القائمة الرئيسية

الصفحات



المؤثرات النفسية والعقلية والاجتماعية في السلوك الإجرامي

 


المؤثرات النفسية والعقلية والاجتماعية في السلوك الإجرامي  

 

الأستاذ عبد المطلب صلاح الدين

محام بهيئة الدار البيضاء

 

* مجلة المحاكم المغربية، عدد52،11.

مقدمة:

لقد أصبح من المألوف الشاذ في مختلف القضايا الزجرية ان يسعى الدفاع عن وعي او بدونه للإجابة على أسئلة معينة بذاتها دون غيرها:

 

ماذا وقع، كيف، ومتى، او لماذا وقع ما وقع، … الخ، ومن ثم فقلما ينصب الاهتمام او البحث في شخصية الفاعل بالذات، مع العلم ان السؤال الأساسي الذي يتعين ان تتمحور حوله الأجوبة في هذه القضية بالاساس هو من يكون هذا الفاعل، ومن هو شخصه بالذات، ما هي مقوماته النفسية العقلية والاجتماعية، وماه ي مقدراته وطاقاته العقلية والعصبية، وفي الاخير ما مدى مسؤوليته القانونية التي قد تترتب عن الفعل او السلوك المنسوب اليه.

 

ذلك ان ملف " هذا الإنسان" على حد التعبير الالماني " داز اين" الذي يعني "هذا الإنسان بالذات" يشكل في حد ذاته ذات " قضية" يمكن اختزالها بالنسبة للضابطة القضائية اثناء حالة التلبس بمفهوم مقتضيات الفصل58 من ق م ج وبحسب المسطرة المنصوص عليها في الفصل 59 وما يليه الى غاية الفصل71 وفق مقتضيات الفصل 72 من نفس القانون، او أثناء البحث التمهيدي طبقا لمقتضيات الفصل21 منه بحسب مدى كفاية الأدلة او عدم كفايتها، او يختزل بالنسبة للنيابة العامة وفق الاتجاه العام للملف المقدم من طرف الضابطة القضائية وكذا بالنسبة لقضاء التحقيق، إضافة الى إجراءات التحقيق الاخرى حيث يشكل المحضر المحرر سواء في نطاق اختصاص ض. ق او وفي إطار توجيهات ن. ع او في اطار إنابة قضائية، فانه في جميع الاحوال يبقى المحضر الموجه الرئيسي بشكل عام، واخرا وليس ا خيرا، في التحقيق النهائي بالنسبة لقضاء الموضوع حيث يصعب على المتهم او على الدفاع تهييء الوسائل العملية والمفيدة للدفاع مثلما تخولها الإمكانات والوسائل التي تتوفر عليها سلطة الاتهام، ومن ثم فانه لا يبقى هنالك من وجه الاختزال ملف قضية هذا الإنسان بالنسبة للدفاع الا في شخص المتهم ذاته. وهذا وجه من وجوه الدفاع الذي نراه اساسا.

الا ان اصبح من الملاحظ من قبل العاملين في الساحة القضائية بعض الاهمال الذي تلقاه شخصية المتهم هذا الإنسان الذي قال فيه المشرع كلمته بصراحة سواء في مشروع قانون المسطرة الجنائية، او في إطار المبادئ العامة للقانون الجنائي ( انه بريء ما لم تثبت إدانته) محددا بذلك المركز القانوني الحقيقي الذي يجب ان يوضع فيه هذا الشخص ويتبوأه مع كل ما يجب ان يتمتع به من اعتبار بمناسبة الاشتباه فيه او اتهامه.

 

هذا الإنسان الذي أولاه المشرع عناية فائقة تتمشى مع ما تفرضه كرامة الانسان وتلبي شريعة السماء السمحاء التي كرمة بني أدام، هذه العناية التي تتخلل حقا فصول القانون منذ بداية البحث التمهيدي الى اختتام المناقشة، واقفال باب المرافعة مرورا بتوجيه الاتهام، وتحريك الدعوى العمومية، والى حين إقرار العقاب، ولعل هذا ما يفسر دقة الإجراءات المسطرية التي تحكم جميع الأجهزة والسلطات التي لها صلة من قريب او من بعيد بهذه الشخصية.

 

 حيث نستطيع القول بان المشرع اقر فعلا وراعى، على جميع هذه المستويات، الجوانب النفسية، العقلية والاجتماعية المؤلفة لشخصية المتهم نظرا لتوجهاته الحضارية الرامية الى بناء صرح ما يسمى " دولة القانون". 

 

واذا كانت المحاكم الاستثنائية تولي من جهتها، عن حق، شخصية المتهم العناية اللازمة تحقيقا لإرادة المشرع السمحاء، والتي يمكن ان تكون الا منزهة عن العبث، فانه لحري بالمحاكم الزجرية العادية على اختلاف درجتها ومستوياتها ان تتخذ منحاها رغم ما في ذلك من أعباء، والتي توازي بلا ريب عبء حد السيف الذي يتولاه القضاء، ولا غرو في ذلك، فالقاضي الذي يريد ان يصدر حكما عادلا حقا، وإنسانيا حقا، يجب ان يرفع عينيه عن الملف الذي بين يديه وينظر الى المتهم ويفهمه قبل ان ينقل بصره الى القانون الذي سيستعين به للنطق بقراره على حد تعبير " جان ماركيزيه" في مؤلفه " الجريمة" ( ترجمة عيسى عصفور – منشورات عويدات – سلسلة " زدني علما" ص 53).

وهذا هو موضوع الدراسات الحالية الذي تقترح تناوله من خلال ثلاثة مباحث تنصب على المحاور التالية:

        •المبحث الاول : السلوك الإجرامي بوصفه عنصر مادي.

        •المبحث الثاني: المؤثرات النفسية والعقلية في السلوك الإجرامي.

        •المبحث الثالث: المؤثرات الاجتماعية في السلوك الإجرامي.

 

غير انه من الجدير بالذكر بادئ ذي بدء الى ان الاهتمام بالعوامل النفسية، العقلية والاجتماعية المؤلفة لشخصية المتهم، او المؤثرة في السلوك الإجرامي، ليس نابعا، كما يبدو لاول وهلة، من طبيعة رسالة الدفاع، حيث انه ينبغي الا يغيب عن الأذهان انها تسعى من جهتها، باعتبارها جزءا من اسرة القضاء الى الوقوف على الحقيقة والمساهمة في اعطائها العنوان المطابق لها، سواء من حيث القانون او الواقع، ولكنه يجب التأكيد على ان ذلك الاهتمام نابع من صلب القانون نفسه، ومستمد من إرادة المشرع التي تتمثل، وتسعى الى عناق روح الشريعة السمحاء، ومبادئ الإنصاف والعدالة.

 

وفي هذا الاطار فان المجموعة الجنائية المغربية تذهب في تقسيمها في تناولها لموضوع الجريمة، من حيث طبيعة تكوينها، انطلاقا من ثلاثة محاور تتألف مما يلي:

 

        •المحور الاول: المجرم باعتباره العنصر الفاعل الذي ينبغي ان يكون ذا مقدرة، ومتمتعة بإرادة (حرة) وقدرة على التمييز، وبالتالي أهلية مسؤولة في نظر الواقع والقانون على حد سواء.

        •المحور الثاني: الجريمة باعتبارها أفعال مادية او حكمية مخالفة للقانون وهي تشكل بعناصرها التأليفية النموذج القانوني الامثل للركن الشرعي في الجريمة وفق ما يحدده المشرع عملا بمبدئي لا جريمة ولا عقوبة الا بمقتضى القانون او ما يسمى اصطلاحا بشرعية التجريم والعقاب.

        •المحور الثالث: واخيرا العقوبة او التدابير الوقائية التي سنها المشرع كجزاء مقابل الأفعال المجرمة مع الاخذ بالاعتبار مقتضيات تفريد العقاب على ضوء خطورة الفاعل، وبحسب قوة او تفاهة العناصر المادية للجريمة على نحو ما سيأتي تفصيله في الفروع الموالية

وهكذا تشتمل المجموعة الجنائية في الكتاب الاول على نصوص قانونية خاصة بالعقاب واخرى بالتدابير الوقائية، وكما ينص الكتاب الثاني على تحديد الجريمة وأنواعها والتعريف بالمجرم وتقدير مسؤوليته، وكذا مدى حدود تفريد العقاب، واخيرا التنصيص على الجرائم المختلفة وعقوبتها في الكتاب الثالث.

 

الا انه من الجدير بالإشارة الى ان الإشكالية المطروحة في مضمار تحديد او حصر المؤثرات النفسية، العقلية والاجتماعية في السلوك الإجرامي بالنسبة للتشريع يتمثل في ان الصياغة القانونية لا تسمح بحكم طبيعتها بان يحدد بتفصيل ومنهج معين وواضح كل المؤثرات التي من شانها ان تؤثر على السلوك الإجرامي للفرد وبالترتيب على الوصف القانون للفعل الجرمي او درجة مسؤولية الجاني او إعفائه منها كليا او جزئيا.

 

ومن هنا بالذات تأتى أهمية الفقه الإجرامي – ان صح التعبير- في اغناء المناقشة القانونية وتفسيرها علاوة على المساهمة في تحقيق مقاصد الشريعة وإرادة المشرع في هذا الباب.

 

ولهذا سنقتصر في هذا الصدد على رصد، واستقراء بعض ما أقرته المجموعة الجنائية في هذا الموضوع من خلال المحاور الثلاث الموما إليها اعلاه وذلك على ضوء بعض معطيات " علوم الإجرام" بوصفها منظومة مرجعية نرى انه لا مناص للباحث من الاعتراف من منابعها على قدرة ما تسمح به ضائقة الزمن.

 

المبحث الاول:
السلوك الإجرامي بوصفه عنصر أساسي في تكوين الجريمة القانونية

 

لعمري كيف يعقل ان يقال عن شخص، وقد " قدر" له ان يرتكب ما ارتكب في واضحة النهار على مرأى ومسمع من الملأ، او في أدنى تقدير لكونه لا يعذر بجهله للقانون، ان يقال عن هذا الشخص انه سوي ان لم يكن به من الوهن والضعف العقلي والفقر النفسي ما به، ومن هنا بالذات تأتى أهمية التمييز بين الجريمة كحقيقة واقعية، والجريمة كحقيقة قانونية.

ذلك ان الاختصاصيين في علم الإجرام يجمعون على : ان اساس اعتبار الفعل جريمة في حق المجتمع هو كونه فعلا شاذا لا يأتيه الرجل العادي المتوسط، حيث ان الجريمة كحقيقة واقعية تعرف بهذا المعنى باعتبارها إشباع لغزيرة انسانية بطريق شاذ لا يسلكه الرجل العادي حين يشبع الغريزة نفسها، وذلك لأحوال نفسية شاذة انتابت مرتكب الجريمة في لحظة ارتكابها بالذات ( انظر مؤلف علم الإجرام وعلم العقاب، الدكتور " عبد الرؤوف مهدي" الجزء الاول، دار الفكر العربي، سنة 1979).

 

وعليه فان لا يكفي إثبات جريمة المجرم كي يعتبر في الحال مسؤولا ويعاقب على الفور فهذا كما يقول "جان ماركنيزيه" اسلوب سريع جدا يجب تركه للمحاكم العرفية زمن الحرب وللمحاكم الشعبية في الثورات، ولا يمكن ان تترتب عنه مسؤولية جزائية الا اذا أدرك فاعل الجريمة ما فعل، وأراد ما فعل، واستطاع ان يفعل ما فعل ( المرجع السابق ص 45).

 

وفي هذا الإطار حاولت المجموعة الجنائية في حدود ما تسمح به الصياغة القانونية ان تستوعب بعض الاشكالات المطروحة أعلاه، حيث عرفت الجريمة في فصلين اثنين: الاول، والفصل العاشر بعد المائة باعتبارها عمل او امتناع مخالف للقانون الجنائي، ومعاقب عليه بمقتضاه مع احتفاظ التشريع الجزائي على حق امتيازه في تحديد افعال الإنسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي و بالتالي تحديد العقوبات المتناسبة لزجر مرتكبيها .

