة[14] أو وحدة زمانية على أقل تقدير، بحيث تُعاصر الأعمال التبعية للجريمة الأعمال الأصلية فيها[15]، وهو ما لا يتوفر في تدخل المؤسسة المالية في عملية الغسل للأموال، وبالنتيجة لا يمكن القول بأن جريمة غسل الأموال من الجرائم التبعية.

ثانيا_ جريمة غسل الأموال جريمة إخفاء

تناول المقنن الجزائري ضمن جرائم قانون العقوبات تلك الأفعال التي توصف بأنها أفعال إخفاء محل الجرم، والتي من أمثلتها إخفاء الأشياء المسروقة، الذي نص عليه المقنن في المادة 387 من قانون العقوبات.

إن ظاهر الفعل الذي تقوم به المؤسسات المالية مفضي إلى صحة إدراج تلك الأفعال ضمن طائفة الأفعال المجرمة للإخفاء.

ولـكن؛ الأخذ بهذا المنحى يلزم الآخذ به التأكد من قصد المؤسسة المالية المودع المال لديها، فتصير هذه النظرية عقَّدت الأمر من حيث أرادت أن تبسطه، فلا يمكن إذن الاعتماد على اعتبار جرم الغسل هذا من قبيل جرائم الإخفاء.

الفقرة الثانية: جريمة غسل الأموال من الجرائم الخاصة

يقتضي التطور في مجال الابتكارات الإجرامية لاسيما بالنظر إلى التطور التكنولوجي، النظر في النصوص القانونية المحددة لأحكام تلك الأفعال بالتنظيم والتجريم والعقوبة، فمثل تلك الأفعال الأصل فيها توخي الإحاطة بها في تجريمها من جهة، وتوقيع العقوبة الرادعة من جهة أخرى.

لا تحقق العقوبات المتعلقة بالجرائم الأخرى في قانون العقوبات والمبادئ العامة فيه، الحد من جرم الغسل وتوقيع العقوبات عليه؛ وهو ما يؤدي إلى إفلات المجرمون بأفعالهم لعدم تجريم الفعل في القانون صراحة لاسيما وأن المقنن الجزائري يعتمد مبدأ أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.

إن إدراك المقنن لكل ذلك دفع به إلى تقنين فعل الغسل وجرمه وحدد العقوبات على ارتكابه بعد أن بينه في نصوص خاصة به معدلا قانون العقوبات بنصوص خاصة كما هو حال القانون 04ـ15 وكذا القانون رقم 05ـ01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما.

المبحث الثاني: المجال القانوني لغسل الأموال

يحوي المجال القانوني لغسل الأموال، تلك النصوص القانونية المشار إليها سالفا والمجرمة للفعل الإجرامي  ( مطلب أول ) وكذا إستراتيجية مكافحة الفعل الإجرامي بنصوص قانونية تنظيمية خلاف تلك المشار إليها والمفضية للتجريم والعقوبة ( مطلب ثاني ) ، وهو الذي سيتم التطرق له تبعا:

المطلب الأول: النصوص القانونية المجرمة لغسل الأموال

بعد انتشار فعل الغسل صدرت عدة من القوانين المجرمة له سواء على المجال الدولي ( الفرع الأول ) أو الداخلي ( الفرع الثاني )، وهو مناط النظر:

الفرع الأول: المواثيق الدولية المجرمة لغسل الأموال

لقد أحدثت الجريمة الحديثة هزة تشريعية عنيفة، أدت بانهمار النصوص القانونية الدولية عليها انهمارا مكثفا ( فقرة أولى ) والإقليمية على حد السواء ( فقرة ثانية ) بٌغية الحد من انتشار الجريمة بتوحيد جهود الدول كأفراد في المجتمع الدولي والإقليمي من جهة، والعمل على نشر العقوبات الملائمة للجرم محل السعي، وهو ما يبرز هاهنا:

الفقرة الأولى: النصوص القانونية الدولية المجرمة لغسل الأموال

كان المؤتمرون في اتفاقية فينا لسنة 1988 أول المبادرين بالنظر في هذا الجرم، بحيث أسسوا له قاعدة المكافحة على كافة الأصعدة الدولية الإقليمية والمحلية، بعد أن أسسوا له قاعدة تجريم عامة أفضت إلى العمل على تجريم الفعل بداية والعمل على ملاحقة مرتكبيه بالعقوبة نهاية للحد من انتشاره والقضاء على كافة صوره.

