📁 آخر الأخبار

ظاهرة الرشوة في القرن العشرين

 



 

ابحاث قانون العقوبات

 

ظاهرة الرشوة في القرن العشرين

ظاهرة الرشوة في القرن العشرين
بقلم الأستاذ الإسماعيلي
عن هيئة المحامين بالمغرب


1- التطور التشريعي :
إن المشرع حينما يجرم فعلا من الأفعال، ينطلق من مبدأ حماية أمن المجتمع فبمقدار ما يكون الفعل المجرم خطيرا على سلامة المجتمع بمقدار ما تكون العقوبة شديدة، والمعيار الذي يصنف الجرائم إلى مخالفات وجنح وجنايات، وهو أمن المجتمع.

وانطلاقا من هذا المبدأ نجد ان جريمة الرشوة كانت في بدايتها مدرجة في فصيلة الجنايات لان المجتمعات البشرية كانت تعتبرها خطيرة جدا على استقرار الأعمال الوظيفية في الدولة، وعلى تثبيت دعائم العدل بين المواطنين، كما فعل ذلك القانون الجنائي الفرنسي الصادر في سنة 1810.

ثم لما تبدلت نظرة المجتمعات إلى الرشوة ودخلت في سلوكها العام اضطر المشرع إلى ان يجعلها في فصيلة الجنح استجابة منه للمعطيات الحضارية الجديدة وتمشيا مع السلوك الأخلاقي الذي انحط إلى درجة اعتبار جريمة الرشوة ظاهرة عادية في التعامل اليومي والعلاقات بين مختلف هيئاته ومؤسساته وسمة من سمات المجتمع المتحضر حتى ان نسبة كبيرة من جرائم الرشوة لا تعرف وما عرف لا يبلغ عنه، وما بلغ لا يسجل رسميا، وهذا ما فعله المشرع الفرنسي في القانون الصادر في 16 مارس1943 رغم انتقادات الفقهاء له واعتبارهم ان تحويل جريمة الرشوة إلى فصيلة الجنح نكسة خطيرة ومس مكشوف بالنظام الاجتماعي.