 

ويبدو هكذا ان التشريع المغربي خلافا لمذهب كثيرا من التشريعات عمل على التعريف بالجريمة ضمن نصوص المجموعة الجنائية مما يستحق معه وقفة تقدير وإمعان.

 

نعم انه لا غني عن البيان ان القانون هو ضرورة بنيوية تحكم الأموات الاحياء سواء بسواء على حد تعبير صاحب روح القوانين "منتيسكيو" فهو بذلك يعد علاقة جدلية ضرورية، أكيدة ومحققة بين الناس والأشياء، بين الذات والموضوع، بين الجزء والكل، ومن هنا بالذات تأتى سمات القانون في الميدان الحقوقي المعروفة بالعموم والتجريد فضلا عن القيمة الاجتماعية التي تطبعه بالنظر لأطراف محاور اهتمامه، فهو يشكل بهذا المعنى مجموعة من القواعد والأسس التي تتسم بالحتمية أحيانا وبعلاقة الموضوعية والارتياب أحيانا اخرى.

 

فلا غرو إذن من التساؤل حول ما هي المراحل المكونة للسلوك الإجرامي على ضوء السمات العامة أعلاه، على اعتبار ان الانسان يحتاج فيما يحتاج اليه الى إشباعات غريزية وبيولوجية، حيث النفس تلبي نداء الجسم، فترغب بإلحاح او مرونة، العقل يفكر ويدبر لإشباع تلك الرغبات لتتجسم اخيرا في السلوك، وهو المظهر الخارجي للتعبير عن الحاجات الأولية او الضرورية اما سلبا او بصفة إيجابية، ويأتي مبدا المنفعة الحدية ليساهم في تنمية الشخصية، وإثرائها بقدر ما يتقيد الشخص في سلوكه بهذا المبدا، او يساهم عند الشخصية غير السوية في السقوط والتردي بسبب النهم والشراهة او الجشع الذي قد يطبع ميل الشخص في اشباع غرائزه البدائية ومدى ضعف قوة الردع لديه وكبح " الأنا" عنده جماح تلك الرغبات الشيء الذي يؤدي به لا محال الى حافة الجريمة.

 

 ومن هنا يصوغ لنا القول في اطار هذا التحليل البيولوجي والفيزيلوجي للجريمة كعنصر مادي، اذا كان إسناد هذه الجريمة او تلك الى شخص معين هو بمثابة تأكيد لرابطة السببية بين هذه الجريمة او تلك وفاعله، فانه لا بد من إمكان نسبة الجريمة الى شخص تتوفر فيه الأهلية لتحمل المسؤولية الجنائية أي المتمتع بتوافر الإدراك لديه، وحرية الاختيار، فإذا ما انتفى أي منهما انتفى إمكان المساءلة الجنائية ومن ثم فالإسناد لهذا المعنى مفترض من مفترضات المسؤولية، وشرط لا غنى عنه لاستحقاق العقوبة مما أدى بالفقيه " كارو" الى ان يعتبر ان " الإسناد هو الشرط الاول للمسؤولية" ( انظر في هذا الصدد مقالنا الأسبق مجلة المحاكم المغربية، عدد46، سنة 1986 ).

 

ان دل على شيء فإنما يدل على ان السلوك الإجرامي هو معادلة جدلية ومطردة بين ثلاثة اقانيم تبتدئ من الفعل لتنتهي بنتيجة معينة متحققة بفعل رابطة الإسناد المزدوج، غير انه ينبغي التأكيد من الان على ان الحلقة الاساسية في هذه المعادلة والتي من شانها تجسيد الفعل الجرمي في حد ذاته كبداية للسلوك الإجرامي تتمثل في مقولة الإرادة باعتبارها رغبة " بسيكو – فزيولوجية" أكيدة وملحة بحسب المؤثر وجاذبيته تنقل الى مجال الإدراك والوعي الصميم حيث يتخذ الأنا الواعي بذاته حينئذ موقفا ليصدر بعد ذلك حكمه عليها اما بالسلب او أل أيجاب أي اما صالحا حسنا وممكنا، او مقبولا او طالحا منفرا وغير جائز او غير مشروع، وفي الأخير تأتى المرحلة الثانية بعد صدور القرار او اتخاذه لتتجلى في مرحلة التنفيذ، وهنا تبدأ ملكة الذكاء او الصنعة في طريقة وكيفية التنفيذ وان هذا هو المبدأ العام لقواعد السلوك البشري بصفة عامة سواء كان العمل خلاقا او مبدعا، مباحا ومشروعا او مخالفا للقانون.

 

فإلى اي مدى ذهبت المجموعة الجنائية في معالجتها لهذه الاشكالات وكيف تمت معالجتها؟ 

بعد ان بين قصور الفصل الاول في تعريف الجريمة جاء الفصل110 ليتمم مقتضيات الفصل الاول محددا الجريمة بصفة عامة باعتبارها سلوك دلت المجموعة عليه في لفظتي " عمل" او " امتناع" شريطة ان يكون العمل او الامتناع مخالفا للقانون ومنصوصا عليه في ثناياه، ومعنى هذا ان ليس كل تصرف صادر عن الإنسان يعاقب عليه بل لا بد ان يكون مخالفا للقانون لمساسه بالأخلاق الحميدة والضمير الجمعي للامة. غير انه من الأهمية بمكان الاشارة الى انه ليس أي تصرف يصدر عن الإنسان يعد مناطا للتجريم بل لا مندوحة من ان يكون ذلك التصرف صادرا عن شخص تربطه بالفعل المرتكب علاقة نفسية ملحة او مرنة ليعد الفعل جرما في نظر المشرع، الذي ينطلق في مجال التجريم والعقاب من مدى شدة تلك العلاقة او ضعفها هو ما يعد مناط التمييز القانوني بين الجرائم العمد والخطأ.

 

حيث تعتمد الاولى على عنصر النية سواء كان عاما او خاصا في حين ترتكز الثانية على عنصر الإهمال وعدم التبصر او الاحتياط مما يترتب عنه عواقب قانونية مختلفة فيما يتعلق بالجزاء.

 

وهكذا نصت المجموعة الجنائية في الفصل133 على ان الجنايات والجنح لا يعاقب عليها الا إذا ارتكبت عمدا، كما ان الحكم الذي لا يبرز عنصر النية الإجرامية لدى الجاني عند سلوكه الاجرامي يكون معرضا للنقض.

 

وهذا يعني ان المجموعة الجنائية لا تعاقب على النية الاجرامية حالة بقائها مجرد فكرة باطنية، بل يشترط من اجل ذلك ان لا تكون خاصة في غالب الأحوال فحسب، وانما مذنبة وهادفة لاضرار النفس او المال او البدن، بل اكثر من هذا فانه لا يعاقب عليها حتى عندما تتجسد في بعض الأعمال التحضيرية التي لا تبلغ حدود البدء في التنفيذ وذلك لحكمة تشريعية سالمة تتمثل في إعطاء الجاني فرصة للعدول عن جناياته بفعل ذاتي دون أي تدخل خارجي.

 

حيث ينص في هذا الصدد الفصل 114 من المجموعة الجنائية على " اعتبار كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذه او بأعمال لا لبس فيها وتهدف مباشرة الى ارتكابها كالجناية التامة ويعاقب عليها بهذه الصفة حتى في الأحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل او خارج عن إرادته.

 

على ان المشرع يستثني من التجريم، بطبيعة الحال، الأفعال المرتكبة بفعل الضرورة والإكراه او الدفاع الشرعي او الافعال المباحة بأمر القانون او بإذن منه حيث يعفى الفاعل من المسؤولية اما جزئيا او كليا بحسب الأحوال وبالتالي من العقاب بالنسبة للحالتين الأوليتين، او تمحى صفة الجريمة بالنسبة للأفعال المباحة.

 

ولقد درجت المحاكم العليا في عدة قرارات على نقض الأحكام لانعدام التعليل وبالتالي لفقدان الأساس القانوني في حالة مؤاخذة المتهم وإدانته دون بيان الوقائع والاعمال المادية المنسوبة له والمادية للجريمة او التي كونت البدء في تنفيذها ولا الظروف الخارجة عن ارادة المتهم والتي تكون قد عاقت التنفيذ او حصول نتيجة المتوخاة منها ولا الأحداث المكونة لسبق الإصرار عند لزومه او إبراز عنصر النية الاجرامية والتفكير في الجريمة. وذلك لما لكل هذه العناصر من أهمية في تمكين المجالس العليا من ممارسة حقها في مراقبة الأحكام وصحة وصف الجرائم ونوعها وتطبيق العقوبة عليها.

 

وحيث يتضح هكذا من خلال هذا العرض الموجز لتعريف الجريمة من الناحية القانونية أهمية عنصر الإرادة ليس في تحقق عنصر المعنوي للجريمة فحسب بل وكذلك في تحقق السلوك المادي للجريمة نفسه وبالتالي في مدى الآثار القانونية المترتبة عنه سواء من حيث التجريم او العقاب مع الإشارة الى ان هذه الأهمية ستتجلى اكثر بروزا في الفرع الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن الأهلية الجنائية في نطاق تحرير المؤثرات النفسية والعقلية في السلوك الإجرامي. الا انه لابد من التنبيه من انه بحكم الإشكالية التي تطرحها الصياغة القانونية لابد من الرجوع الى المقتضيات القانونية المنصوص عليها في نطاق القانون الخاص بمناسبة التنصيص على أصناف الجرائم قصد تحددي العنصر المادي المكون للسلوك الإجرامي، كذا إبراز مدى أهمية العنصر المعنوي بالنسبة لكل جريمة على حدة ضمن اندراجها في صنف معين أي ضمن جرائم الاشخاص او الاموال وما الى ذلك نظرا للخصائص المميزة لكل منها.

وانه يجب التأكيد في الأخير على الطابع النسبي للجريمة سواء فيما يتعلق بمفهومها الحقيقي او القانوني او الواقعي وذلك بالنسبة للبلد او المجتمع او الحقبة او المنطقة الجغرافية حتى التي تسود فيها، وكذا الأساس الإيديولوجي المتوخى والمحمي من طرف اية مجموعة جنائية بحسب اختلاف السياسية الجنائية المعتمدة من قبل المشرع في ضبط النظام الاجتماعي، حيث يختلف اساس التجريم وهدف العقاب في المذاهب الفردية عنه وفي المذاهب الاجتماعية وذلك باختلاف علاقات الإنتاج وأسلوبه وقواه، وبالتالي باختلاف أجهزة ومسطرة التشريع المتبعة في تحديد المراكز القانونية ووسائل حماية مصالح الفرد والجماعة على حد سواء. وان هذا لا يقتضي بطبيعة الحال الوقوع عند تقنين النشاط الإجرامي فحسب بل لابد من الرجوع الى كافة التشريعات المنظمة لعلاقات الأفراد عموما في مختلف اعمال التشريع المدروسة لهذا الغرض وذلك على ضوء السياسة الجنائية المتبعة في البلاد.

 ونخلص للقول من هنا الى التأكيد على أهمية السياسة الجنائية المتخذة بالنسبة للسلوك الإجرامي سواء من حيث فقه الإجرام او التشريع او من حيث الخطة التنظيمية الهادفة اما الى تقنينه او حصره او تأطيره بهدف محاربته ومعالجته. غير انه من واجبنا ان نلفت الانتباه الى ان الجريمة لا ترتبط بالإنسان الفرد وحده كما قد يتبادر الى الذهن في نطاق تداعي الخواطر والافكار بحسب العناصر التحليلية التي تخللت هذا المبحث.

