القائمة الرئيسية

الصفحات



نقد الأحكام وقرارات النيابة

  نقد الأحكام وقرارات النيابة

نقد الأحكام وقرارات النيابة



نقد الأحكام وقرارات النيابة
ورقة مقدمة من الأستاذ سعد أبو السعود
المحامى بالنقض
مقدمة:
فى سنة 2005 نشر الأديب فاروق جويدة فى جريدة الأهرام خطاباً تلقاه من شاب زعم أنه تقدم للتعيين فى النيابة العامة وكان لديه من المؤهلات ما يكفى لتعيينه، إلا أنه لم يظفر بالوظيفة، وظفر بها زميل له لم يكن فى زعم الشاكى حائزاً للمؤهلات، لكنه كان من طبقة أبناء القضاة ففضل عليه بحكم طبقته لا بحكم مؤهلاته – ثم عقب جويدة على خطاب هذا الشاب تعليقاً يفيد أن تصرف اللجنة المكلفة بالاختيار بين المتقدمين للوظيفة يعتبر – إن صح ما جاء فى رسالة الشاب الشاكى – مجافيا لقاعدة المساواة الواردة بالدستور، وهو بعد مجاف للعدالة.
على الرغم من أن النقد الذى تضمنته رسالة الشاب الشاكى وتعليق الأديب جويدة موضوعيان من ناحية، وموجهان من ناحية أخرى إلى جهة إدارية بحتة لا اتصال بينها وبين العمل القضائى- فإن النيابة العامة رأت فيما نشر جريمة، فاستدعت فاروق جويدة وحققت معه على مدى خمس ساعات، فأرهق الرجل وأصابت صحته ما استلزم نقله إلى أحد المستشفيات، فذاع الخبر، وانزعج القراء كما انزعجت جريدة الأهرام- ثم أن السيد رئيس الجمهورية تفضل بالاتصال بالأديب جويدة للاطمئنان على صحته، وتتابعت بعد ذلك الاتصالات، ولم نسمع أن النيابة العامة تابعت التحقيق- ولكنا قرأنا للأديب جويدة مقالاً يصر فيه على موقفه ويؤكد صحة نقده السابق مستشهداً بحكم لاحق صدر فى حال مماثلة من القضاء الإدارى، ألغى قرار تعيين آخر تم على أساس طبقى، خلافاً لحكم الدستور، ولقاعدة القانون.
مرت بعد ذلك الأيام، ونشر أديب آخر هو جمال بدوى مقالة بصحيفة المصرى اليوم، يعلق بها على قرار أصدرته النيابة العامة فى ديسمبر الماضى فى موضوع خلاف دار بين رئيس حزب الوفد والهيئة العليا للحزب- فانتقد جمال بدوى هذا القرار نقداً موضوعياً –ومع أن القرار السابق إدارى بحت، فإن النيابة العامة استدعت كاتب المقال ورئيس تحرير الجريدة التى نشرته، ووجهت لهما تهمة التأثير على سير التحقيق المعاقب عليها بالمادة 187 عقوبات.
قبل هاتين الواقعتين بأكثر من عشر سنين وجه النائب العام إلى نقيب الصحفيين رسالة نشرت فى شهر أبريل سنة 1994 أوضح فيها أنه يرى أنه لا يجوز التعليق على القرارات التى تتخذها النيابة العامة بصفتها جهة تحقيق، لأن النيابة العامة هى – فى تعبير النائب العام – شعبة أصلية فى القضاء، فلا يحق لأحد أن ينتقد ما تتخذه من قرارات، كما لا يصح لأحد أن ينتقد ما يصدر من أحكام قضائية.