وحثا منها للأعضاء المنضمين لها على تحقيق أهدافها، نصت في المادة الثالثة منها على ما يلي:

( 1. يتخذ كل طرف ما يلزم من تدابير لتجريم الأفعال التالية في إطار قانونه الداخلي في حال ارتكابها عمدا:

أ. إنتاج أية مخدرات أو مؤثرات عقلية، أو وضعها أو استخراجها أو تحضيرها أو عرضها للبيع، أو توزيعها أو بيعها ....أو استيرادها أو تصديرها.

ب. تحويل الأموال أو نقلها مع العلم بأنها مستمدة من أية جريمة أو جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية '1 ' من هذه الفقرة أو من فعل أفعال الاشتراك في محل هذه الجريمة ...الإفلات من العواقب القانونية لأفعاله

2. إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها، أو مكانها، أو طريقة التصرف فيها، أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها...فعل من أفعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة أو الجرائم ). 

وإلى ذلك سارت مجموعة الدول السبع الأكثر تقدما في تكوينها لمجموعة عمل خاصة بمكافحة غسل الأموال ( G.A.F.I  ) دام عملها لمدة ثمانية أشهر أثمرت على اقتراح توصيات أربعين، جُعلت كمبادئ قانونية معتمدة من قِبل كافة الأفراد على الصعيد الدولي، الملتزمة باحترامها في سنّها دوليا، إقليميا وحتى داخليا لقواعد قانونية تمس جرم الغسل.

هذا، وقد تمخض المجتمع الدولي بتحركاته على إنشاء العديد من النصوص القانونية الدولية التي لا يسمح المجال لعرض جميعها، ومن أهمها: الدورة الثامنة والثلاثين للجنة الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بالنمسا[16]، والمؤتمر الوزاري العالمي لمكافحة الجريمة المنظمة بإيطاليا[17]، والمؤتمر الدولي التاسع لمنع الجريمة بالقاهرة[18].

الفقرة الثانية: النصوص القانونية الإقليمية

بالموازاة لتلك النصوص القانونية الدولية، قامت الدول المكونة للأقاليم المتاخمة لبعضها البعض، بعقد مؤتمرات وإبرام اتفاقيات وعقد عهود، ومنها الأوروبي والأمريكي والآسيوي والعربي.

وقد أٌبرم على مستوى الإقليم العربي العديد من الاتفاقيات: كاتفاقية مجلس وزراء الداخلية العرب المُؤطرة للإستراتيجية العربية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية.

ثم أبرمت مجموعة من المؤتمرات العربية أهمها: مؤتمرا وزراء الداخلية العرب، المنعقدان بتونس والراميان إلى مكافحة الاتجار غير المشروع والمخدرات والمؤثرات العقلية، من أجل تجسيد التعاون والتنسيق بين الأطراف المتعاقدة في مجال الجريمة، فضلا على سعي المؤتمر الثاني إلى تحقيق المنع وتعقب الجريمة دوليا وإقليميا[19].  

الفرع الثاني: النصوص القانونية الجزائرية

لقد نص المقنن الجزائري على تجريم غسل الأموال وأقامه على أركان ثلاثة: المشروعية[20]، والركن المادي، والركن المعنوي.

أولا_ ركن المشروعية:

اعتمادا على نص المادة 1 من قانون العقوبات الجزائري التي جاءت متضمنة لمبدأ لا جريمة ولا عقوبة ولا تدبير أمن إلا بنص لا يجوز لأي جهة تجريم فعل الغسل ما لم يكن هناك نص مجرم للفعل بعينه ولا يكفي التجريم وحده لإيقاع العقوبة بل يجب أن يحوي نص التجريم على العقوبات الملائمة للفعل المحدد ركنه المادي بدقة إذ لو كان به فراغ لاغتنمه المجرمون للفرار من العقوبة ومن التجريم بصفة أولى.

فكان لا بد إذن أن ينص القانون الجزائري في قوانين أو مواد على حدة على تجريم فعل الغسل وتحديد عقوبات ملائمة للأفعال المادية التي يقوم عليها الجرم.

