القائمة الرئيسية

الصفحات



المعاملة الجنائية للأحداث في التشريعات العربية

 


 

المعاملة الجنائية للأحداث في التشريعات العربية

 

  الأستاذ: محمد بازي

  أستاذ باحث بكلية الحقوق ـ مراكش

 

تمهيد:

إن إجرام الأحداث كان وما زال من أعقد المشاكل التي تواجهها مختلف الدول والذي يجب أن نوليه أهمية قصوى، إذ أن إهماله سوف تترتب عنه عواقب وخيمة. فطفل اليوم هو رجل الغد، والتقصير في تقويم انحرافه البسيط في صغره، قد يؤدي إلى اعوجاج لا يمكن إصلاحه، فقد اثبتت الإحصائيات الجنائية أن جانبا كبيرا من المجرمين البالغين قد بدأ حياة الإجرام منذ نعومة اظافره، وأن معظمهم كانوا من بين من تخرجوا من إصلاحيات الأحداث (1). ومن جهة أخرى فإن إجرام الأحداث يختلق اختلافا كبيرا عن إجرام البالغين، فبينما يرجع إجرام البالغ إلى أسباب شخصية تمكنت منه وتأصلت فيه بحيث يصبح من الصعب نزع ما بنفسه من جنوح وميل إلى الشر، فإن الحدث الجانح، يكون صغر سنه وحداثة عهده بالإجرام حائلين دون تأصل هذا الاتجاه لديه، فضلا عن أن إجرامه يرجع في غالب الأحيان إلى العوامل البيئية وليس إلى العوامل الشخصية. فهذا الوضع الخاص بالأحداث يجعل السبيل سهلا لإنقاذ هذا الصغير وإصلاحه، وذلك بنزعه من الوسط الفاسد الذي يعيش فيه، وبالتالي القضاء على الدوافع الإجرامية قبل أن تتمكن منه. وهكذا يتضح أن مكافحة إجرام الأحداث يعتبر وأدا للإجرام في مهده.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)من الأمثلة التي تضرب في هذا السياق السجين الإنجليزي Philippe Trevor الذي قضى 41 سنة من السجن حين بلغ 56 من عمره، بمعنى أنه لم يقض إلا 15 سنة خارج السجن. انظر في هذا الصدد: الدكتور نبيه الطرابلسي: المجرمون الأحداث في التشريع المصري، ص 1 طبعة 1984.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

وتزداد أهمية هذه الدراسة (1) إذا علمنا أن أكثر من 50% من سكان الدول العربية أحداثا أي لم يبلغوا بعد سن الرشد الجنائي.

 

أولا: تحديد المقصود بالحدث:

يفصد بالحدث الصغير الذي لم يبلغ بعد سن الرشد الجنائي، وقد تجنب المشرع المغربي كأغلب التشريعات العربية، تحديد المقصود بالحدث، بل اكتفى  بالإشارة في عدة نصوص من القانون الجنائي التشريعات العربية، تحديد المقصود بالحدث، بل اكتفى بالإشارة في عدة نصوص من القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، وقانون الأحوال الشخصية إلى ما يرادف هذه الكلمة، طفل ـ صغير، قاصر، وصبي، الفصلان 138 و 139 ف.ج. الفصل 516 من ق.م.ج. والفصول 126 إلى 132 من قانون الأحوال الشخصية.

ويميز أغلب التشريعات العربية بين سن الرشد الجنائي والرشد المدني (2)، فتجعل الأول أدنى من الثاني ويجد هذا التمييز سنده في كون الإنسان أسرع في اكتساب القدرة على التمييز بين الخير والشر من اكتساب الخبرة لمباشرة الحقوق المدني. فإذا بلغ الحدث سن الرشد الجنائي فإنه يصبح اهلا لتحمل المسؤولية الجنائية كاملا ما لم يوجد سبب آخر لانعدام الأهلية كالجنون مثلا. فالطفل يولد فاقد التمييز والإدراك، ثم تنمو ملكاته الذهنية تدريجيا إلى أن تكتمل. وبما أن أساس المسؤولية هو

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)هذه المحاولة ليست الأولى من نوعها في المغرب، بل هناك دراسات بهذا الموضوع منذ أواسط الخمسينات. نذكر منها:

-J.  Nouvel « jeunesse délaissée et délinquance au Maroc » coordination n :1 1995.

هذه المجلة "الرابطة يصدرها مكتب الحرية المحروسة بإدارة الشبيبة والرياضة، وأول عدد لها صدر بالرباط سنة 1947 تحت اسم "مجلة الحرية المحروسة" Revue de l'éducation durveillée وتغير اسمها إلى "الرابطة" سنة 1953.

-J. Selosse introduction à l'étude de la délinquance juvénile au Maroc ; B. ESM 1957.

النشرة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب.

-Danielle Becker : la délinquance juvénile au Maroc BESM N : 98 et 99، 1963.

الآنسة دنيال بيكر حلت محل جاك سبيلوسر في إدارة مكتب الطفولة المهملة والتربية المحروسة بإدارة الشبيبة.

-عبد الوهاب بن مسعود: الأسباب الاجتماعية لجنوح الأحداث مجلة القضاء والقانون عدد 118 سنة 1973.

-الدكتور ادريس الكتاني "ظاهرة انحراف الأحداث" رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا ـ كلية الآداب الرباط سنة 1976.

-ذة مجاهدة الشهابي الكتاني: شخصية الجانح، مطبعة الرباط سنة 1986.

-الدكتور محمد عياط: بعض الملامح البارزة لجنوح الأحداث بالمغرب، ورقة مقدمة إلى الندوة المنعقدة في طرابلس من 10 إلى 13 أكتوبر 1988 تحت عنوان :نحو صيغة غربية لمعالجة ظاهرة جنوح الأحداث".

-الأستاذة مشكور بهيجة: الحماية القانونية للطفل المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الحقوق مراكش سنة 1997.

2)لقد سوى التشريع السوري سن الرشد الجنائي والمدني بثمانية عشر سنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

الإدراك، فإن المنطق يحتم بأن تكون تابعة للإدراك وجودا ونقصا وعدما، فتنتفي في أول مراحل العمر حيث ينتفي الإدراك والتمييز، ثم تنشأ ناقصة في المرحلة اللاحقة وتترج إلى أن تكتمل ببلوغ الحدث سن الرشد الجنائي وقد أخذت التشريعات بمعيار السن كقرينة على انعدام التمييز أو نقصه أو اكتماله، ففي حالة انعدام التمييز أو نقصه، فإن السن يعتبر قرينة قاطعة لا يجوز إثبات عكسها بأي طريقة من الطرق، فإذا اعتبر المشرع أن الصغير دون الثانية عشرة من عمره غير مميز، فإنه لا يصح إثبات عكس ذلك، حتى ولو كانت بنية الحدث وملكاته الذهنية تنبئ عن إدراكه وتمييزه (1) في حين أن بلوغ الحدث سن الرشد الجنائي لا يعدو أن يكون سوى قرينة بسيطة يمكن إثبات عكسها، أي إثبات عدم تمييز الحدث بكافة الطرق.(2)

 

ثانيا: تحديد مفهوم الجنوح Délinquance

الجنوح مشتق من فعل جنح والذي اشتقت منه كلمة جنحة، والجنحة هي الفعل الجنائي المحدود الخطورة. ويرى الدكتور محمد عياط بأن وصف إجرام الأحداث بأنه جنوح يرجع على اعتبارين اثنين: الأول يتمثل في كون إجرام الأحداث يبقى ذا خطورة متوسطة في حد ذاته أو نظرا لشخصية الحدث. أما الاعتبار الثاني فمرده إلى عزوف الباحثين عن وصف الصغار بأنهم مجرمون.(3)

