القائمة الرئيسية

الصفحات



دور الطب الشرعي في الكشف عن الجريمة

 


 

                                        دور الطب الشرعي في الكشف عن الجريمة

 

للمحامي نجاح سعيد حمشو

من فرع دمشق

 

يعتبر الطب الشرعي فرعا من فروع العلم التي تتعلق بتطبيق القانون. ويرجع منشأ هذا العلم إلى عهد الإغريق، وخير دلل على ذلك قسم " أبيقراط" الخالد الذي يقسمه الأطباء، والذي ينص على عدم إعطاء سموم أو النصح بتعاطيها، وعدم المستعدة في الإجهاض، هذا قد أملى التعاليم الفلسفية لمهنة الطب لأكثر من ألفي عام خلت .

 

ولقد بقي التعرف على المجرمين عملا وليد المصادفة، يعتمد كلية على التعرف الشخصي بواسطة الشهود إلى أن ظهرت طريقة " ألفونس برتييون" رئيس مكتب سجل المجرمين بباريس وتسمى طريقة برتيلوناج.

 

وتعتمد هذه الطريقة أساسا على أنتروبولوجيا المجرمين (1) للأستاذ سيزار لومبروزو، وتتلخص في أخذ مقاييس دقيقة للمجرمين وهم في السجن، وتسجل هذه المقاييس والأوصاف في سجل خاص، بحيث لو سجل المتهم مرة أخرى أمكن التعرف عليه بمقارنة مقاييسه بتلك الموجودة والمحفوظة في السجل.

 

وفي عام 1894 وضعت طريقة برتيللون موضع التطبيق في إنكلترا وظهر إلى الوجود سجل مقاييس أعضاء الجسم، وأعطيت التعليمات لجميع السجون فيها لقياس الأعضاء التالية لكل سجين، واستخدمت في ذلك أجهزة قياس خاصة.

 

طول الرأس

عرض الرأس

طول الإصبع الأوسط لليد اليسرى

طول القدم اليمنى

طول الذراع الأيسر

وهذه القياسات الخمسة هي وسيلة التعرف المبدئي، وكانت تطلب من السجون المعلومات التالية للتعرف النهائي:

طول الجدع والشخص جالس

طول الأذن اليمنى

عرض الوجه

طول الإصبع الوسطى لليد اليمنى

لون العينين

 

ولما كانت طريقة برتيللون مبنية على القياس المتري، لذا وجد ضباط السجون الذين أنيطت بهم مهمة القياس بعض الصعوبة في تطبيقها. ومن الجلي أنه لكي تكون هذه الطريقة صحيحة يجب أن يكون القياس دقيقا للغاية وإلا فشلت تماما. كما أن قياس سجين مطيع عمل سهل لا تكتنفه صعوبة، بحلاف قياس سجين مشاكس وممتنع يستحيل قياس أطوال بالضبط.

 

وبحلول عام 1899 أصبح أن هذه الطريقة الجديدة غير فعالة، لأن المقاييس التي أخذت لم تكن دقيقة كافية، واتجه الاهتمام إلى التعرف على المجرمين عن طريق بصمات أصابعهم، واستقر الرأي على اتباع طريقة الجمع بين بصمات الأصابع وقياس أعضاء الجسم. والجدير بالذكر أنه لم تكن في هذه الحقبة من الزمن معلومات وافية عن التعرف على الشخصية بواسطة البصمات، ورغم أنه يسجل للصنيين فضل معرفة بصمات الأصابع منذ عدة قرون، إلا أنهم لم يساهموا كثيرا في تقدم علم البصمات.

 

وكان البروفسور "جوهانس ايفا نجيليست بيركنجي" أستاذ التشريح وعلم وظائف الأعضاء بجامعة برسلو البريطانية قد لاحظ أن أطراف الأصابع تحمل خطوطا ذات نظام خاص. وفي عام 1877 ادخل الدكتور "هنري فولدز" طريقة لتسجيل بصمات الأصابع مستخدما حبب المطابع، وفي عام 1896 أثبت السير "فرانس جالتون " الحقيقة التي تقول أن نمط البصمات ومميزات خطوطها ثابت لا يعتريه أدنى تغيير مدى الحياة. وكان أول من أوجد طريقة تصنيف وتسجيل بصمات الأصابع في سجل خاص هو الإنكليزي " أدوار هنري" وسميت "بطريقة هنري" ومنذ ذلك التاريخ شقت بصمات الأصابع - كطريقة للتعرف على الجناة -طريقها.

