📁 آخر الأخبار

العقد في الفقه الإسلامي

العقد في الفقه الإسلامي

العقد في الفقه الإسلامي





العقد في الفقه الإسلامي
(دراسة مقارنة بالقانون الوضعي تكشف تفصيلاً عن تفوق التشريع الإسلامي)
تـأليف
دكتور عباس حسنى محمد
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
الرياض









الجزء الأول
1- حقيقة العقد ومشروعيته
2- بعض أركان العقد: صيغة العقد العاقدان أو العاقد الفرد



 
مقدمـة 
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد فإن العقد يعتبر من أهم الأمور التي يعتمد عليها الناس في دنياهم كلها قديماً وحديثاً، ولقد فصل الفقهاء العقود تفصيلاً إلا أنهم لم يبحثوا العقد بصفة شاملة لأن الفقه الإسلامي أصيب في القرن الرابع الهجري بدعوى قفل باب الاجتهاد فاتجه كثير من العلماء إلى شرح المتون الفقهية وما ورد عن الأئمة وابتعدوا عن الاجتهاد فكان لهذا المسلك أكبر الأثر في وقف التطور الشكلي للفقه عدة قرون فعرف فقهاء الإسلام القواعد الفقهية وهي حلقة وسيطة بين الأحكام الجزئية والنظريات العامة ولكنهم لم يصلوا إلى مرحلة صياغة النظريات العامة إلا في العصر الحديث وإن كان بعض الفقهاء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، بدأوا مرحلة النظريات في القرن الثامن الهجري فكتب ابن تيمية عن العقود بصفة عامة في فتاويه. ولكن هذه كانت مجرد بداية ولذلك ورثنا عن الفقهاء ثروة هائلة جليلة ولكنها تحتاج إلى ترتيب وتنظيم لا أكثر فالفقه الإسلامي سبق جميع الشرائع في الوصول إلى أحكم وأرقى الأحكام التي تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة إلى يوم الدين. ولكن التطور الشكلي – كما ذكرت - توقف حيناً من الدهر وهذا التطور يتمثل في التنظير والتنظيم الذي ييسر على القاضي وعلى المفتى تطبيق الأحكام على الوقائع المستحدثة في العصر الحالي الذي يمتلئ بالتعقيدات الكثيرة والمشكلات العديدة.
ولقد استخرت الله عز وجل وعزمت على بحث العقد في الفقه الإسلامي بصفة شاملة ورأيت أنه من المفيد أن أجعل الدراسة مقارنة بالقانون الوضعي لسببين: 
السبب الأول: أن غالبية بلاد الإسلام أصبحت خاضعة للقانون الوضعي ونبذت – للأسف – الشريعة الإسلامية وقصرتها على ما يسمى بالأحوال الشخصية بل إن بعض بلدان الإسلام نحت الشريعة الغراء حتى عن نطاق الأحوال الشخصية وإنه لمن المفيد في نظري أن نبين للناس جميعاً أن أحكام الفقه الإسلامي – الذي هو بيان للشريعة الإسلامية – أكمل وأحكم وأرقى بكثير من بضاعة الآخرين غرباً وشرقاً.
السبب الثاني: سيتضح بإذن الله تعالى – من دراسة القانون الوضعي دراسة مقارنة - أن كثيراً من أحكام الفقه الإسلامي قد استفادت منها الشرائع اللاتينية وغيرها من الشرائع عن طريق بلاد الأندلس غرباً والدولة العثمانية شرقاً ودول البحر الأبيض المتوسط جنوباً وهذا في حد ذاته إظهار للحق وإعلاء لكلمة الله الشرعية وكلمته هي العليا دائماً.
فهذه الدراسة هي دعوة عملية إلى نبذ القوانين الوضعية وإلى العودة إلى شريعة الله الخالدة وقد أنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان إلى يوم القيامة ومن أجل ذلك جعل الله تعالى شريعته الخالدة قابلة للتجديد دائماً، هذا التجديد الذي يتمثل في أمرين: 
الأمر الأول: قابلية الشريعة في كل عصر لإزالة ما يعلق بها من أدران بسبب أهواء البشر وأباطيلهم.
الأمر الثاني: القابلية للتعرض لكل المستحدثات التي تظهر على مر العصور إلى يوم الدين وإعطاء الحكم الصحيح لكل ما يستجد من وقائع أبد الدهر.
هذا وقد أخبرنا الرسول  بهذه القابلية للتجديد وبشرنا بحصول التجديد فعلاً كل مائة سنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» ( ). فالتجديد لا يقصد منه تغيير الدين لأن التجديد هو إعادة الشيء إلى أصله إذا أصابه القدم فيقال جد الشيء أي صار جديداً وهو نقيض الخلق والخلق: يقال خلق الثوب أي بلى أي أصابه القدم والتمزق( ). فتجديد الدين هو إزالة ما علق به من أدران وشوائب بسبب أهواء الناس وأباطيلهم لكي يعود صافياً كيوم نزل، ويدخل في التجديد هنا التعرض لكل جديد لبيان حكم الشريعة في هذا الجديد فلا يقصد بالتجديد الوارد بالحديث الجريان وراء كل جديد حتى لو خالف نصوص الكتاب والسنة أو خالف مقاصد الشريعة أو خالف التفسير الصحيح للنصوص فمثل هذه الأمور المرذولة مرفوضة تماماً من الشريعة ولا تدخل بأي حال من والأحوال في مفهوم التجديد الوارد بالحديث آنف الذكر هذا ولقد حبا الله تعالى شريعته الخاتمة بمميزات انفردت بها دون سائر الشرائع حتى تظل صالحة للتطبيق في كل مكان وصالحة للتجديد دائماً.
وبيان هذه المميزات هو التحقيق العلمي لحقيقة قابلية الشريعة للتطبيق في كل العصور إلى يوم الدين ونوجزها فيما يلي: 
أولاً: حفظ وثائق الشريعة إلى الأبد: 
لقد حفظ الله تعالى القرآن الكريم والسنة المطهرة حفظاً لم تحظ به الأديان السماوية السابقة لأن تلك الأديان كانت خاصة ومؤقتة وأما الشريعة الإسلامية فهي عامة وسرمدية فكان لا بد من حفظ أصولها ومواثيقها قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].وقيض الله تعالى لأقوال وأفعال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام ما لم يحظ به نبي مرسل ولا ملك ولا عظيم من أعظم عظماء الدنيا من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، فلا يعرف أحد على ظهر الأرض – منذ وجد الإنسان –جمعت أحاديثه وأفعاله وكل ما يتصل بحياته بطريقة علمية لا مثيل لها في التاريخ كما حدث بالنسبة إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين.
فهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري مكث ست عشرة سنة أخرج فيها أربعة آلاف حديث غير مكرر عن رسول الله  والتزم ألا يروي حديثاً إلا كان متصل السند بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه واشترط في الراوي والمروي عنه ثبوت اجتماعهما فعلاً، وهكذا فعل الإمام مسلم في صحيحه إلا أنه تخفف إلى حد ما فاكتفى في الراوي والمروي عنه أن يكونا في عصر واحد.
وأنشأ العلماء في القرون الأولى علماً عظيماً يتعلق بجرح وتعديل الرجال الذين تلقوا الأحاديث ورووها عن الصحابة عليهم رضوان الله ولقد تنافس العلماء في القرون الهجرية الأولى في جمع الأحاديث الشريفة ووهبوا حياتهم لهذا الأمر العظيم وهم كثيرون من كبار التابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان أمثال سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان والدارقطني وغيرهم وقد نشأ علم عظيم يسمى علم مصطلح الحديث وبمقتضى هذا العلم أصبح الآن من اليسير معرفة الحديث الصحيح والحسن والموقوف والمرسل والضعيف.إلخ ومن هذا يتضح أنه لا يعرف أحد على ظهر الأرض استقصيت جميع تفاصيل حياته وكل حركاته وسكناته بطريقة علمية دقيقة كما حصل بالنسبة إلى إنسان واحد هو خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين وهذا أمر واضح لا نحتاج في إثباته إلى عناء فما على المرتاب إلا أن يعمد إلى سيرة عظيم من عظماء الدنيا مات منذ أقل من عام مثلاً ويحاول أن يعرف أقواله وأفعاله طوال حياته فسيجد هذا أمراً عسيراً رغم وجود الأجهزة الحديثة التي تسجل الصوت والصورة وهذا الحفظ الرباني لأصول الإسلام أمر خطير لأنه مهما تباعد الزمان ومهما انحرف الناس عن طريق الصحيح فإن أساس الدين ومواثيقه موجودة دائماً وبصفة كاملة وفي استطاعة أي إنسان أن يرجع إليها وفي استطاعة المجددين أن يعمدوا إلى هذه المواثيق الخالدة فيحتجون بها على الناس أجمعين ومن ثم كان التجديد بمعناه الصحيح في الدين ميسراً في كل عصر.
هذا وقد نبه الرسول  إلى الأمر هذا الأمر الخطير فعن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: وقد فعلوها قلت: نعم قال: أما إني قد سمعت رسول الله  قال: «ألا إنها ستكون فتنة» فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها يا أعور( )( ).
وعن أبي هريرة عن النبي  قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» ( ).
وعن أبي رافع عن النبي  قال: «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله أتبعناه» ( ).
فالسنة هي المبينة والمفسرة للقرآن وكلاهما من عند الله ولكن الحديث اللفظ فيه للرسول الله  والمعنى منزل عليه من الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]، فالحكمة هي السنة المنزلة عليه ولذلك جاء في الحديث: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه...» ( ).
ولا ريب أن حفظ القرآن والسنة الصحيحة هو أمر تنفرد به الشريعة الإسلامية دون سائر الشرائع السماوية قاطبة وهذا الحفظ هو الدعامة الأولى لقابلية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان.
ثانياً: قيام المثل الأعلى العملي الرائع للكتاب والسنة في عهد النبوة والخلافة الراشدة: 
ليس الإسلام مجرد مبادئ رائعة فحسب بل هو تطبيق عملي فذ فقد طبق فعلاً على خير منهاج زهاء ثلاثة وخمسين عاماً مدة النبوة والخلافة الراشدة وقامت في هذا العهد أعظم وأرقى دولة عرفتها البشرية وصاغت من القرآن والسنة حياة إسلامية ستظل أبد الدهر النبراس والمثل الأعلى والمنهاج القويم للبشرية.
فالإسلام ليس مجرد نظرية وإنما هو مبادئ عظيمة طبقت كلها فعلاً وحفظ التاريخ لنا هذا التطبيق بل إن آثار هذا التطبيق قد غيرت وجه العالم إلى يومنا هذا لأن الإسلام نزل على حفنة من العرب الأميين الذين لم يكن لهم ذكر بين الأمم حينذاك فنشروا الإسلام في ممالك عظيمة ما كانت تعرف من قبل لغة العرب فحملت الإسلام وحملت معه لغته إلى يومنا هذا.

ثالثاً: استمرار تطبيق الشريعة قروناً عديدة: 

لقد ظلت الدولة الإسلامية قوية بتطبيقها للكتاب والسنة قروناً عديدة ظهرت في الدولة الأموية والدولة العباسية ودولة الأندلس في الغرب، ودولة أبطال الإسلام (صلاح الدين الأيوبي وقطز) في مصر والشام والدولة العثمانية التي حملت لواء الإسلام عدة قرون ودوخت به أوربا الظالمة وغزتها في عقر دارها بعد أن كانت تهدد ديار الإسلام ولكن يلاحظ أن مستوى التطبيق كان أقل مما كان عليه في عهد النبوة والخلاف الراشدة إلا أن التطبيق ظل قروناً عديدة محتفظاً بالكثير من أسس الشريعة وكلما ترك الناس أساساً من هذه الأسس التي جاء بها محمد  كلما ضعف حالهم وسلط الله عليهم العديد من البلايا ولا ريب أن هذا التطبيق للشريعة والذي عاش قروناً عديدة لهو أبلغ على أن الإسلام دين ودولة وأنه جاء ليسبغ فضلة على الحياة الإنسانية في الدنيا قبل الآخرة.
رابعاً: الانسجام والتناسق بين الشريعة الإسلامية والفطرة البشرية: 
أنزل الله تعالى الشريعة الخاتمة منسجمة مع الفطرة التي فطر عليها الناس، ومن أجل ذلك نجد أن الإسلام له جاذبية طاغية غلابة في نفوس البشر، ومن أصعب الأمور اقتلاعه من نفس إنسان، والدليل على هذا ما أصاب المبشرين والشيوعيين من خيبة أمل في القضاء على الإسلام رغم أنهم يتعاملون مع مسلمين متأخرين قد أصابهم الوهن وابتعدوا كثيرا عن أسس الشريعة، هذا ومظاهر انسجام الإسلام مع الفطرة كثيرة ومتنوعة فمن أهم أسسه رفع الحرج شرعاً وإباحة المحظورات في حالة وجود الضرورات بقدرها، وجعل الزواج نصف الدين وجعل التعاون بين الناس على البر والخير من أهم أسس الدين الحنيف ورفع عن الناس الخطأ و النسيان وما استكرهوا عليه وحث على مكارم الأخلاق ونهى عن كل ما يضر الإنسان في جسمه وشرفه وجعل الأصل في العادات والمعاملات الإباحة إلا ما حرم بنص وأمر بالنظافة والنظام في كل شيء. وكفل حماية الفرد والأسرة والجماعة من كل ما يهدد أمنها وأشاع الأمن والطمأنينة في نفوس المؤمنين وهذه كلها أمور محببة إلى الناس لأنهم فطروا عليها.
خامساً: انسجام الشريعة مع أمور الكون الثابتة وأموره المتطورة( ): 
لما كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الخالدة التي أنزلها خالق السموات والأرض والعليم بأسرار الكون وسننه التي بثها فيه فقد جاءت الشريعة منسجمة تماماً مع أمور الكون الثابتة وأموره المتطورة، فأنزل العليم الخبير لأمور الكون الثابتة أحكاماً تفصيلية جزئية لأنها تحكم علاقات ثابتة ومثالها تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة والأسرة مثل أحكام الزواج والطلاق والنفقات والحضانة والولاية على نفس وعلى المال، وكذلك بيان العقوبات الرادعة لطائفة من الجرائم الكبرى التي قدر الله تعالى أن تشيع بين الناس إلى يوم القيامة.
وأما الأمور المتطورة بطبيعتها فقد أنزل العليم الخبير لها قواعد عامة حكيمة رحيبة الجوانب واسعة حتى تتيح الفرصة للعقل المسلم لكي يجتهد في نطاق هذه القواعد الواسعة فتحقق بذلك المرونة اللازمة لمسايرة تطور هذه الأمور على مر العصور دون أن تخرج عن نطاق الشريعة، لأن الاجتهاد هنا محصور داخل حدود هذه القواعد الواسعة، والأمثلة على هذه القواعد الواسعة ما أنزله تعالى لتنظيم المعاملات بين الناس فالأصل في هذه المعاملات الإباحة مع تحريم ربا البيوع في أموال معينة وما يقاس عليها بجامع علة الثمينة في الذهب والفضة وعلة الطعم مع الكيل أو الوزن في البر والشعير والتمر والملح ومع تحريم ربا القرض بأنواعه لضرره البالغ على المجتمع وتحريم الغرر في عقود المعاوضات المالية. ونظمت الشريعة أهم العقود المسماة التي تعارف عليها البشر وشرعت للمسلمين أن يشترطوا ما يشاؤون من الشروط التي لا يخالف نصاً عاماً أو خاصاً في الكتاب أو السنة. ولم تلتزم الشريعة بقالب ضيق معين للنظام الاقتصادي كما فعلت المذاهب المادية وفشلت فيه.
ومن هذا أيضاً شكل النظام السياسي للدولة الإسلامية فهو من الأمور المتروكة للتطور البشري في حدود المبادئ الواسعة الراقية التي جاءت بها الشريعة مثل مبدأ العدل ومبدأ الشورى ومبدأ البيعة القائمة على اختيار الحاكم الأصلح وفيما عدا ذلك فقد تركت الشريعة للبشر أن يختاروا من أشكال الحكم ما يشاؤون بشرط تحكيم كتاب الله وسنة رسوله  في كل شيء وفرض سلطانه على الحاكم والمحكومين جميعاً.
سادساً: فشل جميع الأنظمة القديمة والحديثة في إسعاد البشرية: 
لقد عجزت جميع الأنظمة – قديمها وحديثها – عن إسعاد البشرية ولم تجلب لها إلا التعاسة والمعيشة الضنك، فمهما كثر المال ومهما تقدمت المدنية بعلومها ومكتشفاتها التي يسرت للناس سبل العيش المادي فإنها لم تستطع أن تعطيهم الأمن والطمأنينة بل على العكس أمدتهم بالفزع المستمر والقلق الدائم وشاع بين الناس في أوربا وأمريكا – حيث يتشدقون بالعلم والتقدم – شاع بينهم ما يسمى بالاكتئاب النفسي والجنون وكثرة حالات الانتحار الفردي والجماعي.
وهم لا يشكون جوعاً ولا فقراً وإنما يشكون أرواحاً خربة ونفوساً قد طحنتها الحضارة المادية الزائفة فأورثها المعيشة الضنك أي القلق الرهيب كما أخبر القرآن الكريم ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124].
فالحضارة المادية الزائفة مهما اختلفت أنظمتها وأشكالها سواء أكانت شرقية شيوعية أم غربية رأسمالية لم تعط العالم إلا البؤس والشقاء والخوف الداخلي والخارجي والرعب من أسلحة الدمار التي تنفق عليه الأموال الطائلة التي لا تعد ولا تحصى حتى محقت بركة الأرض أو كادت، وأصبح العالم لا يعيش ثلثه في جوع فحسب بل هو مهدد بالجوع الشامل لو استمر الحال على ما هو عليه وحق عليه قول الله تبارك وتعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].
وأما الأنظمة السماوية السابقة فقد رفضها القوم منذ أمد بعيد لمخالفتها للفطرة بسبب تحريفها ولم يبق إلا شريعة الإسلام ملجأ للناس وملاذاً إن أرادوا الخير لأنفسهم.
هذا وسيتضح لنا من خلال هذا البحث المقارن – بإذن الله – كيف أن الشريعة الإسلامية تهيمن على كافة الشرائع القديمة والحديثة بتفوقها وعلوها دائماً لأنها من عند العليم الخبير.
وسيتضح لنا أيضاً كيف أن القوانين الوضعية في أوربا استفادت كثيراً واستنارت بالشريعة الإسلامية عن طريق بيانها العلمي وهو الفقه الإسلامي.
ولا يحسبن أحد أن هذه القوانين – وقد نهلت من الفقه الإسلامي – تصلح أن تكون بديلاً عن هذا الفقه فهذا لا يصح أبداً لأكثر من سبب: 
فأولاً: أن تطبيق الشريعة الإسلامية أمر لا ينفصل عن العقيدة الإسلامية فالمسلمون ملزمون بأن يحكموا بما أنزل الله لهم من أحكام بنية الإقرار بالعبودية لله لذلك يقول تعالى: ﴿ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 25 – 28].
وقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85].
فلا بد إذن من تطبيق أحكام الشريعة عبودية لله رب العالمين
ثانياً: ليس صحيحاً ما يزعمه بعض المعاصرين من أن الخلاف يسير بين الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية فهذا ادعاء يتعارض مع التأصيل العلمي للقوانين بصفة عامة فالشرائع المختلفة لها صياغات مختلفة بعضها عن بعض وكل شريعة لها صياغة خاصة بها فلا يمكن ترقيعها بأجزاء من شرائع أخرى، والتشريع الإسلامي يتميز بصياغة خاصة تختلف عن صياغة القوانين الوضعية فمثلاً أساس حق الملكية والحقوق بصفة عامة في الإسلام هو توحيد الربوبية قال تعالى: ﴿آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، فأساس حق الملكية وما يتفرع عنه هو الهبة من الله تعالى فهو استخلف الناس فيما يشاء من حقوق واستأثر لنفسه بما يشاء وقد استأثر لنفسه بسلطة التشريع ووهب علماء الأمة حق الاجتهاد قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، وقد ترتب على كون حق الملكية من الحقوق الاستخلافية أن الشريعة لم تقف عند حد منع الاعتداء على الحق بل منعت أيضاً التعسف في استعمال الحق وهو ما يعبر عنه بالمضارة أي يستخدم المسلم حقه استخداماً يضر بالآخرين فهذا عند الله يماثل الاعتداء لأن الحق منحة من الله تعالى، وحينما نزلت الأحكام في عهد النبوة ظن بعض المسلمين أن الحقوق مطلقة فأساؤوا استعمالها ومن ذلك على سبيل المثال حق الطلاق فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 231]، فقد استخدم بعض المسلمين حق الطلاق كوسيلة للإضرار بالمرأة فهو بدلاً من أن يطلقها نهائياً فإنه يطلقها ثم يراجعها في عدتها وهو لا يريدها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة حتى يطوِّل مدة العدة فهذه المضارة تعسف في استعمال الحق، فصياغة التشريع الإسلامي تختلف عن صياغة القانون الوضعي سواء في الأصول أو في الجزيئات، فمثلاً الفقه الإسلامي يحدد آثار العقد بدقة مفقودة في القوانين الوضعية فيجعل لكل عقد حكماً وحقوقاً تؤكد هذا لحكم وسنرى – إن شاء الله تعالى – كيف أن هذه الدقة لها أثرها في كثير من المسائل الجزئية، والفقه الإسلامي على سبيل المثال يقسم عقود المعاوضات إلى مالية وغير مالية وهذا التقسيم لا يعرفه القانون، ويرتب الفقه على هذا التقسيم أثراً هاماً وهو أن الغرر والربا يؤثر على عقود المعاوضات المالية فقط ولا يؤثر على المعاوضات غير المالية ويلاحظ هنا أن القرض يعتبر من عقود المعاوضات المالية – على عكس القانون – فالمقترض يأخذ القرض ليرد مثله فهذه معاوضة مالية. يؤثر فيها الغرر والربا. فكل تشريع له صياغة خاصة به، وصياغة التشريع الإسلامي تتميز بأنها صياغة مباركة لأنها مرتبطة بكتاب الله وسنة رسول الله  وإلى جانب ذلك فهي صياغة مستقلة بذاتها تنبع من أصولها التشريعية شأنها شأن صياغة أي قانون فهو ينبع من أصوله التشريعية ولا يمكن فصله عنه، ومن أجل ذلك فإنه إذا أريد تقنين أحكام القضائية - فإنه يتعين أن يخضع هذا التقنين لصياغة الفقه الإسلامي المرتبطة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ولما كان موضوع العقد في الفقه الإسلامي واسعاً بطبيعته يحتاج بحثه إلى العديد من الكتب فقد قسمت هذا البحث إلى عدة أجزاء وخصصت هذا الجزء الأول لبحث حقيقة العقد ومشروعيته (والمقصود بالمشروعية هنا هو مدى الحرية في إنشاء العقود المستحدثة)( ).وبعض أركان العقد. وقسمته كالآتي: 
الباب الأول: حقيقة العقد ومشروعيته.
الفصل الأول: حقيقة العقد في الفقه الإسلامي والقانون.
المبحث الأول: حقيقة العقد في الفقه الإسلامي.
المبحث الثاني: العقد في الاصطلاح القانوني ومقارنة بينه وبين العقد في الفقه.
الفصل الثاني: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في الفقه والقانون.
المبحث الأول: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في الفقه.
المبحث الثاني: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في القانون وبيان الفرق بين القاعدة الإسلامية والقاعدة القانونية.
الباب الثاني: أركان العقد: 
الفصل الأول
الركن الأول صيغة العقد
المبحث الأول
الصيغة في الفقه الإسلامي
المبحث الثاني: الركن الأول للعقد في القانون مع بيان مدى تأثر القانون بالفقه الإسلامي في هذا المجال.
الفصل الثاني: الركن الثاني للعقد العاقدان أو العاقد الفرد.
المبحث الأول: العاقدان أو العاقد الفرد في الفقه الإسلامي.
وقد انتهى هذا الجزء عند نهاية هذا المبحث الذي احتوى على أهلية العاقدين وعوارضها وعلى الرضا وما يقترن به من عيوب وعلى ولاية العاقدين.
وسيبدأ الجزء الثاني – إن شاء الله تعالى – بالكلام عن العاقدين في القانون. ولقد اضطررنا إلى هذه التجزئة لأسباب متعددة ترجع إلى كثرة المشاغل وضيق الوقت ونفقات إخراج الكتب وطبعها في الوقت الحاضر فهذه كلها أمور ضرورية اقتضت هذه التجزئة في إخراج هذا الكتاب وحتى لا يتأخر ما تم منه فقد رأيت أن أبادر بإصدار ما يتم أولاً بأول هذا وقد رأيت إغفال بعض الأشياء التي لم تعد لها فائدة. لتكررها في كثير من الكتب وهي الترجمة للأعلام الذين يأتي ذكرهم في البحث فقد لاحظت أن هذه الترجمة لم يعد لها داع لتكريرها في كثير من الكتب ولأن هذا البحث إنما هو للخاصة وليس للعامة وتعريف الخاصة بالفقهاء الذين يعرفونهم جيداً وكتبهم بين أيديهم ليل نهار أمر غير معقول وفيه إضاعة للوقت والجهد وإطالة للبحوث العلمية دون داع لذلك. والله تعالى ولى التوفيق.
القاهرة 27 رمضان سنة 1412هـ
د/ عباس حسنى محمد
31/3/ 1992م








الباب الأولحقيقة العقد ومشروعيته



 
الفصل الأول
حقيقة العقد في الفقه الإسلامي والقانون
المبحث الأول
حقيقة العقد في الفقه الإسلامي
1- العقد لغة : 
هو الجمع بين أطراف الشيء وتقويتها، يقال: عقد طرفي الحبل إذا وصل أحدهما بالآخر بعقدة تمسكها فأحكم وصلها. ويطلق على الضمان والعهد يقال: عاقدته على كذا إذا عاهدته عليه. ويطل على الوجوب يقال: عقد البيع إذا أوجبه، وجميع هذه المعاني تدور حول معنى الربط والشد( ).
وقد اتفق أئمة اللغة على أن إطلاق العقد على الأجسام (أي الإطلاق الحسي) يعد إطلاقاً حقيقاً، وإطلاقه على المعاني (أي المعنوي) فللعلماء فيه قولان: الأول: أنه إطلاق حقيقي والثاني أنه إطلاق مجازي( ).
2- العقد في الاصطلاح الفقهي: 
ذكر أبو بكر الجصاص أن له معنيين: [العقد هو ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو ما يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه فسمى البيع والنكاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن كل واحد من طرفي العقد ألزم نفسه الوفاء به، وسمي اليمين على المستقبل عقداً لأن الحالف ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من الفعل أو الترك، وكذلك العهد والأمانة لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذا كل ما شرط الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وما جرى مجرى ذلك( )].
ويلاحظ أن كثيراً من الفقهاء عندما يعرفون العقد يقتصرون على المعنى الذي يقترن في الإيجاب بالقبول ولا يذكرون العقد بإرادة الموجب وحده، ولكن يلاحظ أيضاً أن هذه التعريفات جاءت تخص عقوداً بإرادتين كالبيع والإجارة.. إلخ ولذلك فإنهم – في الوقت نفسه – عندما ما يذكرون التصرفات التي بإرادة منفردة كالطلاق والعتاق واليمين فإنهم لا يترددون في إضافة كلمة عقد إليها مما يؤكد أن الاقتصار على المعنى الأول لا يقصد منه إنكار المعنى الثاني، والأهم من هذا كله أن المعنى الثاني (العقد بالإرادة المنفردة) ثابت في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: 89]، أي عقد اليمين الملزم. 
فالعقد في الفقه الإسلامي – إذن – يشتمل على نوعين: 
أحدهما: عقد بإرادتين على الأقل وهذا مثل عقود البيع والإجارة والشركة وسائر العقود التي يشترط فيها تلاقي الإيجاب بالقبول.
وثانيها: عقد بإرادة واحدة وهو ما يسمى العقد بالإرادة المنفردة – في الاصطلاح الحديث - فهو ينعقد بمجرد الإيجاب من العاقد فيلزم نفسه بالعقد وهذا مثل عقود اليمين والنذر والحوالة، عند الحنابلة فهي تنعقد بإرادة المحيل وحده إذا كان المحال عليه مليئاً( )، والضمان عند الحنابلة فهو ينعقد بإرادة الضامن وحده( )، والوقف على غير معين (كالمساكين والمساجد) هو من عقود الإرادة المنفردة باتفاق الفقهاء والوقف على معين يعتبر من عقود الإرادة المنفردة عند بعض الفقهاء وهو بإرادتين عند بعضهم الآخر( ).
والوصية على غير معين تعتبر من عقود الإرادة المنفردة – كالوقف على غير معين – باتفاق الفقهاء وأما الوصية لمعين فهي تفتقر إلى القبول عند جمهور الفقهاء، وفي قول ضمني لمالك( ) أن الوصية تنعقد بالموت (أي موت الموصي) ويحكم بذلك قبل قبول الموصى له. وتعتبر الهبة من عقود الإرادة المنفردة عند بعض فقهاء الحنفية وهم شيخ الإسلام خواهر زادة والكاساني والبابرتي( ). والجعالة هي من عقود الإرادة المنفردة في الحقيقة، وهي تؤول إلى اللزوم عند الحنابلة( ) لأنها لا تكون إلا معلقة على شرط وهو قيام المجعول له بالعمل المطلوب، فإذا تحقق هذا الشرط التزم الجاعل بموجب إرادته المنفردة بأداء الجعل للعامل وقد يقال هنا إن الجعالة قد تمت بالقبول الضمني للعامل بقيامه بالعمل المطلوب( ) ولكن يلاحظ على هذا القول أن الشرط اللغوي «أي الذي يأتي على لسان المتعاقد» إنما هو في الحقيقة سبب أي يلزم من وجوده الوجود كما يلزم من عدمه العدم وذلك على عكس الشرط الشرعي فهو لا يلزم من وجوده الوجود، ولعل القرافي هو أول من تفطن لهذه الحقيقة( )وقد مثل القرافي للشرط اللغوي بقول الزوج: إن دخلت الدار فأنت طالق فيلزم من دخول الدار الطلاق ويلزم من عدم الدخول عدم الطلاق، ومنه أيضاً قول السيد لرقيقه: إن جاء ابني من السفر فأنت حر فيلزم من مجيء ابنه عتق عبده ومن عدم مجيئه عدم عتق عبده. وما دام الشرط اللغوي سبباً في الحقيقة فإن مجرد اشتراط الجاعل – حتى قبل معرفة المجعول له – على نفسه يعتبر سبباً لعقد الجعالة، ولما كان التعليق صادراً بإرادة الجاعل المنفردة فإن الجعالة تنعقد بإرادته المنفردة ويلزم الجعل بمجرد تحقق الشرط الذي علق عليه الجاعل دفع الجعل لأن الشرط اللغوي سبب كما قدمنا. ويلاحظ أيضاً أنه من الصعب اعتبار العامل قابلاً ضمناً لإيجاب الجاعل لأن الفقهاء( ) يشترطون بصفة عامة أن يصدر القبول متصلاً بالإيجاب في مجلس العقد إن كان المتعاقدان حاضرين دون أن يفصل بينهما فاصل وإذا كان أحدهما غائباً فيجب عليه بمجرد وصول الإيجاب إلى علمه أن يظهر رأيه ليتصل قبوله بالإيجاب دون فاصل وذلك على الخلاف المعروف بين الفقهاء بخصوص مجلس العقد( ) فإذا علمنا أن العامل – في الجعالة - لا يصدر منه أي قبول وإنما يشرع في العمل وهو قد يشرع فيه سراً دون أن يخطر به الجاعل والأصل هنا أنه لا بد من علم الموجب بالقبول في التعاقد بين غائبين لأنه يجب سماع كل من المتعاقدين عبارة الآخر حقيقة أو حكما( ) والسماع الحكمي  هو الكتاب إلى الغائب أو الإعلان الجاعل عن الجعالة فإذا شرع العامل في العمل دون أن يعلم الجاعل بذلك وهو الموجب فإن هذا الشروع لا أثر له – إذا اعتبرناه قبولاً ضمنياً – إلا إذا وصل إلى علم الموجب ولذلك فإن الجعالة – في الحقيقة - تنعقد بدون قبول، أي هي من عقود الإرادة المنفردة وقد صرح الغزالي من الشافعية بذلك إذ يقول: [ولا يشترط في الجعالة تعيين العامل لمصلحة العقد وكذلك لا يشترط القبول قطعا( )].
والواقع أن عدم اشتراط القبول هو النتيجة الحتمية لقول الفقهاء إن الجعالة تجوز لعامل غير معين.
وعقد أمان المسلم للحربي: 
ينعقد بالإرادة المنفردة عند الغالبية فقد روي عن علي رضي الله عنه عن النبي  أن: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل» ( )وقد فهم الفقهاء( )من هذا الحديث الصحيح أن الأمان إذا أعطي من المسلم للحربي حرم قتله والتعرض له وهذا الأمان ملزم لجميع أفراد الأمة وللدولة نفسها (مع مراعاة شروط عدم الافتئات على الإمام) ومن حاول نقض هذا الأمان فهو ملعون بنص الحديث وعقد الأمان يقع بإرادة المسلم المنفردة عند المالكية والحنفية والحنابلة( )وأما عند الشافعية فلا بد فيه من قبول الحربي فهو ليس من عقود الإرادة المنفردة عندهم فقد صرحوا بأن عقد الأمان كعقد الهبة – عندهم – لا بد فيه من قبول الكافر( ).
3- اصطلاحات أخرى قد تلتبس بالعقد: التصرف – الالتزام والحق – العهد – الوعد: 
لعله من المفيد أن نوضح هذه الاصطلاحات التي لها صلة كبيرة بالعقد وقد تلتبس به.
أ‌- التصرف: 
لغة هو التقلب في الأمور والسعي في طلب الكسب( ) وأما في الاصطلاح
 فإن الفقهاء( ) يطلقون التصرف على كل تعبير عن الإرادة - سواء بالقول أو بالفعل – يرتب عليه حكما ً فالتصرف أعم من العقد (بمعنييه سالفي الذكر) لأن التصرف قد يكون فعلياً كالاستيلاء على بعض الأموال المباحة، والغصب وقبض الدين، والرجعة الفعلية بأن يباشر الزوج زوجته – التي طلقها رجعية – قبل أن تنتهي عدتها دون أن يصدر منه قول يفيد الرجعة – وقد يكون التصرف قولياً ولكن ليس بعقد (بنوعيه) ومن أمثلته الإقرار بالحق والدعوى أمام القضاء.
ب- وأما الالتزام والحق: 
فالالتزام لغة معناه الثبوت والوجوب، والحق في اللغة له عدة معان ترجع كلها إلى الثبوت والوجوب ومن هذا قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 7] أي ثبت ووجب عليهم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ [الأنفال: 8]، أي يثبت الحق ويظهره ومن هذا المعنى أطلقت كلمة الحق على معان كثيرة ترجع كلها إلى الثبوت والوجوب فهي تطلق على الله عز وجل اسماً وصفة وتطلق على اليقين وعلى الصدق وعلى العدل وعلى الإسلام وكل هذه المعاني واردة في كتاب الله تعالى( ). فالالتزام والاستحقاق (لغة) متقابلان بالنسبة إلى بعض معاني الحق أي الحق بمعنى الحظ والنصيب والشيء الواجب للشخص أو عليه فيقال: هذا حق عمرو قبل زيد فهو بعينه التزام زيد قبل عمرو والالتزام في الاصطلاح قليل الاستعمال في الفقه الإسلامي فهم يفضلون – كما هو واضح في كتبهم – استعمال كلمة الحق سواء في جانب المدين أو جانب الدائن فيقولون: هذا حق له وهذا حق عليه. وقد عرف بعض الفقهاء الالتزام بأنه التزام الشخص نفسه مالم يكن لازماً له أي لم يكن واجباً عليه من قبل( ) وعرفه بعض العلماء الشريعة المعاصرين بأنه إيجاب الإنسان أمراً على نفسه إما باختياره وإرادته وإما بإلزام الشارع له( ).
 وعرف عالم معاصر آخر الالتزام بأنه التصرف المتضمن إرادة إنشاء حق من الحقوق أو إنهاء حق أو إسقاطه دون أن يتوقف تمامه على التزام أو تصرف من جانب آخر بمعنى أنه يستوي فيه التصرف الذي ينتج التزاماً من جانب في مقابلة التزام من جانب آخر كالبيع والإجارة أو الذي يكون متوقفاً تمامه على قبول من الطرف الآخر كالوكالة و الوصية على معين أو الذي ينتج من جانب واحد دون أن توقف على أي شيء كالطلاق والنذر( ) والحق أن الالتزام في الاصطلاح الحديث هو الحق الذي على المدين وهو كما قلنا قليل بل نادر الاستعمال في الفقه، واللفظ الذي يندر استعماله اصطلاحاً يرجع فيه إلى معناه اللغوي لأن ندرة استعماله في الفقه تنفي عنه المعنى الاصطلاحي ولذلك فإن الالتزام في الحقيقة هو أثر من آثار العقد –(الذي يتركز في صيغته)– أو التصرف بصفة عامة كما أن الحق أثر من آثار العقد أو التصرف بصفة عامة، والفقهاء يقولون حكم العقد وحقوقه ويريدون بالحقوق مجموع الالتزامات المرتبة على العقد، ونلاحظ هنا أن الفقهاء يفرقون بين الإلزام والالتزام، فالإلزام هو أن يلزم الشخص غيره والالتزام هو أن يلتزم الشخص بنفسه أي يلزم نفسه كما في العقد ولكن في الاصطلاح الحديث يكفي الالتزام في الحالين( ).
ج- العهد: 
في اللغة هو الوصية يقال: عهد إليه بعهد إذا أوصاه والعهد هو الأمان والموثق والذمة، والعهد هو كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد والعهد: الموثق واليمين يحلف بها الرجل والعهد أيضاً: الوفاء وفي التنزيل: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: 102]، أي من وفاء. والعهد والعهدة واحد فيقال: برئت إليك من عهدة هذا العبد أي مما يدركك فيه من عيب كان معهوداً فيه عندي: أي من التزامي بعيب هذا العهد وتطلق العهدة على كتاب الحلف والشراء( ).
هذا ويستعمل الفقهاء لفظ العهدة في ضمان الثمن فيقولون: ضمان العهدة أو ضمان الدرك أي إدراك العيب ويقصد به ضمان الثمن عن المشترى إذا لم يكن البائع قدتسلمه بعد من المشتري ثم ظهر في الثمن عيب أو استحق ولم يستطع البائع الحصول على الثمن من المشتري فيرجع على الضامن( ) فالعهد – إذن – له عدة معان متقاربة أكثرها يرجع إلى العقد بصفة عامة أو الالتزام المتولد عن العقد.
د- وأما الوعد: 
فهو إلزام الشخص نفسه حالاً بأمر يفعله في المستقبل وهو في الحقيقة نوع من العقد بالإرادة المنفردة، والأجل وصف فيه، ويجب أن يكون الأصل في الوعد الإلزام لأن الله تعالى جعل خلف الوعد شعبة من شعب النفاق كما جاء في الحديث الصحيح( )، ولذلك فإن ما ذهب إليه بعض الفقهاء (جمهور الحنيفة) من أن الوعد الصحيح ديانة ولكنه ليس بلازم قضاء محل نظر، فالرأي الصحيح هو أن الوعد ملزم قضاء أيضاً لأن تحريم خلف الوعد إنما هو لذات الفعل وليس لشيء خارجي متعلق به. وقد ذهب جمهور الفقهاء( ) إلى أنه إذا تعلق النهي بذات الفعل أو لجزئه فإن النهي هنا يفضي إلى الفساد المرادف للبطلان أي لا يعتد بالفعل قضاء لأنه محرم ديانة، وتخريجاً على ذلك يتعين القول بأن خلف الوعد باطل قضاء لأنه ديانة. هذا وقد صرح بعض فقهاء الحنفية بأن الوعد ملزم قضاء أيضاً: جاء في جامع الفصولين ما يأتي: [لو ذكروا البيع بلا شرط ثم ذكروا الشرط على وجه الوعد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذ المواعيد قد تكون لازماً فيجعل لازماً لحاجة الناس]( ) فالوعد هو عقد بالإرادة المنفردة يتضمن التزاماً إما معلقاً على شرط أو مؤجلاً وأكثره مؤجل والمعلق كأن يقول: إن نجحت في الامتحان أعطيتك جائزة أو إن ولد لي ولد منحتك مبلغاً من المال، ويلاحظ هنا أن جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة ذهبوا إلى أنه لا يجوز تعليق عقود التمليكات – سواء بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة – ولكن الأصح هو الجواز وهو رأي ابن تيمية  وابن القيم( )، وسيفصل هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
هذا ويثور بالنسبة إلى الوعد المعلق مسألة تاريخ نشوء العقد الذي ترتب عليه الوعد الملزم، فالعقد هنا هو الصيغة الصادرة من الواعد والمتضمنة للوعد المعلق أو المؤجل، وقد ذهبالحنيفة ومعهم المالكية إلى أن تعليق العقد على الشرط يترتب عليه عدم وجود العقد إلا بعد تحقق الشرط( ) وذهب الشافعية ومعهم الحنابلة إلى أن العقد موجود قبل تحقق الشرط ولكن آثاره موقوفة على تحقيق الشرط، فالصيغة وهي السبب موجودة فور صدورها قبل تحقق الشرط وأما الحكم وهو أثر العقد فهو متوقف على حصول الشرط، ويحتج الشافعية على الحنفية – هنا – بأنه إذا صدر عقد معلق ممن هو أهل للتعاقد، ثم قبل تحقق الشرط المعلق عليه خرج العاقد من أهليته، وبعد ذلك وجد المعلق عليه فإن الحكم لا محالة ظاهر والعقد يتم، فإذا قال الرجل لامرأته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق ثم خرج من أهليته وكلمت هي فلاناً بعد ذلك فالطلاق واقع حتى عند الحنيفة والمالكية لأنه وقت إنشاء الصيغة كان أهلاً لإيقاعه، وهذا يدل – بيقين – على أن العقد كان قائماً موجوداً باعتباره سبباً رتب الشارع الحكم عليه من وقت وجود الصيغة وإلا لما وقع الطلاق بعد أن فقد العاقد أهليته، وأما حجة الحنفية فهي تقوم على أساس أن العقد المعلق عليه قد لا يوجد فكيف يقال إن العقد وجد فعلاً وانعقد ثم يقال بعد ذلك إنه لم ينعقد إذا لم يتحقق الشرط، ولكن هذه الحجة واهية لأن العقد المعلق موجود على خطر الزوال إذا لم يتحقق الشرط، وحكمه غير موجود إلا بعد تحقق الشرط، وأنه لمن الواضح أن حجة الشافعية ومن معهم أقوى من حجة الحنفية ومن معهم( ).