 

ذلك انه اذا كان العلماء في تصنيفهم لفئات المجرمين او في نطاق التفسير ( البيوفزيولوجي) و( السيكو- فيزيولوجي) و( السوسيولوجي ) للسلوك الإجرامي لدى الفرد متفقين على وجود مكونات مشروطة " بيوغرافية" تولد فيه استعدادا فطريا يدفع به نحو الإجرام، فان هذا الرأي وان كان قابلا للمناقشة بالأخذ والرد، فانه يبقى موقفا سليما في مناهجه ونتائجه مع ذلك.

 

الا ان ما نود التأكيد عليه هنا في هذه النبذة هو ان المجتمع يخلق بمعطيات قهرية ومكونات بنيوية شتى امام الفرد عدة مواقف إجرامية تصبح معها الجريمة أمرا حتميا لا مفر منه. ولكن ما يهمنا هنا بالذات هو ان المجتمع بمثل ما هي عليه حالة الفرد يتوفر هو بدوره على استعدادات إجرامية كاملة فيه، وما اختلاف هذا الاستعداد الإجرامي من مجتمع لآخر الا في الدرجة والمستوى و الوسائل المستعملة التي تتعدى الوسائل الواقعية في بعض الحالات لتصبح ذات صبغة قانونية حيث يكمن وجه الخطر بحدة كما هو الشان بالنسبة للمنظمات الإجرامية التي لها أهداف سياسية او اقتصادية او معتقدية تتبنى العنف نهجا وغاية.

 

وقد ينشا الاختلاف بين مجتمع واخر في هذا المضمار في مدى أهمية الامكانات القانونية والوسائل المادية، في تجسيم الاستعداد الإجرامي الكامل فيه حيث يكفي ظهور فرص، او بروز مؤثرات معينة وملائمة لتفجير هذه الطاقة او الميل نحو الجنوح، ولعلى هذا مما أدى بالتشريعات الوضعية الى الحرص اشد ما يكون على تجريم وإقرار عقوبات صارمة بالنسبة لأي شخص يكتسي صبغة العمومية سواء أكان ذاتيا او اعتباريا حفاظا منه على النظام العام، والأمانة العامة وتركيز الاطمئنان الجمعي والشخصي في المؤسسات المجتمعية، ولهذا تسعى الدول الحديثة نحو جعل القانون أسمى تعبير عن إرادة الامة وابرز بناء حضاري يحمي الحقوق وينظم الواجبات ويحدد المسؤوليات في تنظيمه للعلاقات الحقوقية سواء فيما بين الأفراد او فيما بين الحاكمين من جهة عن طريق فصل السلط او بين المحكومين والحاكمين عن طريق ضمان الحريات الأساسية للمواطنين وتدعيمها بحقوق الدفاع وتزكيتها بتنظيم قضائي ينظم لهم حق التعويض والإلغاء على حد سواء بقدر ما يضمن حسن سير العدالة وحق مراقبة تطبيق القوانين الجارية تطبيقا سليما ومطابقة لإرادة المشرع والروح المشروعية.

 

 ولهذا بالذات نرى ان القضاء يتحمل مسؤولية جسيمة في إقرار سياسة جنائية طموحة تزكي إرادة المشرع المغربي في خلق مؤسسات حديثة تدعم رغبته في ان يجعل من المغرب دولة رائدها القانون ترتاع في بحبوحة السلم. ومن هنا تعتبر الجريمة بمثابة شائبة تشوب المجتمع، تعكر صفوه وسلامته مما يتعين معه اعتبارها كواقع، واستيعابها كظاهرة شادة، ولكن قد تحتد وتشكل خطورة هائلة تعرقل سير ونمو المجتمع.

 

غير ان معالجة السلوك الاجرامي بوصفه ظاهرة اجتماعية لها صلة وثيقة بمختلف العلوم الإنسانية لصدورها عن الانسان نفسه باعتباره كائن تتمظهر فيه مختلف الا وجه والاشكالات البشرية فانه لا مناص من الانطلاق او الاستفادة من مختلف هذه العلوم التي تتصل على الاقل بصفة مباشرة بهذا الإنسان الذي حماه المشرع. 

وهكذا وقف اختيارنا في هذه الدارسة والتي ما هي في الحقيقة الا مشروع قراءة للسلوك والواقع الإجرامي، حيث أوقفنا اختيارنا حسب سابق القول على ثلاثة محاور لها تأثير اما مباشر او غير مباشر في السلوك الإجرامي. ولهذا سنركز بحثنا الموالي على المؤثرات النفسية، العقلية والاجتماعية في السلوك الإجرامي .


المبحث الثاني:

المؤثرات النفسية، العقلية في السلوك الإجرامي

 

حقا ان الجريمة حدث ناشز يختل بسببه التوازن الاجتماعي وتضطرب بفعله العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع. ولعلى الحكمة التي توختها مختلف ضوابط التحليل في العهد القديم والتجريم في التشريعات الوضعية الحديثة هي المحافظة على التوازن وتحقيقه فيما بين إرادات الافراد في حدود حرية كل منهم دون المس بحرية الآخرين او تعديها تحت طائلة العقاب وبطلان الإجراءات المختلة شكلا، ومن هنا يعتبر المجرم شخصا خارج الجماعة والقانون ومصب اهتمام قواعد الضبط الأمني واجراءات البحث والحكم ومحورا متميزا للقانون الجنائي ولعلم الإجرام.

 

ولقد كانت شخصية المتهم تشكل دوما خطرا على الهيئة الاجتماعية بسبب خروجه على أعرافها وتقاليدها ونواميسها بوصفه شخصا يعانق روح الشر ومتمثلا بها، مما كان يعرضه لمقت المجتمع ولأشد انواع التعذيب وابشع العقوبات التي تصطبغ في جوهرها بروح ونزعة الانتقام. غير ان هذه النظرة ما فتئت ان تغيرت بفضل نمو الحضارة وتقدم الشرائع الإنسانية، وتبلور معارفها وعلومها، الشيء الذي ساعد في تطوير نظرة المشروع للمجرم مع ما يتبع ذلك من تصنيف المجرمين الى انواع مختلة بحسب درجات اجرامهم وأحوالهم النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية.

 

وهكذا بعد ان كان الانسان مسؤولا مسؤولية مطلقة عن أفعاله المحرمة او المجرمة أصبحت تلك المسؤولية تكتسي صبغة نسبية سواء بالنسبة لنشاطه المادي المكون للجريمة او بالنسبة لأهليته الجنائية بحيث ان الجريمة لا تكتمل عناصرها الا إذا تحقق الرابطة السيكولوجية بين الجاني وفعله المحظور قانونيا اثناء وقوع الفعل الجرمي بالذات.

 

 وبهذا نصت المجموعة الجنائية على ان الشخص لا يكون مسؤولا جنائيا الا إذا كان سليم العقل وقادر على التمييز وواع بالجرائم التي قد يرتكبها وقت وقوع الفعل الجرمي وهكذا تميز المجموعة الجنائية في نطاق ما يسمى بالموانع المسؤولية بين فاقد الأهلية الذين يعفون من المسؤولية بقوة القانون، وناقصيها مما يجعل مسؤوليتهم محدودة ، الشيء الذي يمتعهم بأقصى ضوابط تفريد العقاب سواء تعلق الامر بصغر السن والاختلال الكلي او الجزئي لعقلية الجاني او الجانح.

 

وهذا ما سنتعرض له في نطاق هذا الفرع في بندين باعتبار العلاقة الجدلية الأكيدة بين جانبين النفسي والعقلي لدى الانسان وبالتالي في تحقيق رابطة الإسناد المعنوي.

اولا : عن المؤثرات النفسية في السلوك الإجرامي

 

لقد سبق القول بان النموذج القانون الامثل للجريمة يستلزم توافر الركن المعنوي لقيام الجريمة، وهو الركن المنصوص عليه وعلى مقتضياته في الفصل133 من ق. ج وهو ايضا المعبر عنه تارة بالعمد، وتارة أخرى بالنية والمشار إليه بين الفينة والأخرى في نطاق القانون الخاص بمناسبة التنصيص على بعض الجرائم فما هي إذن العناصر المكونة للسلوك الإجرامي من حيث ركنه المعنوي، وما ماهية المؤثرات النفسية في ذلك السلوك؟

 

لقد انتهينا في الفرع السابق الى اعتبار الإرادة بمثابة الحلقة الاساسية في تحقيق الرابطة السيكولوجية بين الفاعل والفعل، وبالتالي في تجسيد السلوك المادي للجريمة مما يصطلح على تسميته بالإسناد المعنوي.

 

وانه لاغني عن البيان في هذا الصدد ( على اعتبار ان المسؤولية هي مناط ذلك الإسناد ) ما لموضوع المسؤولية في المجال الحقوقي عموما من أهمية كبرى حيث انها اذا كانت تعتبر في الميدان المدني مناط التعويض سواء في إطار المسؤولية العقدية او التقصيرية فانها تعتبر في مضمار القانون الجنائي مناط الجزاء غير ان الغموض او الخطا في تقدير المسؤولية يكتسي في الميدان الجزائي أهمية خطيرة، نظرا لان الجزاء في المجال المدني يصيب الذمة المالية التي يمكن تغطيتها بوجه او باخر، كيف ما كان المركز الاجتماعي للمحكوم عليه باعتبار تقاليد البلد او أعرافها، كما يمكن تصحيحها على كل حال، الا ان الخطا في تقديرها في الميدان الجنائي له وزن خطير على من وقع ضحية له بحكم مساسه بحريته وكرامته الإنسانية.

 

قد نتساءل لماذا كل هذه التوطئة. نعم ينبغي القول: انها كانت ضربة لازب وفق اتجاه فقهي نرى رأيه ونزكيه، الا وهو الاتجاه الذي يؤكد على التمييز الدقيق الذي يجب ان يراعى على جميع مستويات العمل القانوني في مضمار المسؤولية الجنائية بين الأهلية الجنائية والمسؤولية الجنائية بحصر المعنى. ذلك ان الاتجاه الغالب في الفقه يناقش هذا الموضوع عندما يناقشه في باب الأهلية الجنائية على ضوء عناصر كلاسيكية تدور حول أحكام عامة تعتبر ان المسؤولية الجنائية تنحصر في قدرة المرء على التمييز والأدراج السليم لفعل يعد في نظر القانون جنوحا. ومع شيء من الوضوح يضيف أحد فروع ذاك الاتجاه عنصر الإرادة باعتباره المناط الأساسي للمسؤولية الجنائية. ومن هذا المنطلق يأخذ في تقدير درجات المسؤولية باعتبار السن والمستوى العقلي للجانح مع ما يترتب على ذلك من مضاعفات سواء بالنسبة للعقاب او لتفريده او بالنسبة لإجراءات البحث او المحاكمة

وعلى ضوء هذه المعطيات يتضح ان المجموعة الجنائية تأكد بادئ ذي بدء على الركن المعنوي في تحديد العناصر النموذجية للجريمة وفق ما ينص عليه الفصل133 من ق. ج كما تؤكد على ذلك من حين لاخر بمناسبة التنصيص على كل جريمة على حدة في نطاق القانون الخاص، ثم تأتى بعد ذلك مقتضيات الفصل134 وما يليه لتكتمل الصورة التقليدية للمسؤولية الجنائية بحسب الاتجاه السالف الذكر مع الإشارة القانونية الى افعال الاباحة التي تمحو الجريمة باعتبار امر القانون او إذن السلطة الشرعية او بحكم الضرورة او الدفاع الشرعي حيث يعفى المتهم من العقاب جزئيا او كليا طبقا لمقتضيات الفصل124 وما يليه من ق. ج.

