القائمة الرئيسية

الصفحات



نسب الابن الطبيعي إلى الأب البيولوجي

 


 

نسب الابن الطبيعي إلى الأب البيولوجي

 

بقلم

أحمد زوكاغي

دكتور في الحقوق


 

نسب

الابن الطبيعي

إلى الأب البيولوجي

 

بقلم

أحمد زوكاغي

دكتور في الحقوق

لقد كان النسخ، ومن ثمّ الإلغاء، النتيجة المُنتَظرة، التي لم تكن وحسب متوقعة، ولكنها كانت مؤكدة، ثابتة،  للمنطوق الذي ذيَّلت به المحكمة الابتدائية بطنجة الحكم الصادر عن غرفة الأحوال الشخصية، قسم قضاء الأسرة، في 30 يناير 2017، في الملف رقم 1391/1620/2016،[1] على الرغم من الشهرة الكاسحة التي اكتسبها الحكم، وأدت لتسميته، على غير العادة، باسم القاضي، رئيس الهيأة التي صدر عنها: «حكم الزَّردة»، وليس باسم الأطراف أو أحد طرفي الدعوى، أو نسبة إلى المحكمة التي أصدرته، أو بالإحالة لموضوع النازلة.

والواقع أن الشهرة الواسعة التي غشيت الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بطنجة، في 30 يناير 2017، إنما ترجع للنتيجة التي خلص إليها بشأن علاقة جنسية نشأت خارج رابطة الزواج، تمخَّض عنها إنجاب طفلة، تنكَّر لها الأب، ولم يشإ الاعتراف بها ولا الإقرار بلحوق نسبها إليه، والالتزام بالتالي بما يتولَّد عن الإقرار بالنسب، من تسجيل البنت في الحالة المدنية، والإنفاق عليها إلى حين سقوط الفرض عنه شرعاً. الأمر الذي أجبر الأم على إقامة دعوى في مواجهة الأب المزعوم، لإرغامه على الإقرار بنسبة البنت إليه، والوفاء، نتيجة لذلك، بالموجبات التي يفرضها القانون على الآباء تجاه الأبناء. وعلى وجه الخصوص: الحكم بالتعويض، لفائدة الأم، عن الضرر الذي لحقها من جراء العلاقة الجنسية غير المشروعة، التي ورَّطها فيها الأب المزعوم. وهي العلاقة التي اعتبرتها المحكمة فعلاً غير مشروع، يندرج في مفهوم الخطإ «الذي يرتكبه الإنسان عن بينة واختيار، من غير أن يسمح له به القانون، فأحدث ضرراً مادياً أو معنوياً للغير، يلزم مرتكبه بالتعويض عن الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر».

وبناءً على هذا التصور: «ارتأت المحكمة، بعد ثبوت علاقة البنوة بين البنت والمدعى عليه، وما يستلزمه ذلك من رعايتها والقيام بشؤونها، مادياً ومعنوياً، والحفاظ على مصالحها، كمحضونة، وما يتطلبه ذلك من مصاريف، أن تمنح المدعية تعويضاً... قدره مائة ألف (100.000.00) درهم»، وتحميل المدعى عليه مصاريف الدعوى. وهو ما أعادت التأكيد عليه ضمن منطوق الحكم، حيث: «حكمت المحكمة:

في الموضوع: (1) ثبوت بنوة البنت... (2) بأداء المدعى عليه، لفائدة المدعية... تعويضاً قدره (=100.000) مائة ألف درهم».  

ويحسن التنبيه إلى أن المحكمة لم تعتمد في إثبات البنوة بين الأب المزعوم، المدعى عليه، وبين المولودة المدعى بها، على وسائل الإثبات الشرعية، الراسخة والمعتادة، التي تستند جميعها إلى قاعدة «الولد للفراش»،[2] وإنما بالاستناد إلى خبرة طبية، أجراها مختبر الشرطة العلمية بالدار البيضاء، بأمر من قاضي التحقيق، توصل فيها تقرير الخبرة «إلى وجود علاقة بنوة بين [المولودة] والمدعى عليه». واستناداً للتقرير المذكور، انتهت المحكمة الابتدائية إلى أنه «تبعاً للعلل التي تم بسطها تكون رابطة البنوة بين [المولودة]... ووالدها المدعى عليه ثابتة في النازلة، مما يكون معه الطلب مؤسساً، ويتعين الاستجابة له».

كما وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة بنت حكمها بالتعويض على أساس العمل الجرمي الثابت في حق المدعى عليه، الناتج عن جريمة الفساد التي أُدين من أجلها بموجب حكم، اكتسب الصفة النهائية، بعد تأييده في مرحلة الاستئناف.

ولعل النقطة المتعلقة بتأسيس المسؤولية على قاعدة الفعل المتمثل في جريمة الفساد التي نتج عنها الإنجاب، تستحق التوقف عندها، والبحث في ما إذا كانت تشكل واقعة يُسأل عنها طرف واحد، دون قرينه الذي اقترف معه الفعل الجرمي، فأصبح بالتالي شريكاً له بالمفهوم القانوني لمصطلح المشاركة، وذلك لأن فعل الفساد لايتحقق إلا إذا ارتكبه رجل وامرأة، لاتربط بينهما رابطة زواج، ولا يتوفر لأحدهما مانع يحول دون المتابعة. وبالنتيجة، فإن نسبة المسؤولية المدنية لأحد طرفي الفعل الضار دون الآخر، أمر لايستقيم، وبالتالي يحتاج لدليل من العسير جداً العثور عليه في مثل هذا الفرض.

