القائمة الرئيسية

الصفحات



شروط تحريك الدعوى العمومية من طرف المجني عليـه، وشروط جواز الحكم لـه بالتعويـض

 


شروط تحريك الدعوى  العمومية من طرف المجني عليـه، وشروط جواز الحكم لـه بالتعويـض، ومــدى
الفصل 9 في الإجراءات الجنائية الانتقالية

 

محمد التبر محام بهيئة الدار البيضاء

 

ان كل جريمة تحدث اضطرابا في  النظام الاجتماعي  لانها تخل بالقواعد الاخلاقية الناتجة  عن تطور الحضارة

وعما  يصبح مشكلا للتعايش الاجتماعي في مختلف اوجهه، وكثيرا  ما يتسبب  اقترافها في اضرار مادية او معنوية للخواص ذاتيين كانوا او معنويين.

 

ان الشعوب تتميز بالنسبة لحضارتهم وتوازنها الاجتماعي بقدر ما   يتوفر عليه افرادها من ضمانات لحريتهم وممتلكاتهم في القانون الوضعي وخاصة في تطبيقه السليم من الوجهة الادارية والوجهة القضائية.

 

وبينما تستهدف الدعوى العمومية العقاب، فان الدعوى المدنية ترمي الى الحصول  على تعويض الضرر اللاحق شخصيا ومباشرة بالطرف المتضرر من الفعل الاجرامي.

 

وكل دعوى من الدعويين منفصلة عن الاخرى من ناحية امكانية اقامتها وممارستها والطعن  في الاحكام الصادرة في شانها  ومن ناحية اسباب سقوطها والتنازل عنها.

 

ولما كان حق العقاب خاصا،  في النظم العصرية، بالمجتمع، وفان الدعوى العمومية ليست مملوكة الا للهيئة الاجتماعية التي يرجع اليها، بالتالي واليها وحدها، الحق في التنازل عنها ( وهذا ما يقع في حالة العفو) او التصالح  في شانها ( وهذا ما تفعله بواسطة بعض الادارات في عدة ميادين معينة مثل الجرائم الجمركية والجرائم المتعلقة بتهريب الاموال وقوانين الصرف وجرائم المياه والغابات وجرائم الاتجار في التبغ الخ ...).

 

ان النيابة العامة بصفتها وكيلة للمجتمع وليست مالكة للحق، أي للدعوى العمومية، لا يمكنها ان تتصالح مع المتهم او ان تتنازل عن حق رفع الدعوى عليه ولو مقابل قيامه ببعض الشروط،  ولا يمكن ان تتقيد بهذا التنازل لمنع المحكمة من الحكم، كما لا يسوغ لها التنازل عن طرق الطعن  في الاحكام قبل انتهاء آجالها، ولا تتقيد بمثل هذا التنازل ولا يمكنها التنازل عن الطعن بعد تقديمه ( الفصل 387 من قانون المسطرة الجنائية ).

 

كما انه لا  يمكن لا للدفاع ولا لهيئة الحكم ان يرتبا  أي مفعول قانوني،  بالنسبة لوجوب مواصلة  المتابعة  الى نهايتها، عن تصريحات النيابة العامة، شفوية كانت  او كتابية اذا كانت قاصدة  براءة المتهم او معبرة عن تاسفها على اقامة الدعوى، لان مثل هذه التصريحات لا تعفي المحكمة من ضرورة التحقق من مسؤولية  المتهم  ومعاقبته اذا ثبتت إدانته.

 

نعم، إنه يحق للنيابة العامة ولو في حالة ثبوت جريمة معينة ومعرفة مقترفها  وامكانية  ضبطه الا تقرر المتابعة وان تتركها،  وذلك  اما لانها تعتبر ان تحريكها سوف يؤدي  بالنسبة للنظام العام الى نتيجة غير مسايرة لمصلحته واما لانها تلقت تعليمات فرضتها متطلبات سياسية، ولا معقب عليها في ذلك لان قراراتها بالحفظ وهي دائما مؤقتة ( الفصل 38 من قانون المسطرة الجنائية) ليست قابلة لان طعن.

 

لكن، بمجرد ما تحرك الدعوى فانها تفقد كل سلطة على سيرها ويصبح حقها منحصرا في امكانية  ابداء ملاحظاتها وتقديم ملتمساتها للقضاء، ان شاء اخذ بها وان شاء رفضها،  ولها  بطبيعة الحال ان تطعن في الاحكام الصادرة.

 

وهنا ينبغي التمييز  بين ممارسة  الدعوى العمومية  وبين تحريكها.

فالممارسة لها مدى اوسع وتتضمن، كما أشير اليه، احالة الوقائع على القضاء أي اقامة  الدعوى والتدخل في كل ما من شانه ان يفيد المزيد في التحقيق والبحث ومباشرة طرق الطعن في الاحكام الصادرة،  في حين ان تجريك الدعوى ينحصر في الاجراء الاول وهو ايصال وقائع المتابعة الى القضاء أي اقامة الدعوى.

 

فمن له حق الممارسة يتوفر بحكم  الضرورة على حق التحريك، اما عن لم يخول له المشرع إلا حق  تحريك الدعوى أي حق اقامتها فانه لا  يسوغ له ان يطعن في الاحكام الصادرة في شانها.

 

فالمحاكم خول لها المشرع في بعض الحالات، وبصفة استثنائية  تحريك   الدعوى العمومية، ذلك مثل الجرائم  المقترفة خلال جلسات المحاكم الزجرية شريطة ان تقرر المتابعة فورا قبل انتهاء الجلسة. ( الفصول 271 و341 وما يليه الى الفصل 345 من قانون المسطرة الجنائية) وحالات التصدي ( الفصل 415  من قانون المسطرة الجنائية) والمتابعة التي تقررها تلقائيا  غرفة الاتهام  ( الفصلان 225 و226 من نفس القانون)، وغني عن البيان ان هذه الاستثناءات  مقصورة على  تحريك الدعوى، فاما ممارستها فمن حق  النيابة دون غيرها.

 

على ضوء ما سبق يصبح  منطوق الفصل 2 من قانون المسطرة الجنائية واضحا كل الوضوح.

" يقيم الدعوى العمومية ويتابعها رجال القضاء أو الموظفون  المعهود اليهم بها بمقتضى القانون "رجال القضاء"هم اعضاء النيابة العامة " والموظفون المعهود اليهم بها بمقتضى   القانون" هم التابعون لادارة الجمارك   وادارة المياه والغابات وشركة التبغ الخ ."

" كما يمكن للشخص المتضرر ان يقيمها طبق الشروط المبينة في هذا القانون".