 

ويستخلص من هذا العرض الموجز على ضوء الاستقراء نصوص القانون الجنائي في هذا الباب على ان المجموعة الجنائية تحيط بالمسؤولية الجنائية من خلال شخص الفاعل وهو ما نصطلح على تسميته بالمنطلق الذاتي وبمقتضى القانون وهو ما يدخل في نطاق النزعة الوضعية في التشريع. ومن ثم ركز المشرع بالنسبة للجانب الاول على محوري النفس والعقل، وعلى جانب التشريع بطبيعة الحال بالنسبة للجانب الثاني وانه لمن الجدير بالذكر في هذا لفرع بالنسبة للجانب الاول والذي اعتبرناه ذاتيا ملاحظة بعض المؤثرات المهمة التي ينبغي مراعاتها في السلوك الاجرامي على ضوء التشريع الجنائي المعمول به:

 

أ‌-    ان المشرع، انطلاقا من الواقع ومعطيات المعرفة البشرية يعي كل الوعي بان النفس والعقل هما معا عبارة عن معطى " هيولي" تتحكم فيهما نواميس شتى مادية ومعنوية تجعله يتأرجح بين الذاتي والموضوعي، بين المعقول واللامعقول، بين الوجود والعدم بين الرؤيا الواضحة والإدارك السليم وبين الاختلال والجنون، بين غريزتي الهدم والبناء. الى غير ذلك من المتضادات الجدلية التي قد تدفع بالمرء نحو الجنوح عند بلوغ درجة الاجرام. ومن هنا تختلف الجرائم في أهدافها وبواعثها واسبابها، ومن هنا ايضا تختلف مسؤولية الجناة في درجة المسؤولية الجنائية.

ب‌- ويلاحظ من جهة ثانية ان المجموعة الجنائية لم تاخذ بالاعتبار في تجريم السلوك " نظرية الباعث" كما هو الشان بالنسبة لأخذه بمعيار الخطورة الإجرامية او مدى شذوذ شخصية الجاني، وان هذا لا يعد بحق اختلالا " ميتودولوجيا" في التحليل " السيكو- سوسيولوجي" ( النفسي – الاجتماعي) للسلوك الاجرامي من خلال المعطيات القانونية للمجموعة الجنائية.

 

وانه لا ينبغي بأية حال من الاحوال ان يفهم من هذا القول ان هذا الموقف ينزع نزوعا مثاليا انطلاقا من كون الغائية هي اتجاه مثالي محض، اذ ان تصنيفا مثل هذا سيكون تصنيفا تحكميا لا محالة : ذلك ان التحليل الوصفي للسلوك عامة يؤكد انه وان كان يخضع من الناحية " الفيزيولوجية" لقواعد العلية الا ان القوانين " الأنطولوجية" لهذا السلوك تؤكد بدورها ان الفعل اذ يتجه نحو نتيجة او نتائج معينة فان سبب وجود الفعل في حد ذاته يتمثل في بواعثه نظرا لانه يفتقر الى ركيزة كيانه على حد قول "ايهرينج" ( 1818-1892) وهو بهذا المعنى يسعى الى تعويض تلك الركيزة باخر تكون هي المصطلح على تسميته في مقالنا هذا بـ " الباعث".

 

وفعلا فانه يتضح من خلال مظاهر السلوك الإجرامي البارزة ان هذا الاخير سببا يتجسم في اللحظة الإجرامية ونشاطا ماديا يتمثل في الركن المادي للجريمة بمعناها القانوني الصرف، ونتيجة محظورة قانونا الا ان كافة هذه العناصر لا تغني بحال من الأحوال أثناء التحقيق او المحاكمة عن بحث وتحليل الموقف الإجرامي و" التشريط البيوغرافي" لشخصية الجاني او الجانح فيما اذا كان الفعل الجرمي إراديا هادفا، وله بالتالي موجه محدد يتمثل في الباعث على مخالفة القانون وذلك لما لهذا الأسلوب من اهمية بالنسبة للعمل القضائي الذي بقدر ما يعد بحق مصدرا من مصادر التشريع، بقدر ما يعد بالمثل وسيلة من وسائل بلورة الفكر القانوني بلا منازع فضلا على كونه الأداة الحقيقية لتحقيق العدالة.

ان المشرع المغربي كملاحظة ثالثة لم يؤكد في المجموع الجنائية على عنصر الإرادة رغم ما لهذا العنصر من تأثير كبير في فهم السلوك الإجرامي وإدانته، ان لم يعتبر أقوى المؤثرات لهذا السلوك من حيث العنصر المعنوي للجريمة وذلك رغم ان المجموعة خصصت للفصل133 منها للتنصيص على المسؤولية الجنائية بصفة خاصة باعتبارها اساس التجريم والعقاب.

 

حيث ان النتيجة المقبولة بحسب صياغة الفصل المذكور لفظا ومعنا يمكن تصويرها على الوجه التالي: ان الشخص يعتبر مسؤولا ما لم يثبت اختلاله عقليا أثناء وقوع الفعل الجرمي او إصابته بمس من الجنون حيث تقوم مسؤوليته الجنائية مادام في سن يعد معه قادرا على التمييز، وفي حالة عقلية سليمة والحال ان مختلف الدراسات سواء منها الفلسفية او في مجال الفقه القانوني او علوم الإجرام لا تنكر ان الإرادة بمفهومها المطلق فردية مثالية صعبة التحقيق سواء في مجال العلوم الطبيعة او علوم الإنسان.

 

رغم ان الصراع بين النزعة المادية و والمثالية حول هذه المسالة بالذات لم يحسم بعد، الا ان الدراسات التجريبية حول الإنسان تؤكد على انه من الصعب القول بحرية الانسان في التصرف او الاختيار او الحكم ودون الدخول في الجدل القائم لحد الآن بين انصار النزعة القدرية او الجبرية وخصوصا وان هذه النقاش يبقى بحكم طبيعته جدالا فلسفيا محضا يمكن القول مع " فرانسوا شاتلييه" في مقالته ( الفلسفة المعاصرة في فرنسا) المنشورة في كتاب تساؤلات الفكر المعاصر ( ترجمة محمد سبيلا ص107 ) ما يلي:

 

" ان ما هو مرفوض عل وجه العموم هو الفكرة القائلة بأنه توجد على وجه الضرورة، وفي كل زمان من وبالبداهة محكمة عليا إيجابية كليا، شفافة امام ذاتها وقادرة على إنتاج معرفة شمولية، وقادرة من ثم على التقييم وعلى الحكم على كل المنطوقات وعلى كل السلوكات كما أنها قادرة على فرز الخطأ والجنون والجريمة)

ونظرا لأهمية هذه النقطة المثارة في هذا الفرع في نطاق الإشارة الى هذه الملاحظات حول بعض ثغرات المجموعة الجنائية فانه لا مندوحة من ذكر بعض النتائج الهامة التي توصلت إليها الدراسات في مجال فيزيولوجية الإرادة باعتباره مبحث هام في علم السلوك البشري الذي ينبغي اعتباره بحق مرشدا لفهم طبيعة السلوك الاجرامي بالنسبة لكل عمل له صلة سواء من قريب او من بعيد بهذه الظاهرة الاجتماعية.

 

وفي هذا الصدد يؤكد البحاثة " بول فولكييه" في كتابه القيم عن " الإرادة" ( سلسلة " ماذا اعرف" ترجمة "جهاد نعمان" ) المنشورات العربية في مقدمته مفاده ان العمل الإرادي خلافا للأعمال الاخرى التي تبعث اليها قوى او دوافع تحتمه بواعث وأسباب تختلف بين القوى والتي هي ذات طابع فيزيائي كجاذبية الارض والدوافع باعتباره هي الاخرى قوى ولكنها ذات طابع نفس فهي عبارة عنا اتجاهات او ميول بمعناها الاصطلاحي واخيرا بين كل ذلك والبواعث والأسباب وهي ذات طابع فكري، حيث تنطوي على معرفة قيمة الاشياء التي تتبدى في شكل خيارات.

 

ومن هنا يعتبر المؤلف ان الباعث باعتباره معطى وجداني يمتزجان مع الكيان الذاتي للإنسان فهي اكثر غموضا على اعتبار ان جذورها تمتد على الكيان البيولوجي للإنسان هما معا يعدان عنصران فاعلان في العمل الإرادي.

 

غير ان المؤلف يخلص في نهاية دراسته لمستويات الإرادة الى القول : انه ينبغي الا يظن المرء ان كل نشاط لدى البالغ هو إرادي من مثل تلك الارادة العقلية والأخلاقية التي هي الارادة الانسانية بحصر المعنى فان هذه الاخيرة " ترأس" ان صح التعبير إرادات ذات مستوى أدنى ليس إلا، او بالأحرى انها تتوقف على " ترؤسها بيد انها وبالأسف لا توفق الى ذلك الا الى حد ضعيف ( انظر ص23 من نفس المرجع).

 

يستخلص إذن من هذا العرض المقتضب أهمية " الإرادة" في السلوك البشري لارتباطها بكيان هذا الأخير بجانبي بارزين وأساسين من حياته الا وهو الجانب الفكري والجانب الوجداني ولهذا تؤاخذ المجموعة من حيث عدم تأكيدها سواء على هذا العنصر او العنصر السابق بالقدر المناسب لأهميتهما بالنسبة للسلوك البشري عموما وبالنسبة للسلوك الإجرامي على الخصوص علما بان كلا من الإرادة والباعث هما معا عاملان ذهنيان متلازمين يطبعان السلوك بطابع انسي  Humanisteيميز الكائن البشري عن غيره من الموجودات الحيوانية.

 

وان هذا التحليل لا يتماشى حقا مع مبادئ العامة للقانون الوضعي حيث ان أي تصرف قانوني اصلا على الإرادة باعتبارها عنصر محرك لذلك التصرف، كما ان هذه الإرادة تهدف إحداث اثر قانوني معين بمثابة باعث له، فالعقد مثلا لا يعدو ان يكون تصرفا قانونيا يقوم على تطابق إرادتين بغية إنشاء حقوق عينية او حقوق شخصية.

 

هذا مع العلم ان العقد وان كان يخضع مبدئيا لسلطان الإرادة فان القانون المدني يجعل لهذا السلطان قيودا وإستثناءات تحت طائلة البطلان او قابلية الإبطال.

 

الا انه في جميع الأحوال فان ظهير12 غشت1913 المنظم لقانون العقود والالتزامات يعتبر ان الالتزامات لا تنشأ الا بناء على إرادة معبر عنها بصفة صريحة في نطاق اتفاقات او عقود، او أشباه عقود او بصفة منفردة الى غير ذلك من أنواع العقود المنصوص عليها. الا ان ما يهم هذا التحديد هو ان أي اتفاق منجز بهذا الشكل لا يعد صحيحا فحسب بل انه يرقى الى مستوى القانون ويلزم الأطراف ببنوده طبقا لمقتضيات الفصل230 من ق ع ل.

وان ذل هذا على شيء فانما يدل على ما للإرادة من سلطان في نظر المشرع الذي تنصرف إرادته نحوها في إقرار المركز القانوني لتصرفات وسلوك البشر.

 

ومهما يكن من امر فان الإرادة لا تعد بالنسبة للسلوك الإجرامي في الواقع رغم أهميتها التي حرصنا اشد الحرص على إبرازها في العرض الموجز أعلاه، فانها لا تشكل بالنسبة للواقع الإجرامي في اطار المؤثرات النفسية سوى حلقة واصلة بين شحنات انفعالية مثيرة دافعة نفاثة تؤدي بحسب قوتها الى حافة الجريمة.

 

فالحب والحسد والحقد والكراهية والغيرة والحساسية المرهفة، والشرف والأنفة والأنانية والغيظ، والانفعال الشديد كلها عوامل تساهم بشكل او باخر في إعطاء السلوك الإجرامي قوة دافعة ومثيرات تساعد في الاستجابة للمؤثرات والمنبهات الانفعالية التي تحيط بالموقف الإجرامي او باللحظة الإجرامية.

 

ومن هنا فان للعلاقات الإنسانية، والمكونات العاطفية او النفسية للأفراد وزنها الخاص في الميل الإجرامي مما يتعين معه ان يكون له نفس الوزن في شتى مقوماته سواء عند تقدير الأفعال الجرمية او في حالة تقويمها.