 

المبحث الثانيالعقد في الاصطلاح القانوني

ومقارنة بينه وبين العقد في الفقه
4- تعريف العقد عند القانونين( ): 
هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها أو إنهائها. ويميز بعض شراح القانون بين الاتفاق والعقد، فالاتفاق عندهم هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه، وأما العقد فهو أخص من الاتفاق عند هؤلاء فهو يقتصر على إنشاء التزام أو نقله فقط. وهذه التفرقة لها جذور تاريخية نقلها القانون المدني الفرنسي عن بعض شراح القانون القدامى( ) ونص عليها في المادة 1101 مدني فرنسي ولكن هذا التمييز ليس له أهمية، ولذلك فإن الأصح أنه لا فرق بينهما( )، والمهم في العقد أن يكون اتفاقاً على إحداث أثر قانوني أي له قوة الإلزام. والعقد في القانون لا يكون إلا بين شخصين على الأقل فالقوانين لا تعرف العقد بالإرادة المنفردة إلى يومنا هذا ويستوي في هذا الأمر القوانين ذات الأصل اللاتيني والقوانين ذات الأصل الأنجلوسكسوني والقوانين ذات الأصل الجرماني ( ).
وإنه لمن الواضح أن جميع القوانين الوضعية التي تحكم العالم لا تعرف العقد إلا على أنه بين شخصين على الأقل وهي متأثرة في هذا بالقانون الروماني الذي ورثت عنه هذه القاعدة البالية( ).
وبالرجوع إلى كتب القانون الإنجليزي نجد أن الشراح يصرحون بأن العقد لا يتصور إلا من إرادتين على الأقل [أن الوعد أو العهد يشتمل – على الأقل – على طرفين أحدهما يصدر والآخر يتلقى فيسمى الأول موجباً والآخر قابلاً]( )ويقولون أيضاً: [إن الإيجاب الذي لم يصادف قبولاًليس له أي أثر قانوني]( )ويلاحظ أننا نرجع إلى كتب القانون الإنجليزي مباشرة لأن شراح القانون العرب لم يتعرضوا – إلا فيما ندر – للقانون الإنجليزي. هذا وقد أخذ بعض شراح القانون في ألمانيا وفرنسا( ) منذ منتصف القرن الميلادي الماضي ينادون بأهمية الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام وقد بين هؤلاء الشراح: 
(إن القول بضرورة توافق إرادتين لإنشاء الالتزام يسد الباب دون ضروب من التعامل يجب أن يتسع لها صدر القانون فلا يمكن بغير الإرادة المنفردة أن نفسر كيف يستطيع شخص أن يلزم نفسه بعرض يقدمه للجمهور أي لغير شخص معين (كالجعالة في الفقه الإسلامي) وقد يكون الدائن غير موجود في الحال ولكنه سيوجد في المستقبل أو يكون موجوداً ولكن حال بينه وبين القبول حائل بأن مات قبل صدور القبول منه أو فقد أهليته ففي كل هذه الفروض وهي فروض تقع كثيراً في العمل لا يمكن القول بوجود الالتزام في ذمة المدين إذا حتمنا توافق الإرادتين فالقول بجواز إنشاء الإرادة المنفردة للالتزام يرفع هذا الحرج... ثم إنه ليس في المنطق القانوني ما يمنع من أن يلتزم الشخص بإرادته فالإنسان حر في أن يقيد نفسه في الدائرة التي يسمح بها القانون بل إن سلطان الإرادة هنا أشد نفاذاً منه في نظرية توافق الإرادتين، إذ الإرادة المنفردة تصبح قادرة وحدها على إيجاد الالتزام، وهذا أقصى ما يصل إليه سلطانها أما القول بوجوب توافق الإرادتين فبقية من بقايا الأشكال الغابرة التي كانت تحد من سلطان الإرادة. فقديماً كانت الإرادةلا توجد أثراً قانونياً إلا إذا اقترنت بأشكال معقدة ثم اندثرت هذه الأشكال حتى لم يبق منها اليوم إلا النادر وأصبحت الإرادة هي التي توجد الأثر القانوني الذي تتجه إليه فالواجب أن تصل في هذا التطور إلى غايته المنطقية، وأن نقول بأن للإرادة السلطان حتى لو لم يقترن بها إرادة أخرى. على أننا نتطلب رضاء الدائن حتى لا يكسب حقاً بالرغم منه، ولكن هذا الرضاء لا يُوجِد الالتزام، بل إن الالتزام ينشأ بمجرد صدور إرادة المدين)( ).
ويلاحظ هنا أن شراح القانون الذين نادوا مؤخراً بالإرادة المنفردة ما زالوا إلى الآن متأثرين بالقاعدة الرومانية البالية وهي أن (العقد هو بين شخصين على الأقل) ولذلك هم ينادون بالإرادة المنفردة كمصدر ثان للالتزام إلى جانب العقد.
هذا وقد تأثير القانون المدني المصري الحالي (الصادر سنة 1948) بنظرية الإرادة المنفردة الجديدة – التي نادي بها بعض شراح القانون الألمان والفرنسيين – فنص في مشروعه التمهيدي على أن المصدر الثاني للالتزام هو الإرادة المنفردة ولكن المشروع النهائي اكتفى بذكر الوعد بجائزة فقط تحت فصل الإرادة المنفردة وألغى النص العام الذي كان مدرجاً في المشروع التمهيدي وبذلك أصبح الوعد بجائزة التزاماً مصدره نص القانون مباشرة(م 162 مدني) وليس الإرادة المنفردة، ويلاحظ أن جميع التشريعات الوضعية في العالم – إلا فيما نذر – لا زالت إلى الآن لا تعرف الإرادة المنفردة كمصدر عام للالتزام وهي من باب أولى لا تعرف بل لا تعرف أبداً بالعقد بالإرادة المنفردة لأن العقد هو توافق إرادتين على الأقل في جميع تشريعات العالم الوضعية.
5- مقارنة بين العقد في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية القديمة والحديثة يظهر منها استقلال الفقه الإسلامي وتفوقه: 
إنه لمن الواضح أن الفقه الإسلامي سبق جميع التشريعات القديمة والحديثة في معرفة العقد بالإرادة المنفردة بل إن هذه التشريعات لا تعرف إلى يومنا هذا العقد بالإرادة المنفردة بل إنها لن تعرف هذا في المستقبل لأن النظرية الحديثة للإرادة المنفردة والتي نادى بها بعض شراح القانون مؤخراً قامت على أساس أن العقد هو توافق إرادتين على الأقل وأن الإرادة المنفردة إنما تقوم  إلى جانب العقد كمصدر ثان للالتزام. وذلك لأنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يتخلصوا من القاعدة الرومانية آنفة الذكر. ولقد وضح لهؤلاء الشراح مدى أهمية الإرادة المنفردة لحل كثير من المشكلات القانونية كما سلف البيان( )، وهذه المشكلات كلها محلولة – من قديم – في الفقه الإسلامي بسبب معرفته للعقد بالإرادة المنفردة. وإنه من الواضح - في غير تمحل - أن مسألة الإرادة المنفردة تبرز استقلال الفقه الإسلامي عن القوانين القديمة والحديثة، وتدحض الزعم بأن هذا الفقه قد تأثر بالقانون الروماني، وكيف يكون ذلك وهذا الفقه يسبق التشريعات الحديثة في كثير من المسائل ومنها هذه المسألة الهامة.
6- مقارنة بين تكوين العقد في الفقه وتكوينه في القانون: 
العقد يتكون من أركان يقوم بها، والركن لغة: هو الجانب الأقوى من الشيء الذي يمسكه مثل ركن البناء. وركن العقد اصطلاحاً عند جمهور الفقهاء من غير الحنفية: هو ما لابد منه لتصور العقد ووجوده سواء أكان جزءاً من ماهية العقد أم ليس كذلك فيكفي أن يكون مختصاً به بحيث لا يتصور العقد بدونه وعلى ذلك فأركان العقد عند جمهور الفقهاء هي: 
1- صيغة العقد التي تنصب على الرضا.
2- العاقدان.
3- المعقود عليه أو محل العقد.
وأما الحنفية فركن العقد هو ما كان جزاً من ماهية العقد ولا يوجد إلا به فركن العقد عندهم هو صيغة العقد أي الرضا المتمثل في الإيجاب والقبول إذا كان بإرادتين أو الإيجاب فقط إذا كان بإرادة واحدة والخلاف هنا لفظي لأن الأشياء الأخرى عند الجمهور لا بد من وجودها عند الحنفية حتى يتم العقد وإن كانت لا تعتبر من أركانه.
وأركان العقد في القانون لا تختلف في جوهرها عن أركانه في الفقه الإسلامي وإن كان بعض شراح القانون( ) يذهبون إلى أن العقد يتكون من ركنين: التراضي والسبب، والتراضي عندهم يشتمل على الإيجاب والقبول والعاقدين لأنهما هما الذين يصدران الإيجاب والقبول، والسبب في القانون القديم لم يكن له شأن يذكر لأن القانون الروماني كانت تغلب عليه الشكلية الساذجة التي هي أشبة بالطقوس الدينية فما دام الشكل المطلوب قد روعي في إبرام العقد فإنه لا قيمة للبحث عن الباعث على العقد سواء أكان مشروعاً أم غير مشروع.
ولم يبدأ السبب في الظهور إلا بعد تطور طويل – ظهرت في أثنائه الشريعة الإسلامية – فلم يبدأ السبب في الظهور في أوروبا إلا عندما نادى رجال الكنسية برضائية العقود مقلدين في ذلك الشريعة الإسلامية، والإرادة حتى تنتج أثرها يجب أن تتجه إلى غرض مشروع لا يتعارض مع النظام العام والآداب وذلك حماية للمجتمع، ومن جهة أخرى فإن الإرادة اللازمة لإبرام العقد يجب أن تتحرر من الغلط والتدليس والإكراه وذلك حماية للمتعاقد نفسه من خطئه ونسيانه وما قد يتعرض له من عوامل الإكراه المؤثرة على إرادته فالسبب عند شراح القانون ركن في العقد إلى جانب الإرادة ولكنه ركن متلازم معها لا ينفك أحدهما عن الآخر( ).
وأما المعقود عليه عند القانونيين فهو المحل ولكنه ليس ركناً في العقد عندهم وإنما هو ركن في الالتزام المتولد عن العقد( )، وهذا التصوير القانوني لا يؤثر في حقيقة المحل وإن كان التصوير الفقهي أدق وهو الصحيح سواء أعتبر المعقود عليه ركناً على رأى جمهور الفقهاء أم لم تعتبره ركناً– على رأى الحنفية – ولكن العقد لا يتصور بدونه، وذلك لأننا إذا اعتبرنا المحل ركناً في الالتزام المتولد عن العقد طبقاً لاصطلاح القانونيين فمعنى ذلك أن العقد يمكن أن ينشأ بدون معقود عليه ثم بعد ذلك يتولد عنه هذا المعقود عليه وهذا فرض مستحيل قانوناً وفقهاً. ومن أجل ذلك نرى أن قول القانونيين أن المحل ركن في الالتزام وليس ركناً في العقد غير صحيح ويتناقض مع حقيقة العقد الذي لا يتصور نشوؤه بدون معقود عليه أو محل. فالتراضي ينصب من العاقدين على محل معين ثم هما يلتزمان به طبقاً للقوة الملزمة للعقد، وكذلك في العقد بالإرادة المنفردة في الفقه الإسلامي. هذا ويلاحظ أن الفقه الإسلامي لم يتكلم عن السبب في العقد لأنه مندمج – في هذا الفقه – في كل من التراضي والمعقود عليه فلا بد أن تكون الإرادة صحيحة خالية من نقص الأهلية والغلط والتدليس والإكراه ولا بد من جهة أخرى أن يكون المعقود عليه مشروعاً. فلا حاجة بد ذلك للكلام عن السبب كركن مستقل. فمضمون السبب معروف عند فقهاء الإسلام قبل أن تعرفه القوانين الوضيعة لأن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية في معرفة رضائيةالعقود، ولم تعرف القوانين الوضعية هذه الرضائية إلا بعد ظهور الشريعة الإسلامية بقرون عديدة. ويلاحظ هنا أن القوانين الوضعية تأثرت بالفقه الإسلامي المالكي الذي انتقل إلى أوربا – مع جيوش المسلمين – عبر بلاد الأندلس ولذلك نجد أن القانون المدني الفرنسي (قانون بابليون) الصادر في سنة 1804 قد تأثر بالفقه المالكي رغم محاولة واضعيه إخفاء هذه الحقيقة ومن مظاهر هذا التأثر الأخذ برضائيه العقود.



 

الفصل الثاني( )مدى حرية العاقد في إنشاء العقودفي الفقه الإسلامي والقانون

المبحث الأول
مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في الفقه الإسلامي
7- تمهيد: 
الرأي الصحيح في الفقه الإسلامي هو أن الأصل في المعاملات من عقود وشروط هو الإباحة والحرية لا الحظر والمنع فهي كالعادات من هذه الناحية، ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في هذه المسألة بادئين بالذين ذهبوا إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر وهؤلاء على درجات، فأشد الناس في هذه المسألة هم أهل الظاهر ويليهم الشافعية ثم يأتي بعد ذلك الحنفية الذين قالوا بقاعدة الحظر ولكنهم تخففوا وفتحوا باباً واسعاً للعقود والشروط عن طريق العرف، ثم يأتي بعد ذلك الموسعون في العقود والشروط وهم طائفتان المالكية والحنابلة ثم يأتي في النهاية الذين قالوا صراحة بأن الأصل هو الحرية والإباحة وهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة والإمام الشاطبي من المالكية.

المطالب الأول
مذهب المتشددين في قاعدة الحظر
وهم طائفتان: أهل الظاهر( ) والشافعية والأولى أشد من الثانية.
8- رأي أهل الظاهر: 
من المعروف أن أهل الظاهر يقفون عند ظواهر النصوص والآثار ولا يبحثون في علل الأحكام ويرفضون القياس مهاجمين الآخذين به، ولهذا لم يكن مستغرباً ألا يعترفوا إلا بالعقود والشروط التي نص عليها الشارع وما عدا ذلك فهي محرمة عندهم. ويرى ابن حزم( ) أن كل شرط لم يذكر في العقد حين عقده لا يؤثر على العقد فالعقد صحيح والشرط باطل وأما إذا ذكر الشرط حال العقد فالعقد باطل مفسوخ والشرط باطل مهما كان الشرط إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والعقد صحيح إن اشترطت فيه لأن هذه الشروط ورد بها النص وهذه الشروط السبعة هي: 
أولًا: اشتراط الرهن فيما تبايعه المتعاقدان إلى أجل مسمى والدليلقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283].
ثانياً: اشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يحدد أجلاً والدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280].
ثالثاً: اشتراط تأخير الثمن إلى أجل مسمى إن كان ذهباً أو فضة والدليل قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282].
رابعاً: اشتراط صفة في المبيع يتراضيان عليها ويتم البيع على أساس تلك الصفة لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
وقال: إن التراضي لا يكون إلا على صفات المبيع وصفات الثمن ضرورة.
خامساً: اشتراط أن لا خلابة لقوله تعالى  لحبان بن منقذ – وكان يغبن في العقود: «إذا تبايعت فقل لا خلابة ثم إنك بالخيار ثلاثة أيام» ( ).
سادساً: اشتراط المشترى لنفسه ثمر النخل المؤبر وذلك لما رواه عبد الله بن عمرو عن أبيه أن الرسول  قال: «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع...» ( ).
سابعاً: اشتراط المشتري مال العبد المباع ودليله: قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» ( ).
وفيما عدا هذه الشروط السبعة فكل شرط يشترطه العاقدان فهو باطل والعقد باطل أيضاً ما دام قد اقترن به الشرط الباطل.ولما كان ابن حزم يستبعد جميع الشروط غير المنصوص عليها فهو – من باب أولى – يستبعد كل عقد مستحدث لم يرد به نص من كتاب أو سنة، وهو ما صرح به فعلاً( ).
9- عرض حجج ابن حزم في تدليله على مبدأ الحظر: 
أولاً: الاستدلال بحديث بريرة، وحديث رد كل عمل مبتدع: 
استند ابن حزم إلى ما روى من طريق البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت بريرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني وأعتقيني قالت: نعم، قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقالت عائشة: لا حاجة لي بذلك فسمع النبي  أو بلغه فذكر لعائشة، فذكرت عائشة ما قالت لها فقال: «اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا» فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط» ( )وفي رواية أخرى للبخاري أيضاً: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة ثم قام رسول الله  في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق» ( ) وقد فسر ابن حزم هذا الحديث بأن اشتراط البائع الولاء لنفسه كان مباحاً غير منهي عنه لأن النبي  ما كان ليقول هذا القول إلا وهذا الشرط مباح لأنه لا يبيح الباطل ولا يغر أحداً ولا يخدعه ويستدل ابن حزم هنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل» فيقول: إن هذا يرفع الإشكال كله وإن الشروط كلها باطلة إلا ما كان في كتاب الله أي ورد في القرآن أو في السنة الصحيحة، واستدل ابن حزم أيضاً بما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله  قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ( )فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه إلا ما صح أن يكون عقداً جاء النص بالإلزام به باسمه أو بإباحة التزامه( ).
ثانياً: رد ابن حزم على من احتج بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]: 
يرى ابن حزم أنه لا يجوزهنا الاحتجاج بهذه الآية الكريمة ولا بقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: 91].
وذلك لأنه يرى أن أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود ليس على عمومه ولا على ظاهره لأن القرآن أمر باجتناب نواهي الله ومعاصيه فمن عقد على معصية فهو حرام عليه الوفاء بها وما دام هذا لا شك فيه فإن ابن حزم يستخلص من هذه المقدمة أنه لا شك – إذن – أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، والباطل محرم وكل محرم لا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾فإن أحداً لا يعلم – على حد قوله – ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه وإن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به ولا يمكن معرفة عهد الله إلا بنص وبالتالي فكل ما لم ينص عليه فهو باطل ولا يحل الوفاء به.
ثالثاً: رد ابن حزم على من احتج بحديث: «المسلمون على شروطهم» ( ): 
يرى ابن حزم أن هذا الحديث من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو ابن يزيد وأنه – على زعم ابن حزم – هالك وكذلك أهدر ابن حزم بعد ذلك بقية الطرق التي روى بها الحديث ثم ذكر ابن حزم بعد ذلك أنه لو فرض جدلاً صحة هذا الحديث فهو حجة وليس مخالفاً لرأيه، لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم، لا التي نهاهم عنها، وأن الرسول  نص على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فصح – إذن – أن كل شرط ليس في كتاب الله ليس من شروط المسلمين.
رابعاً: 
يحتج ابن حزم – رحمه الله – بحجة غريبة نسوقها بلفظه فهو يقول: [ولا يخلو كل شرط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما إباحة مال لم يجب في العقد وإما إيجاب عمل وإما منع من عمل والعمل يكون بالبشرة (أي بالبدن) وبالمال فقط وكل ذلك حرام بالنص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام» وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: ﴿لم تحرم ما أحل الله لك﴾ فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطاً جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته]( ).
خامساً: حجة ابن حزم في منع استثناء منفعة في البيع: 
تعرض ابن حزم للاستدلال بحديث جابر بن عبد الله فقد روى عامر الشعبي أن جابراً حدث أنه: [كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي  فدعا له فسار يسير ليس يسير مثله ثم قال: «بعنيه بأوقية» قلت: لا ثم قال: «بعينه بأوقية» فبعثه فاستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على أثري قال: «ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك» ]( ) ويرى ابن حزم أن ركوب جابر كان تطوعاً وأن هذا قد ورد في رواية وأنه إذا كان هذا شرطاً فإن الحقيقة في نظر ابن حزم أن هذا البيع لم يتم أبداً وإنما الذي يظهر من الخبر أنه عليه السلام قد أخذ الجمل وابتاعه ثم تخير قبل التفرقة واختار تركه فصح إذن أن البيع لم يتم (في نظر ابن حزم) وأن جابراً قد اشترط ركوب جمل نفسه ومن ثم فقد بطل أن يكون هذا الخبر حجة في جواز استثناء منفعة المبيع في نظره( ).
10- مناقشة حجج ابن حزم: 
أولاً: تفنيد الحجة الخاصة بحديث بريرة وحديث رد كل ما هو محدث: 
الواقع أن ابن حزم – رحمه الله – فسر حديث بريرة تفسيراً بعيداً ومناقضاً لنص الحديث نفسه في إحدى روايتي البخاري والتي ذكرها ابن حزم في كلامه إذ جاء في رواية البخاري المذكورة في كتاب الشروط أن رسول الله  قال: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» أي أن هذا الشرط غير معتبر البتة فكيف يتأتى بعد هذا النص الصريح الصحيح القول بأن اشتراط الولاء للبائع كان مباحاً حينما قال الرسول  لعائشة: «اشترطي لهم الولاء» ثم نسخ بعد ذلك، وقد ربط  بين صحة اشتراط الولاء لهم وبين كون الولاء لمن أعتق وهذا لا يفهم منه إلا حكماً واحداً يقينياً وهو أن اشتراط الولاء لغير المعتق إنما هو من قبيل الباطل اللغو الذي لا أثر له على الإطلاق. وأما قول ابن حزم أن النبي  لا يبيح الباطل ولا يغر أحداً ولا يخدعه فهذا قول صحيح ولا ريب ولكنهم كانوا يعرفون من قبل أن الولاء لا يكون إلا للمعتق فأراد النبي  أن يبين لهم حكم الشرط الباطل وأنه من قبيل اللغو فوجوده في العقد كعدمه( ) ولذلك قام بعد ذلك خطيباً في الناس يعلن عليهم حكم الشروط الباطلة ويؤكد هذا المعنى.هذا ويلاحظ أن الإمام الشافعي ومذهبه يعتبر أقرب المذاهب إلى مذهب ابن حزم في هذه المسألة قد رفض دعوى النسخ التي ادعاها ابن حزم وفسر الحديث تفسيرا آخر فقال بأن فقال بأن اشترطي لهم الولاء معناه اشترطي عليهم الولاء أي لعائشة وليس للبائعين واستند في هذا إلى قوله تعالى: ﴿وإن أسأتم فلها﴾ أي فعليها( ). وتفسير الإمام الشافعي بعيد هو الآخر لأنه يتعارض مع واقع الحال وهو أن عائشة اشترطت لهم الولاء وليس عليهم ولكن هذا التفسير ينفي دعوى النسخ التي ادعاها ابن حزم. وأما استناد ابن حزم إلى حديث رد كل ما هو مستحدث فإن عموم هذا الحديث مخصص بالأحكام التي يكون الأصل فيها المنع كما هو ظاهر من النصوص الأخرى فليس المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» منع كل جديد ويضاف إلى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحادثات الأمور فإن كل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة» رواه العرباض بن سارية( )فالبدعة التي يقصدها الحديث هي محدثات الأمور أي كل مستحدث لم يرد به نص في دائرة العقيدة والعبادات، أو كل مستحدث يخالف نصاً عاماً أو خاصاً في دائرة المعاملات والعادات، والفرق واضح وخطير بين ما لم يرد به نص وبين ما يخالف النص. والسبب في هذه التفرقة يرجع إلى أن الأصل في العقيدة والعبادات هو التوقيف والحظر والمنع، وأما الأصل في العادات والمعاملات فهو الإباحة والحرية والسماح. فما كان أصله الحظر فإن كل جديد فيه مردود على صاحبه لأنه ضلالة، وما كان أصله الإباحة فإن كل جديد فيه لا يعتبر مردوداً على صاحبه إلا إذا ثبت أنه يخالف نصاً في الكتاب أو السنة الصحيحة.
ومن هنا نستطيع أن  نفقه قول عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه في الصحيح عبد الرحمن بن عبدٍ القارئ وكان عاملاً لعمر على بيت المال فقال: [خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع (أي جماعات) متفرقون يصلى الرجل لنفسه ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: (نعمة البدعة هذه..)]( ).
ويلاحظ أن هذا التجديد من عمر يتعلق بعبادة ولكنه لا يتعلق بأصل من أصول العبادات وإنما يتعلق بمجرد تنظيم للعبادة من فقيه مجتهد وهو الخليفة الراشد – في الوقت نفسه – عمر رضي الله عنه –ويلاحظ هنا أن عمر رضي الله عنه استعمل لفظ البدعة في موضع مدح وهو يقصد منه هنا الجديد المستحدث في غير تعارض مع الشريعة على التفصيل السابق بالنسبة للعبادات والعادات والمعاملات، ولئن كان عمر رضي الله عنه اجتهد وجدد في مسألة هي على هامش العبادات فإنه يجوز من باب أولى استحدث مستجدات في نطاق المعاملات والعادات بشرط ألا تتعارض هذه المستجدات مع نص في الكتاب أو السنة ومن هذا يتضح أن احتجاج ابن حزم بحديث: «من أحدث في أمرنا هذا...» آنف الذكر إنما هو احتجاج ضعيف للغاية لا يقوى على منع استحداث عقود جديدة لأن الأصل في العقود هو الإباحة كما قدمنا.
ثانياً: الرد على قول ابن حزم بأن كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله  فهو باطل: 
فهو يسوي هنا بين الشروط المنهي عنها صراحة والشروط المسكوت عنها أي التي لم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها وهو يستند في ذلك إلى حديث بريرة وهذه الاستدلال  منه حجة عليه لأن الشرط الذي في قصة بريرة إنما هو شرط منهي عنه كما صرح بذلك الرسول الله  في حديث بريرة ولذلك فإنه لا يجوز أن يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» إلا على الشروط المنهي عنها فقط.وقد رد ابن تيمية( )على هذا الاستدلال من ابن حزم بأن المقصود من عبارة الحديث «كل شرط ليس في كتاب الله» : أي كل شرط مخالف لحكم الله سواء أكان في القرآن أوفي السنة الصحيحة لأن هذا القول جاء بخصوص شرط مخالف لحكم الله، وفضلاً عن ذلك فإن عبارة هذا الحديث جاءت عامة تحتمل التأويل وبالتالي يجب أن تفسر في ضوء النصوص الخاصة التي جاءت صريحة في أحاديث حكمها الصحة مثل: «والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» ( ) وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الحديث بمعناه روي من طرق متعددة يشد بعضها بعضاً فضلاً عن أن هذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة ( )فلس صحيحاً ما ذهب إليه ابن حزم من أن هذا الحديث ضعيف( )فهو حديث قوى بطرقه المتعددة فهو يقوى على تخصيص عموم حديث بريرة الوارد في الصحيح إذا فهم على المعنى العام الذي زعمه ابن حزم.
ثالثاً: تفنيد الحجج الثانية والثالثة والرابعة من حجج ابن حزم آنفة الذكر: 
لا أحد يخالف ابن حزم في أن الآية التي تأمر بالوفاء بالعقود ليست على عمومها لأن هذه الآية مخصصة بالعقود والشروط التي نهى الله تعالى عنها ولكنها مخصصة بهذا فقط وفيما عدا ذلك فإن العام يبقى على عمومه من وجوب الوفاء بجميع العقود والشروط أياً كان نوعها( ) ما دام لم يرد نص خاص بشأن عقد من العقود أو شرط من الشروط، ولقد أورد ابن حزم هنا رأياً بأن عهد الله لا يمكن معرفته إلا بنص والعقد هو من عهد الله ومن ثم فإن كل ما لم ينص عليه فهو باطل لا يحل الوفاء به لأنه لا يوجد دليل يدل على أنه عهد الله هذا كله يخصص – في رأيه – عموم الآية الآمرة بالوفاء بالعقود بصفة عامة، وهذا القول من ابن حزم بعيد ويتناقض مع الأمر بالوفاء باليمين بدون تخصيص ما دام اليمين على أمر غير حرام سواء أكان هذا الأمر منصوصاً عليه أم مسكوتاً عنه واليمين عقد من طرف واحد أي بالإرادة المنفردة وكذلك النذر فهو عقد بالإرادة المنفردة ولم يفصل الشارع أنواع النذور التي يمكن أن يلتزم بها المسلم ومع ذلك فإنه أمر بالوفاء بجميع النذور ما دامت على غير حرام، وكذلك سائر العقود ومن ثم فإن رأى ابن حزم هنا ظاهر الخطأ، وقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يهاجم ابن حزم الاستدلال بحديث «المسلمون على شروطهم» لأنه يصطدم اصطداماً مباشراً بمذهبه وقد أهدر ابن حزم أحد طرق هذا البحث بقوله: إن كثير بن زيد هالك، والحق أنه ليس بهالك فهو لم يعرف عنه الكذب وإنما وصف مرة بأنه ضعيف ووصف مرة أخرى بأنه ثقة على ألسنة أئمة الحديث كما ذكرنا، ومن جهة أخرى فإن الحديث ومرادفه: «الصلح جائز بين المسلمون إلا صلحاً حرم حلالاً» قد روي من عدة طرق يشد بعضها بعضاً مما يجعله في حكم الصحيح كما صرح بذلك ابن تيمية وغيره وكما ذكرنا من قبل.
وأما قول ابن حزم بأن الحديث على فرض صحته فهو حجة له وليس مخالفاً، فهذا قول يتعارض مع صيغة الحديث العامة وما استثناه منها فقد استثنى الشارع من الشروط المباحة للمسلمين ما أحل الحرام أو حرم الحلال، وأما ما سكت عنه الشارع فهو عفو حلال وقد بين الشارع سبحانه في كتابه العزيز أن ما سكت عنه فهو عفو ولذلك نهى الناس عن كثرة السؤال بغير سبب عن السكوت عنه حتى لا يصدر نهي صريح عنه فيحرم بعد أن كان حلالاً قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)﴾ [المائدة: 101]، وروى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله  قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم الأشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» ( )وقول ابن حزم إن عهد الله لا يمكن معرفته فهذا خطأ كما بينا آنفاً لأن عهد الله لا يقتصر على العهود التي يأخذها الله تعالى على الناس بالنص وإنما يشمل ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ [الأحزاب: 15]، فدخل في هذه الآية في عهد الله ما عقدوه على أنفسهم من عدم التولي، ويضاف إلى هذا أن الله تعالى أمر الإنسان بالوفاء بالعهد إذا عاهد قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: 177]، ونعى الله تعالى على اليهود عدم وفائهم بعهود أنفسهم ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾( ) [البقرة: 100].
هذا ومن التناقض الواضح هنا أن ابن حزم – رحمه الله – ينادى بتخصيص آية الوفاء بالعقود –في غير محل التخصيص  المنصوص عليه – ثم يقول في الوقت نفسه إن إيجاب العمل بالبشرة (أي بالبدن) أو بالمال حرامما لم يرد به نص ويستند في هذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام» فلماذا لا يخصص هذا الحديث بدوره فهو يناديبعمومه مع أن الله تعالى خصص تحريم هذه الأشياء بتراضي الناس في التجارات قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
وخصص الله تعالى تحريم الدماء بقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، وقال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32 ]،  هذا وخير الأموال في الشريعة هو المال الذي حصل عليه الإنسان من عمله فكيف يكون الاتفاق على إيجاب عمل الأصل فيه التحريم كما يذكر ابن حزم وكيف يستساغ هنا ما بقوله ابن حزم من أن قوله تعالى: ﴿لم تحرم ما أحل الله لك﴾ يفيد تحريم الاتفاق في العقد على الامتناع عن عمل معين رغم أن هذا الامتناع قد يكون فيه مصلحة للمتعاقدين معاً، ولقد جاءت الشريعة مدحضة لهذا الفهم غير الصحيح، والدليل على هذا أن الرسول صلى وسلم قد أبرم عقوداً التزم فيها بالامتناع عن أعمال معينة ليست فقط مباحة وإنما الأصل فيها أنها واجبة، ورغم ذلك اتفق على الامتناع عنها في حالات خاصة معينة وبموجب العقد، ومثال هذا ما حدث في عقد الحديبية فقد التزام  بموجب العقد بالامتناع عن قبول أولئك الذين يأتونه مسلمين (من المشركين) في فترة الهدنة فكيف يستساغ بعد ذلك أن يقال: إن الأصل في إيجاب المنع من العمل بموجب العقد إنما هو التحريم، ويلاحظ أن كلام ابن حزم هو عن المنع من العمل المباح أصلاً، وأما إذا كان العمل واجباً فإن ابن حزم أشد رفضاً للعقد الذي يوجب المنع منه، ولكننا رأينا أن رسول الله  قد فعله، وهنا فقط يصح أن يقال: إن إيجاب المنع من العمل الواجب إنما الأصل فيه التحريم إلا فيما ورد فيه نص أو تغلبت عليه مصلحة عامة أو مصلحة خاصة أهم منه وهو ما حصل في عقد الحديبية( ). وأما تحريم إيجاب المنع من العمل المباح بموجب العقد تحقيقاًلمصلحة المتعاقدين أو أحدهما فإن هذا أمر غير مقبول كأصل عام في الشريعة على عكس ما يدعي ابن حزم.
وأما قوله تعالى لرسوله: ﴿لم تحرم ما أحل الله لك﴾ فإن هذا سببه أنه قد حلف على تحريم شيء حلال له وبين الله له أنه لم يكن هناك داع لهذا اليمين ولا مصلحة شرعية منه لأحد، وهذا على عكس اتفاق المتعاقدين في عقد معاوضة على امتناع أحدهما عن عمل معين في فترة محددة تحقيقاً لمصلحة مالية أو غير مالية  لأحدهما أو لهما معاً، فقد يشترك طبيبان في إقامة مستشفى( ) ويتفقان على التناوب في الحضور على أنه لا يجوز لأي منهما أن ينام في فترة نوبته في المستشفى فهل يستوي مثل هذا الاتفاق وصدور يمين من شخص بألا ينام في ساعات معينة من الليل إرضاء لرغبة طارئة من زوجة أو من أحد أقاربه مثلاً؟ لقد شرع الله تعالى للحالف أن يرجع عن يمينه ويكفر عنها إذا كانت اليمين قد انعقدت صحيحة ويلاحظ أن هذه اليمين بالامتناع تنعقد صحيحة – ما دامت على غير معصية – وهي بالتالي ملزمة لمن عقدها حتى  يكفر عنها. ومن هذا يتضح أن الحجج (الثانية والثالثة والرابعة) التي أوردها ابن حزم هنا ضعيفة لا تقوى على تعضيد رأيه.
رابعاً: تفنيد الحجة الخامسة: 
وهي قول ابن حزم إن بيع جابر جمله للرسول  لم يتم أبداً، وأنه  تخير قبل التفرقة عدم إمضاء البيع، فهذا زعم لم يقم عليه دليل، لأن مجلس العقد كان قد انفض أثناء السفر وقبل الوصول إلى المدينة( ) وقد اتفق النبي  مع جابر على أخذ الجمل بأوقية قائلاً له: «وقد أخذته بأوقية اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به» تحقيقاً لاشتراط جابر ظهره إلى المدنية فلما أتاه أخذ منه الجمل ونقده الثمن وانصرف جابر بحيث لا يستطيع النبي  أن ينادي عليه فيسمعه بدليل ما جاء في رواية البخاري آنفة الذكر: «ثم انصرف فأرسل على أثري» ( )أي أنه حتى لو سلمنا جدلاً بأن مجلس العقد امتد إلى المدينة – وهذا غير صحيح – فإن المجلس قد انفض بانصراف جابر إلى حيث لا يسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فالبيع إذن قد تم فعلاً ثم بعد ذلك وهب النبي  الجمل لجابر ومما يؤكد هذا أنه  نقد جابراً الثمن المتفق عليه، فكيف يستساغ بعد هذا أن يقال إن البيع لم يتم كما أنه  لم يسترجع الثمن من جابر وإنما وهبه الجمل بعد أن تم البيع، وأما ما ذكره ابن حزم أن ركوب جابر الجمل بعد البيع كان تطوعاً من النبي صلى الله علية وسلم فيبطله نص الحديث الذي رواه البخاري إذ جاء به «فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى المدينة» ( )واستثناء الحملان من البيع لا يكون أبداً تطوعاً وإنما هو شرط يتضمن استثناء منفعة المبيع فترة معينة من الزمن.
وفي رأيي أن الأخذ بمذهب أهل الظاهر يؤدي إلى نتيجة لا تتفق و يسر الشريعة الإسلامية وقابليتها للتطبيق في كل مكان وزمان، إذ أن الأخذ بمذهب ابن حزم يؤدي إلى إبطال كثير من العقود التي يحتاج إليها الناس، ومن الممكن طبقاً للقواعد العامة للشريعة تصحيح هذه العقود ما دامت لا تخالف نصاً في الشريعة، وهذا المسلك للفقه الظاهري يؤدي بدوره إلى لجوء أهل الأزمنة الحديثة إلى غير الشريعة زاعمين كذباً أن الشريعة لا تفي بحاجات الناس، والحق أن الشريعة تكفي الناس وزيادة إلى يوم الدين وقد نصبت أحكاماً عامة يهتدى بها، ووضعت في الوقت نفسه سياجاً منيعاً منعت به الناس من الزلل فلا هي ضيقت على الناس ولا هي تركت الأمر فوضى.
11- رأي الشافعية: 
الأصل عندهم هو الحظر في العقود والشروط فهم قريبون – إلى حد ما – من أهل الظاهر في هذه المسألة ولكنهم يتوسعون عن الظاهرية لأنهم يعللون الأحكام ويأخذون بالقياس على عكس أهل الظاهر. ولقد أخذ الشافعية بحديث النهي عن بيع وشرط وقالوا: إن الحديث الناهي عن بيع وشرطين يتضمن النهي عن بيع وشرط( )وقد تكلم الإمام الشافعي عن المقصود بالشروط التي ليست في كتاب الله في حديث بريرة وذلك في معرض حديثه عن الشروط في النكاح وأبطل الشافعي ما تشترطه المرأة على الرجل في عقد الزواج كأن لا يخرج بها من بلدها أو لا يتزوج عليها وكذلك ما يشترطه الرجل على المرأة كأن لا ينفق عليها مثلاً. فالعقد عنده صحيح والشرط باطل ويستدل الشافعي بحديث بريرة على أن رسول الله  قد أبطل كل شرط ليس في كتاب الله إذا كان في كتاب الله خلافه، وبين الشافعي أن اشتراط المرأة على الرجل واشتراطه عليها في عقد الزواج فيه مخالفة للشروط الواردة بالقرآن والسنة لأن لله عز وجل أحل للرجل أن ينكح أربعاً وما ملكت يمينه فإذا اشترطت عليه أن لا ينكح غيرها أو لا يتسرى عليها فقد حظرت عليه ما وسع الله تعالى عليه، كما أن الرسول  نهى المرأة عن صيام يوم التطوع وزوجها شاهد إلا بإذنه فجعل للزوج منعها مما يقربها إلى الله تعالى إذا لم يكن فرضاً عليها لعظيم حقه عليها، فإذا اشترطت عليه أن لا يخرجها من بلدها فقد شرطت عليه إبطال ما له عليها. ورد الشافعي على ما قد يحتج به عليه من أن النبي  قال: «إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج» فرد الشافعي على ذلك بأنه أتباعاً للسنة إنما يوفى من الشروط ما يبين أنه جائز، ولم تدل السنة على أنه غير جائز، وأن حديث: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» يخصص بطبيعة الحال الحديث السابق فلا يصح إلا الشروط التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً ويفهم من كلام الشافعي أن الشروط الزائدة في عقد الزواج إما تحل حراماً أو تحرم حلالاً( )ولذلك فهي كلها تعتبر باطلة وقد بين ذلك بالنسبة إلى الشرط الخاص بعدم خروج المرأة من بلدها وهذا الحكم ينسحب عند الشافعي على سائر العقود فهي تبطل بالشروط الزائدة إذا وقع الشرط في صلب العقد أو بعده وقبل لزومه بخلاف ما لو تقدم عليه فإنه لا يؤثر في العقد( ) ورفض الشافعية الأخذ بظاهر حديث جابر الثابت بالصحيح وهو الخاص باستثناء منفعة المبيع مدة معينة، فكروا أنها قضية تتطرق إليها الاحتمالات وذكروا أن النبي  أراد أن يعطي جابراً الثمن ولم يرد حقيقة البيع وقالوا أيضاً إنه من المحتمل أن الشرط لم يكن في العقد نفسه فلا يضر ولا يؤثر واحتجواهنا بحديث النهي عن بيع وشرط وحديث النهي عن الثنيا( ).
هذا وقد فسر الشافعي حديث بريرة تفسيراً مختلفاً عن تفسير ابن حزم ولكن يؤدي إلى إبطال الشرط والعقد معاً، فقد ذكر الإمام الشافعي – رحمه الله – أنه إذا شرط البائع العتق مع الولاء له لم يصح العقد في الرأي الراجح لمخالفة ما استقر عليه الشرع من أن الولاء لمن أعتق وأجاب الإمام الشافعي عن خبر بريرة: «واشرطي لهم الولاء» بأن لهم بمعنى عليهم كما في قوله تعالى: ﴿وإن أسأتم فعلها﴾ أي أن الرسول  إنما قصد بهذه العبارة أن تشترط عائشة عليهم الولاء لنفسها.
وقد أجاز الشافعية اشتراط صفة مقصودة تتعلق بمصلحة العقد ولا تتوقف على أمر مستقبل فإذا اشترط المشتري كون العبد كاتباً أو الدابة أو الأمة حاملاً أو لبوناً(ذات لبن) صح العقد مع الشرط لأن الشرط يتعلق بمصلحة العقد وهو العلم بصفات المبيع التي تختلف بها الأغراض ولأنه التزم موجوداً عند العقد ولا يتوقف التزامه على إنشاء أمر مستقبل فلا يدخل عندهم في النهي عن بيع وشرط وإن سمي شرطاً تجوزاً فإن الشرط المؤثر عندهم لا يكون إلا مستقبلاً( ) وهذا استثناء من قاعدة الحظر في الشروط فالشروط التي تختص بالتزام صفة موجودة فعلاً وقت العقد لا تعتبر من الشروط المنهي عنها في حديث النهي عن بيع وشرط، فالشرط المقارن للعقد المتعلق بأمر يطلب المتعاقد وجوده عند العقد مباح عندهم ومثل هذا الشرط المقارن الصحيح عندهم يتعلق بالاستقراء بصفات المبيع أو الثمن كما ذكرنا.
ويكفي عندهم أن يوجد من الوصف ما ينطبق عليه الاسم ويرجع إلى العرف في تحديد الوصف وإذا تخلف الشرط فالمشترط بالخيار إن شاء فسخ العقد لأن الشرط صحيح وإن شاء أبقى فإذا أخلف إلى ما هو أعلى فلا خيار كأن شرط ثيوبة الجارية فخرجت بكراً فلا خيار وقالوا هنا إنه لا أثر لفوات غرضه لضعف آلته مثلاً إذ العبرة عندهم بالأعلى دائما( ).
ومن الغريب أنهم أجازوا في بعض الأحيان ( )شروطا حرمها الشرع وهذا يتعلق باشتراط كون العبد ممسوحاً(أي مقطوع الثلاثة) فيظهر سليماً فذكروا أن المشترى له خيار الفسخ بحجة أن الممسوح مراد لأنه يدخل على النساء ومباح النظر إليهن. وفي رأيي أن هذا سهو من الشافعية وغيرهم بسبب ذيوع هذا الأمر في عصرهم، والحق أن شرط الخصاء أو المسح يجب اعتباره باطلاً( ) لأن هذا محرم بالنص الشرعي فهو ظلم وفساد كبير وتغيير لخلق الله وهو مما يأمر به الشيطان قال تعالى حاكياً عن الشيطان: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119]، ولقد بين القرآن الكريم أن تغيير خلق الله من الجرائم التي يستحق فاعلها العذاب الشديد في الدنيا والآخرة والدليل على هذا ما فعله تعالى بقوم لوط الذين قرنوا الفاحشة بتغيير خلق الله.
 هذا ومن مظاهر تخففهم من قاعدة الحظر أنهم يفرقون بين صيغة الأمر وصيغة الشرط في الحكم فإذا جاء الإلزام بالشرط بصيغة الأمر فالعقد صحيح ولا إلزام على الطرف الآخر كأن يقول المشترى لبائع الثوب: خطه لي، بصيغة الأمر فالعقد صحيح والشرط باطل وهذا بعكس ما لو قال له: اشتريت منك الثوب بشرط، أو على أن تخيطه لي، فالشرط باطل ويبطل به العقد لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه المشتري وقت الانعقاد، ولأنه جاء بصيغة الشرط ولم يأت بصيغة الأمر لأن الأمر بشيء مبتدأ غير مقيد لما قبله بخلاف الشرط فهو مقيد لما قبله، وقالوا أيضاً إنه إذا تضمن الشرط (حتى ولو جاء بصيغة الشرط) إلزام المتعاقد بعمل فيما يملكه كأن اشترى ثوباً بشرط أن يبنى أحدهما خائطة فإن العقد يصح عندهم ويبطل الشرط( ).
12- نقد المذهب الشافعي: 
يعتر المذهب الشافعي أضيق المذاهب بعد الظاهرية في مسألة الأصل في العقود، ولكن الشافعية توسعوا عن الظاهرية واستثنوا من قاعدة الحظر في العقود والشروط أموراً رفضها الظاهرية مثل اشتراط صفة مقصودة في العقد ويلحظ أن الإمام الشافعي قد فسر تفسيراً صحيحاً قوله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» فذكر أن كل شرط ليس في كتاب الله باطل إذا كان في كتاب الله أو سنة رسول الله  خلافه، وهذا فرق هام بين الشافعي وابن حزم الذي انتهى إلى كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل سواء نص على خلافة أم لم ينص ولكن يجب أن يلاحظ هنا أن الشافعي قد اقترب من ابن حزم في النتيجة لأنه توسع في الشروط المنصوص عليها بالنسبة إلى الشروط المسكوت عنها كما فعل بالنسبة إلى اشتراط المرأة على زوجها ألا يخرجها من بلدها فإن الشرط يعتبره ابن حزم باطلاً لأنه لم ينص عليه وأما الشافعي فقد اعتبره باطلاً لأنه مخالف لما نص عليه ذاكراً أن ما جاءت به الشريعة من النص على حق الرجل على زوجته يعتبر مخالفاً لهذا الشرط الذي اشترطته المرأة على زوجها. وهذا الرأي غير صحيح لأنه إذا كانت الشريعة قد خولت الرجل حقوقاً على زوجته فما الذي يمنع من تنازل الرجل عن بعض هذه الحقوق الخاصة به والتي لا تتعلق بحق الله تعالى؟ فالحق أنه لا تعارض بين تخويل الرجل حقوقاً عظيمة على المرأة وبين تنازله مختاراً عن بعض هذه الحقوق طالما أن الحق المتنازل عنه إنما هو من الحقوق الخالصة له ليس من حقوق الله الخالصة أو الحقوق التي فيها حق لله إلى جانب حق الزوج.
ومن هنا يتضح لنا أن المذهب الشافعي وإن كان قد توسع إلى حد ما عن أهل الظاهر إلا أنه قد جاء ضيقاً في هذه المسألة ومخالفاً للنصوص العامة المتعددة التي تقرر قاعدة حرية العقود والشروط( )


المطلب الثانيمذهب المتخففين في قاعدة الحظر

13- رأي الحنفية في العقود والشروط: 
اتجه الحنفية إلى قاعدة أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر وقد روى الإمام أبو حنفية حديث النهي عن بيع وشرط( ) وقد صح هذا الحديث عند أبي حنيفة فهو أساس قاعدة الحظر عند الحنفية، وقد رفض الحنفية الأخذ بظاهر حديث جابر الخاص باستثناء منفعة المبيع وتأولوه بما تأوله الشافعية( ).
ولكن الحنفية – مع ذلك – توسعوا كثيراً عن الشافعية عن طريق الأخذ بالعرف ففتحوا باباً واسعاً للعقود والشروط المستحدثة عن طريق العرف ويستند الحنفية في هذا إلى الحديث الذي رواه ابن مسعود قال: «إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً  فبعثه الله برسالته ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح» ( ).
 وجاء في المبسوط: [تعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تجمع أمتي على ضلالة» وهو (أي عقد الاستصناع) نظير دخول الحمام فأنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصيب من الماء مجهولاً]( ). وجاء في حاشية ابن عابدين: [وجاز إجارة الحمام لأنه عليه والصلاة والسلام دخل حمام الجحفة وللعرف وقال عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسناًفهو عند الله حسن» ( ) وعلى هذا فإن العرف عند الحنفية طبقاً للدليل الذي استندوا  إليه – هو ما اعتاده الناس وألفوه فعلاً كان أو قولاً( ) دون معارضة لنص ومن أجل ذلك فإن الحنفية يصححون بالعرف عقوداً مسكوتاً عنها كعقدي الاستصناع والحمام.
14 – مدى أثر العرف على القياس والنصوص عند الحنفية وأثر ذلك على مسألة العقد: 
لما كان الحنفية يأخذون بالقياس ويعللون الأحكام الوارد بها النص الشرعي فإن ذلك فتح لهم باباً واسعاً في تطبيق العرف مع وجود النص الناهي الذي قد يبدو لأول وهلة أنه مخالف للعرف، ولكن يتضح بعد التحليل الدقيق أن العرف وإن خالف ظاهر النص إلا أنه يتفق مع علة النص وعلى هذا فقد جوزوا عقوداً وشروطاً لم ينص عليها الشارع رغم أخذهم بحديث النهي عن بيع وشرط فقد أجازوا مسألة تسمير القبقاب أي شراء القبقاب على أن يستمر له سيراً أي يستعمله شخصياً ولا يتصرف فيه فهذا بيع مع شرط المنع من التصرف صح عندهم لتعارف الناس عليه فصح البيع ولزم الشرط استحساناً لتعامل الناس به ومقتضى القياس هنا هو فساد هذا الشرط لأنه ليس من مقتضى العقد وإن كان فيه نفع لأحد العاقدين. وأجازوا عقد الاستصناع مع أنه لمعدوم وهو باطل عندهم ولكن صح استحساناً لتعامل الناس به، ومن ذلك أيضاً شراء الصوف المنسوخ على أن يجعله البائع قلنسوة أو شراء قلنسوة على أن يجعل لها البائع بطانة من عنده، ومنه أيضاً شراء ثوب أو خف خلق على أن يرقعه البائع فهذا كله صحيح عندهم لتعارف الناس عليه مع أن القياس منع هذه العقود والشروط لأن النبي  نهى عن بيع  وشرط وأبو حنيفة نفسه هو راوي هذا الحديث( ) وقد يفهم من هذا – لأول وهلة – أنهم يقدمون العرف على النص، وهذا محال فالعرف كما صرحوا بذلك ليس يقدم على النص ولكن يقدم على القياس، وقد علل الحنفية حديث النهي عن بيع وشرط بأن العلة من النهي هي وقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة، ولما كان العرف ينفي النزاع يقيناً إذ لا يمكن أن تستقر عادة بين الناس مع وجود المنازعة، فلذلك يكون العرف موافقاً لمعنى الحديث وليس منافياً له ولم يبق من الموانع إلا القياس والعرف قاض عليه( ). وهذا يوضح أن النهي عن الشرط في العقد – عند الحنفية – ليس لذاته وإنما لأنه يؤدي إلى وقوع النزاع والعرف ينفي بطبيعته النزاع وبالتالي يصح العقد والشرط عندهم بالعرف ولا يتعارض هذا الحكم مع الحديث الذي صح عندهم لأن عموم اللفظ هنا مخصص بالعرف فالمقصود من الحديث هو النهي عن الشروط المفضية إلى وقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به، ولا مانع من أن الأصل في الشروط المقارنة أنها تفضي إلى مثل هذا النزاع إذ أن العرف كفيل بإزالة هذه الصفة عن الشرط الذي تعارف عليه الناس. ومن هذا يتضح أن أخذ الحنفية بالعرف المقدم عندهم على القياس (وليس النص) قد فتح لهم باباً واسعاً جعلهم يبتعدون إلى حد كبير عن القاعدة التي اعتنقها الظاهرية والشافعية من أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر لا الإباحة. هذا وقد زاد بعض الحنفية في توسعهم فأخذوا بالعرف الخاص ولم يشترطوا العرف العام الذي يشمل ما اعتاده الناس في جميع الأمصار الإسلامية كتعارف الناس على بيوع التعاطي وعلى عقود الاستصناع وعلى الجلوس في المقاهي دون تحديد مدة للبقاء مقابل أن يشرب شيئاً يدفع ثمنه لصاحب المقهى. والعرف الخاص هو ما اعتاده أهل إقليم واحد أو بلدة واحدة كتعارف أهل مصر على أن الزوجة هي التي تقوم بتجهيز المنزل ومن ذلك أيضاً ما ذكره الزيلعي من أن مشايخ بلخ والنسفي يجيزون حمل الطعام ببعض المحمول ونسج الثوب ببعض المنسوج لتعامل أهل بلخ بذلك ولكن الزيلعي عقب على ذلك بأن غالبية فقهاء المذهب الحنفي لم يجيزوا هذا التخصيص لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة فلا يكفي لتخصيص الأثر وهذا بخلاف عقد الاستصناع فإن التعامل جري به في كل البلاد وبمثله يترك القياس ويخص الأثر( ).