وعليه، كان الأمر يقتضي، في أسوإ احتمال، توزيع المسؤولية بين الطرفين؛ إذ أن المدعى عليه لم يُتابع، ولم يُدَن بسبب تغرير قاصر، أو اغتصاب، وإنما بالفساد، وهو فعل اختياري، بالنسبة لطرفيه معاً، يقدِمان عليه عن طواعية، ووعي منهما.

وعلى الرغم من أن المحكمة التي صدر عنها الحكم، موضوع التعليق الماثل، محكمةٌ مدنية، لاتتقيد بالتكييف الذي توصلت إليه المحكمة الزجرية، بالنسبة للفعل الجرمي ومقوماته؛ إلا أنها تتقيد بالوقائع التي أثبتها الحكم الجنحي، الذي أحالت عليه، واتخذته أساساً لتقرير المسؤولية المدنية. وبما أن الواقعة التي أُقيمت على أساسها الإدانة تتعلق بالفساد، وهو كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لاتربطهما رابطة زواج؛[3] فهو، بهذه المثابة، من طينة الأفعال التبادلية التي لايقترفها الكائن الحي بمفرده، أو بينه وبين ذاته. ومن ثم، تتعدى صفة وهيأة كل طرف من طرفي علاقة الفساد منزلة المشارك، فترقى لمرتبة مساهم، كان له دور أساسي في تحقيق الركن المادي لفعل الفساد، بحيث لم يكن دوره يقتصر، كالشريك، على توجيه الفاعل الأصلي بالأمر، أو التحريض، أو بغيرهما من الصفات التي يحددها القانون للمشارك في الجريمة.[4] هذا وإن الصفة التبادلية لجرم الفساد هي التي أكد عليها الذكر الحكيم، في قول المولى، جل وعلا: «الزانية والزاني» (سورة النور، من الآية 1). وفي التعليق عليها، يقول الإمام القرطبي: «الزنى... اسمٌ لوطءٍ الرجل امرأةً في فرجها، من غير نكاح ولا شبهة نكاح، بمطاوعتها، وإن شئتَ قلتَ: هو إدخال فرج في فرج، مشتهى طبعاً، محرمٌ شرعاً... ذكر الله، سبحانه وتعالى الذكر والأنثى. والزاني كان يكفي منهما، فقيل ذكرهما للتأكيد، كما قال تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما»، ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظانٌ أن الرجل لما كان هو الواطئ، والمرأة محل: ليست بواطئة، فلا يجب عليها الحد؛ فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء، منهم الشافعي، فقالوا لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان، لأنه قال جامعت أهلي في نهر رمضان، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: كفِّر. فأمره بالكفارة، والمرأة ليست بمجامعة ولا واطئة».[5]

ويتعين الانتباه جيداً إلى أن المحكمة الابتدائية بطنجة، في الحكم الماثل، الصادر في 30 يناير 2017، قد تقيدت، بشكل دقيق وصارم، ليس فقط بالمنطوق الذي خلص إليه حكم المحكمة الزجرية، المثبت لواقعة الفساد، ولكن، وفوق ذلك، تقيدت أيضاً بالأثر القانوني والشرعي الناتج عن رابطة الفساد، المتمثل في نفي نسب المولود الناشئ عن الرابطة المذكورة، تجاه الأب المزعوم، المدعى عليه في النازلة. وهو النفي الذي تكرر التأكيد عليه، في غير ما موضع من الحكم المذكور. فقد ردت به المحكمة على الدفوع التي أُثيرت لديها، ومفادها «لايجتمع حد ونسب»، فأوضحت بالنسبة للدفوع المثارة لديها، وعلى وجه الخصوص:

-أ- في الدفع بقاعدة «لايجتمع حد ونسب»:

«حيث إن تطبيق القاعدة الفقهية، القاضية بعدم اجتماع الحد والنسب، إنما يكون محله إثبات النسب، والحال أن المدعية أسست طلبها على أحكام البنوة غير الشرعية، المقررة في المواد 142 و143 من مدونة الأسرة، مما لا مجال معه للاستدلال بالقاعدة المذكورة أعلاه، لاختلاف الإطار القانوني».

-ب- في الدفع بالأحكام المستدل بها:

حيث باطلاع المحكمة على الأحكام المستشهد بها، من طرف نائب المدعى عليه، تبيَّن أنها لاتتعلق بالبنوة، موضوع نازلة الحال؛ إنما مجال تطبيقها في حالة ثبوت النسب الشرعي، المنصوص عليه في المواد 150 إلى 162 من مدونة الأسرة، مما يكون معه الاستدلال بها جاء في غير إطاره القانوني السليم، ويتعين رد الدفع.

 

-ج- في طلب النفقة:

طلب النفقة غير مرتكز على أساس قانوني، ذلك أن أسباب وجوب النفقة على الغير هي الزوجية والقرابة والالتزام، طبقاً للمادة 187 من مدونة الأسرة، وأن البنوة غير الشرعية لايترتب عليها، بالنسبة للأب، أي أثر من آثار البنوة الشرعية، بصريح نص المادة 148 من نفس المدونة، مما يتعين معه رفض الطلب.

وهذا التأكيد الأخير، على عدم إنتاج البنوة غير الشرعية لأي أثر بالنسبة للأب، هو الذي استهلت المحكمة به حيثيات الحكم، وهي بصدد تعريف البنوة، حيث بينت:

«عرفت المادة 142 البنوة على أنها تتحقق بتنسُّل الولد من أبويه، وهي شرعية وغير شرعية. وتكون شرعية، بالنسبة للأب، في حالات قيام سبب من أسباب النسب، وتنتج عنها جميع الآثار المترتبة على النسب شرعا (المادة 144). أما بالنسبة للأم، فتستوي البنوة في الآثار التي تترتب عليها، سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية (المادة 146). كما أن البنوة غير الشرعية لايترتب عليها أي أثر من آثار البنوة الشرعية، بالنسبة للأب، (المادة 148)».