فهل لهذا التحول من مبرر ؟
ان هناك عدة عوامل جعلت الرشوة متفشية في اعظم بلدان العالم وبالأخص في الأمم المتمدنة من أهمها العامل الاقتصادي، فلقد أدى التضخم في أوراق النقد إلى ارتفاع مستمر في أسعار الحاجيات، من بضائع وخدمات. على حين ظلت المرتبات والأجور على حالها أو زادت زيادة ضئيلة لا تتناسب مع ارتفاع الأثمان فكان ذلك باعثا للموظفين الذين خارت عزيمتهم ونامت ضمائرهم على الانحراف عن جادة الصواب، فسلكوا طريق الجريمة ومدوا أيديهم لاخذ العطايا حتى يتمكنوا من مواجهة تكاليف الحياة الباهظة، وهذه هي الحالة الغالبة في معظم قضايا الرشوة، ولا يقاس إلى جانبها ذلك العدد القليل الذي ارتكب بغية الوصول إلى الثراء العاجل من اقرب السبل كما ان الإنسانية داهمتها حربان عالميتان كان لهما اكبر الأثر في الأخلاق ساعدت على انتشار جرائم الرشوة فجاءت جل القوانين معبرة عن هذه الأخلاقية. اما القوانين التي اتجهت إلى تشديد العقاب متغافلة عن الوضع الاقتصادي واثره الإيجابي في تكييف علاقة الناس وسلوكهم، فهل حققت أهدافها من الحد من غلواء جرائم الرشوة ؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى الإحصائيات الرسمية لنقارن بين الرقم الاستدلالي الذي وصلت إليه جرائم الرشوة وهي لا زالت في فصيلة الجنح وبين ما وصلت إليه بعد تشديد العقاب، ورفعها إلى فصيلة الجنايات وان كانت الإحصاءات الرسمية تعوزها الدقة لان كثيرا من جرائم الرشوة لا يعرف ولاعتياد الناس عليها ودخولها في سلوكهم العام، وكل ما يمكن الاعتماد عليه إنما هو نسبي و ضئيل جدا، ورغم ذلك فهو يعطي دليلا قاطعا على ان رفع جريمة الرشوة إلى فصيلة الجنايات دون دراسة دقيقة وموضوعية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية لم يحقق الهدف المرجو منه حتى بالنسبة إلى أنظمة من الحكم كان تفشي ظاهرة الرشوة ركيزة اعتمدت عليها في ثوراتها وانقلاباتها، بل مما يدعو إلى الدهشة والاستغراب ازدياد عدد جرائم الرشوة زيادة فاحشة في مجتمعات أنظمة الحكم فيها قامت على اساس محاربتها. فمثلا في الجمهورية العربية المصرية أثبتت الإحصاءات الرسمية ان عدد قضايا الرشوة لسنة 1952 بلغ 42 قضية، وفي سنة 1953 أي بعد قيام الثورة بلغ عدد القضايا 183 بالرغم على ان عقوبتها اصبحت الاشغال الشاقة المؤبدة لم يحقق الهدف المرجو منه، وهو مكافحة هذه الجريمة الخطيرة لانها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضعية الاقتصادية، فكلما ارتفعت الاسعار الا ووجدت الرشوة المرتع الخصب لاستفحالها وتمركزها في عقلية الناس ودخولها من الباب الواسع في سلوك المواطنين وتعاملهم اليومي، ومن ثم فقد تعين رفض فكرة تشديد العقوبة واصبح لزاما البحث الجاد الهادف عن الاسباب الحقيقية لجريمة الرشوة والدوافع الحقيقية لارتكابها، وقد توصل بعض الباحثين إلى ان مكافحة جرائم الرشوة يمكن ان تتحقق بعدة وسائل من بينها :
1-
تمسك المواطنين بحقوقهم المشروعة، وعزوفهم عن تقديم الرشاوى للموظفين.
2-
رفع المستوى المادي للموظفين للحيلولة بينهم وبين العوز والاحتياج وبالأخص الموظفين ذوي الدخل المحدود.
3-
تشجيع الموظفين على الاستقامة والنزاهة بتقرير مكافآت مالية لهم على النحو المتبع في المؤسسات الحرة.
4-
انشاء إدارة خاصة تسمى" إدارة مكافحة الرشوة" على غرار إدارة مكافحة المخدرات وغيرها.
5-
العمل الجاد على رفع المستوى الأخلاقي للشعوب لان القوانين التي لا تساندها اخلاق الشعوب مآلها الفشل والاندحار.
6-
إيمان المشرع بان القوانين التي يصدرها يجب ان تستمد قوتها من الضمير الانساني لا من العقاب.

فإذا تحققت هذه الشروط واهتم الباحثون في مجالات القانون بالجانب الاقتصادي والأخلاقي، وركز واضعو السياسية الاقتصادية على رفع مستوى المعيشة بزيادة الدخل القومي، وخفض مستوى الاسعار، واعتنى قادة الفكر وعلماء الأخلاق برسم سياسية طويلة المدى، تهدف إلى رفع المستوى الخلقي للشعب، أمكن علاج ظاهرة الرشوة التي تعتبر الجروح الدامية للقرن العشرين.

فالوقاية في ميدان الجريمة خير من العلاج، شانها في ذلك شان الوقاية من المرض سواء بسواء كما تنادي بذلك –المدرسة الوصفية الإيطالية –وعلى ضوء هذا التحليل الموضوعي فما هو موقف المشرع المغربي من ظاهرة الرشوة ؟

ان القانون الجنائي المغربي اعتبر جريمة الرشوة جنحة.

وبذلك فقد ساير الاتجاه الذي لا يقول بتشديد العقاب ما دامت الشروط الموضوعية لتحقيق مستوى الدخل القومي لم تتوفر، ولكن المشرع في نفس الوقت لمواجهة تفشي جرائم الرشوة وتزايد عددها وتضخم عملياتها أحدث محكمة العدل الخاصة فشدد عقوبة الرشوة وارتفع بها إلى فصيلة الجنايات، فيكون بذلك قد اخذ بمبدأين، مبدا اعتبار جريمة الرشوة في فصيلة الجنح ما دامت مرتبطة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، ومبدأ تغليظ العقاب برفع جرائم الرشوة إلى فصيلة الجنايات دون ان يكون ذلك مبنيا على تخطيط سياسي اقتصادي اجتماعي وتربوي من شانه ان يجعل الموظفين في حل من الالتجاء إلى ارتكاب جرائم الرشوة. ولكي يتجلى بوضوح ان تغليظ العقاب لم يحقق الهدف المرجو منه نعود إلى إحصائيات محكمة العدل الخاصة.

