القائمة الرئيسية

الصفحات



النظام الخاص لجريمة التسميم في القانون المغربي قراءة جديدة للمادة 398 من القانون الجنائي على ضوء انتشار ظاهرة نقل فيروس السيدا إلى الغير اراديا

 


 
النظام الخاص لجريمة التسميم في القانون المغربي قراءة جديدة للمادة 398 من
القانون الجنائي على ضوء انتشار ظاهرة  نقل فيروس السيدا إلى الغير اراديا

 

الدكتور عبد الحفيظ بلقاضي

استاذ التعليم العالي

 

مقدمة :

تهديد حق الإنسان في الحياة بإعطاء أو استعمال مواد سامة  اعتبر دائما  جريمة ذات  خطورة  تستدعي  انزال  أقصى عقوبة بمرتكبها. وتتجه التشريعات الجنائية الحديثة(1)  في العقاب على هذه الجريمة  اتجاهات  معينة تتراوح بين عدم ايراد مقتضيات خاصة في هذا الشان اكتفاء بالنصوص الزاجرة للقتل العمد، وبين النظر إلى التسمم باعتباره جريمة من نوع خاص، وهذا الاتجاه الاخير هو الذي تبناه التشريع الفرنسي والمغربي والجزائري(2).

 

ومهما يكن من امر هذا الاختلاف فان الدراسات المنجزة في حقل علم  الاجرام  تشير إلى ان ثمة خصائص محددة هي التي تنطبع بها جريمة التسميم سواء بالنسبة لشخصية مرتكبها أو  بالنسبة  للباعث  على  الجريمة  أو فيما  يرجع إلى الاساليب الذي يتم به تنفيذها(3).

 

واساس تشديد العقاب على هذه الجريمة مرجعه إلى ما تنطوي عليه الوسيلة المستعملة من غدر وجبن لا مثيل لهما في صور القتل الأخرى، سيما وانها ترتكب عادة بيد من يطمئن إليه الضحية مما لا يدعوه إلى اتخاذ الحذر أو،  إلى كون هذه الجريمة بقدر ما تتسم به من سهولة في التحضير والتنفيذ تكتنفها صعوبات جمة في الاثبات(4).

 

وهذا وقد عرف المشرع المغربي جريمة التسمم في المادة 398 قائلا : " من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شانها ان تسبب الموت عاجلا أو اجلا أيا كانت الطريقة التي استعملت أو اعطيت بها تلك المواد، وايا كانت النتيجة يعد مرتكبا لجريمة التسميم، ويعاقب بالاعدام"

كما عرفها المشرع الجزائري بكونها " الاعتداء على حياة انسان بتاثير مواد يمكن ان تؤدي إلى الوفاة عاجلا أو اجلا أيا كان استعمال أو اعطاء هذه المواد ومهما كانت النتائج التي تؤدي إليها م 260 :.

وإذا كان هذان النصان يرتدان من حيث مصادرهما التاريخي إلى المدونة النابولونية لعام 1810 (م.301) فان صياغتهما العربية لم توفق - في تقديرنا - في التعبير عن المضمون الحقيقي للنص الاصلي الذي جاء على الوجه التالي :

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- في هذا المعنى

VITU (A) Droit pénal spécial, éd. Cujas 1982, n.1729, p.1389

2- كما نحا هذا المنحى أيضا قانون العقوبات المصري الصادر سنة 1883 حيث نصت المادة211 منه على ان - من تعمد قتل احد بشيء من العقاقير أو الجواهر السامة التي يتسبب عنها الموت  في ظرف برهة من الزمن قصيرة كانت أو طويلة يعد قتلا بالسم ويعاقب بعقوبة القتل أيا كانت كيفية استعمال تلك العقاقير أو الجواهر السامة ومهما كانت نتيجتها - الا ان المشرع المصري ما لبث ان عدل عن هذه الخطة في قانون العقوبات الصادر سنة 1904 حيث اصبح استعمال السم مجرد ظرف مشدد لعقوبة القتل العمد - م - 233.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

"Est qualifié empoisonnement tout attentat à la vie d'une personne ; par les faits de substance qui peuvent donner la mort plus au moins promptement de quelques manières que ces substances aient été employées ou administrées, et quel qu'en aient été les suites »

تنم القراءة المتأنية للنص الفرنسي عن كون الخاصية الجوهرية التي تتسم بها جريمة التسميم انما تتادى في مجرد تهديد الحياة أو التامر عليهاAttentat à la vie   وليس الاعتداء عليهما فعلا (5) atteinte à la vie كما هو الحال في جريمة القتل العمد.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3.PROTTECHER (j) la prévention de l'empoisonnement, in la prévention des infractions contre la vie humain ; PUB centre d'étude de défense sociale ;1956 pp ; 267 et s : وقارن

GOLLETY (F) - l'empoisonnement ; chronique pratique d'instruction criminelle - R.S.C 1952. P.297

4. GARRAUD ( R) - traité théorique et pratique du droit pénal français 3e éd. Recueil  sirey (nouveau tirage 1952) t.v.n. 1904.pp.222 et s.

GARCON (E) code pénal annoté. 2e édi. 1952 par M. Patin et M Ancel art.301 n. 2

5- شان تطور هذا المفهوم في القانون الفرنسي. راجع بوجه خاص :

PROTHAIS (A) tentative et attentat L.G.D.J 1985 N. 22 ET SP.P.17 ETS.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

من هنا، فلئن كانت جريمة التسميم تتفق مع الصور الأخرى من الانتهاكات الماسة بالحق في الحياة من الشرط المفترض الذي يتمثل في ضرورة وقوعها على انسان حي، فان خصوصيتها المميزة تتبدى من زاوية ركنها المادي

( المبحث الأول) وركنها المعنوي ( المبحث الثاني) على السواء.