رداً على رأى النائب العام السابق، نشرت بالعدد الصادر فى 25 من أبريل سنة 1994 من جريدة الوفد مقالاً تحت عنوان .. "ضوابط التعليق على الأحكام والقرارات"... قلت فيه أن رسالة النائب العام وردت بعد الموقف الذى اتخذه مجلس القضاء من الأستاذ يوسف جوهر المحامى والكاتب المجيد، وبعد الموقف الذى اتخذه مجلس الدولة من بعض الكتاب الذين علقوا على الفتوى الصادرة عن المجلس بشأن حق الأزهر فى الإشراف على الأعمال الفنية، وانتهيت فى المقال إلى أن التعليق على الأحكام، وعلى قرارات النيابة جائز، وواجب، ومفيد- أما الفتوى "فقصارى الأمر فيها أنها اجتهاد غير ملزم حتى لمن طلبها، وهى رأى تواكبه وقد تزاحمه آراء أخرى، ويتميز كل رأى من جمهرة الآراء التى تبدى فى نفس الموضوع بما استند إليه من حجج وما اتسم به من حسن عرض، وقد يقنع الرأى صنفاً من الناس ويستهجن من صنف، ويقنع فى ظروف معينة، ولا يقنع إن تغيرت الظروف، فكان على مصدر الفتوى أن يتوقع نقدها، ولم يكن مثل هذا النقد جرماً أو أمراً إدا، وستظل الآراء مختلفة ما وجد الناس، فلا يضيق عالم بنقد، ولا يسأل ناقد، إلا أن عرض بمصدر الفتوى، أو اتخذ من نقده ذريعة للنيل من قدر المفتى واعتباره", ثم أننى أبديت أن فتوى مجلس الدولة هى فى رأيى غير مصيبة وأنها "فى سندها وفى نتيجتها محل اعتراض صحيح وواضح".
أشهد أن أحداً لم يضق مقالى حين نشره، فلم استدع للتحقيق أمام النيابة، ولم يتخذ مجلس القضاء أو مجلس الدولة أى إجراء ضدى.. لكن هذا الموقف كان منذ أكثر من عشر سنين، ثم صدر بعد المقال الذى أشرت إليه ونقلت عنه القانونان 93 لسنة 95، 95 لسنة 98 اللذان أدخلا عدة تعديلات على مواد الباب الرابع عشر من الكتاب الثانى من قانون العقوبات، فتغيرت الظروف القانونية كما تغيرت الظروف الواقعية فى مصر تغيراً يدفعنى إلى التساؤل هل مازال نقد الأحكام وقرارات النيابة العامة جائزاً؟ وهل يجوز نشر هذا النقد فى الصحف؟ وما ضوابط النقد عند قوله أو نشره؟
لا يخالجنى أدنى شك فى أن الرأى الذى أبديته سنة 1994 مازال صحيحاً، فنقد الأحكام والقرارات القضائية والإدارية مازال كما كان... هو جائز، وهو واجب، وهو مفيد – مع ذلك أتناول الموضوع الآن من زاوية أخرى أرحب وأشمل، هى زاوية الديمقراطية- ذلك بأن القضاء والنيابة سلطة – والسلطة فى النظم الديمقراطية يجب أن تراقب سياسياً عن طريق الرأى العام- إذ أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة- فلابد من أن نراقب سلة الاتهام وسلطة الحكم، ولا تقتصر الرقابة على الجهات الرياسية، أو الإدارية، بل تمتد إلى الشعب، عن طريق عرض الأحكام والقرارات ونشر النقد الذى يوجه إليها، واستطلاع ا لرأى العام فى صدد ما يصدر من أحكام وقرارات من النيابة العامة- وهذا ما نعرض له فى مبحثين:
أولهما: الرقابة على السلطة القضائية.
ثانيهما: عن ضوابط نقد أعمال السلطة القضائية.