من هنا أيضا كان الاهتمام الفقه القانون وعلوم الإجرام بنظرية الباعث في السلوك الاجرامي مكانة ممتازة في التحليل والدارسة، هذه المكانة التي لم نعطي لها في رأينا بحسب المجموعة الجنائية الاهمية التي تستحقها بدليل ان النصوص القانونية الجنائية لا تشير في نطاق تقرير الأعذار القانونية وذلك في إطار الأعذار القانونية الا الى عذر الاستفزاز طبقا لمقتضيات الفصل416 من ق ج بالمفهوم القانوني المشار اليه أعلاه، أي باعتباره حالة نفسية او شعورية شاذة وعارضة تنتاب المرء في اللحظة الإجرامية، ان لم تكن هي الشحنة الانفعالية المولدة للفعل المجرم وهي إما ان تكون ناتجة عن سلوك المجني عليه او عن الموقف الإجرامي او شقة الجريمة كما هو الحال بالنسبة لمفاجأة الزوج لزوجته في جريمة الخيانة الزوجية في حالة تلبس مثلا وهي المنصوص عليها وعلى مقتضياتها في القانون الجنائي الخاص.

 

نعم، انه يمكن ان نقول مع القائلين بان عذر الاستفزاز بوصفه عنصر نفسي مساهم في الفعل الجرمي يمكن التوسع فيه ليشمل بعض المؤثرات النفسية في السلوك الإجرامي كما نريد لها ذلك الا ان هذا القول مردود لا محالة لان شفافية النفس الإنسانية وارتباطها حسب الفقه القانوني المعاصر وعلوم الإجرام، وبحسب المعطيات الموضوعية للعلوم الطبيعية من الشمولية والتعقيد بمكان بحيث ان القانون وحده غير كاف للوقوف على حقيقتها في ميدان الإجرام، كما ان القضاء رغم حنكته وسلطته يبقى في حاجة ماسة الى نصوص قانونية صريحة تنير سبيله ما امكن يشمل أهم وابرز الحالات النفسية الممكنة المؤثرة في السلوك الاجرامي هذا فضلا على ضرورة استعانته على اوسع نطاق بالخبرات الطبية الفنية في مجال علوم النفس كالتحليل النفسي وعلم نفس الاعماق وعلم الطب العقلي، وعلم النفس الاكلينيكي، و" الميتاسيكولوجي" والى غير ذلك من فنون هذا العلم الذي يعتبر ميدانا خصبا بحكم خصوبة وعمق التجربة السيكولوجية للإنسان.

 

ومن هنا تاتي حكمة المشرع في اطار قانون العقود والالتزامات عندما افرد عدة فصول لحماية الإرادة وسلامته من أي عيب قد يتسرب اليها لما لذلك من آثار قانونية على الالتزامات المشوبة بعيب من عيوب الرضا كما انه خلافا للقانون الجنائي فان المشرع المغربي قد عبر في القانون المدني عن موقفه صراحة من الإرادة كمصدر للالتزامات والعقود، وكمعطى ضروري لا مناص منه بل انه ذهب في حمايته لها على غرار مختلف التشريعات المدنية الى مدى بعيد عندما اعتبر ان الخوف او الإكراه او حتى الاضطراب النفسي كلها عوامل من شانها ان تؤثر على التصرفات القانونية وتجعلها كما لو لم تكن .

وعلى ضوء هذه المعطيات ينبغي ملاحظة ان الالتزام إذا كان ينبغي ان يصدر عن إرادة، وان تكون هذه الإرادة معبرة عنها صراحة وغير مشوبة بعيب مادي او معنوي، فان التزام الجاني او الجانح بتحمل تبعات سلوكه المجرم تجاه المجتمع يجب ان يكون بالكاد نابع من إرادة حرة ، ورغبة واضحة وصريحة في استجلاب اللذة او المنفعة بطريقة غير قانونية.

 

ولعلى هذا ما جعل العمل القضائي يؤكد على النية والعزم الأكيدين في اختيار الجريمة كوسيلة لتحقيق مصلحة ما، وبالتالي لمؤاخذته وتصريح بإدانة بالرغم من كون هذه النقطة تعد مسالة موضوعية تخضع للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع ولكن دون حرمان المجلس الاعلى من بسط رقابته القانونية في التنصيص عليها وتعليلها تعليلا كاملا، كافيا وسليما.

 

هذا فضلا على عدم اعتبار المشرع المغربي لنظرية الباعث سواء في التجريم او العقاب – وان كان المجال يبقى مفتوحا امام سلطة القضاء في تقدير ذلك في نطاق الجرائم المرتكبة بحكم الضرورة او الدفاع الشرعي او بسبب الاستفزاز باعتبارها عوامل مؤثرة في السلوك الإرادي للأفراد لا محالة، الشيء الذي يؤدي الى القول بان المسؤولية الجنائية بحصر المعنى تكتسي طابعا ومفهوما متميزا عن المفهوم الذي يحصره بعض الفقه في نطاق الأهلية الجنائية لارتباطها، كما سعينا الى توضيح ذلك بالسلوك الإجرامي من جهة وبذاتية الجاني من جهة أخرى في حين ان الأهلية الجنائية ترتبط بشخص هذا الأخير سواء من حيث السن او من حيث مستوى العقل او درجة الوعي فان الإرادة تعد بحق مناط المسؤولية الجنائية لارتباطها بالفعل الجرمي المخل بالتزام الفرد تجاه الجماعة فمسؤوليته الجنائية تجعله بهذا المعنى خارج الجماعة نطاق القانون سواء أكان أهلا للجزاء في نظر القانون ام لا.

 

وقد يقول القائل ان المجموعة الجنائية نصت على عنصر الإرادة في الفصل 134عند الحديث عن الموانع الذاتية للمسؤولية وهي نقص المستوى العقلي والقدرة على التمييز او الخلل الكلي او الجزئي وان هذا ما سيشكل محور البحث والتحليل والمناقشة في البند الموالي من هذا الفرع.

ثانيا: عن المؤثرات العقلية في السلوك الإجرامي

ان كان الإنسان يشكل في حد ذاته لغزا محيرا بالنسبة للإنسان، فان العقل المفكر فيه " بفتح الكاف" يشكل بالنسبة للإنسان العارف حقا لغزا معقدا في بنائه وخطيرا في وظيفته، اذ ان العقل بالذات هو ما يجعله متميزا عن باقي الكائنات الحية ولعلى هذا ما جعل وصف الإنسان بكونه حيوان عاقل يلقى انتشارا كبيرا منذ بدأ التفكير.

 

وان القاء لمحة وجيزة على التطور البيولوجي والفيزيولوجي للإنسان يؤكد اهمية تكون البنية العقلية في تمييز الانسان العاقل عن غيره من الحيوانات، حيث اصبحت الوظيفية العقلية مؤثرا فعالا على كافة المستويات وجوده وعاملا أساسيا من عوامل نشوئه وارتقائه.

 

وعليه فان العقل بهذا المعنى هو وعاء عضوي لمجموعة من الوظائف العقلية التي تدعى اصطلاحا بالسيرورات العليا، أي العمليات الذهنية الإيجابية التي تعتبر المرحلة الأسمى في تكوين البنية العقلية وهي تمر على التوالي عبر الأطوار التالية:

 

1)   طور العقل الحسي – الحركي  Période de l'intelligence sensori-motrice

2)   طور العقل الواقعي  Période de l'intelligence concrète

3)   طور العقل التجريبي Période de l'intelligence formelle

ومن اهم المراحل الأولية التي تمر منها هذه الأدوار يجدر بنا ان نذكر على ضوء جرد مراحل سيكولوجية التكوين الوجداني والعقلي: مرحلة الانعكاسي – مرحلة التكييف - مرحلة التنسيق بين الرؤيا والمسك – مرحلة استحضار الشيء في غيابه – مرحلة التردد والحيرة – مرحلة استنباط التخطيط الحسي – الحركي – مرحلة الفعل الرمزي مرحلة تمثيل ما قبل العملية الذهنية – مرحلة العملية الذهنية الواقعية – مرحلة العمليات الذهنية التجريدية.

 

هذا وان أي اختلال في التكوين البيولوجي او أي ارتكاب في النمو الوظيفي للعقل بالنسبة لمراحل نموه هذه، تؤدي لا محالة الى نقص في القوى العقلية للإنسان وبالتالي الى إصابته بالخلل العقلي.

غير ان السؤال المطروح الان هو كالتالي: هل الإنسان مسؤول عن هذه النقص ؟

ان البحث العلمي يجيب بالنفي محتجا بعوامل أساسية تحتل الوراثة منها المركز الاول بحسب مكونات الجينات المنقولة، وهي ترجع الى النقص الحاصل في التطور الجنيني البيولوجي لدى الإنسان في طور التكوين، إضافة تأثير بعض الأمراض المزمنة كالزهري التي بعد تطورها تصيب العقل فتدمره، هذا فضلا عن العوامل الخارجة عن نطاق الوراثة والتي تتلخص في العوامل الاجتماعية والنفسية والعضوية ( انظر في هذا الصدد كتاب التطور البيولوجي والعقلي عند الطفل – عمر السقوري، مطبعة الامنية – الرباط).

 

ولقد ذهبت مختلف التشريعات تمشيا مع الكشوفات العلمية لهذا الباب وذلك في إطار بحث الوضعية القانونية للمختل عقليا بسبب افعاله او أخطائه في مجال الأهلية والمسؤولية الجنائية الى اعتبار ثلاث حالات نوردها على ضوء ما أقرته المجموعة المغربية فيما يلي :

 

1)   حالة انعدام المسؤولية بالنسبة لصغير السن الذي لم يبلغ 12 سنة( الفصل138 من ق. ج)

2)   حالة الاعفاء من المسؤولية بالنسبة للمجنون ( الفصل 135 من ق ج).

3)   حالة نقص المسؤولية بالنسبة لضعيف القوى العقلية ( الفصل135 ) وكذا بالنسبة لصغير السن الذي اتم 12 سنة ولم يبلغ سن الرشد الجنائي ( الفصل139 من ق. ج) 

 

ومن الملاحظ بالنسبة للصياغة القانونية لهذه الفصول التي تدخل وفق المجموعة الجنائية في نطاق الفرع المخصص للعاهات العقلية التأكيد على عنصرين أساسين في تحديد مفهوم القوى العقلية او الخلل العقلي الا وهما "الإدراك" او " الإرادة" في حين ان الفصل 132 من ق ج. المخصص على وجه التحديد لحصر المسؤولية الجنائية لا يشير على الإطلاق الى لفظ الارادة.

 

هذا وان التفسير الضيق للقانون والذي لا يمكن ان يستغني عن التفسير الاصطلاحي للتعابير او المفاهيم او المصطلاحات المستعملة في صياغة النص، ليخلق إشكالا قانونيا بالفعل، فهل كل شخص سليم العقل يكون قادرا على التمييز ؟ ما هي عناصر التمييز وما هي حدود العقل وسلامته؟ ثم هل مناقشة هذا الفصل مشروطة بمقتضيات الفصل 134 من ق. ج الذي يشير الى لفظ الإرادة ؟؟.

 

حقيقة ان النصوص القانونية في مجال التفسير تكمل بعضها البعض الا ان هذا المنحى يصطدم مع مبدا التفسير المضيق المذكور اعلاه خصوصا وان الصياغة القانونية للنصوص الجنائية تستلزم حدا ادنى من الاكتفاء الذاتي في التفسير احتراما لركن الشرعية نفسه الذي يعد مبدءا لا يمكن التنازل عنه لارتباطه بالقواعد المشروعية.