 

 يلاحظ ان الفصل قصر الحق للمتضرر على اقامة الدعوى ولم يضف عبارة " ويتابعها"   التي تعني ممارسة الدعوى العمومية  أي امكانية الطعن في الاحكام  الصادرة في شانها.

 

والفرق اذن بين الحق المخول للنيابة العامة والحق المخول للشخص المتضرر، بالنسبة لتناول الدعوى العمومية شاسع  وهام : 

الاول ينطلق من اول اجراء يؤدي  الى تحريك الدعوى ولا ينتهي الا بتنفيذ العقوبة المحكوم بها.

والثاني ينحصر مفعوله في اجراء تحريك المتابعة دون ان يمتد الى مراقبة مصير سيرها.

 

على ضوء هذه الملاحظات يتبين ان إقامة الدعوى من طرف الشخص المتضرر اما  بواسطة شكاية  لقاضي التحقيق مقرونة  بالمطالبة بالحق المدني واما بواسطة شكاية مباشرة للمحكمة توجب المتابعة الى انتهاء الفصل فيها دون اعتبار الموقف المتخذ في شانها من طرف النيابة العامة  بحيث  يستوي ان تتبناها هذه الاخيرة او تعارض فيها.

 

وفي حالة صدور حكم بالبراءة فانه يحق  للنيابة العامة  ان تستانفه ولو سبق لها ان عبرت عن عدم   موافقتها على المتابعة  وتكون محكمة الاستئناف ملزمة بالبت في الادانة دون اعتبار الموقف السابق للمستانفة حتى ولو صرحت هذه الاخيرة،  من جديد خلال النظر في استئنافها، انها تتنازل عنه.

 

اما اذا وقع الاستئناف من الشخص المتضرر وحده ولو كان هو المحرك  للدعوى   العمومية  فانه لا يمكن لمحكمة الاستئناف ان تفصل الا في الدعوى المدنية في اطار الفصل 410 من قانون المسطرة الجنائية وتبقى البراءة المحكوم  بها ابتدائيا مكتسبة لقوة الشيء المقضى به تفريعا عن كون الشخص المتضرر لا يتوفر على حق ممارسة الدعوى العمومية هذا باستثناء حالات التصدي المنصوص عليها في  الفصل 415 من قانون المسطرة والتي كما سبقت الاشارة اليه، يجوز فيها للمحكمة الفصل تلقائيا في النازلة والحكم، اذا اقتضى الحال، بالعقوبة المقررة قانونا على ضوء ما تراه ثابتا من الوقائع التي كانت  معروضة على نظر القاضي الابتدائي  بمقتضى  الامر بالحضور الصادر اما  عن النيابة العامة او عن الطرف المضرور.

 

* * *

 

ان الشارع اجاز للمجني عليه ان يطالب بتعويض عما لحقه من ضرر امام الجهات القضائية الزجرية اما عن طريق تدخله في دعوى جنائية أقيمت فعلا على المتهم من النيابة  العامة او بالتجائه مباشرة الى هيئة التحقيق او الى المحكمة مطالبا بالحق المدني ومحركا شخصيا  للدعوى العمومية غير ان هذه  الاجازة ليست الا استثناء من  اصلين مقررين،  حاصل  اولهما، ان المطالبة بمثل هذه الحقوق انما تكون امام القضاء المدني،   ومؤدى ثانيهما، ان تحريك الدعوى الجنائية انما هو حق تمارسه  النيابة العامة  وحدها،  ومن ثم يتعين  عدم التوسع في الاستثناء وحصره في الحالات التي تتوافر فيها الشروط  التي قررها المشرع.

 

فحق المتضرر في تحريك الدعوى العمومية يشترط  فيه :

1) ان يكون الفعل المسبب في الضرر المطلوب تعويضه مشكلا  لجريمة.

2) ان   تكون الجريمة مستوجبة العقاب،  بحيث لا تقبل المطالبة بالمتابعة اذا كانت الجريمة قد تقادمت أو صدر في شانها العفو او حكم سابق ( الفصل 351 من قانون المسطرة  الجنائية) او كان المنسوب اليه اقترافها قد توفي،  او متوفر على  الحصانة المشار اليها في الفصول 534، 541، 548 من القانون الجنائي ( جرائم انتزاع الاموال بين الزوجين او في حق الفروع او متوفرا على  الحصانة   الديبلوماسية او على   امتياز قضائي ( الفصل 266 الى 270 من قانون المسطرة الجنائية).

3) ان يكون الضرر ناتجا مباشرة عن الجريمة وليس عن الوقائع المرتبطة  بها.

4) ان يكون الضرر قد لحق شخصيا محرك الدعوى العمومية ( باستثناء النقابات والجمعيات المهنية التي اجاز لها القانون او الاجتهاد القضائي القار تحريك الدعوى بناء على الضرر المعنوي الذي تسبب فيه الجريمة  للحرفة  او للمهنة بصفة عامة.

5) الا يكون المجني عليه قد اختار مسبقا  اللجوء الى القضاء  المدني ( الفصل 11 من قانون المسطرة الجنائية).

6) الا تكون الجريمة من اختصاص المحاكم الاستثنائية ( المحاكم   العسكرية ومحكمة العدل الخاصة ).

7) الا تكون الجريمة مقترفة من لدن  الاجانب خارج المملكة باستثناء  الجنايات ضد  سلامة الدولة المغربية  وتزييف النقود  او الاوراق البنكية الوطنية ( الفصل 751 وما يليه  من قانون المسطرة الجنائية)  واذا كانت الجريمة  صبغة  جنحة وارتكبت بالخارج ضد  شخص فلا يمكن متابعتها الا بطلب  من النيابة العامة   ولو كان مقترفها مغربيا ( الفصل 752 من قانون المسطرة الجنائية ).

8) ان يكون  الطرف المتضرر متوفرا على اهلية التقاضي حسبما تقتضيه احكام القانون المدني ( بحيث اذا كان قاصرا  او في حالة  التفلسة فان الولي او السنديك  هما  اللذان يحق لهما  تحريك  الدعوى بصفتهما  نائبين).

9) ان يؤدي المشتكي لضمان  صائر  اجراءات  الدعوى  المبلغ الذي يحدده قاضي التحقيق اذا قدمت اليه الشكوى ( الفصل 96 من قانون المسطرة  الجنائية) أو المحكمة اذا حركت الدعوى مباشرة وفي هذه الحالة يتعين على المدعى ان يؤدي زيادة الوجيبة القضائية  التي كان عليه ان يتحملها لو التجأ  الى القضاء المدني ( الفصلان 59 و63 من ظهير17/1/1961 المتعلق بالصوائر القضائية في الميدان الجنائي).