 

المبحث الأول : الركن المادي أو فعل تهديد الحياة بالسم

يتكشف من تحليل نص المادة 398 ان جريمة التسميم تتميز عن جريمة القتل العمد من خلال ركنها المادي الذي يتحدد بناء على عنصرين(6) : الأول ذو صلة بطبيعة الفعل ويتمثل في التهديد الحياة : Attentat à la vie  وليس في القتل Homicide ( المطلب الأول)،

الثاني ذو صلة بالوسيلة المستعملة في تنفيذ هذا التهديد والتي تتمثل في السم دون غيره من الوسائل القاتلة (المطلب الثاني).

 

المطلب الأول : تهديد الحياة

يتحقق فعل التهديد باعطاء أو استعمال أي مادة يتسبب عنها الموت، وبغض النظر عن النتيجة المترتبة على ذلك، ومعنى هذا ان تقديم هذه المادة ضروري ( أولا)، ولكنه كاف ( ثانيا) لقيام الجريمة.

أولا : اعطاء مادة يتسبب عنها الموت.

تنصرف دلالة الاعطاءAdministration  في هذا الخصوص إلى كل نشاط يمكن به الجاني المادة السامة من ان تباشر تأثيرها القاتل على وظائف الحياة في جسم الضحية. ولا اهمية للكيفية التي يتم بها ذلك، فقد يقدمها الجاني للمجني عليه في طعام أو شراب، وقد يوصلها إلى جسمه بالحقن أو الاستنشاق أو بمجرد الوضع على الجلد فتتسرب من خلال مسامه، أو على جرح فتنفذ من خلاله إلى الدم، أو بغير ذلك من الطرق. كما ان تقديم المادة المذكورة قد لا ينفذ دفعة واحدة، وانما بجرعات متكررة أو منتظمة يتحقق بها في النهاية نوع من التسميم البطيء (7) intoxication lente.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

6: PROTHAIS (A)-, Op. Cit ; n. 240 pp.165 et s.

7- قارن في هذا الشان :

VUTU (A)-, Droit pénal spécial, Ed. Cujas, 1982 n.1730, p.1391

CULIOLI (M)- Rép. Dr. Pén. Pro. Pén., v° « Empoisonnement », 1991, n. 45 et s.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   

بيد ان ثمة قيدا يرد على الاطلاق الذي تتسم به الطرق المستعملة قوامه ان يتخذ الاعتداء صبغة ايجابية،(8) بمعنى ان يكون فعلا وليس مجرد امتناع. ويترتب على ذلك ان عدم تقديم ترياق لشخص وقع ضحية تسميم عارض أو مدير بنية ترده لقضاء نحبه، يمثل نشاطا معاقبا عليه، ليس على اساس جريمة التسميم، وانما باعتباره امتناعا عن تقديم المساعدة لشخص في خطر.

 

ثانيا : استواء حصول النتيجة أو عدم حصولها

عدم الاعتداد بالنتيجة هو ابرز عنصر في التسميم مما يجعل الجريمة منتمية إلى طائفة جرائم السلوك البحث أو الجرائم الشكلية Infraction formulles فاذا  كان قوام جريمة القتل وفاة الضحية، فان التسميم يعتبر تاما " أيا كانت النتيجة"، وسواء ادى فعل الاعتداء إلى الوفاة ام لا، بل ان التسميم يعد قائما ولو لم ينتج عنه مرض أو ضرر ما  كما إذا اسعف الضحية بالترياق أو المادة المضادة للسم في الوقت المناسب. من هنا كان المستهدف بالتجريم والعقاب في هذه الجريمة هو فعل التسميم وليس النتائج المترتبة على الفعل. وبالنظر إلى هذه الخاصية يصبح التسميم ليس نوعا من القتل وانما جريمة من نوع خاص(9) Crime sui-generis وبهذا تتميز جريمة التسميم في القانون المغربي عن جريمة القتل بالسم في القانون المصري (م.233) أو البلجيكي (م.397).

 

ولاشك ان شمول التسميم بالتجريم منذ المراحل الأولى للمشروع الاجرامي أمر تبرره ضرورات العقاب على هذا النمط الخاص من السلوك غير المشروع والمتميز نوعيا عن الصور الأخرى من القتل. ان الدور الايجابي الذي يضطلع به المسمم في الجريمة ينتهي عمليا في وقت مبكر إذا ما قورن بما يستعمله غيره من الجناة من وسائل أخرى مسببة للقتل. لما كان الامر كذلك كان فعل الاعتداء يتخذ صورة الجريمة التامة بمجرد تقديم المادة السامة(10). ومن خلال هذا النموذج القانوني الخاص الذي افرغت فيه هذه الجريمة يتضح الفارق بينها وبين الجريمة المنصوص عليها في المادتين 413 و414 بشان اعطاء مواد ضارة بالصحة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

8-  Garcon (E)-, op. cit, art 301, n. 26

     AUSSEL (j.m)-, juris-classeur pénal, art. 295 à 304, n°46

9-   RASSAT (M.-L)-, Droit pénal, infractions des et contre les particuliers, Dalloz- Deltat,      1997, n.256, p.259

10-  PROTHAIS (A)- plaidoyer pour le maintien de l'incrimination  spéciale de       l'empoisonnement, D.1982, chronique XVIII, pp.107 et s.