وإلى هذا الحد، إذن، لم تتجاوز المحكمة دائرة القواعد الشرعية والمقتضيات القانونية المتعلقة بالنسب وما يتولد عنه من نتائج وآثار؛ فقد حكمت بعدم ثبوت النسب بين الأب وبين المولود المدعى به، ولذلك رفضت الاستجابة للطلبات الرامية لإلزام المدعي بالتصريح بالمولود لدى مصالح الحالة المدنية، أي بالإقرار به وبنسبه إليه، وكذا بالإنفاق عليه، لأن النفقة إنما تجب للقرابة، وهي غير ثابتة بين المولود وبين المدعى عليه، لانتفاء رابطة الزوجية التي تنشأ عنها القرابة الموجبة للنفقة. وبالنتيجة، لا مأخذ على المحكمة في هذا المسلك، فقد كان تأكيدها لعدم ثبوت النسب صائباً تماماً، ولا محاججة عليه، لأن المولود نشأ عن رابطة جنسية غير مشروعة، ولذلك فهي لاغية بالنسبة للأب، فلا يلحق به الولد، لا في النسب، ولا في الاسم، ولا في الجنسية، ولا في الميراث. 

غير أن الذي أثار الجدل والاعتراض والنقاش، بالنسبة لحكم المحكمة الابتدائية، بطنجة، الصادر يوم 30 يناير 2017، إنما يتمثل في التفرقة التي أقامتها من حيث الآثار، لأول مرة، حسب علمنا، بين النسب الشرعي وبين النسب الطبيعي، بحيث قررت أن الآثار الشرعية والقانونية للنسب لاتتولد إلا عن النسب الشرعي؛ أما النسب الطبيعي، وهو الذي لايستند لنكاح صحيح أو بشبهة؛ فهو، في نظر المحكمة، لايُعفي الأب الطبيعي، أو البيولوجي، من التزامات معينة، يفرضها تورطه في العلاقة الجنسية التي أقحم فيها نفسه مع الأم. الأمر الذي يستحيل، في النهاية، إلى اعتبار الأم ضحية بدورها، مثلها مثل المولود، لم تستسلم، ولم تسلم نفسها، وكأنها ركنت، مثل الدابة، أو الماشية، إلى الذي أغواها دون أن تضمر في نفسها غوايته هو، وجره إلى التورط، أو انتظار منافع وغايات غير خافية إطلاقاً، أدناها وأقدمها ادعاء الغواية والتحرش، وأقصاها وأحدثها الإدلاء بصور متحركة حية (فيديوهات)، توثق لمشاهد خليعة، وبعدها: «إذا مِتْتُ ظمآناً فلا نزلَ القَطْرُ». ومن ثم، فإن مسلك المحكمة، من هذه الناحية، أي مؤاخذة المُغرَّر به دون الغَرور، يُحيل، في الحقيقة، على الممارسة التي دأبت عليها جهات رسمية مختلفة، منها النيابة العامة، في حالات الإقرار بالفساد، بصفة خاصة، إذ يتابع المغرر به، دون الغَرور، ويؤاخذ باعترافه.

والواقع أن سلوك النيابة العامة لهذا التوجه، وهو النهحج الذي تتبعها فيه محكمة الموضوع، إنما يرجع، في الحقيقة، لقيود الإثبات الصارمة التي يفرضها النص التشريعي الصريح، الذي يحصر وسائل إثبات جريمة الفساد في اعتراف شفهي أو كتابي، يصدر عن المتابع، وبالتالي يؤاخذ المُقر بإقراره ويُخلي سبيل المُنكِر.[6] ومن المؤكد أن الخطورة الجسيمة لفعل الفساد هي التي قرر في شأنها التنزيل الحكيم وجوب إثباتها بأربعة شهداء، وغلظ العقوبة لمن يفتري فيها. ثم إن المنهج الذي تسير عليه النيابة العامة في هذا الشأن لاتنفرد به، إذ تمشي على نظيره إدارة الضرائب، عندما تتوصل إلى وجود فارق بين الثمن المصرح به، في البيع العقاري، وبين الثمن المفترض للعقار، تبعاً للتقويم الذي تجريه إدارة الضرائب، وحينئذ تكتفي بالاحتجاج في مواجهة المشترى، لأنه المليء، ولأن العقار المهدد بالتنفيذ عليه يوجد في حوزته، وعليه هو أن يتعقب البائع، وأن يتمسك تجاهه بالاتفاق المعقود بينهما، إن كان هناك اتفاق مضمر، أو أن يتحمل أداء الفرق المطلوب لوحده. وهو الخيار الذي يميل إليه المشتري، فيستسلم لقدره، اقتناعاً منه بأن أي محاولة للمنازعة لن تُجدي شيئاً، وقد تكون عواقبها أسوأ، تجر معها الخيبة وهدر المال والوقت والجهد. ثم إن الممارسة التي من هذا النوع، تثير التساؤل حول جدواها وتناسبها مع غايات تثبيت الثقة والنجاعة في الأجهزة العمومية ودورها في تحقيق الإنصاف والأمن القانوني، الأمر الذي يقتضي، على الأقل، استدعاء الطرف الآخر والاستماع لأقواله، عسى أن يخلف ذلك بعض التأثير في نفسه، ويُثني عن التعنت والإصرار. وذلك اقتداءً بالمثل الذي جسَّده العدل الإلهي في مؤاخذة آدم وحواء وإبليس جميعهم،[7] وطردهم من الجنة، لا فرق بين المغرر بهما: آدم الذي استسلم لإلحاح حواء وضعفت مقاومته تجاه مطلبها، وحواء التي أغواها إبليس وصور لها شبح ضرة لا وجود لها، من جهة أولى، وبين إبليس، من جهة ثانية، الذي تمكنت منه الكبرياء والغُرور وعزة النفس، فرفض السجود لآدم، والامتثال للأمر الصادر للملائكة كلهم، وأصر على إغواء آدم وحواء، ومن ثم تحريضهم على العصيان.[8]