ويتجه الباحثون في العلوم الإنسانية إلى استعمال لفظ الانحراف بدل الجنوح، ويرجع ذلك إلى أن مفهوم الانحراف أوسع نطاقا من مفهوم الجنوح، لأنه يتعلق بالتعدي على قيم وعادات مجتمع معين، بصرف النظر عن كونه مجرما ومعاقبا عليه (4). وقد أصبح لفظ الانحراف شائعا لدى العديد من فقهاء القانون الجنائي العرب ولدى علماء الإجرام ويتبين ذلك من عناوين الدراسات والأبحاث المغربية والعربية التي اطلعنا عليها. بل إن المؤتمر الثاني (5) الذي عقدته الأمم المتحدة قد أخذ بمصطلح الانحراف بدل الجنوح حيث عرف انحراف الأحداث بأنه "القيام بفعل إذا ما اقترفه شخص بالغ يعتبر جريمة" ونعتقد أن لفظ الجنوح أقرب إلى الدقة من الانحراف للتعبير عن ظاهرة إجرام الأحداث. فالحدث الجانح هو الصغير الذي يقل عمره عن سن معين، ويرتكب أفعالا تخالف أحكام القانون الجنائي. أما

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نود هنا أن نشير إلى قرار للمجلس الأعلى الذي صرح فيه بأن المحكمة قد عرضت حكمها للنقض حينما اكتفت بما استخلصته من ملامح المتهم للقول أنه قد بلغ سن الرشد الجنائية، بلا من أن تأمر بما يوجبه الفصل 515 من قانون المسطرة الجنائية لتحديد سن المتهم: قرار رقم 8190 في 12 دجنبر 1983، قضاء المجلس الأعلى عدد 35 و 36 ص 230.

الدكتور أبو المعاطي حافظ ابو الفتوح، شرح القانون الجنائي المغربي ص 244 طيعة 1980

محمد عياض: دور الدين في مكافحة الجريمة، مجلة القانون والسياسة والاقتصاد، كلية الحقوق فاس.

الدكتور سعد المغربي: انحراف الصغار، دار المعارف القاهرة، ص 20 ط 1960.

انعقد المؤتمر الثاني للأمم المتحدة في لندن سنة 1969.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

مصطلح الانحراف، فإنه يشمل الأطفال الذين خالفوا أحكام القانتون الجنائي، والأطفال العاصين في المنزل والمدرسة، والمعتادين على سلوك يعرض أخلاقهم أو صحتهم للخطر. فالجنوح ليس إلا جزءا يسيرا من الدائرة التي يغطيها لدى الأحداث..

 

ثالثا: الحدث الجانح والحدث المعرض للانحراف:

الحدث الجانح هو الذي يرتكب فعلا يجرمه القانون الجنائي، أما الحدث المعرض للانحراف فهو الطفل الذي لم يرتكب جريمة، ولكنه يوجد في حالة قد تدفعه إلى الإجرام. وقد اهتم المشرع المصري بهذه الظاهرة فنص في المادة 95 من قانون الطفل (1) رقم 12 لسنة 1996 بأن أحكام هذا القانون تطبق على من لم يبلغ 18 سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة أو عند وجوده في إحدى حالات التعرض للانحراف، كما نظم المشرع الفرنسي أحكاما لحماية الطفولة المعرضة للخطر بمقتضى الأمر الصادر في 23/12/1958، بل أنه ذهب أبعد من المشرع المصري، فمدد مرحلة الحداثة بالنسبة للتعرض للانحراف إلى 21 سنة، في حين حددها، التشريع المصري بثمانية عشرة سنة، وعلى نفس الدرب سار المشرع الجزائري فأصدر الأمر رقم 72/3 المؤرخ في 10/2/1972 المتعلق  بحماية الطفولة المعرضة للانحراف

 

أما المشرع المغربي فإنه لم يضع بعد أحكاما خاصة بالطفولة المعرضة للانحراف (2)، ونأمل أن يبادر المشرع المغربي (3) إلى إصدار قانون يحمي أطفالنا من الوقوع في المحظور جنائيا. فالأحداث الذين يهيمون في الطرقات بلا مأوى أو وسائل للعيش، وبلا ضابط اجتماعي أو أخلاقي، هو البذرة والنواة الأولى للإجرام، فالتعامل المبكر والسليم مع هذه الفئة الضعيفة هو الذي يمنع من وقع الجرائم ويدفع بها إلى تيار الحياة الشريفة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)ونود أن ننوه بموقف المشرع المصري الذي أصدر مدونة حديثة لحماية بمقتضى القانون رقم 12 لسنة 1996 والذي حل محل قانون الأحداث رقم 31/1974 وأطلق عليه "قانون الطفل" والذي يشمل الرعاية الصحية للطفل والرعاية الاجتماعية وتعليم الطفل ورعاية الطفل العامل والأم العاملة ورعاية الطفل المعاق وتأهيله وثقافة الطفل والمجلس القومي للطفولة والأمومة ثم خصص الباب الثامن منه للمعاملة الجنائية للأطفال.

2)تشرد الأحداث ليس جريمة في القانون الجنائي المغربي، فالفصول 336 إلى 333 من ق.م.ج. الخاصة بالتسول والتشرد، فصد فيها المشرع المشردين الكبار لا الصغار، ووعيا منه بخطورة تعريض الحدث لخطر التشرد عاقب في الفصل 330 من ق.م.ج. من تسبب في تشريدهم دون أن يشير إلى أي تدبير يتخذ ضد الحدث المشرد.

3)هناك مشروع قانون أعدته لجنة تشريعية متفرعة عن اللجنة الوطنية لإعداد السنة الوطنية للطفل عام 1979 جاء في فصله الأول "يقع تحت تدابير الحماية والمساعدة التربوية ـ وفقا للشروط المنصوص عليها في الفصول التالية ـ الأحداث البالغون من 18 سنة فأقل، والمهددون في صحتهم أو أمنهم، أو أخلاقهم أو تربيتهم، أو إذا كانت ظروفهم المعيشية وسلوكهم المعيشي يكونان خطرا عليهم وعلى مستقبلهم". ومنه ما يقرب على عشرين سنة فإن هذا المشروع الحضري ما زال ينتظر المصادقة عليه من طرف الهيئات المختصة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

وبما أن التعرض للانحراف لا يعد جريمة بالمفهوم القانوني، فإن التشريعات لم تسمح إلا بالتدابير الوقائية لمواجهة خطر هذه الظاهرة. وقد عمد التشريعان المصري (1) والفرنسي (2) إلى تحديد حالة التعرض للانحراف بحيث لا يجوز للقاضي الحكم بالتدابير إلا إذا توافرت إحدى تلك الحالات، غذ أن هذه التدابير قد تمس أحيانا بحرية الحدث.

 

خطة الدراسة:

دراسة هذا الموضوع تقتضي منا تقسيمه إلى فصلين:

الفصل الأول: الوضع التشريعي للأحداث الجانحين بالدول العربية.

الفصل الثاني: مدى ملاءمة هذه التشريعات لمواجهة عوامل جنوح الأحداث

 

الفصل الأول
الوضع التشريعي للأحداث الجانحين بالدول العربية

أ ـ تمهيد:

لقد اهتمت التشريعات الجنائية العربية بجنوح الأحداث فوضعت أحكاما خاصة لمكافحة الظاهرة الخطيرة إلا أنها اختلفت حول موضع هذه الأحكام، فمنها من خصص لها قانونا خاصا بالأحداث مستقلا عن القانون الجنائي للبالغين مقل قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 96 وقانون الأحداث الأردني رقم 24 لسنة 1968 والقانون السوري رقم 18 لسنة 1974 وقانون الأحداث الجانحين والمشردين الإماراتي رقم 3 لسنة 1976 وقانون الأحداث رقم 31/1974 الليبي، وقانون رعاية الأحداث السوداني لسنة 1983 وقانون حماية الأحداث المنحرفين الصادر بمقتضى المرسوم الاشتراكي رقم 119/83

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2)المادة 96 من قانون الطفل لسنة 96 اعتبرت الحدث معرضا للانحراف إذا ضبط في أي من الحالات الآتية: ـ التسول ـ جمع أعقاب السجائر أو الفضلات أو المهملات ـ أعمال تتصل بالدعارة أو إفساد الأخلاق أو القمار و المخدرات ـ من ليس له محل إقامة أو المبيت في الطرقات ـ التعود على الهروب من معاهد التعليم أو التدريب ـ إذا كان سيئ السلوك ومارق من سلطة أبيه أو وليه أو أمه ـ من ليست له وسيلة مشروعة للعيش ولا عائل مؤتمن.