 وفي نفس المعنى

SPIETRI (P)- l'infraction formule, R.S.C, 1966, pp.497

Keyman (s.)-, le résultat pénal, R.S.C? 1968? PP. 781 et s.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

اما العنصر المميز بين الجريمتين فلا ينحصر في مجرد المواد المستعملة أو القصد الذي يتحقق لدى الجاني، وانما يتمeل أيضا واساسا، في ضرورة حدوث نتيجة معينة وهي المرض أو العجز عن الاشغال الشخصية.

 

المطلب الثاني : المادة المستعملة

اماl عدم وجود تعريف علمي دقيق لـ " السم poison لم يجد المشرع بدا من استبعاد هذا الاصطلاح مكتفيا بالاشارة في نص المادة 398 إلى " مواد من شانها ان تسبب الموت اجلا أو عاجلا"، من هنا كان تحليل الركن المادي في جريمة التسميم يقتضي التعريف بهذه المواد ( أولا) ثم تحديد الحكم الواجب التطبيق في الحالة التي تكون فيها المادة المستعملة غير ذات فعالية، مما يثير اشكالية الجريمة المستحيلة وغيرها من صور المحاولة ( ثانيا).

أولا : التعريف(11).

 

جاءت اشارة المشرع إلى الوسيلة التي تحقق بها الجريمة في عبارة واسعة : " مواد يتسبب عنها الموت اجلا أو عاجلا: لجعل النص قابلا للتطبيق سواء باستعمال مواد سامة معروفة وموجودة فعلا أو مواد أخرى مما قد يوفق الدهاء البشري إلى اختراعه مستقبلا. من اجل ذلك كانت العبارة المذكورة شاملة لانواع السموم جميعا سواء ما كان مصدرها نباتيا أو حيوانيا أو معدنيا، وسواء كان شكلها صلبا أو سائلا أو غازيا، وسواء كان مفعولها سريعا أو بطيئا، وسواء كانت المادة سامة بطبيعتها أو منطوية على اثر سام نتيجة مزجها بمادة أخرى .

 

وامام امتناع المشرع عن تعريف السم أو ايراد تعداد حصري بالمواد السامة، يصبح تحديد ما إذا كانت المادة السامة أو غير سامة مسالة واقعية يقررها قاضي الموضوع على ضوء تقرير الخبرة العلمية(12). الا ان الواجب يقتضي التحوط الشديد من نتائج هذه الخبرة نظرا لعدم وجود اتفاق عام بين علماء السموم Toxilogues في هذا الشان، فضلا عما تشهد به التجربة العملية من ان المناهج المتبعة من جانبهم قليلا ما لا يعتورها القصور(13).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

11-  MAYER (D.)- la notion de substance mortelle en matière d'empoisonnement. D, 1994,

       chron. PP.325-326

12-  PROTHAIS (A.)-, tentative et attentat…n. 245 et s., PP.168 et s.

13-  CULIOLI (M)-, Op. Cit, n. 56.

       Garcon (E.), Op. Citt. Cit, n.28

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

3 : قارن في هذا الشان :

ومما يزيد المسالة تعقيدا ان على القاضي الجنائي البحث في كل حالة على حدة بشان ما إذا كانت المادة السامة تقوم بها جريمة التسميم (م.398) أو مادة ضارة بالصحة معدة على النطاق التجاري للتغذية البشرية طبقا للمادة الأولى من ظهير29 اكتوبر1959، أو مجرد مادة ضارة بالصحة تتحقق بها الجريمة المنصوص عليها في الفصول 413 وما بعده من القانون الجنائي. بل ان المادة الواحدة التي تقدم أو تستعمل في ظروف مختلفة قد تكيف باعتبارها مادة يتسبب عنها الموت حينا أو مجرد مادة ينتج عنها مرض أو عجز عن الأعمال الشخصية حينا آخر. من هنا، كانت طبيعة المادة لا ترتهن بخصائصها الذاتية وانما بالطريقة التي يتم بها استعمالها : ان جملة من المواد غير المؤذية - في ذاتها - تصبح سما إذا ما ادى مزجها أو تركيب بعض عناصرها إلى احداث اثر قاتل، كما ان المادة المخصصة للاستعمال العادي كالدم او العقار الطبي تصبح سما قاتلا إذا ما جرى استعمالها بطريقة غير عادية أو أصيبت بالتلوث لسبب أو لاخر.

ومن جهة اخرى، إذا كان نص القانون ينطبق على كل مادة تثبت لها الصفة السامة، فهل يشمل نطاق تطبيقه المواد القاتلة(14) Substances mortifères1 أيضا ؟

 

استندا إلى العبارات الواسعة التي صيغ بها نص القانون وإلى روحه العامة يميل الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء الفرنسي إلى اعتبار التسميم متحققا بمجرد نقل أو حقن الضحية ببعض الميكروبات أو الفيروسات الحاملة للامراض القاتلة ( كالسرطان والتيفوس والسيدا) والتي تعتبر  مشابهة للسم من حيث اثارها وان كانت ذات طبيعة مختلفة، أو بوضع مواد ذات نشاط اشعاعي Radiations في متناول الضحية(15).

 

هذا، ويلاحظ مع ذلك ان القضاء الفرنسي قد رفض الاخذ بالتفسير الحرفي لنص المادة 301 (م. 5-321 من المدونة الجنائية الجديدة) في حالتين : فقد اعتبر، من جهة، تقديم مسحوق الزجاج ممزوج بعجين الخبر بهدف القضاء على الضحية عملا تتحقق به محاولة القتل العمد (16)، وليس جريمة تسميم لان " المواد التي يتسبب عنها الموت اجلا أو عاجلا" تقتصر على تلك التي يترتب عليها اثار ميكانيكية(17)، 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

14-  MAYER (D.)-, Op. Cit., P.325

15-  CULIOLI (M.)-. Op. Cit., n 65.1

16-  RIOM, 25 avr. 1855, D. Rép., v° « crimes contre les personnes » suppl. n. 93.