10)    الا تكون الجريمة مرتكبة من لدن مشغل المجني عليه او تابعيه في اطار عقد الشغل ما لم تكن  عمدية او واقعة اثناء  المسافة المؤدية  من سكنى المجني عليه الى مكان الشغل أو من هذا المكان الى ذلك ( الفصل 172، من ظهير 6/9/1963 المتعلق بتعويض  الاصابات الناشئة عن حوادث الشغل).

11)    ان تبلغ اقامة الدعوى الى العون القضائي  اذا كانت موجهة ضد موظف عمومي او عون او مامور للسلطة  او القوة العمومية  ( الفصلان 2 من  قانون المسطرة الجنائية).

12)    ان تشير الشكاية اذا كانت مرفوعة مباشرة للمحكمة الى الوقائع المشكلة للاجرام والى نوع الجريمة   وبصفة خاصة الى  النصوص المتضمنة للعقوبة ( الفصل 367 من قانون المسطرة الجنائية).

 

واذا انعدم  شرط من هذه الشروط الاساسية فان الدعوى تكون مردودة لا من الوجهة المدنية فحسب بل حتى من  الوجهة الجنائية، هذا حتى ولو تبنتها النيابة العامة.

 

غير انه في  حالة اللجوء الى قاضي التحقيق فان العيوب التي تشوب  الشكاية من ناحية  جانبها المدني لا يؤثر  على صحة  اقامة الدعوى العمومية اذا وافقت  النيابة العامة على المتابعة  حسبما نص عليه الفصل 94 من قانون المسطرة الجنائية  بحيث امام قاضي التحقيق وأمام المحكمة تكون المتابعة الزامية اذا قدمت الشكاية من طرف المطالب بالحق المدني بصفة صحيحة، وإذا كانت هذه الشكاية معيبة بالبطلان لعدم توفرها على الشروط المبينة أعلاه فلا يمكنها   في أي حال من  الاحوال ان تؤدي الى تحريك الدعوى العمومية لدى المحكمة، لكن تكون لها هذه النتيجة ان قدمت الى قاضي التحقيق وتبنتها النيابة العامة بملتمس كتابي.

 

يضاف الى هذا انه متى اتصلت المحكمة بالدعوى العمومية  بتحريكها بالطريق المباشر تحريكا صحيحا، فان هذه الدعوى تظل قائمة ولو طرا على الدعوى المدنية ما يؤثر فيها مثل تنازل المشتكي عن حقوقه ( الفصل 13 من قانون المسطرة الجنائية).

 

ان الشرط المتعلق بشخصية الضرر  يستوجب المزيد في الايضاح ذلك  لانه في  حالة وفاة المجني عليه يصبح من اللازم التمييز بين عدة افتراضات : 

أولا : ان تكون الوفاة ناشئة عن الجريمة.

ثانيا: ان تكون الجريمة لا علاقة سببية لها بالوفاة، غير انه سبق للمجني عليه ان حرك الدعوى  العمومية  قيد حياته.

ثالثا:  ان يكون المجني عليه قد اغفل  قبل وفاته  اللجوء الى القضاء او انه كان يجهل حتى مادية الجريمة وهذا كثيرا ما يقع   في مسائل التزوير المادي او المعنوي  اذ لا تكتشف عادة الجريمة الا لما يستظهر بالوثيقة  المزورة.

رابعا: ان تؤدي الجريمة الى وفاة المجني عليه، لكن بعد مرور مدة من الزمن  طالت او قصرت.

 

* * *

 

الافتراض الاول:  اذا توفي المجني عليه بسبب  الجريمة  فان ذوي حقوقه ( ولم يعد الاخوة من بينهم منذ صدور ظهير 2/10/84 بشان تعويض المصابين  في حوادث السير )  هم الذين  يجوز لهم  اقامة الدعوى العمومية بصفتهم  متضررين شخصيا من الوفاة.

 

الافتراض الثاني:  اذا حركت الدعوى من لدن المجني عليه قبل  وفاته ولم تكن هذه الوفاة ناتجة عن  الجريمة،  فورثته  الشرعيون بصفتهم  هذه  هم الذين يحق لهم مواصلة دعواه  بما يرفقها من مطالبة بتعويض الضرر الذي لحقه  شخصيا.

 

الافتراض الثالث: اذا  اغفل المجني عليه اقامة الدعوى العمومية قيد  حياته  من اجل الجريمة  التي  ارتكبت في حقه، فانه لا يحق لذوي حقوقه ولا لورثته ان يحركوا هذه الدعوى  لانه لا يمكن  لهم الاحتجاج بأي ضرر شخصي مباشر ولو تعلق الأمر بانتزاع اموال مورثهم وضياعهم فيما كان مفروضا فيه ان يصل الى التركة، ذلك لان   ضياعهم  هذا ليس وليدا بصفة  مباشرة  ومحققة من الاجرام وانما  ناجم عن صفتهم ورثة بحكم قواعد الارث  مما لا علاقة له بما اصاب مال الهالك لما كان هذا الاخير متوفرا على الحق المطلق في التصرف فيه وفي تفويته  وفي استهلاكه  وإزالته  بالتالي  من تركته.

 

الافتراض الرابع:  اما اذا ادت الجريمة الى الوفاة بعد مرور فترة من الزمن فان حق اقامة الدعوى العمومية من اجل القتل أو الضرب المؤدى له، يرجع إلى ذوي حقوق المجني عليه اعتمادا على الضرر الذي لحقهم شخصيا أما التعويض المحق للمجني  عليه بسب الام وما فاته من كسب وربح  طيلة المدة التي عاشها  قبل زهق روحه فانه احد الامرين، اما انه كان قد اشتكى به محركا للدعوى العمومية وفي هذه الحال يواصل الدعوى ورثته حلولا محله واما انه لم يفعل فلا يجوز لورثته ان يطالبوا  بالتعويض الخاص به إلا أمام طريق القضاء  المدني وذلك  لانعدام المصلحة  الشخصية  في اقامة الدعوى المدنية لدى القضاء الجنائي.

 

* * *

ولما كان للمجني عليه الراغب في تحريك  الدعوى  العمومية الحق في اللجوء إما الى قاضي التحقيق واما مباشرة الى المحكمة فما هي  من ناحية الوجهة النظرية المبررات والدوافع التي حسب الاحوال او الظروف تدفعه الى الخيار بين الطريقين ؟

 

1) اذا كانت الجريمة ثابتة وكان  مقترفها  مجهولا فانه لا سبيل لاقامة  الدعوى العمومية آلا لدى قاضي التحقيق وتقديم الشكاية ضد مجهول.