أما المادة 97 من نفس القانون فقد اعتبر الحدث الذي ارتكب جناية أو جنحة معرضا للانحراف إذا كان سنه يقل عن سبع سنوات.

3)المشرع الفرنسي نص على أن لقاضي الأحداث الذي ارتكب أن يأمر باتخاذ تدابير المساعدة في مواجهة الحدث في حالتين:

أ ـ إذا كانت صحته أو أمنه أو أخلاقه في خطر. ب ـ إذا كانت ظروف تربيته معرضة بصورة جسيمة للخطر.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

بتاريخ 16/9/83 ـ وباستثناء ليبيا فإن الوضع بدول المغرب العربي يتميز عن باقي الدول العربية التي أشرنا إليها، فالنصوص الخاصة بالمعاملة الجنائية للأحداث في هذه الدول موزعة ومتنافرة، نجد بعضها في المجموعة الجنائية وبضعها الآخر يجد مكانه في قانون المسطرة الجنائية أو قوانين متفرقة (1). ونتمنى أن تعمل هذه الدول على إصدار قانون خاص بالأحداث موحد ومستقل عن القوانين الأخرى كما فعلت فرنسا والتي اقتبست منها تشريعاتها.

 

ب ـ المسؤولية الجنائية للأحداث في الشريعة الإسلامية:

تقوم المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية على الإدراك والاختيار، ففي الوقت الذي ينعدم فيه الإدراك تنعدم المسؤولية الجنائية، وإذا كان الإدراك ضعيفا تكون المسؤولية تأديبية لا جنائية، وفي الوقت الذي يتكامل فيه الإدراك يكون الإنسان مسؤولا جنائيا.

وبما أنه لم يرد في الكتاب أو السنة سن معينة دونها يعتبر الإنسان حدثا وبتمامها يكون بالغا، فإن فقهاء الشريعة الإسلامية استدلوا على البلوغ بعلامات مادية كالاحتلام والأحبال للفتى والحيض والحبل للفتاة، وتبعا لذلك حياة الإنسان من حيث الأهلية إلى ثلاث مراحل:

ـ المرحلة الأولى: عدم التمييز والذي تبدأ منذ ولادة الإنسان إلى أن يبلغ السابعة، ويسمى  بالصبي غير المميز، في هذه المرحلة فإنه لا تطبق عليه اية عقوبة جنائية، وفي حالة الضرورة يمكن أن تتخذ هذه التدابير العلاجية أو التربوية، كما يمكن أن يحكم عليه بتعويض الضرر الملحق بالغير.

ـ المرحلة الثانية: طور التمييز: تبدأ ببلوغ الطفل سن السابعة من عمره وينتهي ببلوغه الثامنة عشرة من عمره (2)، وفي هذا الطور لا يمكن أن يحكم عليه إلا بالتدابير الوقائية والعلاجية كما يمكن الحكم عليه بتعويض الضرر الذي ألحقه بالغير.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1) في المغرب: الفصول 138 إلى 140 من المجوعة الجنائية.

الفصول:514 إلى

ـ الجزائر: المواد 49 إلى 51 من قانون الإجراءات الجزائية.

الأمر الصادر بتاريخ 10/2/1972 الخاص بالطفولة المعرضة الخطر.

ـ تونس: المواد 38-43 من المجلة الجنائية التونسية

المواد 224 إلى 257 من الإجراءات الجنائية التونسية.

ـ موريطانيا: المادة من قانون العقوبات.

2)لم يتفق فقهاء الشريعة على نهاية هذا الطور فمنهم من حددها بخمسة عشر سنة (كالشافعية والحنابلة والشيعة) وحدد الأحناف هذه السنة بـ 18 سنة، أما المالكية فإن الرأي الغالب عند فقهائهم أن سن البلوغ هي ثمانية عشر عاما.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

ـ المرحلة الثالثة: طور البلوغ: في خذا الطور يخرج الإنسان من مرحلة الطفولة ويكون مسؤولا جنائيا عن جرائمه أيا كان نوعها فيحد إذا زنا أو سرق، ويقتص منه إذا قتل أو جرح، ويعزر بكل أنواع التعازير.

 

المبحث الأول
التطور التشريعي للمعاملة الجنائية

 

للأحداث بالمغرب

قبل الحماية كان المذهب المالكي هو السائد في المغرب في شتى المجلات، فكانت قواعد الشريعة الإسلامية وفق المذهب المذكور هي التي تطبق على الأحداث الجانحين وسن الرشد حسب المشهور لدى مالك هو ثمانية عشر سنة. ومن المعلوم أن قواعد الشريعة الإسلامية لا تجيز أن تطبق عقوبات زجرية على الحدث غير البالغ هذا السن، بل سمحت بتطبيق تدابير التأديب والحماية(1).

 

وبعد الحماية، كان أول نص تشريعي خاص بالأحداث الجانحين بالمغرب هو المادة 31 من القانون الجنائي لمنطقة طنجة الدولية والتي تقضي بما يلي: إذا كان سن المتهم اقل من 18 سنة، وتبين أنه ارتكب جريمة بدون إدراك وتبصر فإنه يبرأ، وإذا ثبت بأنه عمل بإدراك وتبصر فإن العقوبات تصدر في حقه حسبما يلي: إذا كان يعي بأنه ارتكب جريمة فإن العقوبات الجنائية تعوض بسجن إصلاحي تتراوح مدته من 5 إلى 20 سنة إما إذا الفعل المرتكب جنحة بسيطة، فإن العقوبة لا يمكن أن تتجاوز ثلث ما يحكم به عن البالغ 18 سنة.

 

في 19 يناير 1939 صدر بمنطقة الحماية الفرنسية قانون خاص يقتصر تطبيقه أمام المحاكم العصرية الفرنسية، أي أنه يوضع لكي يطبق على الأحداث الأجانب أما المغاربة فلن يسري عليهم إلا في الحالات الاستثنائية التي يشملهم فيها اختصاص المحاكم العصرية الفرنسية. فنص هذا القانون على عدم جواز إحالة الأحداث الذين يقل سنهم عن 13 على المحاكم الزجرية وإنما سمح فقط بأن تطبق عليهم تدابير الحماية، أما الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و 16 سنة فقد أنشأت محاكم خاصة لمحاكمتهم.

 

في 30 شتنبر 1953 صدر ظهير جديد بمنطقة الحماية الفرنسية والذي حل محل ظهير 1939 وظل كسابقه، ظل خاصا بالأحداث الأجانب.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)أجمعت المذاهب الإسلامية على عدم تطبيق العقوبات الزجرية على الحدث غير البالغ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

وفي 11 غشت 1953 صدر بمنطقة الحماية الإسبانية ظهير ينص على إنشاء محاكم خاصة للأحداث، ثم تعديله وإكماله بظهير آخر صدر بتاريخ 17 مارس 1955.

 

وهكذا ظل الأحداث المغاربة محرومين من الحقوق التي اعترف بها للأحداث الأجانب إلى أن صدر أول قانون جنائي مغربي يوم 24 أكتوبر 1953 والذي تضمن خمسة فصول (من 74 إلى 78) خاصة بالمعاملة الجنائية للأحداث.

 

وبتاريخ 10 فبراير أصدر المشرع المغربي قانونا للمسطرة الجنائية، هذا القانون جاءنا بتنظيم جديد للقضاء الخاص الجانحين وخصص له الفصول من 514 إلى 567. وبفضل هذا القانون اصبح قضاء الأحداث موحدا في بلادنا قضى على الامتيازات التي يتمتع بها الأحداث الأجانب.

 

وأخيرا عمل المشرع الجنائي المغربي على إصدار مجموعة جنائية محل القانون الجنائي لسنة 1953، وأصبح العمل جاريا بها ابتداء من 17 يونيو 1963 إلى الآن، وخصصت الفصول من 138 إلى 140 منها للأحكام بجنوح الأحداث.