2- الرقابة الشعبية على السلطة القضائية:

القضاء بكافة أنواعه وفروعه ودرجاته سلطة –فله ما للسلطات الأخرى من حق الاستقلال، وعليه ما على السلطات الأخرى من الرقابة الشعبية، والأمران من استقلال ورقابة متلازمان- لآن استقلال القضاء وغيره من السلطات نابع من أن كل واحدة من السلطات الثلاثة لا تستمد شرعيتها من إحدى السلطتين الآخرين، بل من الأمة مباشرة، فلا ينبغى أى سلطة أن تراقب الأخرى، بل يكون ذلك للأمة وحدها – مباحاً.
لكن القضاء تميز عن السلطتين الآخرين بأنه لا يخضع لمحاسبة من نواب الشعب، ففى نفس الوقت الذى يكون للمجلس النيابى حق مراقبة الحكومة ومحاسبتها، فإن هؤلاء النواب لا يملكون محاسبة القضاء، لأن الدستور المصرى وغيره من الدساتير رأى من قديم أن يجعل القاضى غير خاضع للرقابة والحساب من أى من السلطتين الآخرين – ثم أسند إلى القضاء فى مصر ولاية الفصل فى النزاع حول دستورية القوانين، فقد صار للقضاء حق رقابة أعمال السلطة التشريعية دون العكس.
هذا الوضع المتميز للسلطة القضائية دفعت الكثيرين فى مصر إلى القول بأن القاضى لا يخضع لأى رقابة، ويعبر البعض عن نفس المعنى بالقول بأن الرقيب الوحيد للقاضى هو ضميره. وهو قول أراه منطوياً على شئ من المبالغة، فالقضاء فى المجتمعات المتحضرة يخضع للرقابة الشعبية، والقضاء فى مصر لم ينل الاستقلال المنشود، وهو يطالب باستقلاله ونحن نؤيده بقوة وإلحاح واستمرار، ولكننا نرى أن استقلال القضاء الذى ننشده يجب أن يصاحبه رقابة من الرأى العام، فمثل هذه الرقابة لا تخل باستقلال القاضى، وهى مفيدة للقضاء والمنقاضين على السواء.
الرقابة التى نعنى تتخذ أربع صور:
أولها: قضاء المحلفين.
ثانيها: علانية الجلسات.
ثالثها: حرية القاضى فى إعلان رأيه المعارض.
رابعها: حرية النقد.

أ- فأما نظام المحلفين فقد قرر على أساس أن القضاء سلطة، فلا يجوز أن يحكم على شخص إلا بعد الرجوع إلى إرادة الشعب ووفق ما يتجه إليه رأى الغالبية- ولذلك ينتخب المحكمون من المواطنين فى الانتخابات العامة، ويحضر المحلفون الجلسات حيث تعرض عليهم أدلة الاتهام كلها عرضا واضحا ومستفيضا، ويستمعون إلى دفاع المتهم ويفحصون ما يقدمه من أدلة تنفى وقوع الجريمة أصلاً، أو تقوض دليل الاتهام على نسبتها إلى المتهم – يسمع المحلفون الطرفين، ثم يقولون رأيهم فى صحة الاتهام أو بطلانه، فإن انتهوا إلى البراءة التزم القاضى ما اتفقوا عليه، وإن انتهوا إلى الإدانة ترك للقاضى توقيع العقوبة وفق أحكام القانون، كما يكون للقاضى وحده تقدير نوع ا لعقاب ومدته، وللقاضى فى النظم الأنجلو سكوسانية حق تقدير الإفراج عن المتهم بعد مدة من حبسه.
هذه رقابة من الشعب على القضاء، لأن مندوبى الشعب المحلفين هم الذين يحكمون على عمل جهة التحقيق، فلا يكفى أن يقرر المحقق أن المتهم قد اعترف، أو أن الشاهد قد أثبت أمراً أو نفاه فى التحقيقات- بل يجب أن يكون كل دليل مبسوطاً بجلسة المحاكمة العلنية، ثم يقدر المحلفون ما إذا كانت الجريمة قد وقعت بأدلة لا يتسرب إليها شك الشخص العامل beyond any reasouble doubt أم أن الدليل لم يرتق إلى هذا المستوى، فلا يجوز العقاب- نقول أن المحاكمة بواسطة المحلفين نوع من الرقابة على القضاء وليست قضاء شعبيا، لأن المحلفين يقتصرون على إبداء الرأى فى المسألة الواقعية المعروضة بعد أن يبذل المحقق جهده فى غيبة منهم، فهم من ثم رقيب شعبى على جهة التحقيق لإبداء الرأى فى عمله.
نظام المحلفين جيد جداً بضوابطه- فهو ناجح فى الديمقراطيات الصحيحة، ولا ينجح بالطبع فى النظم الدكتاتورية سافرة كانت أم مكتسية ثوبا ديمقراطيا- ولذلك عارضنا بشدة اقتراحا نشر فى عهد الرئيس السادات بإنشاء ما أسماه المرحوم جمال العطيفى بالقضاء الشعبى، وكانت معارضتنا لهذا الاقتراح فى اجتماعات بنقابة المحامين رعاها فى حدب النقيب العظيم مصطفى البرادعى رحمه الله.