ومن الملفت للنظر، في الحكم الصادر في 30 يناير 2017، أن ركوب المحكمة لهذا المسلك لم يكن البتة اعتباطياً أو بمحض الصدفة، وإنما أقامت الحكم بالتعويض لفائدة الأم، على أساسٍ تصوَّرته راسخاً متيناً، جسدته المقتضيات المقررة في اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الطفل، التي صادقت عليها، في نيويورك، الجمعية العامة للأمم المتحدة، دون تصويت، بموجب القرار رقم 44، الصادر في 20 نونبر 1989، وصادق عليها المغرب بمقتضى الظهير رقم 1.93.363، المؤرخ في 21 نونبر 1996 (الجريدة الرسمية، عدد 4440، بتاريخ 19 دجنبر 1996، ص2847). وهو الأساس الذي عبرت عنه المحكمة بقولها:

«حيث يؤخذ من الفقرة الأولى من المادة الثالثة من الاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل، المعتمدة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة، المنعقدة في 20 نونبر 1989، المصادق عليها من المغرب، في 21/06/1993، أن القضاء يتوجب عليه إيلاء الاعتبار الأول لمصالح الأطفال الفضلى، عند النظر في النزاعات المتعلقة بهم.

كما تنص المادة 7 من نفس الاتفاقية على أن الطفل يسجل بعد ولادته فوراً، ويكون له الحق في اكتساب جنسية، ويكون له، قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه، وتلقي رعايتهما».

وعلاوة على اتفاقية الأمم المتحدة، المتعلقة بحقوق الطفل، استندت المحكمة إلى الاتفاقية الأوربية، المعقودة بمدينة ستراسبورغ، في 25 يناير 1996، المصادق عليها من قبل المغرب، وفقاً للظهير رقم 1.14.25، الصادر في 6 مارس 2014 (الجريدة الرسمية، عدد 6242، المؤرخ في 27 مارس 2014)، التي نصت، في الفقرة الأولى من المادة السادسة منها، على ما يلي:

«يتعين على السلطة القضائية، أثناء سريان إجراءات تخص الطفل، أن:

(أ) تتحققَ من توفر معلومات كافية تمكن من اتخاذ قرار يتماشى مع المصلحة العليا للطفل، وأن في مقدورها، عند الاقتضاء، الوصول لبيانات إضافية تستقيها، على وجه الخصوص، ممن يتولى الرعاية الأبوية».

ومن هنا، يتبين الأساس الذي شيدت على قاعدته المحكمة الابتدائية بطنجة الحل الذي توصلت إليه، بالنسبة لواقعة الإنجاب التي تمخضت عن رابطة قامت بين رجل وامرأة، خارج إطار زواج معترف به، بحيث تصورت المحكمة أن الحماية التي تقررها اتفاقيات دولية، مصادق عليها، من قبل دولة القاضي، ومنشورة بالجريدة الرسمية للدولة المذكورة، تسري، دون استثناء، وبغير تفرقة، بين الأبناء المنحدرين من الاتصال بين رجل وامرأة، كيفما كانت الطبيعة القانونية للاتصال، وبصرف النظر عن التمييز الذي قد يقرره القانون الداخلي بين رابطة يعتبرها صلة مشروعة، تترتب عليها آثار معينة، وبين رابطة حرة، نشأت عن التسري، أو اتخاذ الأخدان، أو السِّفاح، أو الزنى، أو غيرها من ضروب العلاقات الجنسية التي قد تكون عابرة، دفعت إليها النزوة والطيش، وقد تنتج عن الاعتياد على ممارسة البِغاء، أو لأسباب قسرية، مثل الاغتصاب، والتنويم المغناطيسي والتخدير، أو تحت تأثير أعمال الشعوذة، وقد تدخل في صنف زنا المحارم.

وعليه، إذا كان قاضي المحكمة الابتدائية بطنجة، في الحكم الذي نحن بصدد التعليق عليه، قد تصرف على هذا النحو، وفهم على هذا النحو التزام الدولة المغربية بالمعاهدتين اللتين أحال عليهما؛ فلا شك، مطلقاً، أن القاضي قد أخطأ العنوان، وضل عن سواء السبيل، فلم يتيسر له الاهتداء للنهج القويم. لسبب بسيط جداً، يكمن في أن الأمم المتحدة قد راعت، أثناء مناقشة الاتفاقية المتعلقة بمكافحة التمييز في حق المرأة، لسنة 1979، الوضعية الخاصة التي احتج بها الوفد العربي الإسلامي، لدى هيأة الأمم المتحدة، بخصوص الأحكام الواردة في الاتفاقية المذكورة، المتعلقة بالتبني، حيث أثار الوفد الممثل للدول العربية الإسلامية الحظر الذي تقرره الشريعة الإسلامية، بالنص الصريح المانع من التبني، الوارد في التنزيل الحكيم وفي السنة النبوية الشريفة. وبناء على ذلك، صاغ واضعوا اتفاقية حقوق الطفل مقتضيات خاصة، تتعلق بالكفالة، ضمن المادة 21، لتحل محل الأحكام الخاصة بالتبني. وهو نفس الموقف الذي اتخذته المملكة المغربية إزاء النصوص المقررة في اتفاقية 1979 نفسها، التي تدعوا للمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات؛ حيث ذيَّلت المملكة المغربية المصادقة على الاتفاقية المذكورة بتحفظ مفاده أن المملكة، وهي تصادق على الاتفاقية، تتحفظ بالنسبة للأحكام المتعلقة بالتسوية في الميراث، بين الذكر والأنثى، لوجود مقتضيات صريحة في الشرع الإسلامي تعلو على التشريع، ولا يستطيع المشرع الوضعي المساس بها.