15 – نقد المذهب الحنفي: 
الواقع من الأمر أن الحنفية – رغم أخذهم – بقاعدة الحظر في العقود والشروط ورغم أنهم هم الذين رووا حديث النهي عن بيع وشرط فإنهم قد فتحوا الباب واسعاً– كما رأينا – عن طريق العرف فهم توسعوا عن الظاهرية والشافعية كثيراً في هذه المسألة ولكن ما كان أغناهم عن هذا كله لو أنهم لم يتبعوا هذا الحديث المشهود له بالضعف من أهل الحديث ومن ثم ما كانوا ليحتاجوا إلى العرف لتصحيح العقود المستحدثة التي هي – أصلاً– صحيحة بناء على الأصل المخالف لهم وهو أصل الإباحة في العقود والشروط.

المطلب الثالثمذهب الموسعين لدائرة العقود والشروط وهم جمهور المالكية والحنابلة

16– رأي جمهور المالكية( ): 
يرى أصحاب الإمام مالك أن مذهبه في مسألة العقود الشروط هو أحسن المذاهب إذ به يجمع بين الأحاديث المختلفة (في ظاهرها) كلها والجمع عندهم أحسن من الترجيح ويرى الإمام مالك بصفة عامة جواز التعاقد على المنافع في عقود المعاوضات المالية رغم أنها معدومة ويرى الإمام مالك جواز التبرع بالمعدوم وقت التعاقد( ) فالإمام مالك يرى أنه لا تلازم بين الانعدام والغرر الذي يؤثر على عقود المعاوضات المالية كما أن الغرر لا يؤثر في عقود التبرعات عندهم وهذا من المالكية توسع كبير في دائرة العقود بصفة عامة دون اعتماد على العرف. ويرى المالكية أن الأصل في اختلاف الناس في الشروط المستحدثة ثلاثة أحاديث: 
أحدهما: حديث جابر قال: «ابتاع مني رسول الله  بعيراً وشرط ظهره إلى المدينة» . وهذا حديث صحيح.
الحديث الثاني: حديث بريرة المعروف وهو أن الرسول  قال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط» والحديث متفق على صحته.
والثالث: حديث جابر قال: (نهي رسول الله  عن المحاقلة والمزاينة والمخابرة والمعاومة والثنيا ورخص في العرايا) وهو أيضاً مرويفي الصحيح ويرى المالكية أنه يضم إلى هذه الأحاديث الثلاثة ما رواه أبو حنيفة من أن رسول الله  نهى عن بيع وشرط ولكنهم خصصوا هذا الحديث بحديث جابر المروى في الصحيح بشأن الثنيا فأباحوا بصفة عامة للمتعاقد أن يشترط لنفسه منفعة يسيرة قد تصل عندهم مدتها إلى سنة ويرى أن الشرط في البيع (وتقاس عليه سائر عقود المعاوضات المالية) يقع على ضربين: أحدهما أن يشترط الشرط بعد انقضاء الملك مثل أن يبيع العبد أو الأمة ويشترط أنه متى عتق كان ولاؤه له دون المشتري فمثل هذا قالوا فيه يصح العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة وأما الضرب الثاني فهو الشرط يقع في مدة الملك وهذا ينقسم عندهم إلى ثلاثة أقسام: 
القسم الأول: أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه.
القسم الثاني: أن يشترط على المشتري منعاً من تصرف عام أو خاص.
القسم الثالث: أن يشترط إيقاع معنى في المبيع. وهذا القسم الثالث ينقسم إلى قسمين أحدهما: أن يكون معنى من معاني البر والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء.
فأما القسم الأول: وهو الشرط الذي فيه منفعة للبائع (أو للمشترى) ولا يعود بمنع التصرف في أصل المبيع كأن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر وقيل السنة فذلك جائز لحديث جابر واشتراطه ظهر جمله إلى المدينة.
وأما الشرط الذي فيه منع من تصرف عام أو خاص (وهو القسم الثاني) فذلك لا يجوز عندهم لأنه من الثنيا المنهي عنها مثل أن يبيع الأمة على ألا يطأها أو ألا يبيعها وهكذا يوفقون بين حديث جابر الخاص باستثناء منفعة المبيع وبين حديثه عن الثنيا.
وأما القسم الثالث: وهو الشرط الذي فيه معنى من معاني البر مثل العتق كما إذا اشترط تعجيله جاز عندهم، وإن تأخر لم يجز لعظيم الغرر فيه( ).
17- نقد المذهب المالكي: 
لقد توسع المالكية توسعاً كبيراً في دائرة العقود دون حاجة إلى الاعتماد على العرف فهم لا يربطون بين الانعدام والغرر فقد يكون الشيء محل التعاقد معدوماً ولكنه مقدور على تسليمه عند التنفيذ فيصح التعاقد بشأنه ولذلك نجد أن مالكاً يجيز التعاقد على الثمار التي لا يمكن وجودها دفعة واحدة ما دام قد ظهر منها شيء كما في الخضروات والبطيخ وغيرها وهذا على عكس الحنفية والشافعية الذين يعتبرون الانعدام ملازماً للغرر( )والذي يبدو لي من نقول المالكية أنهم يقتربون كثيراً من قاعدة الأصل في العقود الإباحة وإن لم يصرح جمهورهم( ) بذلك فقد جاء في المدونة: (إن اشترى عبداً على أن يعتقه قال مالك: يجوز وعلل ذلك بأن البائع وضع من الثمن للشرط الذي فيه فلم يقع فيه غرر وإنما يكون فيه الغرر لو باعه على أن يعتقه إلى سنتين أو يدبره فهذه المخاطرة والغرر لأن العتق إلى أجل والتدبير غرر وإن فعل المشترى ذلك (احتراماً للشرط) لأن العبد إن مات قبل أن يأتي الأجل مات عبداً، ولأن المدبر إذا مات قبل مولاه مات عبداً ولعل الدين يلحقه بعد موت سيده فيرق ولعله لا يترك مالاً ولا يعتق إلا ثلثه فهذا يدلك على أنه غرر]( ) فهذا الكلام يدل على أنهم يجيزون العقود المستحدثة إن لم يكن فيها غرر أي إذا لم تشتمل على ما يخالف الشرع وهذا إلى جانب تخففهم في مسألة الانعدام وهذا كله يجعلهم أوسع من الحنفية في مسألة العقود والشروط ولكن يؤخذ عليهم أنهم احتجوا بحديث النهي عن بيع وشرط مع أنه حديث ضعيف ليس بحجة.
18– رأى جمهور الحنابلة: 
انفرد الإمام أحمد بالنسبة إلى الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي – بالتصريح بإباحة الشرط الزائد في العقد ( )وهذا يجعله يقترب أكثر من المالكية بالنسبة إلى قاعدة الأصل في العقود الإباحة لأن إباحة الشرط الزائد المستحدث في العقد تشير إلى إباحة العقد المستحدث الذي لا يحتوي على ما يخالف نصاً في الكتاب أو السنة. وقد صرح الحنابلة بأن حديث النهي عن البيع وشرط إنما هو حديث ضعيف ليس بحجة وهم يأخذون بحديث النهي عن الشرطين في المبيع فقد ورد عن عبد الله بن عمرو عن النبي  أنه قال: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا تبع ما ليس عندك»( ). هذا وقد اختلف الحنابلة في تفسير الشرطين المنهي عنهما فروي عن الإمام أحمد أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد كمن اشترى ثوباً واشترط على البائع قصارته وخياطته ومن اشترى طعاماً واشترط على البائع طبخه وحمله، وفي رواية أخرى عن أحمد أنه فسر الشرطين بشرطين فاسدين نحو أن يشترى الأمة ويشترط البائع عليه ألا يبيعها من أحد ولا يطأها( ) وعلى هذه الرواية الأخيرة فإنه يجوز اشتراط أي عدد من الشروط الصحيحة ليست من مصلحة العقد ولكنها لا تنافي مقتضاه وعلى هذه الرواية أيضاً إذا اشتراطا شرطا واحداً فاسداً فإن الشرط وحده هو الذي يبطل ويصح العقد وإذا اشترطا شرطين فاسدين فإن العقد يبطل بهما.
19– نقد المذهب الحنبلي: 
يعتبر المذهب الحنبلي أوسع المذاهب في هذه المسألة فهم ينفردون برد حديث النهي عن بيع وشرط ويقتربون أكثر من غيرهم من قاعدة الأصل في العقود والشروط الإباحة وعلى الأخص بالنسبة للرواية التي تفسير الشرطين الممنوعين في العقد بشرطين فاسدين أي تجيز اشتراط أي عدد من الشروط الصحيحة ولكن الجمهور – مع ذلك – لم يصل إلى القول الصريح بأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة لا الحظر.

المطلب الرابع
مذهب الذين صرحوا بأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة لا الحظر
[وهم: ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة والشاطبي من المالكية]
20– رأي ابن تيمية: 
حمل شيخ الإسلام ابن تيمية لواء الدفاع عن قاعدة حرية العقود والشروط فقد ذكر ابن تيمية صراحة أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة لا الحظر واستدل على ذلك بالكتاب والسنة والاعتبار ونظراً لقوة الأدلة التي استدل بها ابن تيمية في هذا الشأن فإننا نسوقها بشيء من التفصيل( ).
21– استدلال ابن تيمية بالكتاب( ): 
استدل ابن تيمية بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، والعقود هي العهود قال تعالى: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152 ]، وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)﴾ [الإسراء: 34]،  وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)﴾ [الأحزاب: 15 ]، فأمر سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود ويقول ابن تيمية: إن هذا عام وإنه تعالى أمر بالوفاء بعهد الله وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل الآية آنفة الذكر من سورة الأحزاب فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وقد أمر الله بالوفاء به وقرنه بالصدق في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152]، لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل. وقال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]، وقال المفسرون كالضحاك وغيرها: تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون، وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك مال أو نفع ونحو ذلك. وقال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)﴾إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ﴾ [النحل: 91 - 94]، والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل: سمي بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولميظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين﴾إلى قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: 7، 8]، والْإل هو القرابة، والذمة العهد وهما المذكوران في قوله تعالى: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾ [النساء: 1]، فذمهم على قطيعة الرحم ونقض الذمة أي العهد وقال تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ [التوبة: 12]، فهذه نزلت في الكفار لما صالحهم النبي  عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة فهذه الآيات الكريمات وغيرها توجب الوفاء بالعقد وهذا مما لا ريب فيه.
22- استدلال ابن تيمية بالسنة المطهرة ( ): 
استدل شيخ الإسلام بما ورد في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ( ).
فذم الغادر وكل من شرط شرطاً ثم نقضه فهو غادر ولا ريب، وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله  قال: «أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج» ( ) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها. ويستند ابن تيمية أيضاً إلى ما رواه أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً والمسلمون على شروطهم» .
وروى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله  قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» ( ) وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
وروى أبو بكر البزار أيضاً عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس على شروطهم ما وافقت الحق» ويذكر ابن تيمية بالنسبة لأسانيد هذا الحديث أنه وإن كان الواحد منها ضعيفاً فاجتماعها من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً يقوى الحديث فضلاً عن أن هذا المعنى هو الذي يشهد له كتاب والسنة( ).
23 – وجه استدلال ابن تيمية بالكتاب والسنة على أصل الإباحة بالنسبة إلى العقود والشروط( ): 
يقول ابن تيمية: إن الكتاب والسنة قد جاءا بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك كله والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك، ولو كان الأصل في العقود الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن نؤمر بها مطلقاً ويذم من نقضها أو غدر مطلقاً، كما أن قتل الأنفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحة الشرع أو أوجبة لم يجز أن يؤمر بقتل الأنفس مطلقاً بخلاف ما كان جنسه واجباً كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقاً، وإن كان لذلك شروط وموانع عن الصلاة بغير الطهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك، وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحياناً لعارض ويجب السكوت والتعريض، وإذا كان حسن الوفاء ورعاية العهد مأموراً به فلما كان ذلك كذلك علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده وهو الوفاء به، وإذا كان الشرع قد أمر بمقصود العهود فهذا يدل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
والإباحة هنا لا تتعارض ألبتة مع ما حرمه الله فالمشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا أن يحرم بإطلاق ما أباحه الله، فإن عقده وشرطه يكون حينئذ باطلاً لمخالفته لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجباً بدونه فمقصود الشروط وجوب ما لم يكون واجباً ولا حراماً، وكل شرط صحيح لا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجباً وإباحة ما لم يكن مباحاً وتحريم ما لم يكن حراماً وكذلك كل من المتاجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهناً أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل هو فساد الشروط إذ قال لأنها إما أن تبيح حراماً أو تحرم حلالاً أو توجب ساقطاً أو تسقط واجباً وذلك لا يجوز إلا بإذن الشرع وقد ورد شبهات عند بعض الناس حتى توهموا أن حديث «المسلمون على شروطهم» متناقض وليس كذلك في الحقيقة، بل ما كان حراماً مؤبداً بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالزنا والوطء في ملك الغير. وأما ما كان مباحاً بدون الشرط فالشرط قد يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن والاستيفاء ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجباً.
وهذا التحليل الدقيق لا بن تيمية يكشف بدقة عن حقيقة الموقف بالنسبة إلى أثر الشرط في العقد ويكشف عن الغلط الذي وقع فيه بعض الفقهاء عندما قالوا بأن الشرط بصفة عامة يحل الحرام ويحرم الحلال وهذا غير صحيح لأنه ينبغي التفرقة بين ما هو محرم أو ما هو حلال بصفة مطلقة وبين المحرم أو الحلال في حال مخصوصة كالمرأة الأجنبية فهي حرام على من يريد الزواج منها حتى يعقد عليها بعقد صحيح فهذا العقد قد أحل ما كان محرماً ولا يعتبر هذا تحليلاً لما حرمه الله. وأما المحرمة بصفة مؤبدة مثل أم الزوجة فإن العقد عليها لا يحلها. وكذلك الشأن بالنسبة إلى العقود المستحدثة فإنها ما دامت لم تشتمل على ما يتعارض مع نص شرعي صحيحفإنها تكون صحيحة حتى لو أحلت ما كان محرماً في حال مخصوصة ويجوز تحليله بالعقد.
24 – وجه الاستدلال بالاعتبار عند ابن تيمية( ): 
أولاً: العقود والشروط من باب الأفعال العادية الأصل فيها الإباحة: 

فالأصل في العقود مثل الأصل في الأفعال العادية هو الإباحة وعدم الحظر لأنها ليست من العبادات، وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 199]، عام في الأعيان والأفعال وإذا لم تكن حراماً لم تكن فاسدة لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالاً أو عفواً، كالأعيان التي لم تحرم وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الخاصة والاستحضار العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به أيضاً على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمي ذلك حلالاً أو عفواً على الاختلاف المعروف بين الفقهاء بين الحلال والعفو، وليس أدل على تسوية العقود بالأفعال – من هذه الناحية – من أن المسلمين قد اتفقوا على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن شرعي، ولو كانت العقود كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكون فيه بشرع.
ثانياً: التراضي في العقود عموماً وطيب النفس في التبرعات هو الأصل بالدليل القرآني: 
الأصل في العقود رضي العاقدين ونتيجتها هي ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقدين لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق فكذلك سائر التبرعات قياساً بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن وكذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضي المتعاقدين أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة الكتاب إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمور ونحو ذلك.
ثالثاً: الشرط المنافي لمقصود العقد والشرط المنافي لمقصود الشارع: 
يقول ابن تيمية إنه إذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان الشرط لغواً، وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما بأن لم يكن لغواً ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذ لولا حاجتهم لما فعلوا فإن الإقدام على فعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة من الأمر برفع الحرج.
رابعاً: الرد على الاستدلال بحديث بريرة في حظر العقود والشروط: 
فسر ابن تيمية حديث بريرة بأن النبي  أراد به إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، ولم يرد إبطال الشروط التي سكت عنها كتاب الله، ثم رد على القول بأن النبي  أراد أن الشروط التي لم يبحها ولم يحرمها تكون باطلة فقد رد على هذا القول بأن الكتاب والسنة دلّا على وجوب الوفاء بالعقود والشروط بصفة عامة، ولذلك فإن أي شرط سكت عنه الكتاب بخصوصه يدخل في هذا الأمر العام الصادر من الكتاب والسنة بوجوب الوفاء بالشروط بصفة عامة، ولا يخرج هنا إلا ما دل عليه دليل خاص ينهى الله تعالى عنه كما هو الحال في شرط الولاء لغير المعتق والذي نص عليه الحديث.
25–كيفية تطبيق قاعدة حرية العقود والشروط عند ابن تيمية( ): 
يرى ابن تيمية أنه مع التسليم بأن الأصل في العقود والشروط الإباحة، فإن هذا لا يعني أننا نعتبر أي عقد أو أي شرط صحيحاً دون بحث وترو، بل يتعين علينا أن نبحث لنعرف هل يوجد نص خاص يحرم مثل هذا العقد أو الشرط أم لا. وحجته في ذلك واضحة فهو يقول إنه لعدم تحريم العقود والشروط وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو تلك المسألة لمعرفة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم لأنه إذا كان الدليل هو الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي المحرم فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يفتى بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة والتأكد من عدم وجود نص خاص يحرم في المسألة المعروضة. ويستخلص ابن تيمية من ذلك أنه ما دام الخلاف يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي فإن الأدلة النافية لتحريم العقود والشروط المثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط. ويقول ابن تيمية هنا: إن من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فيذكر في أنواعها قواعد مطلقة ويضرب ابن تيمية بعض الأمثلة فيقول: إن الأصل عند الفقهاء أنه لا يجوز لكل من أخرج عيناً من ملكه معاوضة كالبيع والخلع أو تبرعاً كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها لما روي من حديث جابر آنف الذكر، فإذا كان العقد مما لايصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوماً، ويؤكد ذلك حديث جابر إذ اشتراط ظهر البعير المباع إلى المدينة وهي مسافة معلومة لها مدة معلومة، وإذا كان العقد مما يصح فيه الغرر كالعتق والوقف، فله أن يستثنى غير معلوم فيستثنى خدمة العبد ما عاش أو عاش فلان أو يستثنى غلة الوقف ما عاش  الواقف مثلاً، وهكذا فلا بد إذن من معرفة ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط بالنسبة إلى كل نوع من أنواع العقود قبل الحكم بصحة عقد أو شرط على أساس قاعدة حرية العقود والشروط.
26– رأى ابن القيم( ) من الحنابلة: 
يقول ابن القيم: إن الحنفية والمالكية والشافعية قالوا: إذا اشترطت الزوجة ألا يخرجها من بلدها أو دارها أو ألا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلاً أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط فأين المقصود الذي لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط وأين فواته إلى فواته. ويقول ابن قيم أيضاً: إن الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم الدليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان والتحريم، وأن التحريم ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه الله تعالى، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان أو إهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة – فيما عدا ما حرمه الله سبحانه وتعالى – بأمره بالوفاء بالعقود والعهود (الآيات – السابق ذكرها التي في المائدة وغيرها) وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج» وذكر ابن القيم أن نفاة القياس – وعلى رأسهم أهل الظاهر – احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب فحملوهما فوق الحجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه فحيث فهموا من النص حكماً أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه وحيث لم يفهموه منه نفوه ولجأوا إلى تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ويضيف ابن القيم قائلاً: إن أصحاب الحظر قالوا: إن كل شرط وعقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة: 
إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرمة الله ورسوله أو تحريم ما أباحه أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه ولا خامس لهذه الأقسام البتة، ويرد ابن القيم على ذلك بقوله: إن هؤلاء قد فاتهم أن هناك قسماً خامساً وهو ما أباحه الله سبحانه للمكلف من تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياها، فيباشر من الأسباب ما يحل له بعد أن كان حراماً عليه، ويحرمه بعد أن كان حلالاً له، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجباً، أو يسقطه بعد وجوبه، وليس ذلك تغيير لأحكامه بل كل ذلك من أحكامه سبحانه فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا، فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراماً عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجباً عليه من حقوقها، كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط وقد قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29 ]، فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان فإذا تراضيا عن شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه كما لا يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما الله ورسوله ولا بإبطال ما شرطا مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه، ومحرم الحلال كمحلل الحرام، فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين مالم يلغه الله ورسوله، وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله، وكلا القولين خطأ، بل الصواب إلغاء كل شرط يخالف حكم الله واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنعه منه( ).
27– رأي الشاطبي من المالكية: 
ذهب الإمام الشاطبي من المالكية إلى أن الأصل في العقود والشروط في المعاملات هو الإباحة لا الحظر فهو يقول: [أنه إذ لم يظهر في الشرط في المعاملات هو الإباحة لا الحظر فهو يقول: [أنه إذا لم يظهر في الشرط منافاة لمشروطة ولا ملاءمة فان القاعدة المستمرة في أمثال هذا هي التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات فلا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن إذ لا مجال للعقول في اختراع العبادات فكذلك ما يتعلق بها من شروط، وما كان من المعاملات يكتفي فيها معدم المنافاة لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل عليه]( ) وهذا الرأي يتفق مع مذهب ابن تيمية وابن القيم وإن كان ابن تيمية قد توسع وجاء بالأدلة العديدة التي تثبت قاعدة حرية العقود والشروط.
28– ترجيح رأي تيمية وابن القيم والشاطبي: 
لقد جاء رأى هؤلاء الفقهاء الثلاثة متفقاً مع النصوص الكتاب والسنة ومتفقاً مع أصول الشريعة وأهمها رفع الحرج عن الناس، ومتفقاً مع طبيعة العقود والشروط، فهي مثل العادات التي أصلها الإباحة، وليست من قبيل العبادات التي أصلها الحظر. ولقد فند ابن تيمية جميع الحجج المعارضة وقد كفانا ابن تيمية وكذلك ابن القيم مئونة البحث عن الأدلة المثبتة لهذا الأصل الهام.


المبحث الثانيمدى حرية العاقد في إنشاء العقود في القانون، وبيان الفرق بين القاعدة الإسلامية والقاعدة في القانون

29– التراضي لم يكن معروفاً في القانون الروماني إلا على سبيل الاستثناء وفي مراحله المتأخرة: 
فالأصل هو الحظر في العقود( ) لقد بدأت العقود في القانون الروماني شكلية خاضعة لأوضاع معينة من إشارات وحركات وألفاظ وكتابة هي كلها أشبه بالطقوس الدينية وأما مجرد التراضي أي توافق الإرادتين فلا يكون عقداً فكان المدين يلتزم لأنه استوفى الأشكال المرسومة، فما دام استوفى هذه الأشكال فإن التزامه يصبح صحيحاً حتى لو كان السبب الحقيقي الذي دفعه إلى الالتزام لا وجود له أو كان غير مشروع أو كان مخالفاً للآداب فالعقد الشكلي كان عقداً مجرداً يستمد صحته من شكله لا من موضوعه فمبدأ الرضائية لم يكن أبداً أصلاً من أصول القانون الروماني. ففي البداية ظهرت العقود المسماة وهي لم تكن تعتمد على التراضي وإنما على أمور أخرى، فالعقود العينية وهي القرض والعارية والتصرف الائتماني والرهن كانت تعتمد على التسليم أو القبض فالتسليم هو ركن العقد لا يقوم العقد بدونه. ومن العقود المسماة أيضاً ما كان يعرف بالعقود اللفظية أي إن ألفاظاً معينة حددها القانون تعتبر ركناً في العقد وكان يشترط في هذه الألفاظ أن تكون باللغة اللاتينية ثم أجازوا في مرحلة لاحقة استعمال الألفاظ المحددة باللغة اليونانية دون الآشورية أو القرطاجية، وفي تطور أخير أجازوا استعمال سائر اللغات مع الالتزام بألفاظ محددة، فالنطق بألفاظ محددة هو ركن العقد بصرف النظر عن حقيقة الرضا، وكانت هذه العقود اللفظية تقتصر على العقود الملزمة لجانب واحد فالعقد لا يرتب التزاماً إلا في ذمة أحد العاقدين دون الآخر فهي عقود تنصب أساساً على التعهد من أحد العاقدين قبل العاقد الآخر بدفع دين. وإلى جانب هذه العقود وجدت العقود الكتابية فالكتابة تعتبر في هذه العقود هي ركن العقد ومن هذه العقود المسماة أيضاً العقود الرضائية وهي الشركة والوكالة والبيع والإجارة، فهم أجازوا الانعقاد بالتراضي في بعض مراحل القانون الروماني، ولكن الأصل العام في القانون الروماني هو أن الاتفاق لا ينشئ التزامات فالأصل هو مبدأ الحظر في العقود والشروط ومصدر العقود هو نص القانون والركن في العقود المسماة (التي نص عليها القانون) هو هذه الأشكال المختلفة المجردة عن الرضا.
30– تطور القانون تدريجياً بالنسبة لحرية إنشاء العقود في العصور الوسطى وما بعدها وتأثره بالفقه الإسلامي حتى وصل إلى معرفة مبدأ سلطان الإرادة: 
ظلت الشكلية بطقوسها وأوضاعها إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي( ) أي ما بعد نزول الشريعة الإسلامية بستة قرون ثم أخذت تنحو تدريجياً نحو تقرير مبدأ سلطان الإرادة في إنشاء العقود المختلفة وقد ظهر هذا الاتجاه في القانون الفرنسي القديم ولم تقتصر هذه الشكلية على القانون الروماني والقوانين التي يدور في فلكه، فإن هذا كان هو الحال أيضاً بالنسبة إلى القانون الإنجليزي، ومن الغريب حقاً أننا نجد الإنجليز حتى القرن الرابع عشر لا يعرفون القوة الملزمة للعقد إلا إذا أفرغ في وثيقة رسمية بل إن الوثيقة الرسمية كانت هي التطور الذي انتهى إليه القانون الإنجليزي في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي وفي هذا يقول الشراح الإنجليز ما يأتي : [[[[[[[سقط انجليزي]]]]]]]]]]]]]]]]
وترجمة ذلك بتصرف: [ولكن في منتصف القرن الرابع عشر (الميلادي) تقرر أن العقد يحتاج إلى وثيقة رسمية فالاتفاق لا يستمد قوته الملزمة بسبب أن طرفي العقد قد تبادلا التعبير عن إرادة كل منهما فهذه القوة الملزمة لا توجد إلا إذا أفرع الاتفاق في الشكل الخاص الذي استلزمه القانون ومنحه القوة] ولم يعرف القانون الانجليزي انتقال الملكية بمجرد عقد البيع إلا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وكان ذلك على سبيل الاستثناء وفي هذا يقول الشارح الانجليزي: [[[[[[سقط انجليزي]]]]]]]]
وترجمة ذلك بتصرف: [في منتصف القرن الخامس عشر أخذت المحاكم باستثناء متعلق بقضية خاصة ببيع بضائع فقد سلمت المحاكم بانتقال ملكية البضائع إلى المشتري قبل التسليم (أي بمجرد التراضي بالعقد) وذك حتى يحق للبائع أن يطالب المشتري بالثمن.]
ومن هذه الأمثلة يتضح أن التراضي لم يكن ينتج أثراً في القانون الإنجليزي حتى هذا الوقت المتأخر [بعد نزول الشريعة الإسلامية بتسعة قرون] وهذا يدل على أن الأصل في العقود – في القوانين الأوربية – كان هو الحظر إلى عهد قريب فلم يكن العقد مصدراً للحقوق أو الالتزامات إلا فيما نص عليه القانون، أي أنالقانون هو المصدر العام المباشر للحقوق أو الالتزامات هذا ولم يظهر مبدأ الحرية في إنشاء العقود إلا في القرن الثامن عشر الميلادي فقط وفي هذا يقول الشارح الإنجليزي: 
وترجمة ذلك بتصرف: [ولقد ظهر أول تأكيد (للمبدأ) في ظل الفلسفة السياسية في القرن الثامن عشر التي اعتنقت فكرة الحرية الفردية، فلقد قيل حينذاك أن كل إنسان حر في تحقيق مصالحه بطريقته الخاصة ومن واجب القانون أن يرتب على إرادات الأطراف (المتعاقدة) الآثار التي اتجهت إليها هذه الإرادات].
هذا وقد صدرت قوانين نابليون في بداية القرن التاسع عشر الميلادي (1804) ومنها القانون المدني الفرنسي الذي لا يزال معمولاً به إلى الآن (مع إدخال بعض التعديلات عليه على مر السنين) ولقد جاءت هذه القوانين متأثرة بالشريعة الإسلامية عن طريق الفقه المالكي الذي ساد قروناً عديدة في بعض دول أوروبا وهي التي كانت خاضعة لدولة الأندلس الإسلامية، ويلاحظ أن الفقه المالكي يتوسع في العقود، والإمام الشاطبي( ) من المالكية يذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة لا الحظر (كما بينت آنفا).( )
هذا والأدلة كثيرة على تأثر القوانين الأوروبية بالشريعة الإسلامية عبر الفقه الإسلامي «والفقه ما هو إلا البيان العلمي للشريعة)( ) ويعتبر الفقه المالكي هنا هو صاحب التأثير الأكبر لأنه هو الذي ساد في بلاد الأندلس ويأتي بعده الفقه الشافعي، ومن هذه الأدلة أن الحوالة – وهي انتقال الالتزام بين الأحياء –لم تعرف في أوروبا قبل القرن الثاني عشر الميلادي مع أن الحوالة عرفت صراحة في الشريعة في أحاديث صحيحة فقد روى أبو هريرة أن رسول الله  قال: «مطل الغني ظلم وإذا  أتبع أحدكم على ملئ فليتبع» [متفق عليه] وفي لفظ: «من أحيل بحقه على مليء فليحتل» ( ).
ولم تعرف الحوالة في القوانين المدنية الأوروبية لأنها تتعارض مع هذه القوانين التي لم تعرف انتقال الالتزام بسبب الموت حتى يمكنها أن تعرف انتقال الالتزام بين الأحياء ولكن القوانين التجارة الأوروبية عرفت الحوالة عن الشريعة الإسلامية إذ انتقلت إليها عن طريق بلاد الأندلس غرباً وعن طريق الحروب الصليبية شرقاً عندما اختلط الفرنجة بالمسلمين وعن طريق فتوحات الدولة العثمانية. ولا أدل على ذلك من أننا نجد كلمة (آفالAval) الفرنسية تستعمل بمعنى تظهير السفتجة (الحوالة) بتوقيع شخص ثالث على سبيل الكفالة وإنه من الواضح أنها هي بعينها كلمة حوالة( )، ومن ذلك أيضاً كلمة (avanies) الفرنسية المستعملة في قانون التجارةالبحري الفرنسي بمعنى الخسائر فهي مأخوذة عن كلمة العوار (البحري) العربية وقد أقر بذلك علماء الفرنجة أنفسهم( ) هذا ومن يرجع إلى نظرية البينات التي دونها علماء القرون الوسطى( ) في أوروبا يجد أنها منقولة عن كتب الفقه الإسلامي خصوصاً بالنسبة للأمثلة الواردة بها.
ومن هذا نستطيع أن نقرر – دون أن نبعد عن الحقيقة – أن الفقه الإسلامي أسهم في نقل مبد أ حرية إنشاء العقود إلى القوانين الأوروبية عن طريق الأندلس الإسلامية التي ساد فيها الفقه المالكي وهناك عوامل أخرى أسهمت أيضاً في معرفة القوانين الأوروبية لهذا المبدأ.
هذا ويذكر شراح القانون أن من هذه العوامل بعض مبادئ الكنيسة التي كانت سائدة في القرون الوسطى فكان المتعاقد إذا أقسم على احترام عقده ولم لو يفرغه في شكل مخصوص اعتبر ملتزماًبه على أساس أن الحنث في اليمين يعد خطيئة إلا أن هذا العامل – في نظري – يضعف كثيراً عن تأثير الفقه الإسلامي الذي ساد في أوروبا طوال القرون التي عاشت فيها دولة الأندلس الإسلامية ذي الثراء الهائل في هذا المضمار، وإلى جانب هذا ظهرت العوامل الاقتصادية بعد أن انتعش النشاط الاقتصادي في العصور الوسطى مما اقتضى معه إزالة الشكليات الرومانية العنيفة التي كانت تعوق المبادلات التجارية، فكانت المحاكم التجارية الإيطالية في القرن الرابع عشر تقضى طبقاً لقواعد العدالة التي لا تميز بين العقد الشكلي وبين الارتباط العقدي البعيد عن الكل من حيث الإلزام، ولقد وجدت هذه المحاكم في قواعد الفقه الإسلامي خير معين لها. وإلى جانب ذلك ظهرت نظريات فلسفية وسياسية منذ القرن السابع عشر الميلادي تنادى بالحرية الفردية وتقدس إرادة الفرد فهو يستطيع أن ينشئ من العقود ما يشاء ونادى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو بنظرية العقد الاجتماعي في كتابه الشهير المعروف بهذا الاسم وقد سبق روسو إلى هذه النظرية الإنجليزيان هويس ولوك ولكن روسو زادها وضوحاً، ويبدو أن روسو قد استفاد من نظرية عقد البيعة الإسلامية فهذه النظرية تقول: إن الحاكم أو رئيس الدولة يستمد سلطانه بناء على عقد بينه وبين الأمة ويذهب روسو إلى أن المجتمع الذي يتكون على أساس العقد بين الحاكم والأمة سيصبح وحدة سياسية قوية البناء متناسقة الأجزاء تفيض بالحياة الكريمة وتمتلئ بالشعور النبيل ينعكس على كل فرد فيها فتصير كالجسد الواحد يألم كله لما يصيب أي فرد فيه وهذا الكلام يذكرنا( ) بما رواه النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [متفق عليه].
[رواه البخاري في الأدب باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم في البر والصلة باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم].
ولو رجعنا إلى الإنجليزي لوك لوجدنا أنه ينقل نظريته من عقد البيعة الإسلامية فهو يرى أن العقد الاجتماعي الذي انتقل به الأفراد من حياة التخلف إلى حياة الحضارة – فرض على كل  من الحاكم والمحكومين واجبات متبادلة فإذا خرج الحاكم  عن حدود واجباته التي التزم بها في عقده مع الأمة وجنح إلى الحكم المستبد ولم يرع مصلحة الجماعة فإن من حق الجماعة أن تقاوم طغيانه وتستعيد سيادتها الأصلية التي كانت قد ائتمنت عليها ذلك الحاكم وتمنحها لحاكم جديد( ). ويجب أن نلحظ هنا أن مفكري أوروبا حينما أخذوا فكرة العقد الاجتماعي من عقد البيعة الإسلامية قد أغفلوا أمراً هاماً وهو العبودية لله تعالى ولذلك نجدهم يتكلمون عن سيادة الأمة وهذا شيء طبيعي بالنسبة لهؤلاء المفكرين والفلاسفة لأنهم اهتموا بالجانب التنظيمي دون أن يتوغلوا في حقيقة النظم الإسلامية التي تقوم كلها على أساس التوحيد والعبودية لله وحده لا شريك له. هذا ولقد أسهمت هذه النظريات التي استفادت إلى حد كبير من أحكام الفقه الإسلامي – في ظهور مبدأ سلطان الإرادة ( )وحق كل فرد في إنشاء ما يشاء من العقود واستحداث ما يشاء من الشروط وتبلور هذا المبدأ في أوروبا في القرن التاسع عشر وأصبح [يشتمل( ) على أصلين: 
أولاً: كل الالتزامات بل كل النظم القانونية ترجع في مصدرها إلى إرادة الفرد الحرة.
ثانياً: لا تقتصر الإرادة البشرية على أن تكون مصدراً للالتزامات بل هي أيضاً المرجع الأعلى فيما يترتب على هذه الالتزامات من آثار فالإرادة الحرة هي التي تهيمن على جميع مصادر الالتزام وهذه الإرادة تتجلى قوية في العقد... وليس سلطان الإرادة مقصوراً على توليد الالتزامات وحدها بل أيضاً يولد كل الحقوق الأخرى فالملكية مبنية على حرية الإرادة وحقوق الأسرة مبنية على عقد الزواج أي على الإرادة والميراث مبني على وصية مفروضة]( ).
وهكذا تخلص القانون الوضعي من الشكليات الرومانية التي كانت تقيد العقد وأصبح أساس العقد هو إرادة الطرفين وكما رأينا فقد استفاد الفرنجة من الفقه الإسلامي كثيراً في الوصول إلى هذه النتيجة وهي الحرية في إنشاء العقود.
31– الفرق بين قاعدة الحرية في إنشاء العقود الإسلامية وبين مبدأ سلطان الإرادة القانوني المطلق: 
لقد استفاد علماء الفرنجة ومفكروهم من الفقه الإسلامي في الخروج من شكليات القانون الروماني ولكنهم مع ذلك لم يتمكنوا من الوصول إلى قاعدة حرية إنشاء العقود الإسلامية، وما كان لهم أن يصلوا إليها وهم فاقدون لأصل هذه القاعدة وهو العبودية لله رب العالمين، وذلك أن قاعدة الحرية في إنشاء العقود في الفقه الإسلامي ليست قاعدة مطلقة وإنما هي قاعدة مقيدة بأوامر ونواهي الشريعة وحرية العاقدين في إنشاء واستحداث ما يشاءان من العقود خاضعة لسلطان الله عز وجل فهو الذي وهب الإنسان جميع الحقوق التي أرادها عز وجل وحبس عنه ما شاء من حقوق الله فالله عز وجل استأثر بسلطة التشريع ومنح الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة وفي حدود الأصول التي نص عليها الشارع، فلا يجوز استحداث أي عقد جديد يتعارض مع نص عام أو خاص في الكتاب أو السنة الصحيحة، وهذا هو الفارق الخطير بين القاعدة الإسلامية وبين مبدأ سلطان الإرادة القانوني وقد ترتب على هذا الفارق الهام أن القاعدة الإسلامية بقيت وستبقى كما هي بإذن الله إلى يوم الدين لا يعتريها نقص أو خلل لأنها ليست قاعدة مطلقة وإنما هي مقيدة بقيود شرعية ترجع كلها إلى الأصل العام في الشريعة وهو العبودية لله رب العالمين فالله تعالى هو المنعم على الإنسان بالحقوق وهو مالكها الأصلي، قال تعالى: ﴿آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ...﴾ [الحديد: 7].فكل من المال والحق الذي يملكه الفرد إنما هو أصلاً ملك لله وقد استخلفه فيه ليرى ماذا يعمل فيه هل يحسن أم يسيء حتى يتحقق الامتحان الرباني الذي كتبه الله تعالى على البشرية شاءت أم لم تشأ فهذا قدر محتوم من رب العالمين.
ولئن كان مفكرو أوروبا قد استفادوا من الفقه الإسلامي في التخلص من الشكليات الرومانية البالية فإنهم تصوروا – لبعدهم عن التوحيد – أن الإنسان هو سيد الكون وأن إرادته مطلقة وأنه هو المبدع والمنشئ لكل شيء في الحياة الدنيا وفصلوا الدين المسيحي عن الحياة لأنه مفصول أصلاً بفعل كهنته الذين غيروا وبدلوا في كلام الله عز وجل، وقد ترتب على ذلك أن مبدأ سلطان الإرادة المطلق لم يعش طويلاً واضطر أهله إلى تعديله والانتقاص منه.
32– انتكاس مبدأ سلطان الإرادة المطلق: 
لقد قام سلطان مبدأ الإرادة القانوني على أساس خاطئ مخالف للواقع فقد زعم أهله كذباً أن الإنسان هو سيد الكون فاصطدم هذا المبدأ المطلق الخاطئ بسنن من سنن الله عز وجل حطمت منه الكثير وقلصته تقليصاً: 
وتفصيل ذلك أنه كان من نتيجة هذا المبدأ المطلق أن أصحاب رؤوس الأموال في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي أبرموا عقود العمل المختلفة على أساس الحرية المطلقة للعاقد فهو يضع في العقد ما يشاء من الشروط المجحفة بالعمال وهؤلاء مضطرون إلى قبول هذه الشروط لحاجتهم الملحة إلى العمل حتى لا يموتوا هم وذووهم من الجوع وترتب على ذلك أن ساءت حالة العمال في أوروبا إلى درجة خطيرة، فرب المال غير ملتزم بمراعاة صحة العامل فهو يجعله – بموجب العقد – يشتغل خمس عشرة ساعة في اليوم وبأجر زهيد، ولا يعبأ بصحة العامل وما يتعرض له من مخاطر جسمية بسبب العمل، وإذا رفض العامل هذا الوضع فإن رب المال يفصله طبقاً للعقد في أي وقت ويشغل بدلاً منه النساء والأطفال وقد ترتب على ذلك أن عمت الاضطرابات في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع شر الميلادي وظهر شيطان الماركسية ينادى بالقضاء على الملكية الخاصة تماماً كرد فعل سيء للحرية المطلقة التي لا حدود لها، وكان على الرأسمالية أن تختار بين أمرين إما أن تصر على مبدأ سلطان الإرادة المطلق فتلتهمها الماركسية الجديدة وإما أن تكفر بهذا المبدأ المطلق لكي تعيش وكانت الرأسمالية أذكى من الماركسية فسارعت إلى التخلص من مبدأ الحرية المطلقة الذي يعتبر مبدأ سلطان الإرادة فرعاً منه، وهنا نجد أن الرأسمالية قد فزعت إلى قاعدة حكيمة سبقت إليها الشريعة الإسلامية وهذه القاعدة هي منع التعسف في استعمال الحق وعدم الاكتفاء بمنع الاعتداء على الحق وهذه القاعدة تعتبر من أهم القيود التي ترد على مبدأ سلطان الإرادة في إنشاء العقود وآثارها فالشريعة الإسلامية لا تكتفي بمنع الاعتداء وإنما تمنع أيضاً صاحب الحق في استعمال حقه استعمالاً يضر بالآخرين وأصل هذا في الشريعة أن  أصاحب الحقوق ليسوا بأصحاب السيادة في الأرض وإنما السيادة والحكم لله وحدة وهم يستخدمون حقوقهم الممنوحة لهم من الله بشرط ألا يسيئوا استخدامها ولا يتخذوها وسيلة للإضرار بعبادالله الآخرين فلا يجوز ممارسة الحقوق المخولة عن طريق عقود وغيرها إلا بطريقة شرعية أي لا تضر بالآخرين فإذا مارس صاحب الحق حقه – دون أن يخرج عليه – بطريقة تضر بالآخرين فإنه يعتبر مسيئاً ويمنع من ذلك ويمكن تعزيره، وقد أنزل الله تعالى هذه القاعدة الحكمية في كتابه العزيز صريحة في استعمال الزوج لحقه في الطلاق قال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة: 231]، فقد كان الزوج يستخدم حق الطلاق بطريقة تضر بالمرأة فهو لا يريدها ولكن يتعمد أن يضر بها فيطلقها ثم يراجعها قبل انتهاء فترة العدة ثم يطلقها الثانية ثم يراجعها ثانية قبل انتهاء فترة العدة ثم يطلقها الثالثة وبهذا يطوِّل على المرأة فترة العدة بدون داع حتى يؤذيها ويمنعها من الزواج طول تلك الفترة التي قد تصل إلى ثلاث سنوات إذا كانت المرأة تحيض مرة كل عام مثلاً. هذا وقد طبقت الشريعة ومن ورائها الفقه هذه القاعدة الحكيمة في نواحٍ شتى من الحياة فنجدها تعمل عملها في حقوق الجوار وحقوق العمال وغيرها من الحقوق.
هذا ولقد كانت الرأسمالية الغربية في الفترة التي تلت الثورة الفرنسية منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر لا تعترف بهذا القاعدة الحكيمة، فلما شاعت الاضطربات الخطيرة في أوروبا كلها بسبب الحرية المطلقة والاقتصار على منع الاعتداء على الحق فقط لم تجد الرأسمالية مفراً من اللجوء إلى هذه القاعدة الشرعية الحكيمة وأخذت الحكومات الأوروبية تتدخل بين أرباب الأعمال والعمال عن طريق قوانين العمل وتنظيم عقد العمل الفردي ومنع أصحاب رؤوس الأموال من إساءة استخدام حقوقهم قبل العمال فألزمتهم بحد أدنى لأجور العمال وبحد أقصى لعدد ساعات العمل وأوجبت على كل صاحب عمل أن يضع نظاماً لتأمين العمال ضد المرض والعجز والشيخوخة وظهرت في القانون الوضعي ما يسمى بعقود الإذعان وهي التي يكون فيها أحد طرفي العقد أقوى بكثير( )من الطرف الآخر بحيث يستطيع أن يملى شروطه كيف شاء على الطرف الضعيف والذي تضطره ظروفه إلى الإذعان للطرف الأقوى. وهكذا أصبح مبدأ سلطان الإرادة في القانون مقيداً بقيود كثيرة بعد أن كان مطلقاً في الفترة التي تلت الثورة الفرنسية كما ذكرنا.
23– مقارنة بين قاعدة حرية إنشاء العقود في الفقه الإسلامي وبين مبدأ سلطان الإرادة المقيد في القانون: 
لا يحسبن أحد أن المبدأ القانوني بعد تهذيبه أصبح يماثل القاعدة الإسلامية فالفرق كبير بينهما سواء من حيث الأصل أو من حيث الموضوع.
فالمبدأ القانوني بعد تهذيبه يعتبر انقلاباً خطيراً في النظام القانوني الذي كان سائداً في أوروبا وأما القاعدة الإسلامية فهي قاعدة محكومة منذ البداية بعقيدة التوحيد أي بالعبودية لله رب العالمين فمهما ورد عليها من قيود مستحدثة تحقيقاً للمصلحة الشرعية فهي ستظل كما هي لا تمثل انقلاباً في النظام الإسلامي لأنها جاءت منذ البداية مقيدة بهذا القيد الهام وهو أن هذه الحرية في إنشاء العقد إنما هي منحة من الخالق سبحانه وتعالى ولا يجوز استخدامها إلا في تحقيق مصالح الناس فإذا تعارضت في بعض الأحيان مع مصالح الناس فيجب على ولى الأمر أن يتدخل لتقييد هذه الحرية في مظانها الضارة وذلك طبقاً للقاعدة الفقهية التي تقرر أن [تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة]( ) والأمثلة كثيرة على هذه الأمور ومن ذلك تقييد الحكومات الإسلامية لعقد الزواج واشتراط إفراغه في عقد رسمي يوثق أمام موظف رسمي مختص بهذه العقود ويسمى المأذون الشرعي في عدد من الدول العربية فإذا اكتفى الزوجان بإبرام العقد الشرعي بدون توثيق رسمي فإن الدعوى لا تسمع بهذا العقد أمام القضاء ووجه المصلحة الشرعية هنا واضح لأنه بعد فساد الذمم وجد في حالات عديدة أن الزوج يلجأ إلى إنكار الزواج بعد أن يكون قد عاشر المرأة سنوات عديدة وأنجب منها فيتركها إلى بلد آخر وينكر الزواج وتضيع الزوجة وأولادها خصوصاً إذا كان الشهود قد ماتوا بعد هذه السنوات، ولذلك رؤي أنه من المصلحة حث الناس على توثيق عقود الزواج بهذه الطريقة. ومن هذا أيضاً ما نراه في هذه الأيام من لجوء ولى الأمر في كثير من بلاد الإسلام إلى تعسير إيجارات الدور والمباني حفظاً لضرورة هامة وهي عدم وجود المأوى للناس بعد أن غالى أصحاب الدور في رفع أسعار الإيجارات، والأصل هنا هو عدم جواز التسعير طبقاً لبعض الأحاديث( ) ولكن قاعدة الضرورات تبيح المحظورات تعتبر من القواعد العامة في الشريعة الإسلامية وهي تقدر بقدرها ولذلك ذهب جمهور الفقهاء من بعض الحنفية والمالكية والشافعية وبعض الحنابلة إلى جواز التسعير في حالة الغلاء باعتباره ضرورة( ) فالفرق – إذن –كبير بين القاعدة الإسلامية والمبدأ القانوني (لسلطان الإرادة) حتى بعد تعديله من الإطلاق إلى التقييد لأن القاعدة الإسلامية جاءت منذ البداية مقيدة بالعبودية لله وبما تفضل به الله تعالى على الناس في شريعته الخاتمة من رفع الحرج وإباحة المحظور في حالة الضرورة، وأما المبدأ القانوني – بعد تقييد – فهو مقيد بما يراه الناس في تنظيمهم لأمور دنياهم وهم في هذا لا يعبأون بأوامر الله نواهيه، لأنهم يعتبرون الإنسان هو سيد الكون ومن  أجل ذلك فهم يتخبطون على مر الزمان بين النظم والنظريات المختلفة التي يعلنون في يوم ما أنها الحق الذي لا مرية فيه، ثم يكفرون بها بعد فترة طالت أو قصرت من الزمان وما حدث أخيراً للماركسية في روسيا خير مثال على هذا التخبط البشري ومن أجل ذلك فإن مبدأ سلطان الإرادة في إنشاء العقود في القوانين الوضعية معرض دائماً لأن ترد عليه قيود ما أنزل الله بها من سلطان أو تمنح الإرادة سلطة إنشاء شروط أو عقود منهي عنها شرعاً ومثال الحالة الأولى أن يمنع المسلم من الزواج بأكثر من امرأة ومثال الحالة الثانية أن يباح للمسلم أن يتفق على فوائد ربوية.