ب- علانية الجلسات:

لم تعرف مصر نظام المحلفين لكنها عرفت علانية الجلسات –وهو نظام موضوع لتحقيق رقابة الشعب على المحاكم، إذ لا يجوز –بحسب الأصل- أن يمنع القاضى أحداً من حضور الجلسة والاستماع لما يدور فيها، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا فى حالة ما إذا اقتضت الضرورة عقد جلسة سرية، أو اقتضى حفظ النظام فى الجلسة إبعاد شخص أو أكثر... وفيما خلا هذين الاستثنائين يجب –وفق القانون- أن تدور المحاكمات علانية بصوت واضح مسموع، فيكون الجمهور رقيباً على ما يتخذه القاضى من إجراءات، وما يصدره من قرارات ويستوى فى هذا أن تكون القضية جنائية أو مدنية أو إدارية- ففى كل الأحوال يجب أن تتم المحاكم وأن تسمع المرافعة بالجلسة.
هذه الضمانة الرئيسية لأزمة لتحقيق العدالة –وهى ألزم فى المحاكمات الجنائية، فلا يصح أبداً- إذا أريد تحقيق العدالة- أن تهمل المحكمة سماع شاهد، أو أن تمنع أو تعيق مناقشته، كما لا يصح أبداً للمحكمة المدنية أن تلتفت عن سماع المرافعة الشفهية، وعرض المستندات والتحرى ممن كتبها عن ظروف إصدارها والمعنى المقصود من عباراتها- وسماع الشهود فى المحاكمات الجنائية وسماع المرافعات فى القضايا المدنية يقتضيان بالبداهة من المحكمة استعدادا بحيث تكون قد فرغت –قبل الجلسة- من دراسة أوراق الدعوى وتستطيع أن تستجوب وتسأل وتتابع المرافعة وتراجع المترافع.
فى المادة 271 من قانون الإجراءات الجنائية بيان بما يجب أن يقوم به القاضى فى الجلسة من سؤال المتهم، فإن اعترف جاز الاكتفاء باعترافه، أما إن أنكر فتسمع شهادة شهود الإثبات الذين توجه إليهم الأسئلة من النيابة، ثم من المجنى عليه، ثم من المدعى مدنياً، ثم من المتهم، ثم من المسئول عن الحقوق المدنية – وللنيابة وللمجنى عليه وللمدعى مدنياً أن يستجوبوا الشهود مرة ثانية لإيضاح الوقائع التى أدوا الشهادة عنها- هذا النص لو طبق، لكانت فيه رقابة على جهة التحقيق وعلى المحكمة كذلك، لأن المشرع عندنا جرى على سنن التشريعات السائدة فى البلاد المتحضرة التى تجعل الأصل فى التحقيق هو ما يتم بالجلسة العلنية أمام الجمهور- حيث يكون ممثل النيابة خصماً عادياً يوجه سؤالاً للشاهد الذى يجيب دون تهديد أو إغراء، وحيث يكون للمتهم كل الحقوق والضمانات- والجمهور بعد ذلك متابع الأدلة ثم متابع الحكم فيكون رقيباً على جهتى التحقيق والقضاء.
من نافلة القول أن أقول أن هذا النص معطل، وأن المحاكمات الجنائية فى الجنح لا يكاد يسمع فيها شاهد، وحتى فى الجنايات لا يسمع الشهود فى بعض الأحيان- أما فى القضايا المدنية، فقد أصبحت المرافعة أمراً شاذاً، وصارت الجلسات كلها جلسات إجراءات- فإن حضر جمهور بجلسة مدنية لم يتمكن من متابعة أى قضية، ولم يكن مستطيعاً ممارسة حقه فى رقابة القضاء.
الداء الذى أصيب به القضاء المصرى عضال أنبه إليه وأحذر من عقباه. لا قضاء عادلاً بغير علانية. ولا علانية بغير تحقيق أمام المحاكم الجنائية يتم بقاً للمادة 271 إجراءات التى أشرنا إليها، أو بغير مرافعة شفهية تجرى أمام المحاكم المدنية التى تكون قد أهلت نفسها للسماع، بما درست من أوراق الدعوى ومستنداتها، وبما وقفت عليه من بحث للمسألة القانونية التى أثيرت فى النزاع.
لست أجهل أن تحقيق ما أطلب صعب بسبب كثرة القضايا المتداولة- لكنى أؤكد أن الإجهاز على القضايا دون تحقيق، ودون بحث ليس حلاً- فتراكم القضايا دون فصل عيب، والحكم فيها دون دراسة كافية عيب مماثل إن لم يكن أخطر. وليس شافياً للمريض أن تنقذه من داء لتصيبه بغيره.. فيجب علينا أن ننظر فى الأمر وأن نجد حلاً يحقق العدل، ويجعل جلسة المرافعة اسماً على مسمى. فتعرض فى القضايا، كل القضايا الأدلة وتسمع المرافعات، ويتابع الجمهور عمل المحاكم ليكون رقيبا عليها وعلى جهات التحقيق.