 

حيث ان القاضي الزجري عندما يجد نفسه عمليا امام حالة تثار فيها المسؤولية الجنائية دون الدفع بالخلل العقلي، فان المناقشة تنحصر بالنسبة إليه في نطاق الفصل132 من ق. ج ليس الا، فيسعى بالتالي الى تطبيقه حرفيا دون الالتفات الى لفظ الإرادة لتعلقه بمقتضيات الفصل134 وبحالات العاهات العقلية، ولهذا نجد مسعى جل التشريعات التي نصت تلافيا لهذا الاشكال على ان الفعل المعاقب عليه يجب ان يكون عن وعي واختيار حر حيث تنص المادة62 من قانون العقوبات المصري على انه : " لا عقاب على من يكون فاقد الشعور والاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل"، يقابلها الفصل309 من قانون العقوبات السوري الذي ينص على انه: " لا يجوز مساءلة الفاعل ما لم يكن قد اقدم على الفعل عن وعي وإرادة"

اما بالنسبة للمجموعة المغربية فإنها لم تبين بوضوح دور وأهمية الارادة في السلوك الاجرامي ذلك انم إمكانية التمييز او الإدراك تعني مقدرة الشخص على اعطاء معنى للسلوك دون الحكم عليه إذ من شان هذا ان يبرر في أقصاه عنصر العلم المفترض بعدم العذر بجهل القانون بنظر الاعتبار الى ان الشخص في إمكانه إدراك ماهية الفعل وآثاره دون التحكم فيه لان هذا يدخل في مجال الإرادة وهو مجال أكاديمي مفترض ليس إلا، ولعلى ذلك راجع الى ان المشرع المغربي ارتكن الى مبدا حرية الاختيار كقاعدة عامة ومفترضة في أي سلوك إجرامي.

 

ثم يلاحظ إضافة الى ذلك، ان المشرع المغربي حصر مجال الاختلال في نطاق العقل دون النفس فهل هذا يعني ان هناك حدا فاصلا بينهما؟ !

 

انه لمن الصعب حقا تبني وجهة النظر هاته اذا ما أخذنا بعين الاعتبار البحوث والاكتشافات العلمية في هذا الصدد حيث يؤكد الدكتور " علي كمال" في مؤلفه القيم ( النفس، انفعالاتها وأمراضها وعلاجها) ص20 ما يلي:" ان تحديد التجربة النفسية والعقلية للشخص الطبيعي امر ليس بالسهل ولعلى من الاسهل علينا ان نقرر من هو المريض بيننا من ان نقرر من هو الطبيعي او السوي او السليم ولعلى هذا القول يعكس ما يراه بعد الأخصائيين من ان جميع الناس مرضى بالأمراض النفسية، وان الامر لا يتعدى فرق الدرجة بين الفرد والاخر ومثل هذا الرأي له ما يسنده. وفيه غير قليل من الصحة".

 

وعن طبيعة الامراض العقلية يؤكد المؤلف المذكور في نفس المرجع ص379 ما يلي : " … وبسب فعالية العوامل النفسية في السلوك الطبيعي وفي الامراض العقلية على حد سواء، فان بعض الأخصائيين يعتبرون الامراض العقلية " نوعيا" كالأمراض النفسية، وان الاختلاف بينهما هو اختلاف درجة لا اختلاف نوع" .

 

ومن هذه المنطلق، تلافيا للانتقاد الذي وجه لنص المادة64 من قانون العقوبات الفرنسي النافذ فقد ادرج المشرع الفرنسي في مشروع قانون العقوبات لسنة1978 الحالات التي تنطوي على مفهوم الخلل العقلي فذكر في المادة40 منه بأنه " لا يكون محل للعقوبات من كان مصابا في لحظة ارتكاب الجريمة بخلل نفساني من شانه فقدان إدراكه والتحكم في تصرفاته ( البند الثالث من هوامش النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي - الدكتور " سامي النصراوي " ص155 مرجع سابق الذكر) .

وفي هذا الاتجاه أكد دليل القانون الجنائي المغربي رقم5 ص 126 على انه عندما يكون ضعف القدرات العقلية من شانه ان يعدم حتما الإرادة فانه يعتبر كذلك مبررا بالنسبة للشخص كما لو كان محروما نهائيا من قدراته العقلية. وبعبارة أخري، يمكن للشخص ان يكون نصف مجنون ومع ذلك غير مسؤول جنائيا.

 

وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان المشرع المغربي تتجه إرادته نحو توسيع نطاق مدلول الخلل العقلي او الجنون ليشمل الجنون النفساني كذلك، ومع العاملين في ساحة العدالة الا مباركة هذا الموقف عن حق، والتوسع بحصافة في نطاق تطبيقه، خصوصا وان المجموعة الجنائية تخول قضاة الحكم بجميع إمكانيتها القانونية قصد البحث النفسي والاجتماعي والطبي للاستنارة بهديها، كما ان العمل القضائي ما فتئ يقر استقلاليته في الاقتناع بالنتائج التي قد تقدمه إجراءات التحقيق الموازية، والموازنة فيما بينهما للبث وفق ما تقضيه ورح العدالة.

 

وفي هذه الصدد نورد نص القرار على216 اساس جنايات رقم269 بتاريخ 22/2/76( منشور بمجلة " المحامون" الشهرية الصادرة بدمشق السنة41، عدد6، سنة76، ص474، موجود بكتابة هيئة المحامين بالدار البيضاء) جاء فيه ما يلي: " ان القضاء مؤسسة قوامها الاستقلال والعدالة فلا يمكن ان يقع تحت عبء الخبرات الفنية التي ليست في الواقع الا وسيلة لإنارة سبيل التحقيق، وعلى الدوائر القضائية ان تستخلص الحقيقة من الوقائع ومن سلوك فاعل الجرم ووضعه أثناء الجريمة وطبيعة أقواله لتصل الى تقدير ما اذا كان في حالة متزنة ام لا.

 

خلاصة القول اذن : ان جنون حالة غريبة لا يدرك صاحبها ما قبلها وما بعدها او يعي فعله وحالتها فكما للعقل درجات ومستويات تتأرجح بين البله والخبل والغباء والتخلف فان الجنون يختلف بدوره في مستوياته ودرجات الحدة والعنف في مظاهره، فهناك الجنون المطلق والجنون النسبي، وقد يكون الجنون مستمرا او لحظيا وهالك في الاخير المجرم المجنون والمجنون المجرم …. الخ .

 

ويجب التأكيد هنا على ما لهذه التقسيمات في الواقع العملي من أهمية قصوى، ذلك انه كثيرا ما تتبادر الى الذهن علامات استفهام عديدة بالنسبة للعاملين في ميدان العدالة حينما يتم الربط باستغراب شديد بين احوال الجاني وبعض القرائن التي تدل على مستوى نفس وعقلي " عادي" بين الدفع بالجنون، او قد يميل الباحث امام بعض النتائج الخبرات الفنية المتذبذبة بين كفتي الاضطراب العقلي او النفسي البسيط وبين التزامهما الى هذه الكفة الأخيرة دون جزم بذلك، وكأني به ميل الى رجحان كفة الاحتمال دون اليقين، والحال ان الأحكام تبنى على الحجة واليقين وليس على الشك والتخمين، انه يكفينا للاستشهاد على خطا هذا التحليل الإشارة الى بعض الامثلة المستمدة من مشاهير واعلام الفن والفكر جمعوا بين الجنون والعبقرية او الجنون اللحظي الذي قد يؤدى الى الإجرام او الجنوح.

فمن منا يا ترى لم يطالع او يتصفح كتاب " هكذا تكلم زرادشت" وكتاب " ما وراء الخير والشر" للفيلسوف " الأنا الاعلى" بين ( فريدريك نتشيه) الذي قال عنه العلامة النمساوي ( سيجموند فرويد) : " انه يعرف نفسه معرقة ثاقبة اكثر من أي إنسان آخر عاش او من المحتمل ان يعيش" ( الموسوعة الفلسفية المختصرة تحت اشراف الدكتور زكي نجيب محمود) مكتبة الإنارة المصرية ص374).

 

ان هذا الفيلسوف قضى الجزء الأوفر من حياته في اضطرابات نفسية جسيمة وعقلية، تميز العقد الاخير منها بحالة شبه جنون مطبق تتخلله فترات وعي ويقظة آبت عبقريته الا ان تتفق خلالها فأصبحت جزاء من تراث الانسانية من دون منازع.

 

++ من منا لم يشاهد احدى روائع الفنان الهولندي " فانكوخ" او لم يسمع عنه كرائد كبير للمدرسة الانطباعية Expretionnisme في الرسم. انه هو الاخر كان مصابا بمس من الجنون اثر في سلوكه في سلوكه فطبعه بالشذوذ سواء تجاه نفسه او الأغيار الذي ادى به في يوم من الأيام الى قضم أذنه تحت تاثير نوبة عصبية جديدة ثم بعد يقظته منها رسم لوحة ذاتية لحالته بعدها وهي من لواحته الشهيرة واخيرا مات قاتلا وقتيلا في اخر مشهد له يعد معلمة من معالمه الفنية.

 

+++ من منا لا يندهش في يوم من الأيام لخبر الفيلسوف القاتل الذي قتل زوجته في ظروف غامضة… من منا سيصدق حقا ان " ألتوسير" ارتكب جناية قتل في حق شريكة حياته، وهو اكبر الزعماء الكبار الذين يشكلون حلقة " البنيويين"  Structuralistes الفرنسيين الرائدة في الفلسفة المعاصرة الى جانب ( مشيال فوكو، ولا كان، وليفي ستراوس). نعم ان الخبر حقيقة والفعل تم وقت انهيار عصبي ومس من الجنون مس صاحبنا فأنزله من برج الفلسفة ليقبع تحت العدسة المخبرية للتحليل الاكلينيكي وزنازين الفصاميين.

 

ان القائمة طويلة والأمثلة متعددة، انما نقتصر على هذا النزر القليل من هذه النماذج ونحن نهدف من وراء هذا الى ان نؤكد على ان الائتمان لحالات وقرائن عرضية وغير مخبرية لنثقل كاهل الجاني بالاتهام او الإدانة هو ضرب من الشبهات ولقد صدق من قال وهو اصدق الصديقين:

{ ادرؤوا الحدود بالشبهات عن المسلمين ما استطعتم، فان وجدتم للمسلم مخرجا فدخلوا سبيله ولان يخطئ الإمام في العفو خير من ان يخطا في العقوبة}.

" حديث نبوي شريف"

المبحث الثالث: عن المؤثرات الاجتماعية في السلوك الإجرامي 

 

اذا كان مبدا العقاب كما يؤكد فقهاء الإجرام ظاهرة لا تدعو للاستغراب او العجب فالغرامة والحبس، والسجن .. عقوبات يستحقه المجرم كما يذهب الى ذلك ( عفت البزري) في مقال له منشور في مجلة الشرطة الدمشقية عن كتاب " الجريمة والعلم" السلسلة الأمنية الصادرة عن المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة ص93 مضيفا الى ذلك قائلا :

" وهذه الحقيقة نعرفها ونقرها ولكن قلا من يعرف ان الجريمة او الإجرام عقوبة يستحقه المجتمع الذي يقع فيه ذلك الإجرام وتلك الجريمة وقل من يعترف بهذه الحقيقة".

 

فالجريمة بهذا المعنى حتمية ناتجة عن عوامل وأسباب كاملة في المجتمع ولا غرو في ذلك، فلقد أصبحت الطبيعة الاجتماعية للإنسان من البديهيات المعرفية والحقائق الواقعية التي لا يتجادل في صحتها اثنان، وبالتأسيس في التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع بمختلف مؤسساته وظواهره او تجلياته. وعليه فكلما وجد المرء في ما يدعى اصطلاحا بـ " الموقف الإجرامي" باعتبار تكتل لعدة عوامل ذاتية وموضوعية فردية او بيئية فان الجرم يصبح أمرا لا مفر منه وهذا ما أطلق عليه الباحث " انريكو فيري" في كتابه ( علم الاجتماع الجنائي) " بقانون التشبع " بحيث إذا اقترنت ظروف بيئية معينة بأحوال شخصية معينة وبعوامل محيطة معينة ينتج عدد من الجرائم المحددة، ومن ثم يرى الباحث ان الجريمة نتيجة حتمية لا بد ان تترتب على عوامل معينة، ولا يسع المجرم الا ان يرتكبها تحت تاثير هذه العوامل ( انظر كتاب المجرمون " للدكتور سعد المغربي والسيد احمد الليثي ص188).