الباب الثانيأركان العقد( )

 
الفصل الأول
الركن الأول: صيغة العقد
المبحث الأول
الصيغة في الفقه الإسلامي
المطلب الأول
الإيجاب والقبول وطرق التعبير عنهما
34- التعريف بالإيجاب والقبول: 
إذا كان العقد بإرادتين فإن صيغته تتكون من طلب يتقدم به أحد الطرفين يشتمل على بيان العقد بكافة مشتملاته وشروطه ويقترن هذا الطلب برد من الطرف الثاني بقبول هذا الطلب دون أي تعديل. ويطلق على الطلب اصطلاح الإيجاب وعلى الرد اصطلاح القبول.
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة فذهب الحنفية( ) إلى أن الإيجاب: هو ما صدر أولاً من العاقد أياً كان. والقبول: هو ما صدر من العاقد الآخر أياً كان.
ويرى الجمهور( )(من المالكية والشافعية والحنابلة)أن الإيجاب: وهو ما صدر من المملِّك كالبائع والمؤجر والزوجة سواء صدر أولاً أو ثانياً.
وأن القبول: هو ما صدر من المتملك كالمشتري والمستأجر والزوج سواء صدر أولاً أو ثانياً.
وفي رأييأن مذهب الحنفية في هذه المسألة أدق وأصح من مذهب الجمهور لأن الجمهور بنى رأيه على أساس أن موضع التمليك ينصب على العين، فالملك هو البائع والمؤجر والزوجة وهذا قول غير دقيق لا يستقيم مع ما يقر به جميع الفقهاء من أن المشترى يملك الثمن ويتملك المبيع والمستأجر يملك الأجرة ويتملك العين المؤجرة والزوج يملك المهر ويتملك البضع وهكذا فكل هؤلاء جميعاً مملك ومتملك ومن ثم فإن ما يصدر أولاً يكون الإيجاب دائماً، وما يصدر ثانياً يكون القبول دائماً ولا معنى لهذه التفرقة بين البائع والمشتري «ونظائرهما في سائر العقود» ما دمنا نسلم بأن كلاً منهما مملك ومتملك في الحقيقة ولذلك فإن رأى الحنفية في هذه المسألة هو الأصح في نظري.
هذا وقد ترتب على هذه التفرقة بعض الآثار الهامة كما في حالة الحق في الحبس فقد ذهب الحنفية (وانضم إليهم المالكية) إلى أن الحق في الحبس سواء بالنسبة للبائع والمشتري فللبائع أن يحبس المبيع حتى يسلم المشتري الثمن وللمشتري مثل ذلك. وذهب الحنابلة( ) والشافعية في قول أن البائع يجبر على تسليم المبيع أولاً فهو المملك ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن فهو الممتلك وهذا غير صحيح لأن كلاً من البائع والمشتري مملِّك متملِّك. ولذلك نرى أن رأى الحنفية هو الأدق والأصح في مسألة تحديد الإيجاب والقبول. وإذا كان العقد بالإرادة المنفردة فلا يوجد قبول وتتكون صيغة العقد من عبارة العاقد الوحيد الذي يعلن التزامه قبل شخص معين أو غير معين بمضمون العقد الذي أنشاه.
35– طرق التعبير عن الإيجاب والقبول: 
تختلف طرق التعبير عن الإيجاب والقبول فقد يكون التعبير بالألفاظ (شفاهة أو كتابة أو بهما معاً) وقد يكون بالإشارة وقد يكون عن طريق تبادل الرسائل بين الغائبين وقد يتم العقد بالتعاطي.
36– التعاقد بالألفاظ: 
ويقصد به أن يتلفظ كل من العاقدين (أو العاقد الوحيد) بالألفاظ التي تفيد الإيجاب فالقبول. وذهب فريق من الفقهاء – وهم أهل الظاهر( ) وفي رواية عن الإمام أحمد( ) إلى أن ألفاظ العقود محصورة فيما ورد به الشرع فقط واستندوا إلى أن الأسماء كلها توقيف من الله تعالى، وبالإضافة إلى ذلك بالنسبة لأهل الظاهر فإنهم يرفضون القياس.
وذهب فرق ثان من الفقهاء – وهم الشافعية( ) وجمهور الحنابلة( ) إلى جواز انعقاد البيع ونحوه من العقود المالية بكل لفظ يدل على المقصود دلالة واضحة، وأما عقد النكاح فلا يجوز إلا بالألفاظ الواردة في الشرع وهي لفظا النكاح والزواج وما يشتق منهما لمن يفهم العربية، وأما من لم يفهمها فيصح منه الزواج بالعبارة التي تؤدي إلى معناه. واستندوا إلى أن عقد النكاح له خطورته وفيه معنى التعبد بإحصان الفرج وتكثير المسلمين وأنه لم يرد في القرآن الكريم إلا هذان اللفظان (النكاح والزواج).
وذهب فريق ثالث – وهم الحنفية( ) والمالكية( )- إلى أن العقود بصفة عامة تتم بكل لفظ يدل عليها  وهذا الرأي هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية( ) وابن القيم( ) واستند هذا الفريق إلى أن الله عز وجل اكتفى بالتراضي في العقود المالية؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]،  واكتفى بطيب النفس في التبرعات؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، واستندوا أيضاً إلى أن العبادات الأصل فيها الحظر والتوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وأما المعاملات فالأصل فيها الإباحة إلا ما حرم بنص. واستندوا أيضاً إلى أن من تتبع ما ورد عن النبي  والصحابة من أنواع المبايعات والتبرعات علمبالضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون صيغة معينة من الطرفين، وأمابالنسبة إلى عقد الزواج فقد استندوا إلى أن: ( )[نكاح رسول الله  انعقد بلفظ الهبة فينعقد به نكاح أمته، ودلالة الوصف قوله تعالى: ﴿وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك﴾ معطوفاً على قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إنا أحللنا لك  أزواجك...﴾ أخبر تعالى أن المرأة المؤمنة التي وهبت نفسها للنبي  عند اسنتكاحه أياها حلال له، وما كان مشروعاً في حق النبي  يكون مشروعاً في حق أمته حتى يقوم دليل الخصوص فإن قيل: قد قام دليل الخصوص ههنا وهو قوله تعالى: ﴿خالصة لك من دون المؤمنين﴾فالجواب أن المرد منه خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر فالخلوص يرجع إلى الأجر لا إلى لفظ الهبة]( )هذا وقد ورد في السنة الصحيحة استعمال لفظ التمليك للدلالة على النكاح في قوله عليه الصلاة والسلام لخاطب يحفظ القرآن الكريم: «اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن» ( ).
وبالنسبة إلى تقدير هذه الآراء الثلاثة في هذه المسألة فإن الرأي الثالث – في نظري – هو الأصح لقوة الأدلة التي يستند إليها أصحاب هذا الفريق، وأما قول الفريق الأول أن الأسماء كلها توقيف من الله تعالى فهذا قول لا دليل عليه فالناس يتعارفون على أسماء جديدة في كل عصر ومن المعروف أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية، فالحقيقة الوضعية: هي اللفظ لمستعمل فيما وضع له أولاً في اللغة كالأسد مثلاً، والحقيقة العرفية: فهو اللفظ المستعمل فما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي وهما قسمان: 
الأول: أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته كاختصاص لفظ الدابة بذوات الأربع عرفاً وإن كان في الأصل لكل ما دب على الأرض.
الثاني: أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى ثم يشتهر في عرف الاستعمال بالمجاز الخارج عن الوضع الغوي بحيث يصبح حقيقة عرفية فلا يفهم منه إلا هذه الحقيقة عند إطلاقه مثل لفظ الغائط فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق على الموضع المطمئن من الأرض، ولكن بعرفه اللغوي أصبح عند إطلاقه لا يفهم منه إلا الخارج المستقذر من الإنسان( )وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أولاً في الشرع سواء أكان الاسم الشرعي ومدلوله غير معروفين كالصاخة عند أهل اللغة أم معروفين إلا أنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى كالقارعة أو عرفوا المعنى ولم يعرفوا الاسم أو عرفوا الاسم ولم يعرفوا ذلك المعنى كاسم الصلاة والحج والزكاة ونحوه( ).
وبالنسبة لاستخدام المتعاقدين للأسماء التي تدل على العقد المراد إبرامه فإن العبرة هنا بعرف الاستعمال لأن المطلوب هنا هو أن تنعقد إرادة المتعاقدين على المعنى المقصود ولا يهم هنا اللفظ المستخدم ما دام في عرف استعمالهم يقصد منه العقد المطلوب إبرامه فالحقيقة العرفية تنفي قول الفريق الأول أن الأسماء كلها توقيفية من الله تعالى لأن هذه الأسماء المستخدمة إنما هي في دائرة المعاملات وليست في دائرة العبادات، وأما استثناء الفريق الثاني لعقد الزواج لأن فيه معنى التعبد فهو استدلال ضعيف لأن الزواج لا يعتبر عبادة بالمعنى الخاص وإنما هو يستوي مع سائر عقود المعاملات والمباحات في أنه يعتبر عبادة بالمعنى العام إذا صحح العاقد نيته وابتغى به وجه الله ويؤكد ذلك أن الرسول الله  استخدم في عقد الزواج لفظ التمليك وهو لم يرد في الكتاب ولذلك فإني أرى أن الرأي الصحيح هو رأى الفريق الثالث والله تعالى أعلم بالصواب.
37– صيغ الإيجاب والقبول المختلفة: 
يعرض هنا أمر هام وهو مدى جواز استخدم جميع صيغ الإيجاب والقبول من حيث الزمان، وهذه الصيغ هي: المضارع والماضي والحاضر وما يدخل فيه من أمر واستفهام، وما يلحق بذلك كله من صيغة اسم الفاعل والمنادى، واللفظ الصريح والكتابة.
38– صيغة الماضي: 
اتفق الفقهاء على صحة التعاقد بلفظ الماضي من غير توقف على نية أو قرينة لأن هذه الصيغة تفيد الرضا قطعاً وهذه صيغة تفيد الرضا قطعا( ) وهذه صيغة تكفي لإبرام العقد سواء أتقدم الإيجاب على القبول أم حصل العكس، وهذا عند جمهور الفقهاء من غير الحنفية الذين يذهبون إلى أن الإيجاب هو ما يصدر من الملك والقبول هو ما يصدر من المتملك، وأما عند الحنفية فهو من باب أولى يعتبر صحيحاً لأن الإيجاب أولاً والقبول ما صدر ثانياً.
39– صيغة المضارع: 
اختلف الفقهاء في حكم التعاقد بصيغة المضارع لأن بعضهم اعتبرها تحتمل الحال والاستقبال( )ومن ثم لا بد من قرينة تظهر نية إنشاء العقد في الحال عند هؤلاء.
وقد ذهب بعض الحنفية( ) إلى عدم صحة التعاقد بصيغة المضارع ولو مع النية وإلى هذا ذهب الحنابلة( )فنصوا على أنه إذا كان القبول بصيغة المضارع فلا يصح التعاقد به. جاء في كشاف القناع: [لو قال البائع بعتك هذا بكذا فقال المشتري – وهو القابل عند الجمهور ما عدا الحنفية – أنا آخذه بذلك لم يصح، أي لم ينعقد البيع لأن ذلك وعد بأخذه]( ).
وذهب جمهور الحنفية( ) والشافعية( ) إلى صحة التعاقد بالفعل المضارع مع النية فالمضارع عند هؤلاء يعتبر من ألفاظ الكناية التي تصححها النية.
وذهب المالكية( )إلى صحة التعاقد بالفعل المضارع من غير اشتراط النية فلو ادعى أنه لم ينو بالمضارع العقد ولم يرض به فلا يقبل قوله إلا أن يحلف وهذا هو الفرق عند المالكية بين المضارع والماضي لأنه في حالة الماضي لا يقبل منه نفي  العقد حتى لو حلف وإذا اقترن المضارع بالسين أو سوف فلا خلاف بين الفقهاء في أن العقد لا ينعقد به( ) ويرى ابن تيمية  أنه يستثنى من هذا المنع أن توجد قرينة على إرادة العقد بالسين أو يتعارف الناس على ذلك لأن العقود تنعقد عنده بكل ما عده الناس عقداً( ).
40– صيغة الأمر: 
الأمر هو فعل الطلب، وقد اختلف الفقهاء في انعقاد العقد به، فذهب الحنفية( )إلى عدم جواز التعاقد بصيغة الأمر إلا في عقد النكاح فهو ينعقد استحساناً عندهم - بلفظين يعبر عن أحدهما بالاستقبال (كالأمر) وبالآخر عن الماضي ويستندون في هذا إلى قصة الواهبة نفسها للنبي  وفيها: «فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها... فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن» ( ) فالرجل استعمل صيغة الطلب (كالأمر) والرسول الله  رد مستعملاً صيغة الماضي.
وذهب المالكية ( )، والشافعية( ) في القول الظاهر عندهم، والحنابلة في رواية( )إلى جواز التعاقد بصيغة الأمر في جميع العقود بما في ذلك عقد النكاح سواء أتقدم الإيجاب على القبول أم العكس ويستند هذا الرأي إلى ما استند إليه الحنفية – من حديث الواهبة نفسها للنبي  وما ورد في الحديث من استعمال صيغة الأمر في زواج الصحابي منها( ).
هذا وقد حصل خلاف في النقل عن الإمام مالك في مسألة نفي التعاقد بصيغة الأمر بالحلف فقد ورد في المدونة أن المتعاقد (بصيغة الأمر) إن حلف قبل قوله والّإلَزَام، وورد في غير المدونة (وهو اختيار خليل) من قول مالك وابن القاسم أن هذا لا يصح والأرجح هو ما في المدونة طبقاً لأصول المالكية( ) وذهب الحنابلة في رواية ثانية( )والشافعية( ) في قول مرجوح إلى العقد في حالة تقدم الإيجاب (من البائع) على القبول (من المشترى).
وذهب الشافعية في قول ثالث( ) بعدم الصحة مطلقاً وهذا الرأي يتفق مع بعض الروايات في المذهب الحنبلي( ) أيضاً.
هذا وفي نظري أن الرأي الذي يقول بصحة التعاقد بصيغة الأمر (سواء في الإيجاب أو القبول) هو الصحيح لقوة أدلة هذا الرأي وأضيف إلى هذه الأدلة ما ورد في حديث بيع جمل جابر بن عبد الله للنبي  أنه قال لجابر: (بعنيه بأوقية)( ) وروى عن جابر أيضاً في الصحيح أن النبي  قال لجابر بعد أن نقده ثمن الجمل: «خذ جملك ولك ثمنه» فهذه هبة بصيغة الأمر.
41- صيغة الاستفهام: 
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية( ) والشافعية( ) والحنابلة( ) إلى عدم صحة التعاقد بصيغة الاستفهام. واستثنى الحنفية( )
والحنابلة( )عقد النكاح فأجازوه إذا وجدت قرينة على إرادة النكاح وذهب المالكية – في الراجح عندهم – إلى أن صيغة الاستفهام صالحة للتعاقد بها – كمسألة السوم أو
التسوق عندهم – ولا يقبل قول مدعي عدم العقد إلا أن يحلف.
وفي نظري أن الرأي الأصح هنا هو الرأي الذي يجيز التعاقد بصيغة الاستفهام إذا وجدت قرينة تدل على العزم على العقد، والعرف قرينة قوية، ومما يلاحظ هنا أن الحنفية أجازوا صيغة الاستفهام في النكاح استحساناً لورود النص بها وفي هذا يقول الكاساني: [وهذا لا ينعقد بلفظ الاستفهام لكون الاستفهام سؤال الإيجاب، والقبول لا يعتبر إيجاباً وقبولاً كذا هذا وهذا هو القياس في النكاح إلا أنا استحسناه في النكاح بنص خاص وهو ما روى أبو يوسف أن بلالاً خطب إلى قوم من الأنصار فأبوا أن يزوجوه فقال: لولا أن رسول الله  أمرني أن أخطب إليكم لم أخطب فقالوا له: أملكت؟ ولم ينقل أن بلالاً رضي الله عنه قال: قبلت.
فتركنا القياس بالنص ولا نص في البيع فوجب العمل بالقياس ولأن هذه الصيغة مساومة حقيقة فلا تكون إيجاباً وقبولاً حقيقة بل هي طلب الإيجاب والقبول فلا بد للإيجاب والقبول من لفظ آخر يدل عليها، ولا يمكن حمل هذه الصيغة على المساومة في باب النكاح لأن المساومة لا توجد في النكاح عادة فحملت على الإيجاب والقبول على أن الضرورة توجب أن يكون قول القائل زوج ابنتك منى (صيغة بالأمر) شطر العقد فلو لم تجعل شطر العقد لتضرر به الولي لجواز أن يزوج ولا يقبل المخاطب فيلحقه الشين فجعلت شطراً لضرورة دفع الضرورة عن الأولياء وهذا المعنى في باب البيع منعدم فبقيت سؤالاً فلا يتم به الركن مالم يوجد الشطر الآخر]( ).
فالحنفية هنا يجمعون بين صيغة الأمر وصيغة الاستفهام في جوازهما (إيجاباً) في عقد النكاح ويستدلون لصحة رأيهم بورود النص وبمنع الضرر عن ولي المرأة كما هو واضح من كلام الكاساني السابق. وفي رأيي أنه يؤخذ على كلام الحنفية في هذه المسألة أنه إذا كان قد ورد النص بصحة صيغة الاستفهام (والأمر) في عقد النكاح فإن صحة هذا في عقد البيع أولى لخطورة عقد النكاح ولأن عقد البيع يشتمل على خيار المجلس فلا خطر من انعقاد العقد بالاستفهام (إيجاب) إذا احتوى هذا الاستفهام على جميع شروط العقد كأن يقول له: هل تبيعني سيارتك هذه (وهي حاضرة) بمبلغ كذا، هذا ويلاحظ هنا أن الحنفية لا يعترفون بخيار المجلس في البيوع وفسروا حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» على أنه إذا أوجب أحد المتعاقدين  البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رده ما دام لم يصدر من صاحب الإيجاب ما يدل على تغير إراداته في المجلس( ) أي أن صاحب الإيجاب يستطيع الرجوع عن إيجابه ما دام المجلس لم ينفض ولم يصدر قبول من الطرف الآخر ويبدو لي أنهم لهذا السبب (وهو عدم اعترافهم بخيار المجلس) لم يجيزوا الاستفهام في البيوع رغم أنهم أجازوها في النكاح وهو أخطر من البيوع فكان من المتعين عليهم أن يجيزوها (هي والأمر)في البيوع لولا أنهم لا يعترفون بخيار المجلس ولكن يلاحظ هنا أن عدم اعترافهم بخيار المجلس هو خطأ واضح في حد ذاته لأنه معارض لصريح النص الصحيح وقد تأولوا النص تأولاً بعيداً لا أساس له بذلك فإن رأيهم في خيار المجلس لا يصلح مستنداً لهم( )، لعدم إجازتهم لصيغة الاستفهام في البيوع مع إجازتهم لها في النكاح على خطره.
42– صيغتا اسم الفاعل والمنادى: 
يذهب جمهور الفقهاء إلى جواز استعمال صيغة اسم الفاعل وكذلك صيغة المنادى في بعض أنواع العقود على الأقل فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما يأتي: [ولو قال باسم الفاعل كجئتك خاطباً ابنتك فقال الأب: زوجتك فالنكاح لازم وليس للخاطب ألا يقبل لعدم جريان المساومة فيه]( ) وجاء أيضاً في الحاشية: [في التتارخانية قال لامرأة بمحضر من الرجال: يا عروسي قالت: لبيك فنكاحها تم قال القاضي بديع الدين: إنه خلاف ظاهر الرواية]( ) وقوله لعدم جريان المساومة فيه (أي النكاح)يعني أن صيغة اسم الفاعل لا تصلح في البيوع لجريان المساومة فيه( ) ويخرج على قولهم هذا أنه لو جرى العرف على استعمال صيغة اسم الفاعل بدون مساومة في البيوع فإن هذه الصيغة يمكن أن تصح فيها وكلام المالكية يدل على جواز العقود بأي لفظ بصفة عامة وهم أوسع من غيرهم في هذا الأمر، جاء في التاج والإكليل ما يأتي: [وكل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود]( ) وجاء بحاشية الدسوقي ما يأتي: [باب ينعقد البيع بما يدل على الرضا...(قوله بما يدل) أي عرفاً سواء دل على الرضا لغة أو لا فالأول كبعت واشتريت والثاني كالكتابة والإشارة والمعاطاة]( ) فهم يعممون في الأقوال (أي الألفاظ) كل ما دل على الرضا لغة فهو كاف وحده بدون عرف فإذا وجد عرف يدل على الرضا فهو مصحح للتعاقد كما هو ظاهر من كلامهم. واسم الفاعل هو من الأسماء التي تعمل عمل الفعل فهي تؤدي المقصود نفسه من الفعل( )ولذلك نجد أن الشافعية وهم من المضيقين في هذا الأمر يجيزونه فقد جاء في حاشية عميرة عن الألفاظ التي يصح التعاقد بها: [المشتقات كبائع ومبيع قياساً على طالق ومطلق لأن اللفظ إنما اعتبر ليدل على الرضا ولم يتعبد به]( ).
وأما ابن تيمية فهو المجلِّي في هذا المضمار ويقول: [كل ما عده الناس بيعاً أو هبة من قول أو فعل انعقد به البيع والهبة]( ).
43– الصريح والكناية: 
اللفظ الصريح هو كل لفظ مكشوف المعنى والمراد، حقيقة كان أو مجازاً( )، والكناية بخلاف ذلك وهو ما يكون المراد منه مستوراً إلى أن يتبين بالدليل فالصريح هو ما كان مفهوم المعنى بنفسه والكناية هو ما يكون متردداً لمعنى في نفسه( ) ومثال الكناية في البيع أن يقول البائع: «هو لك» أو «بارك الله لك فيه» ومثال الكناية في النكاح أن يقول لزوجته: (ارجعي إلى أهلك).
وحكم الصريح أنه يتم به العقد دون الاعتداد بالنية ولا يمكن للمتعاقد أن يحلف على غيره، وحكم الكناية أن اللفظ لا يصح إلا بالنية والنية أمر خفي ولكن يستدل عليه بالقرائن من دلائل الحال وغيرها وهذا ما دلت عليه السنة الصحيحة كما ورد في حديث جابر بن عبد الله عندما قال له النبي  «بعني جملك هذا» قال: قلت: لا بل هو لك، قال: «لا بل بعينه» قال: قلت: لا بل هو لك يا رسول الله قال: «لا بل بعينه» قال: قلت فإن لرجل علي أوقية ذهب فهو لك بها قال: «قد أخذته» ( ) ففي قول جابر في الأولى والثانية (لا بل هو لك) كناية عن الهبة ويستدل على ذلك بأنه نفى البيع وأصر على نقل ملكية الجمل للنبي  وأما قوله في الثالثة (فهو لك بها) فهو كناية عن البيع لأنه قبل بالعوض، فاللفظ الواحد إذا كان كناية يتغير معناه بتغير ظروف الحال.
ويذهب جمهور الفقهاء( ) إلى أن الحكم لا يثبت بألفاظ الكناية إلا بالنية أو ما يقوم مقامها من دلائل الحال، ولكن من الفقهاء من يمنع الكناية في النكاح قطعاً نحو: أحللتك ابنتي وإن نوى بها النكاح وتوافرت القرائن على ذلك وعللوه: بأنه لا اطلاع للشهود على النية ومن هؤلاء الشافعية( ).
44– تفسير ألفاظ العقد: اختلاف الفقهاء بين الاعتبار بالمعاني وبين الاعتبار بالمباني: 
اختلف الفقهاء حول تفسير ألفاظ العقد فمنهم من جعل العبرة بالمعاني لا بالمباني أي الألفاظ ومنهم من غلب ظاهر اللفظ على المعنى المقصود من سياقه، فإذا قال اشتريت منك ثوباً صفته كذا بهذه الدراهم فقال بعتك فهو ينعقد بيعاً اعتباراً باللفظ ورجح السبكي من الشافعية أنه ينعقد سلماً اعتباراً بالمعنى وإذا وهب بشرط الثواب فهل يكون بيعاً اعتباراً بالمعنى أو هبة اعتباراً باللفظ، والأصح الأول عند الشافعية( ).
وصرح فقهاء الحنفية في بعض المواضع بأن الاعتبار للمعنى لا للألفاظ( ) فالكفالة بشرط براءة الأصل تعتبر عند الحنفية حوالة تغليباً للمعنى على المبنى، وإن كانت بشرط عدم البراءة فهي كفالة، ولو وهب لمن عليه الدين له كان إبراء فلا يتوقف على القبول ومن فروع هذه القاعدة عندهم أن الإجارة تنعقد بلفظ الهبة والتمليك وبلفظ الصلح عن المنافع وبلفظ العارية، ولو شرط رب المال للمضارب كل ربح كان المال قرضاً ولو شرط  الربح لرب المال كان بضاعة وقد صرح بهذا الحنابلة( ) والحنفية( ) وهو تطبيق لقاعدة الاعتبار للمعاني لا للألفاظ والمباني ولكنهم استثنوا من هذه القاعدة مسائل منها: لا تنعقد الهبة بالبيع بلا ثمن ولا العارية بالإجارة بلا أجرة ولا البيع بلفظ النكاح والتزويج.
وأما هبة الثواب إذا كان الثواب معلوماً فقد أجرى عليها الحنفية حكم البيع في ضمان الدرك وثبوت الخيار والشفعة وهذا هو رأى الحنابلة أيضاً في رواية عن أحمد وفي رواية أخرى أنها لا تأخذ حكم البيع ولا تثبت فيها أحكام البيع( ) ويذهب المالكية إلى أن هبة الثواب المعين تكون لازمة كالبيع( ) أي أنهم طبقوا عليها أحكام البيع وهذا تغليب للمعاني على الألفاظ والذي نستخلصه من مسلك الفقهاء بصفة عامة أنهم يغلبون المعاني على الألفاظ في بعض العقود على خلاف بينهم في بعض التفصيلات.
45– الفرق بين اعتبار ألفاظ الكناية وبين قاعدة الاعتبار للمعاني لا للألفاظ: 
قاعدة الاعتبار للمعاني لا للألفاظ أعم وأشمل – في نظري – من قاعدة اعتبار ألفاظ الكناية، فالكناية نوع من الاعتبار للمعاني، ولكن توجد حالات لا يكون اللفظ فيها كناية ومع ذلك فهو غامض بالنسبة إلى المعنى المقصود فيحاول المفسر (القاضي وغيره) أن يتعرف على المعنى المقصود من مجموع ألفاظ العبارة فيصل إلى نتيجة قطعية لا تحتمل التأويل ولا نكون أمام حالة من حالات الكناية لأن ألفاظ الكناية بالنسبة إلى كل عقد تعتبر محدودة، ومن ثم فإنه لا يحتاج في هذه الحالة إلا يمين المتعاقد كما أنه إذا أنكر المعنى المستفاد فلا يجديه هذا الإنكار بل يلزمه العقد المستفاد من المعنى المغاير للفظ عن طريق تحول العقد أي أنه إذا كان العقد باطلاً بسبب المعنى المستفاد من عبارته وكان هذا المعنى يتوافر فيه شروط عقد آخر فهذا يدل على أن نية المتعاقدين قد التزمت بهذا العقد الآخر وفي هذا يقول السيوطي: [إذا قال ضمنت مالك على فلان بشرط أنه بريء ففي قول أنه ضمان فاسد نظراً إلى اللفظ وفي قول حوالة بلفظ الضمان نظراً إلى المعنى]( ) فتحول العقد من ضمان فاسد إلى حوالة صحيحة. ومن هذا أيضاً ما ذكره الشافعي في الأم( ) أن الابنة الثيب أو البكر البالغ إذا رضيت قبل النكاح أن ينكحها بألفين على أن يعطي أباها أو أخاها من المهر ألفاً كان النكاح جائزاً ويعتبر هذا توكيلاً منها لأبيها بالألفين التي أمرت بدفعها إليه وكانت الألفان لها، ولها الخيار في أن تعطي إباها أو أخاها أو لا تعطيهما وكذلك الحال عند الشافعي لو أن رجلاً باع عبداً بألف واشترط على المشتري أن يعطي خمسمائة منها لآخر فإن هذا يعتبر عند الشافعي وكالة أو إحالة فهذه الصور هي في الحقيقة اشترط نفع لأجنبي عن العقد «أو الاشتراط لمصلحة الغير في الاصطلاح القانوني» وهو باطل عند الشافعي بناء على قاعدته في الأصل في العقود والشروط ولكن الشافعي صحح التصرف على أساس اعتباره  وكالة أو إحالة وهذا التصحيح تم عن طريق تغيير التكييف الفقهي للعقد بتحويله من الصورة الباطلة إلى الصورة الصحيحة عند الفقيه فقد حول الاشتراط لمنفعة الأجنبي إلى وكالة وبالتالي أصبحت المرأة هنا هي صاحبة الحق فيما اشترطته من المهر لأبيها أو أخيها – وهما من الغير بالنسبة إلى عقد الزواج – وذلك كله رغم أن نيتها قد تكون منصرفة إلى إيصال بعض المهر لأبيها وأخيها كهبة ومن ثم تكون نيتها بعيدة تماماً عن توكيل أبيها أو أخيها في قبض جزء من المهر، وهذا يتفق مع أصول الإمام الشافعي في عدم اعتبار نية المتعاقدين إلا من المعاني التي يحتملها اللفظ ولا يجوز عنده تغليب النية على العبارة بأدلة منفصلة عن هذه العبارة فالعبرة عند الإمام الشافعي بالمعاني المستفادة من العبارة في جميع العقود ويترتب على عبارة المتعاقدين الحكم الشرعي بمجرد صدور العبارة وتوافر أركانها وشروطها من غير نظر إلى النية المستفادة من الأدلة منفصلة عن العبارة فلا عبرة عنده بالدليل القائم على عدم الرغبة في الحكم طالما أن هذا الدليل منفصل عن العبارة بمعناها ومدلولها بيعاً أو زواجاً أو طلاقاً أو غير ذلك من العقود ويستثنى الشافعي من ذلك حالة المخطئ لأنه قصد العبارة خطأ ولورود النص بذلك( ).
وما ذكرناه ينطبق على المثال الآخر الذي ذكره الشافعي وهو البيع مع اشتراط بعض الثمن لآخر فإنه من الصعب هنا اعتبار الغير وكيلاً عن البائع في قبض جزء من الثمن لأنه إذا كان قد أراد توكيل الغير في  القبض فلماذا لم يوكله في قبض الثمن جمعيه ولذا قال الشافعي أن هذا وكالة أو إحالة لأن العبارة احتملت معنى باطلاً وهو اشتراط نفع لأجنبي عن العقد فتحول الشافعي إلى معنى آخر صحيح تحتمله العبارة مع عدم الاعتداد بالنية الثابتة بأدلة منفصلة عن العبارة ومما يلاحظ هنا أن هذا التصرف الفقهي الذي لجأ إليه الإمام الشافعي في رفض الاشتراط لمنفعة أجنبي عن العقد مع تحويل التصرف إلى وكالة أو حوالة لتصحيحه هو بعينه نظرية تحول العقد التي أخذ بها القانون المدني المصري الحالي في (م 144) منه والتي نصت على أنه: [إذا كان العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد يكون صحيحاً باعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام العقد] هذا وقد ذكر واضعو القانون المدني المصري أن أحكام نظرية تحول العقد قد أخذت من القانون الألماني( )(140م)والحق أن المصدر الأصلي لهذه الفكرة هو الفقه الإسلامي( ) الذي استفادت منه القوانين الأوروبية الحديثة عن طريق الفقه المالكي والفقه الشافعي في بلاد الأندلس بالإضافة إلى فقه ابن حزم الظاهري.
والذي يهمنا هنا أن نقرر أن قاعدة الاعتبار للمعاني لا للمباني أعم من قاعدة اعتبار ألفاظ الكناية لأن اللفظ قد لا يعتبر كناية كما في المثالين السابقين عند الإمام الشافعي وقد اعتبر الإمام هنا معنى بعيداً صحيحاً وألغى المعنى القريب المستفاد من ظاهر النص لأن هذا المعنى القريب يجعل العقد باطلاً وتصحيح عبارات العاقدين أولى من إبطالها إذا وجد سبيل مقبول إلى ذلك.
46– الفرق بين قاعدة الاعتبار للمعاني لا للألفاظ وبين قاعدة تغليب النية على العبارة أو تغليب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة: 
يوجد فرق كبير – في رأيي – بين القاعدتين على الرغم مما يبدو لأول وهلة أنهما أمر واحد ذلك أن قاعدة الاعتبار للمعاني يقصد بها حالة التعارض بين ظاهر اللفظ (سواء أكان كناية أم غير كناية) وبين المعنى المستفاد من اللفظ فالكشف عن النية هنا يكون من اللفظ ذاته مرتبطاً بغيرة من الألفاظ الواردة بالعقد المراد تفسيره فإذا كان اللفظ فيه غموض وأمكن فهم المعنى من سياق اللفظ أي من مجموع الألفاظ التي تكونت منها العبارة فإن هذا المعنى هو المعتبر دائماً باتفاق الفقهاء طالما أن هذا المعنى لا يناقض مقتضي اللفظ المستعمل في العبارة وأما إن كان يناقضه مناقضة تامة فإن اللفظ لا يصح عند الفقهاء وذلك مثل التعبير عن البيع بلفظ النكاح أو الزواج، وأما إن كانت المغايرة بين ظاهر اللفظ وبين المعنى المستفاد من سياق اللفظ لا تصل إلى درجة التناقض التام فإن الفقهاء يميلون إلى تغليب المعنى عن طريق فكرة تحول العقد كما رأينا الأمثلة السابقة.
وأما قاعدة تغليب النية على العبارة فهي أوسع من ذلك بكثير لأن مقتضاها البحث عن النية الحقيقية بقرائن منفصلة عن العبارة وهذا على عكس القاعدة الأولى التي تقف عن حد البحث عن النية عن طريق العبارة ذاتها ككل باستلهام المعنى المستفاد من العبارة والذي قد يغاير ظاهر اللفظ ومن أجل ذلك نجد أن الإمام الشافعي أخذ بقاعدة الاعتبار للمعاني وهو يرفض رفضاً قاطعاً في الوقت نفسه – قاعدة تغليب النية على العبارة إلا فيما ورد به النص فقط (كالخطأ والنسيان والإكراه) ولا تناقض في هذا ما دامت القاعدتان متغايرتين ولذلك نجد أن الشافعي يصحح جميع العقود التي يقصد بها التوصل إلى محظور ما دامت العبارة جاءت خالية مما يشير إلى هذا القصد المحظور والحنفية قريبون منالشافعية في عدم الأخذ بقاعدة تغليب النية على العبارة ولذلك فإن عقد المحلل عند الحنفية والشافعية صحيح قضاء ما دام لم يرد في ألفاظه ما يدل على نية التحليل وكذلك في عقد العينة فهم يغلبون العبارة على النية( ) أي الإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة في الاصطلاح الحديث وأما المالكية والحنابلة فهم يأخذون بقاعدة تغليب النية على العبارة ولذلك فإنهم يبطلون العقود التي يقصد بها التوصل إلى محظور رغم عدم ذكر هذا المحظور ضمن عبارة العقد ما دامت توجد دلائل منفصلة عن العبارة تثبت هذا المحظور( )وفي هذا يقول ابن قدامه: [وبيع العصير ممن يتخذوه خمراً باطل.. إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك.. ولنا أنه عقد على عين لمعصية الله بها فلم يصح كإجارة الأمة للزنا والغناء، وأما التدليس فهو الحرم دون العقد، ولأن التحريم ههنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين ويفارق التدليس فإنه لحق آدمي، وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار وأشباه ذلك فهو حرام والعقد باطل لما قدمنا ]( ).
ومن هنا يتضح لنا أن الشافعية والحنفية – على رغم من تصريحهم بأن العبرة للمعاني لا للألفاظ والمباني في العقود - فهم في الوقت نفسه يغلبون العبارة على النية المستترة التي لم يرد بشأنها دليل من العبارة ذاتها، وأما المالكية والحنابلة فإنهم يغلبون النية على العبارة حتى ولو لم يرد بالعبارة ما يدل على النية وذلك إذا ثبتت هذه النية بقرائن منفصلة عن العبارة كما في الأمثلة التي ساقها ابن قدامة ويترتب على ذلك أن قاعدة الاعتبار للمعاني لا للمباني عند الحنفية والشافعية تقتصر على استخراج المعنى من سياق اللفظ فقط ولا يجوز اعتبار المعاني التي لا يتحملها اللفظ وإنما تدل عليها قرائن منفصلة عن اللفظ فهذه قاعدة أخرى وهي قاعدة تغليب النية التي تثبت بكافة الطرق الشرعية على العبارة وهو ما يعرف في الاصطلاح الحديث بمبدأ تغليب الإرادة الباطنية على الإرادة الظاهرة إذا وجدت أدلة على ذلك سواء أكانت هذه الأدلة منفصلة عن العبارة أم مستقاة من سياق اللفظ( ).
47– التعاقد بالإشارة: 
الإشارة لغة هي الإيماء إلى الشيء بطريقة يفهم منها يفهم ما من النطق وهذا الإيماء يكون بالجوارح – غير اللسان – كالعين واليد وغيرهما. وإشارة الأخرس المفهومة معتبرة شرعاً في جميع العقود عند مالك( ) والشافعي( ) والحنابلة( ) سواء أكان قادراً على الكتابة أم عاجزاً عنها وسواء أكان الخرس أصلياً أو طارئاً. والشافعية يقسمون الإشارة إلى صريحة وكناية فالإشارة الصريحة هي التي يفهم المقصود منها كل واقف عليها، والإشارة الكناية هي التي لا يفهم المقصود منها إلا المتميز بالذكاء( )ويوجد قول لبعض الشافعية يشترط لقبول إشارة الأخرس أن يكون عاجزاً عن الكتابة( ).
وأما الحنفية( ) فلا يعتبرون إشارة الأخرس إذا كان يقدر على الكتابة لأن الكناية تعتبر بالقلم فهي كالألفاظ المنطوقة في قوة الدلالة، والإشارة أضعف منها ولا يصح العدول عن الدلالة القوية إلى الضعيفة ما أمكنت هذه فإذا كان الأخرس لا يعرف الكتابة فيشترط الحنفية لقبول إشارته أن يكون الخرس أصلياً أي ولد أخرساً فإن كان طارئاً فلا بد أن يدوم منه الخرس حتى يقع اليأس من كلامه ولا بد أن تكون إشارته مفهومة في كل حال حتى تقبل( ).
وفي نظري أن رأي الجمهور هو الأصح من رأي الحنفية فلا معنى لهذه التفريعات التي قالوا بها ما دامت الإشارة لن تقبل في أي حال إلا إذا كانت مفهومة وأما قولهم (أي الحنفية) بأنه إذا كان الخرس طارئاً فلا بد أن يدوم لكي تعتبر إشارته فهذا لا أساس له من الشرع وفيه تعطيل لمصالح الأخرس ومصالح الآخرين الذين يتعاملون معه ما دام يستطيع أن يعبر بالإشارة عن نفسه ومن أهم أصول الشريعة الغراء هو رفع الحرج عن الناس ما أمكن ذلك.
48– التعاقد بالرسالة: 
التعاقد بالرسالة قد يكون بإرسال خطاب مكتوب فيهعبارات العقد وقد يكون بإرسال رسول يبلغ العقد ولا خلاف بين العلماء في صحة العقد بالرسالة: وجاء في الهداية [والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال ]( ) وقد اتفق الفقهاء – من المذاهب الأربعة – على جواز التعاقد بالكتابة في جميع العقود – إلا في النكاح سواء بين حاضرين أو بين غائبين عن طريق الرسالة المكتوبة( ) لأن الكناية – بعد الألفاظ – تعتبر قاطعة في الدلالة على الإرادة ولم يجيزوا التعاقد بالكتابة في عقد النكاح بين حاضرين إلا لأخرس للضرورة لأن عقد النكاح يشترط فيه الإشهاد والإشهار.
هذا ويوجد للشافعية( ) وجه بعدم الانعقاد بالكتابة مطلقاً، ولكن هذا الوجه خالفه كثير من الشافعية وقالوا بالتعاقد بالكتابة مع النية أي اعتبروا الكتابة من باب الكناية( )هذا وقد صرح الحنفية في الزواج بالكتابة بالآتي: [فلو كتب تزوجتك فكتبت قبلت لم ينعقد وكذا لو قالت قبلت بخلاف ما إذا كان في جهة أخرى فكتب لها بالإيجاب فحضرت شاهدين وقرأته عليهما وقالت إن فلاناً كتب يخطبني فاشهدوا أني زوجت نفسي منه فإن العقد يصح ]( )فعند الحنفية يجوز أن يتم عقد النكاح بين غائبين بكتابة الإيجاب وحده ويشترط أن يتم القبول باللفظ. وهذا ويشترط الفقهاء لصحة التعاقد بالكتابة – بصفة عامة – أن تكون مستبينة أي تبقي صورتها بعد الانتهاء منها «فلا تصح الكتابة على الماء مثلا» . ويشترطون أيضاً أن تكون الكتابة مرسومة أي مكتوبة بالطريقة المعتادة بحسب العرف الجاري، وقد كان العرف في الماضي يجري على أن تصدر الكتابة ببيان اسم المرسل منه واسم المرسل إليه وأن تكون موقعة أو مختومة من المرسل منه. والكتابة – في واقع الأمر – لا تقل قوة عن اللفظ إذا ثبتت نسبتها إلى صاحبها بل هي أقوى من اللفظ من ناحية البقاء بعد الصدور مدة طويلة، ولذلك ندب الله تعالى المؤمنين إلى توثيق ديونهم بالكتابة مما يدل على قوتها ووصفها الحق تبارك تعالى بأنها أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى إلى عدم الريبة( ).
49– تحديد مكان وزمان العقد بالرسالة: 
يثير العقد بالرسالة مسألة هامة وهي مكان وزمان انعقاد العقد، لأن المتعاقدين يبرمان العقد في مكانين مختلفين كما يختلف بالضرورة زمن الإيجاب عن زمن القبول والظاهر من كلام جمهور الفقهاء هو أن العبرة بإعلان القبول من القابل حينما يتصل الإيجاب بعلمه عن طريق قراءة الرسالة أو سماع كلام الرسول، جاء في حاشية ابن عابدين: [صورة الكتابة أن يكتب أما بعد فقد بعت عبدي فلاناً منك بكذا فلما بلغه الكتاب قال في مجلسه ذلك اشتريت تم البيع بينهما]( ) وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: [قوله بما يدل على الرضا) أي السبب وجود ما يدل على الرضا من العاقدين...(قوله بما يدل) أي عرفاً سواء دل على الرضا أو لا، فالأول كبعت واشتريت وغيره من الأقوال والثاني كالكتابة والإشارة والمعاطاة]( ) ويلاحظ أن المالكية هنا لم يذكروا صراحة ما ذكره الحنفية ولكنه مفهوم من سياق الكلام وهو دلالة الرضا من القابل. وجاء في مغني المحتاج للشربيني: [أما الرسالة فهي أن يرسل رسولاً إلى رجل فذهب الرسول وبلغ الرسالة فقال المشتري في مجلسة ذلك قبلت انعقد العقد]( )وجاء فيكشاف القناع: [وإن كان المشتري غائباً عن المجلس فكاتبه البائع أو راسله أني بعتك داري بكذا أو أني بعت فلاناً داري بكذا فلما بلغه (أي المشتري) الخبر قبل البيع صح العقد]( ).
ولكن يجب أن يلاحظ هنا أمراً هاماً وهو أنه في حالة التعاقد بين حاضرين يسمع الموجب قبول القابل، وأما في حالة التعاقد بين غائبين يقاس على التعاقد بين حاضرين فكان الأولى أن يقال أن العبرة بوصول القبول إلى الموجب وهذا يتفق مع ما ورد في بعض كتب الحنفية بخصوص عقد النكاح ففي حاشية يعقوب علىشرح الوقاية: [وشرط سماع كل من المتعاقدين عبارة الآخر حقيقة أو حكماً... لأن الكتاب كالخطاب]( ) وفي الدر المختار: [وشرط سماع كل المتعاقدين لفظ الآخر: (قوله كل)أي ولو حكماً كالكتاب إلى غائبة لأن قراءته قائمة مقام الخطاب كما مر]( )وفي مجمع الأنهر: [وشرط لصحة  النكاح سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر حقيقة أو حكماً]( ).
وما ذكره فقهاء الحنفية في عقد النكاح من وجوب سماع كل من العاقدين عبارة الآخر يتعين تطبيقه على جميع العقود لأنهم عللوه بأن الكتاب كالخطاب، وهذا حاصل في جميع العقود بين حاضرين فالموجب يسمع قبول القابل، ومقتضى هذا أنه في التعاقد بين الغائبين – عن طريق الرسالة – الأصح أن يقال أن العقد ينعقد عندما يسمع الموجب أو يقرأ قبول القابل فيتم العقد في مكان وزمان علم الموجب بقبول القابل وهذا مخالف لرأي بعض الفقهاء من المذاهب الأربعة في التعاقد بالرسالة بصفة عامة – باستثناء ما ورد في كتب الحنفية بالنسبة لعقد النكاح – ولكن يبدو لي أن الأصح هنا هو أن تكون العبرة بسماع الموجب لقبول القابل وهو ما يخالف ما ذهب إليه عدد من الفقهاء من المذاهب الأربعة، والحجة عليهم قوية لأنهم قاسوا التعاقد بالكتابة على التعاقد بين الحاضرين فكان من المتعين أن يراعوا أنه في حالة التعاقد بين الحاضرين يسمع القابل كلام الموجب ويسمع الموجب أيضاً كلام القابل ولا يتم العقد إلا بسماع الموجب للقبول لأنه لو خرج قبل ذلك انفض المجلس ولم يعتبر القبول الذي يصدر بعد انفضاض المجلس، ولذلك  فإنه يتعين – في التعاقد بالمراسلة – أن يعلم الموجب بقبول القابل حتى يتم التعاقد وهذا هو ما ذكره الحنفية بعينه بشأن عقد النكاح بين غائبين إذ قالوا [وشرط لصحة النكاح سماع كل من العاقدين لفظ الآخر حقيقة أو حكما]( ) وقد عللوا هذا صراحة بأن القراءة قائمة مقام  الخطاب( )... فهذا الكلام من الحنفية يدل على أن القائلين به يذهبون إلى أن العقد لا يتم في حالة التعاقد بالمراسلة إلا بوصول القبول إلى الموجب وقد أخذ بهذا الرأي الأخير بعض علماء الشريعة المعاصرين( ).هذا ويترتب على الأخذ بهذا  الرأي نتيجة هامة وهي أنه في التعاقد بالمراسلة يكون للقابل الحق في الرجوع عن قبوله قبل علم الموجب بالقبول ما دام العقد لا يتم إلا بوصول القبول إلى الموجب وعلمه به فالعقد يتم في مكان وزمان علم الموجب بالقبول.
50– التعاقد بالهاتف: 
التعاقد بطريق الهاتف يشبه التعاقد بين الحاضرين من حيث سماع كل من المتعاقدين عبارة الآخر فور صدورها ويختلف عنه في أنهما متباعدين كما في التعاقد بالمراسلة فالعقد يتم في زمان واحد وفي مكانين مختلفين وقد تصور الفقهاء هذا النوع من العقود فقد جاء في المجموع للنووي ما يأتي: [لو تناديا وهما متباعدان صح البيع بلا خلاف.. وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار]( )وهذا التنادي من بعيد يماثل التنادي بواسطة الهاتف فالزمان واحد والمكانان مختلفان، وعلى الرأي الذي رجحناه في التعاقد بالمراسلة فإن العقد يتم في مكان الموجب لأنه المكان الذي وصل فيه قبول القابل. هذا وإذا تعذر إثبات العقد بالهاتف عن طريق شهادة الشهود فالقول قول منكر العقد مع يمينه لأن الأصل براءة الذمة كما هو معلوم.
51– التعاقد بالتعاطي: 
التعاطي لغة( ) من العطو بمعنى التناول أي تناول الشخص الشيء بيده، والتعاطي من الأفعال والأصل في العقود أنها تنعقد بالأقوال لأن الأفعال ليس لها دلالة – بأصل وضعها – على الالتزام بالعقد، وقد اختلف الفقهاء في العقد بالتعاطي إذا كانت الأفعال تنطوي على دلالة تشبه الدلالة اللفظية: فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية( ) والمالكية( ) وفي قول مرجوح للشافعية ( )والحنابلة( ) إلى جواز التعاقد بالتعاطي إذا وجدت قرائن تدل على أنها تفيد الرضا وهذا في عقود المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والاستصناع..الخ. ومثاله من يدفع ثوباً إلى خياط ليخيطه وأجرة الخياط معلن عنها من قبل، ومن هذا أيضاً ما يوجد في الأسواق الحديثة من بضائع مكتوبة عليها الثمن فيأخذها المشتري ويدفع ثمنها بدون تلفظ بإيجاب أو قبول ويحصل مثل هذا في سيارات نقل الأشخاص المعلن فيها عن الأجرة والمذهب عند الشافعية هو عدم جواز العقد بالتعاطي حتى في المحقرات إذ تشترط الصيغة في العقد( ) وللشافعية( ) قول ثالث وهو صحة التعاقد في المحقرات فقط وهو قول للقدوري والكرخي من الحنفية( )، وقول للقاضي أبي يعلي من الحنابلة( ).
والأصح هو رأي الجمهور بصحة التعاطي في عقود المعاوضات المالية لأن هذا هو المتعارف عليه بين الناس من لدن رسول الله  إلى لآن ولم ينقل عن النبي  ولا عن أحد من الصحابة النهي عن التعاطي في عقود البيع وما يقاس عليها من سائر المعاوضات المالية، رغم أنها شائعة بين الناس.
هذا وللعقد بالتعاطي صورتان عند المالكية والحنابلة وصورة واحدة عند الحنفية، وهذه الصورة – وهي التي يتفقون فيها مع المالكية والحنابلة – وهي أن يتم التعاطي من غير تكلم ولا إشارة من أحد العاقدين، وأما الصورة الثانية عند المالكية والحنابلة فقد ذكر الحنفية أنها ليست من قبيل التعاطي وقد فسرتها حاشية ابن عابدين بالآتي: [القبول قد يكون بالفعل وليس من صور التعاطي، وكذا إذا قال بعتكه بألف فقبضه ولم يقل شيئاً كان قبضه قبولاً بخلاف بيع التعاطي فإنه ليس فيه إيجاب بل قبض بعد معرفة الثمن فقط ففي جعل الأخيرة من صور التعاطي كما فعل بعضهم نظر]( ) وهذه الصورة الثانية تعتبر من قبيل بيع المعاطاة عند الحنابلة وقد صرحوا بها وهي مقبولةعند مالك( )، جاء في المغني: [المعاطاة مثل أن يقول أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه ما يرضيه أو يقول خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه فهذا بيع صحيح نص عليه أحمد فيمن قال لخباز: كيف تبيع هذا الخبز؟ قال كذا بدرهم قال: زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه وقول مالك نحو من هذا قال: يقع البيع بما يعتقده الناس بيعاً]( )ويقول ابن قدامة أيضاً: [..ولم ينقل عن النبي  ولا عن الصحابة مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً ولو كان ذلك شرطاً لوجب نقله ولم يتصور منهم إهماله والغفلة عن نقله لأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول (أي في حالة التعاطي) لبينه  ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيراً وأكلهم المال بالباطل ولم ينقل ذلك عن النبي  ولا عن أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتابعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان ذلك إجماعاً]( ) ويقول ابن قدامة أيضاً: [... ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه]( ) وهذا الكلام لابن قدامة هو في رأيي من أحسن ما قيل للدلالة على صحة بيع التعاطي.
وأما الشافعية كما قدمنا فهم الذين منعوا بيع المعاطاة بل منهم من قال: [وعقد المعاطاة من الكبائر ]( ) وبلغ من مبالغة بعض الشافعية في ذلك ما يأتي: [وقع السؤال في الدرس عما لو وقع بيع بمعاطاة بين مالكي وشافعي هل يحرم على المالكي ذلك لإعانته الشافعي على معصية في اعتقاده أو لا؟ فيه نظر والجواب عنه أن الأقرب الحرمة كما لو لعب الشافعي مع الحنفي الشطرنج حيث قبل يحرم على الشافعي لإعانته الحنفي على معصية في اعتقاده]( )ويستدل هؤلاء الشافعية على بطلان التعاطي بأن التراضي هو ركن العقد الثابت بالكتاب: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]، مع الخبر الصحيح (إنما البيع عن تراض) والرضا أمر خفي لا اطلاع لنا عليه فجعلت الصيغة دليلاً على الرضا فلا ينعقد بالمعاطأة وهي أن يتراضيا ولو مع السكوت منهما]( ).
هذا وإنه لمن الواضح أن حجة الشافعية في إبطال التعاطي واهية للغاية لأن التعاطي دليل قاطع على التراضي وهو حاصل بالإجماع في عهد النبوة كما ذكر ابن قدامة ولم ينقل عن النبي  ولا الصحابة الاعتراض على التعاطي مع شيوعه وكثرة وقوعه بينهم.
ونلاحظ هنا أن سبب تشدد جمهور الشافعية في بيع التعاطي هو أن الإمام الشافعي – كما قدمنا – جعل العبارة هي الأساس وإذا تعارضت مع النية الثابتة بأدلة منفصلة عن العبارة فإنه لا يعتد بهذه النية ما دامت العبارة لا تحتملها، ومن أجل ذلك كان من الطبيعي أن يرفض جمهور الشافعية بيع التعاطي لأنه يتعارض مع أولهم في تغليب العبارة على النية التي ليس لها مستند من العبارة، ولكن الحق أنه لا حجة مع ورود الشرع بما يخالفها ويكفينا هنا ما أورده ابن قدامه وغيره من الحنابلة والمالكية من إجماع المسلمين في عهد النبوة على صحة بيع التعاطي ولذلك فإن الرأي الصحيح في نظري هو صحة بيع التعاطي بإطلاق ما دام التعاطي قد اشتمل على كافة شروط خلافة ما دام البيع بالتعاطي.
52– كتابة العقد بعد التلفظ بصيغته: 
كتابة العقد بعد التلفظ به تعتبر طريقاً من طرق التوثيق في الشريعة الإسلامية لأن الشريعة لم تنص على الكتابة باعتبارها ركنا في أي ركناً في أي عقد من العقود وإنما نصت على الكتابة وحرضت عليها بهدف التوثيق قال تعالى: 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، فالأمر بالكتابة هنا للندب وليس للوجوب ولكن الله تعالى حث المسلمين على الكتابة في وقت لم تكن فيه أدوات الكتابة متوافرة بل كانت صعبة للغاية قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا...﴾ [البقرة: 282]، هذا وقد يشترط ولى الأمر الكتابة من باب السياسة الشرعية مراعاة لمصالح المسلمين بسبب أمور استجدت أو مفاسد ظهرت، فقد يشترطها في بعض العقود كشرط لسماع الدعوى حين التخاصم بخصوص العقد لحث الناس على الكتابة ومثال ذلك عقد الزواج فإنه لا يمكن سماع الدعوى به أمام القضاء – في غالبية الدول الإسلامية في العصر الحالي – إلا إذا وثق في سجل خاص لدى موظف رسمي مختص أي يشترط هنا الكتابة والرسمية. وهذا أمر مطلوب شرعاً بسبب ما ظهر من مفاسد بسبب ارتفاع الأمانة ولجوء بعض الأزواج إلى إنكار الزواج بعد أن يكون قد تزوج المرأة وعاشرها وأنجب منها أطفالاً ثم يموت الشهود أو يرتشون من الزوج.