ثانيا_ الركن المادي:

نص المقنن الجزائري في المادة 389 مكرر[21] من قانون العقوبات على ما يلي من صور للركن المادي لجرم الغسل:

1.تحويل الممتلكات أو نقلها

وفعل التحويل يكون من ذمم مالية، وسواء كانت الذمة المالية ذمة المجرمين أو الذمة الجزئية المفتوحة كحساب جاري في المؤسسات المالية باختلاف أنواعها وأصنافها، فإن تحويل الثمرة الإجرامية من الذمم المالية يعد محلا للتجريم بموجب مصطلح النص القانوني.

وكما هو حال التحويل، فإن النقل إلى الذمم المالية مؤد لا محالة مع توفر الممتلكات المكتسبة بسبل غير مشروعة إلى إقامة الركن المادي.

فإن التحويل إذن هو الفعل السلبي والنقل الفعل الإيجابي في تغيير محل الممتلكات ذات المصدر الإجرامي، ويمكن القول إذن بأن هذا الركن المادي يضاهي مرحلة إيداع الأموال غير المشروعة.

2.إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات

يمثل فعل الإخفاء عدم الإظهار أو الحجب ولا يكون هذا الفعل ذو محل في جرم الحال إلا بأساليب خاصة ومتحولة بتحول مكان وجود الممتلكات اللامشروعة، فإذا كانت متواجدة في المؤسسات المالية مثلا قد لا يذكر إيداع جلها لاسيما في حالة كون المبالغ ضخمة وهكذا ومن الإخفاء أيضا تحويل ونقل الأموال من الدول التي بها تم اكتساب الممتلكات إلى دول خلافها.

أما التمويه فهو على خلاف فعل الإخفاء الذي ينفي الوجود المادي للممتلكات بصفة كلية أو جزئية بطرق كما سلف بيانه يتجسد في إبراز تلك الممتلكات في غير صورتها الحقيقية بحيث قد تخلط أو تدمج مع غيرها من الممتلكات المشروعة كما قد لا تدمج معها فالمهم أن تتخذ تلك الأموال مظهرا غير المظهر الحقيقي لها بحيث تظهر في مظهر الممتلكات المشروعة على غير حقيقتها، ما يضاهي مرحلة التجميع في جرم غسيل الأموال.

3.اكتساب الممتلكات أو حيازتها أو استخدامها

بعد أن توظف الأموال وتدمج في الممتلكات المشروعة وتموه بذلك صفتها الحقيقية اللامشروعة إلى صورة الممتلكات المشروعة يسعى المجرم إلى اكتسابها في صورتها الجديدة وفعل الكسب هذا دال على التملك الحقيقي فالأموال متى لم تكن غير مشروعة ليس للشخص أن يكتسبها وبعد ذلك يقوم بكسبها بطريقة قانونية مستغفلا الغير والكسب يعني إظهارها في حيازته تملكا أمام الكل بدون مواربة.

والحيازة جزء من الاكتساب، بحيث لم يكتف المقنن من تجريم فعل التملك للأموال غير المشروعة بعد دمجها بل اكتفى بالحيازة رغم أنها لا تضاهي التملك، وإنما هي ظاهره أو ركنه المادي، ولو كانت في المنقول سندا للملكية ومن الممتلكات تلك ما هو منقول، فتصح عليه القاعدة.

ثم إن الاستخدام يفضي إلى الاستعمال والانتفاع من الممتلكات ذات الأصل اللا مشروع فكل من استخدم الأموال تلك جُرم فعله.

ثالثا_ الركن المعنوي:

يقوم الركن المعنوي المجسد في القصد الجنائي لأي جريمة في ذهاب القصد نحو تحقيق الجرم ولا يتأتى ذلك تقنينا إلا بتوفر عنصر العلم بالفعل المُقدم عليه أو إليه، ومن ذلك يتضح بأن المقنن الجزائري يشترط القصد الجنائي لقيام الجرم تاما كاملا، والشاهد أنه صرح للعلم في فقرات لمواد قانونية جرم بها فعل غسيل الأموال.