17-  يكون تاثير المادة على الجسم حركيا او ميكانيكيا اذا ترتب على تناولها تمزيق في الانسجة، ويكون كيميائيا اذا

       ادى إلى اتلاف بعض الخلايا او شل حركة الاعصاب. الا ان هذه التفرقة لم تنل تاييدا من بعض الفقه، راجع في

       هذا الشان :

MANDOUX (P.)-, la transmission des M.S.T et plus particulièrement du virus de sida, responsabilité pénale in « le sida, un défi aux droits », actes de colloque organisé à l'Université libre de Bruxelles les 10,11 et 12 mai 1990, Bruxelles,1991, P 273

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كمت اعتبر من جهة أخرى الزوجة التي تناول زوجها كمية كبيرة من الخمر بقصد القضاء عليه فيموت بسبب ذلك فعلا، مرتكبة للقتل العمد، وليس لجريمة التسميم لان الخمر ليس من قبيل المواد السامة(18).

ثانيا : المحاولة.

مقتضى القواعد العامة انه يلزم لقيام المحاولة أو الشروع في الجريمة ان يقترن البدء في التنفيذ بانعدام العدول الاختياري، فكيف يتحقق هذان الشرطان في محاولة التسميم ؟

 

I. البدء في التنفيذ:

ثمة اتفاق عام بين الشراح على ان اعمالا من قبيل : اقتناء السم أو اعداده أو اختزانه انتظارا لفرصة تقديمه أو استعماله ليست الا اعمالا تحضيرية لا تستوجب العقاب على اساس التسميم، وان جاز العقاب عليها بناء على وصف آخر. اما مزج السم في الطعام أو الشراب الذي يراد تقديمه للضحية فيعتبر في تقدير البعض مجرد عمل تحضيري بينما يعتبره الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء الفرنسي بدءا في تنفيذ الجريمة(19). وقد حكم هذا القضاء تطبيقا لذلك بان المتهم الذي يلقي في بئر يتزود  منه الغير بمادة من شانها احداث تسميم بطيء يمكن ان يتسبب عنها الموت يعد مسؤولا عن محاولة التسميم. كما يعتبر بدءا في التنفيذ تتحقق به المحاولة تقديم الطعام أو الشراب أو الدواء المسموم إلى المجني عليه أو وضعه في متناوله بطريقة معينة ( كوضعه قرب فراشه حتى إذا ما استيقظ ليلا تناوله دون ان يتاح له تبين طبيعته، مثلا (20).

 

وتثور بعض الصعوبات في حالة ما إذا سلم الجاني المادة السامة إلى الغير الذي يعهد إليه بإعطائها إلى الضحية، كتسليم الدواء المسموم إلى الممرضة المكلفة بالعناية بالمريض، مثلا.

يذهب الرأي الراجح فقها وقضاء إلى وجوب التفرقة بين ما إذا كان الغير حسن النية أو سيئها : فاذا كان الوسيط جاهلا طبيعة المادة كان مجرد اداة بريئة في يد من اعطاه اياها مما يجعل هذا الاخير يتحمل بمفرده وزر النشاط الاجرامي بصفته فاعلا، ومن ثم كان هذا التسليم شروعا في الجريمة(21)، اما إذا كان

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فوزية عبد الستار : شرح قانون العقوبات القسم الخاص، ط II. دار النهضة العربية القاهرة، 2000، رقم 455، ص.400-403.

18- poitiers 14 janv. 1850, D. P, 1853, 2, 192

19-  GARCON (E.)-, OP. Cit., art. 301, n.18

      VITU (A.)-, n.1731, p.1391

      AUSSEL (J-M.)-, OP. Cit. N. 315.

20-  GULIOLI (M.)-, OP. Cit., n.83 et s.

      AUSSEL (J.M.)-, OP. Cit., n. 310

      PROTHAIS (A.)-, Tentative et attentat ... n. 247 et s., pp. 171-172

21-  Crim. 2 juill. 1886,S. 1887.I, 489, note E. Villey.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الوسيط عالما بطبيعة المادة فهو يتخذ لنفسه - باعتباره المكلف بتقديمها - صفة الفاعل، بينما يصبح معطي المادة مشاركا في الجريمة بحيث يتحدد وضعه القانوني على اساس نشاط الفاعل. ويترتب على ذلك ان امتناع الوسيط الذي استلم المادة السامة عن تنفيذ الفعل انما يستتبع امتناع عقاب مسلمها (22).

 

II. العدول الاختياري :

يكون العدول عن تنفيذ الفعل اختياريا أو اراديا تنتفي به المحاولة إذا قام المتهم باتلاف الطعام أو الشراب أو الدواء المسموم قبل وصوله الا المقصود بالتسميم أو إذا حال دون تناول الضحية للمادة القاتلة التي سبق له تحضيرها(23).

بيد ان الاشكال يثور بشان تحديد اللحظة الأخيرة التي لا يزال فيها العدول الاختياري ممكنا.