 

ولقد ذهب العالم " كولياني" الى نفس الراي مضيفا ان الاستعداد الشخصي النفساني للجريمة ليس الا وليد ظروف معينة اجتماعية أحاطت بحياة المجرم لا سيما من الناحية الاقتصادية، ويؤكد مؤلفا المجرمون في إطار علاج السلوك الإجرامي الى ان المجرم قابل للإصلاح لإزالة الظروف المادية السيئة.

 

صفوة القول اذن انه هناك إجماع من كافة الباحثين على ان المجتمع الكبير كما يقول " كوهن" يساهم بشكل او باخر في تعليم الانحراف ( أسس علم النفس الجنائي، الدكتور سعد جلال ص229).

وان لهذه الحقيقة، كما هو غير خاف، مظاهر عدة وتجليات بارزة على بساط الواقع الإجرامي في المجتمع حيث ان القاء نظرة عابرة على مختلف الاتجاهات الاجتماعية في تفسير السلوك الإجرامي او على القضايا المعروضة على المحاكم بمختلف درجاتها لتؤكد بحق على المظهر الاجتماعي للجريمة.

 

ولقد ذهبت المذاهب المتشددة في هذا لتفسير الى اعطاء بعد اجتماعي بعد أحادي في تفسير السلوك الإجرامي، فمنهم من أعطى التنشئة الاجتماعية والتركيبية الأسرية خصوصا في حالة التفكك او الانهدام في الدور الأكبر ومنهم من ركز على العامل الاقتصادي وتدهور مستوى العيش الى غير ذلك من العوامل الاجتماعية المؤثرة في السلوك الاجرامي ومهما كان راي هذا الاتجاه او ذاك فان التفاعل جدلي بين شتى العوامل والظواهر الاجتماعية المؤثرة في السلوك الإجرامي الامر لا يتنازع فيه اثنان.

 

حيث انه من السهل مثلا الوقوف على هذه العلاقة في جل صور القضايا الإجرامية التقليدية فالجاني الذي نشا في أسرة مهدمة محرمة من الدرس والتنشئة الاجتماعية السليمة، وعاش نصف عمره وهو عاطل عن العمل او يبحث عنه متنقلا بين الحرفين والصناع او التجار الى ان فقد في نهاية الامر الأمل والى ان وجه في الاخير في لحظة في حياته بموقف إجرامي وهو اعزل اقتصاديا وعاطفيا يعيش على هامش المجتمع بلا بداية ولا نهاية، حينئذ تصبح جريمة حتمية حمقاء وضربا لازب بهدف منشود او حرية ولا اختيار، قد يعود اليها ويصبح القضاء نفسه عاجزا في تفريد العقاب كما ان هذا الأخير يعجز بدوره ان يؤتي ثماره او تحقيق وظيفته المنشودة الا وهي إصلاح المحكوم وإدماجه في حظيرة المجتمع كعضو مثمر ومواطن صالح …. 

 

ومن ثم فإذا كان علاج السلوك الإجرامي يجب ان يقوم على اساس فهم سيكولوجية المتهم، وطبيعة شخصيته فان عقابه يجب ان يراعي كذلك طبيعته الوجدانية، والظروف الاجتماعية التي ورطته في شقة الجريمة باعتبار ما سبق شرحه وتحليله في الفرع السابق من ان للإجرام مستويات مختلفة، ودرجات متباينة سواء من حيث الكم او الكيف الا ان تحميلنا للإرادة الإنسانية مسؤولية التصرف هو شطط وغلو، ذلك ان المجتمع كما يؤكد العالم الاجتماعي " دوركايم" يمارس على الفرد ضغطا خفيا، وقسرا اجتماعيا يدفع الفرد الى القيام بأعمال معينة دون ان يكون مسؤولا عنها ( كتاب " المجرمون" مرجع سابق ص189 ). 

 

وان هذا التحليل ليتماشى حقا مع مفهوم الحديث للمسؤولية الجنائية لدى انصار نظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة على اعتبار ان المسؤولية الجنائية ليست مسؤولية قانونية فحسب، كما تقول بذلك المدرسة التقليدية الجديدة، ولكنها مسؤولية اجتماعية، نظرا لان المجتمع هو الذي افرز المجرم بحكم عدة عوامل واسباب مثل التنشئة الاجتماعية، تفكك الاسرة باعتبارها الحلقة الفقرية للمجتمع الثالث على الخصوص، وازدراء الأوضاع الاقتصادية. وعليه فان المجتمع عندما يريد بذلك معاقبته ليس انتقاما منه ولكن حماية له منه ومن عواقبه . 

ومن ثم ينبغي الاهتمام بالعقاب من حيث نوعه وأسلوبه بشكل جد وهادف. وان التجربة تثبت بما لا جدال فيه بان هذه الغاية لا يمكن ان تتأتى الا بالقضاء على الاسباب والعوامل المؤدية للإجرام او المؤثرة فيه.

ومهما يكن من امر هذه المدرسة ونزوعها نحو ابتكار نموذج امتثالي في التجريم والعقاب، فإنها ادت على كل حال إقرار نتائج هامة من حيث أسلوبها العلمي في معالجه الجريمة القائم على اساس التجربة والملاحظة والاستقراء والتعامل مع المجرمين باعتبار معطياتهم النفسية او الاجتماعية وتفريد العقاب في هذا الإطار عند الاقتضاء.

 

وهكذا فان المجموعة الجنائية وان بقيت وفية للمدرسة التقليدية من حيث تقسيم الجرائم، وتصنيف المجرمين وإقرار مبدا المسؤولية الجنائية على اساس " حرية الاختيار" فإنها مع ذلك لم تردد في الميل الى المدرسة الحديثة تطبيقا لبعض إصلاحاتها في سبيل تفريد العقوبة، ولن يتأتى لها ذلك بطبيعة الحال الا بمراعاة ظروف الجريمة والمجرم على حد سواء في إقرار عقاب مناسب تحقيقا للوظيفية الاصطلاحية للجزء. ولهذا نصت المجموعة الجنائية في الفصل141 منها على ان للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحدين الأدنى والأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة، مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية اخرى.

 

وبتحليل هذا النص يتبين ان المشرع اقر سلطة القاضي التقديرية في تفريد العقاب، محددا له مقياسين في تقديره وتفريده وذلك بناءا على تقدير عنصرين اثنين يتمثلان في :

أولا : خطورة الموقف الإجرامي. 

ثانيا: مقومات الشخصية الإجرامية.

 

فإذا تبين للمحكمة الزجرية بعد انتهاء المرافعة في القضية المطروحة عليها ان الجزاء المقرر للجريمة في القانون قاس بالنسبة لخطورة او اهمية الأفعال المرتكبة او بالنسبة الى درجة الإجرام المتهم فانها تستطيع وفق مقتضيات الفصل146 من القانون الجنائي ان تمنحه حق التمتع بظروف التخفيف، بل ان محكمة الجنايات ملزمة من جهتها بالبث في وجود او عدم وجود ظروف مخففة في كل قضية تنظر فيها، حيث خولها القانون في حالة توافر عناصرها الحق في ان تقضي بعقوبة حبسية عند الاقتضاء دون ان تغير وصف او نوع الجريمة ( الفصل142 من ق. ج) . كما يمكن بحسب الأحوال الاقتصار على عقوبة حبسية موقوفة التنفيذ.

 

وان هذا ما اقره العمل القضائي الصادر عن المجلس الاعلى في عدة قرارات نورد منها ما جاء في القرار 1098 بتاريخ15 يوليوز1976 منشور بدليل القاضي في الميدان العملي ص180: " يجب على رئيس محكمة الجنايات ان يطلب من المحكمة عندما تقرر إدانة المتهم ان تبت في وجود ظروف مخففة، او عدم وجودها ثم يجب ان تنظر المحكمة في منح المحكوم عليه تأجيل تنفيذ العقوبة او اتخاذ تدابير وقائية ويتخذ القرار في جميع الأحوال بأغلبية حول كل نقطة على حدة ان دعت الضرورة الى ذلك ".

 

وان المقابل فان القاضي فان الميدان الجنحي يمكنه ان ينزل على الحد الأدنى المقرر في القانون مع شمول هذه المقتضيات حالة العود طبقا للفصل149 من نفس القانون كلما توافرت ظروف مخففة. وبطبيعة الحال فان تقدير الظروف الشخصية والاجتماعية للمتهم وهو تقدير موضوعي يبقى خاضعا لتقدير قاضي الموضوع، نظرا لكون تلك الظروف ترتبط ارتباطا وطيدا بالوقائع التي لا معقب عليها من طرف محكمة النقض.

 

وانه مما يميز المحكمة الجنحية او الجنائية عن غيرها من المحاكم المدنية على الخصوص بحكم اختصاصها وبطبيعة القضايا المعروضة، عليها والتي ترتبط بالحقوق الأساسية والطبيعة للإنسان هو خاصيتها الاجتماعية التي تعد في راينا مميزا فريدا لها ولإبراز هذه الخاصية بالذات يكفي القاء نظرة خاطفة على سير قاعات الجلسات المختلفة في نطاق مبدا العلنية الذي يحكم سيرها او بحكم تواجهية الخصومة القضائية فان المشاهد سيشد انتباهه على محال تراكم الجمهور الغفير امام قاعات انعقاد جلسات التلبس او الجنح العادية عن غيرها من القاعات الاخرى. تراكما ملحوظا تعلوه الحيرة والارتباك والمآسي .

 

فالنزاعات الكرائية او المدنية او التجارية وغيرها، فانها وان كانت تمس أطراف الخفيين في الدعوى غير انها لا تمسهم على النحو الذي يمس الذمة العاطفية للمتهمين او لأقربائهم او شعور الجماعة او الرأي العام. ومن هنا فان خطوة المحكمة الجنحية او الجنائية وان كانت تتمثل في كونها محكمة زجرية فإنها تكمن بالاساس في كونها محكمة اجتماعية غايتها اصدار أحكام عادلة حقا وإنسانية حقا، الا انه ينبغي على القاضي من اجل تحقيق ذلك على حد القول سابق الذكر لـ " جان ماكنريه" ان يرفع عينيه عن الملف الذي بين يديه وينظر الى المتهم ويفهمه قبل ان ينقل بصره الى القانون الذي سيستعين به للنطق بقراره ( مرجع سابق ص25).

 

وانه مهما اتسع لنا القول بالنسبة لمدى السلطة التقديرية المخولة للقاضي الزجري وحدودها مما تسمح به شرائع الارض والسماء واسباب النقض وموجباته فان حدود الإنسانية وموجبات الرافة والعدل لا حد لها في التطبيق .

 

وخلاصة القول ان التأثير الاجتماعي للعقوبة هو تأثير لا يقف حده في الواقع العملي لدى المتهم فقط بل انه ينتقل لا محالة الى أهله وذويه أصولا وفروعا وان هذا الاطار المجتمعي للعقاب له اعتباره على كل حال في تقدير العقاب او تفريده. كما ان العقاب الذي يقيد الشخص في حريته او يمنعه منها هو عقاب يبتدئ مفعوله النفسي والاجتماعي منذ الوضع تحت الحراسة، وان هذا التأثير ما يفتأ يزداد حجمه الى غاية صدور الامر بالإيداع في السجن مرورا بالمحاكمة والمراحل التي تمر منها، ولهذا فان تقدير منح السراح المؤقت ووقف التنفيذ اطلاقا من تقدير موضوعي للوقائع المنفصلة ولظروف المتهم الشخصية والاجتماعية مع اعتبار تصنيفه من بين زمرة الجانين او الجانحين من خلا ل البحث النفسي الاجتماعي الذي يشمل شخصيته، ويهدف الى تحديد درجة إجرامه وقياس استعداده ومعرفة نطاق التحاقه بعالم الاجرام وحدوده يكتسيان طابع الجدية والخطورة في مناقشة الافعال المنسوبة للمتهم وتقدير ولو على مستوى مناقشة ملتمس السراح المؤقت بعد تاخير القضية في الموضوع …

كل هذه العناصر يجب ان تدخل في الاعتبار سواء اثناء مناقشة ملتمس الإفراج المؤقت، او وقف التنفيذ الذين بقدر ما يعتبر تنبيها وإنذارا وعبرة سواء للاغيار او للمتهم خصوصا بالنسبة للمجرم العرضي او المجرم العاطفي او المجرم المذنب.