 

وما أن بدأت أقسام بصمات الأصابع في جمع سجلاتها وتصنيفها، حتى أصبح واضحا أن تحقيق الشخصية عن طريق قياس الأعضاء بدأ يفقد أهميته، وأثبتت الإحصائيات الجنائية عقم نتائجها. ففي 99 حالة من كل مائة، كان الأشخاص الذين يتطوعون لتزويد الشرطة بمعلومات عن المجرمين يخطئون في التعرف عليهم هذا بالإضافة إلى عدم الدقة في آخذ المقاييس المطلوبة.

 

وكانت الخطوة التالية للكشف عن الجريمة بالوسائل العلمية في عام 1909 عندما استحدثت طريقة جدية فعالة للتعرف على المجرمين . وهي مبنية على تقسيم المجرمين على فئات تبعا للطرق التي يتبعونها في ارتكاب جرائمهم وسميت بطريقة "أسلوب الجريمة"

وفي الفترة بين عامي 1910-1930 أظهرت بعض جرائم التسمم المثيرة الحاجة الماسة إلى تحريات عليمة، وكانت محاكمة "هولي كريبن" الأولى في سلسلة التحريات التي كان دور الطب الشرعي في اكتشافها كبيرا لسببين: الأول، هو العناية الفائقة التي فحصت بها بقايا الضحية، والثاني، التحاليل التي قام بها الأطباء الشرعيون وتوصلوا بها للكشف عن اسم المستعمل وهو "الهايوسين".

 

وكانت السياسة العامة يستدعي الأمر. وكان يترك لضباط الشرطة أو القضاة مهمة الحصول على أصوب الآراء وأفيدها ومن ثم كانت مصلحة الكيميائية والفيزيائية، كما كانت الجامعات عونا كبيرا في أغلب الأحيان. وفي الواقع فإنه كان تستشار أحسن الأخصائيين في جميع فروع العلم، وفي إحدى المناسبات استعين بخبرة أحد البحارة الإنكليز كان يهوى جمع علب الثقاب لإبداء رأيه في عود ثقاب. وفي مناسبة أخرى استشير أخصائية الأحياء البحرية الفرنسيون للتعرف على بعض الكائنات المجهرية الدقيقة التي وجدت بين أصابع قدم بشرية مقطوعة

 

وكان نظام طلب معونة الخبراء المستقلين نظاما حميدا، ويمكن القول بأنه بهذه الطريقة وحدها أمنك الانتفاع بأحسن الخبرات والآراء.ومع اضطراد وزيادة الإجرام ازداد البحث عن علماء متخصصين لإبداء الخبرة في فورع العلوم الشرعية، على جانب كبير من التخصص ليس له مثيل خارج مجالات علوم الإجرام. وباتت الحاجة الماسة إلى أبحاث وعلوم الشرعي، وتثقيف رحال الشرطة والقضاة لا ليصبحوا علماء بل لتعريفهم بما يمكن أن يقوم به العلم لمساعدتهم في التحريات .

 

لهذه الأسباب مجتمعة ظهرت أهمية وضرورة إنشاء مؤسسات الطب الشرعي رغم معارضة الكثيرين وقد اقتصرت في البدء على إلقاء المحاضرات على المحققين والأطباء الشرعيين مع استعدادات ضئيلة لتشريح الجثث. ثم تطور الطب الشرعي فأصبح يلم بالتغييرات التي تحدث بالجثة الوفاة، والتعرف على بعض الآلات التي قد تستعمل في أحداث الغابات ونوعها، وتاريخ حدوثها، ودراسة خواص السموم وأنواعها، وتاريخ حدوثها، ودراسة خواص السموم وأنواعها، وطرق البحث عنها ومعرفة أعراضها وطرق إسعاف المصابين بها، وتمييز البقع الدموية ومصدرها.