2) اذا كانت الجريمة مستوفية لاركانها القانونية الذاتية دون ان تكون ظروف ارتكابها ثابتة ثبوتا  خليقا  باستبعاد كل ابهام او تشكك في  توافر القصد الجنائي  لدى الجاني، فلا مفر هنا من  التوجه الى قاضي التحقيق للبحث عن العناصر  المبررة  للعقاب  وكذا   الشان اذا كان ثبوت الجريمة مستوجبا بعض التحقيقات  او الفحوص التقنية  مثل حالات التزوير في الكتابة أو التوقيع  والاختلاسات المنصبة  على الحسابات الجارية او المعقدة والغش في تركيب المواد، مما يوجب عادة الاستعانة باصحاب الفن.

3) ان التحقيق يكتسي صبغة سرية ولا يمكن لمن ليس  طرفا فيه ان يعرف ما يروج خلال سريانه لان الفصل 106 من قانون المسطرة الجنائية يمنع تحت طائلة العقاب   بالسجن إفشاء او اذاعة المستندات المتأصلة  من التفتيش أو الاخبار   بفحواها، كما ان الفصل  54 من قانون الصحافة الصادر في 15/11/1958 يعاقب  على نشر وثائق الاتهام وغيرها   من المحررات المتعلقة بالمسطرة  الجنائية  او الجنحية قبل تلاوتها   في جلسة عمومية ما لم يأذن كتابة بذلك قاضي التحقيق، ولان الفصل 15 من قانون المسطرة الجنائية ينص بصفة عامة على ان المسطرة التي تجري اثناء البحث  او التحقيق تكون  سرية وكل شخص  يشارك  في اجرائها ملزم بكتمان السر المهني اعتبارا للشروط، ونظرا للعقوبات المقررة  في القانون الجنائي.

فليستطع المجني عليه ان يطلع   على عناصر البحث والوثائق المشار اليها يكون مضطرا الى المطالبة بالحق المدني ليصبح  طرفا في الدعوى.

4) بصفته طرفا  في الدعوى يجوز للمتضرر ان يستعين مثل المتهم بمؤازرة محام يجعل ملف القضية بكامله  رهن اشارته  بيوم واحد على الاقل قبل الاستماع الى موكله ( الفصلان 130 و132 من قانون المسطرة  الجنائية) ويجوز له ان يطالب باجراء خبرة وان يختار  خبيرا مساعدا لمؤازرة الخبير المعين من  طرف  القاضي اذا كان الامر يتعلق بما هو قابل  للتغيير أو الاندثار و ان يطالب باجراء خبرة تكميلية أو خبرة مضادة بعد تبليغه استنتاجات الخبرة المنجزة ( الفصول 171 و177 و188 من قانون المسطرة الجنائية) وان يبدي ملاحظاته في شان كل طلب بالافراج المؤقت ( الفصل 159 من نفس القانون)، ويجوز له ان يستانف جميع القرارات والأوامر التي تمس بمصالحه المدنية ( باستثناء ما يتعلق باعتقال المتهم) وكذا القرار بعدم الاختصاص و حتى القرار القاضي بعدم المتابعة ( الفصل 207). ويبدو هنا، انه خلافا لما سبق تفصيله، فان الطرف المضرور اصبح متوفرا على ممارسة الدعوى العمومية  زيادة على تحريكها لان الاستجابة لاستئنافه للقرار بعدم المتابعة  يؤدي، ولو عارضت فيه النيابة العامة الى احالة الدعوى العمومية على هيئة الحكم والى وجوب الفصل فيها ( الفصل 234 وما يليه من قانون المسطرة الجنائية)، غير ان  الواقع بخلاف ذلك اذ ان غرفة  الاتهام ليست  من ناحية القانون إلا هيئة مختصة في التحقيق أي فيما يهيئ ايصال المتابعة إلى المحاكم  بحيث ان الطعون التي تحتكر النيابة العامة مباشرتها تفريعا عن  ولايتها في شان ممارسة الدعوى العمومية هي التي تتعلق بالاحكام الصادرة  موضوعا في هذه الدعوى، لا بالاوامر التي يقتصر محلها  على اجراءات التحقيق والتي لا تمس  بالاصل ولا تفصل فيه ولا تكسب في أي حال  من الأحوال قوة الشيء المقضى به لان عدم المتابعة لا يمنع خلافا للبراءة، اعادتها من جديد بطلب من النيابة  العامة اذ ظهرت ادلة  جديدة ( الفصلان 210 و212  من قانون المسطرة الجنائية)، وأخيرا يجوز للطرف المتضرر ان يطعن بطريق النقض في قرار غرفة الاتهام بعدم المتابعة اذا رفض هذا القرار قبول دعواه او اذا رفض البت في تهمة ما (  الفقرة الاخيرة من الفصل 574 من قانون المسطرة الجنائية).

 

*  *  *

 

أما من الوجهة التطبيقية فان حق المجني عليه في الخيار بين اللجوء  الى قاضي التحقيق او مباشرة الى المحكمة لتحريك  الدعوى العمومية، اصبح   ويا للاسف، عديم الوجود منذ صدور الظهير المؤرخ في 28/9/1974 ذلك لان  احد الأمرين :

إما ان الفعل المسبب في الضرر  يشكل جناية،  ولا يمكن للمجني عليه  ان يقيم الدعوى العمومية من اجلها   الا عن طريق التوجه  الى هيئة التحقيق  اعتبارا  لكون الجنايات لا  تحال على المحكمة الا من طرف النيابة العامة او قاضي البحث أو غرفة  الاتهام حسب نص الفصلين 2 و13 من الظهير المذكور، واما ان الجريمة تكتسي صبغة جنحية ولا يسوغ للمتضرر ان يحرك الدعوى العمومية بشانها الا امام المحكمة لان نفس الظهير حذف التحقيق  في الميدان الجنحي باستثناء بعض الحالات مثل التي  تتعلق بالامتياز القضائي  المنصوص  عليها في الفصل 266  وما  يليه  من قانون المسطرة الجنائية والتي تقصر حق المطالبة بالمتابعة على النيابة العامة.

 

أما المخالفات فلم يسبق للطرف المتضرر ان كان متوفرا على امكانية احالتها على قاضي التحقيق ( الفصلان  44 و93 من قانون  المسطرة الجنائية)  ولم تعد منذ صدور الظهير المشار اليه قابلة لهذه الاحالة ولو بطلب من النيابة العامة ( الفصل 7 من نفس الظهير).