ويبدو أن محكمة الاستئناف بطنجة لم تخرج تماماً عن التصور السابق، وهي تنظر في الطعن المرفوع تجاه حكم المحكمة الابتدائية، موضوع التعليق الحالي؛ فقد تصدت محكمة الاستئناف للرد على الأسس التي استند إليها القاضي الابتدائي، لتبرير المسلك الذي جعله يعترف قسراً للنسب غير الشرعي بأثر ما كان يستطيع أن يعثر له على منفذ يسوغه لولا التفسير التعسفي الذي أعطاه لأحكام وردت في اتفاقية دولية، رغم انتفاء الصلة تماماً بين الأحكام المذكورة وبين النقطة القانونية المُثارة. وهكذا، ففي الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بطنجة، الصادر في الملفات عدد 246، 273، 422/1613/2017، بتاريخ 19 أكتوبر 2017، أعلنت المحكمة عما يلي:

«ومن حيث عدم تطبيق قانونية الاتفاقيات الدولية؛ فإن واضع المقتضيات الدستورية تبنى مبدأ السمو المشروط، ليبقى للسلطة التشريعية هامش التعامل مع المقتضيات الواردة بالاتفاقيات الدولية، بما تقتضيه المصلحة العامة. وهو الأمر الذي يخرج عن نطاق اختصاص السلطة القضائية. وأن الدستور نفسه ألزم القضاة بتطبيق القانون وليس التشريع. وأن القاضي الابتدائي أراد أن يبحث لنفسه عن سند قانوني، من أجل إضفاء الشرعية على حكمه، فلجأ إلى الاتفاقيات الدولية، وتحدث عن الاتفاقية الأوربية لستراسبورغ، المؤرخة في يناير 1996، ومقتضيات الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، في جزئها لمتعلق بالهوية. لكن ما تجب الإشارة إليه أن الاتفاقيتين ركزتا بالأساس على الحقوق المدنية وضمان توفيرها، وأن الولد الذي يُنجب خارج الإطار الشرعي صدرت بشأنه اتفاقية روما، بتاريخ 10/09/1970، والتي لم يصادق عليها المغرب. وأن مناط تطبيق الاتفاقية الدولية وتطبيقها على التشريع الوطني رهين بعدم ملاءمة المشرع للقانون وفق هذه الاتفاقيات، والحال أن تاريخ صدور مدونة الأسرة لاحق للاتفاقيات التي تم الاستناد عليها في الحكم الابتدائي، مما يكون معه المشرع قد عمل على ملاءمتها، مما يلزم قاضي الأسرة بتطبيق مقتضيات مدونة الأسرة، ولا مجال للخروج عنها. وأن ةمفهوم الفقرة الثالثة من الفصل 32 من الدستور، المستند عليه في الحكم، لايمكن التلويح به على عواهنه، فهو ينصرف أساساً إلى المساواة بخصوص التمتع بالحقوق المدنية، وتوفير الحقوق التي خولها المشرع، كل في الإطار الذي حدده القانون».

وعلى الرغم من صحة ودقة وسلامة النتائج التي توصلت إليها محكمة الاستئناف، وهي تنظر في حكم المحكمة الابتدائية، محل التعليق الماثل؛ إلا أن الحيثيات التي بنت عليها النتائج التي خلصت إليها ليست بمناى عن التمحيص والنقاش. فمن ناحية أولى، لايؤثر في شيء صدور تشريع داخلي، في تاريخ لاحق لنفاذ اتفاقية دولية في سمو الاتفاقية وفي الالتزام بترجيحها على القانون الداخلي، بصرف النظر عما إذا كانت الأحكام المقررة فيها متلائمة مع مقتضيات القانون الداخلي أو متعارضة معها، وسواء كان التعارض واضحاً صريحاً أو ضمنياً مضمراً. لسبب بسيط جداً هو الحيلولة دون الاحتجاج بالقانون الداخلي، أو اللجوء إلى إصدار تشريع لاحق، يُلغي أو يعدل من أحكام اتفاقية سابقة؛ إذ يفسَّر مثل هذا السلوك في الرغبة في التملص من اتفاقية دولية.

لقد كان على قاضي الطعن بالاستئناف أن يربأَ بنفسه عن مناقشة مسألة من هذا النوع، باتت بديهية، ومسلماً بها، ووقع الحسم فيها منذ عقود خلت، واعتاد المشرع الوطني على أن يستعمل بشأنها عبارة  غدت تقليدية مألوفة. فقد فصلت فيها، بنص صريح، معاهدة فيينا المتعلقة بالحق في إبرام المعاهدات، الموقع عليها في 23 ماي 1969، المصادق عليها من قبل المغرب، بمقتضى ظهير غشت 1973 (الجريدة الرسمية، عدد 3239، بتاريخ 27 نونبر 1974، ص3447). فقد قضت المعاهدة المذكورة، المعروفة باسم معاهدة المعاهدات، في المادة 27، بما يلي:

«لايجوز أن يستند أحد الأطراف إلى مقتضيات قانونه الداخلي، لتبرير عدم تنفيذ معاهدة ما. ولا تمس هذه القاعدة بمقتضيات الفصل 46».[9]