 

وإذا كانت جريمة القتل لا تعتبر تامة الا بتحقيق الوفاة فان اللحظة الحاسمة التي تكتمل بها جريمة التسميم تكمن في اعطاء المادة السامة. من هنا، فقد حرص الفقه والقضاء على التمييز بين المحاولة والجريمة التامة من خلال تحديد الأولى في الفترة السابقة على فعل الاعطاء، اما تراجع الجاني عن الفعل بعد ذلك، فلن يشكل الا توبة ايجابية Repentir actif ولكنها متاخرة Tardif مما يجعلها دون اثر في قيام الجريمة 3. وتطبيقا لذلك كان مرتكبا للجريمة من اعطى آخر سما ثم ندم على ذلك فتداركه بترياق ابطل مفعوله أو اجرى له غسيل المعدة، هذا بينما السلوك الموازي لهذا السلوك في القتل العمد، بمعنى قيام الجاني بعد تنفيذ فعل الاعتداء المميت باسعاف الضحية وبذل ما في وسعه للحيلولة دون وفاته يعتبر عدولا اختياريا.

 

III.       وإذا كانت محاولة التسميم تحقق في صورة الجريمة الموقوفة فهل يمكن ان تتخذ صورة الجريمة المستحيلة ؟

لقد تضمن نص المادة 398 المنوه بها الاشارة إلى " مواد من شانها ان تسبب الموت عاجلا أو اجلا، ويفيد هذا النص - بمفهوم المخالفة - انه إذا كانت المادة المعطاة أو المستعملة غير ضارة اصبح التسميم غير قائم والعقاب عليه غير ذي موضوع. 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

       PROTHAIS (A.)-, Tentative et attentat…n.331, p.224

22-  GARCON (E.)-, Op. Cit., art. 301, n.22

23-  VITU (A.)-, Op. Cit., n. 1731, p. 1392.

      CULIOLI (M.)-, OP. Cit., n. 94

24-  PROTHAIS (A.)-, Tentative et attentat…, n. 332, p.226

       RASSAT (M-L)-, Droit pénal spécial…n. 256, p. 259.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وهذا التفسير هو الذي اخذ به الفقه الفرنسي التقليدي الذي جعل من فعالية الوسيلة شرطا لاستحقاق العقاب. كما ذهب جانب من الفقه المغربي في هذا الاتجاه معتبرا ان الطبيعة الشكلية للتسميم تحول دون ان تتحقق محاولة ارتكابه في صورة الجريمة المستحيلة(25).

اما الاجتهاد الفرنسي فيميل في اتجاهاته الحديثة إلى التمييز بين حالات محددة يتعلق اهمها بما إذا كانت المادة غير ضارة بطبيعتها أو بحسب الاستعمال(26).

 

فاذا تحقق الفرض الأول، وكانت المادة غير ضارة أصلا، الا ان المتهم قدمها للضحية على انها سامة كانت ثمة استحالة مطلقة تحول دون العقاب مهما كانت نية هذا المتهم خبيثة، بل وعلى الرغم من اعتباره سلوكه مستهجنا. وعدم العقاب مقرر في هذه الحالة لعدم وجود واقعة مادية ما لها وجود موضوعي، واعتبارا لانتفاء البدء في التنفيذ انتفاء تاما(27).

 

اما إذا تحقق الفرض الثاني، وكان السم قد اعطي بكمية قليلة لا تكفي للقتل كانت محاولة التسميم قائمة في تقدير القضاء الفرنسي على اعتبار انه و ان كان لازما أن تكون المادة قاتلة نوعيا فانه ليس شرطا ان تكون كذلك كميا (28). كما ينطبق وصف المحاولة إذا أعطيت المادة السامة في ظروف لا تؤدي فيها إلى تحقيق الغرض المقصود منها، كأن يتم - من دون علم المتهم - ابطال مفعولها بمادة مضادة أو استبدالها بمادة أخرى غير ضارة.

 

والعقاب على أساس الشروع في الجريمة يقوم، في مثل هذه الحالات، على اعتبار ان الجاني قد افصح عن نيته الاجرامية من خلال أعمال لا لبس فيها، وان عدم انتاج المحاولة لاثرها لم يكن الا لظروف خارجة عن ارادته.

ويبدو ان هذه الحلول التي استنبطها الاجتهاد الفرنسي في ظل غياب كل نص صريح يقرر العقاب على الجريمة المستحيلة كمبدأ عام، هي التي يتعين الاخذ به - من باب أولى - في نطاق القانون المغربي الذي جاءت المادة 117 منه صريحة في العقاب على المحاولة حتى " في الاحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل".

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

25-  احمد الخمليشي : القانون الجنائي الخاص، الجزء الثاني، دار المعارف الرباط 1986، ص 99.

26-  راجع بوجه خاص :

- PROTHAIS (A.)-, Tentative et attentat…, n. 247, p.171-172

27-  FREIJ (M.)-, L'infraction formelle, thèse (dactylo) Paris II, 1975, p.301

28-  CULIOLI (M.) -, Op. Cit. n. 67-69 et les références citées.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المبحث الثاني : القصد الجنائي

لئن كان الركن المعنوي يتخذ في جريمة التسميم صورة القصد الجنائي فان الاتفاق لا يبدو منعقدا بشان مضمون هذا القصد .

والخلاف المستعير هنا يرتد، في اسبابه العميقة، إلى ان نص تجريم التسميم يقع - على غرار السرقة والنصب - ضمن النصوص التجريمية التي فرض التقدم العلمي تغييرا جذريا في ظروف تطبيقها(29).

ويجدر بنا، قبل التصدي لهذا الخلاف ومناقشة الاسانيد التي يتذرع بها كل فريق ( المطلب الثاني)، التعرف على الاتجاه الذي درج عليه الاجتهاد الفرنسي تقليديا في هذا المضمار  ( المطلب الأول).