عمد المقنن الجزائري في بيانه للأركان المادية، في نص المادة محل التجريم 389 مكرر من قانون العقوبات، وعلى اختلاف مراحلها، للتأكيد على عنصر العلم كناية منه على تحقق الركن المعنوي في الجريمة، ومنه ذكره للعلم حينما أورد في الفقرة الأولى لنص المادة ( ... أو نقلها مع علم الفاعل بأنها عائدات إجرامية ) وفي الفقرة الثانية على ( ... إخفاء أو تمويه طبيعة الحقيقة للممتلكات....مع علم الفاعل بأنها عائدات إجرامية ) وفي الفقرة الثالثة على ( اكتساب ... مع علم الشخص .... )، وفي كله دليل قائم على اشتراط المقنن لعنصر العلم، ما يفضي إلى اشتراط الركن المعنوي لجرم الغسل.

المطلب الثاني: إستراتيجية مكافحة غسل الأموال

يحول دون اكتشاف جرم غسل الأموال حائلات عديدة، تؤدي بلا ريب إلى عدم كشف غسل الأموال ( الفرع الأول )  كما تؤدي إلى عدم جدوى تلك النصوص القانونية المجرمة للفعل والمعاقبة عليه، فكان لزاما على المقنن الجزائري أن يعرض لتلك العقبات بدراستها والتعرض لها من خلال إنشائه لآليات مكافحتها ( الفرع الثاني )، وهو ما سيكون مناطا للنظر في هذا المطلب:

الفرع: الأول:عقبات مكافحة غسل الأموال

تبزر عقبات اكتشاف غسل الأموال في السوق الجزائرية ضمن صورتين اثنتين: قانونية ( الفقرة الأولى ) ومادية ( الفقرة الثانية )، وكل منهما يتم الإسهاب فيها ضمن ما يلي من فقرات:

الفقرة الأولى: عقبات مكافحة غسل الأموال القانونية

تجسد بعض القوانين أو النصوص القانونية -كأقل تقدير- تلك العقبات القانونية التي تحول دون اكتشاف غسل الأموال، على الأقل في وقت مبكر أو بالحجم المرتكب به، وهو الأمر الذي تجسده المادة 117 من قانون النقد والقرض[22]، والتي جاء فيها ما يلي: ( يخضع للسر المهني، تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات:

كل عضو في مجلس الإدارة، وكل محافظ حسابات وكل شخص يشارك أو يشارك بأي طريقة كانت في تسيير بنك أو مؤسسة مالية أو كان أحد مستخدميها.

كل شخص يشارك أو شارك في رقابة البنوك والمؤسسات المالية وفقا للشروط المنصوص عليها في هذا الكتاب. )، فنص المادة المعروض حينما يلزم كل الموظفين المذكورين فيه بضرورة الالتزام بالسر المهني يكون قد حقق مانعا من موانع الاطلاع على العمليات المالية وبالنتيجة قد حال دون اكتشاف غسل الأموال كعملية مالية تتم ضمن الأعمال المالية في المؤسسات المالية والبنوك بين الفينة والأخرى، وهو عين العقبة.

فضلا عن ذلك فإن الإخلالات المسجلة على مستوى الشغور القانوني والفجوات، يؤدي بدوره إلى خلق مجال إجرامي واسع في خضم عدم التنسيق والتعاون بين الهيئات المخولة الرقابة والتحقيق قانونا[23].

الفقرة الثانية: عقبات مكافحة غسل الأموال المادية

تتعدد هذه العقبات المادية وتنتج آثارا غاية في الخطورة، إذ تصل خطورتها إلى حد شل آلية الرقابة الملقاة على عاتق الهيئات المخولة بها بكاملها، ومطيتها إخلال الموظفين المخوَّلين الرقابة القانونية بالتزامات الرقابة الملزمين بها لتتحد صور العقبات المادية المتجسدة على الخصوص في عدم التزام المصارف والمؤسسات المالية والوزارة في التزام الرقابة والتحقيق.

فباعتبار اختصاصيّ الرقابة والتحقيقات الأولية مخولة قانونا لكل موظف على مستوى الهيئة التي يؤدي بها وظيفته بصفة مبدئية، سواء كان ذلك على مستوى البنك أو المؤسسة المالية خصوصا أو على مستوى الوزارة عموما، فإن ذلك مُبْلِغُ لا ريب إلى عدم اكتشاف الأفعال المجرّمّة متى ارتكبت، فبافتقاد صلاحية الرقابة لتقصير الموظف المختص تختل الهيئة ككل ويجد المجرم لنفسه المجال لتنفيذ أعماله الإجرامية.