كما أن كثيراً من نصوص القانون الداخلي لم تعد تغفل عن التأكيد على سمو المعاهدات على القانون الداخلي، خاصة بالنسبة للمجالات التي يكون للأجانب، رعايا الدول المتعاقدة، نصيب فيها، أو رخصة، أو امتياز. ويعبر المشرع الوطني عادة عن الالتزام بترجيح أحكام الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي بعبارة «مع مراعاة الاتفاقيات الدولية، المصادق عليها، والمنشورة، على الوجه الصحيح...». وهو الأسلوب الذي نجده، مثلاً، في قوانين المحاماة المتعاقبة، عبر سنوات 1968، 1979، 2008. علاوة على أن الدولة المغربية لاتتواني في إعمال الإجراءات الدستورية المقررة إذا تأكد لديها أن الانضمام إلى معاهدة يقتضي ملاءمة القانون الداخلي مع الاتفاقية المزمع التصديق عليها.

هذا بالإضافة للتأكيد على سمو الاتفاقيات الدولية بمقتضى ديباجة الدستور المغربي، المصادق عليه بإجماع الأمة، يوم الجمعة فاتح يوليوز 2011، حيث ورد النص على هذا التأكيد، بوجه خاص، من ناحية، في الفقرة الثالثة من الديباجة، وبمقتضاها:

«وإدراكاً منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به، على الصعيد الدولي؛ فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم».

ومن ناحية ثانية، جاء التأكيد الصريح على سمو المعاهدات الدولية ضمن الفقرة ما قبل الأخيرة من الديباجة، حيث أكدت على:

«جَعْلُ الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة».

واعتباراً لأن الاستئناف ينشر الدعوى، فلقد كان قاضي الطعن؛ وهو يناقش مسلك المحكمة الابتدائية، التي بنت ما قضت به على أساس اتفاقيات دولية، فسرت أحكامها على النحو الذي يوصل إلى الغاية التي أرادت المحكمة المذكورة بلوغها؛ كان على قاضي الطعن، إذن، أن ينبري، بشكل مباشر، إلى تنبيه القاضي الابتدائي إلى الحدود التي رسمها المشرع بنفسه للقاعدة العامة المتعلقة بسمو المعاهدة الدولية، على القانون الداخلي، بموجب ديباجة الدستور، التي نصت، صراحة، على أن «الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء».

وبهذه الكيفية، يكون قاضيا لدرجة الثانية قد أوجد تفسيراً خاصاً للحكم المقرر في المادة 46 من معاهدة فيينا، التي تُجيز الاحتجاج بأي عيب من عيوب قبول المعاهدة، إذا كانت تتعلق بأهلية الدولة، حالة كون العيب ينطوي على «مخالفة جلية، وكانت تتعلق بقاعدة ذات أهمية أساسية من قانونها الداخلي». وهل هناك مخالفة أشد جلاءً وبياناً ووضوحاً من قاعدةٍ، مهما كان مصدرها، تتعارض مع القيم التي تشكل جزءاً لايتجزأ من الدين الإسلامي، وهو الذي يعتبر، بصريح النص الوارد في الفقرة الثالثة من المادة الأولى من الدستور، أول وأهم الثوابت التي تمثل جوهر الهوية بالنسبة للأمة المغربية، مما يعني، في نهاية الأمر، أن الإقرار بأي أثر من آثار العلاقات الجنسية غير المشروعة يعتبر مسألة لا سبيل، مطلقاً، لبحثها ومناقشتها، وبالأحرى تبريرها والتنقيب لها عن مسوِّغ يجعل لها مكانة في مجتمع عربي إسلامي، رفضت المجامع العلمية فيه الاعتراف بالنسب الناشئ عن التلقيح الاصطناعي، المعروف بأطفال الأنابيب، شأنه في ذلك شأن الاستنساخ البشري، وغيرها من القضايا التي صدرت فيها فتاوي شرعية، تم التوصل إليها بالإجماع، وبعد إعمال النظر الشرعي على القضية المعروضة، ومنها، على وجه الخصوص، مسألة إثبات النسب عن طريق تحليل الجينات. وهي المسألة التي تحفَّظ تجاهها القضاء المغربي، واعتبر الوسيلة المقبولة لإثبات النسب لاتخرج عن قاعدة «الولد للفراش»، وأن أي وسيلة أخرى، طبية أو جراحية، إنما يُعتد بها إذا كان من شأنها دعم قاعدة «الولد للفراش»، وكانت نتيجتها المساهمة، بشكل إيجابي، في إثبات أن الولد ولد الزوجة، جاءت به وهي على فراش الزوجية، خلال المدة المعتبرة، من زوجها الذي دخل بها بصداق مسمى، ومعرفة وليها، وشهادة الشهود.

ولئن نحا القضاء المغربي هذا النحو لقدم في ذلك عوناً وموازرة للاتجاه السليم الذي خطته المحكمة الابتدائية بطنجة، منذ سنين عديدة، وهي ترفض الاعتراف بأي رابطة شرعية بين رجل وامرأة، اتضح أن الرجل عقد عليها بعد أن ظهر الحمل عليها نتيجة اتصال جنسي سابق بينهما؛ فلم يترد القاضي في الإعلان عن فساد الزواج، والأمر بحله على الفور، وإنكار إنتاجه لأي أثر من الآثار المعتبرة للنكاح. لأنه يمثل صورة من صور وطء العاقد في العدة، وهو محرم بالآية الكريمة: «ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله» (البقرة، الآية 233)، ويترتب عليه، فوق ذلك، الحرمة الأبدية للاجتماع بين طرفيه.