المطلب الثاني
مجلس العقد
53– المقصود بمجلس العقد: 
مجلس العقد هو المجلس الذي يتم فيه التعبير عن الإيجاب والقبول فيتطابقان فيه ويقترنان فيتم العقد. وبعبارة أخرى هو الحال الذي ينشغل فيه المتعاقدان بالكلام حقيقة أو حكماً بشأن العقد والأصل في مجلس العقد أن يجتمع المتعاقدان بأبدانهما ولكن هذا الاجتماع ليس لذاته وإنما هو لتحقيق تلاقي الإيجاب والقبول وتوافقهما ولذلك جوز الفقهاء أن يتم التعاقد بالرسالة كما قدمنا.
54– اختلاف الفقهاء في تحديد مجلس العقد: 
الأصل أن مجلس العقد يبدأ منذ أن ينشغل العاقدان فيه التعاقد ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد مجلس العقد متى يبدأ ومتى ينتهي كما أن مجلس العقد تختلف طبيعته طبقاً لاختلاف العقود فهناك عقود يشترط فيها اتحاد المجلس بين العاقدين وهناك عقود أخرى لا يشترط فيها هذا الاتحاد لأن طبيعتها أو الظروف المحيطة بها تأبى ذلك.
55– اختلاف الفقهاء حول مجلس العقد في حالة العقود التي يشترط فيها اتحاد المجلس: 
تفرق الفقهاء بالنسبة إلى هذا النوع من العقود إلى فريقين فذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى اشتراط الفورية في مجلس العقد وذهب الجمهور إلى عدم اشتراط الفورية.
56– مذهب الفورية: 
ذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى اشتراط الفورية في مجلس العقد فهم يقولون بأن مجلس العقد يبدأ بصدور الإيجاب وينتهي إذا لم يصدر القبول فور صدور الإيجاب جاء في نهاية المحتاج: [(ويشترط أن لا) يتخلل لفظ لا تعلق له بالعقد ولو يسيراً وألا يطول الفصل بين لفظيهما]( ) وجاء في مغني المحتاج [ويضر تحلل كلام أجنبي ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول ولو لم يتفرقا عن المجلس لأن فيه إعراضاً عن القبول]( ).
ولكن هذه الفورية المشترطة في عقود المعاوضات المالية تجعل من العسير إتمام التعاقد لأن هذه العقود تحتاج إلى التدبر إذ قد يؤدي التسرع إلى حصول خسارة كبيرة تلحق بأحدهما ولكن أصحاب هذا الرأي تلافوا هذا الضرر بما في السنة الصحيحة من إثبات خيار المجلس للعاقدين بعد إتمام العقد وقبل انفضاض المجلس كي لا يضار أحد العاقدين من هذا التعاقد الفوري الذي يمنع التروي وعلى هذا يحق لكل منهما بعد إتمام العقد أن يختار الفسخ ما دام المجلس لم ينفض وهذا قاصر على عقود المعاوضات المالية لما صح عن رسول الله  من حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ( )[متفق عليه].
57– مذهب عدم الفورية : 
وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى عدم اشتراط الفورية فليس من اللازم أن يصدر القبول فور صدور الإيجاب ويصرح الحنفية بأن هذا الرأي مخالف للقياس فهو من قبيل الاستحسان وفي هذا يقول الكاساني: [فإن اختلف المجلس لا ينعقد حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الأخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس ثم قيل: لا ينعقد لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشرطين عن الآخر في المجلس لأنه كما وجد أحدهما انعدم في الثاني من زمان وجوده فوجد الثاني والأول منعدم فلا ينتظم الركن إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشرطين على الآخر حكماً وجعل المجلس جامعاً للشرطين مع تفرقهما للضرورة يصير مفضياً عند اتحاد المجلس فإذا اختلف لا يتوقف وهذا عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: الفور مع ذلك شرط لا ينعقد الركن بدونه (وجه) قوله ( ) ما ذكرنا أن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر والتأخر لمكان الضرورة وأن تندفع بالفور (ولنا: أي الحنفية) أن في ترك اعتبار الفور ضرورة لأن القابل يحتاج إلى التأمل ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل وعلى هذا إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في تحمل واحد فإن خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد وإن كان بينهما فصل وسكوت وإن قل لا ينعقد لأن المجلس يتبدل بالمشي والسير]( ) فالحنفية يذهبون إلى أن الفورية غير لازمة استحساناً ولكنهم يرجعون إلى القياس فيشترطون الفورية إذا كان العاقدان يسيران سوياً بدابة أو بغيرها لأن مجلس العقد يتبدل بالمشي والسير وهذا الذي ذكره الحنفية من أن المجلس يتبدل بالمشي إنما هو رأي ظاهر الخطأ إذ كيف يتبدل المجلس بالمشي وهما يمشيان سوياً ولم يفترقا؟
وذهب المالكية أيضاً إلى عدم اشتراط الفورية: وجاء في حاشية الدسوقي: [ولا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرجا عن البيع إلى غيره عرفاً]( ) وجاء في كشاف القناع للبهوتي من الحنابلة: [وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفاً ولو طال الفصل لأن حكم المجلس حكم حالة العقد]( ).
فالجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة يتفقون على عدم اشتراط الفورية في مجلس العقد ولكنهم يختلفون فيما عدا ذلك فالحنفية – كما ذكرنا – يعتبرون أن المشي أثناء التعاقد يقتضي الرجوع إلى الأصل وهو الفورية لأن عدم الفورية عندهم هو من باب الاستحسان المخالف للقياس، والحنفية إلى جانب ذلك لا يعترفون بخيار المجلس على حقيقته المستفادة من النص فهم يفسرون حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا على أنه إذا أوجب العاقد البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رده ما دام لم يصدر من صاحب الإيجاب ما يدل على تغير إرادته( ) أي أن صاحب الإيجاب يستطيع الرجوع ما دام المجلس لم ينفض ولم يصدر قبول من الطرف الآخر وهذا التفسير مخالف تماماً لظاهر الحديث الذي جعل الخيار للقابل أيضاً ولم يجعله قاصراً على الموجب ولا يتصور خيار القابل إلا بعد أن يصدر منه القبول فعلاً وهذا ممنوع عند الحنفية كما هو واضح من كلامهم.
وأما المالكية فهم يتفقون أيضاً مع الحنفية (والحنابلة) في عدم اشتراط الفورية وهم لا يعترفون بخيار المجلس أيضاً مثل الحنفية ولكنهم يقولون – على عكس الحنفية – بالإيجاب الملزم فمالك يرى أن الموجب لا يستطيع الرجوع عن إيجابه طالما لم ينفض المجلس أو يصدر قبول من الطرف الآخر( )، ويلاحظ أن الأمام مالك نفسه روى حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ولكنه رد العمل به بناء على أصوله من أن خبر الواحد لا يحتج به إذا لم يعضد بعمل أهل المدينة واعتبر المالكية أن الحديث يتعارض مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، والعقد هو الإيجاب والقبول والأمر على الوجوب وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد( ).
وأما جمهور الحنابلة فهم يتفقون مع المالكية والحنفية في عدم اشتراط الفورية ولكنهم يختلفون معهم في أنهم يأخذون في الوقت نفسه بخيار المجلس على معناه الصحيح المتفق مع ظاهر الحديث الصحيح وهو «البيعان بالخيار مالم يتفرقا» ( )فالحنابلة هم أوسع المذاهب في هذه المسألة لأنهم يسمحون بالتروي قبل إتمام العقد ولا يشترطون صدور القبول فور صدور الإيجاب وفي الوقت نفسه يسمحون بالتروي بعد انعقاد العقد فعلاً فيسمحون لكل من العاقدين – طبقاً للنص – بفسخ العقد ما دام المجلس لم ينفض.
58– اختلاف الفقهاء في تحديد وقت انفضاض المجلس: 
اختلف الفقهاء إلى مذهبين: مذهب يرى أن انفضاض المجلس لا يكون إلا بافتراق الأبدان ومذهب آخر يرى أن انفضاض المجلس يمكن أن يكون بالقول وإن لم تفترق الأبدان.
59– مذهب القائلين بأن الانفضاض لا يكون إلا بالتفرق بالأبدان: 
وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن عمر وأبي برزة من الصحابة وقد نقل ابن رشد أنه لا مخالف لهما من الصحابة في هذا الرأي( ) وقد روى ابن عمر حديث «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» وهو في البخاري ومسلم وفي رواية مسلم: روى عبد الله بن عمر عن النبي  أنه قال: «إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه مالم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب» وزاد مسلم في رواية أخرى: قال نافع: فكان ابن عمر إذا بايع رجلاً فأراد ألا يقيله قام فمشي هنيهة ثم رجع( ) وللبخاري [قال ابن عمر: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادِّني البيع وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال وساقني إلى المدينة بثلاث ليال]( ).
ومما يشهد لهذا المذاهب اللغة أيضاً فقد سئل أحمد بن يحيى – المعروف بثعلب – عن الفرق بين التفرق والافتراق فقال: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال فرقت بين الكلامين مخففاً فاقترفا وفرقت بين اثنين مشدداً(أي بتشديد الراء) فتفرقا فجعل الافتراق في القول والتفرق بالأبدان( ) وقد وردت جميع روايات الحديث عند البخاري ومسلم بقوله (يتفرقا) ما عدا رواية واحدة عند البخاري عن همام شك فيها فقال: «ما لم يفترقا أو قال حتى يتفرقا» ( ) وهذا يؤكد أن المقصود بالتفرق هنا هو التفرق بالأبدان وليس الافتراق في الكلام ولما كان ابن عمر هو من رواة هذا الحديث  في الصحاح عن رسول الله  وهو من فقهاء الصحابة فمن ثم يكون تفسيره للحديث حجة وقد فهم من الحديث أن انفضاض المجلس الذي به يلزم العقد لا يكون إلا بالتفرق بالأبدان وأن الانشغال بحديث آخر – ومن غير تفرق – عن العقد لا يترتب عليه انفضاض المجلس ولذلك كان إذا أراد أن يلزم عقداً أبرمه قام ومشي قليلاً ثم رجع.
هذا ويلاحظ هنا من فعل ابن عمر أنه لا حرج على العاقد أن يتعمد القيام لإلزام الطرف الآخر بالعقد، وأما ما أورده عبد الله بن عمرو بن العاص من أن رسول الله  قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل أن يفارق صحابه خشية أن يستقيله» ( ) فهذا الحديث يؤكد أن التفرق لا يكون إلا بالأبدان وأما المنع من المفارقة خشية أن يستقيله فهذا يمكن أن يحمل على أن يغافل صاحبة ويقوم لأن الطرف الآخر يستطيع دائماً– إذا رأى أن من تعاقد معه يريد الافتراق فهو يستطيع فوراً أن يعلنه بخيار الفسخ قبل التفرق لأن الصوت أسرع من المشي بكثير كما هو مشاهد حساً ومقرر علمياً( )هذا وقد فسر ابن قدامة التفرق بالأبدان تفسيراً لا يصح لتعارضه مع تفسير ابن عمر لحديث الخيار فيقول ابن قدامه [ولو أقاما في المجلس وسدلا بينهما ستراً بينهما حاجزاً أو ناما أو قاما فمضيا جميعاً ولم يتفرقا فالخيار بحاله وإن طالت المدة لعدم التفرق]( ) فقوله: لو بنيا بينهما حاجزاً لا يتفرقان موضع نظر لأن بناء الحاجز يجعلهما يتفرقان بالأبدان فهذا يكون مثل المشي هنيهة وأما النوم سوياًفهذا لا ينفض به المجلس لأن الأبدان لم تتفرق بالنوم ولكن إقامة حاجز بينهما يفض المجلس وقد استند ابن قدامة إلى ما رواه أبو داود( )والأثرم بإسنادهما عن أبي الوضيء قال: [غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلاًفباع صاحب لنا فرساً بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد وحضر الرحيل قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه إليه فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله  فأتنا أبا برزة في ناحية فقالا له هذه القصة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) ما أراكما افترقتما] وهذا التفسير من أبي برزة لا يصح لأنه من غير المعقول أن يقيما بقية يومهما وليلتهما في مكان واحد دون أن يتفرقا بضع خطوات أو لا بد أن يمشي كل منهما لحاجته على الأقل وهذا يكفي لأن ابن عمر كان يكتفي بالمشي هنيهة أي قليلاً وابن عمر أفقه من أبي برزة( )فتفسيره أولى بالاعتبار فضلاً عن أنه من رواه حديث الخيار.
وإذا أكره العاقد على التفرق فهل ينفض المجلس في هذه الحالة؟ للشافعية والحنابلة في هذا وجهان أحدهما: أن المجلس لا ينفض بالإكراه على التفرق والآخر: ينفض المجلس بالإكراه لأن التفرق حصل فعلاً ولأنه لا يعتبر رضاهفي مفارقة صاحبه له، ويلاحظ أنه على قول من يرى أن المجلس لا ينفض بالإكراه فإن المجلس يظل قائماً إلى أن يزول الإكراه ويتمكن المكره من إبداء خياره بحرية أمام العاقد الآخر وينفض المجلس في هذه الحالة بالتفرق بعد زوال الإكراه ( ).
ويبدو لي أن الأصح هنا أن يقال أن المجلس لا ينفض بالإكراه لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فلا تصح تصرفات المكره وأفعاله وهو واقع تحت ضغط الإكراه لأن الله رفع إثم الإكراه وهذا يقتضي رفع الآثار التي أجبر عليها المكره وهو لا يرضاها ما دام في الإمكان رفعها.
60– مذهب القائلين بأن المجلس قد ينفض قبل التفرق بالأبدان: 
ذهب أبو حنيفة ومالك وطائفة من أهل المدينة( ) إلى أن المجلس قد ينفض بالقول وإن لم يتفرقا بالأبدان، وجاء في حاشية ابن عابدين: [والحاصل أن الإيجاب يبطل (أي ينفض المجلس) بما يدل على الإعراض... واختلاف المجلس باعتراض ما يدل على الإعراض من الاشتغال بعمل آخر كأكل إلا إذا كان لقمة، وشرب إلا إذا كان الإناء في يده ونوم إلا أن يكونا جالسين وصلاة إلا إتمام الفريضة أو شفع نفلاً وكلام ولو لحاجة (أي كلام خارج عن موضوع العقد) ومشي مطلقاً في ظاهر الرواية حتى لو تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة لم يصح]( ).
فالحنفية يذهبون إلى أن مجلس العقد يمكن أن ينفض قبل التفرق بالأبدان وذلك إذا انشغلا بموضوع آخر أو بشيء آخر ألا أن يكون أمراً يسيراً أو إتمام فريضة وقد بالغ الحنفية في هذه المسألة حتى أنهم منعوا انعقاد العقد وهما يمشيان سويا لأن المشي في رأيهم ينتهي به العقد رغم عدم التفرق بالأبدان ورغم أنهما قد يكونا منشغلين بالكلام عن العقد في أثناء مشيهما وهذا القول من الحنفية لا وجه له في الحقيقة ولا يتفق مع ما ورد في السنة الصحيحة من شراء النبي  جمل جابر وهما يسيران في القافلة في أثناء السفر فقد روى جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله  في سفر وكنت على جمل ثقال (أي بطي السير) إنما هو في آخر القوم فمر بي النبي  فقال: «من هذا ؟» قلت: جابر بن عبد الله. قال: «مالك ؟» قلت إني على جمل ثقال قال: «أمعك قضيب ؟» قلت: نعم «قال: أعطينه» فأعطيته فضربه وزجره فكان من ذلك المكان في أول القوم قال: «بعينه» فقلت بل هو لك يا رسول الله قال: «بل بعينه» فقلت: بل هو لك يا رسول الله قال: «بل بعينه قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة» .( )
فالبيع تم – كما هو ظاهر من الحديث – بين النبي  وبين جابر وهما يسيران على البعير وهذا واضح من لفظ الحديث (فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم...)
61– بيان الرأي الصحيح في تحديد مجلس العقد بين حاضرين: 
الرأي الصحيح – في نظري – هو ما استقر عليه رأي الصحابة وأخذ به الشافعي وأحمد وأبو ثور من أن المجلس العقد لا ينفض إلا بالتفرق بالأبدان لأن أدلة هذا الرأي أقوى من أدلة الرأي الآخر فهذا الرأي هو رأي عبد الله بن عمر راوى الحديث وهو رأي أبي برزة الأسلمي من الصحابة أيضاً«مع الملاحظة أنه يبالغ في التفرقة بالأبدان» وقد نقل ابن رشد أنه لا مخالف لهما من الصحابة( )وفضلاً عما تقدم فإن هذا الرأي يتفق مع القصد من تشريع خيار المجلس ويمنع الغرر والنزاع الذي قد يثور حول انفضاض المجلس من عدمه، وبيان ذلك أن الهدف من تشريع خيار المجلس هو إتاحة الفرصة للتروي في عقود المعوضات المالية التي يؤدي إلى ارتفاع خسارة كبيرة بالمتعاقد، والتروي يقتضي أن يخلو العاقد إلى نفسه أثناء وجوده بالمجلس ليفكر في الصفقة فإذا سكت وتفكر قال له أصحاب الرأي الآخر لقد انشغلت عن العقد فأصبح باتاً وأما على الرأي الصحيح فهو ما دام جالساً في المجلس سواء أنشغل بالعقد أم بغيره فالمجلس قائم والخيار باق له، وأما من حيث منع الغرر والنزاع فإن التفرق بالأبدان أمر محسوس لا مجال للاختلاف حوله وأما الانشغال – مع عدم التفرق – بأمر آخر فهو يفتح الباب للنزاع فقد يتكلم أحد العاقدين بشأن العقد فينشغل الآخر بأمر ما ويدعى انفضاض المجلس ويدعي الآخر عدم الانفضاض.ولهذا كله فإن الرأي الذي يجعل نهاية المجلس هي التفرق المادي بالأبدان هو الرأي الصحيح – في نظري – وهو فعل عبد الله بن عمر أحد رواة الحديث وأفقههم.
62– تحديد مجلس العقد في العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس: 
هذه العقود قسمان أحدهما: العقود بين غائبين، وثانيهما: عقود بين حاضرين ومع ذلك لا يشترط فيها اتحاد المجلس.
63– فأما العقود بين غائبين: 
فإن اتحاد المجلس مستحل بينهما ولذلك فإن المجلس ينفض حكماً في الوقت والمكان اللذين يتم فيهما التعاقد ولا مجال للبحث في تفرق الأبدان لأن الأبدان متفرقة فعلاً ولا محل للقول بالتشاغل عن العقد لأنهما لا يتحدثان معاً أصلاً. وإذا أخذنا بالرأي الذي يقول بأن العقد بين غائبين يتم في مجلس إعلان القبول من القابل عندما يصله الإيجاب فإن المجلس ينتهي على هذا الرأي – بهذا الإعلان ويكون للموجب أن يستعمل خيار المجلس طوال الفترة التي تبدأ من إصدار إيجابه إلى ما قبيل إعلان القبول من القابل فإذا لم يستخدم هذا الخيار في هذه الفترة انفض المجلس وقد تم انعقاد العقد وعلى الموجب في هذه الحالة أن يثبت أنه أعلن خياره وصدره إلى القابل قبل إعلان القابل قبوله للعقد ولا يحتاج هنا – في رأيي – إلى إيصال الخيار إلى القابل قبل القبول لأن الخيار يتم بإرادة  العاقد المنفردة ولا يحتاج إلى رضا من الطرف الآخر ولكنه يحتاج إلى إرسال صحيح حتى يعرف القابل أن العقد لم يتم بسبب استعمال الخيار ولكن هذا الرأي – في نظري – غير صحيح لأكثر من سبب: 
فأولاً: هو يتعارض مع القياس على التعاقد بين حاضرين وهو الأصل.
ثانياً: يترتب عليه إسقاط خيار القابل حتماً ولا يبقى إلا خيار الموجب وهذا يتعارض مع الحديث الصحيح «المتبايعان  بالخيار...» فالخيار مقرر شرعاً لكل من العاقدين معاً وبيان ذلك: 
(1) أن الرأي السابق يتعارض مع القياس على الأصل وهو التعاقد بين حاضرين فهذا واضح من أنه في حالة التعاقد بين حاضرين يسمع كل من المتعاقدين كلام الآخر ولا يتم العقد إلا بسماع الموجب قبول القابل وقد تفطن بعض الحنفية لهذا المعنى وصرحوا به: [وشرط سماع كل ممن المتعاقدين عبارة الآخر حقيقة أو حكماً لأن الكتاب كالخطاب]( )وفي الدر المختار: [وشرط سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر: (قوله كل) أي ولو حكماً كالكتاب إلى غائبة لأن قراءته قائمة مقام الخطاب كما  مر ]( )وفي مجمع الأنهر: [وشرط لصحة النكاح سماع كل من العاقدين لفظ الآخر حقيقة أو حكماً]( ) ومن ثم فإن التعاقد بين الغائبين لا يتم إلا بوصول القبول إلى الموجب فعلاً كما يحصل في التعاقد بين حاضرين فهو لا يتم إلا بسماع الموجب كلام القابل لأنه لو قام الموجب قبل سماعه للقبول فلا يتم العقد والكتاب كالخطاب وبالتالي فإن مجلس العقد بين غائبين لا ينفض حكماً إلا بقيام الموجب من مجلسه الذي وصل فيه القبول إليه.
(2) فإن هذا الرأي الصحيح هو الذي يتيح الفرصة للقابل لكي يستعمل خياره وأما الرأي المخالف فهو يترتب عليه إسقاط خيار المجلس بعد تمام العقد ما دام العقد يتم وينفض المجلس حكماً بمجرد إعلان القابل لقبوله في مجلسه وأما على الرأي الذي يشترط سماع الموجب لقبول القابل فإن القابل له أن يستعمل خياره قبل قيام الموجب من مجلسه الذي سمع فيه قبول القابل.
ولكن قد يرد أصحاب الرأي المخالف بأن القابل يستطيع – طبقا لرأيهم – أن يستعمل خياره طوال فترة مجلسه الذي أعلمه فيه قبوله وتم به العقد ولكن هذه الحجة يضعفها أن الخيار هنا استعمل قبل أن يعلم الموجب بتمام العقد أصلاً. وأما في حالة تمام العقد بوصول القبول إلى الموجب فإن كلاً من المتعاقدين يكون قد علم بتمام العقد فإذا استعمل القابل خياره وصل هذا الخيار قبل وصول القبول إلى الموجب فإن هذا يكون بمثابة رجوع عن القبول واعتباره كأن لم يكن( ) وإذا وصل بعد وصول القبول وقبل انفضاض المجلس بقيام الموجب من مجلس وصول القبول إليه فإن هذا يكون استعمالاً للخيار من القابل.
وعلى هذا فإن الرأي الصحيح الذي يتفق مع الأصل وهو الخطاب (الكتاب يقاس على الخطاب) هو أن المجلس لا ينفض إلا بعد قيام الموجب من مجلسه الذي قرأ فيه قبول القابل وهذا الرأي هو الذي يتفق أيضاً مع سياق النص الشرعي كما أسلفنا.
64– مجلس العقد في العقود بين حاضرين والتي لا يشترط فيها اتحاد المجلس: 
وهذه العقود هي أنواع من العقود التي يجوز فيها تأخير القبول إلى ما بعد انفضاض المجلس أو يتحتم فيها تأخير القبول إلى ما بعد انفضاض المجلس لارتباطه بأمر آخر، فأما العقود التي يجوز فيها تأخير القبول فهي العقود غير اللازمة أو الجائزة: مثل الوكالة، والوديعة والجعالة والمسابقة والعارية والشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة( ) فهذه العقود يجوز أن يتراخي فيها القبول عن الإيجاب إلى مجلس آخر إذا ظل الموجب مصراً على إيجابه لأن القبول لو صدر في مجلس الإيجاب فهو غير ملزم بعد انفضاض المجلس ويستطيع الموجب – في أي وقت إذا كان العقد جائزاً بالنسبة للطرفين - أن يعدل عن إيجابه متى شاء إلا إذا تعلق بالعقد حق للغير فإنه يصير لازماً منذ هذا التعلق مثل الوكالة إذا تعلق بها حق للغير، كما إذا وكل الراهن وكيلاً في بيع الرهن عند حلول أجل الدين للوفاء بالدين من ثمن الرهن فليس للموكل عزل الوكيل مراعاة لحق الغير وهو هنا الدائن المرتهن( ) ومثاله في الهبة تصبح لازمة إذا وهب لابنه شيئاً فزوجه الناس بسبب هذه الهبة فاللزومهنا طرأ بسبب تعلق حق الغير بالهبة( )وقد تصبح هذه العقود لازمة لأسباب أخرى على خلاف بين الفقهاء ولا محل لذكرها الآن. والذي يهمنا هنا أن هذه العقود الجائزة طالما أنها لم تنقلب لازمة – حين العقد – فإن اتحاد المجلس لا يشترط لها ولذلك فإن مجلس العقد في هذه العقود يتأخر إلى حين صدور القبول ما دام الموجب مصراً على إيجابه، ولكن يلاحظ أنه بالنسبة لهذه العقود يجوز أن يصدر القبول في مجلس إصدار الإيجاب نفسه هذا ويوجد نوع آخر من العقود يتحتم بالنسبة لها تأخير القبول إلى ما بعد انفضاض مجلس الإيجاب ففي عقد الوصية لا يصح فيه القبول إذا صدر في مجلس الإيجاب لأن القبول لا يصح من الموصي له إلا بعد وفاة الموصي لأن الوصية تصرف مضاف إلى ما بعد الموت ومن ناحية أخرى فهي عقد غير لازم طوال حياة الموصي، وفي عقد الإيصاء فإن الموصى له لا يصير وصياً على الصغير ومن في حكمه إلا بعد وفاة الموصي.