جـ- حق القاضى فى إبداء رأيه المخالف:

بعد أن يصدر الحكم بأغلبية الآراء، هل يكون للقاضى الذى خالف رأى الأغلبية أن ينشر رأيه؟
أما القانون المصرى فهو يمنع إذاعة الرأى المخالف للحكم فى أية صورة، إذ تنص المادة 191 عقوبات على عقاب كل من نشر ما جرى فى المداولات السرية بالمحاكم- والهدف الظاهر لهذا النص هو أن يستقر فى أذهان الناس أن الرأى الذى انتهى إليه الحكم هو الرأى الوحيد الذى اتجه إليه القضاة، فما دام القضاة كلهم قد وقعوا على الحكم وما دام الحكم متى حمل هذه التوقيعات يعتبر معبراً عن رأى كل من وقعه، فإن المتقاضين سيعتبرون هذا الحكم مجمعاً عليه من كل أعضاء الدائرة التى أصدرته وإخفاء الخلاف فى هذه الصورة سيجعل الحكم أكثر احتراما لدى الكافة، لأن الرأى المجمع عليه أقوى من ذلك الذى وافقت عليه الغالبية.
لكن هذا النظر الذى اتجه إليه التشريع المصرى غير متبع فى بعض التشريعات، إذ يجيز قانون الولايات المتحدة مثلاً للقاضى المخالف أن ينشر رأيه، كما يجوز هذا فى التحكيم الدولى، سواء تم التحكيم فى أمريكا أو فى باريس طبقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية – والوجه فى هذه القاعدة هى الرقابة على القضاء، إذا أن نشر الرأى المعارض نوع من العلانية أو الشفافية – كما يحلو للبعض أن يسميها – وهى ضمان للعدالة... فالنظام الذى يبيح للقاضى رأيه المخالف يظهر أن القضاة كانوا جادين، درسوا ثم اختلفوا، وتداولوا فلم يتفقوا، وذهبت الغالبية إلى رأى، خضع له الجميع وأصدروا الحكم – لكن الأقلية مازالت متمسكة برأيها فنشرته وأوضحت سندها عليه... أليس هذا ضماناً للعدالة؟ أليس هذا محققاً للرقابة الشعبية على القضاء؟
بلى، أنه لكذلك – ونحن نطالب من ثم بإلغاء المادة 191 عقوبات، وبإجازة نشر رأى القاضى المعارض لرأى الغالبية الذى صدر به الحكم- لا لأنه من ضمانات العدالة فحسب، بل لأنه يتضمن نقداً للحكم، والنقد ضرورى لتحقيق العدل، ومفيد للقضاة والمتقاضين على ما سنبين فى القسم التالى والأخير.