 

المطلب الأول : الاتجاه التقليدي

إلى عهد قريب نسبيا، وعلى امتداد مجمل القضايا المعروضة على القضاء، والتي كان الجاني يضطلع فيها بدور مقدم المادة السامة إلى احد الاقارب استعجالا للميراث، لم يكن ثمة خلاف في الفقه أو القضاء بان الركن المعنوي في جريمة التسميم قوامه نية القتل بواسطة مادة يعلم الجاني انها تسبب الموت عاجلا أو اجلا(30). وكان يترتب على هذا التحديد انه كلما ثبت انتفاء العلم لدى المتهم بشان الطبيعة السامة للمادة المقدمة للضحية نتيجة خطا أو غلط أو تدليس اجرامي من الغير"، انتفى القصد الجنائي لديه لتقتصر مسؤوليته على مجرد القتل الخطأ إذا انطوى تصرفه على اهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط أو غيرهما من صور الخطا وفقا للمادة 432 من القانون الجنائي. ومن الامثلة التي يسوقها الفقه على ذلك تصرف الطبيب الذي يخطئ في تحرير الوصفة الطبية فيجعل سهوا أو جهلا من عناصر الدواء مادة سامة.

 

كما كان يترتب على التصوير السابق للقصد الجنائي الذي تقوم به جريمة التصميم ان هذا القصد ينتفي إذا كان الفاعل يعلم ان المادة سامة، ولكن لم يعطها للضحية بنية القضاء على حياته، كالطبيب الذي يعطي دواء محتويا على مادة سامة لمريض بقصد مرض معين، ويؤدي ذلك إلى وفاته بسبب عدم انتباه الطبيب إلى مرض آخر تؤثر عليه المادة السامة فتحدث الوفاة، أو بسبب تجاوزه غلطا الكمية المسموح بها طبيا من المادة السامة(31). وبناء على ذلك، كانت نية القضاء على الحياة الضحية هي العنصر الحاسم الذي يتحقق به القصد الجنائي في جريمة التسميم بخلاف القصد في اعطاء المواد الضارة الذي يتمثل في مجرد نية الإيذاء البدني.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

29-  PRADEL(J.)-, Note sous cass. crim. 2 juill. 1998, pp.458.

30-  GARRAUD (R.)-, OP. Cit, n. 1907. p.229.

Garcon (E.)-, Op. Cit., art. 301, n.44

VERON (M.)-, Droit pénal spécial, 4e éd., Masson, 1995, p.27-28

31- احمد الخمليشي : المرجع السابق، ص 101.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وغني عن البيان أن القواعد العامة التي يخضع لها القصد الجنائي في الجريمة العمدية تنطبق في حالة التسميم أيضا، وذلك سواء من حيث استواء القصد غير المحدود مع القصد المحدود أو من حيث عدم الاعتداد بالغلط في شخصية المجني عليه أو عدم تاثير الخطأ في توجيه الفعل(32).

 

المطلب الثاني : الجدل حول طبيعة الركن المعنوي في جريمة التسميم

ان المفهوم الذي جرى عليه عمل الفقه والقضاء تحديدا للقصد الجنائي في جريمة التسميم لم يعد مسلما به من قبل الجميع، بعد الجدل الحاد الذي أثارته بعض القضايا الجديدة والتي اسالت مداد غزيرا من جانب الشراح الفرنسيين المعاصرين، ولعل اهم ما يدخل في هذا النطاق :

 

القضية المعروفة في الادبيات القضائية الفرنسية بقضية " الدم الملوث بفيروس السيدا Affaire du sang contaminé par le virus du sida" والتي وجهت اصابع الاتهام فيها إلى بعض رجال السياسة وكبار الموظفين بسبب تورطهم في توزيع كميات معينة من الدم البشري والترخيص بحقن عدد معين من المرضى بها مع سابق علمهم بكونها سامة، بل وقاتلة، وهو ما ادى إلى وفاة العشرات من المرضى فعلا (33). من جهة، والقضية التي صدر بشانها قرار محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 2 يوليوز3 1998، والتي كانت مدارا  لنقاش ساخن حول مدى انطباق جناية التسميم في حالة اخفاء المتهم عن خليلته حقيقة اصابته بمرض فقدان المناعة المكتسبة داعيا إياها إلى عدم استعمال وسائل الوقاية الطبية خلال عملية الاتصال الجنسي، مما كان سببا في اعدائها بالداء فعلا، من جهة ثانية .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

GARCON (E.)-, OP. cit., art.301, n.54

VITU (A.)-, OP, Cit., n, 1732, p. 1392

CULIOLI (M.)-, Op. Cit., n.78

32- راجع بوجه خاص:

RASSAT (M-L)-, OP. Cit., n.255, pp.257-258 et les références citées, p.258 note :

33- Cass. Crim .2 juill. 1998, J.C.P., 1998, II, 101132, note M- L. Rassat, D. 1998, note K.             Pradel, R.S.C., 1999, p.98, obs. Layaud.

وراجع في الموضوع نفسه

 PROTHAIS (A.)-, N'empoisonnez donc plus à l'arsenic. D. 1998, chron. P.334.

 

 COUNTRY (F.)-, de l'empoisonnement en matière de contamination sexuelle par le VIH,     Petites Affiches 21oct, 1998, n.126.

 PRADEL (J.) et DANTI-JUAN (M.)-, Op. cit, n.30, pp. 45-46 et les références citées.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وكان اهم ما تميزت به هاتان القضيتان متمثلا في كونهما اعتبرتا المناسبة الأولى التي اتيح فيها للفقه والقضاء اجراء التمييز الواضح بين عنصر العلم بالطبيعة الضارة للمادة المقدمة والعنصر الخاص بنية القتل.