المبحث الثاني
الركن الأول للعقد في القانون: التراضي
65– تمهيد – بيان أركان العقد في القانون( ) وطريقة تناولها في هذا البحث: 
يقرر شراح القانون أن العقد يقوم على توافق إرادتين على الأقل ويجب أن تتجه إرادة المتعاقد إلى غاية مشروعة فالعقد عندهم له ركنان: التراضي والسبب وأما المحل (المعقود عليه في الفقه الإسلامي) فهو عندهم ركن في الالتزام لا في العقد، وأهمية المحل تظهر بصفة خاصة في الالتزام الناشئ من العقد لأن محل الالتزام غير التعاقدي يتولى القانون تعيينه ولذلك فإن شرطه محدده في القانون، أما محل الالتزام في العقد فإن المتعاقدين هما اللذان يقومان بتعيينه فيجب عليهما أن يلتزما بالشروط التي يتطلبها القانون في المحل( ).
وأما العاقدان فإنه لا ينظر إليهما إلا من خلال إرادة كل منهما أي من خلال التراضي أو صيغة العقد فالبحث بشأنهما تابع لبحث ركن التراضي هذا وقد سبق أن رأينا أن الحنفية يذهبون إلى أن ركن العقد هو صيغة العقد التي يتكون منها الإيجاب والقبول أو الإيجاب وحده إذا كان العقد بالإرادة المنفردة ولكن الحنفية يبحثون أيضاً في الأمور الأخرى التي ليست ركناً عندهم لأنها خارجة عن ماهية العقد ولكن لا يتصور العقد بدونها وهذه الأمور هي العاقدان والمعقود عليه ولما كانت دراسة القانون في هذا البحث تابعة لدراسة الفقه الإسلامي فإننا سنقتصر في بحث ركن التراضي في القانون في هذا البحث على الجزء المقابل للركن الأول للعقد الإسلامي وهو الإيجاب والقبول وأما باقي أجزاء التراضي( ) في القانون فسنبحثها إن شاء الله تعالى مع ما يقابلها في الفقه حتى يسهل علينا المقارنة تحقيقاً للغرض المنشود من دراسة القانون وهو إبراز تفوق التشريع الإسلامي على القوانين الوضعية إحقاقاً للحق.
66– المقصود بالتراضي: 
يقصد بالتراضي – في القانون – تطابق إرادتين تتجهان لإحداث أثر قانوني معين هو إنشاء التزام معين. فالأثر القانوني لتطابق الإرادتين لا بد أن يكون إنشاء التزام معين فلا بد إذن من التعرف على الالتزام عند القانونيين.
67– المقصود بالالتزام وتطوره في القانون: 
نشأت فكرة الالتزام في القانون الروماني على أساس أنها رابطة قانونية أي يحميهما القانون تنشأ بين الدائن والمدين، وقد تطورت هذه الرابطة في القانون الروماني فنشأت في البداية على أنها سلطة تعطي للدائن على جسم مدينه لا على ماله وكان هذا هو الذي يميز بين ما يعرف بالحق العيني وما يعرف بالحق الشخصي في القانون الروماني فالحق العيني سلطة تعطى للشخص على شيء مثل سلطة مالك الدابة على دابته والحق الشخصي هو سلطة تعطى للشخص على شخص آخر أي سلطة الدائن على مدينه وكانت هذه السلطة واسعة يدخل فيها حق إعدام المدين وحق استرقاقه وحق التصرف فيه بسبب امتناعه عن سداد ديونه ثم خفف القانون من هذه السلطة فجعلها مقصورة على التنفيذ المدني بحبس المدين ولم يعرف القانون الروماني مبدأ الاقتصار على التنفيذ على مال المدين إلا بعد تطور طويل مرير ضج فيه العامة من سوء معاملة الدائنين لهم( ) وبعد هذا التطور أصبح الالتزام عند الرومان رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين وهو في الوقت نفسه يمثل عنصراً مالياً باعتباره حقاً لذمة الدائن وديناً في ذمة المدين ولكن هذا العنصر كان ضئيل الشأن في القانون الروماني وبذلك افترق الحق العيني – في القانون الرماني – عن الحق الشخصي فأصبح الأول سلطة للشخص على شيء مثل حق الملكية وأصبح الحق الشخصي رابطة بين شخصين: الدائن والمدين.
هذا وقد تأرجح الالتزام بين المذهبين: مذهب يغلب الجانب الشخصي له على الجانب المادي أي يعتبر أن الأمر الجوهري في الالتزام أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين وهذا هو مذهب القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم. والمذهب الثاني هو المذهب الذي يغلب الجانب المادي للالتزام أي يعتبر أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه يمثل عنصراً مالياً وهو محل الالتزام الذي ثبت في ذمة المدين بصرف النظر عن شخصية الدائن.
وبناء على ما تقدم فقد عرف أنصار المذهب الشخصي الالتزام بأنه رابطة أو علاقة قانونية ما بين شخصين بمقتضاها يكون لأحدهما وهو الدائن الحق في تقاضي شيء معين من الآخر وهو المدين( ) وأما الالتزام طبقاً لأنصار المذهب المادي فهو حق مالي ترتب في ذمة المدين بصرف النظر عن شخصية الدائن وإلىجانب هذين المذهبين ظهر في الوقت الحالي مذهب وسط جمع بين النظرة الشخصية والنظرية المادية للالتزام وقد أخذ بهذا المذهب الوسط القانون المدني المصري الحالي الصادر في عام سنه 1949.
ويحسن قبل أن نفصل مسلك القانون المدني المصري الحالي أن نوضح الآثار التي تترتب على كل من المذهب الشخصي للالتزام والمذهب المادي له.
فأما الآثار التي تترتب على المذهب الشخصي فهي أن الالتزام الناشئ عن العقد يقوم على الإرادة المشتركة للطرفين ومن ثم فلا بد أن تكون الإرادة حرة مختارة لا غلط يشوبها ولا تدليس ولا أكراه يعيبها ولا استغلال.
وأما الآثار التي ترتب على المذهب المادي فهي السماح بنشؤء الالتزام بإرادة منفردة بدون دائن فيستند الالتزام إلى المدين وحده مثل التزام الواعد بجائزة والتزام من يوقع السند لحامله وانتقال الالتزام عن طريق الحوالة الدين بحالته رغم تغير المدين فهذه الالتزامات ما كانت لتنشأ لو اقتصرنا على اعتبار الالتزام رابطة بين شخصين فهذه الالتزامات لا تصح إلا إذا اعتبرنا الالتزام بمحله أي جعلنا لمحل الالتزام قيمة أصلية بصرف النظر عن الرابطة بين الشخصين.هذا وقد جاء القانون المدني المصري الحالي جامعاً بين آثار النظرة الشخصية والنظرة المادية للالتزام فاعتبر أنه توسط بين المذهبين( ) وبناء على هذا المذهب يعرف بعض شراح القانون الالتزام بأنه [حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين بنقل حق عيني أو القيام بعمل أو بالامتناع عن عمل]( ).
68– مقارنة بين الالتزام في الفقه الإسلامي والالتزام في القانون: 
لقد سبق ورأينا( ) أن الالتزام نادر الاستعمال في الفقه الإسلامي فالفقهاء يستخدمون كلمة الحق سواء في جانب المدين أو في جانب الدائن فيقولون هذا حق له وهذا حق عليه، واللفظ النادر الاستعمال في الفقه يرجع فيه إلى معناه في اللغة لأن هذه الندرة تنفي عنه المعنى الاصطلاحي والالتزام لغة معناه الثبوت والوجوب، والحق في اللغة له عدة معان ترجع كلها إلى الثبوت والوجوب. ويلاحظ أن الالتزام يختلف عن الإلزام، فالالتزام معناه أن يوجب الإنسان أمراً على نفسه بإرادته، والإلزام معناه إيجاب أمر على إنسان بغير إرادته وهذا يكون بإلزام الشارع للمكلف، ولكن الالتزام في الاصطلاح القانوني يشمل الحالتين معاً أي سواء أكان إيجاب الأمر على الإنسان اختيارياً كما في العقد أم إجبارياً كما في الالتزام الناشئ عن القانون مباشرة.
هذا ويرى شراح القانون أن المعقود عليه في العقد وهو المحل إنما هو محل الالتزام الناشئ عن العقد وليس محل العقد. فمحل الالتزام هو الشيء الذي يلتزم المتعاقد بالقيام به وقد سبق أن رأينا أن الالتزام إما أن ينصب على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو نقل حق عيني ويرى شراح القانون أنه لما كان الالتزام بنقل حق عيني هو في حقيقته التزام بعمل ولما كان الأصل في هذا الالتزام أن يتم تنفيذه بمجرد نشوئه فقد صار من المألوف أن يقال إن محل الالتزام بنقل حق عيني هو هذا الحق ذاته فإذا كان الحق العيني حق ملكية امتزج بالشيء المملوك وأصبح شيئاً واحداً فصار الالتزام بنقل الملكية محله هو الشيء ذاته الذي تنتقل ملكيته( ).
هذا ومما يجب أن يلاحظ أن الفقهاء لم يستعملوا كلمة محل العقد فهذا استعمال علماء الشريعة المعاصرين وأما الفقهاء فقد استخدموا اصطلاح المعقود عليه ففي البدائع يقول الكاساني بخصوص عقدا البيع: [وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع ]( ) وجاء في نهاية المحتاج بخصوص البيع: [وقد رتبها على هذا الترتيب مبتدئا منها بالكلام على الأركان وهي عاقد ومعقود عليه وصيغة ]( )– فالمعقود عليه ركن في العقد عند المالكية والشافعية والحنابلة وهو عند الحنفية لا يتصور العقد بدونه وإن كان ليس ركناً لأن الركن في اصطلاحهم لا بد أن يكون من ماهية الشيء، وماهية العقد هي الصيغة فقط وأما الركن عند الأئمة الثلاثة الآخرين فهو ما لا يتصور الشيء بدونه سواء أكان داخلاً في الماهية أم خارجاً عنها ويتضح مما تقدم أن الالتزام الناشئ عن العقد في القانون وهو الذي يشتمل على المحل يقابل المعقود عليه الذي يعتبر ركناً في العقد عند المالكية والشافعية والحنابلة وأما عند الحنفية فهو لا يتصور العقد بدونه ولكنه ليس ركناً لأن الركن عند الحنفية لا بد أن يكون من ماهية الشيء.
وفي الفقه الإسلامي يترتب على كل عقد حكم خاص به بأمر الشارع فحكم عقد البيع هو نقل ملكية كل من الشيء المبيع والثمن وحكم عقد الإجارة نقل ملكية كل من المنفعة والأجرة ولكل عقد حقوق تتعلق بحكمه فهي تمثل مجموع الالتزامات والمطالبات التي تؤكد حكم العقد وتنفيذه( ) مثل الالتزام بتسليم المبيع وأداء الثمن بضمان خلو المعقود عليه من العيوب وهكذا ويلاحظ هنا أن الفقه الإسلامي لم يستعمل اصطلاح الالتزامات وإنما اكتفى باصطلاح الحقوق أي حقوق العقد وهي حقوق ملزمة وعبر عن الإلزام بالإجبار وفي هذا يقول ابن قدامة: [وإن اختلفا في التسليم فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع ثم  أجبر المشتري على تسليم الثمن... وقال أبو حنفية ومالك: يجبر المشتري على تسليم الثمن لأن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالرهن]( ) فهذا خلاف بين الفقهاء في مدى الحق في الحبس وهو لا يهمنا الآن ولكن الذي يهمنا هو تعبير الفقهاء عن التزام البائع بتسليم الشيء المبيع بالإجبار وكذلك عن التزام المشتري بتسليم الثمن، والإجبار هو الإلزام ولكن الفقهاء كما ذكرنا من قبل درجوا على التعبير بالحق بدلاً من الالتزام، ويلاحظ أيضاً أن الفقهاء قد يعبرون عن هذه الحقوق بهذا التعبير (شروط مقتضى العقد) ومقتضى العقد هو حكمه وشروط مقتضى العقد هي حقوق العقد إذا اشترطها المتعاقدان من باب التأكيد لأن شرطها كعدمها إذ أنها لازمة بموجب العقد وفي هذا يقول ابن قدامة: [والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام أحدها: ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكماً ولا يؤثر في العقد]( )ومن هذا نجد أن الفقهاء يعبرون عن حكم العقد بمقتضاه ويعبرون عن حقوق العقد شروط مقتضى العقد إذا اشتراط المتعاقدان هذه الشروط التي هي أصلاً من مقتضى العقد أي تابعة لحكمه فلا حاجة لاشتراطها وهنا تبرز دقة الفقه الإسلامي في تصور العقد وفي تعبيره عن هذا التصور على حين أن القانون وقع في خلط بين الأثر الأصلي المترتب على العقد بقوة القانون «وهو يقابل حكم العقد بقوة الشرع» وبين الالتزامات المترتبة على العقد وهي آثار تابعة للأثر الأصلي ونضرب مثالاً لذلك بعقد البيع في القانون المدني المصري فإن المادة 418 منه تنص على الآتي: [البيع عقد يلتزم به البائع أن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حقاً مالياً آخر في مقابل ثمن نقدي] فالقانون وقع في خلط معيب للغاية لأنه تكلم عن حكم العقد وهو الأثر الأصلي الذي يترتب على العقد وكأنه لم يقع بعد فنقل ملكية المبيع إلى المشتري ونقل ملكية الثمن إلى البائع يتم بمجرد العقد وأما ما يلتزم به المتعاقدان فهو تنفيذ ما يترتب على هذا الأثر أو الحكم.
ولكن يجب أن يلاحظ هنا أن نص المادة 418 مدني لا يمكن فهمه على حقيقته إلا من خلال نص المادة 304 مدني (الواردة  ضمن باب آثار الالتزام) فقد نصت هذه المادة على الآتي: [الالتزام بنقل الملكية أو أي حق عيني آخر ينقل من تلقاء نفسه هذا الحق إذا كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات يملكه الملتزم وذلك دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل].
وطبقا لهذا النص الوارد في آثار الالتزام بصفة عامة فإن نص المادة 418 مدني يفيد بأن الالتزام بنقل الملكية الناشئ عن عقد البيع ينفذ فوراً بمجرد العقد بقوة القانون أي أن حكم عقد البيع – أصلاً– هو نقل الملكية فور العقد فما الداعي إذن إلى ذكر هذا الالتزام بنقل الملكية ما دامت الملكية تنتقل فور العقد؟ يجيب على هذا السؤال شراح القانون بقولهم: [ويلاحظ أن التقنين الجديد سار على النظرية التقليدية من أن نقل الملكية يسبقه التزام بنقلها وهذا الالتزام يتم تنفيذه من تلقاء نفسه فتنتقل الملكية إلى الدائن بحكم القانون وينقضي الالتزام بنقل الملكية بمجرد نشوئه وهذا الوضع بقية تخلفت عن تقاليد القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم حيث كانت الملكية لا تنتقل بالعقد( ).
هذا ولقد تفطن بعض شراح القانون  إلى هذا التناقض ومن هؤلاء [bonnecase بونكاز فقد قرر أنه لا يوجد اليوم ما يمنع من القول بأن العقد ذاته ينقل الملكية دون افتراض التزام موهوم يسبق نقل الملكية وينقضي بمجرد أن ينشأ]( ).
ومن هذا يتضح لنا أن الفقه الإسلامي قد عبر بدقة عن آثار العقد في الوقت الذي كان فيه القانون الروماني لا يعرف التصور الصحيح للعقد وهو لم يعرفه أبداً بل إن القوانين الأوروبية التي نشأت عن القانون الروماني لم تعرف هذا التصور الصحيح وقد ظهر في العصر الحديث من شراح القانون من ينادي بالتصور الصحيح للعقد طبقاً لما سبق إليه الفقه الإسلامي فقد نقل السنهوري عن بونكاز – كما أسلفنا أن العقد ذاته ينقل الملكية – وهذا هو ما يعبر عنه الفقه بأن حكم عقد البيع هو نقل الملكية دون ذكر أي التزام في هذا الشأن لأن النقل يتم بأمر الشارع أي بقوة النص الشرعي وأما الالتزام الناشئ عن العقد فهو الالتزام بتسليم الشيء المبيع والالتزام بتسليم الثمن ولذلك فإنه ليس صحيحاً ما يذهب إليه شراح القانون من أن البائع يلتزم بنقل حق عيني فهذا تعبير فاسد باعتراف شراح القانون أنفسهم وهو من مخلفات القانون الروماني البالية فالبائع ملتزم بتسليم الشيء المبيع والمشتري ملتزم بتسليم الثمن وهذا هو ما عبر عنه الفقهاء بدقة بأنه حقوق العقد التي تؤكد حكمه وهو نقل الملكية. ومن ثم فإنه ليس صحيحاً ما يذهب إليه شراح القانون من أن المحل (المعقود عليه) إنما هو محل في الالتزام الناشئ عن العقد فالصحيح أن المعقود عليه هو محل العقد ذاته وأما الالتزام فمحله هو القيام بتنفيذ متطلبات حكم العقد أي تسليم محل العقد ومن هذا يتضح لنا أن الفقه الإسلامي جاء دقيقاً في تعبيراته وأن القانون الوضعي – في أرقى صوره المعاصرة – لا يزال إلى الآن بعيداً عن الدقة بسبب خضوعه للبقايا البالية التي ورثها عن القانون الروماني.
69 -  توافق الإرادتين: الإيجاب والقبول: 
لا بد حتى يتم التراضي في القانون أن يصدر إيجاب من أي من المتعاقدين يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر – والقانون كما قدمنا لا يعرف العقد بالإرادة المفردة.هذا وقد يصدر الإيجاب مع تعيين موعد للقبول وفي هذه الحالة يلتزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الموعد وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة التعامل (م 93 مدني مصري) ومثال استخلاص الميعاد من طبيعة التعامل أن يعرض الموجب آلة يملكها للبيع تحت شرط التجربة فهذا الإيجاب يتضمن أنه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة.. وعلى هذا يبقى إيجاب الموجب ملزماً له طوال المدة المقررة صراحة أو ضمناً ما لم يرفض الموجب له الإيجاب فيسقط.
وإذا صدر الإيجاب بدون تحديد مدة (صراحة أو ضمناً) فإنه يكون غير ملزم لصاحبه أي يكون للموجب أن يعدل عنه قبل انفضاض مجلس العقد وإذا ظل مصراً عليه فإنه يسقط بانفضاض مجلس العقد، وعلى هذا إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه وصدر القبول قبل أن ينفض مجلس العقد فإن العقد يتم (م 94 مدني مصري). ويلاحظ هنا أن القانون المدني المصري قد أخذ بقاعدة مجلس العقد عن الفقه الإسلامي ذلك أن القوانين الوضعية الحديثة والقديمة لا تعرف مجلس العقد بالمعنى الدقيق الذي عرفه الفقه الإسلامي فالقوانين الحديثة وهي التي نظمت تفاصيل الإيجاب والقبول تنص على أن القبول لا بد أن يصدر فوراً بمجرد صدور الإيجاب( )أي أن الإيجاب لا يكاد يقوم حتى يسقط( ) وهي في الوقت نفسه لا تعرف خيار المجلس ويقرر واضع مشروع القانون المدني المصري (السنهوري) أن القانون هنا قد استفاد من المذهب الحنفي الذي لم يأخذ بخيار المجلس ولكنه أجاز للموجب أن يؤخر قبوله إلى ما قبل انفضاض مجلس العقد، وقد أخذ القانون المصري هنا في  تحديد مجلس العقد بما ذهب إليه أبو حنفية( )ومن نحا نحوه من أن المجلس قد ينفض قبل التفرق بالأبدان إذا انشغل أحد العاقدين بأمر آخر غير العقد ففي هذه الحالة ينفض المجلس.
هذا ولا بد أن يطابق القبول الإيجاب أي يكون القابل متفقاً كل الاتفاق مع الموجب في جميع المسائل التي تناولها الإيجاب فإذا اختلف عنه زيادة أو نقصاً أو تعديلاً فإن هذا القبول يعتبر في الحقيقة رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً(م 96مدني مصري)ولكن القانون المصري نص أيضاً على أنه إذااتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها اعتبر العقد قد تم وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق  عليها فإن المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة] (م 95 مدني مصري) ولكن يشترط هنا الاتفاق على المسائل الجوهرية في العقد أي أركانه كاملة على الأقل ففي عقد الإيجار لا بد من التراضي على العين المؤجرة والأجرة والمدة ولكن قد يسكتان عن تحديد من الذي يتحمل بضريبة الخفر وأجرة الحارس أو اشتراك المياه وقد أباح لهما القانون أن يبرما العقد مع إرجاء النظر في هذه الأمور التفصيلية غير المؤثرة فإذا قام – بعد إبرام العقد – خلاف حول هذه الأمور الثانوية فإن القاضي هنا يفصل في هذه الأمور مسترشداً في ذلك بطبيعة المعاملة وأحكام القانون والعرف والعدالة والقاضي هنا يبحث عن نية المتعاقدين في ضوء هذه الأصول فإذا تبين للقاضي أن نيتهما لم تنصرف إلى تمام العقد بدون الاتفاق على هذه المسائل المسكوت عنها فإنه يتحتم على القاضي في هذه الحالة أن يقضي بعدم تمام العقد.
70– التعبير عن الإرادة الصريح والتعبير الضمني: 
نص القانون المصري على أن [1- التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفاً كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود 2- ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنياً إذا لم ينص القانون أو يتفق الطرفان على أن يكون صريحاً] (م 90) وقد اعتبر القانون من أنواع التعبير الصريح اتخاذ أي موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود وضرب المشروع التمهيدي( ) للقانون مثالاً لذلك عرض البضائع مع بيان ثمنها إيجاباً فهذا من قبيل التعبير الصريح لأنه لا يتحمل تأويلاً، ومن هنا أيضاً وقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك فهذا إيجاب صريح معروض على الجمهور ومنه أيضاً وضع آلة ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو لتوزيع طوابع البريد فكل هذا يعتبر تعبيراً صريحاً( ) ويلاحظ أن هذه الأمثلة تسمى في الفقه الإسلامي التعاقد بالتعاطي وقد جوزها جمهور الفقهاء( )على أساس أن الفعل يقوم مقام اللفظ.
ويكون التعبير عن الإرادة ضمنياً: ( ) [إذا كان المظهر الذي اتخذه المتعاقد ليس في ذاته موضوعاً للكشف عن الإرادة ولكنه مع ذلك يمكن تفسيره دون أن يفترض وجود هذه الإرادة مثال ذلك أن يتصرف شخص في شيء ليس له ولكن عرض عليه أن يشتريه فذلك دليل على أنه قبل الشراء إذ يتصرف تصرف المالك، وكالموعود بالبيع يرتب حقاً على العين الموعود ببيعها وكالدائن يسلم سند الدين للمدين فهذا دليل على أنه أراد انقضاء الدين مالم يثبت عكس ذلك، وكالمستأجر يبقى في العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار ويصدر منه عمل يفهم على أنه يراد به تحديد الإيجار كالوكيل يقبل الوكالة تنفيذها ].
71– تأرجح القوانين الوضعية بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة: 
الأصل أن إرادة المتعاقد الظاهرة وهي التعبير الصادر منه لا تختلف عن إرادته الباطنة وهي النية التي في صدره ولا يعلمها إلا الله تعالى. وإذا لم يحصل اختلاف بين العبارة والنية أو بين الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة فلا إشكال في الأمر فسيان الأخذ بالإرادة الظاهرة أو الإرادة الباطنة ما دامت الاثنتان متطابقتان ولكن قد تختلف الإرادتان كما إذا وقع شخص على عقد مطبوع يتضمن شرطاً كان لا يقبله لو فطن له، وكمن يخطىء في التوصية على شراء أثاث منزلي بطريق التأشير على بيان مطبوع يقدمه له البائع فيؤشر خطأ على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة الطعام وفي هذه الحالة تجد أن القوانين اللاتينية (أي التي ورثت القانون الروماني) تأخذ بمبدأ تغليب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة ولكن القانون الألماني الحديث (سنة 1904) يغلب الإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة وهو في هذا متأثر ولا ريب بشراح القانون الألماني الذين نادوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي بتغليب الإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة( ) هذا وتقوم نظرية الإرادة الباطنة على أساس أن التعبير عن الإرادة ليس إلا قرينة عليها قابلة لإثبات العكس فإذا قام دليل خارج عن العبارة على أن هذه العبارة تتعارض مع ما في النفس أي مع الإرادة الباطنة فالعبرة بالباطنة دون الظاهرة، وإذا تعذر الوصول إلى معرفة الإرادة الباطنة عن طريق الجزم فعلى القاضي أن يتوصل إلى معرفة الإرادة الباطنة عن طريق الافتراض فالإرادة الباطنة إما حقيقية وإما افتراضية أو حكمية وأما نظرية الإرادة الظاهرة فهي تقوم على أساس أن التعبير الخارجي عن الإرادة هو الأصل فيجب الوقوف عنده فالأصل في ظل هذه النظرية أن لا يجوز لشخص أن يدعى أنه أضمر خلاف ما أظهر فالعبارة الظاهرة دليل على الإرادة الباطنة لا يقبل إثبات العكس( )هذا وقد وقف القانون المدني المصري موقفاً وسطاً بين القوانين اللاتينية والقوانين الجرمانية، فهو يأخذ بالإرادة الباطنة وبالإرادة الظاهرة معاً إذ هو يغلب الإرادة الظاهرة في بعض الأحيان ويغلب الإرادة الباطنة في أحوال  أخرى ففي تكوين العقد ينص القانون (في المادة 91) على  أن [التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه] ويترتب على تطبيق هذا النص العام على أن من وجه إليه الإيجاب فقبله ثم عدل ولكن القبول وصل إلى علم الموجب قبل أن يصل إليه العدول فهو يرتبط بالعقد لا على أساس إرادته الحقيقية التي عدل عنها بل على أساس إرادته الظاهرة وهي وحدها التي اقترن بها الإيجاب وتنص المادة (92) على أنه [إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره فإن ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجه إليه] ولا يستقيم هذا الحكم على أساس الإرادة الباطنة لأن هذه الإرادة تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليته فهو يقوم على أساس الإرادة الظاهرة التي انفصلت عن صاحبها فأصبحت مستقلة عنه وتبقى حتى بعد موته أو بعد فقده لأهليته( ) وينص القانون المصري (م 120) على أن غلط أحد المتعاقدين لا يكون سبباً في إبطال العقد إلا إذا كان المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط ذاته أو كان على علم به أو كان من السهل عليه أن يتبينه فعلى هذا لا يستطيع المتعاقد الذي يدعي الوقوع في الغلط أن يحتج بإرادته الباطنة (الحقيقية) إلا إذا أثبت أن المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط ذاته أو كان على علم بوقوع المدعي في هذا الغلط أو لم يعلم به ولكنه كان من السهل عليه أن يتبينه فإذا لم يثبت ذلك فإن العقد يكون صحيحاً على أساس الإرادة الظاهرة التي اطمأن إليها المتعاقد الآخر ولم يكن من السهل عليه أن يتبين الإرادة الباطنة لمن تعاقد معه.
وينص القانون أيضاً(م 126) على أنه إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا التدليس. وينص أيضاً(م 128) على مثل ذلك في حالة صدور الإكراه من غير المتعاقدين وفي هذه الحالات يكون العقد صحيحاً على أساس الإرادة الظاهرة التي اعتمد عليها المتعاقد الآخر الذي لم يعلم بالتدليس أو الإكراه وليس على أساس الإرادة الحقيقية للمتعاقد الأول لأن هذه الإرادة قد أفسدها التدليس أو الإكراه( ) وفي تفسير العقد تنص المادة 150 مدني مصري على أنه: [إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين] ومعنى ذلك أنه إذا كانت العبارة واضحة فلا يجوز البحث عن الإرادة الباطنة وهذا تغليب للإرادة الظاهرة ولكن إذا كانت عبارة العقد غير واضحة فقد نصت (م 150/2) على أنه [إذا كان هناك محل لتفسير العقد فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف في المعاملات] فهنا يأخذ القانون بالإرادة الباطنة ولكن يضع معايير موضوعية للوصول إلى معرفة هذه الإرادة الباطنة، ومن هذا يتضح أن القانون المدني المصري قد ابتعد عن القانون الفرنسي (ذي الأصل الروماني) وسار مع القوانين اللاتينية الحديثة نحو الإرادة الظاهرة مع احتفاظه في الوقت نفسه بالإرادة الباطنة في بعض الأحوال ولذلك فهو ما يزال يخالف القانون الألماني والقوانين الجرمانية الأخرى التي تعتبر الإرادة الظاهرة الداخلية وهو دليل لا يقبل إثبات العكس إلا إذا ثبت أن هذه الإرادة الظاهرة ليس لها وجود حقيقي ومثال ذلك أن تكون الإرادة المكتوبة لا وجود لها لأنها مزورة.
72– تأثر القوانين الحديثة بالفقه الإسلامي فيما يتعلق بالإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة: 
سبق أن ذكرنا( ) أن فقهاء الإسلام اختلفوا في مسألة تغليب النية على العبارة أو العكس وقد تزعم الإمام الشافعي قاعدة تغليب العبارة على النية أي الإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة فهو يجعل الإرادة الظاهرة دليلاً على الإرادة الباطنة لا يقبل إثبات العكس بأية قرينة منفصلة عن العبارة فلا يمكن إثبات النية عنده إلا عن طريق العبارة ذاتها. وقد رأينا القانون الألماني الحديث الصادر سنة 1904 قد أخذ بالقاعدة التي نادى بها الإمام الشافعي تماماً منذ أكثر من ألف سنة والحنفية قريبون من الشافعية في هذا الأمر وذهب المالكية والحنابلة إلى الأخذ بالنية أي بالإرادة الباطنة مع وضع معايير موضوعية للوصول إلى معرفة هذه الإرادة( ) ونجد هذا واضحاً في المسألة التي أوردها الخرقي من الحنابلة وهي [بيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل] وفي هذه المسألة يقول ابن قدامة: [إذا ثبت هذا فإنه يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك]( )ومن هذا نجد أن ابن قدامه يصرح بأن النية أو الإرادة الباطنة يمكن إثباتها- عن طريق العبارة – بقرائن منفصلة عن العبارة تدل على ذلك ويوضح ابن قدامة هذه القرائن قائلاً [وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار]( )فبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة فهذه كلها قرائن ومعايير موضوعية تجعل من المفروض على البائع أن يعلم بالقصد غير المشروع للمشتري فيبطل بذلك العقد بهذه القرائن المنفصلة عن العبارة.
هذا وقد جاء كلام المالكية متفقاً مع ما ذكره ابن قدامة ففي حاشية الدسوقي يقول: [قوله كبيع جارية لأهل الفساد)أو بيع أرض لتتخذ كنسية أو خمارة والخشبة لمن يتخذها صليباً والعنب لمن يعصره خمراً والنحاس لمن يتخذه ناقوساً وكذا يمنع أن يباع للحربيين آله الحرب من سلاح أو كراع أو سرج وكل ما يتقون به في الحرب]( ) فإذا رجعنا إلى شراح القانون في هذه المسألة نجد أنهم يصرحون بأن هناك نظريتين للسبب في القانون وهما نظرية السبب التقليدية المتأثرة بالقانون الروماني ونظرية السبب الحديثة التي ظهرت في القوانين الحديثة مثل القانون المدني المصري.
فالسبب طبقاً للنظرية التقليدية هو الغرض المباشر المقصود في العقد ففي العقود الملزمة للجانبين سبب التزام كل من المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر وفي العقود الملزمة لجانب واحد (إذا كانت عينية كالقرض والعارية مثلاً) سبب التزام المتعاقد (المقرض مثلاً) هو تسليمه الشيء محل التعاقد فالنظرية التقليدية (الرومانية الأصل) لا شأن لها بالباعث على التعاقد( ).
وأما السبب في النظرية الحديثة فهو الباعث الدافع إلى التعاقد فإذا الباعث على التعاقد غير مشروع فإنه يبطل العقد إذا كان معلوماً من الطرف الآخر( ) ويلاحظ أن هذا السبب في النظرية القانونية الحديثة هو ما ذكره المالكية والحنابلة بعينه في حالة ما إذا كان القصد من العقد غير مشروع واشترطوا أن يكون معلوماً للعاقد الآخر.
وفي رأيي أن هذا التحول الذي ظهر في القوانين الحديثة هو من مظاهر التأثر بالفقه الإسلامي الذي أحاط بدول أوروبا من المغرب ومن المشرق فمن جهة المغرب تأثر علماء القانون بالفقه المالكي الذي ساد في بلاد الأندلس قروناً عديدة وظهر إلى جانبه الفقه الشافعي أيضاً ومن جهة المشرق نجد أن الفقه الحنفي ساد في الدولة العثمانية ونحن لا نشك في أن شرح القانون قد استفادوا كثيراً من الفقه الإسلامي وعرفوه عن طريق بلاد الأندلس غرباً والدول العثمانية شرقاً وكانت النتيجة على سبيل المثال هذا التشابه العجيب بين ما ذكره الدسوقي في حاشيته وابن قدامة في المغني وبين ما يقوله شراح القانون الآن عن نظرية السبب الحديثة وهو بمعنى الباعث على التعاقد وهي مرتبطة ولا ريب بفكرتي الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة. وقد أخذت القوانين الجرمانية بمذهب الإمام الشافعي (والحنفية) في الإرادة الظاهرة وأخذت القوانين اللاتينية الحديثة بمذهب المالكية والحنابلة في التعرف على الإرادة الباطنة عن طريق معايير موضوعية في صورة قرائن منفصلة عن العبارة.
هذا ويلاحظ أن شراح القانون يعزون ظهور فكرة السبب الحديثة (بمعنى الباعث) إلى القضاء الفرنسي الذي تأثر بآراء رجال الكنيسة في السبب وفي ذلك يقول السنهوري: [هذا هو عمل الفقهاء من رجال الكنيسة إليه وحده يعود الفضل الأكبر في إيجاد النظرية الصحيحة للسبب وقد تبع رجال الكنيسة في نظريتهم هذه بعض الفقهاء المدنيين من أمثال لوازيل وديمولان فقالوا بالإرادة وحدها مصدراً لتكوين العقد واصلين في هذا ما بين الإرادة والسبب وجاعلين للسبب المعنى الذي فهمه فقهاء الكنيسة]( ) ومما يلاحظ على هذا الاتجاه أن القوانين الأوروبية الحديثة ظهرت بعد أن انتهى تماماً سلطان الكنيسة وبعد أن نادى المفكرون في أوروبا بفصل الدين عن الدنيا، ومن جهة أخرى فإن القول بوجود فقهاء كنسيين محل نظر لأن النصرانية جاءت بمواعظ دينية، وقد حرف رجال الكنيسة ما أنزلة الله تعالى على المسيح عليه السلام فزعموا أن التجارة تتعارض مع الدين ومع تقوى الله عز وجل وزعمت الكنيسة أن الابتعاد عن الزواج هو الطريق الأمثل للوصول إلى الله تعالى وحاربت العلوم التجريبية أي التي تعتمد على المشاهدة والتجربة والبحث في الأرض والكون بصفة عامة واعتبرت هذا مروقاً من الدين( ) وبذلك فصل الدين عن الدنيا فمن غير المعقول أن يتأثر القضاء الفرنسي في القرن التاسع عشر بالكنيسة بعد فصلها تماماً عن الدنيا ويلاحظ فوق ما تقدم أن شراح القانون نادوا بالمعايير الموضوعية التي نادى بها الفقه الإسلامي للتعرف على الإرادة الباطنة كما رأينا وهذه المعايير لا تعرفها الكنيسة.
ومن هذا يتضح أن القوانين الحديثة تأثرت تأثراً واضحاً بما جاء به الفقه الإسلامي منذ ألف عام من أحكام تتعلق بتحديد عبارة العقد وكيفية التعرف على النية المختفية وراء العبارة وقد ظهر هذا جلياً في نظرية السبب بمعنى الباعث في القوانين الحديثة وفي الغلط الذي يقع فيه المتعاقد والتدليس والإكراه، وفي تفسير عبارتي العقد الواضحة( ) وغير الواضحة هذا وليس غريباً أن يتأثر القانون الألماني بالمذهبين الحنفي والشافعي وأن تتأثر القوانين اللاتينية الحديثة بالمذهب المالكي، وذلك أن المذهب الحنفي هو السائد إلى الآن في تركيا ويليه المذهب الشافعي واتصال تركيا بألمانيا معروف( ) وأما المذهب المالكي فهو المذهب الذي ساد في بلاد الأندلس (أسبانيا الآن) عدة قرون وهي البلاد التي تدور في الفلك اللاتيني.
73– تحديد الوقت الذي ينتج فيه التعبير عن الإرادة أثره: 
تنص المادة 91 من القانون المدني المصري الحديث – الذي يعتبر نموذجاً للقوانين الحديثة على الآتي: [ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك].
فلا بد – لكي يتم العقد – أن يعلم الموجب بقبول القابل فلا يكفي علم القابل بالإيجاب وقبوله بل لا بد من أن يعلم الموجب أيضاً بهذا القبول وتبدو أهميه هذه القاعدة بالنسبة إلى التعاقد بالمراسلة بين غائبين، لأنه في حالة التعاقد بين الحاضرين في مجلس واحد فإن كلاً من الموجب والقابل يسمع كلام الآخر وقت صدوره وقد قطع القانون المصري الحديث في هذه المسألة.
وقد جاء القانون المدني السوري الحديث مخالفاً لهذه القاعدة إذ أنه جعل التعاقد فيما بين الغائبين (بالمراسلة) يتم في المكان الذي صدر فيه القبول لا في المكان الذي علم فيه الموجب بالقبول.
هذا وقد نص القانون المصري في المادة 92 منه على أنه: [إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره فإن ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجه إليه هذا ما لم يتبين العكس من التعبير أو من طبيعة التعامل] وهذا حكم مستحدث إذ أن القضاء المصري في ظل القانون المدني القديم: (الصادر في القرن الميلادي الماضي)كان يجري على أن موت العاقد أو فقده لأهليته قبل أن تنتج الإرادة أثرها يستتبع سقوط الإرادة( )ولكن القانون المدني الحديث استحدث هذا الحكم الذي جعل الإرادة تبقى بعد موت صاحبها القابل أو فقده لأهليته وذلك بعد أن يكون القبول قد صدر منه فعلاً قبل موته ثم مات قبل أن يصل هذا القبول إلى علم الموجب، وبناء على ذلك فإنه: [يجب على ورثة القابل في هذه الحالة (وعلى القيم في حالة فقد الأهلية) وقد تم العقد أن يقوموا بتنفيذه في الحدود التي تلتزم بها الورثة بعقود مورثهم وغني عن البيان أن العقد لا يتم في المثل المتقدم إذا تبين من الإيجاب أو من طبيعة التعامل أن شخص القابل هو محل اعتبار]( ) ويكون شخص القابل محل الاعتبار إذا كان مهندساً مثلاً أو طبيباً والعقد يتطلب استخدام خبرته الهندسية أو الطبية ويجب أن يلاحظ أن هذا الحكم يقتصر على حالة موت القابل (أو فقده لأهليته) بعد صدور القبول منه وقبل علم الموجب به ولكن إذا كان الموت أو فقده الأهلية قد لحق بالموجب قبل وصول القبول إلى علمه فإن العقد لن يتم ما دام القانون اشترط لتمام العقد أن يصل التعبير عن الإرادة (قبولاً أو إيجاباً) إلى علم من وجه إليه ففي حالة موت الموجب قبل أن يصل إلى  علمه القبول فإن العقد لن يتم وأما في حالة موت القابل قبل أن يصل القبول إلى علم الموجب فإن القبول سيصل إلى علم الموجب وقد جعل القانون في هذه الحالة لإرادة القابل وجوداً حكمياً رغم موته.
74– تحديد وقت تمام العقد بالمرسلة بين غائبين: 
حدد القانون المدني المصري الحديث هذا الوقت تطبيقاً للقاعدة آنفة الذكر (م 91) وهي أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه فنصت المادة 97 على الآتي: [1- يعتبر التعاقد بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك 2- ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل القبول إليه فيهما هذا القبول] فالأصل هو علم الموجب بالقبول ويعتبر وصول القبول إليه قرينة على علمه به ولكنها قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس من الموجب، وهذا النص من جهة أخرى ليس أمراً فهو مفسر لإرادة المتعاقدين، يدل على ذلك ما جاء بالمادة «ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يدل على غير ذلك» أي يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على تحديد مكان وزمان لإتمام العقد غير مجلس علم الموجب بالقبول.
وبذلك يكون القانون المصري الحديث قد اختار مذهب العلم بالقبول لتمام العقد، هذا وقد تأرجحت، القوانين المختلفة بين أربعة مذاهب: 1- مذهب إعلان القبول أي مجرد إعلان القابل قبوله للإيجاب. 2- مذهب تصدير القبول أي قيام القابل بتصدير القبول فعلاً إلى الموجب بإرسال رسول أو برقية أو خطاب بالبريد. 3- مذهب تسليم القبول: أي تسليم القبول للموجب بصرف النظر عن علمه به أو عدم علمه. 4- مذهب العلم بالقبول.
وقد أخذ كل من القانون الألماني والقانون الأسباني والقانون الإيطالي بمذهب العلم بالقبول.
وأخذ قانون الالتزامات السويسري بمذهب تصدير القبول وأخذ القانون السوري بمذهب إعلان القبول.
75– مقارنة بين وقت تمام العقد بالمراسلة في الفقه الإسلامي وبين وقته في القانون ومدى تأثر القوانين في أوروبا بالفقه الإسلامي في هذا الشأن: 
سبق أن رأينا أن جمهور الفقهاء يذهبون إلى أن العبرة بتاريخ ومكان إعلان القبول( ) ولكننا وجدنا نقولاً للحنفية تفيد بالآتي: [شرط سماع كل من المتعاقدين عبارة الآخر حقيقة أو حكماً.. لأن الكتاب كالخطاب]( ) أي أنهم يأخذون بمذهب العلم بالقبول، ومن هذا يتضح أن الفقه الإسلامي سبق جميع القوانين بأكثر من ألف عام في تحديد وقت تمام العقد بين غائبين، والواقع أن ما ذكره الفقه الإسلامي في هذا الشأن هو أساس جميع النظريات المتعددة التي ظهرت في القوانين الوضعيةفي أوروبا فيما يتعلق بتحديد وقت تمام العقد بالمراسلة بين غائبين فالفقه الإسلامي جاء بالفكرتين الرئيستين لهذه المسألة – وهما فكرة إعلان القبول وفكرة العلم بالقبول وقد لاحظ شراح القانون هذه الرئاسة لهاتين الفكرتين وفي هذا يقول السنهوري: [والواقع أن المذهبين الرئيسيين هما مذهب إعلان القبول ومذهب العلم بالقبول وما عداهما فمتفرع عنهما ويرد إليهما]( ) وذلك لأن إعلان القبوليتفرع عنه تصديره والعلم بالقبول يتفرع عنه وصوله قبل العلم به ومما يجب أن يلاحظ هنا أنه حينما قال الفقه الإسلامي بإعلان القبول والعلم بالقبول منذ أكثر من أربعة عشر قرناً لم يكن القانون الروماني (وهو أرقى قانون وضعي في ذلك الوقت) يعرف شيئاً عن هذه الأمور بل إن فكرة العقد نفسها كانت مضطربة للغاية عند علماء القانون في ذلك الوقت وفي هذا يقول شفيق شحاتة في كتابه عن القانون الروماني: [على أن هذا كله لا يفيد أن العقد كان في العصر الذهبي للقانون الروماني عبارة عن توافق ما بين إرادتين... ويبدو أن العقد في لغة فقهاء هذا العصر هو كل عمل قانوني يترتب عليه أثر ولذلك فإن تصوير العقد على أنه توافق ما بين إرادتين تصوير بعيد عن أذهان فقهاء الرومان فالعقد هو ذلك العمل الذي يأتيه الشخص فيلتزم بموجبه وقد يكون هذا العمل هو عبارة عن تلفظه ببعض الألفاظ المقررة كما قد يكون عبارة عن كتابة خطية صادرة منه أو عبارة عن تسلميه لأشياء متى كان هذا التسليم قد أخل بالتوازن المالي ما بين ذمته المالية وذمة الطرف الآخر وفي هذا التصوير لا ينظر إلى واقعة اتصال الإيجاب بالقبول وإلى واقعة التراضي ولكن ينظر إلى كل طرف من طرفي العقد على حده فينشأ الالتزام في ذمة كل منهما بسبب العمل الذي أدى إليه]( ).
ومن هذا يتضح لنا أن القوانين في أوروبا لا بد أن تكون قد استفادت من الفقه الإسلامي في تحديد وقت تمام العقد لأن القانون الروماني وهو المصدر الأصلي للقوانين الأوروبية فقير ومعدم من هذه الناحية. وقد سبق أن بينت مدى اتصال أوروبا بالفقه المالكي ثم الشافعي غرباً عن طريق الأندلس وبالفقه الحنفي ثم الشافعي شرقاً عن طريق تركيا.
76–القانون المدني المصري يصرح بأخذ فكرة مجلس العقد عن الشريعة الإسلامية: 
لم تعرف القوانين الأوروبية (ولا الروماني من باب أولى) تلك الفكرة الدقيقة المحكمة المتعلقة بمجلس العقد والتي صاغها الفقه الإسلامي أخذاً عن رسول الله  ولذلك لجأ واضعوالقانون المدني المصري إلى الشريعة الإسلامية للأخذ بفكرة مجلس العقد وصرحوا بذلك فجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي: [إن الإيجاب إذا وجه لشخص حاضر وجب أن يقبله من فوره وينزل الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بالتلفون أو بأية وسيلة مماثلة منزلة الإيجاب الصادر إلى شخص حاضر وقد أخذ المشروع في هذه الصورة عن المذهب الحنفي قاعدة حكيمة وتنص على أن العقد يتم ولو لم يحصل القبول فوراً إذا لم يصدر قبل افتراق المتعاقدين ما يفيد عدول الموجب عن إيجابه في الفترة التي تقع بين الإيجاب والقبول وقد رؤى من المفيد أن يأخذ المشروع في هذه الحدود بنظرية الشريعة الإسلامية في اتحاد مجلس العقد]( )وأما القوانين الأوروبية الحديثة فهي لا تعرف مجلس العقد بالمعنى المعروف في الفقه الإسلامي ولذلك تشترط صدور القبول فور صدور الإيجاب حتى يمكن أن يتم العقد وهذا تصور قانوني معيب للغاية لأنه يوقع الناس في ضيق وحرج بالغبن لأن المرء إذا أراد أن يبرم عقداً عليه أن يسارع بالقبول وقد يعرض نفسه إلى خسارة بالغة إذا تهور في القبول أو قد تضيع منه الصفقة إذا تأنى وتأخر في القبول.
ويلاحظ هنا أن الدكتور السنهوري (وهو واضع مشروع القانون المصري) ذكر الآتي: [أما المذهب المالكي فيشترط الفورية كالمذهب الشافعي ويمنع خيار المجلس كالمذهب الحنفي وهذا هو مذهب القوانين الحديثة (كالقانون السويسري والقانون الألماني) ولم يختره القانون الجديد لما ينطوي عليه من ضيق وحرج ]( ) وما ذكره د/ السنهوري عن المذهب المالكي غير صحيح بالنسبة إلى الفورية لأن المالكية يصرحون بعدم اشتراط الفورية: 
جاء في حاشية الدسوقي ما يأتي: [ولا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرجا عن البيع إلى غيره عرفاً]( ) هذا ويرجع الفضل في معرف مجلس العقد إلى حديث الرسول صلىالله عليه وسلم الصحيح فقد روى عبد الله بن عمر عن النبي  «إذا تبايع المتبايعان فكل مهما بالخيار من بيعه مالم يتفرقا...» [متفق عليه] وبهذا بين الرسول لله  أن مجلس العقد يظل قائماً حتى يتفرق المتعاقدين وظاهر الحديث أن التفرق يكون بالأبدان ولكن بعض الفقهاء توسعوا وذكروا أن انفضاض المجلس يمكن أن يكون بالقول قبل فرق الأبدان إذا انشغل أحدهما أو كلاهما عن العقد بأمر آخر.
هذا وقد سبق وبينا( )أن تحديد مجلس العقد بالتفرق بالأبدان هو الأصح ومن أقوى الأدلة على ذلك أن ابن عمر وهو راوي النص كان إذا بايع رجلاً فأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع. وسبق أن ذكرنا أيضاً أن الشافعية والحنابلة وقفوا عند حد التفرق بالأبدان في تحديد مجلس العقد وأن الحنفية والمالكية توسعوا في هذا الأمر فقالوا بأن المجلس قد ينفض بالانشغال عن العقد قبل التفرق بالأبدان. والذي يهمنا هنا هو أن نبين أن بعض القوانين الحديثة (مثل القانون المصري) أخذت عن الشريعة الإسلامية فكرة مجلس العقد التي لا تعرفها القوانين الأوروبية الحديثة (فضلاً عن القديمة من باب أولى) إلى يومنا هذا.


 
الفصل الثاني
الركن الثاني للعقد: العاقدان أو العاقد الفرد
المبحث الأول
العاقدان أو العاقد الفرد في الفقه الإسلامي
77–تمهيد: 
لما كان العاقدان أو العاقد يلزم نفسه بموجب العقد أمام الغير سواء أكان هذا الغير طرفاً في العقد أم كان أجنبياً عن العقد في حالة العقد بالإرادة المنفردة فلما كان ذلك كذلك فإنه كان من الضروري حماية العاقد من آثار تصرفاته إذا كانت إرادته غير صحيحة بسبب صغر السن أو إذا شاب هذه الإرادة عيب من عيوب الرضا كالغلط أو التدليس أو الإكراه وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن الإنسان لا يستطيع أن يتصرف في ماله إلا إذا كان ذا إرادة صحيحة وهو لا يكون كذلك إلا إذا بلغ سن النكاح رشيداً قال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6]، ومن ثم فإننا سندرس في هذا المبحث – بإذن الله تعالى - الأهلية وعيوب الرضا والولاية.