وان كانت الإحصائيات لا تعطي الرقم الاستدلالي لجرائم الرشوة، لانها تعتمد على القضايا التي قدمت إلى محكمة العدل الخاصة، مع ان العدد العديد من جرائم الرشوة لا يعرف، ولا يمكن التعرف عليه.

ولذلك فالإحصائيات التالية انما هي دليل تقريبي ونسبي فقط مع ملاحظة انه منذ سنة 1966 إلى سنة 1971 كانت كل جرائم الرشوة التي يقوم بها الموظفون بقطع النظر عن قيمة المبالغ، تدخل في اختصاص محكمة العدل الخاصة. ومن سنة 1971 إلى سنة 1972 حدد اختصاص محكمة العدل الخاصة بألفي درهم، ومن سنة 72 رفع مبلغ الرشوة إلى 5000 درهم فما فوق.

الإحصـائيــات

سنة 1966 98 قضية
سنة 1967 47 قضية
سنة 1968 32 قضية
سنة 1969 23 قضية
سنة 1970 10 قضايا
سنة 1971 28 قضية
سنة 1972 24 قضية
سنة 1974 38 قضية
سنة 1975 إلى 18/5/76 19 قضية

فهذا الجدول يبين ان جرائم الرشوة بين صعود وهبوط، وبين مد وجزر.
ففي سنة1966 بلغ مجموع القضايا 98 قضية، ثم انخفض إلى 32 قضية سنة 68 ثم انخفض إلى 23 قضية سنة69 ثم انخفض إلى 10 قضايا سنة 70 ثم عاد إلى الارتفاع سنة 71، وهي السنة التي جعل فيها اختصاص محكمة العدل الخاصة بمبلغ 2000 درهم فبلغ مجموع القضايا 28 قضية، ثم انخفض معدل القضايا بنسبة ضئيلة سنة 72، وهي ايضا السنة التي رفع فيها المبلغ إلى 5000 درهم، فبلغ مجموع القضايا 24 قضية ثم ارتفع العدد سنة73 إلى 33 قضية، ثم ازداد الارتفاع سنة 74 فبلغ 38 قضية. ثم انخفض عدد القضايا سنة 75 إلى 19 قضية.

وهكذا يتجلى ان الرقم الاستدلالي لقضايا الرشوة بمحكمة العدل الخاصة يرتفع ثم ينخفض ثم يعود للارتفاع الامر الذي يدل على ان جرائم الرشوة، واختلاس اموال الدولة لم تحد من غلوائها الأحكام القاسية التي تصدرها محكمة العدل الخاصة، هذا اذا نظرنا إلى عدد القضايا، أما إذا تعرفنا على نوعية القضايا وعمقها فان الأمر يزداد خطورة، و يدعو إلى الدهشة والاستغراب.

فكلما كان عدد القضايا ضئيلا كانت مبالغ الرشوة أو اموال الدولة المختلسة تبلغ عشرات الملايين، وأحيانا تصل إلى مئات الملايين. ولذلك أصبح لزاما البحث عن حلول اقتصادية واجتماعية وتربوية من شانها ان تجعل الموظفين في مأمن من الإقدام على الرشوة وعلى اختلاس اموال الدولة المودعة بين أيديهم.

فالقضية ليست قضية تشديد العقاب، وانما هي قضية اجتماعية مرتبطة بالوضعية الاقتصادية والتربوية.
فكلما وقع تحسن في الوضعية الاقتصادية كلما عزف الموظف عن ارتكاب جرائم الرشوة.
فالوقاية في ميدان الجرائم خير من العلاج شانها في ذلك شان الامراض سواء بسواء.

بقلم الأستاذ الإسماعيلي

تعليقات