وهو ما ادى إلى بروز اتجاهين اثنين في تحديد القصد الجنائي في جريمة التسميم :

ـ اتجاه يكتفي بمجرد القصد العام الذي يتحقق بانصراف إرادة الجاني إلى اعطاء الضحية مادة يعلم لها اثر قاتلا،

ـ واتجاه آخر يتطلب قصدا خاصا قوامه نية القتل(34).

 

وغني عن البيان ان مقتضى الاتجاه الثاني التزام جهة الادعاء باقامة الدليل على توافر علم المتهم بالطبيعة القاتلة للمادة، وعلى انصراف ارادته على نحو اساسي ومباشر إلى تقديمها للضحية، فضلا عن ضرورة وجود نية محددة هي نية إزهاق روح هذا الاخير(35).

 

وجدير بالاشارة إلى ان الخلاف الدائر هنا ليس الا  امتداد لخلاف اعمق يتصل بطبيعة الجريمة نفسها(36)، ومفاد هذا الاعتبار ان اشتراط القصد الخاص انما يتفق مع النظر إلى جريمة التسميم بحسبانها نوعا من القتل مما يعني ضرورة توافر نية ازهاق الروح لدى الجاني. ومما يستند إليه من يسير في هذا الاتجاه ان المشرع قد أورد النص على التسميم ضمن الفرع الخاص بالجرائم العمدية الماسة بالحق في الحياة، سواء ما يتعلق منها بالقتل العمد في صورته البسيطة أو في صورته المشددة بسبب الاقتران بسبق اصرار أو الترصد، أو قتل احد الاصول أو قتل احد الاطفال حديثي العهد بالولادة ( م 295 و296 و299 و300 من المدونة القديمة).

 

فلئن تباينت هذه الصورة فيما بينها من حيث الوسيلة المستخدمة في ارتكاب الجريمة أو من حيث الحالة النفسية للجاني أو من حيث ما يثبت لدى المجني عليه من صفة خاصة، فان ثمة عنصرا مشتركا يربط فيما بينها جميعا مؤداه توافر نية القتل لدى الفاعل. اما القول بما يخالف هذا التفسير فلن يكون من نتيجته الا الخرق السافر لمبدا الشرعية الجنائية والمخالفة الصريحة لما تقتضيه ضرورة تفسير النصوص العقابية على نحو ضيق، والاية في ذلك ان المشرع لو اراد تجريم بعض الأفعال دون ان يتطلب فيها نية القتل لنص على ذلك صراحة،

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

34-  في هذا المعنى :

    ROUJOU de BOUBEE (G.) et autres-, Nouveau code pénal, Dalloz, 1996, p.160

35- RASSAT (M.- L.) -, L'élément moral du crime de l'empoisonnement, note sous cass.

     Crim.2 juill.1998, J.C.P., E.G., 1998, II, 10132.

36- VERON (M.)-, OP. cit., pp. 27-28.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

على غرار ما فعل في المادة 311 من المدونة القديمة ( م. 222/7 من المدونة الجديدة) المتعلقة بالضرب أو العنف المؤدي إلى الموت دون نية احداثه(37)،

اما الاتجاه الأول فيذهب إلى اعتبار التسميم جريمة من نوع خاص وذات وجود مستقل عن الصور الأخرى من القتل من حيث البناء القانوني مما يستتبع عدم اخضاعها لما يسري على هذه الصور من مقتضيات واحكام.

 

والخصوصية التي تتسم بها جريمة التسميم تجد تفسيرها في ان ثمة نمطين من العدوان على المصلحة المشمولة بالحماية عند صياغة التجريم القانوني (38). اولهما الاعتداء المحدد بالنظر إلى هدفه ( كما هو الشان في الاعتداء على امن الدولة) والذي يمكن تحقيقه بوسائل متعددة، مما يجعل الجريمة منتمية إلى طائفة الجرائم ذات الوسيلة المطلقة، وثانيهما الاعتداء المحدد بالوسيلة المستعملة ( كما في حالة الاعتداء بالنار أو المتفجرات)، والتي تكشف عن هدفه، مما يجعل الجريمة داخلة في عداد الجرائم ذات الوسيلة المقيدة(39). وغني عن البيان جريمة التسميم تقع ضمن الطائفة الثانية من العدوان، اذ انها تتميز بالطبيعة القاتلة للمادة المستخدمة كوسيلة لقيامها، وبالتالي يكفي لتحققها من الناحية المادية، ان يكون من شان هذه المادة القاتلة احداث الموت، كما يكفي لتحققها من الناحية المعنوية، مجرد العلم بالطبيعة القاتلة للمادة المستعملة اراديا.

 

اما الاسانيد التي يتذرع بها انصار هذا الاتجاه المدافع عن قيام الجريمة بمجرد تحقق القصد الجنائي العام لدى المتهم فتتعلق بالاصل التاريخي لجريمة التسميم في القانون الفرنسي، وباعتبارات متصلة بالمنطق السليم، واخرى خاصة بانسجام البناء الداخلي للجريمة(40).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

37-  DELMAS SAINT-HILAIRE (J-P.)-, La mort : le grand absent de la décision rendue

       dans l'affaire du sang contaminé par le tribunal correctionnel de Paris, G.P. 1993, 1,

      Doctr. P.257.