الفرع الثاني: حلول عقبات مكافحة جرم غسل الأموال

ظهرت في ساحة المكافحة بعض العقبات القانونية والمادية التي تم بيانها فسارع المقنن إلى بذل العناية لحل تلك العقبات، كل بما يوافقه، فقنن للعقبات القانونية ما يغطيها ( فقرة أولى ) وللعقبات المادية ما يذللها ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: تذليل العقبات القانونية

بادر المقنن الجزائري بمجرد اكتشاف غسل الأموال في الجزائر إلى إنشاء هيئة قانونية خولها مكافحة الجرم في حدود صلاحيات واختصاصات ذكرها في القانون على عين التحديد، فأنشأ خلية معالجة الاستعلام المالي بموجب المرسوم رقم 02-127 [24] وحدد صلاحياتها في مجال مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال بالعديد نذكر أهمها فيما يلي:

1.  تسلم تصريحات الاشتباه المتعلقة بكل عمليات تمويل الإرهاب وتبييض الأموال التي ترسلها إليها، الهيئات والأشخاص الذين يعينهم القانون. 

2.  معالجة تصريحات الاشتباه بكل الوسائل أو الطرق المناسبة.

3.  إرسال الملف المتعلق بذلك عند الاقتضاء، إلى وكيل الجمهورية المختص إقليميا، كلما كانت الوقائع المعاينة قابلة للمتابعة الجزائية[25].

كما خولها أيضا:

1.  المطالبة بكل وثيقة أو معلومة ضرورية لإنجاز المهام المستندة إليها من الهيئات والأشخاص اللذين يعينهم القانون وكذا إمكانية تبادل المعلومات التي يحوزها مع هيئات أجنبية مخولة بمهام مماثلة، شريطة المعاملة بالمثل.

وخول قانون المالية[26] لاسيما المادة 105 منه:

2.  إمكانية الأمر بصفة تحفظية ولمدة أقصاها 72 ساعة تأجيل تنفيذ كل عملية بنك أو تجميد لأرصدة موجودة في حسابات كل شخص طبيعي أو معنوي محل شك كبير فيما تخص تبييض الأموال.

وخول القانون رقم 05-01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، الهيئة بتحليل ومعالجة المعلومات التي ترد إليها من قبل السلطات المؤهلة وكذلك الإخطارات بالشبهة، وأخضع لواجب الإخطار:

1.  كل شخص طبيعي أو معنوي يقوم في إطار مهنته بإجراء عمليات إيداع أو مبادلات أو توظيفات أو تحويلات أو أي حركة لرؤوس الأموال أو يقدم استشارة بشأن هذه العمليات.

2.  البنوك والمؤسسات المالية والمصالح المالية لبريد الجزائر والمؤسسات المالية المشابهة وشركات التأمين ومكاتب الصرف والتعاضدية، والرهانات والألعاب الكازينوهات.

3.  المهن الحرة المنظمة لاسيما مهن المحامين، المستشارين والموثقين ومحافظي البيع بالمزيادة وخبراء المحاسبة ومحافظي الحسابات والسماسرة والعملاء الجمركيين، وأعوان الصرف والوسطاء في عمليات البورصة والأعوان العقاريين، ومؤسسات الفَوْتَرَة وكذا تجار الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة والأشياء الأثرية والتحف الفنية.

ليكون المقنن قد فتح المجال أمام الهيئة هذه لممارسة كل الأفعال التي من شأنها أن تؤدي إلى اكتشاف الفعل المجرم بمجرد مباشرته.

هذا، وقد فتح المقنن الباب واسعا أمام اللجنة المصرفية لبنك الجزائر لمراقبة البنوك والمؤسسات المالية وإبلاغ الهيئة المتخصصة المكلفة بالاستعلام المالي عن عمليات مصرفية غير عادية أو معقدة أو لا تستند على أي مبرر.

كما أعطى نفس اللجنة صلاحية مراقبة مدى توفر البنوك والمؤسسات المالية على برامج مناسبة للكشف عن عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب والوقاية منهما.     