 

المبحث الثاني

مرحلة الحداثة في الوطن العربي

 

لقد اتفقت التشريعات العربية على تقسيم فترة الحداثة إلى عدة مراحل، تقرر لكل منها الحكم الذي يناسب ونمو الحدث ودرجة تمييزه وإدراكه. إلا أنها قد اختلفت في تقسيمها لمرحلة الحداثة، فمنها من قسمها إلى مرحلتين والبعض إلى ثلاث مراحل. وعلى كل فإننا سوف نعالج مرحلة الحداثة من وجهة المسؤولية الجنائية، في مطلبين:

المطلب الأول: مرحلة انعدام المسؤولية

المطلب الثاني: مرحلة نقص المسؤولية

 

المطلب الأول

 مرحلة انعدام المسؤولية

أ ـ تحديد مرحلة انعدام المسؤولية:

يقصد بانعدام المسؤولية الحالة التي تجرد فيها الإرادة من القيمة القانونية (1). فالإرادة التي

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)الدكتور محمود حسني: قانون العقوبات، القسم العام صفحة 542 ط 1977.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

تعتبر أساسا للمسؤولية والتي يعتد بها المشرع الجنائي، لا تتحقق إلا إذا توافر لها شرطان هما: التمييز وحرية الاختيار، فإذا انتفى أحد هذين الشرطين أو كلاهما، تصبح الإرادة مجردة من القيمة القانونية، ونكون بذلك أمام مانع من موانع المسؤولية الجنائية وعلة امتناع أو انعدام المسؤولية الجنائية خلال هذه المرحلة، هي كون الصغير غير قادر على فهم طبيعة الأفعال التي يرتكبها وتوقع العواقب التي قد تترتب عنها.

وتجمع التشريعات العربية على اعتبار الصغير غير مسؤول جنائيا عن الأفعال التي يرتكبها خلال هذه المرحلة.

 

ب ـ مرحلة الحداثة في التشريع المغربي:

أسقط المشرع الجنائي المغربي المسؤولية عن القاصر في المادة 138 م.ج. بقوله "الصغير الذي يبلغ اثني عشر عاما يعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه، فلا يمكن أن يحكم عليه إلا بواحد أو أكثر من تدابير الحماية أو التذهيب المقررة في الفصل 516 من المسطرة الجنائية".

 

فيستفاد من مضمون هذه المادة أن الصغير يعتبر غير أهل لتحمل المسؤولية مادام لم يتجاوز سنه الثانية عشرة، فالمشرع استعمل تعبير "الصغير الذي لم يبلغ اثني عشر عاما". هذا المفهوم للمادة 138 يتعارض وما ورد في المادة 139 م.ج. والخاصة بمرحلة نقص المسؤولية، والتي جاء فيها "الصغير الذي أتم اثني عشر عاما". فلا فرق في التعبير اللغوي بين "الصغير الذي يبلغ اثني عشر عاما" وبين "الصغير الذي أتم اثني عشر عاما". وهكذا فإن الصغير الذي يبلغ اثني عشر عاما يعتبر غير مسؤول جنائيا وفقا للمادة 138، ومسؤول مسؤولية ناقصة وفقا للمادة 139.(1)

 

أثار هذا التعارض في التشريع المغربي، خلافا في الفقه الجنائي، فذهب رأي (2) إلى تغليب مضمون المادة 138 باعتباره اصلح للمتهم. فالحدث، حسب هذا الاتجاه يعتبر غير مسؤول جنائيا مادام لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. في حين ذهب الأستاذ عبد الواحد العلمي (3) إلى أن المقصود بما ورد في المادة 138 هو "الصغير الذي لم يبلغ القانية عشرة من عمره" وأن "لم" ربما تكون قد سقطت خطأ اثناء الطبع. وتأييدا لرأيه اضاف بأن هذا الخطأ المادي هو السبب الذي دفع الأساتذة توفيق عبد

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ولا تخفى أهمية تحديد قصد المشرع هنا فإذا اعتبرنا الصغير الذي يبلغ 12 عاما غير مسؤول، فإن القاضي لا يملك إلا الحكم بالتدابير وحدها. أما إذا اعتبرناه ناقص المسؤولية، فسلطة الاختيار تبقى للقاضي بين التدبير والعقوبة المخففة.

أبو المعاطي حافظ، أبو الفتوح: شرح القانون الجنائي المغربي، ص   ط

الدكتور عبد الواحد العلمي: مجموعة القانون الجنائي تحليل وتعليق، ص57 ط 1996.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

العزيز وفرانسو بول بلان ورابحة ردكي إلى إضافة "لم" في مصنفهم للنصوص أثناء تعرضهم للمادة 138 من القانون الجنائي.

ج ـ تحديد مرحلة انعدام المسؤولية في التشريعات العربية:

ذهبت اغلب التشريعات العربية إلى تحديد انعدام المسؤولية ببلوغ الحدث السابع من عمره من ذلك القانون الكويتي المادة 18 وكذلك القانون اللبناني المادة 237 والمادة 64 من القانون العراقي، فهذه التشريعات لم تسمح بتطبيق أي تدبير ضد الصغير الذي لم يبلغ هذا السن.

كما اتفق الفقهاء على أن سن السابعة هو سن التمييز في الشريعة الإسلامية(1).

 

وتذهب مجموعة من التشريعات العقابية العربية (2) إلى تمديد مرحلة انعدام المسؤولية إلى ما بعد السابعة. هذه الوجهة حتمت على هذه التشريعات أن تسمح تطبيق تدابير تهذيبية ضد من يرتكب الجريمة في هذه المرحلة. ومن أمثلة ذلك المشرع المغربي الذي حدد هذه المرحلة بالثانية عشر من العمر، المادة 138 م.ج. وبهذا التحديد فإنه يكون قد اقام قرينة قاطعة على عدم مسؤولية الحدث في هذا السن، بصرف النظر عن توافر التمييز أو عدم توافره، وأيا كانت جسامة الجريمة التي ارتكبها فلا يجوز أن توقع عليه أية عقوبة، وإنما يقتصر الأمر على  اتخاذ تدابير الحماية أو التهذيب المقررة في المادة 516 من ق.م.ج.

 

وقد سار على نفس الدرب تشريعات عربية اخرى مثل التشريع التونسي 13 سنة المادة 43، وقانون العقوبات الجزائري 13 سنة. أما المشرع الليبي فإنه قد حدد هذه المرحلة بأربع عشر عاما، واختلف عن التشريعات المغربية المذكورة، في كونه لم يسمح أن يتخذ أي تدبير ضد الحدث الذي لم يبلغ السابعة من عمره المادة 80. فتدابير الحماية لا يمكن أن تتخذ في ظل القانون الليبي إلا ضد الأحداث الذين يتراوح سنهم بين السابعة والرابعة عشر المادة 151.

 

أما المشرع الموريطاني فقد خير القاضي بين التدبير أو العقوبة المخففة بالنسبة للأحداث الذين يقل سنهم عن السادسة عشر. ومما يؤخذ عليه أنه قد اغفل ذكر حد أدنى يحرم فيه تطبيق عقوبات زجرية كما فعلت التشريعات العربية.

نخلص من هذا العرض إلى أن التشريعات العربية تنقسم ـ فيما يتعلق بمرحلة انعدام المسؤولية الجنائية ـ إلى مذاهب ثلاثة:

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي، ص 601.

2- التشريع الفرنسي الخاص بالأحداث والصادر في 2 فبراير 1945 حدد هذه المرحلة بإتمام الحدث الثالثة عشرة من العمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

المذهب الأول: جواز توقيع تدابير الحماية أو التهذيب على الصغير الذي يرتكب الجريمة في أي وقت خلال مرحلة انعدام المسؤولية وبذلك تحررت التشريعات التي انتهجت هذا السبيل من التقييد بسن السابعة. وهذه خطة كل من التشريع المغربي والجزائري والتونسي.

 

المذهب الثاني: عدم جواز تطبيق أي تدبير على الطفل الذي يرتكب جريمة أيا كانت جسامتها إلا بعد سن معينة. هذا الوضع يقتضي بأن تتقيد التشريعات، التي تبنت هذه الوجهة، بسن مبكرة يبدأ معها توقيع التدابير، وهذه السن هي السابعة، وهي وجهة التشريعات: في الكويت والعراق ولبنان وليبيا.