وفي شان بعض الاعتبارات الاخرى التي تمنع من انطباق وصف التسميم في قضية الدم الملوث بفيروس السيدا، راجع على الخصوص :

MATHIEU (G.)-, Sida et droit pénal, R.S.C., 1996, pp.81 et s.

38-  PROTHAIS (A.)-, Note sous T. corr. Paris, 23 octobre 1992, D. 193, P.226

وقارن : امين مصطفى محمد : الحماية الجنائية للدم، دار الجامعة الجديدة  للنشر، الاسكندرية، 1999، رقم 41، ص 62.

39-  جلال ثروت : نظرية القسم الخاص . رقم 116، ص 170.

40-  في هذا المعنى  RASSAT (M.-L.)-, Ibid وقارن :

PRADEL (J.)-, et DANTI-JUAN (M.)-, Op. cit., n.30, p.46

ROUJOU de BOUBEE (G.) et autres-, Op. cit., p.160

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وبيان ذلك انه يلاحظ من الناحية التاريخية ان التعريف الذي خص به المشرع الفرنسي جريمة التسميم في المدونة الجنائية الأولى العام1791 كان مفرغا في صيغة " القتل المرتكب عمدا بواسطة سم" اما في المدونتين اللاحقتين فلم ترد الاشارة في تعريف الجريمة لا إلى فعل  " القتل Homicide " ولا إلى حال " عمدا Volontairement"، مما ينهض دليلا على ان لهذه الجريمة - حسب الصياغة الجديدة - كيانا قانونيا مستقلا عن القتل.

 

ويلاحظ من زاوية المنطق السليم ان التسميم لو كان مجرد نوع من القتل لما كانت الحاجة داعية إلى التنصيص عليه صراحة اكتفاء بالمبدا العام الذي تتقرر بموجبه المساواة من حيث القيمة القانونية بين الوسائل التي تنفذ بها الجريمة، ومعنى هذا، بعبارة اخرى، أن وجود نص خاص بالتسميم لا يمكن تفسيره الا باعتباره تعبيرا من المشروع عن التسليم بوجود فوارق محددة بين هذه الجريمة وجريمة القتل.

 

ويلاحظ من زاوية الانسجام الداخلي ان الخصوصية التي ينطبع بها التسميم لا تقتصر على الجوانب المادية للجريمة وحدها، وإنما تمتد إلى جوانبها المعنوية أيضا : فاذا كان الركن المادي في هذه الجريمة يكتمل وجوده بمجرد اعطاء المادة القاتلة " وايا كانت النتيجة"، أي سواء ادى فعل الاعتداء إلى وفاة الضحية ام لا، فان من غير المقبول حينما يصار إلى بحث ركنها المعنوي اشتراط نية خاصة هي نية القتل.

 

ومحصلة هذا الاتجاه الذي نميل إلى تأييده - رغم عدم تردد صداه ايجابيا لدى القضاء الفرنسي المعاصر - ان انتماء التسميم إلى فصيل الجرائم الشكلية يرتب جملة من النتائج الضرورية التي تنعكس انعكاسا مباشرا على البناء القانوني للجريمة سواء في جانبها المادي أو المعنوي.

 

صحيح ان القصد الجنائي ركن مشترك بين التسميم والقتل العمد، الا ان مضمونه الحقيقي لا يتحدد من خلال النسج على منوال واحد في كلا الحالتين. لما كان القتل العمد لا يتم ماديا الا بوفاة الضحية كان قصد الجنائي في هذه الجريمة غير مكتمل بمجرد إرادة السلوك المتسبب في الوفاة، وانما يلزم اتجاه إرادة الجاني إلى هذه النتيجة نفسها (41)، اما جريمة التسميم التي لا يدخل عنصر الوفاة جزءا في تكوينها المادي فيتأدى ركنها المعنوي في مجرد ارادة السلوك الذي قد تتمخض عنه النتيجة المذكورة بواسطة مواد

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

41- عبد الحفيظ بلقاضي : محاضرات في القانون الجنائي الخاص، جرائم الاشخاص والاموال، مكتبة دار الامان الرباط،2001، ص 37 وما بعدها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

من شانها ان تسبب الموت عاجلا أو اجلا، ولكن من دون اشتراط اقتران هذه الإرادة بنية ازهاق روح الضحية(42).

ولا شك ان تجريم التسميم من خلال هذه التقنية التشريعية الخاصة يمثل اداة فعالة في يد المشرع الجنائي في سبيل مكافحة بعض انماط السلوك الاجرامي التي تنطوي على درجة عالية من الخطورة الاجتماعية وتثير قدرا متزايدا من الاستهجان الاخلاقي(43).

 

ولعل مما لا يخلو من دلالة في هذا المضمار انه في خضم مناقشة  مشروع  المدونة  الجنائية  الفرنسية  الجديدة امام البرلمان، والذي ذهبت فيه اراء النواب والمستشارين بشان مدى  الفائدة  من الابقاء على النص  الخاص  بالتسميم أو الغائه مذاهب متباينة، وردت الاشارة صريحة في تقرير المستشار Jolibois إلى ان  مثل  هذا النص انما يجد مبرر وجوده في كونه " انجع وسيلة لزجر النقل العمدي لفيروس السيدا"(44).

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

42-  قارن في هذا المعنى:

       MAYAUD (Y.)-, L'empoisonnement, une logique de mort (A propos de l'affaire du

       sang  contaminé), R.S.C., 1995,  pp.347 et s.

43-  PRADEL (J.)-, note précitée…p.459.

44-  Rapport Jolibois, J.O. 1991, doc. Sénat, n.295, p.40

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مجلة الإشعاع، عدد 25، ص : 25.

 



تعليقات