📁 آخر الأخبار

رجال الأمن شهادتهم، تزكيتهم، التصريح بأسمائهم، طلب حضورهم مجلس القضاء

رجال الأمن : شهادتهم،  تزكيتهم، التصريح بأسمائهم،  طلب حضورهم مجلس القضاء 


إعداد:
نايف بن علي بن عبدالله القفاري



m:
الحمد لله وصلى الله على نبيه ومصطفاه، أما بعد:
فمن المسائل القضائية شهادات رجال الأمن.. تزكيتهم والتصرح بأسمائهم في المحاضر القضائية ومحل أدائهم للشهادة أهو مجلس القاضي كغيرهم من الشهود..
هذه هي المسائل الأساسية التي جَهِد البحث في تأصيلها. وهو من تركة عملي في المحكمة العليا شاركني في إعداده شيخان فاضلان رغبا ألا يذكر اسمهما.
وقد صدر من المحكمة العليا قريباً بشأن هذا الموضوع المبدأ رقم 4/م وتاريخ 7/2/1435هــ والمتضمن: أن الهيئة العامة للمحكمة العليا تقرر بالإجماع ما يلي:
(إذا كانت البينة هم رجال الأمن ومن في حكمهم من القابضين والمحققين، فعلى القاضي طلبهم لأداء الشهادة بمواجهة المشهود عليه ما أمكن ذلك كغيرهم من الشهود ويجري عليهم أحكام الجرح والتعديل، ويراعي القاضي في ذلك كله ما ورد في نظام الإجراءات الجزائية. والله الموفق)أهــ.

وقد انتظم البحث في سبع مقدمات ونتيجة.
المقدمة الأولى: لا قضاء إلا ببينة أو إقرار.
المقدمة الثانية: مكان أداء الشهادة.
المقدمة الثالثة: إذا ترتب على أداء الشهادة ضرر فهل للشاهد التخلف عن أدائها؟
المقدمة الرابعة: هل من حق المشهود عليه معرفة من شهد ضده؟
المقدمة الخامسة: متى يحتاج الشاهد إلى تزكية؟
المقدمة السادسة: واقع شهادات رجال الأمن في المحاكم.
المقدمة السابعة : الشاهد في القوانين العربية.
النتيجة : وتتضمن أهم ما توصلت إليه الدراسة.
وأنوه إلى أن البحث كتب قبل صدور نظامي المرافعات والإجراءات الجزائية الأخيرين، فأرقام المواد المذكورة في ثنايا البحث هي أرقام المواد بالنسبة للنظامين السابقين.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



المقدمة الأولى : لا قضاء إلا ببينة أو إقرار .


القانون الشرعي المرتب أنه لا قضاء إلا ببينة أو إقرار ، حتى وإن غلب على الظن صدق المدعي([1])، وسواء في ذلك حقوق الله تعالى أو حقوق الآدميين ، ففي الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي e قال : " إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار "([2]) .
ولهذا فإن مدار حكم الحاكم في الشريعة على الظاهر من كلام الخصمين لا حظ له في الباطن ; لأنه لا يبلغه علمه , فلا ينفذ فيه حكمه ; وإنما الذي يَحْكُمُ في الظاهر والباطن هو الله I ، وهذا رسول الله e المصطفى يتبرأ من الباطن , ويتنصل من تعدي حكمه إليه , فكيف بغيره من الخلق ([3]) .
قال الشاطبي : ( أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً أيضاً ، فإن سيد البشر e مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه ، ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال : "خوفا أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه" ، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ، فلا حرج.لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر ، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سدّ هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله e احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: "من يشهد لي؟"، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين ، فما ظنك بآحاد الآمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر )  ([4]).