 

وقصارى القول فقد أصبح بمقدور الأطباء الشرعيين أن يطبقوا معلوماتهم على الحوادث التي قد تعرض عليهم، وأن يكونوا على استعداد للإجابة على الأسئلة التي قد توجه إليهم:

من هي الضحية؟

هل الحادث جريمة قتل أم انتحار؟

متى حدثت الوفاة؟

ما هي أداة الجريمة؟

هل تم الإجهاز على الضحية من الأمام أو من الخلف، وهل استعمل المهاجم اليد اليمنى أم اليسرى؟

هل هناك أدلة على إصابة الجاني؟

وفي حالة تعفن الجثة أو تشويهها هل هي لذكر أم لأنثى وما هو سنها وأوصافها؟

 

هذا ويمكن تعريف الطب الشرعي بأنه:

"فرع من فروع الطب خاص بإيضاح المسائل الطبية التي لها علاقة بالحوادث التي تعرض أمام المحاكم بغية التعرف على طرق ارتكاب الجرائم وكيفية وتاريخ حدوثها وذلك بالوسائل الفنية التي تستند إلى أدلة عملية".

ويبدو من المستحيل في هذا البحث أن نسرد، ولو المبادئ الأولية لباثولوجيا المرض أو الطرق التي يتبعها الطبيب الشرعي للحصول على المعلومات المطلوبة .وقد رأيت أن أسرد بعض الجرائم التي توضح بجلاء أهمية دور الطبيب الشرعي في مسرح الجريمة.

 

في صبيحة 19 تموز 1971، توجه أحد أصحاب الفنادق في مدينة حلب إلى إحدى غرف النوم بالطابق الرابع، وطرق باب الغرفة عدة مرات، ولما لم يرد أحد على النداء اضطر لفتحه بالمفتاح العام. ولشد ما كانت دهشته عندما شاهد على حافة المخدع جثة لفتاة مغطاة جزئيا بأغطية السرير. فاستدعى رجال الشرطة هاتفيا الذين سرعان ما حضروا.وكان أثاث الغرفة بسيطا يتكون من خزانة الملابس ومنضدة للزينة وسرير . وبدأ جسد الفتاة عاريا وهي ملقاة على ظهرها وبها عدة لإصابات بالغة بالوجه، وفمها محشو بمنديل. وبعد أن تأكد الطبيب الشرعي من الوفاة. كانت أولى ملاحظاته وجود حالة طبية تعرف بالهيبوستاتيس على صدر الفتاة وبطنها وفخذيها. وهي حالة تنشأ بعد الوفاة، وسببها برودة الدم وتخثره في السطح السفلي من الجسم، ولما كانت هذه الحالة موجودة في الجزء العلوي من الحسم فإن ذلك يعد دليلا قاطعا على أن الجثة أديرت على الوجه الآخر.

 

إذن فمن الذي غير وضع الجثة؟ وعندما ضيق رجال الشرطة الخناق على صاحب الفندق اعترف بأنه هو الذي غير وضع الجثة.

وقد بدا أن الوفاة حدثت بالخنق باليد بعد عدة لكمات على الوجه كسرت الأنف ومزقت الفم وتأيد هذا الافتراض عند تشريح الجثة، إذ وجد بها كسر في العظم الدامي الذي يحمي الحنجرة .

 

كما دلت درجة حرارة الجسم على أن الوفاة حدثت منذ خمس ساعات أي حوالي الساعة السادسة صباحا. ومن المعروف انه عندما يبرد الجسم بعد الوفاة يتصلب وهذه حالة معروفة طبيا بالتيبس الرمي. وتتخذ ظاهرة التيبس صورة ثابتة في منطقة الرأس والرقبة ، ثم تزحف إلى أسفل القدمين، وبعد أن يظل الجسم متيبسا تيبسا كاملا عدة ساعات يبدأ في الزوال سالكا نفس الاتجاه أي من الرأس باتجاه القدمين. وبهذا يمكن للطبيب الشرعي أن يحدد بالتقريب وقت الوفاة وذلك من الصفة التشريحية ودرجة حرارة الجسم. في هذه الجريمة كانت عضلات الفك متيبسة وكذلك عضلات الذراعين، إلا أن التيبس لم يكن قد وصل إلى البطن أو القدمين فكانتا في حالة استرخاء، مما عزز رأي الطبيب الشرعي في أن حدوث الوفاة كان حوالي الساعة السادسة صباحا.