المطلب الأول
أهلية العاقدين أو العاقد الفرد
78– تعريف الأهلية: 
الأهلية في اللغة هي الصلاحية، يقال فلان أهل لهذا العمل أي صالح له وجدير به( )وأما الأهلية في الاصطلاح الفقهي فهي تنقسم إلى أهلية وجوب وأهلية أداء.
79– أهليه الوجوب: 
هي صلاحية الشخص لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه وهي وصف يصير به الإنسان أهلاً لما له وما عليه( ) فالصلاحية لوجوب الحقوق المشروعة للشخص معناها صلاحية الشخص لإلزام غيره (برضاه)( )، والصلاحية لوجوب الحقوق المشروعة على الشخص معناها صلاحيته للالتزام قبل غيره وأهلية الوجوب تثبت للشخص كاملة بشقيها (الإلزام والالتزام) إذا انفصل عن أمه حياً، وأما الجنين في بطن أمه فله أهليه وجوب ناقصة تقتصر على شق الإلزام وحده فهو قابل لأن تثبت له الحقوق دون أن تثبت عليه، وأهليه الوجوب تتعلق بذمه الإنسان، والذمة اصطلاح فقهي يتعلق بكل إنسان يولد حياً في وصف يصير به الإنسان أخلاً لماله وما عليه أي هي وصف يجعل كل إنسان  يتمتع بأهلية وجوب كاملة. وأصل الذمة في اللغة: العهد ويقول فخر الإسلام البزدوي: [والذمة نفس لها عهد وأن الآدمي لا يخلق إلا وله هذا العهد، أي لا يخلق إلا وهو أهل للإيجاب والاستيجاب بناء على  العهد الذي جرى بين الرب والعبد كما تشير إليه الآيات الكريمات: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾[الأعراف: 172]، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: 72 ]، فقد ثبت للناس بسبب هذا العهد ذمة كانوا بها أهلاً للوجوب]( ).
وعلى ذلك فأهلية الوجوب تكون كاملة لكل إنسان ولد حياً فكل إنسان سواء أكان صبياً غير مميز أم مجنوناً أم معتوهاً له أهلية وجوب كاملة بصرف النظر عن قدرة هؤلاء على التصرف في أموالهم. لأن الذي يتصرف عنهم هم أوليائهم ومن ثم فإن ذمة هؤلاء صالحة لقبول كل الالتزامات المرتبة على التصرفات التي يقوم بها أوليائهم وتكون صحيحة شرعاً ومن ثم فإن الحقوق التي تجب في مال القاصر ويدخل في ذلك المهر المترتب على عقد الزواج القاصر وفي جملة كل الالتزامات المالية التي تنشأ بأسباب يتولاها الولي أو الوصي وإذا بلغ القاصر قبل الوفاء بهذه الالتزامات فإنه يلزم بالوفاء بها.
وهذا الحكم يصدق أيضاً على عديم أهلية الأداء مثل الصبي غير المميز والمجنون ويثبت في ذمة هؤلاء ضمان ما يتلقونه من أموال لأن ذمة هؤلاء صالحة لوجوب كل ما هو من الحقوق المالية المستحقة للغير لأن عديم أهلية الأداء يعتبر كامل أهلية الوجوب ما دام قد ولد حياً وإذا قَتل الطفل أو المجنون فإنه لا يقتص منه ولكن يتحمل في مالة دية القتيل إذا لم يكن له عاقلة ولم يلتزم به بيت المال( ) وهذا معنى قول الفقهاء (عمد الطفل أو المجنون خطأ) وإلى جانب ذلك تصح عقود ناقص الأهلية (كالصبي المميز) إذا كانت نافعة له نفعاً محضاً مثل قبول الهبة أو الوصية ويثبت في ذمتهم ما بعد من مئونة المال فيجب في أموالهم الخراج والعشر لأن الخراج شرع أصلاًمئونة لحماية الأموال والأنفس والأعراض، وإذا كانت العقود ضارة ضرراً محضاً فهي لا تصح أبداً وأما العقود الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجازة وما أشبه ذلك فهي تعتبر باطلة عند الشافعية وموقوفة على إجازة الولي أو الوصي عند الجمهور( )وأما الصبي المأذون له بالتجارة فتصح تصرفاته الدائرة بين النفع والضرر في حدود ما أذن له به.
80– أهلية الوجوب والذمة لغير الآدمي: الشخص الاعتباري أو الحكمي: 
أجمع الفقهاء على أن أهلية الوجوب والذمة لا تثبتان لغير الآدمي كالبهائم والدواب وبالتالي لا تصح الهبة لها أنها تمليك وهي ليست أهلاً للتملك كما لايصح أن يوصى لها ولا أن يوقف عليها ولكن تصح هذه التصرفات لصالح مالكها للإنفاق عليها( )هذا وقد افترضت الشريعة – في بعض الأحيان – أهلية الوجوب لغير الإنسان كبيت المال فهو وارث من لا وارث له ويجب فيه نفقة الفقراء الذين لا يوجد لهم من تجب علهم نفقتهم وغير ذلك من التكاليف المالية الواجبة في بيت المال وقد أجاز الفقهاء من المذاهب الأربعة للإمام أن يستدين على بيت المال عند الحاجة إذا ما خلا من المال وهذا كله لا يستقيم إلا إذا اعترفنا لبيت المال بذمة خاصة به( )وقد صرح الفقهاء بعدة أحكام بشأن الوقف لا يمكن تخريجها إلا إذا افترضنا للوقف ذمة منفصلة عن ذمة الموقوف عليهم وعن ذمة ناظر الوقف فمع أن الإجارة تنفسخ بموت المستأجر أو المؤجر عند الحنفية إلا أنه إذا مات ناظر الوقف أو عزل وكان قد أجر أعيان الوقف فلا يبطل الإجارة وهذا لا يتأتى إلا على أن المؤجر ليس هو الناظر وإنما هو الوقف الذي يمثله الناظر( ) وقد علل الحنفية هذا بقولهم: [لا تبطل الإجارة لأن الإجارة وقعت للموقوف فلا تبطل بموت العاقد كما لا تبطل بموت الوكيل في الإجارة]( ) فالحنفية يصرحون بأن المؤجر هنا هو الموقوف أي الوقف وأن الناظر مجرد وكيل ومقتضى هذا أن الوقف له شخصية حكمية أو اعتبارية مستقلة عن شخصية الناظر وكذلك عن شخصية الموقوف عليهم لأن موت هؤلاء لا يؤثر على إجارة الوقف بلا خلاف. هذا ويلاحظ أن الشافعية في اعترافهم بالشخصية الحكمية أو الاعتبارية أظهر من الحنفية الذين يصرحون بأن الوقف لا ذمة له( ) ومع ذلك فهم يثبتون له إحكاماً(كما أسلفنا) لا تصح إلا مع ثبوت الذمة للوقف وأما الشافعية فهم يصرحون بالذمة للمسجد فيقولون: [إن الوصية للمسجد صحيحة وأن أريد بها تمليكه]( )وعللوا ذلك [بأن المسجد في منزلة حر يملك]( ) وقالوا أيضاً: [إن المملوك للمسجد بشراء يصح بيعه مطلقاً]( )وهذا ليس له من معنى إلا أن المسجد له ذمة مالية مستقلة فهو يملك بعقد الشراء الذي يباشره عنه ناظره ومن ذلك أيضاً ما ذكره الشيخ زكريا الأنصاري: [ولو كان للمسجد شقص من أرض مشتركة مملوكة له بشراء أو هبة ليصرف في عمارته ثم باع شريكه نصيبه في تلك الأرض فللقيم على المسجد أن يشفع ويأخذ حصة الشريك بالشفعة إن رأى ذلك مصلحة كما لو لبيت المال شريك في أرض فباع شريكه نصيبه فيها فللإمام الأخذ بالشفعة إن رآه مصلحة]( ) فهذه الأقوال للشافعية تصرح بأن كلاً من المسجد وبيت المال يملك أي لكل منهما ذمة خاصة به وعلى ذلك يمكن إثبات الذمة (والشخصية الحكمية) لجميع المؤسسات التي يرى ولى الأمر إضفاء صفة الشخصية الحكمية أو الاعتبارية عليها فيدخل في ذلك الشركات والمستشفيات والجامعات وغير ذلك وهذا هو الحكم عند المالكية أيضاً إلا أنهم في بعض كتبهم( )– مثل الحنفية –ينفون أهلية الملك عن المسجد وقصدهم من هذا هو الأهلية الحقيقة لأن الأهلية أو الشخصية الحقيقة لا تثبت إلا للشخص الآدمي وحده وهم يقصدون من إثبات الأهلية رغم ذلك للمسجد وبيت المال الأهلية للملك الحكمية أي الشخصية الحكمية أو الاعتبارية وهم ينصون على ذلك في كتبهمفقد جاء في منح الجليل: [للسلطان باعتباره ناظر بيت المال أن يأخذ بالشفعة إذا كان لبيت المال شقص بسبب ميراث مثلاً عندما يبيع الشريك]( )ويتضح من هذا الكلام أن بيت المال يملك بالميراث ويملك بغيره وأن له أن يطالب بتملك العقار بالشفعة وفي منح الجليل أيضاً: [سئل ابن زرب عمن تصدق أو وهب لمسجد بعينه هل يجبر على إخراجها وإنفاذها (أي الهبة أو الصدقة) فقال: يجبر كمتصدق على رجل بعينه]( ).
ويقول الزرقاني أيضاً أن الوقف أهل للتملك حقيقة كزيد والفقراء أو حكماً كقنطرة أو مسجد]( )هذا وقد أجاز الحنابلة الوصية للمسجد وقالوا إنه لا يشترط في تمامها قبول الناظر عليه( )، هذا وقد أجاز الفقهاء الوصية والوقف على من لم يخلق وأبقوا ذمة المتوفى مشغولة بالدين إذا كان له مال، وجوزوا الوصية والوقف على الفقراء والمساجد والمستشفيات والجهات وأثبتوا الإرث للجنين متى تحقق  أو غلب على الظن وجوده في بطن أمه عند موت المورث وهذه الأحكام كلها لا تقوم إلا على أساس أهلية الوجوب والذمة الحكميتين وهو ما يقابل في الاصطلاح الحديث الشخص الاعتباري أو الحكمي.
هذا والأقوى من ذلك كله أن رسول الله  أشار إلى التفرقة بين شخصية الدولة وشخصية الموظف الذي يمثلها في حديث ابن اللتبية المعروف والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي  أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه» ( ) فهذا الحديث الصحيح يفيد بأن الهدية المعطاة للموظف بمناسبة وظيفته تؤول إلى الدولة ولا يستحقها وهذا يلزم منه أن تكون شخصية الموظف مختلفة ومستقلة عن شخصية الدولة التي يمثلها أو يمثل سلطة من سلطاتها، وصفته باعتباره ممثلاً للدولة أو لإحدى سلطاتها تغلب صفته الشخصية فيما يتعلق بالأموال التي يأخذها بمناسبة وظيفته، وهذا يقتضي الاعتراف للدولة وما يتفرع عنها من سلطات عامة بالشخصية الحكمية أو الاعتبارية فهذه هي دلالة الحديث المذكور بطريق الإشارة.
81– أهلية الأداء: 
هي صلاحية الشخص المكلف لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعاً( ) أو هي صلاحية الشخص لممارسة حقوقه والتزاماته المخولة له طبقاً لأهلية الوجوب الثابتة، فأهلية الأداء هي قابلية الشخص لأن يتصرف بنفسه في مباشرة الحقوق والالتزامات التي ترتبت على تمتعه بأهلية الوجوب.
وتعتبر أهلية الوجوب أثر من آثار الذمة اللصيقة بكل إنسان حي، وأما أهلية الأداء فهي أثر من آثار العقل الذي يمنح الشخص القدرة على التمييز والرشد في الأمور الذي هو مناط القدرة على التصرف قال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء 6].
82– مراتب أهلية الأداء: 
أولاً: أهلية الأداء المعدومة: 
وهي تكون في حالة انعدام التمييز كالمجنون والصبي غير المميز وتصرفاتهما باطلة لا يعتد بها بالإجماع.
أهلية الأداء الناقصة: 
وهي تثبت لكل شخص بلغ السابعة من عمره بشرط أن يكون مميزاً ويستمر على ذلك حتى بلوغ الحلم، والعقود بالنسبة إلى الصبي المميز (ناقص الأهلية) ثلاثة أقسام: 
القسم الأول: العقود النافعة نفعاً محضاً كقبول الهبة والوصية فهي تنعقد صحيحة نافذة بعبارته دون حاجة إلى إي إذن وهذا بالإجماع.
القسم الثاني: العقود الضارة ضرراً محضاً وهي لا تنعقد أصلاً(كما في حالة عديم الأهلية) بالإجماع أيضاً وهذا مثل أن يقرض الصبي المميز غيره مالاً أو يهبه شيئاً أو يضمن غيره في دين.
القسم الثالث: العقود الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجارة وما يقاس عليها فهذه اختلف فيها الفقهاء فذهب الحنفية والمالكية وأحمد في رواية( )إلى أن هذه العقود تكون صحيحة غير نافذة أي موقوفة على إجازة الولي أو الوصي إذا لم يكن قد أذن له فيها من قبل لأن الإجارة اللاحقة كالإذن السابق، ويرى الشافعية والحنابلة في رواية أخرى أن العقد يكون باطلاً( ).
ثالثاً: أهلية الأداء الكاملة: 
إذا بلغ الصبي الحلم عاقلاً رشيداً ثبتت له أهلية الأداء كاملة ودفعت إليه أمواله وزالت عنه الولاية أو الوصاية من غير توقف على إذن أو حكم من القاضي( )ويقال مثل ذلك في حالة الصبية إذا بلغت المحيض، ولم تحدد الشريعة سناً معينة للبلوغ لأن هذا أمر يختلف باختلاف الأماكن والمناخ، ولكن إذا تأخر البلوغ واكتمل العقل والرشد فإن المكلف يتمتع بأهلية أداء كاملة لأن البلوغ مظنة لاكتمال العقل فإذا اكتمل فعلاً ولم يحصل البلوغ مع وصول المكلف إلى السن التي يحصل فيها البلوغ عادة (مع مراعاة اختلاف المكان والمناخ) فيعتبر بالغاً حكماً وقد اختلف الفقهاء في تحديد السن التي يعتبر فيها بالغاً حكماً ولو لم يبلغ حقيقة وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى تحديد هذه السن ببلوغ خمس عشرة سنة للغلام أو الجارية وهذا هو رأى الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنفية( )وعند أبي حنفية( ) سن البلوغ سبع عشرة سنة للجارية وثماني عشرة سنة للغلام، وعند مالك( )سبع عشرة سنه لهما وما دام الشارع لم يحدد سناً معينة لمظنة البلوغ فإن هذا الأمر متروك تحديده لولي الأمر يستهدى فيه بالعرف الجاري وبظروف المكان والمناخ.
83– عوارض الأهلية: العوارض التي تعدم الأهلية: 
عوارض الأهلية عامة هي الأمور التي تعترض أهلية الأداء فتعدمها أو تنقصها، فالتي تعدمها هي الجنون والعته وقد عرف بعض الفقهاء الجنون بأنه: [آفة تحل بالدماغ فتبعث على الإقدام على ما يضاد العقل من غير ضعف في أعضائه ويسقط به كل العبادات المحتملة للسقوط كالصلاة والصوم ولا تسقط عنه ضمان المتلفات]( ) فالجنون يعدم الأهلية فيصبح الشخص كالصبي غير  المميز تصرفاته كلها باطلة والعته آفة أقل من الجنون فهي تجعل صاحبها يتصرف تارة كالمجنون ويتصرف تارة أخرى كالصبي المميز ولذلك نجد غالبية الفقهاء يعتبرون المعتوه كالصبي المميز وذهب فقهاء آخرون إلى اعتباره في حكم المجنون إذا كانت تصرفاته تدل على ذهاب عقله وإلا فإنه يعتبر كالصبي المميز إذا كانت تصرفاته تدل على بعض العقل( ).
84– العوارض التي تجعل الأهلية ناقصة: 
هذه العوارض متعددة وهي: السفه، والغفلة، واستغراق الدين، ومرض الموت ونبين كلاً منها فيما يلي: 
85– السفه: 
السفه خفة تعتري الشخص فتحمله على العمل باختياره على خلاف موجب العقل رغم وجوده ( )، وهذا لا ينافي الأهلية إلا بالنسبة إلى التصرفات المالية فقط، فالسفيه يعتبر كامل الأهلية بالنسبة إلى تكليفه بالعبادات جميعها، وهو مؤاخذ على كل ما يرتكبه من جنايات كما أن وقفه ووصيته وزواجه وطلاقه صحيح، ولكن نظراً لعدم إحسانه في تدبير المال وتبذيره على خلاف مقتضى الشرع والعقل أجاز جمهور الفقهاء – ماعدا أبا حنفية وزفر والنخعي – الحجر عليه لمنعه من التصرف في ماله وأما أبو حنفية – ومن نحا نحوه – فهو يرى أنه لا يجوز الحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال ببلوغ الخامسة والعشرين ولو كان أفسق الفساق.
وللسفه حالان: 
الأولى: أن يبلغ الشخص سفيهاً.
والثاني: أن يبلغ الشخص رشيداً ويتولى أمر نفسه ثم يصيبه السفه بعد ذلك. وقد اتفق العلماء على أن السفيه لا يعطى له ماله بل يمنع منه ومن التصرف فيه عملاً بقول تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾ [النساء: 5]، وقد اتفق أبو حنفية مع سائر الأئمة في عدم دفع المال إلى السفيه في الحالة الأولى، ولكن روى عنه روايتان بالنسبة إلى تصرفات السفيه وعقوده ففي رواية أن هذه التصرفات لا تصح أيضاً، وفي رواية أخرى أنها تصح وإنما يمنع فقط من تسلم أمواله، ولكن إذا بلغ الخامسة والعشرين لا ينفع فيه زجر ولا تأديب وقد روى عن أبي حنفية أنه قال بشأن السفيه: [إذا بلغ الخامسة والعشرين احتمل أن يكون جداً فأنا أستحي أن أحجر  عليه]( )فالأصل عند الإمام أبي حنفية أن السفه ليس سبباً في نقص الأهلية سواء أبلغ سفيهاً أم بلغ رشيداً ثم أصابه السفه بعد ذلك.
وقد استدل لمذهب أبي حنفية بشأن السفيه بما يأتي: 
أولاً: عموم الآيات الواردة بشأن العقود والعهود مثل قوله تعالى: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]،  فالخطاب عام لكل المسلمين، ولا ريب أن المبذرين والسفهاء داخلون في عموم المؤمنين من غير خلاف بين علماء المسلمين فهم مطالبون بالوفاء بعقودهم وعدم النكث في عهودهم فهذه نصوص صريحة قاطعة في دلالتها ولا يجوز تخصيصها إلا بنصوص في قوتها ومن ثم فإن عقود المبذر لماله يجب الوفاء بها فلا يصح الحجر عليه وأهليته كاملة.
ثانياً: يستدل لمذهب أبي حنفية أيضاًبما رواه قتادة عن أنس بن مالك [أن رجلاً(حبان بن منقذ) كان يبتاع وفي عقدته ضعف فأتى به أهله نبي الله  فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه النبي  فنهاه عن البيع فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بعت فقل ها، وها ولا خلابة ولك الخيار ثلاثاً» ( )فاستدلوا هنا بامتناع النبي  عن الحجر عليه رغم ضعفه وأنه كان يغبن في البياعات (وهذا من السفه أو الغفلة) فيستدل بذلك على عدم جواز الحجر على السفيه.
ثالثاً: أن السفيه باتفاق الفقهاء غير محجور من عقد الزواج بمهر المثل وغير محجور من الطلاق وهذا دليل على كمال الأهلية ومن وجهة أخرى فإن إقرار السفيه بما يوجب حداً أو قصاصاً جائز ويحد ويقتص منه بمقتضى هذا الإقرار بإجماع الفقهاء( )فكيف يسوغ أن ينفذ عقده في الزواج وإقراره في الحد والقصاص ولا ينفذ عقده فيما يتعلق بماله.
رابعاً: أن الله تعالى كرم الإنسان قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [الإسراء: 70]، والحجر على السفيه فيه إهدار لهذه الكرامة في نظر أبي حنيفة رحمه الله. وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة معهم أبو يوسف ومحمد (صاحبا أبي حنيفة) إلى أن السفيه في الحالين يحجر عليه( )ويأخذ السفيه عند الجمهور في تصرفاته حكم الصبي المميز إلا في العقود التي لا يؤثر فيها الهزل وهي الزواج والطلاق والرجعة ولكن لا يجوز أن يزيد في نكاحه عن مهر المثل وعند الشافعي لا يصح نكاح السفيه بغير إذن وليه وأجاز الفقهاء وقف السفيه عن نفسه ومن بعدها على ذريته وكذا وصيته في حدود الثلث لأن هذه التصرفات فيها حفظ لماله وهي تنفعه في آخرته.
واستدل الجمهور على جواز الحجر على السفيه بما يأتي( ): 
أولاً: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282]، وبقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، وقد دلت آية النساء على أن السفيه لا يسلم إليه ماله وليس له التصرف في ماله وإنما يتولى وليه الأنفاق على طعامه وكسائه وهذا يدل على أنه محجور عليه لسفهه ودلت آية البقرة على أن السفيه لا يتولى إبرام عقوده بنفسه وإنما يتولى ذلك عنه وليه.
هذا وقد اعترض أبو حنفية( )على هذا الاستدلال بأن المراد من السفهاء في آية النساء هم الصغار لأن (أل) هي للعهد والمذكور هم اليتامى فهم صغار وكذلك المراد بالسفهاء في آية البقرة ولا دليل يعين أنهم المبذرون.
والواقع أن هذا الاعتراض من أبي حنيفة ضعيف للغاية لأن الآيتين صريحتان في الحجر على السفيه ولا مجال لتأويلهما.
ثانياً: ما روى من أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أتى الزبير بن العوام فقال: إني ابتعت بيعاً ثم إن علياً يريد أن يحجر عليَّ فقال الزبير: فإني شريكك في البيع فأتى عليٌّ عثمان بن عفان فسأله أن يحجر على ابن أخيه عبد الله بن جعفر فقال الزبير: أنا شريكه في البيع فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير. فدل هذا على أن الحجر على السفيه أمر مسلم به عند الصحابة وهو من الشرع وإلا ما طلبه الإمام علي لابن أخيه ولم ينكر أحد من الصحابة طلبه ولم ينكره الزبير ولا عثمان وإن كان كلاهما قد رأى أن عبد الله لا يستحق حجراً وتصرف الزبير وعثمان يؤكدان جواز الحجر وروى أيضاً أن عائشة بلغها أن عبد الله بن الزبير قال عنها وقد باعت بعض رباعها فقال: لتنتهي نوإلا حجرت عليها فقالت: لله عليّ أن لا أكلمه أبداً فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا جواز الحجر على السفيه.
ثالثاً: أن الحكمة من الحجر على السفينة واضحة وقد أشار إليها القرآن الكريم في آية النساء آنفة الذكر، والسفيه لا يضر نفسه فقط بل يضر زوجه وأولاده ولذلك يجب حمايته وحماية أسرته من سفهه لذلك فإن رأى الجمهور (في نظري) هو الأصح وأدلة الجمهور أقوى من حجج أبي حنيفة سواء من حيث النصوص أو الاعتبار. وهذا وقد اختلف الفقهاء في وقت ابتداء الحجر على السفيه فذهب مالك والشافعي والحنابلة وأبو يوسف إلى أن الحجر لا يبدأ إلا من تاريخ حكم القاضي عليه بالسفه أي أن عقوده قبل ذلك صحيحة( )وذهب محمد بن الحسن إلى أن الحجر على السفيه يكون قبل حكم القاضي بمجرد تبذيره( ).
86– الغفلة: 
ذو الغفلة قريب من السفيه لأنه يغبن في المعاملات بسبب سهولة خداع الآخرين له فهو يشبه السفيه في الأحكام ويعبر عنه – أحيانا – بالضعيف أي ضعيف الرأي في التعامل مع الناس وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282 ]، فالسفيه ضعيف الإرادة فهو يبذر في ماله وذو الغفلة ضعيف الإدراك في المعاملات والنتيجة واحدة وهي الخسارة في المال ولذا فإن حكم ذي الغفلة هو حكم السفيه والخلاف الفقهي فيهما واحد.
87– استغراق الدين: 
وهو أن يمتنع المدين بدين مستغرق لماله عن سداد دين مستحق عليه ويرى مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنفية أنه يجوز الحجر عليه، ويرى أبو حنيفة أنه لا يجوز الحجر عليه، وإنما يحبسه الحاكم إذا ثبتت قدرته ومطله حتى يقضى دينه( ).
وتقع تصرفات المدين باطلة قبل صدور حكم قاضي بالحجر عليه عند مالك لأن الحجر يتم لمصلحه الدائنين من غير توقف على قضاء فيصح لهم إبطال أي تصرف له لأن حق الغرماء قد تعلق بماله( )وعند الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنفية لا يمنع من التصرف إلا من وقت الحكم الصادر بالحجر عليه. واختلف المجيزون للحجر في تكييف تصرفات المدين بعد الحجر عليه فذهب الشافعي في قول وصاحبا أبي حنيفة إلى أن هذه التصرفات (سواء أكانت تبرعاً أم محاباة في معاوضة) صحيحة غير نافذة أي موقوفة على إجازة جميع الغرماء وذهب مالك والحنابلة وفي قول آخر للشافعي إلى أن هذه التصرفات غبر صحيحة أي تقع باطلة.
وأما أموال المحجور عليه التي اكتسبها بعد الحجر فهي لا تخضع للتفليسة فهو يتصرف فيها كيف شاء ما دام لم يقع عليها الحجر( ) وهذا بخلاف الصبي المميز والسفيه، وذلك أن المدين المحجور عليه هو أصلا كامل الأهلية وإنما منع التصرف في أمواله لمصلحة الغير وهم الغرماء، وأما الصبي ومن في حكمه فهو ممنوع لمصلحة نفسه.
وإذا كان عند المدين ما يزيد على ديونه ولكن الدائنين توقعوا أن يحاول تهريب أمواله إلى غيره بطريق الإقرار له مثلاً أو البيع الصوري فإنه يحق لهم الحجر عليه ليبطلوا تصرفاته ويكون الحجر بحكم قضائي اتفاقاً( ).
88– مرض الموت: 
المريض مرض الموت هو الذي يصيبه مرض مخوف أي يغلب فيه الهلاك ويظل على هذه الحالة حتى يصيبه الموت، وكل من يوجد في حالة – غير المرض – يغلب فيها الهلاك فهو يعتبر في حكم المريض مرض الموت وذلك كمن يوجد في سفينة تشرف على الغرق ثم يغرق فعلاً.
وعقود المريض مرض الموت وتصرفاته إذا كانت بعوض وليس محاباة فهي صحيحة نافذة سواء أكانت لوارث أم كانت لغير وارث وهذا عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنفية( )وهذا هو الحكم أيضاً حتى لو زاد تصرفه في ماله على أكثر من الثلث لأن مقابل المال المتصرف فيه قد وجد بدون محاباة ولذلك فإنه يشترط أن يكون التصرف حقيقاً وليس صورياً ويختلف أبو حنفية مع سائر الأئمة في هذه المسالة لأنه لا يجيز عقود المعاوضات حتى لو كانت بغير محاباة لأنه يذهب إلى أن حق الورثة يتعلق بأعيان التركة ولذا فإنه لا يجوز للمريض مرض الموت أن يتصرف ولو بغير محاباة وأما صاحباه (أبو يوسف ومحمد) فإنهما يذهبان إلى أن حق الورثة يتعلق بقيمة التركة وماليتها فقط فما دام العقد معاوضة وليس فيه محاباة فإنه يكون صحيحاً نافذاً( )وهذا هو رأى الجمهور وإذا كان التصرف بعوض صورياً فهو يلحق بالتبرعات المنجزة كما يلحق بها أيضاً التصرف بعوض إذا كان فيه محاباة والتبرعات المنجزة هي الهبة المقبوضة والصدقة والوقف والإبراء من الدين والعتق والعفو عن الجناية الموجبة للمال، وهي تأخذ حكم الوصية ما دامت قد صدرت في مرض الموت.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الوصية فيما زاد على ثلث التركة إذا كانت لأجنبي والوصية إذا كانت لوارث: فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الوصية في كلتا الحالتين تكون صحيحة غير نافذة أي موقوفة على إجازة الورثة في الحالة الأولى وعلى إجازة بقية الورثة في الحالة الثانية( ). وذهب بعض الحنابلة وفي قول آخر للشافعي أن الوصية في مرض الموت تكون باطلة فإن أراد الورثة تصحيح هذه العقود فإن عليهم أن ينشئوها من جديد فإذا كان العقد هبة فهو يفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض كالهبة المبتدأة( ).
وحجة الجمهور أن تحديد الوصية لأجنبي بالثلث ومنع الوصية للوارث إنما روعي فيه حق الورثة والأصل في ذلك بالنسبة إلى الوصية إلى الأجنبي قول النبي  لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: «لا» فبالثلثين؟ قال: «لا» قال فبالنصف؟ قال: «لا» قال: «فبالثلث» قال: «الثلث والثلث كثير» ( )وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله تصدق عليكم بثلث مالكم عند مماتكم» ( )فالباقي حق خاص للورثة ومن ملك حقاً ملك التنازل عنه ولذلك فإن إجازتهم للوصية لأجنبي فيما زاد عن الثلث هو التنازل عن حقهم في هذا الزائد، وأما الأصل في عدم جواز الوصية للوارث فهو ما روى عن أبي أمامه الباهلي قال: سمعت رسول الله  يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وهذا يدل على أنه حق للورثة فلهم أن يجيزوا واحتج المعارضون [رواية لأحمد وقول للشافعي ] بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» ( )فهذا يدل بظاهره على بطلان الوصية وكذلك  حديث سعد بن أبي وقاص في مقدار الوصية يدل بظاهره على أن ما زاد على الثلث باطل والأصح - في نظري – هو رأي الجمهور لأن الرسول صلى الله عليه وسلام عندما نهى عن الوصية للوارث وعن الزيادة على الثلث في الوصية لأجنبي إنما كان هذا لحق الورثة بلا خلاف وصاحب الحق الخاص يملك - ولا ريب - التنازل عنه لمن يشاء وقد روى الخبر (لا وصية لوارث) وفيه (إلا أن يجيز الورثة) واحتج ابن قدامة بهذه الزيادة قائلاً: [والاستثناء من النفي إثبات فيكون ذلك دليلاً على صحة الوصية عند الإجازة ولو خلا من الاستثناء كان معناه لا وصية نافذة أو لازمة أو ما أشبه هذا أو يقدر فيه ولا وصية لوارث عند عدم الإجازة من غيره من الورثة ]( ) وهذا الذي ذكره ابن قدامة استدلال صحيح وقوى ولذلك فإني أرجح هنا رأي الجمهور.
وإذا كان المريض مرض الموت له دائنون فديونهم مقدمة على الوصية( ) وعلى حق الورثة من باب أولى فإذا كانت التركة مستغرقة بالديون فحق الدائنين أن تسلم قيمتها لهم وعلى هذا فإن تصرفات المريض وعقوده التي ليس فيها غبن أو محاباة تعتبر صحيحة ولا يستطيع الدائنون أن ينقضوها لأن هذه التصرفات لم تمس القيمة المالية للتركة والتي تعلق بها حق الدائنين وأما التصرفات التي فيها محاباة أو غبن أو تبرع بأي صورة من الصور فإنها لا تنفذ في حقهم إلا إذا أجازوها، وأما تصرفات المريض فيما يتعلق بمنافع أعيانه فكلها صحيحة بالنسبة إلى الفترة التي يعيشها قبل وفاته فلا يتعلق بها حق الدائنين ولا حق الورثة إذ حقهم يتعلق بها بعد الوفاة، ومن جهة أخرى فإن المنافع ليست عند الحنفية فهي لا تورث، والتصرفات في المنافع تبطل عند الحنفية من تلقاء نفسها بوفاة المتصرف ولكنها صحيحة عن الفترة قبل الوفاء( ).

 
المطلب الثاني
الرضا وما يقترن به من عيوب
89– رضا العاقدين: 
رضا العاقدين هو اتجاه إرادة كل واحد منهما الصحيحة إلى إنشاء العقد وهذا يتضمن العقد بالإرادة المنفردة أيضاً.
والإرادة عند الحنفية لا تكون كاملة إلا إذا وصلت إلى مرحلة الرضا بآثار العبارة المظهرة للإرادة، وأما مجرد اختيار العبارة فلا يكفي، فهم يفرقون بين إرادة التعبير (وهو الاختيار في اصطلاحهم) وبين إرادة الأثر أي الرضا وهو كما يصرح علماؤهم [الرضا امتلاء الاختيار أي بلوغ نهايته بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها]( ) فالرضا يتضمن بالضرورة الاختيار لأن من أراد أثر العبارة التي صدرت منه لا بد أن يكون قد أراد هذه العبارة، ولكن العكس غير صحيح فمن أراد العبارة دون أن يقصد إلى أثرها فقد تحقق عنده الاختيار دون الرضا وهذا مثل الهازل عندهم فإن الهازل اختار العبارة لكنه لم يقصد إلى تحقيق أثرها فهو لم يرض بها( )، وقد ترتب على هذه التفرقة بين الاختيار والرضا عند الحنفية وجود قسم للعقد لم يوجد عند سائر الفقهاء وهو العقد الفاسد فإذا تحقق الاختيار بدون الرضا فالعقد عندهم فاسد وأما إذا لم يتحقق الاختيار [ومن باب أولى لم يتحقق الرضا] فالعقد باطل مثل عبارة عديم التمييز فانه لا إرادة له حتى يمكن أن يقال أنه قد اختار العبارة التي صدرت منه، وفي حالة فساد العقد عندهم بسبب تحقق الاختيار وحده فإن العقد الفاسد هنا يقبل التصحيح إذا تحقق الرضا بعد ذلك في الوقت الملائم.
وأما إذا تحقق الرضا فهذا معناه بالضرورة تحقق الاختيار لأنه ما دام قد رضي بالعبارة التي صدرت منه فإنه بداهة قد اختارها. وبذلك يمكن القول بأن الاختيار الذي هو القصد إلى العبارة عند الحنفية هو الصيغة التي هي ركن العقد، ولكن الرضا بالآثار المترتبة على هذه الصيغة شرط لصحة هذه الصيغة( ).
وأما المالكية والشافعية والحنابلة فهم – على عكس الحنفية – لا يفرقون بين الاختيار والرضا فهما عندهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فلا يتحقق الاختيار مجرداً عن الرضا إذ أن اختيار العبارة دليل على اختيار الأثر.
ولكن الشافعية يختلفون عن المالكية والحنابلة في أمر هام الشافعية يعتبرون اختيار العبارة دليلا على الرضا وغير قابل لإثبات العكس إلا عن طريق العبارة ذاتها.
وأما المالكية والحنابلة فإنهم مع قولهم بالتلازم بين الاختيار والرضا إلا أنهم أجازوا إثبات ما يخالف العبارة بقرائن أو أدلة منفصلة عن العبارة ذاتها تدل على أن التعبير قد صدر مخالفاً لنية صاحب العبارة.
فالمالكية والحنابلة يغلبون النية على العبارة ولا أثر لهذا التغليب على التلازم بين الاختيار والرضا عندهم فهما شيء واحد فإذا تغلبت النية بأدلة منفصلة عن العبارة فمعنى هذا أن صاحب العبارة لم يرض بها أي لم يخترها اختياراً صحيحاً.
هذا وينضم أبو يوسف ومحمد (صاحبا أبي حنفية) إلى المالكية والحنابلة  في تغليب النية على العبارة هذا ومن المفارقات هنا أن أبا حنيفة يقترب كثيراً من الشافعي رغم اختلافهما الواضح في مسألة الاختيار والرضا – في تغليب العبارة على النية في مسائل عدة: كحالات عدم الشرعية وحالات الصورية مثل عقود التفاخر والتظاهر، وجاء في حاشية ابن عابدين ما يأتي: [لو تزوجها في السر بألف ثم في العلانية بألفين: ظاهر النصوص في الأصل أنه يلزمه عنده الألفان ويكون زيادة في المهر وعند أبي يوسف المهر هو الأول إذ العقد الثاني لغو فيلغو ما فيه، وعند الإمام (أبي حنيفة) أن الثاني وإن لغا لا يلغو ما فيه من الزيادة]( ) أي أن أبا حنيفة يرى أن الزيادة المثبتة في العقد الثاني (عقد العلانية) هي التي يقضي بها وهذا هو مذهب الشافعي في كل حالات الصورية وغيرها فيما عدا ما ورد به نص (كالخطأ والنسيان والإكراه) فهو يغلب دائماً العبارة على النية ما دامت العبارة جاءت خالية مما يدل على النية المخالفة، وأما إذا أمكن استخلاص النية من العبارة الغامضة فهنا لا مانع عند الشافعية من تغليب النية المستخلصة على ظاهر اللفظ في بعض الأحيان.
وهذه هي قاعدة العبرة بالمعاني لا بالمباني وفي رأيي أن هذه القاعدة تختلف عن قاعدة تغليب النية على العبارة لأن نطاق قاعدة العبرة بالمعاني لا بالمباني هو أن تكون العبارة غامضة وتحتمل التأويل دون اللجوء إلى قرائن منفصلة عنها وأما نطاق قاعدة تغليب العبارة على النية فهو في حالة ما إذا كانت العبارة واضحة لا تحتمل التأويل ففي هذه الحالة لا يجيز الشافعي تأويلها بقرائن منفصلة عنه ولذلك فإنه لا يوجد تناقض عند الشافعية في أخذهم بقاعدة العبرة بالمعاني لا بالمباني مع رفضهم لقاعدة تغليب النية المنقطعة عن العبارة على العبارة أي رفضهم الأخذ بالنية بناء على قرائن منفصلة عن العبارة( )هذا وقد صرح ابن قدامة بالخلاف بين الحنابلة وبين الشافعي في هذه المسألة فيقول( ) في [مسألة بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذ خمراً(أي الباعث غير المشروع) ما يأتي: [فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله بقرائن مختصة به تدل على ذلك... وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل ويتحمل أن يصح وهو مذهب الشافعي لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب، لنا أنه عقدعلى عين لمعصية كإجارة الأمة للزنا والغناء]( ) ويقول أيضاً: [وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجازتها كذلك أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار وأشباه ذلك فهذا حرام والعقد باطل عندنا والمالكية في هذا كالحنابلة ويستدلون بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾( ) [المائدة: 2]، ويترتب على هذا الخلاف بين الشافعي ومعه أبو حنيفة من جهة وبين المالكية والحنابلة من جهة أخرى أن زواج المحلل وبيع العينة يعتبران صحيحين قضاء عند الشافعي وأبي حنيفة ما دامت العبارة قد جاءت خالية مما يدل على نية الحرام( )وهما باطلان قضاء عند المالكية والحنابلة إذا وجدت قرائن منفصلة عن العبارة تدل على نية الحرام( ) ورأى المالكية والحنابلة – في نظري -  أصح لأنه يسد ذريعة الفساد وهو أمر مطلوب شرعاً وهذا فضلاً عن أن العبرة بالنية الصحيحة فإذا استطعنا أن نتعرف على النية الصحيحة بقرائن منفصلة عن العبارة فالأولى مؤاخذة المتعاقد بنيته الحقيقة ما دام المتعاقد الآخر على علم بها حقيقة أو حكماً أي كان من المفروض أن يعلمها وهذا هو ما ذكره ابن قدامة في المغني ونقلناه عنه آنفاً.
90– عيوب الرضا: 
هي الأمور التي تحدث خللاً في الرضا فتجعله معيباً مما يترتب عليه تعييب العقد وهذه العيوب ترجع إلى الإكراه، والغلط (الخطأ والنسيان)، والتدليس وهو التغرير مطلقاً، والغبن مع التغرير أي الغبن الذي يترتب عليه تغرير ونبحثها فيما يلي: 
91– الإكراه: 
معناه في اللغة إيقاع الكره وفي الاصطلاح: [هو حمل الإنسان على ما يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه والوعيد]( )فهو ما يقع في نفس الإنسان المهدَّد (المكرَه) من غير (المكرِه) من أن المهدِّد يملك أن يوقع به أو بمن يحب ما توعده به من أذى إذا لم يستجب إلى ما يطلبه فيضطر بناء على هذا الخوف الذي وقع في نفسه إلى إصدار ما طلب منه من قول أو فعل وهذا إكراه نفسي أو معنوي لأنه يعتمد على الإخافة دون إنزال الأذى المادي فعلاً وقد يكون الإكراه مادياًبأن يضربه فعلاً أو يمسك به ويجبره على الكتابة بما يريد. والإكراه (سواء أكان نفسياً أم مادياً) قد يكون ملجئاً وقد يكون غير ذلك؛ فالملجئ هو ما يكون التهديد فيه بقتل النفس أو إتلاف عضو من الأعضاء أو ضرب مبرح موجع يهدر الإرادة فهذا إكراه كالحبس والقيد والضرب الذي لا يخاف منه التلف( ).
والإكراه بنوعيه يعدم الرضا عندجمهور الفقهاء من المالكية الشافعية والحنابلة وأما الحنفية وهم الذين يفرقون بين الاختيار والرضا (كما بينا آنفاً) فهم يذهبون إلى اعتبار إرادة المكره على التفصيل الآتي: قال في( ) البدائع: [إن التصرفات الشرعية نوعان: إنشاء وإقرار والإنشاء نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ ونوع يحتمله أما الذي لا يحتمل الفسخ فالطلاق والعتاق والرجعة والنكاح واليمين والنذر والظهار والإيلاء والفيء في الإيلاء والتدبير والعفو عن القصاص وهذه التصرفات جائزة مع الإكراه عندنا، وعند الشافعي رحمه الله لا تجوز واحتج بما روى عن رسول الله  أنه قال: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلزم أن يكون حكم ما استكره عليه عفواً...(ولنا) أن عمومات النصوص وإطلاقها يقتضي شرعية هذه التصرفات من غير تخصيص وتقييد]( ) ثم يقول بعد ذلك: [وأما النوع الذي يحتمل الفسخ فالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوهما فالإكراه يوجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وعند زفر رحمه الله يوجب توقفها على الإجارة كبيع الفضولي وعند الشافعي رحمه الله يوجب بطلانها أصلاً]( )ثم يقول: [أما إذا كان على الإقرار فيمنع صحة الإقرار سواء كان المقر به محتملاً الفسخ أو لم يكن. لأن الإقرار وصحة الإخبار عن الماضي بوجود المخبر به سابقاً على الإخبار، والمخبر به ههنا يحتمل الوجود والعدم وإنما يترجح جنبة الوجود على جنبة العدم بالصدق وحال الإكراه لا يدل على الصدق]( ) وعلى هذا فإن الإكراه لا يؤثر على الطلاق والزواج والعتاق وما شابهما عند الحنفية، وأما البيوع ونحوها فإن الكاساني – كما رأينا – ينقل عن أبي حنيفة وصاحبيه أنها فاسدة وعن زفر أنها موقوفة أي صحيحة متوقفة على إجازة ذوي الشأن ولكن بعض متأخري الحنفية ذهبوا إلى أنها موقوفة حتى على رأي أبي حنفية وهم يصرحون بأنها موقوفة فاسدة لأن الموقوف عندهم – على عكس متقدمي الحنفية – قسمان موقوف فاسد وموقوف صحيح ولا فرق بينهما في الحكم لأن الإجازة من ذوي الشأن تلحقها جميعاً، وقد صرح بهذا صاحب البحر الرائق زين العابدين بن نجيم (متوفى سنة970 هـ) وقد ذكر ابن عابدين هذا التناقض بين المتقدمين وبعض المتأخرين من الحنفية في حاشيته فقال: -
[.. وأورد عليه أنه يخرج بيع المكره مع أنه منعقد وأجاب في شرح الوقاية بأن من ذكره أراد تعريف البيع النافذ ومن تركه أراد الأعم واعترضه في البحر بأن بيع المكره فاسد موقوف لا موقوف فقط كبيع الفضولي كما يفهم من شرح الوقاية، قلت لكن قدمنا أن الموقوف من قسم الصحيح ومقتضاه أن بيع المكره كذلك لكن صرحوا في كتاب الإكراه أنه يثبت به الملك عند القبض للفساد فهو صريح في أنه فاسد وإن خالف بقية العقود الفاسدة في أربع صور سيذكرها المصنف هناك وأفاد في المنار وشرحه أنه ينعقد فاسداً لعدم الرضا الذي هو شرط النفاذ وأنه بالإجازة يصح ويزول صحته فصح كونه فاسداًموقوفاً، وظهر أن الموقوف منه فاسد كبيع المكره ومنه صحيح كبيع عبد أو صبي محجور وأمثلته كثيرة في باب بيع الفضولي]( ).
هذا وقد لجأ الحنفية إلى قياس الإكراه على الهزل في العقود التي استثناها الشارع من الهزل وذلك لزيادة تأكيد صحة هذه العقود مع الإكراه وهذه هي العقود المنصوص عليها في الحديث عن أبي هريرة عن النبي  قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة» ( )وفي رواية: والعتاق بدل الرجعة، وفي رواية أخرى: اليمين بدل الرجعة ] فالحنفية يجعلون هذه العقود صحيحة مع الإكراه فجاء في كتبهم: [وطلاق المكره واقع لأنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته حال أهليته وهذا لأنه عرف أهون الشرين وأختار أهونهما وهذه آية القصد والاختيار إلا أنه غير راض بحكمه وذلك غير مخل به كالهازل]( ).
وفي رأيي أن هذا القياس من الحنفية ظاهر الخطأ لأن الهازل يعبث وقد بين الشارع أنه لا يجوز العبث في هذه العقود الخمسة لأهميتها ولذلك فإن عدم الرضا هنا لم يؤثر على صحة العقد عقوبة للعاقد نفسه لعبثه، وأما العاقد المكره فهو برئ تماماً من العبث فلا يجوز قياسه على الهازل، وهو حقاً لم يرض بعبارته وإن كان قد اختارها طبقاً لأصل الحنفية في التفرقة بين الاختيار والرضا وكان يتعين عليهم طبقاً لأصولهم أن يعتبروا طلاق المكره فاسداً على الأقل لفوات الرضا ولا يجوز لهم أن يقيسوه على الهازل لأن الهازل هو الذي فعل بعبارته هذا العبث وأما المكره فهو معذور لأن الغير هو الذي أرغمه على اختيار عبارة لا يرضاها طبقاً لاصطلاح الحنفية.
وعلى خلاف الحنفية ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى إبطال عقد المكره وقد اعتمدوا في هذا على دليل قوى لا سبيل إلى دحضه وهو الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في سننه بعدة طرق الأولى منها هي: ابن عباس عن النبي  قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ( ) فهذا الحديث الصحيح حجة على الحنفية في كل ما ذهبوا إليه من تصحيح العقود مع الإكراه، ولا اجتهاد مع النص، واجتهاد الحنفية غير صحيح كما قدمت وهو مبني على قياس فاسد بالنسبة إلى النكاح ونحوه وهو قياس الإكراه على الهزل بالنسبة إلى العقود التي لا يؤثر فيها الهزل.
92 – الخطأ والنسيان: 
اتفق المالكية والشافعية والحنابلة( ) على أنه إذا وجدت قرينة تدل على الخطأ أو النسيان فإن عبارة العاقد لا تكون صحيحة للحديث الصحيح «رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان...» ويلاحظ هنا أمر هام وهو أن الإمام الشافعي خرج هنا على قاعدته وهي عدم جواز إثبات ما يخالف العبارة إلا بالعبارة لورود النص في هذه المسألة وأما الحنفية فهم يختلفون فيما بينهم إذا وجدت قرينة قوية تثبت الخطأ والنسيان فبعضهم( )ذهب إلى أن عقد المخطئ أو الناسي ينعقد فاسداً لوجود أصل الاختيار لأنه كلامه وذهب آخرون( ) من الحنفية إلى أن القصد إلى العبارة أي أن الاختيار قد انعدام مع الرضا وبالتالي يكون العقد باطلاً.
والأصح هنا هو القول الأخير الذي يلتقي مع رأي الجمهور لأن كلاً من الخطأ والنسيان يعدم الرضا والاختيار معاً (طبقاً لتقسيم الحنفية) والمخطئ  والناسي لم يقصد اختيار العبارة أصلاً.
93 -  الغلط: 
الغلط هو في الحقيقة نوع من الخطأ ولكن ليس خطأ في العبارة فعبارة العاقد مع الغلط صحيحة ولكن تصور العاقد للمعقود عليه قد شابه غلط، وهذا الغلط قد يكون في جنس المعقود عليه أو في صفته أو فيهما معاً كمن يشتري خاتماً على أنه من الماس فإذا به من الزجاج المصقول الممرد أو يشتري قماشاً على أنه من الحرير ثم يتضح له أنه من ألياف صناعية تشبه الحرير في لمعانه، فهذه صورة من الغلط في جنس المعقود عليه، وأما الغلط في الصفة فمثاله أن يشتري جارية على أنها بكر فيتضح أنها ثيب أو يشتري دابة على أنها هملاجة فيتضح أنها غير ذلك. وأما الغلط في الجنس والصفة معاً كمن يشتري حصاناً على أنه عربي فيتضح أنه بغل غير عربي، والغلط يثبت إذا كان ظاهرياً كأن يشير إلى الخاتم الزجاج ويقول له اشتريت منك هذا الماس فيقول البائع قبلت دون أن يصحح للمشتري غلطه.
وإذا وقع الغلط في جنس المعقود عليه واستطاع العاقد أن يثبت ذلك فإن العقد يكون باطلاً ولا يترتب عليه أثره الشرعي لأن العقد لا وجود له باعتباره سبباً للحكم وهذا يرجع إلى فوات المعقود عليه بسبب فوات الجنس لأن المعقود عليه ليس هو المطلوب، والبطلان هنا يلحق بالعقود كلها بلا خلاف( ).
ويلاحظ هنا أن الحنفية لم يختلفوا بشأن الغلط رغم أن الغلط في الحقيقة نوع من الخطأ وسبق أن رأينا أنهم اختلفوا في الخطأ ويرجع سبب عدم اختلافهم في الغلط في جنس المعقود عليه أوفي صفته إلى أن هذا الغلط يجعل المبيع معدوماً وهم لا يجيزون بيع المعدوم وفي هذا يقول الكاساني: [وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع (منها) أن يكون موجوداً فلا ينعقد بيع المعدوم وماله خطر العدم كبيع نتاج النتاج.... وعلى هذا يخرج ما إذا قال بعتك هذا الياقوت بكذا فإذا هو زجاج.. لا ينعقد البيع في هذه المواضع لأن المبيع معدوم]( ).
وأما إذا وقع الغلط في وصف في المعقود عليه فإن العقد ينعقد صحيحاً ويكون من حق من وقع في الغلط – إذا تمكن من إثباته– أن يفسخ العقد أي يكون له خيار الفسخ لفوات الوصف. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة بالنسبة إلى العقود التي لا يقبل الفسخ أصلاً كعقد النكاح فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية وبعض المالكية والشافعية في قول، والحنابلة في رواية عن أحمد( )– إلى أن الغلط في الوصف لا يؤثر في هذه العقود.
وذهب بعض المالكية والشافعية في قول آخر والحنابلة في رواية أخرى عن الإمام أحمد إلى أن فوات الوصف يؤثر حتى في عقد النكاح ومن هذا ما جاء في المغني: [وإن تزوج امرأة يظنها حرة فبانت أمة أو يظنها مسلمة فبانت كافرة أو تزوجت عبداً تظنه حراً فلهم الخيار كما لو شرط ذلك نص عليه أحمد في امرأة تزوجت عبداً تظنه حراً فلها الخيار وقال الشافعي في الأمة لا خيار له وفي الكافرة فله الخيار وقال بعضهم فيهما جميعاً قولان]( )وأما بالنسبة إلى العقود التي تقبل الفسخ بطبيعتها كالبيع والإجارة فإن الغلط في الوصف – إذا أمكن إثباته – يترتب عليه خيار الفسخ الذي وقع في الغلط وهذا بلا خلاف( ).
94 – التدليس: 
التدليس لغة واصطلاحاً وهو كتمان العيب في البيع وسائر العقود، والتدليس يؤثر على رضا العاقد إذا كان لا يرضى بالعقد لو ارتفع التدليس، ولذلك فلا خلاف بين الفقهاء في أن التدليس يثبت خيار الفسخ في المعاوضات المالية كالبيع والإجارة وبدل الصلح عن إقرار وما شابهما، ويشترط ألا يعلم العاقد المدلس عليه العيب قبل العقد فإن علم فلا خيار له لرضاه وإذا كان العيب ظاهراً بحيث يسهل معرفته فإن علم المدلس عليه مفترض هنا فليس له الخيار( ). والدليل على ثبوت الخيار بالتدليس حديث التصرية الوارد في الصحيح: «من اشتري شاة مصراة فهو بخير النظريين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» ( ) وقد قاس الفقهاء على التصرية كل فعل من المدلِّس بمحل العقد يظن العاقد به كمالاً فلا يوجد لأن الخيار غير منوط بالتصرية لذاتها بل لما فيها من التلبيس وهذا في المعاوضات المالية( ) وأما في عقد النكاح فقد ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن التدليس يثبت به خيار الفسخ( ).
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا أثر للتدليس في عقد النكاح إذ ليس لواحد من الزوجين خيار الفسخ لعيب لأن النكاح عندهما لا يقبل الفسخ، وذهب محمد بن الحسن إلى أن خيار العيب يثبت للمرأة فقط في عيوب ثلاثة في الزوج: الجنون والجذام والبرص فللمرأة الخيار في طلب التفريق أو البقاء معه لأنه تعذر عليها الوصول إلى حقها بمعنى في الزوج فكان بمنزلة ما لو وجدته مجبوباً أو ممسوحاً أو عنيناً بخلاف الرجل فإنه يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بالطلاق( ).
95 – الغبن والتغرير: 
الغبن هو البخس أو النقص( ) في أحد العوضين بأقل من قيمته بين الناس, والغبن قد يكون يسيراً وقد يكون فاحشاً والغبن اليسير هو ما يدخل في تقويم المقوِّمين من أهل الخبرة والغبن الفاحش هو ما لا يدخل في تقويمهم، وللفقهاء أقوال كثيرة في تحديد الغبن الفاحش( ).
والتغرير هو الخداع وهو في الاصطلاح إيقاع الشخص فيما انطوت عنه عاقبته، والتغرير أعم من التدليس في الاصطلاح لأن التغرير قد يكون بإخفاء عيب وهو التدليس وقد يكون بغير ذلك مما تجهل عاقبته( ).
وهذا هو الأصل عند الفقهاء أن الغبن بمفرده وإن تفاحش فلا أثر له على العقد، فالراجح عند الحنفية أنه ما دام الغبن لم يصحبه تغرير فإنه لا أثر له وهناك رأي مرجوح في المذهب بأن للمغبون خيار الفسخ( ).
والأصل عند المالكية أيضاً [لا رد بغبن]( )وعند الشافعي أيضاً عدم ثبوت الخيار بالغبن( ). وعند الحنابلة الأصل أيضاً هو عدم تأثير الغبن إلا بالنسبة للمسترسل وقد عرف أحمد المسترسل بأنه الذي لا يحسن أن يماكس أي هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة والأصح هنا هو عدم جواز الرد بالغبن وحده مهما تفاحش حتى بالنسبة للمسترسل لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد كبيع غير المسترسل وكالغبن اليسير( )والحق أنه لا داعي لحماية المسترسل ما دام لم يصل إلى درجة ذي الغفلة أو السفيه وهو الذي يعين عليه قيم يتولى عنه تصرف شئونه ولو كان الغبن وحده يصلح لتقرير خيار الفسخ للمغبون لبينه رسول الله  لحبان بن منقذ الذي كان ينطبق عليه اصطلاح المسترسل فهو كان يغبن في المعاملات ورفض رسول الله  أن يحجر عليه( ) مما يدل على أنه لم يصل إلى درجة ذي الغفلة قد أمره  أن يشترط نفسه الخيار ثلاث ليال كما ورد في الصحيح( ) أي أمر بخيار الشرط فلو كان غبن المسترسل يعطيه حق الفسخ ابتداء لما كان هناك حاجة إلى إرشاده إلى خيار الشرط.
والواقع أن الشريعة الإسلامية قد أحاطت المتعاقدين بحماية كاملة فهي سنت خيار المجلس في عقود المعاوضات المالية دون حاجة إلى أي شرط، وأباحت إلى جانب خيار المجلس إذا أراد العاقد أن يعطي نفسه فرصة أكثر من فترة مجلس العقد لكي يفكر ملياً في الصفقة التي يريد الدخول فيها فلا محل بعد هذا إلى تقرير خيار الغبن للمسترسل لأن هذا يفتح الباب إلى أمر خطير وهو عدم استقرار العقود فيلجأ كل من خسر في صفقة إلى إدعاء الاسترسال ويطلب الفسخ ولكن يلاحظ أن هنا أن الفقهاء اتفقوا على الفسخ بالغبن في بعض الحالات التي تقتضي ذلك، وهذه الحالات لا يكون الغبن وحده هو السبب في إثبات خيار الفسخ، وإنما السبب هو حماية العاقد حسن النية الذي لم يقم بإبرام العقد بنفسه وإنما أبرمه عند آخر يخشى أن يكون قد تمالأ مع الطرف الآخر للإضرار بمن يمثله، فإذا أبرم الوكيل العقد بغبن فاحش فإن من حق الموكل أن يفسخ العقد، وهذا هو الحكم أيضاً في العقود التي يبرمها الولي عن القاصر فإن له عندما يبلغ أن يختار الفسخ بالغبن الفاحش، وكذلك الحكم بالنسبة إلى العقود التي يجريها ناظر الوقف بصفته وتلك التي يجربها المسئول عن بيت مال المسلمين فيثبت فيها خيار الفسخ بالغبن. ويقال مثل ذلك أيضاً بالنسبة إلى العقود التي يبرمها المدين بدين مستغرق لماله وهو المحجور عليه فعلاً أو بموجب حكم – طبقاً لاختلاف الفقهاء في هذه المسألة – فإن للدائن أن يطلب الفسخ بالغبن إذا أضر بحقه، وهذا هو الحال أيضاً بالنسبة إلى عقود المريض مرض الموت، فإن للدائنين – بعد وفاة المريض- حق فسخ العقود التي فيها غبن لأن الغبن هنا يمثل محاباة لمصلحة الغير تضر بحقوق الدائنين إلا إذا دفع هذا الغير ما يرفع الغبن( ). ومما يلاحظ أن خيار الفسخ بالغبن في هذه العقود كلها ثبت هنا مراعاة للغير حسن النية.
هذا والتغرير بمفرده لا أثر له على العقد ما دام المعقود عليه قد قوبل بقيمته لأنه في هذا الحال لم يحصل للعاقد – رغم التغرير – أي ضرر.
وإذا اجتمع الغبن مع التغرير في العقد فإن غالبية الفقهاء يذهبون إلى أن العاقد المغبون الذي غرر به له حق الفسخ فالراجح عند الحنفية أن للمغبون مع التغرير خيار الفسخ وهذا الراجح يخالف ما جاء في ظاهر الرواية في الفقه الحنفي لأن الإمام أبا حنفية يرى أن الغبن الفاحش الناتج عن التغرير لا يؤثر على عقود المعاوضات.
ويرى الإمام مالك أن للمغرور في حاله الغبن خيار الفسخ، وروى عن الإمام أحمد أن بيع النجش باطل لأنه منهي عنه والنهى يقتضي الفساد( )والنجش إذا ترتب عليه الغبن يكون جمع بين التغرير والغبن، لأن النجش معناه أن يستثير الغير المشتري «كما تستثار الطير» بأن يتظاهر بأنه يريد شراء السلعة بسعر يزيد عن قيمتها كثيراً ليأخذها بهذا السعر، وقد نهى الرسول  عن النجش قال «ولا تناجشوا» ( ) ويرى ابن قدامة أن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في البيع إلا إذا ترتب عليه غبن للمشتري فهذا تغرير وغبن يترتب عليه تقرير خيار الفسخ للمغبون المغرور واشترط الشافعية في النجش أن يكون هناك تواطؤ بين البائع والغير الناجش فإذا لم يكن هناك مواطأة فلا خيار عندهم وإذا وجدت المواطأة فقولان: [قاله السبكي والأصح أنه لا خيار للمشتري لتفريطه بعدم مراجعة أهل الخبرة وتأمله والثاني له الخيار للتدليس كالتصرية]( ).
ويرى الإمام مالك خيار الفسخ في النجش أيضا ( )وأما الإمام أبو حنيفة فهو يذهب إلى صحة العقد مع النجش قضاه لأن المشتري هو المقصر وكان عليه أن يسأل أهل الخبرة ولا يتأثر باستثارة الناجش له وهو ليس طرفا في العقد( ).