وأصل هذا القانون في حقوق الله تعالى: ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ذكر المتلاعنان عند رسول الله e فقال عاصم بن عدي t في ذلك قولاً ، ثم انصرف ، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً ، فقال عاصم : ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي ، فذهب به إلى رسول الله e فأخبره بالذي وجد عليه امرأته وكان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر ، وكان الذي وجد عند أهله آدم خدلاً كثير اللحم جعداً قططاً ، فقال رسول الله e : " اللهم بين " فوضعت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها ، فلاعن رسول الله e بينهما ، فقال رجل لابن عباس في المجلس : هي التي قال رسول الله e : " لو رجمت أحداً بغير بينة لرجمت هذه " ؟ . فقال ابن عباس : لا ، تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام ([5]) .
قال العيني الحنفي : (قوله : قال النبي : " لو رجمت أحداً بغير بينة رجمت هذه " أراد به امرأة عويمر ، يعني إنما لاعن بينها وبين زوجها ولم يرجمها بالشبه ؛ لأن الرجم لا يكون إلا ببينة([6])).
وقال ابن بطال المالكي : ( وأما قوله : " لو كنت راجماً بغير بينة " ، في المرأة التي كانت تعلن بالسوء ، أي لو كنت متعدياً حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه ، لبيان الدلائل على فسقها ؛ ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله ، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده ) ([7]) .
وقال في موطن آخر : ( قال المهلب : هذا الحديث أصل في أنه لا يجوز أن يحد أحد بغير بينة وإن اتهم بالفاحشة ، ألا ترى أنه e قد وسم ما في بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره ، فجاءت به على النعت المكروه بالشبه للمتهم بها ، فلم يقم عليها الحد بالدليل الواضح إذ كان ذلك خلاف ما شرع الله ، فلا يجوز أن تتعدى حدود الله ، ولا يستباح دم ولا مال إلا بيقين لا شك فيه ، وهذه رحمة من الله تعالى بعباده ، وإرادة الستر عليهم والرفق بهم ليتوبوا ) ([8]) .
وقال النووي : ( " لو رجمت أحداً بغير بينة رجمت هذه " وفسرها بن عباس بأنها امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء ، وفي رواية : " أنها امرأة أعلنت " معنى الحديث : أنه اشتهر وشاع عنها الفاحشة ؛ ولكن لم يثبت ببينة ولا اعتراف ، ففيه أنه لا يقام الحد بمجرد الشياع والقرائن بل لابد من بينة أو اعتراف ) ([9]) .

وقال الشوكاني : ( استدل المصنف رحمه الله بقوله e : " لو كنت راجماً أحداً بغير بينه لرجمتها " على أنه لا يجب الحد بالتهم ، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به ، وهو قبيح عقلاً وشرعاً فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين ؛ لأن مجرد الحدس والتهمة والشك مظنة للخطأ والغلط وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف ) ([10]).


وأصله في حقوق الآدميين : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى e قال : " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه "([11]) .
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار عند هذا الحديث : ( فمنع رسول الله e أن يُعطى أحد بدعواه دماً أو مالاً ولم يوجب للمدعي فيه بدعواه إلا اليمين ) ([12]).
وقال القرطبي : (هذا الحديث أصل من أصول الأحكام ، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ، يقتضى ألا يُحكم لأحد بدعواه وإن كان فاضلاً شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوي دعواه ، وإلا فالدَّعاوي متكافئة ، والأصل : براءة الذمم من الحقوق ، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة ، وتترجَّحُ به الدعوى ) ([13]).
وقال الشافعي بعد أن ساق حديث أم سلمة وما في معناه : ( ففي كل هذا دلالة بينة أن رسول الله e إذا لم يقض إلا بالظاهر فالحكام بعده أولى أن لا يقضوا إلا على الظاهر , ولا يعلم السرائر إلا الله U والظنون محرم على الناس , ومن حكم بالظن لم يكن ذلك له ) ([14]).
وقال ابن القيم عقب حديث أم سلمة : ( فهذا الحديث نص في أن أحداً لا يعطى بمجرد دعواه ) ([15]).
وقال الصنعاني : (الحديث دال على أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه ؛ بل يحتاج إلى البينة أو تصديق المدعى عليه ، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك . وإلى هذا ذهب سلف الأمة وخلفها ) ([16]) .