د- نقد الأحكام والقرارات القضائية والإدارية:
حق النقد الموضوعى لكل ما يصدر عن السلطات الثلاثة مكفول للأفراد بغير جدال- إذا كان للناص حق انتقاد الدستور والتشريع، فلهم حق نقد طريقة تطبيقه، سواء طبق القانون عن طريق لائحة تنفيذية أو قرار إدارى أو عمل مادى أو قرار من النيابة العامة، أو حكم قضائى.
ما نقول من أن الحكم هو عنوان الحقيقة لا يعنى أن الحكم صحيح دائماً، لكنه يعنى أن الحكم يجب أن يعتبر كذلك، والتعبير بهذه المثابة، صياغة أخرى لقاعدة قوة الأمر المقضى التى تمنع الخصوم، وحدهم، ولا تمنع غيرهم، من إعادة الجدل فى ذات المسألة التى حسمها حكم قضائى نهائى- لا لأن الحكم النهائى صحيح دائماً، بل قصد استقرار الأوضاع فى المجتمع، وهو المعنى الذى ذكرته صراحة المذكرة الإيضاحية للقانون المدنى مقررة أنه "ليس شك فى أن صحة الحكومة لا تعتبر حتماً تقتضيه الأشياء، ذلك أن القضاة تعوزهم العصمة شأنهم شأن البشر كافة، بيد أن المشرع أطلق قرينة الصحة فى حكومة القاضى، رعاية لحسن سير العدالة، واتقاء لتأبييد الخصومات – فحكومة القضاء يجب أن تضع حداً لكل نزاع مادامت طرق الطعن المقررة قد استنفدت بإزائها، ويجب كذلك أن تكون بمأمن من التعارض مع حكومة لاحقة، وهو أمر يصبح يسير الوقوع لو أبيح عود الخصوم أنفسهم إلى عين الدعوى التى قضى فيها.
إن كان الحكم النهائى قد استمدت قوته من القانون الذى منع على الخصوم إعادة الجدل فيما حسمه لا لكونه ملق الصحة، بل "لكفالة حسن سير العدالة وضمان الاستقرار من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية" كما تصرح المذكرة الإيضاحية – فإن ما تتخذه النيابة العامة من قرارات، ولا يكون مطلق الصحة من باب أولى- فيجوز نقد تصرفات النيابة كافة، ويجوز نقد الأحكام.
من أشهر صور النقد التى وجهت لحكم جنائى هو ما أظهرته محكمة النقض من مثالب فى حكم محكمة الجنايات فى قضية البدارى المشهورة، ويكفى فى هذا المقام أن نقرأ قوله: "أن التعليل الذى بنت محكمة الجنايات عليه استعمالها أقصى حد فى الشدة هو تعليل فاسد لقيامه على أساس مرتبك، بل غير صحيح- إذ بينما هى فى معرض بيان سبق الإصرار تشير إلى ما ثبت لديها من أن المأمور المجنى عليه أتى فى معاملة الطاعنين بضروب من المنكرات التى تدل على أن هذه المأمور كان قاسياً فى معاملته لهما قسوة خارجة عن حد القانون، بل شاذاً فيها شذوذا إجرامياً فظيعاً- بينما تذكر ذلك إذا بها تعود فى معرض تقدير العقوبة فتقرر أن المأمور كان يطارد الشقيين ويقوم بواجبه فى هذا الصدد! كأنما هى تعتبر أن شذوذ هذا الإجرامى الذى سلمت به من قبل هو من قبيل قيام موظف بواجبه، مع أن البداهة تقضى بأنه شذوذ يحفظ كل إنسان ولو مجرماً، ويدعو إلى معذرته والتخفيف من مسئوليته إذا هو سلك سبيل الانتقام"- نقول أن هذا محض نقد لا تسبيب حكم، لأن المحكمة رفضت وجه الطعن على أساس أن تقدير العقوبة من اطلاقات قاضى الموضوع، فكان هذا هو التسبيب اللازم لحكم النقض، وكان ما تطرق إليه من تعيب لحكم الجنايات الذى صار باتاً فضلة زائدة لا تتضمن قضاء، بل تتضمن إبداء نقد لحكم اختل منطقه وفسد تقديره، ولذلك عددنا هذا الحكم القيم والشهير نقداً لحكم آخر لم يحسن الإحاطة بواقع ا لدعوى ولا أحسن تقدير ظروفها.
ومن اشهر صور النقد التى وجهت إلى حكم مدنى ما وجهه الأستاذ السنهورى من نقد للأحكام الصادرة من محكمة النقض والتى جرت ومازالت تجرى على أن ملكية العقار لا تنتقل إلا منذ تسجيل التصرف، لأن السنهورى يرى –على خلاف الرأى الراجح- أن للتسجيل أثراً رجعياً، فأفرد فى الجزء الرابع من كتابه الوسيط صفحات كثيرة لبيان وجهة نظره، ورد على وجهة النظر التى قررتها محكمة النقض، وزاد بأن أعلن فى الفقرة 284 أن .. القول بالأثر الرجعى هو وحده القول الحق".. وهى عبارة نراها غير موفقة، لا لأنها تخالف الرأى الآخر الذى نعتنقه، بل لأنها تنبو عن اللغة الفقهية الدقيقة التى نشهد للسنهورى بالتزامها فى غالب ما كتب، فعبارة "القول الحق" غير محددة- وكان أجدر أن يصف السنهورى رأيه بأنه أقرب إلى الفهم الصحيح للنص، أو أنه أكثر موافقة للعدالة، أو للاعتبارات العملية، ثم إن حصر الصحة فى رأيه، وهو مرجوح، شرود عن تواضعه الذى عهدناه منه.
نقد الأحكام إذن جائز ومتداول –بيد أنه واجب ومفيد لما هو معروف من أن للمحاكم أن تعدل عن رأى اتبعته دهراً إلى غيره أصح وأدى- وهى لا تعدل إلا إن نشط الفقهاء إلى بيان ما فى الرأى المتبع من عيوب، وما لغيره من مزايا- فوجب الترحيب بالنقد متى كان موضوعياً، على تقدير أنه لا مشاحة فى الخطأ- أما من حارب النقد أو عزف عنه، فإنه يتجاهل حقيقة أن البشر غير معصومين، أو لا يؤمن بالديمقراطية.
النقد الموضوعى الذى أشرنا إليه طريق من طرق الرقابة على الأحكام القضائية، والقرارات التى تصدرها النيابة- فوجب الترحيب به فى الإطار الذى يؤدى به دوره فى الرقابة والتوجيه، ولذلك يجدر بنا بيان الضوابط التى يلتزم بها النقد حتى لا يتخذ سبيلاً لإهانة القضاء، أو للتأثير فى سير العدالة، وهو ما نتناوله فى القسم التالى:

ثانياً: ضوابط نقد أعمال السلطة القضائية:

الضوابط المعقولة لنشر نقد أعمال السلة القضائية ثلاثة
- أولها هو عدم إهانة القاضى أو النيابة.
- ثانيها هو عدم التأثير فى سير التحقيق أو المحاكمة.
- ثالثها هو عدم الامتناع عن تنفيذ حكم أو أمر واجب النفاذ.

لكن المشرع المصرى لم يكتف بهذه الضوابط المعقولة، وزاد إليها فى المادة 187 عقوبات تحريم التأثير فى الرأى العام لمصلحة طرف فى قضية أو تحقيق- وفى المادة 191 عقوبات تحريم نشر ما دار فى جلسة علنية "بغير أمانة وبسوء قصد" (كذا ؟!) وفى المادة 194 عقوبات تأثير الاكتتاب لمساعدة من حكم عليه بالغرامة أو التعويض فى جناية أو جنحة، لا، بل حرم المشرع مجرد الإعلان عن عزم شخص على مساعدة من حكم عليه.
النصوص السابقة قيود غير سائغة على الحرية تأباها العدالة ويلفظها المنطق- إذا كان نابياً عن العدالة والمنطق أن يعاقب شخص ساعد من حكم عليه بغرامة أو أعلن عن عزمه على مساعدته لكى يدفع الغرامة والتعويض الذى قضى عليه بأدائها- ترى هل يمنع مشرعنا النخوة والعطف؟
كان قانون العقوبات يعاقب على نشر إذاعات عن تحقيق جنائى أمر قاضى التحقيق بجعله سرياً أو أمرت النيابة بحظر النشر عنه، ثم صدر القانون 232 لسنة 1951 بإلغاء هذه المادة والمادة 199 التى كانت تجيز تعطيل الجريدة إذا استمرت فى النشر وقالت المذكرة الإيضاحية لقانون سنة 1951 "إن المادتين دخيلتان على قانون العقوبات إذ هو برئ منهما، فلما ألغى دستور الأمة فى سنة 1930 لم يجد الشارع حينذاك بدا من إحاطة الحكومة بسياج تشريعى يمنع الصحف المعارضة من الخوض فى كل أمر قد تحرج أثارته الحكومة ويحرم عليها الإشارة إلى أى تحقيق تأمر به السلطة التنفيذية إذا هى اجترأت على نقد عمل من أعمال الحكام أو تصرف من تصرفاتهم- وبما أن الحكمة من هاتين المادتين هى حماية التحقيق وهى حكمة مزعومة، فقد دلت التجارب على أن مجال تطبيقها ليس حماية التحقيق، بل أن تطبيق إحداها كان حائلاً دائماً دون ظهور الحقيقة ومانعاً من الكشف عن أخطر الجرائم.
وبما أن المادة 193 ليس هدفها حماية التحقيق، وإنما هدف بها الشارع إلى عدم إخراج المحقق كما جاء فى المذكرة الإيضاحية على لسان شارعها.
وبما أن علانية التحقيقات لا يمكن أن تكون سبباً فى إخراج المحقق بل على العكس فمن شأن العلانية أن تتأى بالتحقيق عن الشبهات.
هذا هو رأى الشارع فى سنة 1951 –لكن الأمور تغيرت، وعادت المادة 193 إلى قانون العقوبات مرة أخرى بموجب القانون 112 لسنة 1957 الذى زاد نطاق التجريم وغلظ العقوبة واكتفت مذكرته الإيضاحية بالقول بأنه "رؤى إعادة المادة 193 إلى وضعها السابق".
لكن الحقيقة لا يمكن كتمانها، ويصعب التعبير عنها بعبارة أبلغ وأدق مما قاله مشرع سنة 1951 وهى أن النشر لا يحرج المحقق وإن من شأن العلانية أن تنأى بالتحقيق عن الشبهات.