 

ومن المعروف أنه عندما تحدث إصابة بالغة بالجسم ينبثق الدم من الجرح فإذا ما صدف حائطا فإن اصطدمه به يكون بقعا على شكل الكمثرى يشير طرفها المدبب في اتجاهين مختلفين وقد تبين أن أرض الغرفة كانت مغطاة بسجادة وكانت حاشية الغرفة البيضاء ملوثة بآثار دماء كمثرية الشكل طرفها المدبب في اتجاهين مختلفين مما يوحي بوجود احتمالين : أما أن الجني لكم الضحية أكثر من لكمة أو أنه نفسه قد أصيب. وكانت الخطوة التالية هي تحديد الفصيلة التي ينتمي إليها الدم العالق بحاشية الغرفة . وقد أظهر التحليلي أن إحدى البقع المتجهة من اليمين إلى اليسار تنتمي إلى الفصيلة  (أ). بينما كانت البقع المتجهة من اليسار نحو اليمين تنتمي إلى الفصيلة (ب) .

ولا كان دم الضحية ينتمي للفصيلة (أ) فقد كان من الجلي أن القاتل نفسه لابد وأن يكون قد أصيب بجراح. وتأيد هذا الافتراض باكتشاف آثار ضـئيلة من الدم البشري ، تحت أظافر الضحية، تسمح كميتها بتحليلها.

 

وثمة دليل آخر يدمغ القاتل، وهو الشعور على شعر أصفر باهت على حافة الفراش. ولم يكن هذا الشعر يمت بأية صلة لشعر الضحية أو يشبهه إطلاقا.وذلك يعني أن القاتل لابد وأن شعره أصفر باهتا قريبا للبياض. كما يحتمل أن تكون على وجه الجاني آثار سحجات وربما على ظهر يديه، ولابد أنه غادر الفندق حوالي الساعة السادسة صباحا. ولما سئل صاحب الفندق عن الذي استأجر الغرفة، أفاد أن شخصين، رجلا والمرأة القتيل، حضرا في ساعة متأخرة من الليل حوالي الواحدة صباحا، ولم يكن يعرفهما قبل ذلك . إلا أنه أضاف أن الرجل كان ذا شعر أصفر باهت يتراوح عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين وكان وصفه للرجل غامضا.

 

وبعد أن تم الكشف على الجثة نقلت إلى المشرحة للتشريح والتأكد من الافتراضات التي أبديت في أسباب الوفاة.

وفي نفس الوقت بدأت التحريات، وركز رجال البحث الجنائي تحرياتهم على سيارات الأجرة، وبداوا باستجواب السائقين فيما إذا كانوا اركبوا حوالي الساعة السادسة صباحا رجلا أصفر الشعر في الثلاثين من عمره، كما يحتمل أن تكون يداه ووجهه بحالة نوف. ولقد جاءت التحريات بنتائج مثمرة، إذ أفاد أحد السائقين أن رجلا أصفر الشعر ركب معه في شارع بارون الساعة السادسة والربع صباحا، ولاحظ أنه يغطي خده بمنديل وحين سؤاله له عن السبب أجابه الرجل بأنه جرح أثناء حلاقة ذقنه، وقد أوصله إلى فندق صغير في منطقة باب الفرج، إلا أنه لم يعثر على المتهم هناك، لكن علم أنه سيعود بعد قليل، واتخذت الإجراءات لترصد قدومه وفعلا وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر أشار صاحب الفندق إلى شخص يتجه باتجاه باب الفندق ويشع إحدى يديه في جيب معطفه، وعندما هم رجال الشرطة بإلقاء القبض عليه أشهر مسدسا وأطلق النار على رأسه منتحرا. وظهر عند تشريح جثته أن دمه ينتمي إلى فصيلة (ب) ، وأن شعر رأسه أصفر باهي كما وجدت نبذات بفخذه وذراعه مطابقة لخدوش الأظافر .

 

ولقد تبين بالنتيجة أن الفتاة، وتدعى (ص.س) قد غادرت بيت أهلها منذ طويلة وهي من أرباب السوابق في تعاطي الدعارة السرية، أما المنتحر فقد كان ابن عمها الذي أفاد أهله وأقربائه أنه سبق أن قرر الانتقام منها لما سببته من سمعة سيئة للعائلة. كما دلت التحريات على أن الضحيتين لم تعطيا اسميهما الحقيقيين في الفندق الأول أو الثاني.