 

يستخلص مما تقدم ان اقامة الدعوى العمومية من طرف المجني عليه في الميدان الجنحي وهو الميدان  العادي اصبحت  عمليا مستحيلة خلافا لما نص عليه الفصل الثاني من   قانون  المسطرة  الجنائية وذلك اذا كان  الجاني مجهولا او كانت ظروف اقتراف الجريمة غير متوفرة  على ما  فيه الكفاية  لجواز العقاب، وهذا ما صارت معه الشكايات  تحال  على الشرطة للقيام بالتحقيق في شان موضوعها، وغني  عن الاشارة إلى ما يترتب على هذا  الاتجاه من اخلالات بحقوق الافراد كانوا ضحايا أو فاعلين، خاصة وان محاضر الضابطة في هذا الميدان بالذات تتوفر على افتراض ثبوتي وانه يستحيل عمليا على النيابة العامة بسبب  تعدد الملفات وكثرة الجرائم ان تمارس بكامل العناية  حقها في  مراقبة منجزات ومستنتجات الضابطة قبل اتخاذ قراراتها  بالاعتقال والمتابعة أو الحفظ، الكل في غيبة محامي الطرفين ودون سبيل لاثارة انتباهها إلى بعض النقط القانونية التي كثيرا  ما تختلط  بالوقائع ويستوجب حلها مناقشة حضورية.

 

لاشك ان القضاة الذين  كان معهودا  اليهم بالتحقيق يتحملون جزءا وافرا من مسؤولية الوضع الحالي، ذلك اما  لانهم كانوا  يتخلون بدون ضرورة عن  مهامهم لفائدة الضابطة عن طريق  الإنابة القضائية المشار اليها في الفصلين 166 و176 من قانون المسطرة الجنائية، واما لان تحقيقاتهم كانت تنحصر في ملء محاضرهم بما يتوله  عليهم الطرفان والشهود بدلا من تمحيص الوقائع المطروحة  عليهم بجميع تكييفاتها  وأوصافها  لاستخلاص ما توفره من قرائن مدعمة لادعاءات المشتكي او لدفاع  المتهم تمشيا  مع ما سعى اليه الشارع وراء تكليفه القضاء باكتشاف  الحقيقة  حسب مفهومها الجنائي مما ادى في النهاية الى اعتبار البحث القضائي غير مفيد  وبالتالي الى حذفه بالمرة.

 

وربما لم يطمئن المشرع كل الاطمئنان الى حذف هذا  التحقيق انطلاقا  من عدم إمكانية الاستغناء عنه، ولهذا اجاز للمحكمة الابتدائية وهي مؤلفة  من قاضي منفرد ان تتولاه تلقائيا حسبما نصت عليه الفصول المتعلقة بالتحقيق الإعدادي  ( الفصل 9 من ظهير28/4/1974).

 

ومثل  جميع الحلول الاحتياطية التي  تحتمها ضرورة الحال فان مؤدى تطبيق الفصل 9 المشار اليه يحدث إشكالات وتناقضات من العسير حصرها  او تسويتها مهما اختلفت النظريات نحو محاولة معالجتها.

 

فاذا جاز للمحكمة ان ترتدي صفة قاضي التحقيق كلما اقتنعت بضرورة اجراء بحث تكميلي فانه لا مانع في ان تلتجئ الى نفس المسلك مرارا متعددة، بحيث ان شاءت تخلت عن صفتها كمحكمة وان شاءت استرجعتها، وهل يسوغ لها في الحالة الاولى ان تتخلى  مؤقتا حتى عن قيامها شخصيا  بمهام  التحقيق  وذلك عن طريق اللجوء الى الانابة القضائية ؟ وهل يجوز  لها اثناء مباشرتها لهذه المهام  ان تتهم أشخاصا  آخرين غير الذين أحيلوا  عليها  في البداية طبقا لما نص عليه الفصل 85 من قانون  المسطرة الجنائية ؟ وهل يسوغ لها القيام بتفتيش المنازل  وإجراء حجوز ؟ وهل يتعين  عليها الاستماع الى الشهود من غير حضور الاطراف وفقا لما نص عليه الفصل 111 من نفس القانون او عليها ان تراعي مبدأ الحضورية ؟

 

وهل ان الشهادة الكاذبة تستوجب العقاب كما هو الحال لما تصدر لدى هيئة الحكم  أم لا باعتبارها صادرة في اطار التحقيق الاعدادي مع التذكير ان شهادة الزور لا يعاقب عليها القانون إلا اذا ادلى بها لدى هيئة الحكم لأنه من شانها في هذه الحالة ان تؤشر على ما سوف يحكم به ولان المشرع اراد  ان يترك  للشاهد  فرصة التراجع عما ان صدر عنه من كذب والا يعاقب الا عن  موقفه النهائي ؟

 

وكيف يعقل ان تكون  الشهادة الكاذبة  مستوجبة العقاب أو  معفية منه والحال انها صادرة امام نفس القاضي والاختلاف لا يترتب إلا  على الصفة التي يتخذها برجوعه إلى الجلسة أو بقيامه بالتحقيق بمكتبه ؟  وهل يجوز استئناف القرارات والأوامر التي تصدر عنه اثناء قيامه بالتحقيق حسب الشروط و الاسباب  المنصوص  عليها في اطار التحقيق الاعدادي أم ينبغي اعتبار هذه القرارات آو الاوامر خاضعة لمقتضيات الفصل 386 من قانون المسطرة الجنائية ؟

 

وكيف يعقل ان يباشر  القاضي مهام قاضي التحقيق ويتهم تلقائيا اشخاصا غير محالين  عليه في البداية ثم  يكون اهلا للحكم في موضوع المتابعة خلافا لما نص عليه الفصل 52 من  قانون المسطرة الجنائية وإخلالا بمبدا فصل سلطتي الاتهام   والمحاكمة.

 

ان الظهير المؤرخ  في 28/9/1974،  وان اشار في فصله الاول الى  ان  مقتضياته ليست الا انتقالية  في انتظار صدور قانون جديد للمسطرة الجنائية الا انه لا زال سائر المفعول  رغم مرور ما يزيد على عشرة  سنوات.

 

انه  من المؤكد ان  الجواب  عن الاسئلة  المطروحة فيما تقدم يختلف باختلاف المحاكم وكذا باختلاف نظرية القضاة ومستوى تكوينهم  القانوني ودرجة قوة ضميرهم.

 

فالنيابة العامة تميل الى  الاعتراف للقاضي الذي يجري بحثا تكميليا في  نطاق الفصل 9 بجميع الاختصاصات السلطات والمهام  المخولة قانونا للقاضي المكلف بالتحقيق الاعدادي وان ميلها هذا منطلق  من عدة  دوافع مؤدى مجملها :

فرض  مراقبتها  على المحكمة الشيء الذي لا يمكن للاطراف الاخرى في  الدعوى ان يذهبوا  إليه مما يخل وجوبا بمبدأ مساواة المتقاضين لدى هيئة الحكم.

 

اذا اصبح القاضي المنفرد يباشر البحث التكميلي حسب الشروط المقررة بشان التحقيق الاعدادي فانه  يصبح متسما بصفة قاضي التحقيق وبالتالي شرطيا  قضائيا بحكم نص الفصل 19 من قانون المسطرة الجنائية وعاملا تحت إشراف النيابة العامة  وفقا لمنطوق الفصل 16 من نفس القانون.