اقتراحات:
مما سبق يتضح أن نقد الأحكام والقرارات جائز، وهو واجب، ثم أنه مفيد. من أجل ذلك، أقترح أن تقوم نقابة المحامين بجهد فى هذا الصدد، فيكون بالمجلة التى تصدرها قسم يعلق على الأحكام وقرارات النيابة.
كانت مجلة المحاماة فى وقت ما تتضمن تعليقات على الأحكام، وبرز الأستاذ سعد واصف- المحامى فى هذا الصدد- كما كانت مجلة إدارة قضايا الحكومة تعنى بأداء هذا الدور، وبرز اسم الأستاذ إدوار غالى الدهبى فى هذا المقام- وحبذا لو عدنا إلى هذا التقليد فهو –فى رأيى- جد مفيد.
من ناحية أخرى، فإننى اقترح أن تتضمن المجلة تعليقاً على الإجراءات التى تتخذها النيابة، إذ كان لا جدال فى أن اختصاص النيابة محدد بالقانون، فإن هى قبضت على شخص لا تحوط به الشبهات، أو أرهقت شاهداً أو متهما بما أضره صحياً أو نفسياً، أو تحفظت على أموال للمتهم لا صلة بينها وبين الجريمة –إن فعلت النيابة العامة شيئاً من ذلك، فإن فعلها يجب أن يكون محل تعليق ونقد، ويجب أن تتحرك النقابة لتلتزم النيابة العامة بالقانون، فذلك مفيد للنيابة نفسها وللمجتمع وللنقابة.
من ناحية أخرى، فإننى اقترح أن تنهض النقابة بجهد مشترك مع نقابة الصحفيين لتعديل المواد الواردة فى الباب الرابع عشر من الكتاب الثانى من قانون العقوبات، حتى يكون النشر جائزا لا للواقع فحسب، بل للنقد كذلك، وحتى ترتفع وصمة عقاب الناس على النوايا وعقابهم على مساعدة الضعيف المحتاج.
يسعى الصحفيون إلى إعفائهم من الحبس فى جرائم النشر وتبذل لهم الحكومة الوعود فى هذا الصدد. هذا مسعى غير سديد فى نظرنا، لأن الصحفى لا يجوز أن يتميز عن غيره، هذا من جهة- ومن جهة أخرى، فإن المطلوب هو إعادة النظر فى جرائم النشر، بحيث لا يعتبر النشر جريمة إلا إذا تبين الخطر الموجب للحظر والمبرر للعقاب، وبحيث تكون العقوبة –حين قيام مقتضاها- مناسبة للفعل- وفيما عدا حالات شاذة قليلة تكفى فى نظرنا الغرامة كعقوبة متكافئة ومناسبة لكل جرائم النشر.
سعد أبو السعود


تعليقات