 

وهناك حوادث عجيبة تفنن فيها قاصدوا الانتحار لتبدو كما لو كانت جرائم قتل أو تحايل القتلة آملين أن تبدو جرائمهم وكأنها حوادث انتحار.

فلقد انتشلت جثة رجل من أحد الأنهار وبتشريحها وجد بالجزء الأمامي من الجمجمة مقذوف ناري مفلطح الرأس. وكان ك الطبيعي أن يثير ذلك الشك في سبب الوفاة. وعندما عرفت شخصية القتيل أمكن التوصل إلى أن هذا المقذوف موجود في رأسه منذ أمد طويل، أثر محاولته الانتحار، كما اتضح من تشريح الجثة أن الوفاة نتجت عن الغرق، وبمعرفة شخصية القتيل وتاريخه السابق لم يبق هناك أدنى شك في أنه تعمد الانتحار غرقا .

 

وكثيرا ما تكون حوادث الموت غرقا معقدة للغاية، وطالما ورد السؤال التالي: هل الحادثة انتحار أم جريمة قتل؟ لذا كان من الأهمية بمكان أن يتقرر ما إذا كانت الوفاة قد حدثت قبل أو بعد نزول الجثة في الماء. إذ من المعلوم أن الوفاة تحدث نتيجة للاسفكسيا (الاختناق) (2) . كما أن الجهود العضلي الذي يبذله الغريق لرفع رأسه في الماء يؤدي إلى عكس ما يرجوه، إذ يعمل على غمر جسمه كله في الماء، كما يندفع بعض الماء إلى الحلق أثناء ذلك، ويوجد البعض الآخر طريقه إلى المعدة والرئتين.

 

إلا انه نتيجة لانسداد الشعب الهوائية بالمخاط فإنه يتعذر  التنفس لدرجة تنتج عنها الغيبوبة ثم الوفاة. غير أنه ليس مؤكدا أن تكون رئتا الشخص الغارق مليئتين بالماء. وفي غمرة اليأس يقبض الغريق على أي شيء يصادفه ، لذا يجب الاهتمام بفحص الأيدي اهتماما خاصا للتأكد مما إذا كان الجسم حيا أثناء نزوله إلى الماء، نتيجة وجود بعض البقايا فيها.

 

وهناك أيضا علامات باثولوجية توجد في أجسام الغرقى، ولا تظهر على الجسم إذا وضعت الجثة في الماء بعد الوفاة، وأوضحها دليلا وجود رغوة مخاطية مائلة للبياض حول فم الأشخاص الغرقى. وليس هناك قاعدة للتحقق من الفترة التي قضاها الجسم في الماء. فلقد وجدت جثة رجل في أحد الأنهار، وساد الاعتقاد بأنه سقط في الماء وغرق، إلا أنه اتضح بعد تشريح الجثة أن الوفاة حصلت قبل نزوله الماء، وأثبتت التحقيقات فيما بعد أن هناك من تبعه بعد خروجه من إحدى الحانات وقتله، اعتقادا منه بأنه يحمل مبلغا من المال.

 

وفي كثير من الحالات أمكن التعرف على المكان من النهر الذي نزل فيه الشخص إلى الماء، وذلك بمعرف فصيلة الحشائش النهرية التي توجد في الماء المستخرج من معدة ورئين الضحية ، ومقارنتها بتلك التي تنمو في الماء، ويعتبر الغرق بلا شك السبب الوحيد من أسباب الوفاة التي يثار حولها الجدل فيما إذا كانت انتحارا أو أن الحقيقة جريمة ارتكبت.

 

ومن الحوادث الغربية حادثة اكتشفت فيه جثة شخص ملقاة في حفرة ضحلة في مكان  قريب وقد بدا انه لم تبذل أية محاولات لدفن الجثة التي كانت بكامل ملابسها، وكان حول الرقبة حبل. ولما كان من المعروف عن بعض المرضى الشواذ أن يعلقوا أنفسهم من الرقبة إرضاء لشذوذه من وان هناك حوادث عديدة نتيجة لهذه التصرفات الغريبة، فقد تبادر إلى ذهن المحقق في بادئ الأمر أن هذه الجريمة من هذا النوع، وأن القتيل كان يمارس تصرفاته الشاذة بالحبل فنزلت قدمه وتوفي. ومن سوء الحظ أنه لم يكن بالإمكان إجراء كشف (باثولوجي) شرعي دقيق، وذلك لأن الجثة نقلت بسرعة إلى المشرحة وانه لم ير الجثة أحد من الأطباء الشرعيين حتى ساعة التشريح. وظهر من تشريح الجثة أن الوفاة كانت نتيجة الخنق.