 

المذهب الثالث: عدم جواز توقيع أي تدبير على الصغير الذي يرتكب جناية أو جنحة قبل ان يبلغ السابعة باعتباره جانحا، وإنما توقع عليه التدابير باعتباره ذا خطورة اجتماعية وهذه خطة المشرع المصري.(1)

 

المطلب الثاني

مرحلة نقص المسؤولية

تلي مرحلة انعدام المسؤولية مرحلة أخرى يتوافر فيها إدراك غير مكتمل لدى الحدث. هذا الإدراك يتدرج بتقدم سن الحدث، واختلاطه بغيره واتساع نطاق خبرته إلى أن يكتمل ببلوغ سن الرشد الجنائي وقد حدا هذا الوضع بكثير من التشريعات إلى تقسيم مرحلة نقص المسؤولية إلى فترتين: تقتصر في الأولى على تطبيق التدابير، وتقرر في الثانية إمكان توقيع العقوبة المخففة أو التدبير والتشريعات الأخرى، لم تعر اهتماما لهذا التدرج في الملكات الذهنية والخبرة الاجتماعية لدى الحدث، فقررت له وضعا واحدا طوال مدة نقص المسؤولية.

وسوف نعرض لهذين الاتجاهين في فرعين اثنين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نصت المادة 97 من قانون الطفل 1996 على أن الحدث الذي يقل سنه عن سبع سنوات يعتبر معرضا للانحراف إذا ارتكب جناية أو جنحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفرع الأول

توحيد وضع الحدث خلال مرحلة نقص المسؤولية

ذهبت بع التشريعات إلى تقرير حكم للحدث الذي يرتكب الجريمة في أي فترة من مرحلة نقص المسؤولية، وذلك بتخيير القاضي بين توقيع العقوبة على الحدث مع وجوب تخفيفها على العقوبة العادية وبين الاقتصار على تطبيق التدابير.

فإذا تبين للمحكمة أن الحدث على درجة من الجرأة والخطورة تجعل التدبير غير مجد في إصلاحه، فلها أن تحكم عليه بعقوبات مخففة، وقد ذهبت محكمة النقض الدولية الفرنسية في حكم لها إلى أن ملاءمة توقيع العقوبة دون التدبير يجب ألا ينصب على العناصر المكونة للجريمة وإنما على المتهم نفسه (1). وتجدر الإشارة إلى أن الفقه والقضاء في فرنسا قد أجمعا على أن الأصل هو تطبيق التدبير في هذه المرحلة والاستثناء هو توقيع العقوبة.

 

ومن أمثلة التشريعات العربية التي وحدت وضع الحدث مرحلة نقد المسؤولية قانون العقوبات  العراقي الذي حددها من السابعة إلى الثامنة عشرة سنة وتنحى بجواب تطبيق العقوبة أو التدبير خلال هذه الفترة إذا كان الفعل المرتكب جنحة أو مخالفة، أما إذا كانت جناية فقد نص على تطبيق العقوبة مع تخفيفها وجوبا المادة 66، كما نص المشرع الليبي على أن يسأل الصغير الذي أتم

الرابعة عشر ولم يبلغ الثامنة عشرة إذا توافر لديه التمييز على أن تخفض العقوبة الزجرية بمقدار ثلثيها، أما عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد فإنها تستبدل بعقوبة  لمدة لا تقل عن خمسة سنوات المادة 81 ق.ع.

 

أما إذا تبين للقاضي أن الصغير كان غير مميز أثناء ارتكابه للجريمة، يطبق عليه التدابير الوقائية.

وفي نفس الاتجاه يسير قانون العقوبات الجزائري والتونسي واللذان جعلا مرحلة نقص المسؤولية تمتد من بلوغ الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة، وقرار خضوع الحدث الذي يرتكب الجريمة خلالها إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مخالفة.(2)

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)Stefan et Levasseur : Criminologie et science pénitentiaire 1972 n : 628 p654.

 2)المادتان 43 و 44 من اللجنة الجنائية التونسية والمادة 41 من قانون العقوبات الجزائري.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفرع الثاني

تقسيم مرحلة نقص المسؤولية:

ذهبت تشريعات عربية أخرى إلى تقسيم المسؤولية إلى فترتين. وتقتصر التشريعات التي أخذت بهذا النظام على توقيع التدابير وحدها على الحدث في الفترة الأولى، وفي حين سمحت بتطبيق العقوبة مع تخفيفها وجوبا أو تطبيق التدبير وأمثلة هذه التشريعات (1) القانون اللبناني والكويتي والمصري.

 

فالقانون اللبناني قسم مرحلة نقص المسؤولية إلى ثلاث  فترات قرر في الفترة الأولى أي من 7 إلى 12 تطبيق تدابير الحماية، وفي الفترة الثانية أي من 12 إلى 15 تطبيق تدابير الحماية إذا كانت جريمة الحدث مخالفة أو جنحة معاقبا عليها بالغرامة.

أما إذا كانت الجريمة جناية او جنحة معاقبا عليها بالحبس فتوقع عليه التدابير، المادة 238 والفترة الثالثة تمتد من 15 إلى 18، توقع خلالها على الحدث الجانح عقوبات عادية مع وجوب تخفيفها.

 

أما المشرع الكويتي فقد قسم هذه الرحلة إلى فترتين وقرر الأولى توقيع التدابير على الحدث بينما قرر في الثانية توقيع العقوبة وحدها مع تخفيفها وجوبا (2). أما القانون المصري فقد قسم مرحلة نقص المسؤولية إلى فترتين:

الأولى : من 7 إلى 15: اكتفى المشرع المصري بتوقيع التدابير المنصوص عليها في المادة 101 من قانون الأحداث على الصغير الذي أتم السابعة ولم يتجاوز 15 من عمره.

 

الثانية: من 15 إلى 16 لقد قرر المشرع المصري خلال هذه الفترة أن يجمع بين التدبير والعقوبة على سبيل الخيار فأجاز للقاضي أن يوقع على الحدث الجانح العقوبات العادية مع تخفيفها وجوبا في الجنايات، كما أجاز للقاضي أو يوقع بدلا من العقوبة بعض التدابير المادة 111 من قانون 1996.

 

مرحلة نقص المسؤولية في التشريع المغربي:

اعتبر المشرع الجنائي المغربي في المادة 139 الحدث الذي بلغ الثانية عشرة ولم يدرك السادسة عشرة ناقص المسؤولية الجنائية بسبب عدم اكتمال تمييزه. ولذلك اجاز للقاضي أن يحكم عليه بالجنايات والجنح بتدابير الحماية أو التهذيب المقررة في الفصل 516 ق.م.ج. أو بالعقوبات المخففة

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

والسبب في أخذ هذه التشريعات بهذا الأسلوب هو أنها هبطت بمرحلة نقص المسؤولية إلى السابعة.

المادة 19 من قانون العقوبات الكويتي حدد الفترة الأولى من 7 إلى 14 سنة في حين حددت المادة 20 الفترة الثانية من 14 إلى 18 سنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

وبالطريقة المحددة في الفصل 517 ق.م.ج. أما في المخالفات فلم يسمح بالحكم عليه إلا بالتوبيخ أو بالغرامات المخففة المحددة في الفصل 518 ق.م.ج.

فالأصل في هذه المرحلة أن يحكم القاضي بأحد تدابير الحماية والتهذيب، واستثناء ونظرا لظروف الحدث أجاز له أن يطبق عقوبات مخففة الفصل 517 من المسطرة الجنائية.

وإذا كانت القاعدة في القانون الجنائي المغربي تقضي بأن سن الرشد الجنائي هو 16 عاما فإن الفصل 140 م.ج. خول للقاضي على سبيل الاستثناء أن يحكم بتدابير الحماية والتهذيب على الجانحين الذين يقل سنهم عن ثمانية عشرة سنة.

 

الفصل الثاني

مدى ملاءمة هذه التشريعات لمواجهة

عوامل جنوح الأحداث

 

تمهيد:

لقد شهد العالم في الآونة الأخيرة موجة ضخمة من الانحراف والإجرام وظهرت أشكال جديد من الإجرام وارتفعت نسبته في كثير من المجتمعات المتقدمة والسائرة في طريق النمو. واصبح المجتمع يدفع ثمنا باهضا لحركات التنمية التي أغفلت الجانب الإنساني، وركزت كل اهتمامها على الجانب المادي، فالنظرة الضيقة للتنمية هي التي تهمل جانب الإنسان وكيفية حياته وسعادته، إذ الفرد هو الهدف البعيد من تحقيق التنمية. فها نحن الآن نتحدث كثيرا عن تلوث البيئة ونتحدث قليلا تلوث عقول أطفالنا وشبابنا.