الفقرة الثانية: تذليل العقبات المادية

نظرا لعمق العقبة المادية عمقا يصل إلى علاقة الهيئات ببعضها بعض، يضحى تذليل هذه العقبة أصعب من تذليل الصعاب القانونية الخالصة، بحيث لا تقتضي هذه الأخيرة غير إصدار قوانين منظمة وأخرى معدلة ومتممة لتذلل العقبات القانونية ويصير لكل عقبة ما يذللها.

أما العقبات المادية فإن المقنن رغم سعيه بجد لأجل لتذليل تلك العقبات إلا أن العقبات لا تزال ذات محل، خلا من ذلك ما أورد في بعض النصوص القانونية كما هو حال المادة 177 من قانون النقد والقرض في فقرتها الثانية، أين ركز المقنن على تقنين العلاقة القائمة بين الأعوان البنكيين والتابعين للمؤسسات المالية وأولئك الناشطون في مجال التحقيقات والرقابات القضائية والمالية الميدانية إذ جاء الفقرة الثانية تنص على : ( تلزم بالسر، مع مراعاة الأحكام الصريحة للقوانين، جميع السلطات ما عدا:

1.  السلطات العمومية المخولة بتعيين القائمين بإدارة البنوك والمؤسسات المالية.

2.  السلطة القضائية التي تعمل في إطار إجراء جزائي

3.  السلطات العمومية الملزمة بتبليغ المعلومات إلى المؤسسات الدولية المؤهلة لاسيما في إطار محاربة الرشوة وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

4.  اللجنة المصرفية أو بنك الجزائر الذي يعمل لحساب هذه الأخيرة طبقا لأحكام المادة 108 أعلاه.)، فيتبين نتيجة لذلك محاولة المقنن الجزائري تذليل عقبة التناسق والتعامل بين الهيئات في الآلية الواحدة ذات الهدف الواحد، في إطار تذليل تلك العقبات القانونية.

هذا وقد أورد المقنن الجزائري القانون رقم 05-05 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما[27] الذي أورد فيه إلزاما بالتناسق بين البنوك والمؤسسات المالية وبين خلية معالجة الاستعلام المالي، حين حمل نص المادة الأولى من القانون : ( يجب على البنوك والمؤسسات المالية والمصالح المالية لبريد الجزائر، ... التحلي باليقظة ويتعين عليها بهذا الصدد أن تتوفر على برنامج مكتوب من أجل الوقاية والكشف عن تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتها وينبغي أن يتضمن هذا البرنامج ما يأتي:

- نظام علاقات ( مراسل وإخطار بالشبهة ) مع خلية معالجة الاستعلام المالي.)، ومثل هذه النصوص يساهم مساهمة بالغة في تذليل العقبات المادية الحائلة دون كشف جرائم غسل الأموال لاسيما عدم التناسق بين الهيئات منها.

أخيرا يجدر التنبيه إلى أن المقنن ما فتئ أن يسعى بجد حثيث للتوصل إلى إفناء مثل هذه العقبات المادية التي تشكل العقبة الأصعب نظرا لتشعبها وتوسعها وتداخل العوامل فيها.

 

 

خلاصة

يعد غسل الأموال كل عمل يهدف إلى إخفاء طبيعة أو مصدر الأموال الناتجة عن النشاطات التجريمية، ولا يقوم إلا إذا توفر بيد الجاني مال مجني من مصدر غير مشروع كما لا يقوم إلا إذا مر عبر مراجل ثلاثة تجسدت في توظيف تلك الأموال وبعدُ جمعها وفي النهاية دمجها وفي السوق؛ لتظهر في مظهر الأموال المشروعة.

ولقيام جريمة غسل الأموال حديثا لم يكن بالإمكان إلا تصنيفها كجريمة خاصة، ولطابعها الاقتصادي العالمي فقد تناولتها المواثيق الدولية بالتجريم والإقليمية والمحلية أيضا، فيما اعتمدت كل تلك النصوص القانونية فضلا على المواد المجرمة والمعاقبة؛ مواد منظمة جاءت محمَّلة بإنشاء آليات مكافحة، فلقيت هذه الأخيرة عقبات، تنوعت بتنوع مجال عملها بين قانونية ومادية، فسعت الدول إلى تذيلي كل منها بما يوافق طابعه وطبيعته.