 

ودائما يسأل الطبيب الشرعي لإبداء رأيه في نوع السلاح المشتبه في إحداثه لإصابات في جسم الضحية، ويحالفه الحظ إذا عثرت الشرطة على السلاح المستعمل في الجريمة.. إذ كثيرا ما تكون الآراء متناقضة وضربا من ضروب التخمين. وكل ما يمكن قوه أن الإصابات تطابق إصابات يحدثها ذلك النوع أو ذاك من السلاح، وهناك بعض أنواع خاصة من الإصابات تبدو عند النظرة الأولى مطابقة للغاية كما هو واضح من الحادث الذي نسرده .

 

استدعى أحد الأطباء الشرعيين لمعاينة جثة امرأة وجدت ملقاة على الحشائش النامية في جانب أحد الطرق وكان بالجثة كسر في الحاجز الأنفي.ونتجت الوفاة عن الاسفكسيا الناتجة عن انسداد القصبة الهوائية بالدم الذي نزفته الضحية من الأنف. كما وجدت ملابسها ممزقة من الأمام، وكان بها عدة إصابات يوحي بما لا يقبل الشك بأنه اعتدى عليها، ثم قتلت .. غير أن الواقع، كان غير ذلك تماما فقد صدمتها دراجة قادمة من الأمام بينما كانت تنحني وهي في الطريق المظلم، كما أن الدراجة لم تكن مضيئة. وعندما شاهد راكب الدراجة - وهو حدث في السابعة عشر من عمره- السيدة، وهي تنزف وترقد في بركة من الدماء هاله المنظر واستولى عليه الذعر فحملها بين ذراعيه إلى منزل قريب وبينما هي مستلقية على ذراعيه، اندفع الدم من جراح انفها وسد القصبة الهوائية فماتت على الأثر فما كان إلا أن حملها خارجا ووضع جثتها على الحشائش وولى الأدبار .

 

ويندر جدا أن تكون إصابات السكين المميتة قضاء وقدرا.. فهي إما أن تكون حوادث انتحارا وأما جرائم قتل.وتكون الجروح الناشئة عن محاولة الانتحار عادة في العنق ويكمن مشاهدة تأثير تردد المنتحر في بداية عملية الانتحار، وسبب ذلك عدم السيطرة على الأعصاب في بادئ الأمر، ثم تتملك المنتحر نوبة من الشجاعة فيحدث في نفسه الجرح القاتل. وكثيرا ما نجد في حوادث الانتحار تشبث الضحية بالموسى أو المدية التي انتحر بها. أما في الجرائم القتال فينذر جدا أن ترى جروحا قاطعة إلى إذا كانت الضحية موثوقة اليدين أو في وضع يمنعها من الدفاع عن نفسها بطريقة ما. ولها فإن القتال يكون عادة نتيجة الإصابات التي تنشأ عن الطعن.

 

ومن السهل اكتشاف جرائم القتل عن طريق الجروح التي توجد على أيدي وسواعد الضحية، والتي تنشأ من محاولة المجني عليه حماية وجهه أو المجهود الذي يبذله لاختطاف السلاح من القاتل. ولا توجد مثل هذه الجروح على الأيدي عندما تكون الطعنات موجهة لظهر الضحية.

 

وبما أنه يكاد يكون من المستحيل أن ينتحر شخص بأن يطعن نفسه في الظهر، فإنه الجزم في هذه الحالة بأن الجريمة جريمة قتل. وتعتبر جرائم القتل بالطعن بالسكين من الجرائم الشائعة في بلادنا، كما لأنه كثيرا ما يكون عنصر سبق الإصرار متوفرا في مثل هذه الجرائم.. بل كثيرا ما تحدث عندما يفقد القاتل أعصابه وتتملكه نوبة من الغضب المفاجئ مما يجعل المحقق يواجه عدة مشكلات .وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر هذا النوع من الجرائم وهي تلوث ملابس القاتل بدماء الضحية في بعض الأحيان،وانه من الصعوبة بمكان أن يتخل من كل هذه البقع والآثار.ويعتبر التل بأداة غير حادة أكثر شيوعا، وكما هو الحال في حالات الطعن فإنه كثيرا ما تتلوث ملابس القاتل بدماء الضحية.