المطلب الثالث
ولاية العاقدين
96– تعريف الولاية: 
الولاية بفتح الواو وكسرها مصدر ولي فيقال ولي الشيء إذا ملك أمره.
والولاية في اصطلاح الفقهاء هي سلطة شرعية على النفس أو على المال يترتب عليها نفاذ التصرف فيها شرعاً. و لا يكون الشخص ذا ولاية إلا إذا كان له أهلية أداء فمالك الشيء لا ولاية له في التصرف فيه إلا إذا كان له أهلية أداء كاملة، أو كان له أهلية أداء ناقصة (كالصبي المميز) وقد أذن له ولية في التصرف الدائر بين النفع والضرر كالبيع وإذا كان التصرف نافعاً نفعاً محضاً كقبول هبة فإن له التصرف بدون إذن وليه. وقد يكون الشخص متمتعاً بأهلية أداء كاملة ومع ذلك فإنه لا ولاية له في التصرف في الشيء موضوع التعاقد كمن يتصرف بالبيع في مال غيره ممن ليست له عليه ولاية وهو الفضولي.
97 – أقسام الولاية: 
الولاية إما ذاتية وإما متعدية. والولاية المتعدية إما شرعية وإما مستمدة من غير الشارع – بتخويل من الشارع بطبيعة الحال – وإما عامة وإما خاصة وإما ولاية على النفس وإما ولاية على المال أو على كليهما معاً.
والولاية الذاتية هي ولاية الشخص على نفسه ما دام أهلاً للتعاقد فالذاتية لا تنفك عن أهلية الأداء أبداً.
والولاية المتعدية هي ولاية الشخص على غيره كولاية الأب والجد الصحيح وهذه ولاية مستمدة من الشارع. فهي شرعية: [بمعنى أن الشارع فوض لهما التصرف في مال الولد لوفور شفقتهما وذلك وصف ذاتي لهما فلو عزلا أنفسهما لم ينعزلا بالإجماع لأن المقتضي للولاية: الأبوة والجدودة وهي موجودة مستمرة لا يقدح العزل فيها لكن إذا امتنعا من التصرف تصرف القاضي]( ).
والولاية المتعدية المستمدة من الغير فهي إما عامة وإما خاصة فالعامة كولاية الحاكم على المحكومين فهي مستمدة من بيعة الأمة وكولاية القاضي فيما له من الولاية العامة فهو ولي له وولايته مستمدة من الإمام أو الحاكم والولاية المتعدية الخاصة كولاية الوصي والوكيل وناظر الوقف فالوصي يستمد من الموصي والوكيل من الموكل وناظر الوقف من الواقف.
هذا وقد تكون الولاية المتعدية ولاية على نفس الغير فقط أو على ماله فقط أو عليهما معاً.
والولاية على النفس فقط تتنوع فمنها ولاية الحضانة للأم على طفلها ومنها ولاية ضم الصغير بعد بلوغه أقصى سن الحضانة لأقرب عاصب ليقوم بتأديبه وتعليمه والعناية بأمره وتزويجه والولاية على النفس فقط يتولاها الأقرب فالأقرب من العصبات وهذا لا يكون إلا في حالة فقدان الأب والجد الصحيح لأن ولايتهما تشملان النفس والمال معاً. وعند تعدد العصبات من درجة واحدة كالأخوة يقدم الشقيق فإذا لم يوجد عاصب مطلقاً انتقلت الولاية على النفس إلى غيرها من الأقارب وذوي الأرحام( ) وإذا لم يوجد «فالسلطان هو ولي من لا ولي له» ( ) والولاية على المال فقط تكون للوصي، وأما الولاية على النفس والمال معاً فهي ولاية قوية فللأب أن يبيع مال الصغير بقيمته أو بغبن يسير منقولاً كان أو عقاراً ولكن تصرفه لا ينفذ إذا كان مضراً بالصغير كالبيع بغبن فاحش أو إلى مفلس.
وقد اتفق الفقهاء على تقديم الأب في الولاية فإذا لم يوحد الأب فقد اختلفوا: فالحنفية( )يجعلون الولاية على المال بعد الأب لوصيه المختار أي الذي اختاره بنفسه فإذا لم يوجد وصي مختار فتكون للجد الصحيح ثم لوصي الجد المختار ثم بعد ذلك للقاضي لأنه ولي من لا ولي له. وللقاضي أن يعين وصياً من قبله إذا كان مشغولاً. ويختلف الشافعي( )عن الحنفية في أنه يرى أن الجد مقدم على الوصي الذي اختاره الأب لأن الجد أشفق على حفيده من وصي الأب.
ومالك وأحمد( ) لا يعتبران الجد مطلقاً في الولاية على المال ويجعلان هذه الولاية بعد الأب لوصيه ثم للقاضي أو وصيه.
98 – شروط الولاية( ): 
يشترط للولاية على الصغير وممن في حكمه أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وأن يكون مسلماً وأن يكون أميناً فلا تثبت ولاية للصبي والمجنون والعبد وهذا أمر بدهي لأنه لا ولاية على أنفسهم فمن باب أولى لا تكون لهم ولاية على غيرهم. ولا تثبت ولاية غير المسلم على المسلم لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]، ولا تثبت الولاية المالية لغير العدل لأنه غير أمين على الصغير( ) ويشترط جمهور الفقهاء الذكورية في الولاية وأجاز أبو حنيفة جعل الولاية للأنثى في بعض الأحوال( ).
99 – الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة( ): 
فالقاضي أو الحاكم وهو ولي عام لا يتصرف مع وجود الولي الخاص وأهليته ولو أذنت المرأة للولي الخاص أن يزوجها بغير كفء ففعل صح أما للحاكم فلا يصح منه هذا في الأصح وللولي الخاص استيفاء القصاص والعفو على الدية ومجاناً وليس للإمام العفو مجاناً وهذا عند الشافعية. وذكر الحنفية الآتي: [وللولي الخاص استيفاء القصاص والصلح والعفو مجاناً والإمام لا يملك العفو]( ).
100– ولاية الوكيل على العقد: 
يعتبر الوكيل ذا ولاية صحيحة على التصرفات التي صرح له بها الموكل. ولقد سبق التشريع الإسلامي النظم الوضعية كلها (قديمها وحديثها)( )في معرفة نظام الوكالة في أرقي صورها. فقد ابتدع التشريع الإسلامي نظام الوكالة فجعل كل عقد أو تصرف شرعي تجوز فيه الوكالة الكاملة فيجوز للمرء أن يوكل غيره في كل ما يجوز أن يتولاه من التصرفات الشرعية من عقود وغيرها ولم يستثن التشريع الإسلامي شيئاً من العقود ولا التصرفات إلا الأعمال التي يشترط الشارع أن يتولاها ذو الشأن بنفسه مثل أداء اليمين والشهادة والصلاة والصيام وغير ذلك من المسائل التي لا يجيزها الشارع إلا من الشخص نفسه.
والوكالة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ [التوبة: 60]، فجوز العمل عليها وذلك بحكم النيابة عن المستحقين وأيضاً قوله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: 19]، وهذه وكالة، وقد ثبتت الوكالة في الصحيح من السنة المطهرة فثبت أن رسول الله  وكل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان( ) وأنه استعمل رجلاً(أي وكيلاً) على خبير( )وثبت أيضاً في الصحيح عن عروة البارقي أن النبي  أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية( )أي وكله في شرائها.
وأجمع العلماء على جواز الوكالة في جميع التصرفات لا يشترط فيها أن يقوم بها الشخص بنفسه: جاء في المغني لابن قدامة: [وكل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلاً أو امرأة أو عبداً مسلماً أو كافراً].
وجاء في أيضاً [وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة]( ).
والوكيل له ولاية صحيحة في إبرام العقد عن الموكل صاحب الشأن بموجب التوكيل الصادر منه، وغني عن البيان أنه يشترط في الموكل أن يكون ذا أهلية للعقد الذي يعقده وكيله عنه لأن الوكيل يستمد الولاية من الموكل فإن كان هذا لا ولاية له في إنشاء العقد بنفسه كأن يكون صغيراً أو مجنوناً فإن الذي يتولى إبرام العقود هو النائب الشرعي أو القضائي ولا يتصور الوكيل هنا. أما السفيه وذو الغفلة فهما يملكان توكيل غيرهما في كل ما يملكان التصرف فيه بأنفسهما من غير توقف على إذن القيم عليهما فيصح منهما التوكيل بالنكاح والطلاق والوقف على النفس والذرية ومن بعدهما على الفقراء والوصية بما يزيد عن الثلث ويشترط في الوكيل أن يكون عاقلاً مميزاً على الأقل واختلف الفقهاء في جواز توكيل ناقص أهلية الأداء (مثل الصبي المميز) في التصرفات الدائرة بين النفع والضرر ومن باب أولى في التصرفات الضارة ضرراً محضاً.
فقد ذهب أبو حنفية وأصحابه إلى أنه يجوز توكيل الصبي المميز غير البالغ في كافة التصرفات وهذا يتفق مع أصولهم في الحجر على الصغير المميز فهو عندهم ليس لعدم صلاحية عبارته للعقود والتصرفات بصفة عامة بل لحفظ أمواله وعجزه عن إدارتها بمقتضى صغره فضم إليه من يعينه وهو الولي  أو الوصي وهم يحتجون هنا بأن رسول الله  لما خطب أم سلمه قالت: إن أوليائي غيب يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس فيهم من يكرهني» ثم قال لعمرو بن أم سلمه: «قم فزوج أمك مني» فزوجها منه  ولقد قالوا: إنه كان في ذلك الوقت صبياً مميزاً لم يبلغ الحلم ( ).
ولكن هذه الحجة في الحقيقة واهية في هذا المقام لأن الرسول الله  كما قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب : 6]، وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة: [علم الله تعالى شفقة رسول  فجعله أولى بهم من أنفسهم وحكمه فيهم مقدم على اختيارهم لأنفسهم] ( )ولذلك فإن أمره إلى عمرو بن أم سلمه بتزويج أمه منه لا يعتبر – والله أعلم – دليلاً على صحة عبارة الصبي المميز.
ومن جهة أخرى فإنه ليس من المؤكد أن ابن أم سلمه كان غير بالغ في هذا الوقت، ويذهب المالكية والشافعية إلى أنه من شروط الوكيل [أن لا يكون ممنوعاً بالشرع من تصرفاته في الشيء الذي وكل فيه ]( ) وعلى هذا فالصبي المميز لا يملك أن يكون وكيلاً إلا فيما أذن له  فيه من التجارة من وليه أو وصيه وما لا يملكه لنفسه لا يملكه بصفته وكيلاً عن غيره. هذا وبناء على القول بأن عقد الصبي المميز يكون صحيحاً موقوفاً على إذن وليه أو وصيه (وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والحنابلة) فإن توكيل الصبي المميز يكون صحيحاً موقوفاً على إذن الولي أو الوصي.
ويذهب الشافعية إلى بطلان عقود الصبي المميز وإلى بطلان توكيله وذلك هو مقتضى قاعدتهم: بأن كل شيء حجر على الصغير فيه فهو باطل إذا تولاه لنفسه أو لغيره فإن الشافعية لا يجيزون تصحيح عقد الصبي بإجازة الولي اللاحقة( )فهم لا يقولون بالعقد الموقوف.
101 – مدى انصراف أثر العقد – الذي يبرمه الوكيل – إلى الموكل: 
يتفق الفقهاء في أن حكم العقد الذي يبرمه الوكيل ينصرف إلى الموكل وليس إلى الوكيل الذي أبرم العقد بإرادته وعبارته ويختلفون بالنسبة إلى حقوق العقد( ) فيذهب الجمهور إلى أن حقوق العقد تنتقل بمجرد العقد الذي أبرمه الوكيل إلى الموكل وأما الحنفية فهم يقرون أن الحقوق تنتقل إلى الوكيل ثم يقوم الوكيل بعد ذلك بنقلها إلى الموكل، ولذلك فإن الحنفية وإن كانوا يتفقون مع الجمهور في أن حكم العقد ينتقل إلى الموكل إلا أنه لا ينتقل إلى الموكل إلا عبر ذمة الوكيل فهو عند أبي حنفية يدخل في ملك الوكيل ثم ينتقل إلى الموكل بعد ذلك ولذلك فإن الحقوق لا تنتقل إلى الموكل وإنما يقوم الوكيل باستيفائها من الغير ثم ينقلها بعد ذلك إلى الموكل، ويتفرع عن هذا أن المسلم لو وكل ذمياً في شراء خمر أو خنزير فاشتراه له لم يصح الشراء عند الجمهور وقال أبو حنيفة يصح ويقع للذمي لأن الخمر مال لهم  لأنهم يتولونها ويتبايعونها فصح توكيلهم فيها كسائر أموالهم ويستثني الحنفية حالة ما إذا كان الوكيل صبياً مميزاً غير بالغ (وهم يجيزون هذه الوكالة كما سلف البيان) فإن الحقوق تنصرف إلى الموكل مباشرة مراعاة لحالة الوكيل.
وكذلك الحال بالنسبة إلى عقد النكاح فإن الحقوق ترجع إلى الموكل ولا ترجع إلى الوكيل وهذا هو الحكم عندهم بالنسبة إلى العقود التي لا تتم إلا بالقبض كالهبة والرهن وغيرهما فهم في هذه العقود المستثناة يتفقون مع الجمهور( ).
102 – تصرف من لا ولاية له: الفضولي واختلاف الفقهاء فيه: 
الفضولي في اللغة هو اسم لكل شخص يتصرف في حق لغيره بغير إذن شرعي منه كالأجنبي يبيع ملك الغير أو يزوج من ليست تحت ولايته والمعنى في الاصطلاح لا يختلف عن المعنى في اللغة.
وتصرف الفضولي موقوفة عند أبي حنيفة (في حالة البيع دون الشراء) وعند مالك وأحمد في رواية عنه بإطلاق أي أنها تنعقد صحيحة موقوفة على إجازة من له حق الإجازة إن وجد( )وقد حكى الشافعية هذا الرأي باعتباره قولاً مرجوحاً في المذهب( ).
وعند الشافعي وأحمد في رواية أخرى وعند أبي حنفية (وفي حالة الشراء) فإن تصرفات الفضولي باطلة لا تصححها إجازة صاحب  الشأن( ).
هذا ويستدل أصحاب الرأي الأول بما يأتي: 
1-ما روى في الصحيح من أن النبي  دفع ديناراً إلى عروة البارقي وأمره أن يشتري له شاة فاشترى له شاتين ثم باع أحدهما بدينار وجاء بدينار وشاة للرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: «بارك الله في صفقة يمينك» ( )ولا ريب أن عروة في بيعه لإحدى الشاتين كان فضولياً وقد أقره النبي  في هذا التصرف بل وأثنى عليه بدعائه له بالبركة.
2-يؤيد الحنفية رأيهم بأن [تصحيح عقد الفضولي – مع عدم نفاذه – فيه مصلحة للمالك وللمشتري من الفضولي من غير ضرر ولا مانع شرعي... أما تحقق ما ذكرنا فإن المالك يكفي مئونة طلب المشتري ووفور الثمن ونفاق سلعته وراحته منها ووصوله إلى البدل المحبوب ويكفي المشتري وصوله إلى حاجة نفسه بالاستيلاء على المبيع والفضولي يصون كلامه عن الإلغاء والإهدار بل يحصل له الثواب إذا نوى الخير لله تعالى وإعانة أخيه والرفق به ولما كان هذا التصرف خيراً لكل من جماعة عباد الله من غير ضرر كان الإذن في هذا العقد ثابتاً دلاله إذ كل عاقل يأذن في التصرف النافع له بلا ضرر يشينه أصلاً... فلا يقال هنا إذا ثبت الإذن دلالة ينبغي أن ينفذ العقد لأننا نقول الثابت دلالة مالا ضرر فيه وذلك هو الانعقاد موقوفاً على إذن المالك فيثبت بهذا القدر وأما نفاذه بلا رأيه ففيه إضرار به إذ ربما لا يريد بيعه فيثبت الضرر]( ).
ويستدل أصحاب الرأي الثاني (الشافعي ومن معه) بالآتي: 
1-ما روى عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله: إن الرجل ليأتيني فيريد مني البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال «لا تبع ما ليس عندك» ( ) فهذا يدل بمقتضى ما فيه من نهى عن أن يبيع الإنسان ما لا يملك لا ينعقد لأنه لا ينعقد صحيحاً تصرف صدر فيه نهى عن الشارع إذ النهي يقتضي الفساد( ).
2- ويرى الشافعي أيضاً أن الفضولي يتصرف بغير ولاية لإبرام العقد وبالتالي فإنه لا تتوافر لدية القدرة الشرعية التي تمكنه من تنفيذ أحكام العقد لأن الولاية مثل الأهلية شرط لصلاحية العبارة لإبرام العقد ولا ولاية إلا إذا كان العاقد ذا شأن في العقد بصفة مباشرة – بأن يكون هو المالك – أو بصفة غير مباشرة بأن تكون له نيابة عن صاحب الشأن بولاية أو بوكالة لأن شرط انعقاد العقد أن يكون كل عاقد قادراَ على تمكين من تعاقد معه من كل أحكام العقد المتعلقة به، فإذا لم يتوافر لدى العاقد هذه القدرة المشترطة شرعاً فإن العقد لا ينعقد ويصبح مثل بيع على معدوم أو على غير مقدور التسليم كبيع البعير الشارد، والعبد الآبق، والسمك في الماء والطير في الهواء ذلك أن الفضولي إنما هو شخص يتصرف من غير ولاية له أيبغير قدرة على تنفيذ أحكام العقد قبل الطرف الآخر( ).
103– الترجيح بالنسبة لتصرف الفضولي: 
الصواب في رأيي أن تصرف الفضولي صحيح موقوف على إجازة صاحب الشأن سواء بالبيع أو الشراء وهذا ما ذهب إليه المالكية وأحمد في رواية والشافعية في قول مرجوح وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة من قصر صحة تصرف الفضولي على البيع دون الشراء فهو تحكم بغير دليل، والحديث الذي يحتج به الحنفية حجة عليهم لأن عروة البارقى اشترى شاتين وقد أمره الرسول  أن يشتري شاة أي واحدة وهذا الحديث المروى في الصحيح حجة قوية على صحة تصرف الفضولي وهي حجة تدحض قول الشافعية ببطلان تصرف الفضولي ولا اجتهاد مع النص لأن الشافعية أسسوا رأيهم على أن القياس هو بطلان تصرف الفضولي لأن الفضولي لا ولاية له وبالتالي فإن تصرفه لا ينعقد وهذا صحيح ولكن النص يمنع القياس لأنه الأقوى وهذا يعتبر من قبيل استحسان السنة في اصطلاح الحنفية إذ ثبت من السنة ما يوجب رد القياس كما روى في السنة عن صحة الصيام مع الأكل أو الشرب ناسياً فإن القياس كان يوجب الإفطار ولكن السنة ردت هذا القياس. ولكن هناك فارقاً بين صحة تصرف الفضولي وصحة صيام من أكل أو شرب ناسياً لأن الأول من المعاملات والثاني من العبادات والأصل في العبادات الحظر والتوقيف على عكس الأصل في المعاملات فهو الإباحة ولذلك فإنه لولا حديث صحة صيام من أكل أو شرب ناسياً فما كان يجوز تصحيح هذا الصيام استحساناً بغير نص وأما في حالة تصرف الفضولي فإنه على فرض عدم وجود حديث عروة ما كان ليمتنع القول بصحة تصرف الفضولي استحساناً بشرط أن يكون موقوفاً على إجازة صاحب الشأن لأن هذا القول – مع مخالفته للقياس في نطاق المعاملات المباحة أصلاً– يحقق مصالح الشريعة ولا يتعارض معها لأن تصحيح تصرف الفضولي مع جعله موقوفاً على الإجازة يحقق تحصيل مصالح كانت ستفوت قطعاً لو أبطل تصرف الفضولي ولا ضرر على الغير من هذا لأن الأمر بيده في النهاية فإن هو وجد أن تصرف الفضولي لمصلحته غير مفيد له أو هو غير راغب فيه فهو يملك دائماً رفض هذا التصرف فيعتبر كأن لم يكن بالنسبة له. فتصحيح تصرف الفضولي بني على أصل عظيم من أصول الشريعة وهو التعاون على البر والتقوى وتقديم النفع للغير وهذا الأصل أقوى من مخالفة تصرف الفضولي للقياس الفقهي في مسألة تنتمي إلى المعاملات التي أصلها الإباحة لا الحظر فهذا باب هام من أبواب الاستحسان.
ولذلك ليس غريباًأن يرجح الشافعية بطلان تصرف الفضولي لأن الإمام الشافعي رفض الاستحسان وإن كان قد استحسن فعلاً في بعض الأحيان.
104 –حكم عقد الفضولي قبل الإجازة من صاحب الشأن: 
يعتبر عقد الفضولي قبل الإجازة من صاحب الشأن عقداً موقوفاً أي صحيحاً غير نافذ لأن حكمه وحقوقه معلقة على شرط الإجازة من صاحب الشأن فهو عقد معلق على الشرط. ومما يلاحظ هنا أن الفقهاء الذين أجازوا عقد الفضالة وهم الجمهور (الحنفية والمالكية والشافعية في الرأي المرجوح والحنابلة في رواية لأحمد) يذهبون جميعاً إلى عدم جواز تعليق عقود التمليكات ولذلك فإن صحة عقد الفضولي تأتي على خلاف القياس من وجهين عند هؤلاء الفقهاء: 
الوجه الأول: 
هو أن من لا ولاية له لا يملك إنشاء العقد وقد صح عقد الفضولي استحساناً من هذه الوجهة.
الوجه الثاني: 
أن عقد الفضولي هو عقد معلق على شرط الإجازة وهذا مخالف لأصلهم في عدم جواز تعليق التمليكات ولكن الأصح هو جواز تعليق عقود التمليكات وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم، والحق أن الفقهاء عندما رفضوا تعليق عقود التمليكات لم يستندوا إلى نص في الكتاب والسنة الصحيحة وإنما كان مجرد صياغة فقهية تقوم على زعم أن التعليق يلحق غرراً فاحشاً بالعقد وعقود التمليك يفسدها الغرر الفاحش( )وهذا الرأي - رغم أنه رأي الكثرة الغالبة – غير صحيح في نظري لأن التعليق في حد ذاته ليس فيه أدنى غرر إذا كانت أركان العقد قد بينت بياناً كافياً نافياً للجهالة وكل ما في الأمر أن العقد قد ينعقد وقد لا ينعقد وهذا ليس غرراً طالما أن جميع عناصر العقد قد حددت تحديداً كافياً وهذا هو الحاصل في حالتي خيار المجلس وخيار الشرط فإن العقد يتم صحيحاً في أثناء انعقاد المجلس ولكنه يكون موجوداً على خطر الزوال إذا اختار أحد العاقدين الفسخ قبل انفضاض المجلس فهو معلق على شرط استعمال الخيار وكذلك الحال بالنسبة إلى خيار الشرط، وقد أوجب الشارع خيار المجلس في عقود المعاوضات المالية كما أباح فيها خيار الشرط، وعقود المعاوضات المالية هي أشد العقود تأثراً بالغرر إن لم تكن هي الوحيدة على رأى بعض الفقهاء( ) ولا ريب أن إيجاب الشارع لخيار المجلس وإباحته لخيار الشرط لهو دليل قوي على جواز تعليق عقود التمليكات بأنواعها، ولكن الغالبية العظمى من الفقهاء يذهبون إلى أن خيار المجلس وخيار الشرط يعتبر استثناء يعمل به لورود النص به وما عداه يبقى على أصل  المنع وهذا التوجه بعيد ولا دليل عليه من النصوص الشرعية، ولذلك كله فإن الرأي الصحيح هنا – في نظري والله أعلم – هو رأي القلة الذين ذهبوا إلى جواز تعليق عقود التمليكات ومن ثم فإن صحة عقد الفضولي – على هذا الرأي – جاءت على خلاف القياس من وجه واحد فقط وهو وجه الولاية في إنشاء العقد.
ويلاحظ هنا أن القول بأن عقد الفضولي عقد معلق على الإجازة يختلف تماماً عن قولنا بأن عقد الفضولي – قبل الإجازة – غير لازم فللفضولي أن يفسخه وللعاقد الآخر له أيضاً أن يفسخه ولكن العقد غير اللازم يعتبر عقداً نافداً أي يجوز تنفيذه في أي وقت كما يجوز لكل من المتعاقدين [أو لأحدهما فقط إن كان عدم اللزوم من طرف واحد] أن يستقل بفسخ العقد من ثم فإن للمتعاقد في عقد غير لازم أن يتصرف في المعقود عليه فوراً إذا كان قد تسلمه، وهذا لا يمكن في حالة عقد الفضولي حتى لو تسلم المتعاقد الآخر المعقود عليه.
ومن جهة أخرى فإن عقد الفضولي ليس من الضروري أن يكون غير لازم بالنسبة للفضولي بل الأصل أن عقد الفضولي – منذ إبرامه يكون لازماً بالنسبة له فلا يستطيع أن يفسخ العقد قبل الإجازة من صاحب الشأن والسبب فيذلك هو تعلق حق الغير بهذا العقد، والفقه الإسلامي يحتفي بحق الغير فتنقلب العقود غير اللازمة إلى عقود لازمة إذا تعلق بها حق الغير وذلك مثل عقد الوكالة لمصلحة الغير كمن وكل غيره في أداء دين للغير فإن هذا العقد – وهو أصلاً غير لازم – ينقلب إلى عقد لازم مراعاة لحق الغير( ) فعقد الفضولي الأصل فيه أنه لازم بالنسبة له رغم عدم نفاذه فهو لا يستطيع أن يفسخه حتى يقوم صاحب الشأن بإبداء رأيه بالإجازة أو بالفسخ، وكذلك العاقد الآخر لا يستطيع أن يفسخه إلا إذا كان قد اشترط لنفسه الخيار ومن هذا يتضح أن وصف عقد الفضولي بأنه غير لازم يعتبر وصفاً غير صحيح( ).
105 – حكم عقد الفضولي بعد الإجازة من صاحب الشأن: 
إذا لم يجز صاحب الشأن تصرف الفضولي فإن تصرفه يعتبر كأن لم يكن، وإذا أجازه فإن العقد يعتبر نافذاً بعد أن كان موقوفاً غير نافذ.
ولكن تثور هنا مشكلة وقت نفاذ العقد فهل يعتبر العقد نافذاً منذ إبرامه من الفضولي أي ينعطف أثر الإجازة إلى الماضي أو لا يكون لها أثر إلا من وقت حصولها فلا يوجد العقد إلا منذ تاريخ الإجازة؟
ولما كان الغالبية العظمى من الفقهاء يذهبون إلى عدم جواز تعليق عقود التمليكات فأنهم يعتبرون العقد المبرم من الفضولي نافذاً– بالإجازة - منذ تاريخ إبرام الفضولي للعقد أي ينعطف( )أثر الإجازة إلى الماضي ولا يكون لها أثر إلا من وقت حصولها فلا يوجد العقد إلا منذ تاريخ الإجازة؟
ولما كان الغالبية العظمي من الفقهاء يذهبون إلى عدم جواز تعليق عقود التمليكات فإنهم يعتبرون العقد المبرم من الفضولي نافذاً– بالإجازة – منذ تاريخ إبرام الفضولي للعقد أي ينعطف أثر الإجازة إلى الماضي وهذا تمشياً مع رأيهم بعدم جواز تعليق هذه العقود وهم يظنون أنهم يمسحون بذلك فترة التعليق قبل الإجازة وهذا غير صحيح في الواقع لأن العقد قبل الإجازة كان معلقاً فعلاً. هذا وعلى قول الفقهاء ينقلب الفضولي بالإجازة وكيلاً منذ إبرامه للعقد.
وأما العقود التي التقبل التعليق عند الجمهور مثل العتاق والوكالة والكفالة والطلاق والإمارة فإنها تنعقد من وقت الإجازة لا من وقت العقد فلا يوجد انعطاف بالنسبة لها. وغني عن البيان أنه طبقاً لرأي ابن تيمية وابن القيم اللذان ذهبا بحق إلى جواز تعليق عقود التمليكات فطبقاً لهذا الرأي فإن هذه العقود لا تعتبر نافذة أيضاً إلا من تاريخ الإجازة فلا تنعطف بالإجازة شأنها شأن سائر العقود وهذا هو الأصح في نظري لأن القول بانعطاف هذه العقود إلى وقت إبرام الفضولي لها فيه تناقض واضح مع كونها معلقة فعلاً قبل الإجازة ومعرضة لاعتبارها لم تكن إذا لم يجزها صاحب الشأن.
106 – مدى ولاية العاقد الواحد على صيغة العقد كاملة: 
سبق أن ذكرنا( )أن التشريع الإسلامي سبق جميع الشرائع في معرفه العقد بالإرادة المنفردة وهو العقد الذي ينعقد كاملاً بموجب الإيجاب وحده دون حاجة إلى قبول.
ولكننا نبحث هنا أمراً آخر وهو أن يتولى عاقد واحد صيغة عقد ينعقد بإيجاب وقبول أي يتولى هو وحده إصدار الإيجاب وإصدار القبول أيضاً.
وهذه الولاية قد يكون سببها النيابة الشرعية أو القضائية أو الاتفاقية أي الوكالة، وهناك صورة أخرى وهي أن يكون العاقد فضولياً بالنسبة للطرفين. والأصل عند الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة هو عدم جواز تعاقد الشخص مع نفسه عن طرفي العقد واستثنوا شراء الأب مال ولده لنفسه وبيع ماله من ولده وجعل المالكية والشافعية الجد كالأب لوفور شفقتهما وخالف في الجد الإمام أحمد وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك في قول عنه وأحمد في رواية ثانية إلى جواز ذلك للموضى المعين من الأب وزاد مالك وأحمد إلى جواز ذلك في الوكيل أيضاً في شراء مال الصغير وخالف في كل ذلك زفر من الحنفية فهو يرى عدم جواز تعاقد الشخص مع نفسه في جميع الحالات بدون استثناء( ).
وذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز ذلك في النكاح فيجوز للوكيل أن يكون وكيلاً عن الزوجين معاً وزاد الحنفية بأنه يجوز للجد أن يزوج حفيدته من حفيده وخالف زفر من الحنفية في ذلك أيضاً لأنه يرى بصفة مطلقة عدم جواز تعاقد الشخص مع نفسه.هذا ويستدل الحنفية ومن نحا نحوهم – على جواز تعاقد الشخص مع نفسه في النكاح بقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127]، فقد نزلت هذه الآية الكريمة في يتيمة في حجر وليها وهي ذات مال والخطاب هنا للولي الذي يريد أن يتزوج اليتيمة التي في ولايته ونكاح اليتيمة يكون إلى وليها فإذا كان لنفسه فهو يتولى العقد من الجانبين وسياق الآية يدل على جواز ذلك لأن الله تعالى عاتب من أراد أن ينكح اليتيمة التي في ولايته ولا يعطيها حقها وهذا العتاب لا يتصور إلا إذا أجيز للولي أن ينكح اليتيمة (تحت ولايته) نفسه بعبارته.
واستدل الحنفية أيضاً بما رواه البخاري من أن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم [أتجعلين أمرك إلي قالت: نعم قال: قد تزوجتك]( )واستدلوا بما رواه عن عقبة بن عامر أن النبي  قال لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة» قال: نعم  وقال للمرأة: «أترضين أن أزوجك فلاناً» قالت: نعم «فزوج أحدهما من صاحبه» ( ).
واستدل زفر بأصول الحنفية على منع تعاقد الشخص مع نفسه بصفته وكيلاً عن الطرفين وقد علمنا أن من أصولهم أن حقوق العقد تتعلق بالوكيل فلا يجوز أن يتعلق به حكمان متضادان لتضارب مصالح طرفي العقد فلا يجوز أن يكون موجباً وقابلاً في وقت واحد( )هذا وإذا كان العاقد الواحد فضولياً وليس وكيلاً عن الطرف الآخر كأن يكون وكيلاً عن أحد العاقدين وفضولياً بالنسبة إلى العاقد الآخر فإن أبا حنيفة ومحمد يبطلان الفضالة في هذه الحالة وبالأولى إذا كان فضولياً من الجانبين.
وذهب أبو يوسف إلى جواز الفضالة في هذه الحالة ويكون العقد موقوفاً على إجازة صاحب الشأن الذي كان العاقد فضولياً بالنسبة له أو على الطرفين إذا كان فضولياً بالنسبة لهما معاً. ويستند أبو يوسف في هذا الحكم إلى القياس على الخلع والنكاح في نظره يشبه الخلع، ولا خلاف في أن الزوج له أن يقول بغير إذن زوجه خالعت امرأتي على كذا وهي غائبة فإذا بلغها وأجازت نفذ الخلع عليها مع أنه كان فضولياً بالنسبة لها فالفقهاء إذن يتفقون على انعقاد الخلع بعبارة الزوج عن نفسه وبصفته فضولياً بالنسبة للمرأة والنكاح فينظر أبي يوسف مثل الخلع فيجوز فيه ما لا يجوز في الخلع ويستدل أبو حنيفة ومحمد بأن الأصل في العقد ألا ينعقد إلا بإيجاب وقبول – ما دام ليس من عقود الإرادة المنفردة – ولكن عبارة الشخص الواحد تقوم مقام العبارتين (الإيجاب والقبول) إذا وجد ما يدل شرعاً على أنها تقوم مقامهما هذا ولا يتأتى بإقامة الطرف الغائب مصدر العبارة مقامه بوكالة أو بولاية شرعية فإذا لم يوجد ما يدل على هذه الولاية فالعبارة الصادرة من الفضولي ليست إلا شطراً للعقد فهي لا تعدو أن تكون إيجاباً فقط والإيجاب لا ينعقد به عقد يتولاه طرفان بل يبطل بمجرد تفرق المجلس وعلى ذلك إذا كان العاقد الواحد فضولياً بالنسبة لأحد الطرفين فلا ينعقد عقد أصلاً لا نافذاً ولا موقوفاً إذ لا يجوز أن تقوم عبارة الفضول بمقام عبارتين لعدم إذن العاقد الثاني وقت صدور العبارة.
ويرى أبو حنيفة ومحمد أيضاً أنه لا يقاس النكاح على الخلع إذا تولاه الرجل في غيبة الزوجة بغير إذنها لأن الخلع في حق الرجل يعتبر يميناً فإذا خالعها في غيبتها بغير إذنها فهو يعتبر أنه قد علق طلاقها على قبولها بدل الخلع والطلاق يقبل التعليق عند الفقهاء بلا خلاف على عكس عقد النكاح فهو لا يقبل التعليق. هذا ويبدو لي أن رأي أبي يوسف أصح من رأي الإمام وصاحبه محمد ما دام الإمام يرى صحة إبرام عقد النكاح بعبارة الوكيل عن الطرفين أو أحدهما فهنا تقاس الفضاله في النكاح على الوكالة في النكاح.
ومعلوم أن الفضالة تنقلب بالإجازة إلى وكالة فما دام الإمام قد صحح النكاح بعبارة الوكيل وحده عن طرفين فما الذي يمنع من صحة النكاح بعبارة الفضولي وحده عن الطرفين أو عن نفسه وعن الطرف الثاني ما دام عقد الفضولي يعتبر موقوفاً على إجازة صاحب الشأن فإذا أجازه انقلب الفضولي إلى وكيل ولهذا فإن رأي أبي يوسف أصح من رأي الطرفين (الإمام ومحمد) وإن كان استدلال أبي يوسف بالخلع ضعيفاً في نظري والأولى الاستدلال بالنكاح ذاته الذي يبرمه الوكيل بعبارته وحدها.
انتهى بحمد الله الجزء الأول.
ويليه الجزء الثاني بإذن الله ويبدأ بالكلام عن العاقد في القانون.


 
ثبت المراجع
الكتاب: 
1- أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص متوفيسنة 370هـ.
2-المفردات فيغريب القرآن للأصبهاني.
3-تفسير ابن كثير (اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني) لإسماعيل بن كثير متوفى سنة 774 هـ.
السنة: 
1-التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول  للشيخ منصور علي ناصف.
2-المستدرك للحاكم النيسابوري متوفى 630هـ.
3-الموطأ للإمام مالك متوفى 179 هـ.
4- جامع الأصول لابن الأثير الجزريمتوفى 630هـ.
5-سنن أبي داود السجستاني متوفى 275 هـ.
6- سنن الترمذي متوفى 279هـ.
7-شرح صحيح مسلم للنووي متوفى 676هـ.
8-صحيح البخاريللإمام البخاري متوفي256هـ.
9-صحيح مسلم للإمام مسلم متوفي261هـ.
10-فتح الباري في شرح البخاري لا بن حجر العسقلاني متوفي852هـ.
11-نيل الأوطار في شرح منتفي الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني متوفى 1255هـ.
أصول الفقه: 
1-الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي متوفى 631هـ.
2- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم متوفى 456هـ.
3-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكانى متوفى 1255هـ.
4-أصول السرخسي  للسرخسي متوفى 438هـ.
5-شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقح في أصول الفقه لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي متوفى 792هـ في شرح تنقيح الأصول لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي (747 هـ).
6-كشف الأسرار على أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري الحنفي متوفى 730هـ.
الفقه
الفقه الحنفي: 
1-الأشباه والنظائر زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم المصري متوفى 970هـ.
2-البحر الرائق شرح كنز الدقائق لا بن نجيم المصري متوفى 970هـ.
3-السير الكبير محمد بن الحسن الشيباني متوفى 189هـ.
4-الفتاوى الهندية جماعة من علماء الهند 1070هـ.
5-الفتاوى الخانية للأوزجندى متوفى 592هـ.
6-العناية شرح الهداية هامش فتح القدير محمد بن محمود البابرتي متوفى سنة 742 هـ.
7-الهداية علي بن أبي بكر المرغيناني متوفى سنة 593 هـ.
8-المبسوط محمد بن أحمد السرخسي متوفى سنة 438 هـ.
9-بدائع الصنائع ترتيب الشرائع علاء الدين بن مسعود الكاساني متوفى سنة 587 هـ.
10-جامع الفصولين ابن قاضي سماوه متوفى 823 هـ.
11-حاشية يعقوب بن خضر بن جلال الدين على شرح الوقاية مخطوطة متوفى سنة 891 هـ.
12-رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) لمحمد أمين الشهير بابن عابدين متوفى سنة 1252 هـ وتكملته قرة عيون الأخبار تكلمه رد المحتار لابنه محمد علاء الدين بن محمد أمين بن عابدين متوفى 1306 هـ.
13-شرح المنار لابن ملك متوفى سنة.
14-فتح القدير شرح الهداية كمال الدين بن الهمام متوفى سنة 861 هـ.
15- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر عبد الرحمن شيخي زاده متوفى سنة  هـ.
ثانياً: الفقه المالكي: 
1-التاج والإكليل مختصر خليل محمد بن يوسف القرناطي الشهير بالمواق.
2- الشرح الصغير للدردير متوفى سنة 1201 هـ.
3- الشرح الكبير للدردير متوفى سنه 1201 هـ.
4-الفروق أحمد إدريس القرافي متوفى سنة 684 هـ.
5-المدونة الكبرى للإمام مالك. رواية سحنون محمد عبد الرحمن بن القاسم.
6-المنتفى شرح الموطأ سليمان بن خلف الباجي متوفى سنة 494 هـ.
7-بداية المجتهد ونهاية المقتصد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد متوفى سنة 595 هـ.
8-بلغة السالك لأقرب المسالك أحمد بن الصاوي متوفى سنة 1241 هـ.
9- تحرير الكلام للحطاب (ضمن فتح العلي المالك) محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخطاب متوفى سنة 954 هـ.
10-حاشية الدسوقي على الشرح الكبير محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي متوفى سنة 1230هـ.
11- شرح الخرشي على خليل الخرشيمتوفى سنة 1101 هـ.
12- شرح الزرقاني على خليل محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني متوفى سنة 1099 هـ.
13-حاشية عميرة على شرح كنز الراغبين لشهاب الدين الشهير بعميرة القرن العاشر الهجري.
14-شرح منح الجليل على مختصر خليل محمد عليش متوفى سنة 1299 هـ.
15-مواهب الجليل لشرح مختصر خليل محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب متوفى سنة 954هـ.
ثالثاً: الفقه الشافعي: 
1-أسنى المطالب على شرح روض الطالب للشيخ الأنصاري متوفى سنة 926هـ.
2-الأحكام السلطانية للماوردي متوفى سنة 450هـ.
3-الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي متوفى سنة 911هـ.
4-الأم الإمام الشافعي متوفى سنة 204هـ.
5-المجموع شرح المهذب محيي الدين بن شرف النووي سنة 676هـ.
6-المنثور في القواعد بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي متوفى سنة 794هـ.
7-الوجيز في فقه الإمام الشافعي أبو حامد الغزالي متوفى 505هـ.
8-حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج متوفى سنة 1087هـ.
9-شرح منهاج الطالبين جلال الدين المحلي متوفى سنة 864هـ.
10- مختصر المزني على هامش الأم إسماعيل بن يحيى المزني متوفى سنة 264هـ.
11-مغني المحتاج إلى شرح المنهاج شمس الدين محمد بن أحمد الشربيني متوفى سنة 977هـ.
12- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج شمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي متوفى سنة 1004هـ.
رابعاً: الفقه الحنبلي: 
1-إعلام الموقعين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية متوفى سنة 751 هـ.
2-الاختيارات الفقهية لا بن تيمية متوفى سنة 728 هـ.
3-الفتاوى الكبرى بتقديم الشيخ حسنين مخلوف، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية متوفى سنة 728 هـ.
4-المغني عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة متوفى سنة 620هـ.
5- الإنصاف المرداوي متوفى سنة 1026 هـ.
6-شرح منتهي الإرادات منصور بن يونس البهوتي متوفى سنة 1051 هـ.
7-كشاف القناع للبهوتي متوفى سنة 1051 هـ.
8- مجموعة فتاوى ابن تيمية شيخ الإسلام ابن تيمية متوفى سنة 728 هـ.
خامساً: الفقه الظاهري: 
 1- المحلى علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري متوفى سنة 456 هـ.
سادساً: كتب اللغة: 
1-أساس البلاغة للزمخشري متوفى سنة 538 هـ.
2-القاموس المحيط محمد بن يعقوب مجد الدين الفيروز آبادى متوفى سنة 817 هـ.
3-شرح شذور الذهب لابن هشام الأنصاري المصري متوفى سنة 761 هـ.
4-لسان العرب جمال الدين بن منظور الأنصاري الأفريقي المصري متوفى سنة 711هـ.
5-معجم القواعد العربية في النحو والصرف عبد الغني الدقر.
6-معجم مقاييس اللغة.
سابعاً: كتب معاصرة: 
1-اتجاهات النهضة والتغيير في العالم الإسلامي عباس حسني محمد.
2-الاشتراط لمصلحة الغير عباس حسني محمد.
3-الالتزامات للشيخ أحمد إبراهيم مذكرة مطبوعة بمكتبة كلية الحقوق جامعة القاهرة.
4-المدخل للفقه الإسلامي محمد سلام مدكور.
5-الملكية ونظرية العقد للشيخ محمد أبي زهرة.
6-النظرية الإسلامية في الدولة حازم عبد المتعال الصعيدي.
7-الوسيط في القانون المدني عبد الرازق السنهوري.
8-علم أصول الفقه الشيخ عبد الوهاب خلاف.
9-نظرية الالتزام في القانون الروماني شفيق شحاته.
10- نظرية العقد لعبد الرزاق السنهوري.


 
فهرس الموضوعات
مقدمة..................................................................... 3
الباب الأول: حقيقة العقد ومشروعيته.........................................13
الفصل الأول: حقيقة العقد في الفقه الإسلامي والقانون..........................14
المبحث الأول: حقيقة العقد في الفقه الإسلامي.................................14
المبحث الثاني: العقد في الاصطلاح القانوني ومقارنة بينه وبين العقد في الفقه.......23
الفصل الثاني: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في الفقه لإسلامي والقانون........29
المبحث الأول: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في الفقه الإسلامي..............29
المطلب الأول: مذهب المتشددين في قاعدة الحظر...............................29
المطلب الثاني: مذهب المتخففين في قاعدة الحظر................................46
المطلب الثالث: مذهب الموسعين لدائرة العقود والشروط وهم: جمهور المالكية والحنابلة.49
المطلب الرابع: مذهب الذين صرحوا بأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة لا الحظر وهم: ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة والشاطبي من المالكية.........................52
المبحث الثاني: مدى حرية العاقد في إنشاء العقود في القانون وبيان الفرق بين القاعدة الإسلامية والقاعدة القانونية.....................................................61
الباب الثاني: أركان العقد.......................................................72
الفصل الأول: الركن الأول: صيغة العقد..........................................73
المبحث الأول: الصيغة في الفقه الإسلامي........................................73
المطلب الأول: الإيجاب والقبول وطرق التعبير عنهما...............................73
المطلب الثاني: مجلس العقد.....................................................97
المبحث الثاني: الركن الأول للعقد في القانون مع بيان مدى تأثر القانون بالفقه الإسلامي في هذا المجال....................................................................108
الفصل الثاني: الركن الثاني للعقد: العاقدان أو العاقد الفرد..........................129
المبحث الأول: العاقدان أو العاقد الفرد في الفقه الإسلامي.........................129
المطلب الأول: أهلية العاقدين أو العاقد الفرد......................................129
المطلب الثاني: الرضا وما يقترن به من عيوب......................................145
المطلب الثالث: ولاية العاقدين..................................................157
فهرس.................................................................178-179

تعليقات