وكما تقدمت الإشارة من ذي قبل؛ فلقد كان القيد الذي كبَّل يدي القاضي الابتدائي، ودفعه للاعتراف لنسب غير شرعي بأثر وجده في الحكم بالتعويض لفائدة أحد طرفيه، المرأة-الأم، إنما كان هو اتفاقية الأمم المتحدة، المتعلقة بحقوق الطفل. هذا علماً بأن الاتفاقية لاتتحدث لا عن تعويض ولا عن ضرر أو خطإٍ، بل هي تتكلم عن إلحاق الولد بأبويه، وعن الإقرار بحقه في الرعاية الأبوية التي تقتضي حماية الولد من الضياع، إن لم يحظ بالرعاية والحنو والعناية الأبوية.

ومن الملاحظ أن الهيأة التي نظرت في القضية التي صدر فيها الحكم الماثل، الصادر في 30 يناير 2017، لم تول الاهتمام اللازم لنقطة أساسية في الدعوى المعروضة، ذلك أن محكمة الدرجة الأولى حكمت لفائدة الأم بالتعويض. دون أن تتطرق للنفقة الواجبة للمولود وما يستتبعها من لوازم وآثار، لفائدة الابن المزعوم، مع أنه هو الضحية في النازلة، وهو المضرور من العلاقة الجنسية الحرة التي نشأت بين الأب والأم البيولوجيين. ومن ثم فهو الذي يصدق في حقه قول الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري: «هذا ما جناه عليَّ أبي وما جنيْتُ على أحد». مع العلم أن الاتفاقية التي استندت إليها المحكمة الابتدائية لاتتحدث عن تعويض، أو غيره من أصناف جبر الضرر، وإنما أكدت على ضرورة مراعاة المصلحة الفُضلى للطفل، التي من شأنها تأكيد هويته، ووضعه، واعتباره. مما من شأنه أن يجنبه التعقيدات الاجتماعية والنفسية، والعائلية، التي يعاني منها مجهول النسب، ويصطدم بها في جميع مراحل حياته. ونتيجة لذلك، فإن المسلك الذي نهجته المحكمة لم يكن له أي معنى، ولم يكن الهدف منه واضحاً تماماً، لا من تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، ولا من إعمال الاتفاقية الأوربية، المعقودة في ستراسبورغ، مادام لم يتقرر شيء يخدم صالح المولود.

لذلك كله، كان في إمكان القاضي الابتدائي أن يحذو حذو أقرانه في دول أوربا الغربية، حيث يقرر القضاء استبعاد تطبيق اتفاقية دولية، نافذة، منشورة، ومصدق عليها، جماعية أو ثنائية، وذلك باستناد لسبب بات معتاداً مألوفا، مثل البسملة والحوقلة، لدى المسلمين، وهو النظام العام. وهو مبدأ انعقد الإجماع على أنه مفهوم واسع، ملتبس، وغامض، وذلك سر جاذبيته وسحره ونجاعته؛ إذ يدع المجال فسيحاً، ويمنح القاضي حرية كبيرة للتقدير، وقياس الأمور على ضوء القيم والاعتبارات والنواميس الراهنة في المجتمع.  

وعلى هذا النحو، كان في إمكان القاضي، ودون أن يطرق أي اتفاقية من الاتفاقيتين المذكورتين، إما أن يستبعد الحل الذي تقضي به، بالاستناد لمبدإ النظام العام، وتبرر إعمالها له، وإما أن تعرض عن القواعد الاتفاقية بشكل كلي، وتطبق أحكام القانون الداخلي المغربي، باعتبارها من القوانين الفورية، المباشرة، ذات التطبيق الضروري، أو بصفتها من القوانين المتعلقة بالأمن والسلم المدنيين أو العموميين. وهي منهجية عامة، تسير عليها المحاكم في أوربا، ولا تجد غضاضة في إثارتها. وما أكثر الحالات التي امتنعت فيها المحاكم الفرنسية عن تطبيق القانون المغربي، المختص بمقتضى الاتفاقية المعقودة بين المغرب وفرنسا، سنة 1981، بدعوى تعارض القانون المذكور مع النظام العام الفرنسي، أو مع الاتفاقية الأوربية المتعلقة بحقوق الإنسان، أو لأن القانون الفرنسي هو الأولى بالتطبيق، لسبب من الأسباب التي لايعدم القاضي الفرنسي الوسيلة لاكتشافها والوصول إليها، ولا يجد نفسه ملزماً بأي تبرير في الاستناد إليها وبيان الموجبات الداعية إليها، أو لغيرها من الأسباب الأخرى والدوافع والمبررات.    



[1]- إلى حين كتابة هذه السطور لم يكتب، حسب علمنا، للحكم المذكور بالمتن النشر في مجلة من المجلات القانونية بالمغرب. وإنما نُشرت نسخة منه على شبكة النت، وجرى تداولها على الوسائط المعروفة للتواصل الاجتماعي. علاوة على النقاشات التي ثارت حوله في مجموعة هامة من الندوات المختلفة. شأن الحكم الابتدائي في ذلك شأن الحكم الناسخ له، الصادر عن محكمة الاستئناف بطنجة، الذي نشر على الرابط التالي:

www.bibliot-droit.com

[2]- حديث صحيح، رواه البخاري (6818)، ومسلم (1458) ولفظه: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، بمعنى أن الولد ولد الزوجة، إذ يقال لامرأة الرجل هي فراشه وإزاره ولحافه. والحديث الشريف ينسب الولد للفراش، لأن الزوج هو مالك الفراش ومولاه، لأنه يفترش الزوجة، وهذه الأخيرة يفترشها، ولذلك يقال: افترش فلان كريمة فلان فلم يحسن صحبتها، إذا تزوجها ولم يعاشرها بالمعروف. وفلان كريم المفارش إذا تزوج كرائم النساء. وتعبير الحديث الشريف عن الزوجة بالفراش يتسق تماماً مع الاستعمال المعتاد، ومع ما جاء في الآية الكريمة: «وفُرشٍ مرفوعةٍ»، وهن نساء الجنة، رُفعن بالجمال عن نساْء أهل الدنيا. وقد يكون المقصود: مثلهن مثل أهل الجنة من الرجال: «متكئين على الأرائك».