 

وقد اتفق الباحثون والمتخصصون على جنوح الأحداث كان نتيجة الأحداث كان نتيجة للثورة الصناعية الغربية، فهذه الظاهرة بحجمها وخطورتها، ما هي إلا تجسيد لأحد أمراض الحضارة (1) الصناعية الحديثة. فلقد هزت هذه الثورة كيان الطفل الوديع فدعته إلى العمل في ظروف قاسية وأفقدته والديه أو أحدهما بسبب إصابات العمل أو الحرب أو تفكك الأسرة، ففقد بذلك الحب والعطف العائلي، واصبح يتحمل مسؤولياته في سن مبكرة ولم تعد تربيه تخضع للنموذج العائلي، وإنما انتقلت إلى

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1) لم يخطئ إيميل دور كايم رائد علم الاجتماع الفرنسي منذ مائة عام إذ ربط بين الجريمة والتحضير وبين أن المزيد من التحضر يؤدي إلى ارتفاع معدل الجريمة والانحراف. انظر نجوى حافظ. جنوح الأحداث والتغيير الاجتماعي ـ المجلة الجنائية القومية، العدد 3 ص 50 سنة 1985.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

مربين ومعلمين من أوساط مختلفة. كما خضع لتأثيرات القصص وأفلام الإجرام. هذه العوامل زادت الأطفال ميلا إلى حب المغامرة والانقياد لغرائزه ودوافعه السلبية، وحالت دون تشبعه بإعزاز ورضى قد يفيض على الآخرين بالخير والمودة.

والدول العربية لم تعرف من قبل هذه الظاهرة الخطيرة إذ لم تتوفر عوامل لظهورها ونموها. وبعد خضوع هذه الدول للحماية بدأ هذا المرض يواجهها فبدأ الاهتمام بعلاجه والبحث عن أسبابه، فجاءتنا التشريعات الغربية كعلاج لانحراف أبنائنا هذا الانحراف الذي هو ثمرة الحضارة التي غزت أقطارنا، وهكذا فقد خضعنا لأسباب المرض الغربي، ثم خضعنا لطرق علاج غربية، دون أن نلتفت إلى واقعنا وإلى وسائل العلاج في حضارتنا. فهذا الوضع هو سبب الخلاف والاضطراب في تشريعاتنا الزجرية وكانت النتيجة أننا لن نستطيع أن نقاوم ظاهرة جنوح الأحداث والتي تزداد نموا وخطورة سنة بعد أخرى.

 

فإحصائيات وزارة العدل المغربية لسنة 1990 تشير إلى أن عدد الأحداث المحالين على المحاكم المغربية قد بلغ 10675. ونشير إلى أن هذا العدد لا يدل على حقيقة هذه الظاهرة. فالجزء الأكبر من جنوح الأحداث لا يصل إلى علم الشرطة الخاصة بالأحداث (1)، فإذا وصل إليها فإن عددا لا يستهان به لا يعرض على المحاكم بسبب التساهل مع قضايا الأحداث. فالإحصائيات عموما لا تعبر بدقة عن واقع الإجرام في بلد معين. فقد شبه الأستاذ جورج بيكا الإجرام المرتكب في بلد معين بجليد عائم Iceberg، والإحصائيات لا تعطي فكرة سوى عن الجزء البادئ منه فوق سطح الماء (2).

 

المبحث الأول: واقع الطفل الجاني في الدول العربية:

 

إن الطفل الجانح مازال يعامل معاملة ظالمة (3) من طرف تشريعاتنا فهي لا تزال تفرض

 تطبيق عقوبات زجرية ورادعة في حق أطفال تقل أعمارهم عن ستة عشرة سنة، فالمادة 66 من التشريع العراقي تلزم القاضي بتطبيق العقوبة على الحدث من 7 إلى 18 عاما إذا ارتكب جناية مع وجوب

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إحصائيات وزارة العدل تشير إلى أن عدد الأحداث الذين ألقي القبض عليهم من طرف الشرطة هو 5982 أما الدرك الملكي فقد اعتقل 1401 ـ إحصائيات سنة 1994.

G. Picca : pour une politique de crime، 1996، p : 18.

ونأمل أن يكون قانون الطفل المصري الحديث الصادر سنة 1996 نموذجا لتشريعاتنا العربية، فقد نصت المادة 94 على عدم مسؤولية الحدث الذي يقل سنة عن سبعة أعوام ولم تسمح المادة 1098 منه إلا بالتدابير على من لم يبلغ خمسة عشر عاما، في حين خيرت المادة 111 القاضي بين العقوبة المخففة والتدابير إذا بلغ 15 سنة ولم يبلغ 16 سنة. واستبعدت المادة الإعدام والأشغال الشاقة المؤدبة والمؤقتة على من لم يبلغ 18 سنة ويتضح من هذا القانون أنه لا يختلف عن المبادئ التي أقرها فقهاء الشريعة الإسلامية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

تخفيفها كما أن التشريع السوري قد ألزم بدوره القاضي بتطبيق العقوبات مع وجوب تخفيفها

إذا ارتكب الحدث البالغ 15 سنة جناية المادة 3، وباقي التشريعات قد خيرت القاضي بين العقوبة والتدبير في حق الأحداث من 7 سنوات إلى سن الرشد الجنائي، ويتميز التشريع الموريطاني عن كل التشريعات العربية إذ خير القاضي بين العقوبة والتدبير في حق الأطفال الذي يقل سنهم عن 16 عاما أي أنه لم يحدد فيه سنا معينا يمنع فيه تطبيق العقوبة، المادة 60 من قانون العقوبات الموريطاني.

 

وقد نص المشرع الفرنسي على أن الأصل هو تطبيق التدبير والاستثناء هو تطبيق العقوبة ضد الحدث ما بين 13 و 18 عاما وقد سبق أن رأينا أن المشرع المغربي قد قلب الآية ونص على أن القاعدة هو تطبيق القاعدة والاستثناء هو تطبيق التدبير بالنسبة للحدث ما بين 16 و 18 عاما. ويبدو أن المشرع الجزائري قد تأثر بالوضع التشريعي الفرنسي فنص صراحة في المادة 445 من الإجراءات الجزائية على أن الحكم على الحدث من 13 إلى 18 عاما بعقوبة جنائية هو إجراء استثنائي، واشترط بأن تكون العقوبة ضرورية بظروف ولشخصية الحدث، وإذا حكم القاضي بعقوبة زجرية أوجب أن يكون ذلك بقرار معلل.

 

هذا الوضع يدل على انحراف الفكر العربي، عن تاريخنا وحضارتنا وعن نصوص ومبادئ الشريعة الإسلامية التي قدر لها أن تحكم أقطارنا زمنا طويلا (1)، وتلك القواعد التي لا تجيز إلا الحكم بتدابير التأديب والتربية في حق الطفل غير البالغ سن الرشد، والذي حدده أبو حنيفة ومالك بثمانية عشر عاما.

كما أن السياسة الجنائية الحديثة (2) تسير في اتجاه أبعاد الصغير عن المجال العقابي من الناحية

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

القانون السوداني الصادر بتاريخ 1991، أخذ بأحكام الشريعة افسلامية فنص في المادة 9 منه على أنه: "لا يعد مرتكبا جريمة الصغير غير البالغ على أنه يجوز تطبيق تدابير الرعاية والإصلاح الواردة في هذا القانون على أن من بلغ السابعة من عمره حسب ما تراه المحكمة مناسبا" وفي المادة 3 منه نص على أن المقصود بكلمة بالغ:  هو من بلغ خمسة عشر سنة من عمره وظهرت عليه علامات البلوغ، وفي حالة عدم ظهور هذه العلامات يعتبر بالغا كل من أكمل 18 ولم تظهر عليه علامات البلوغ، وقد أباح هذا القانون بالجلد كإجراء تأديبي على من بلغ العاشرة بما لا يجاوز 20 جلدة.