 

كما انه يصبح في جميع الاحوال موجها في الاتهام بالتماسات النيابة طبقا لما نص  عليه   الفصل 85 من المسطرة،  هذا فضلا عن حالة الانابة القضائية التي تنقل مباشرة مهام البحث الى الشرطة التي تخضع بطبيعة وظيفتها  الى  تعليمات النيابة العامة.

 

يضاف الى  هذا انه ان ساغ للنيابة  العامة الاطلاع على ملف التحقيق في أي وقت  شاءت الا ان المتهم والمطالب بالحق المدني ومحاميهما لا يستطيعون ذلك الا خلال اليوم  السابق للاستماع اليهم.

 

فانطلاقا  من استكشاف هذه الدوافع  المتناقضة وموجبات مبدا حقوق الدفاع والتوازن القضائي بين المتنازعين تتضح الابعاد التي استهدفتها التأويلات المعطاة لمضمن الفصل 9 المذكور من لدن بعض الاعضاء السامين للنيابة العامة والتي تتجلى في الدارسة التي انجزتها مصالح وزارة العدل ( دراسة منشورة بمجلة القضاء والقانون عدد 125 يوليوز1977).

 

غير ان التذكير  بالمبادئ الأساسية التي تسود التنظيم القضائي وقواعد تحريك  الدعوى العمومية وممارستها لكاف للتحرر من الاشكالات التي تولدت عن تلك التأويلات :

ان إقامة الدعوى العمومية وممارستها من حق  النيابة العامة دون غيرها.

ان تحريك الدعوى العمومية دون ممارستها حق مخول للطرف وفي بعض الحالات الاستثنائية للمحاكم.

بمجرد ما تحرك الدعوى العمومية فان النيابة العامة تفقد كل سلطة على سيرها ويصبح حقها منحصرا في  امكانية ابداء ملاحظاتها وتقديم ملتمساتها للقضاء ان شاء اخذ بها وان شاء رفضها. 

 

ان المبدا في المسطرة التي تجري اثناء البحث التمهيدي او الاعدادي هو السرية ( الفصل 15 من قانون  المسطرة الجنائية)  والاستثناء هو العلنية ( الترخيص كتابة بالنشر من طرف قاضي التحقيق وفقا لما نص عليه الفصل 59 من ظهير15/11/1958  بشان قانون الصحافة)، بينما   المبدا في المسطرة لدى هيئة الحكم يفرض العلنية ( الفصل 301 من قانون المسطرة الجنائية)  والاستثناء هو السرية ( الفصلان 301 و302 من نفس  القانون).

 

انه يجوز لكل محكمة  مختصة للبت في الوقائع، أكانت زجرية او مدنية، ان تقضي باي اجراء من إجراءات التحقيق، ( البحث والخبرة ومعاينة الاماكن ) دون ان يترتب على اللجوء الى هذه الاجراءات أي اخلال بالقواعد التي تسود  تنظيمها واختصاصاتها ولو لان الفرع يتبع الاصل   ولان القاضي  المعين من بين اعضاء المحكمة، في حالات القضاء الجماعي، لا يتوفر على سلطات غير مخولة للهيئة التي يتفرع عنها ليباشر اعماله  بالنيابة عنها  في حدود ولايتها.

 

ان المحاكم لا تتقيد باحكامها  الاعدادية او التحضيرية ولا بمستنتجات اجراءات  التحقيق  التي تقضي بها وذلك تفريعا عن كون اتجاه الراي لا  يتوفر على حجية الشيء المقضى ولا يمكن بالتالي لاي طرف من  اطراف المخاصمة ان يحتج به.

 

انه يحق للاطراف ان يستدعوا لدى المحاكم الزجرية كل شخص كشاهد ( الفصل 319 من قانون المسطرة الجنائية)  باستثناء الاشخاص المشار اليهم في الفصلين 320 و325 من نفس القانون.

 

ولهم ان يستدعوا لدى هيئة الحكم القاضي الذي قام بالتحقيق للاستماع اليه كشاهد، ويحق لهم تجريح كل قاض سبق له ان أبدى  رايه  في الاجراءات مما جعل الفصل 52 من قانون المسطرة الجنائية يمنع مشاركة قاضي التحقيق في هيئة  الحكم.

 

لما  كان هذا،  وكان القار ان القواعد  التي اصبحت مع التطور الحضاري اساسا اصليا لضمان  حقوق الدفاع ومبدا مقدسا  يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية  التي لا يضيرها تبرئة   مذنب بقدر ما يؤذيها ويؤذي العدالة معا ادانة بريء،  فان كل الاخلال بهذه المكتسبات يستلزم التنصيص على جوازه في القانون بكل صراحة ووضوح، بحيث اذا وردت في  التشريع مقتضيات يشوبها  الابهام وتؤدي الى احتمال عدة افتراضات تختلف باختلاف النظريات مهما ارتفعت خبرة اصحابها    فانه يتعين حصر مفهوم هذه المقتضيات في دائرة تلك المكتسبات.

 

وبالرجوع الى منطوق الفصل التاسع من ظهير 28/9/1974  يلاحظ انه لم يعترف  للقاضي في حالة اجراء بحث   تكميلي بممارسة السلطات والمهام المخولة لقاضي التحقيق بل قيده بالمقتضيات المتعلقة بالتحقيق الاعدادي.

 

فبإيراده لفظي " البحث، والتقيد"  قد الزمه بمراعاة  واجبات قاضي التحقيق هذه الواجبات التي يؤدي الاخلال بها الى البطلان بسبب تعلقها بالنظام العام وبحقوق الدفاع حسبما نص عليه الفصلان 190 و192 من  قانون المسطرة الجنائية.

 

ولم يجز له في صراحة ووضوح ممارسة سلطات قاضي التحقيق  ومنها  اجازة تحريك الدعوى العمومية في حق الغير ( الفصل 85 من نفس القانون ) والقيام بتفتيشات الاماكن والمنازل واصدار اوامر بالحضور او بالاستقدام او بالايداع  بالسجن وبالقاء القبض واللجوء الى مساعدة الشرطة القضائية بطريقة الانابة القضائية  وحتى القضاء باجراء خبرة لان بعض اجراءاتها اثناء التحقيق لا تطبق لدى المحاكم ( مثل ما نصت عليه الفصول 176 و177 و178 من قانون المسطرة الجنائية) حسبما يتجلى من مقتضيات الفصل 296 من نفس القانون.