[3]- المادة 490 من مجموعة القانون الجنائي، الصادر بمقتضى الظهير رقم 1.59.413، بتاريخ 26 نونبر 1962، الجريدة الرسمية، عدد 2640 مكرر، المؤرخ في 5 يونيه 1963، ص1253. وفي التفاصيل: محمد فاضل: جريمة لفساد في القانون المغربي. رسالة دبلوم الدراسات العليا في الحقوق، القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال، الرباط، 1984-1985، ص37.

[4]- بمقتضى المادة 129 من مجموعة القانون الجنائي، الصادر بموجب الظهير رقم 1.59.413، بتاريخ 26 نونبر 1962 (الجريدة الرسمية، عدد 2640 مكرر).

«يعتبر مشاركا في الجناية أو الجنحة من لم يساهم مباشرة في تنفيذها، ولكنه أتى أحد الأفعال الآتية:

1.    أمر بارتكاب الفعل، أو حرض على ارتكابه، بهبة أو وعد أو تهديد أو إساءة استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي؛

2.    قدم أسلحة أو أدوات أو أية وسيلة أخرى استعملت في ارتكاب الفعل، مع علمه أنها ستستعمل لذلك؛

3.    ساعد أو أعان الفاعل أو الفاعلين للجريمة في الأعمال التحضيرية أو الأعمال المسهلة لارتكابها، مع علمه بذلك؛

4.    تعوَّد على تقديم مسكن أو ملجلإٍ أو مكان للاجتماع لواحد أو أكثر من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال، مع علمه بسلوكهم الإجرامي.

أما المشاركة في المخالفات، فلا عقاب عليها مطلقاً».

ومن المعلوم أن المشارك في الجريمة تسري عليه العقوبة المقررة في مواجهة الفاعل الأصلي، شأنه في ذلك شأن المساه.

[5]- أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القرآن. مراجعة محمد إبراهيم الحفناوي ومحمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة، 2002، الجزء السادس، ص462.

[6]- تقضي المادة 493 من مجموعة القانون الجنائي، بما يلي:

«الجرائم المعاقب عليها في الفصلين 490 [الفساد] و491 [الخيانة الزوجية] لاتثبت إلا بناءً على محضر رسمي، يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية، في حالة التلبس، أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم، أو اعتراف قضائي». هذا مع مراعاة ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 491، بالنسبة للخيانة الزوجية، حيث «يمكن للنيابة العامة أن تقوم تلقائياً بمتابعة الزوج الآخر، الذي يتعاطى الخيانة الزوجية، بصفة ظاهرة».

ثم إن ضابط الشرطة القضائية يتقيد بدوره بقيود تفرض عليه تحري الدقة في المحضر الذي يحرره بأن يُقيم الدليل على واقعة الوطء، التي أوجز أحكامها الفقهاء المسلمون في قاعدة «مغيب الحَشَفَة»، الأمر الذي ينتهي، في الحقيقة، إلى تسجيل الإقرار، والاعتماد عليه في المتابعة.

[7]- وردت تفاصيل هذه الواقعة في القرآن الكريم، ضمن أربع سور، إحداها مدنية، وهي السورة الثانية، سورة البقرة، الآيات من 33 إلى 39، الربع الثاني من الحزب الأول، والأُخر الثلاث كلها مكية، باتفاق، وهي، حسب ترتيبها في المصحف الشريف: (1) السورة رقم 7، وهي الأعراف، الآيات من 11 إلى 25، الربع الأول من الحزب السادس عشر؛ (2) طه، ورقمها  20، الآيات من 115 إلى 124، الربع الرابع من الحزب الثاني والثلاثين؛ (3) ص، وتحمل رقم 38، الآيات من 70 إلى 85، الربع الثالث من الحزب السادس والأربعين.

[8]- للمزيد من التفاصيل، راجع: أبو الفداء ابن كثير: البداية والنهاية. تحقيق وتوثيق صدقي جميل العطار، دار الفكر، بيروت، 2005، الجزء الأول، ص114، باب ما ورد في خلق آدم. وبالإضافة للآيات المذكورة من قبل، جاء ذكر الواقعة في سور: الحجر (الآيات من 26 إلى 44)، الإسراء (61-65)، الكهف (40).

[9]- تقضي المادة 46 من معاهة فيينا المذكورة بالمتن، بما يلي:

«1. أن التعبير عن قبول إحدى الدول الارتباط بمعاهدة، خلافاً لأحد مقتضيات قانونها الداخلي، المتعلقة بالأهلية في إبرام المعاهدات، لايمكن أن تستند إليها هذه الدولة، باعتباره عيباً من عيوب قبولها، ماعدا إذا كانت هذه المخالفة جلية، وكانت تتعلق بقاعدة ذات أهمية أساسية من قانونها الداخلي.

2. تعتبر المخالفة جلية عندما تكون بديهية بالنسبة لكل دولة تسلك، في هذا الميدان، مسلكاً يتلاءم والعرف المعتاد، وحسن النية».


تعليقات