 

ولعلى هذا ما يجعلنا نولي الاعتبار والأهمية للتمييز ببين اصناف المجرمين : المذنب منهم، والآثم وللمجرم منهم بالصدفة او المجرم المحترف، حيث ان الجو العام للبحث التمهيدي او المحاكمة او الفترة التي يقضيها المتهم في السجن لاعداد الدفاع. كلها تكون بالنسبة للمشبوه فيه او المتهم عالما جديدا يطبع شعوره وكرامتها الانسانية لا محالة كما تجعل كيانه الاجتماعي موضع شبهة وضميره الديني والاخلاقي عموما في محك التجربة والتمحيص، هذا فضلا على ان ما يلقاه المتهم من صنوف المعاملات وجحيم الاخرين من معاناة اثناء هذه التجربة يجعل منها بمثابة قوة رادعة بالنسبة اليه لا محالة وعبرة للآخرين.

 

وعليه فاذا كانت قوانين المرافعات في جميع التشريعات كمقارنة تهدف بالأساس الى ضمان حقين أساسين: حق عام يرمي الى الحفاظ على الحقوق العامة وحماية مصالح الجماعة والمراكز القانونية للأفراد وبالتالي ضمان تطبيق القانون تطبيقا سليما. فان الحق الخاص الذي تصب الى تحقيقه تلك القوانين يتمثل في ضمان حرية المواطنين من جهة وضمان عقاب الملائم ليؤتي نتيجته المتوخاة من جهة ثانية، فان هذه القوانين في                         شقها المتعلق بالقضاء الزجري يجب ان تحقق بدورها لجهات التنفيذ ضمان النتائج المتوخاة من العقاب بوصفها شر لابد منه باعتباره وسيلة علاجية لا مناص منها سواء بالنسبة للشخص او الفرد او الجماعة، او في سبيل علاج السلوك الاجرامي عموما بوصفه ظاهرة اجتماعية.

 

ومن هنا بالذات فان للسياسة الجنائية القضائية بمفهومهما الحديث دور هائل. حيث ان الفقه الإجرامي المعاصر يؤكد من جهته على أهمية هذا الدور الذي يتمثل في مستويات حقوقية متعددة سواء على مستوى التجريم اذ انه يؤكد على دور وأهمية الميل نحو التجنيح في هذا الباب. كما يؤكد ايضا على الدور الذي تلعبه السجون سواء من حيث وضعها بالنسبة للعقل الجمعي او من حيث تنظيمها وكفاءتها البنيوية و البشرية على حد سواء، مما يتعبن معه تأهيلها كما وكيفا.

 

وفي هذا الصدد لقد سبق لاحد الباحثين الجنائيين التابعين لمؤسسة " سكوتلاندي" الذائعة الصيت ان وضع السؤال التالي : لماذا لا تلغى السجون؟ انه بهذا يعبر عن وجهة نظر طوباوية لا محالة، ولكن المقصود من ذلك التأكيد على وجود بدائل للعقوبات الزجرية وعزل بعض الفئات المحكوم عليهم داخل زنازين السجون بدون جدوى ويطرح على هذا المستوى عدة أمثلة كهذه البدائل التي من شانها ان تغني السياسة الجنائية العقابية من جهة، وتستفيد من السياسة الجنائية التشريعية والقضائية على الخصوص باعتبار السلطة التقديرية المخولة لهذا الاخير، ويشير الباحث المذكور في هذا الصدد الى بعض الامثلة لتطبيق سياسة العقوبات الزجرية البديلة في نطاق العمل القضائي المقارن نذكر منها مثل الشاب الذي حكم عليه في الولايات المتحدة الأمريكية بتنظيف الشوارع والأزقة بسبب ممارسته الكتابة على الجدران مثال يتعلق بنظام الاختبار القضائي ووقف التنفيذ على نطاق واسع حيث ان المحكوم عليه بعقوبة لا تتجاوز الشهر الواحد مثلا لن يقضي عطلة نهاية الأسبوع كاملة بالسجن ابتداء من الساعة الثانية بعد الظهر الى غاية السادسة صباحا من يوم الاثنين حيث يمكنه الالتحاق بعمله العادي وهكذا الى ان يقضي العقوبة المحكوم بها، كما يمكن في هولندا وبريطانيا مثلا ان يتم الاتفاق على عقوبة معينة ومرنة بين المذنب او محاميه والمحكمة على ان يكون نوع العقوبة مستمد او مستوحى ما أمكن ذلك من الذنب المرتكب من طرف المحكوم عليه، كما ان العمل القضائي في بريطانيا دأب في قضائه على ان تعود العقوبة بالنفع على الجماعة او من اجل المصلحة العامة كالعمل بالمصالح العمومية دون مقابل إما في الأيام العادية او ايام العطل الأسبوعية والأمثلة في هذا الاتجاه كثيرة ومتنوعة.

 

حيث يبقى للقضاء في هذا الباب مجال واسع لتطبيق السلطة التقديرية في ابتكاره بدائل للعقوبات الزجرية انما بودنا لو تم تعزيز هذه السلطة على مستوى التشريع من خلال التنصيص على مجموعة من البدائل الاختيارية او الإجبارية بحسب نوع المخالفات او الجرائم المرتكبة وذلك حتى تطمئن السلطة القضائية اكثر في اداء رسالتها .

 

خاتمة :

ان البنيان الاجتماعي باعتباره نسق يبدو في مظهره بمثابة آلية زمانية ومكانية تتحكم في بنيته ان أفقيا او عموديا. وهكذا فان إفراز ظاهرة الإجرام هي عملية نابعة من نفس صلب تلك الآلية .

 

غير ان هذا لا يعني انتفاء سلطة " فوق – آلية" اذا صح التعبير هي التي تقبض بزمان تلك الآلية، حيث يفترض فيها انها تملك كذلك القدرة على تغييرها وإصلاحها او تصحيح مسارها عند الاقتضاء.

 

الا ان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو : كيف يمكن تفسير عجز تلك القوة على تحقيق ذلك؟ وما هو سر فشله في الحد من سير ظاهرة الإجرام؟

ان الجواب في رأينا يرجع بالأساس الى اقتصار التشريع على الوسائل القانونية بهدف الردع والعقاب دون غيرها من الوسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الشيء الذي يشل تاثير وفعالية الوسائل القانونية تلك.

 

وبالفعل، فإني حاولت لإظهار هذه الثغرة على ضوء الدراسة السالفة إبراز أهم العوامل المؤثرة في السلوك الإجرامي الشخصية منها والاجتماعية فضلا على إبراز العوامل الفرعية المنضوية تحت هذه الاخيرة حيث تجلت بوضوح العلاقة الجدلية، والفعالية المتبادلة بين عناصر البحث سواء منها الذاتية او الموضوعية.

 

ويستنتج من ذلك ان الجريمة ضريبة يؤديها الجانون والجانحون مقابل انعدام التوازن الاجتماعي والتحقيق الفعلي لمبدأ حماية المراكز القانونية ومصالح كافة أفراد المجتمع على قدم المساواة، الشيء الذي يجعل من الجريمة مظهرا لتمزق وصراع الفرد الواقع تحت تأثيرها، حيث يتمظهر ذلك التمزق على مستويين :

 

المستوى الاول:

يتخلص في صراع الفرد مع نفسه وهو المستوى المرضي ( الباطولوجي) للجريمة من الناحيتين النفسية العقلية وهو يمثل في عجز "الأنا الواعي" عن تحقيق التوازن بين رغبات " اللاشعور" او العقل الباطني وضوابط " الأنا الاعلى" مما يؤدي الى احباط القوى النفسية للفرد يترتب عنه ضعف الشخصية امام قوى الإجرام

 

المستوى الثاني:

فانه يتمثل في صراع الفرد مع المجتمع الناتج عن إحساسه الحاد بالتفاهة والقهر والتهميش، حيث يتوقف ذلك الإحساس في بداية الامر في مختلف المظاهر الاحتجاج الاستعراضية فردية كانت او جماعية، التي تبقى بدون جدوى مما يؤدى الى توالد قوى الانتقام امام إحساس الفرد واقناعه بعدم مسؤوليته في ما قد يؤول اليه مصيره مصداقا لقول الشاعر العربي:

"

" هذا ما جناه علي ابي وما جنيت على احد"

غير ان مفارقة مثل هذه لا تخفى خطورته على احد ذلك ان التمييز بين مصلحة الفرد والجماعة يجعل الفرد في موقف انعزالي ومتعارض مع المجتمع وبالكاد مع الدولة.

 

اكيد ان ديناميكية التطور الاجتماعي تتسم بآلية سريعة الحركة بالنسبة لمختلف مكوناتها الشيء الذي يجعلها تتجاوز جل المخططات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المرسومة لتحقيق التكامل بين مصالح كافة القوى البشرية وبالتالي من اجل وضع حد للكثافة الإجرامية التي يعرفها المجتمع نظرا لان خصوصية تطور المجتمع ونموه يفرز بعض المعوقات التي تعترض سبيل القضاء على ظاهرة الإجرام نذكر منها على سبيل المثال في هذه العجالة.

 

أ‌-    أهمية حجم النمو الديموغرافي ووتيرته الهندسية المتصاعدة التي تقضي بالنظر لعدم الاحتياط لها على الغث والسمين مما قد يتحقق من تقدم.

ب‌- تاثير العامل الاقتصادي ونوع أسلوب الإنتاج وتوزيعه على مختلف القوى العاملة ومدى تلبية كافة حاجياتها الضرورية بحسب مقدار الدخل المحصل عليه.

ولعلى أهمية هذا العنصر تتجلى في كونه يمس طبقة اجتماعية كبرى تضم تحت لوائها شرائح متعددة يشكل أفرادها القاعدة الأساسية بالنسبة للكثافة الإجرامية .

ت‌- الحالة الثقافية الراهنة ومستوى الوعي الجمعي ومدى انتشار الأمية والجهل واستفحالهما فضلا على مقدار الوازع القيمي ( الاكسيولوجي ) لدى الأفراد، كلها عوامل ذاتية ( فكرية وروحية) تساهم في تقوية او ضعف الميول الاجرامية في المجتمع … الى غير ذلك من الفعاليات الاجتماعية التي تؤثر في السلوك الإجرامي في المجتمع مباشرة او بصفة غير مباشرة.

 

ومهما يكن من امر فان امر محاربة ظاهرة ا لاجرام مسالة تقتضي سياسية جنائية صريحة واضحة ومعلنة، خصوصا وان تكتل عوامل اقتصادية واجتماعية معينة يعد شرطا يؤدي حتما الى تراكم وتكاثر الإجرام ولهذا فانه يتعين امام هذا الخطر الداهم إقرار سياسية جنائية تقوم على المبدأ الصحي القائل " الوقاية افضل من العلاج" اذ ان العلاج كثيرا ما يستعصى عند استفحال الداء، بالمثل فان الاتكال على الزجر او العقاب ليس من شانه علاج داء الإجرام نظرا لان الشرط الذي تقطعه ظاهرة الإجرام منذ ظهور عوارضها الى غاية تشخيص المرض تكون ظاهرة قد استفحلت وتمكنت جذورها في البنيان الاجتماعي بحيث ان استئصالها حينئذ سيهدد البنية الاجتماعية ككل.

 




تعليقات