في تونس، وقعت جريمة قتل فظيعة ارتكبها حدثان واتضح أن الفصل من المجلة الجنائية تحول دون تطبيق عقوبات الإعدام عليهما فثارت ثائرة رئيس الدولة آنذاك وصرح بأن ذلك النص يجب تنقيحه بالقانون رقم 23 المؤرخ في 24 يوليوز 1968، وأصبح بالإمكان تطبيق عقوبة الإعدام على من بلغ سن الرشد الجنائي هو 16 سنة بدل 18 سنة.

وفي سنة 1982، ارتكبت جريمة قتل فظيعة اتهم فيها أحد أبناء الحاشية الرئاسية، وكان العقاب المستوجب هو الإعدام وتدخلت الهيئة التشريعية التونسية مرة ثانية في اتجاه معكوس فرفعت سن الرشد من 16 إلى 18 لتقي بذلك أحد أبناء النخبة من عقوبة الإعدام. فهذا نموذج من السياسة الجنائية من أقطارنا العربية.

-المرجع: المسؤولية الجنائية للأحداث: ساسي بنحليمة تقرير تونس المقدم لندوة الآفاق الجديدة للعدالة الجنائية في مجال الأحداث المنظمة من طرف الجمعية المصرية للقانون الجنائي القاهرة 18-20 أبريل 1992.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

الموضوعية والإجرائية اثناء مرحلة المحاكمة وخلال التنفيذ (1). فيجب إذن تتغير نظرتنا إلى الحدث الجانح وأن نعتبره شخصا مريضا يحتاج إلى علاج وليس مجرما يستحق العقاب.

وإذا اتضح لنا أن النصوص العربية الحالية قاسية في حق الحدث الذي يحتاج إلى المحبة والرحمة، فإنه يعامل أكثر قساوة أثناء البحث والتحقيق معه، فيستفاد من الكثير من الأبحاث أنه يجب توعية وتكوين الشرطة الخاصة بالأحداث، فعلى الرغم من أن المغرب كان من الدول السباقة إلى إنشاء هذه الشرطة فإن الأحداث مازالوا يعانون من سوء المعاملة في مراكز الشرطة، ويتبين ذلك من بحث ميداني أجرته الأستاذة مشكور بهيجة (2) أشارت فيه إلى أن:

 

40% ممن ألقي القبض عليهم صرحوا بأن المعاملة كانت سيئة ومقترنة بالعنف.

32% صرحوا بأن المعاملة كانت عادية.

12% صرحوا بأن المعاملة كانت حسنة.

6^ بدون جواب.

*أما عن التغذية داخل مراكز الشرطة فكانت هي:

الخبر اليابس 710%.

بدون اكل 15%.

أكل جيد 10%

بدون جواب 5%.

*أما عن وضعية المبيت:

النوم على الحصير 42%.

النوم على الأرض 47%.

نوم جيد 00%

النوم خارج المركز 5%.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1) نصت المادة 30 من قانون تنظيمي السجون على تخصيص جناح خاص في كل مؤسسة عقابية لفئة المجرمين الشباب من 21 إلى 27 كما نصت المادة 29 منه على أن عقوبة الحبس الصادرة ضد الأحداث الذي يقل سنهم عن 21 سنة، تنفذ في المراكز الخاصة بالأحداث.

2) ذ. مشكور بهيجة: الحماية القانونية للطفل المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الحقوق، مراكش، ص 374 و 375 س 1997.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

بدون جواب 5%. (1)

كما يستفاد من أبحاث (2) أخرى أن قضاء الأحداث ببلادنا يعهد به في الغالب إلى قضاة حديثي العقد بالتخرج، ولا يستقرون في هذا المنصب،  كما أنهم ليسوا متخصصين فيه، وليست لهم تجربة سابقة أو خبرة بمؤسساته.

وأود أن أشير إلى رسالة بعثت بها وزارة العدل المغربية إلى السادة الوكلاء العامين للملك بتاريخ 29/11/1980 جاء فيها: "لقد أفادني السيد وزير الشبيبة والرياضة أن الهيئات المكلفة بقضايا الأحداث تعمد بإحالة الأحداث من ذوي العاهات الجسمانية والعقلية إلى مؤسسات رعاية الطفولة على أن هذه المؤسسات معدة فقط لاستقبال الأحداث المنحرفين.... ثم نبهت الرسالة إلى ضرورة إحالة هؤلاء الأحداث على مؤسسة طبية".

 

فهذه شهادة على معاملتنا لجنوح الأحداث تحتاج إلى إعادة النظر، ودليل على أن التكوين الذي يتلقاه قضاتنا في الكليات والمعاهد لا يؤهلهم لتحقيق الهدف والغاية من القانون الخاص للأحداث، وإذا لم يتحقق هدف القانون دليل على فشل المشرع لأنه لا يتعامل مع الواقع الاجتماعي.

فقاضي الأحداث يقف أمامه حدث في فجر حياته كشخص مريض يحتاج إلى علاج وتهذيب فيجب إذن أن تكون ممن يهتمون بأمور الطفولة ورعايتها، وله دراية بالجوانب الاجتماعية والنفسية للأطفال. وحتى يتحقق ذلك، يكون قاضي الأحداث في حاجة إلى الإلمام بعلم الاجتماع وعلم النفس أكثر من احتياجه إلى المعلومات القانونية. فيجب أن يتحلى قاضي الأحداث بالروح الطيبة والأخلاق السمحة، وينظر إلى قضاياهم بروح العطف وحنان الأبوة، حتى ينال ثقة ومحبة هذه الفئة الضعيفة من المجتمع. وقد تكون هذه الاعتبارات التي دفعت بعض الولايات (3) في أمريكا إلى إسناد كرسي قضاء الأحداث إلى النساء دون الرجال، وذلك لما تنطوي عليه نفوسهم من الشفقة والرحمة. كما نص المشرع الروسي على أن يكون رئيس محاكمة الأحداث من علماء التربية يجلس معه عضوان أحدهما قاض والآخر طبيب، في حين ذهب القانونان المكسيكي والنرويجي إلى إبعاد القضاء من النظر في جنوح الأحداث، فالقانون المكسيكي نص على أن محكمة الأحداث تتكون من ثلاثة أعضاء

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- هذا الوضع الشاذ الذي يعيشه بناة الغد وحاملو مشعل الحضارة الإنسانية يغنينا عن كل تعليق.

2- إجراءات التحقيق والمحاكمة في دعاوي الأحداث ص 13، س 1993 ـ الجار عبد الغني.

3- من هذه الولايات: نيويورك ـ فلوريدا ـ مشكان اوهيبو ـ فرجينيا ـ كولومبيا....

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

أحدهما من علماء النفس والثاني من المهتمين بالتعليم وأوجب بأن يكون الرئيس العضو الثالث محاميا. أما التشريع النرويجي فقد جعلت محكمة الأحداث تتألف من أحد أعضاء جمعية الإغاثة الاجتماعية ومدرس مدرسة أو مفتش للتعليم الابتدائي معروفين بالاهتمام بقضايا الطفولة (1).

 

وإذا اتضح لنا أن المشرع قد شدد أحكامه ضد الحدث، وأنه يعامل بقساوة في مراكز الشرطة القضائية، فإن الحكم المجتمع عليه يبدو أكثر قساوة من حكم القانون فما زال الحدث لا يتلقى إلا التهميش والنفور منه داخل الأسرة، في الحي وفي أوساط العمل، مما يجعل عملية اندماجه في المجتمع أمرا صعبا (2).

 

المبحث الثاني: غياب التعاون والتنسيق بين المؤسسات

 

الإصلاحية في الوطن العربي

تختلف أسباب وعوامل جنوح الأحداث في دول العالم، باختلاف مذاهبها وأنظمتها السياسية والاقتصادية، ومستوياتها الفكرية والعلمية والحضارية، وتبعا لذلك فمن البديهي أن تكون طرق وأساليب العلاج مختلفة، فلا يمكن ان يكون هناك نمط موحد للتربية والتأهيل. فإذا كان من واجب المسؤولين والمهتمين ببلداننا أن يطلعوا على الأساليب والتجارب التي تستخدم في المؤسسات الإصلاحية بمختلف الدول المتقدمة. فإن ذلك لا يعفيهم من القيم بتجاربهم الخاصة والمستمدة من واقعنا وقيم حضارتنا. ذلك إن أسباب الإجرام ليست واحدة في كل مكان، ولكن يكون العلاج وصفة واحدة صالحة لكل مكان.