وحري بالتذكير أن المقنن الجزائري كان من ضمن تلك الأنظمة القانونية التي جرمت غسل الأموال في نصوص قانونية عدة كان أهمها القانون رقم 05-01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما والنظام رقم 05-05 المتعلق بدوره بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، أين أقام الجرم فيها على أركان ثلاثة: شرعي، مادي وقصد جنائي، وبعد أن لقي نفس طابع العقبات القانونية والمادية سعى سعيا حثيثا لدفع تلك العقبات المادية بما يوافقها وحل تلك القانونية بما يلائمها من نصوص قانونية، فبادر لإصدار القانون رقم 02-127 منشأ من خلاله خلية معالجة الاستعلام المالي المعدل والمتمم.

 

 

 

 

قائمة المراجع

الكتب والمقالات:

1. ابن العساكر . الفروق اللغوية . المجلد 1 . ص 472 .

2. ابن منظور . لسان العرب . دار صادر . بيروت . الطبعة الثالثة . سنة 1994 . المجلد 11 . ص 494 .

3. صلاح الدين حسن السيسي . غسل الأموال الجريمة التي تهدد استقرار الاقتصاد الدولي . طباعة دار الفكر العربي . القاهرة . مصر . الطبعة الأولى. سنة 2003 .

4. عباس أبو شامة . الظواهر الإجرامية المستحدثة وسبل مواجهتها . مجلة مركز الدراسات والبحوث . أكاديمية نايف للعلوم الأمنية . سنة 1999 .

5. أحمد سفر . جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب في التشريعات العربية . المؤسسة الحديثة للكتاب . طرابلس . لبنان . طباعة سنة 2006 .

6. خلق الله عبد العزيز . جريمة تبييض الأموال . مذكرة ماجستير . فرع القانون الجنائي والعلوم الجنائية . كلية الحقوق . بن عكنون . الجزائر . سنة 2002-2003 .

7. د.عبد الله سليمان . شرح قانون العقوبات الجزائري . القسم العام . الجزء الأول ( الجريمة ) . ديوان المطبوعات الجامعية . سنة 1998 .

8. د. عبد الله أوهايبية . شرح قانون العقوبات الجزائري . القسم العام . مطبعة الكهينة . طبعاعة سنة 2003 .

9. لعشب علي . الإطار القانوني لمكافحة غسل الأموال . ديوان المطبوعات الجامعية . سنة 2007.

10.تبييض الأموال . دراسة مقارنة . منشورات الحلبي الحقوقية . لبنان . سنة الطباعة 2000 .

11.ممثلون عن العروش في منتدى الشروق . نرفض استثمارات الملاهي والحانات وتبييض الأموال في منطقة القبائل . جريدة الشروق اليومي . الصادرة بتاريخ: 09 فيفري 2009 . عدد 2527 . ص 7 . 

القوانين:

1.  القانون رقم 02-11 المؤرخ في 24 ديسمبر 2002 المتضمن قانون المالية . الجريدة الرسمية رقم 86 . ص 38.

2.  قانون رقم 90-614 المؤرخ في 12-07-1990 والقانون رقم 96-392 المؤرخ في 13-05-1996.

3.  قانون رقم 03-11 المتعلق بالنقد والقرض . مؤرخ في 27 جمادى الثانية عام 1424 الموافق 26 غشت سنة 2003 . منشور في الجريدة الرسمية عدد 52 . ص 3.

4.  القانون رقم 04-15 المؤرخ في 10 نوفمبر 2004 المعدل والمتمم للأمر 66-156 المؤرخ في 8 جوان 1966.

5.  المرسوم الرئاسي رقم 95-41 المؤرخ في 28 يناير 1995 والصادر في الجريدة الرسمية عدد 7 لسنة 1995.

6.  القانون المصري رقم 80 الصادر بتاريخ: 22-05-2002 والمتعلق بمكافحة غسيل الأموال.

7.  المرسوم التنفيذي رقم 02-127 المؤرخ في 24 محرم عام 1423 الموافق 7 أبريل سنه 2002 والمتضمن إنشاء خلية معالجة الاستعلام المالي وتنظيمها وعملها. الجريدة الرسمية رقم 23 . ص 16.

8.  نظام رقم 05-05 مؤرخ في 13 ذي القعدة عام 1426 الموافق 15 ديسمبر سنة 2005 يتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما. جريدة رسمية رقم . 26 . ص 20

9.  دليل الإرشادات لمكافحة عمليات غسيل الأموال الأردني .




تعليقات