 

ولا يعتبر القتل في حد ذاته معضلة بالنسبة للقاتل وكثيرا ما يمون غير متعمد إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه القتلة،هي التخلص من جسم الضحية. ويملك المجرمون الجسورون حيلا وحشية كي لا ينكشف أمرهم. وهناك جرائم عديدة مزق فيها الجناة أجساد ضحاياهم وشوهوها حتى يصعب التعرف عليه. وتعتبر هذه الحوادث من أصعب الجرائم وأعتقدها بالنسبة للمحقق، إذ أنه ما لم تعرف شخصية القتيل فإنه يكاد يكون من المستحيل معرفة دوافع الجريمة. وسجلات الشرطة حافلة بعدة جرائم من هذا النوع، لم يتمكن المحققون من إجلاء غموضها وحل رموزها .

 

ولا يقع عبء التحقق من بقايا الضحية وشخصية صاحبها على عاتق الطبيب الشرعي وحجه إذ كثيرا ما تطلب معونة عالم التشريح، والكيميائي، والبيولوجي بالإضافة إلى المصور وصانع القوالب. وطبيعي أن تختلف طبيعة العمل من جريمة إلى أخرى.ويصور لنا الحادث التالي بعض تفاصيل المحاولات التي تبذل للتعرف على شخصية القتيل :

 

بينما كان صبيان صغيران يلهوان بالقرب من طريق زراعية رأي أحدهما جسما ضعف كرة القدم راقدا في بكرة ماء فجرفه فوق الطين.وقد كانت رائحته كريهة للغاية فدفنه هو وصديقه تحت أوراق الشجر. وفي يوم الثلاثاء التالي وبينما كان الصبية يلعبون بالقرب من نفس البركة عثروا في الماء على جسم آخر تبين بعد انتشاله أنه ذراع آدمية، فأبلغ الصبية النبأ إلى بعض المارة الذين ابلغوه بدورهم إلى الشرطة.

 

وقد كانت اليد والذراع مقطوعة بنشر عظام الكتف،وكان من الصعب إبداء رأي قاطع عن المدة التي قضتها الذراع في قاع البركة، أكثر من أنها بقيت فترة طويلة في الماء . ودلت اليد على مدى اعتناء صاحبها بها أثناء حياته، فكانت الأظافر مدببة ونظيفة حتى أن الاعتقاد اتجه إلى أن هذه اليد لسيدة. وقد قام خبراء البصمات بفحصها دون طائل.

 

وكانت الخطوة التالية هي الكشف على بقايا الجثة بدقة وانتظام وقد اتخذت تدابير واسعة لتفتيش البركة وأمكن التقاط بقايا آدمية أخرى، وكان واضحا أن بقايا جسم بشري مشوه ترقد فوق الطين فغي قاع البركة وتمت بنجاح علية انتشال باقي أجزاء الجسم.

وعند تجميع هذه البقايا ، كونت جسما يكاد كاملا لرجل. وكان هذا الجسم المشوه بطريقة بدائية، فقد استعمل في تقطيعه منشار العادي لنشر اللحم بالعظام. وكان التعرف على شخصية القتيل من الأمور الهامة بالنسبة للمحققين . كما كان رجال الشرطة متلهفين لمعرفة عمر القتيل والمدة التي مرت على الجثة في البركة.

 

ومن المعروف طبيا انه يمكن التحقق من عمر القتيل عن طريق الأسنان الموجودة في الصفائح العظمية فعند الولادة تكون هاته متباعدة تم تأخذ في الاقتراب من بعضها بالتدريج كلما زاد السن حتى الثالثة والعشرين حيث تلتحم الأسنان في صفائح أعلى الجمجمة ويتأخر التئام الصفائح العظمية في منطقة الصدغين، وينذر أن تلتئم قبل سن الخامسة والأربعين.