ومن البينة التهمة القوية :
سئل ابن تيمية رحمة الله تعالى : ( مسألة : فيما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته ; فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال , وطمعت الفساق . وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها , أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك ؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهمين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه ؟ وهو يسأل ضابطاً في هذه الصورة , وفي أمر قاطع الطريق ؟ )
فأجاب رحمه الله تعالى جواباً مطولاً أنقله بطوله لنفاسته : (أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها  إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه , وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف :
صنف : معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم . فهذا لا يحبس , ولا يضرب ; بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء ; بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم .
والثاني : من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور . فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله . وقد قيل : يحبس شهراً . وقيل : يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر . والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره " أن النبي e حبس في تهمة " وقد نص على ذلك الأئمة , وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما , وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله , فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره , ثم إذا سأل عنه ووجد باراً أطلق . وإن وجد فاجراً كان من : الصنف الثالث :
وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك , أو عرف بأسباب السرقة : مثل أن يكون معروفاً بالقمار . والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال , وليس له مال , ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة ; ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال . وقالت طائفة : يضربه الوالي ; دون القاضي , كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد , كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية , وهو قول طائفة من المالكية , كما ذكره الطرسوسي وغيره . ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف , فيكون تعزيراً وتقريراً . وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق ; بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن  للخائنين خصيما , واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً , ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً , يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا , ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } إلى آخر الآيات , وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين , فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله e فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل ; فكأن النبي e ظن صدق المزكين فلام صاحب المال : فأنزل الله هذه الآية , ولم يقل النبي e لصاحب المال : أقم البينة ; ولا حلف المتهمين ; لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر , وظهرت الريبة عليهم . وهكذا حكم النبي e بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين ; فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة ; ليست من الحقوق الخاصة , فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية , ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة ; واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة , فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث اليمين . وقول النبي e : { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ; ولكن اليمين على المدعى عليه } هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا , ولكن يحلف المدعى عليه . فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي e قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث , كمالك , والشافعي , وأحمد وغيرهم , وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي e للمدعين : { أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم } ؟ .  كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة ; فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء , ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم ; ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتماً , وقتله حد لله ; وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول . قالوا : لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه ; إنما قتله لأجل المال , فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره , فقتله مصلحة عامة . فعلى الإمام أن يقيم ذلك . وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين , وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا , كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال ; بل رب المال يأخذ ماله , وتقطع يد السارق , حتى لو قال صاحب المال : أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع , كما قال صفوان للنبي e : أنا أهبه ردائي , فقال النبي e : { فهلا فعلت قبل أن تأتي به }...
ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس , وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه . فإنه لا يحلف ; لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره , أو يعرف مكانه , كما قال النبي e للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيي بن أخطب , وكان النبي صالحهم على أن له الذهب والفضة ; فقال لهذا الرجل : { أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال : يا محمد , أذهبته النفقات , والحروب , فقال : المال كثير , والعهد أحدث من هذا ثم قال : دونك هذا فمسه بشيء من العذاب , فدلهم عليه في خربة هناك } فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته  حتى دلهم على المال ; فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه ) ([17]).

إذا تقرر هذا الأصل : وهو أن قانون الشريعة جارٍ على أنه لا يحكم لأحدٍ مهما بلغت منزلته وعرف صدقه وظهرت عدالته إلا ببينة أو إقرار ، وأنه يستوي في ذلك سائر الدعاوى أو المدعين في الحق العام أو الخاص. ندلف حينئذٍ إلى المقدمة الثانية .



المقدمة الثانية : مكان أداء الشهادة .


أداء الشهادة يكون بمجلس الحكم عند القاضي، هذا هو الأصل المتقرر المأخوذ من قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } يعني : لإقامة الشهادة وأدائها عند الحاكم.

قال الجصاص : ( الحاكم لا يحضر عند الشاهدين ليشهدا عنده، وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم)([18]).
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام : ( المادة ( 6871 ) - ( لا تعتبر الشهادة التي تقع في خارج مجلس المحاكمة ) . والشرط العائد للمكان في الشهادة هو كونها في مجلس القاضي فلذلك لا تعتبر الشهادة التي تقع في خارج مجلس المحاكمة ) ([19]) .
وقال ابن العربي : ( قال علماؤنا : قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } دليل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم , وهذا أمر انبنى عليه الشرع , وعمل به في كل زمن , وفهمته كل أمة , ومن أمثال العرب : " في بيته يؤتى الحكم " ) ([20]) .
وجاء في شرح المحلي على المنهاج : ( ( وإذا لم يكن في القضية إلا اثنان ) بأن لم يتحمل سواهما أو مات غيرهما أو جن أو فسق أو غاب , ( لزمهما الأداء ) إذا دعيا له قال تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ) ([21]).
وجاء في الإنصاف : ( فوائد : ... الثانية يختص الأداء بمجلس الحكم ) ([22]) .

وما قرره الفقهاء هنا هو ما مشى عليه المنظم ، فقد جاء في نظام الإجراءات الجزائية : (
المادة 165:
للمحكمة أن تستدعي أي شاهد ترى حاجة لسماع أقواله، أو ترى حاجة لإعادة سؤاله· كما أن لها أن تسمع من أي شخص يحضر من تلقاء نفسه إذا وجدت أن في ذلك فائدة لكشف الحقيقة·

المادة 166:
مع مراعاة ما تقرر شرعاً في الشهادة بالحدود، يجب على كل شخص دعي لأداء الشهادة بأمر من القاضي الحضور في الموعد والمكان المحددين·.