 

يستنتج مما سبق ان المحكمة، بمجرد ما تضع يدها على القضية  تبقى خاضعة للقواعد الاساسية التي تسود مسطرتها ( الفصلان 377 و280 من قانون المسطرة الجنائية) ولا يمكن لها ان تتحرر منها سواء اصدرت حكمها على  الحالة أو بعدما سلكت مرحلة فرعية اجرت فيها بحثا تكميليا تقتصر دائرته على استيضاح الاطراف والاستماع الى كل شخص يساعدها على   الكشف عن الحقيقة.

 

فلا غرابة في حصر البحث التكميلي في هذه الحدود الضيقة، ذلك لان معناه القانوني الدقيق لا يتجاوز الشهادة في حين  ان التحقيق يشمل زيادة على البحث كل  الاجراءات التي تهدف الى جمع  العناصر التدليلية ومنها الخبرة ومعاينة الاماكن وتحقيق الخطوط وفحص المواد وحجز الاشياء.

 

وانه من الواجب كذلك ان يجري البحث بصفة حضورية لان المشرع لم يشترط السرية الا في الابحاث  التي لا تؤدي وجوبا الى المحاكمة وبالتالي الى العلنية وذلك لتفادي كل اساءة  بسمعة وشرف المنسوب اليهم ارتكاب الجريمة.

 

انه من المحتمل ان ينتهي  البحث التمهيدي  بالحفظ والبحث الاعدادي بعدم  المتابعة أي ان ينتهيا  معا بعدم الاحالة على المحكمة  وبالتالي بعدم الاشهار والعلنية،  فلهذا اوجب الفصل 15 من قانون المسطرة الجنائية سرية البحث والتحقيق واستبعد الفصل 111  الحضورية حين الاستماع  الى الشهود.

 

اما البحث  التكميلي المشار اليه  في الفصل 9  فانه يؤدي وجوبا الى مناقشة  تفاصيله امام المحكمة أي لا مفر من ايصال ما انطوى عليه الى العلنية انطلاقا من القاعدة التي تقضي بان كل قضية احيلت على هيئة الحكم المختصة الا وتستوجب الفصل اما بالبراءة واما الادانة.

 

فبانعدام الدافع المبرر لسرية الابحاث التمهيدية  والاعدادية ينعدم الاستثناء المعاكس لعلنية المحاكمات وما يرتبط بها من مراحل تابعة لها او  متفرعة عنها.

 

بعدما اشير جملة وتفصيلا فيما تقدم الى حق المجني عليه  في تحريك الدعوى العمومية وفي تدخله في المتابعة المثارة  من طرف النيابة العامة قصد المطالبة بتعويض ما لحقه من ضرر بسبب  الجريمة، فهل ليس من الضروري التساؤل عما  يقابل ممارسته لهذا الحق من   مسؤولية ازاء  المتهم المحكوم ببراءته ؟

 

ان الفصل 99 من قانون المسطرة الجنائية  ينص على  انه اذا صدر امر بعدم المتابعة بعد اجراء تحقيق  بناء على المطالبة بالحق المدني فيمكن للمتهم ولكل الاشخاص الذين   اشير اليهم في الشكاية ان يطلبوا من المشتكي - ان لم يقيموا  عليه دعوى مدنية وبصرف النظر عن متابعتهم اياه في شان الوشاية الكاذبة - تعويض الضرر الذي  لحقهم عن طريق دعوى يرفعونها ( خلال الثلاثة  اشهر الموالية لتاريخ  تبليغ الآمر النهائي بعدم المتابعة آلي المتهم) مباشرة آلي الغرفة الجنائية للمحكمة  التي جرى فيها تحقيق القضية وتجري  المناقشات  في غرفة المداولات التي يحال عليها ملف التحقيق.

 

يتبين من مضمن هذا الفصل :

1) ان المتهم المستفيد من صدور قرار  بعدم المتابعة الخيار بين اللجوء الى القضاء المدني واللجوء إلى القضاء الزجري.

2) ان اختياره للطريق الجنائي يشترط ان يكون  التحقيق قد اجري بطلب من المدعى بالحق المدني أي ان تكون  المتابعة  قد حركت من لدن المجني عليه.

3) ان حق المطالبة بالتعويض ليس مقصورا  على المتهم وانما مخول  لكل شخص اشير اليه في الشكاية المحركة للدعوى العمومية.

4) انه لا يشترط في اقامة  دعوى التعويض ان تكون الشكاية ناتجة عن سوء النية قصد الاضرار بالمشتكى بهم مع العلم ان الوقائع  المنسوبة اليهم كاذبة ولا اساس لها من الصحة.

5) ان المناقشات  تجري في غرفة المداولات مراعاة لسرية  البحث  الذي انتهى بعدم الاحالة على المحكمة.

6) ان الطرف المتضرر الذي يتدخل في متابعة حركت من طرف  النيابة العامة للمطالبة بالحق المدني لا يتعرض لدعوى التعويض المشار اليها في الفصل 99 ولو لدى القضاء المدني.

 

في حالة ما اذا صدر لفائدة المتهم حكم بالبراءة   من لدن المحكمة  الابتدائية فان الفصول 381 و401 و420  تنص على انه يجوز الحكم على المطالب بالحق المدني   بادائه التعويض.

 

اعتبارا للصبغة الاستثنائية لهذه المقتضيات ووجوب فهمها في اضيق نطاق يسوغ التاكيد :

1) انه لا يمكن للمتهم ان يطالب بالتعويض المشتكى الذي لم يحرك الدعوى العمومية ولم يتدخل في الدعوى عن طريق التبعية للمطالبة بالحق المدني خصوصا وانه لا يمكن الحكم عليه وهو غير طرف في المخاصمة.

2) انه يسوغ للمتهم ان يطالب الطرف المدني  بالتعويض ولو لم يسبق لهذا الاخير ان بلغ بالوقائع التي ادت الى المتابعة  ولم تكن له أية يد بصفة مباشرة أو غير  مباشرة في اتصال  المحكمة بالوقائع.

3) انه لا يسوغ للمتهم ان يطالب الطرف المدني بالتعويض الا اذا صدر حكم ببراءته بسبب عدم مساهمته او مشاركته في الوقائع المعروضة على نظر المحكمة  او بسبب  عدم امكانية اتصاف هذه الوقائع بوصف جنائي  مما يوجب استبعاد حالات الحكم بعدم الاختصاص او بسقوط الدعوى العمومية من اجل التقادم او العفو.

4) ان تنازل الطرف المدني عن مطالبه  لا يؤثر  على حق المتهم في  مطالبته بالتعويض.

5) لا يمكن للمحكمة  ان تحكم  على الطرف المدني بالتعويض الا اذا اقتضى الحال ذلك،  أي إلا إذا اثبت المتهم طبقا لاحكام المسؤولية التقصيرية انه تضرر مباشرة من فعل خاطئ ارتكبه المطالب بالحق المدني اذا كان هذا الاخير  هو المحرك للدعوى العمومية او هو المبلغ   فيكون تصرفه هذا خاطئا  اذا صدر عنه     من قبيل  التسرع في الاتهام او بقصد التعريض بالمبلغ  والاساءة الى سمعته او في القليل عن رعونة او عدم تبصر، الكل وفقا لما نص عليه الفصلان 77 و78 من قانون العقود والالتزامات.