 

ونرى أنه يتعين على المربين والمشرفين على المؤسسات الإصلاحية بالوطن العربي، تكثيف الاتصال فيما بينهم لعرض ومناقشة تجاربهم الخاصة في ميدان إعادة التربية، وإظهار ما يعترضها من مشاكل وصعوبات، وبذلك سوف نتمكن من وضع أسس وقواعد مشتركة لهذه التربية وتطبيقها على مستوى العالم العربي، فعوامل نجاح هذه التجربة متوافرة لدينا، إذ يجمعنا دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد.

وأود أن أشير إلى أن عملية الجرد الإحصائي لهذه المؤسسات على مستوى الدول العربية، لم يقم

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- محمد نبيه الطرابلسي: المجرمون الأحداث والمقارن في القانون المصري والمقارن ص 226.

2- محمد اليزيدي: محاولة إصلاح الأحداث المنحرفين ومشكلة اندماجهم اجتماعيا ـ ندوة انحراف الأحداث ـ الرباط يوم 12 دجنبر 1987.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

به اية هيئة أو مصلحة عربية، رغم أهميتها البالغة للباحثين والمهتمين. ولإعطاء فكرة عن هذه المؤسسات ونظرا لانعدام الإحصائيات بالنسبة للدول العربية و فسأكتفي بالمغرب كنموذج لمؤسسات رعاية الطفولة.

فحسب إحصائيات (1) 1995 توجد بالمغرب 16 مؤسسة (2) يستفيد منها 2761 حدثا. ولم تشر هذه الإحصائيات إلى عدد المحالين على المحاكم ولا على العدد الملقي عليه القبض من الشرطة القضائية.. أما إحصائيات سنة 1994 فقد أشارت إلى أن عدد الأطفال الذين ألقي عليهم القبض قد بلغ 7383و وبالنسبة للمحكمة الابتدائية بمراكش (3)، فإن عدد قضايا الأحداث الذي بثت فيه سنة 1994 قد بلغ 732 قضية، وجاءت الأحكام على الشكل الآتي:

 

330 حكم بالإيداع بمركز حماية الطفولة.

21 حكم بالحرية المحروسة.

00 وسط مفتوح

374 حكم بالتسهيل للأهل.

7 أحكام بالحبس أو السجن.

 

وما يثير الانتباه بالنسبة لهذه الأحكام أن أكثر من خمسين بالمائة قد صدرت بالتسليم للأهل. ونعتقد أن السبب الذي دفع قضاء الأحداث بمراكش إلى الحكم بهذا الحكم بالإيداع في المؤسسة الإصلاحية،، هو ضعف وهزالة عدد الأماكن المخصصة لإيواء الأحداث بمؤسسة مراكش (4) وبباقي المؤسسات بالمغرب.

 

فالحكم بتسليم الأحداث لذويهم هو دليل على الهروب من مواجهة هذا الواقع المزري، وعلى فشل سياسة الإصلاح والتأهيل ببلادنا. وحجتنا في ذلك، أن الحدث الجانح، لو نال في وسطه العائلي، ما يستحقه من الرعاية والحنان والتوجيه السليم ما سقط في فخ الإجرام. فماذا ننتظر إذن أن يحققه الحكم بتسليم الحدث لذويه من إصلاح وتأهيل. كما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن جدوى وفعالية المؤسسات يبقى رهينا بكيفية تنظيمها وكفاءة العاملين بها والإمكانيات المادية المتوفرة لديها. وكل

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- المصدر: وزارة الشبيبة والرياضة.

2- إحصائيات 1985 أشارت إلى نفس العدد، وبها 1365 سرير، أن عدد الأحداث المحالين على المحاكم بلغ 9890 بمعنى أنه خلال 12 سنة لم تشيد أي مؤسسة أخرى، رغم أن جميع التقارير تؤكد أن جنوح الأحداث يتزايد سنة بعد أخرى.

3- إحصائيات وزارة الشبيبة والرياضة لسنة 1994.

4- مؤسسة حماية الطفولة بمراكش لا تتوفر إلا على 120 سريرا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

الأبحاث التي أجريت في هذا الميدان تشير إلى النقص الكبير في الإمكانيات المادية والبشرية لدى هذه المؤسسات (1)، أن ما نريده لمؤسساتنا الإصلاحية هو أن تكون مدرسةى لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة لا أن تكون صورة مشوهة للمؤسسات الموجودة بالبلدان الغربية.

 

خاتمة

أود أن اشير في ختام هذه الدراسة المتواضعة، إلى أن الدول التي أصبحت تنعت بالتخلف هي تلك التي اصبحت عاجزة عن مكافحة جنوح الأحداث وانحرافهم، واصبح المجتمع المتخلف هو الذي يترك أطفاله ضحية للانحراف، والذي يرضي جيله الحاضر ويهمل حيل المستقبل.

 

إن الدول العربية في طريق التعرض لصدمة أقوى مما تستطيع أن تتحمله بسبب خطر انحراف الأحداث، فما زالت تفتقر إلى القدرة على التخطيط لمستقبل ابنائها من الأطفال بشكل يتماشى مع حياتنا الاجتماعية وأماما تحديات ضخمة تتمثل في النسبة الكبيرة لزيادة السكان (2) وسوء التغذية وضعف الرعاية الاجتماعية والصحية للأطفال وإلى جانب الرعاية القانونية هناك جهات أخرى لها الدور الفعال في الحد (3) من هذه الظاهرة الخطيرة تتمثل في الأسرة والمدرسة لذا يتضح بأن مقاومة انحراف الأحداث وجنوحهم يحتاج إلى جهد الجميع، فالأطفال طهارة وبراءة وبساطة، وقد تنقلب هذه الظاهرة إلى شر والبراءة إلى إجرام وتتحول البساطة إلى تعقيد. وإذا لم نعمل وانقلبت هذه الموازين يجب آنذاك ألا نتساءل عن المسؤول، فكلنا مسؤولين.

وأنهي هذا الموضوع لما جاء في الآية 38 من سورة آل عمران: قل ربي هب لي من لدنك درية طيبة إنك سميع الدعاء".

صدق الله العظيم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1-أن تقرير المغرب المقدم من طرف عبد الرحمان مصلح المستشار بالمعهد العالي للدراسات القضائية لندوة الآفاق الجديدة للعدالة الجنائية في مجال الأحداث المنظمة بالقاهرة أيام 18 إلى 20 أبريل قد اشار إلى أن الإصلاحيات بالمغرب تفتقر إلى المواد الأولية اللازمة لتجهيز المعامل المهنية لتمكين نزلائها من التدريب والتمرين، كما أنها لا تتوفر على وسائل الرعاية الصحية الضرورية، ولا تستغل أوقات فراغ الأحداث الاستغلال الحسن، كما لاحظ التقرير عدم شعور العاملين بهذه المؤسسات بالأهمية الملقاة على عاتقهم وأن الأحداث يعيشون في جو يغلب عليه التوتر والقلق وعدم التجاوب.

2- بلغ عدد المواليد في المغرب سنة 1996: 523.539 المغرب في أرقام 1996.

أقول الحد منها لا القضاء عليها، إذ أن الجريمة ظاهرة اجتماعية لازمت البشرية وسوف تلازمها إلى يوم الدين.

الدكتورة تماضر حسون: الأسرة وانحراف الأحداث في الوطن العربي، تقرير مقدم لجمعية علماء الاجتماع الناطقين بالفرنسية جنيف فبراير 1988.

3- تفيد هذه الدراسة أن 49% من الأحداث المقدمين للمحاكم في الوطن العربي يعيشون في اسر مفككة بسبب وفاة أحد الوالدين أو كليهما أو الطلاق أو تعدد الزوجات أو هجر أحد الوالدين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

مجلة المحامي عدد 34 صفحة 70


تعليقات