المادة 167:
تُؤَدَّى الشهادة في مجلس القضاء، وتُسمع شهادة الشهود كل على حدة، ويجوز عند الاقتضاء تفريق الشهود ومواجهة بعضهم ببعض· وعلى المحكمة أن تمنع توجيه أي سؤال فيه محاولة للتأثير على الشاهد، أو الإيحاء إليه، كما تمنع توجيه أي سؤال مخل بالآداب العامة إذا لم يكن متعلقاً بوقائع يتوقف عليها الفصل في الدعوى· وعلى المحكمة أن تحمي الشهود من كل محاولة ترمي إلى إرهابهم أو التشويش عليهم عند تأدية الشهادة·) .


لكن إذا قام بالشاهد عذر يمنعه من المجيء إلى مجلس الحاكم ؛ كخوف أو مرض فهل ينتقل إليه القاضي ؟ .
أما في فقه فقهاءنا فإن النصوص التي أوردناها آنفا تدل على أن القاضي لا ينطلق إلى بيت أحدٍ ليسمع منه ، فإن تسلط على الشاهد عذرٌ من الأعذار المذكورة آنفا كان له نقل شهادته إلى القاضي عبر شهودٍ يرتضيهم ، وهو المعروف فقهاً بالشهادة على الشهادة .
أما المنظم فقد جنح إلى إلزام القاضي بالانتقال إلى محل الشاهد ليسمع منه في القضايا المدنية ( الحقوقية) فقد جاء في نظام المرافعات الشرعية : ( إذا كان للشاهد عذر يمنعه عن الحضور لأداء شهادته ، فينتقل القاضي لسماعها ، أو تندب المحكمة أحد قضاتها لذلك ، وإذا كان الشاهد يقيم خارج نطاق اختصاص المحكمة فتستخلف المحكمة في سماع شهادته محكمة محل إقامته ) ([23]).

وأما في الجنايات – وهي ما نحن فيه - فقد جعل المنظم للمحكمة الحق في أن تختار الانتقال لسماع شهادة أو معاينة موقع الجريمة ، أو أن تختار عدم الانتقال جاء في نظام الإجراءات الجزائية : ( للمحكمة إذا رأت مقتضى للانتقال إلى المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، أو إلى أي مكان آخر لإجراء معاينة، أو لسماع شاهد لا يستطيع الحضور ، أو للتحقق من أي أمر من الأمور أن تقوم بذلك وتمكن الخصوم من الحضور معها في هذا الانتقال، ولها أن تكلف قاضياً بذلك·وتسري على إجراءات هذا القاضي القواعد التي تسري على إجراءات المحاكمة·) ([24]) .
ولا يمكن جعل ما ورد في نظام المرافعات لازماً في القضايا الجنائية , لما ورد في المادة لحادية والعشرين بعد المائتين من نظام الإجراءات الجزائية ونصها: (تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام وفيما لا يتعارض مع طبيعة الدعاوي الجزائية) وثانيهما :حرص المنظم على حق الخصم المشهود عليه في سماع الشهادة ضده ولو كانت خارج المحكمة كما سيرد تفصيله لاحقاً.

هذا ما نص عليه المنظم – حتماً في المرافعات وجوازاً في الإجراءات -! والمخرج الذي قرره الفقهاء في مثل هذا الظرف هو الانتقال إلى مبدأ الشهادة على الشهادة - على خلاف في الحقوق التي تقبل فيها - .
قال ابن قدامة : ( الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ؛ ولأن الحاجة داعية إليها ، فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده ، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة ، فوجب أن تقبل كشهادة الأصل ) ([25]) .
وقال أيضاً : ( ولها أربعة شروط ; أحدها : أن تتعذر شهادة الأصل ; لموت , أو غيبة , أو مرض , أو حبس , أو خوف من سلطان أو غيره . وبهذا قال مالك , وأبو حنيفة , والشافعي . وحكي عن أبي يوسف , ومحمد , جوازها مع القدرة على شهادة الأصل , قياساً على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي , أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل ; لأنهما إذا كانا حيين , رجي حضورهما , فكانا كالحاضرين . وعن أحمد مثل هذا , إلا أن القاضي تأوله على الموت , وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها . ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا , فيزول هذا الخلاف ) ([26]).