 

واذا اكتفى المجني عليه بالتدخل في الدعوى دون ان يسبق  له ان قدم شكوى، فان الاخطاء التي يمكن ان تنسب له لتبرير منح التعويض الى المتهم  هي التي من شانها  ان تعرقل او تعقد الفصل في المتابعة أو ان تؤدي الى اطالة الاعتقال  الاحتياطي مثل التعسف في طلبات  التاخير او استدعاء الشهود او اجراء خبرة وما  عدا  ذلك  من الاجراءات التي كثيرا  ما لا يكتشف عدم جديتها الا بعد  الاستجابة اليها وانجازها.

 

وان المحكمة التي تكون اكثر تاهيلا لتقدير مواقف الاطراف في النزاع و الكيفية التي سلكوها في ممارسة  حقوقهم في الدفاع هي التي تجري امامها المناقشات وتفصل في ادعاءات الطرفين، ولهذا فضل  الشارع ان يترك لها، ولها وحدها، وحق النظر في طلبات التعويض المقدمة من طرف المتهم خاصة وان هذه الطلبات لا تعدو ان تكون الا فرعا  تابعا للاصل وانه   من مصلحة المتهم الا يلزم بتحمل عبء اللجوء الى محكمة اخرى لاعادة الجدال  من جديد فيما كان من قبل جاهزا  للبت فيه من هيئة  متوفرة على كافة العناصر.

اذا سبق للمتهم  ان التمس التعويض لدى قاضي اول درجة ورفض طلبه اما بسبب  عدم استيفائه لما يبرره في حد ذاته  وإما بسبب الحكم بالادانة فانه يجوز لمحكمة الاستئناف ان الغت الحكم الابتدائي  ان تستجيب  لدعواه وفقا لمقتضيات الفصلين  412 و432 من ق م ج.

 

غير انه اذا اغفل رفع طلبه هذا الى المحكمة الابتدائية، فانه  - حسب القواعد العامة واعتبارا للاثر الناشر للاستئناف الذي يؤدي الى قصر اختصاص محكمة  ثاني درجة على ما كان معروضا من وقائع  وطلبات على  نظر قاضي أول درجة - لا يسوغ له تقديمه للمرة الاولى اثناء الاستئناف ما لم يسنده الى الضرر الذي يكون  قد لحقه نتيجة لاستئناف المطالب بالحق المدني ان كان  الحكم المستانف قاضيا بالبراءة، وكان الاستئناف متسما بصفة كيدية مع  التذكير انه من القار فقها وقضاء انه يسوغ دائما   لقاضي الطعن سواء كان هذا الطعن عاديا او غير عادي ان يحكم للمطعون ضده بالتعويض متى تبين له ان الطعن يكتسي صبغة جزافية  او تعسفية  ( انظر الفصل 600 من قانون المسطرة الجنائية المتعلق بالنقض، وانظر كذلك الفصل 376 من  قانون المسطرة المدنية الذي ينص على انه يحق للمجلس الاعلى ان  يبت في الطلب الذي يمكن ان يرفعه اليه المطلوب ضده النقض للمطالبة بتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب رفع الطعن التعسفي).

 

اما بالنسبة للجنايات فان الفصل 492 من نفس القانون  قد نظم مسطرة خاصة لا تختلف عما نص  عليه الفصل 99 المتعلق  بالقرارات بعدم المتابعة الا في كونها لا تشترط،  مثل ما نص عليه هذا الفصل،  ان يكون المطالب بالحق المدني هو المحرك للدعوى العمومية.

 

ويبدو  ان الاجتهاد  القضائي لم يأت بإيضاحات كافية حول مدلول ومدى نص الفصل 381 من قانون المسطرة الجنائية.

وربما ان الاجتهاد القضائي لم يأت  بايضاحات كافية  حول مدلول ومدى نص الفصل 381 من قانون المسطرة الجنائية.

وربما ان السبب في ذلك يرجع الى ان الشخص حينما يكون متهما لا يعتني الا بدفاعه   دون الاهتمام بمطالبة الطرف المدني بالتعويض،  وكثيرا  ما يخشى  ان تسبب مطالبته  هذه في ميل القاضي الى ادانته  خاصة في حالة احاطة الوقائع بالشك وكثيرا  كذلك ما يخيل له ان حقه في الرجوع على مطالب الحق المدني الذي يكون عادة هو المشتكي، محفوظ في جميع الاحوال  بسبب امكانية اتهامه بالوشاية الكاذبة في حين ان تعويض الضرر الذي يحصل   له نتيجة لتعسف المطالب  بالحق المدني في الدفاع عن مصالحه اثناء النظر في  الدعوى العمومية لا يمكن  المطالبة به فيما بعد  لدى القضاء المدني الذي لا يتوفر  على ما  من شانه ان يكشف  بصفة ملموسة عن  سلوك دفاع قدم بمناسبة محاكمة منفصل، وفي حين من جهة أخرى ان اللجوء الى الوشاية الكذبة يستوجب إثبات على المشتكي بكذب الوقائع التي ابلغ عنها وانتواؤه الكيد والاضرار بالمبلغ ضده ( قرار المجلس الاعلى الصادر في 22 يبراير1960 ملف جنائي عدد 4275)، وان لم يكن البلاغ كله كاذبا  فعلى الاقل يجب ان تشوه فيه الحقائق او تمسخ فيه الوقائع كلها  او بعضها مسخا يؤدي الى الايقاع بالمبلغ ضده ( قرار محكمة النقض المصرية عدد 1793 صادر بتاريخ 8/12/1964).

 

بما ان القانون لا يجيز مساءلة النيابة  العامة من اجل ما تتخذه   من قرارات  بشان  المتابعات والاعتقالات باستثناء ما نص  عليه الفصل 391 من قانون المسطرة المدنية في حالة  ارتكاب التدليس او الغش او الغدر،  فيظهر من الواجب على كل متهم مقتنع  ببراءته  ان يستعمل الحق المخول له  بمقتضى الفصل 381 من قانون المسطرة الجنائية ولو لتفادي المبالغة في عدد التدخلات المدنية او لإلزام من تدخل في الدعوى بترك كل ما   من شانه  ان يشكل تعسفا في ممارسة حقه في الدفاع،  مما يعود في الاخير بالمنفعة على السير القضائي بصفة عامة.

 

الأستاذ محمد التبر

 

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 41 ، ص11.


تعليقات