 

وعندما نزعت الأنسجة عن عظام الجمجمة لوحظ أن عظام أعلى الجمجمة كان مهشما، والجزء الأكبر من العظمة الأمامية مفقودا . وكان واضحا أن الوفاة نجمت عن هذه الإصابة. إلا أن الصفائح العظمية لجانبي الجمجمة لم التئم بعد التئاما كاملان رغم أن عملية الالتئام كانت متقدمة. كل هذه العوامل بالإضافة إلى التغييرات الموجودة في غضروف عظمة القص دلت على أن عمر الضحية كان يزيد على 23 سنة. وقد اتضح أن البقايا الآدمية لرجل نحيف قصير القامة لا يتجاوز طوله المائة وخمسين سنتمترات، وكانت بقايا الجثة في حالة تحلل متقدمة، تسمى طبيا "بالأديبوكير"(3) لذا كان واضحا أن بقايا الجثة بقيت في قاع البركة فترة لا تقل عن ستة أشهر وربما أكثر.

 

ولدى راجعة سجلات الشرطة في المنطقة تبين أن هناك قائمة من الأشخاص الغائبين عددها ثمانية وأربعون شخصا، قد أبلغ عن غيابهم خلال الاثنين عشر شهرا السابقة لاكتشاف الجثة المقطعة .

 

وكانت الخطوة التالية دراسة أجزاء الجثة ، وقد ظهر أن الفك خال من الأسنان تماما كما كانت التجاويف التي توجد بها الأسنان مختفية تقريبا ، مما يدل على أن القتيل فقد أسنان الفك الأسفل منذ عشرة أعوام فبل الوفاة على الأقل ، ولم يكن الفك الأعلى يحمل أسنانا أيضا ، إلا أن القتيل كانت له أسنان بالفك الأعلى عند الوفاة أو فبل الوفاة بفترة قصيرة جدا .

 

كما كانت هناك فجوة بالجبهة اليمنى من الفك العلوي في منطقة الضرس الطاحن، وكانت حوافها مما يوحي بأن القتيل كان يشكو من خراج في جدر الضرس قبل وفاته.

 

وبمتابعة البحث ظهر من الفحص وقياس الترقوة اليسرى، واليمنى، وعظام الكتف ، وبقايا العضلات المتصلبة أن القتيل كان أعسر (أسود) . وقد أدت هذه المعلومات القيمة إلى تضييق شقة البحث. إذ اتضح أنه من بين الثامنة والأربعين مفقودا كان هناك أعسران فقط.

وكان أحدهما مصابا بتشويه بسبابة اليد اليسرى، وقد استبعد بسبب ذلك، وبقي هناك احتمال واحد عامل صالون الحلاقة البالغ من العمر 44 سنة والذي اختفى في تشرين الأول الماضي.

 

وأعيد تركيب الجمجمة بدقة وثبت الفك الأسفل في مكانه وزود بأسنان صناعية متناسقة، ثم صورت الجمجمة وكبرت الصورة بالحجم الطبيعي

وقد لوحظ أن الحاجز الأنفي معوج كما كانت الجيوب الأنفية مشوهة مما يرجح احتمال شكوى القتيل أثناء حياته من جيوبه الأنفية .

وبعد جمع هذه المعلومات بدأت الشرطة استجواب بعض زملاء القتيل فعلمت من أحدهم أن القتيل كان يشكو من ألم في ضرسه قبل اختفائه، كما ذكر صديق آخر أنه كان يشكو من زكام حاد ومزمن، واجمع جميع زملائه على اهتمامه الشديد بيديه وأظافره وهي ملاحظة دقيقة لاحظها الشرطة عند العثور على الجثة.

 

أخيرا، وبعد هذا العرض لدور الطب الشرعي في الكشف عن الجرائم الغامضة فإننا نأمل ألا يقلل القارئ من أهمية الدور الذي يقوم به رجال البحث يعزز دور الأبحاث العلمية ومثل من أمثلة التعاون المثمر لمكافحة الجريمة والقضاء عليها.

 

نقلا عن مجلة "المحامون التي تصدرها نقابة

المحامين في الجمهورية العربية السورية

العدد الثامن / 83 صفحة 141. السنة 48        

 

 

 

مجلة المحا مي عدد 7 صفحة 23


تعليقات