وغير خافٍ ما في انتقال القاضي إلى محل الشاهد من تضيع لحقوق أرباب الدعاوى الأخرى والمراجعين .
كما أنَّ خروج القاضي إلى شهود أحد المتخاصمين فيه إخلال بمبدأ المساواة بين الخصمين ، فخروج ناظر الدعوى بعينه ظاهره ميلٌ لذوي الشهود ، وفيه تهمة للقاضي بكونه يسعى لإثبات قول من يشهد معه الشهود .
علاوة على ما في ذلك من خرم لهيبة القاضي . خاصة إذا علم أنه لم يتقرر الانتقال كحل وحيد لظرف العذر .
وأيضاً فإن تشريع انتقال القاضي كحل في المسألة المحالة – شهادات رجال الأمن – استناداً للنصوص المنظمة لا يدفع الضرر المراد دفعه ؛ فالمنظم في نظام الإجراءات الجزائية نص على أن القاضي ينتقل إلى الشاهد مع تمكين الخصم من الحضور معه إلى محل الشاهد ، جاء في المادة 170 : ( للمحكمة إذا رأت مقتضى للانتقال إلى المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، أو إلى أي مكان آخر لإجراء معاينة، أو لسماع شاهد لا يستطيع الحضور ، أو للتحقق من أي أمر من الأمور أن تقوم بذلك وتمكن الخصوم من الحضور معها في هذا الانتقال ) .

وهل يمكن الاعتماد في أداء الشهادة على المحاضر المعدة من قبل رجال الضبط أو على أداء الشهادة كتابة ؟ .
نص الحنفية والشافعية في وجه والحنابلة على أنه لا مدخل للكتابة في باب الشهادات ؛ لأن الشاهد لا بد من نطقه بالشهادة ؛ ولإمكان التزوير ؛ ولأن الخطوط تتشابه فلا يمكن القطع بأنه خط فلان .
جاء في حاشية ابن عابدين : ( ( ومنه القضاء بخط شهود أموات ) ؛ لأن الشاهد لابد من نطقه بالشهادة ، فالحكم بالخط حكم بلا شهادة فهو باطل ) ([27]).
وجاء في مغني المحتاج : ( ( ولو ) ( رأى ) قاض أو شاهد ( ورقة فيها حكمه أو شهادته ) على إنسان بشيء ( أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا ) ( لم يعمل ) القاضي ( به ) أي بمضمون خطه ( ولم يشهد ) أي الشاهد بمضمون خطه ( حتى يتذكر ) كل منهما أنه حكم أو شهد به على التفصيل لإمكان التزوير وتشابه الخطوط في الحالة الأولى , وأما الثانية فلأن القاعدة إذا أمكن اليقين لا يعتمد الظن , ولا يكفي تذكر أصل القضية . تنبيه : أفهم قوله لم يعمل به جواز العمل به لغيره , وهو كذلك في الحالة الثانية , فإذا شهد غيره عنه بأن فلانا حكم بكذا اعتمدوه , والفرق أن جهله بفعل نفسه لما كان بعيدا قدح في صدق الشهود وأفهم العمل به عند التذكر , وهو ظاهر ( وفيهما ) أي العمل والشهادة ( وجه في ورقة مصونة ) من سجل ويحضر ( عندهما ) أي القاضي والشاهد أنه يجوز الاعتماد عليه إذا وثق بخطه ولم يداخله ريبة لبعد التحريف في مثل ذلك , والأصح الأول لاحتماله ) ([28]) .
وجاء في كشاف القناع : ( لا يجوز ) للقاضي الحكم ( برؤية خط الشاهد ) احتياطاً للحكم . ( ولو رأى الحاكم حكمه بخطه تحت ختمه ولم يذكر أنه حَكَمَ به أو رأى الشاهدُ شهادته بخطه ولم يذكر الشهادة لم يجز للحاكم إنفاذ الحكم بما وجده ) بخطه تحت حكمه ( ولا للشاهد الشهادة بما رأى خطه به ) على الصحيح احتياطاً ) ([29]) .
إذا تحرر هذا مع استحضار ما سيأتي في المقدمة السادسة - واقع شهادات رجال الأمن في المحاكم – أيقنا أنه لا يمكن الاكتفاء بالمحاضر المعدة من قبل رجال الضبط. أو القول بإجازة أداء رجال الأمن لشهاداتهم كتابة ، زد على ذلك:
أن شهادة رجل الأمن إن كانت مكتوبة بخط اليد ، فإن القاضي – غالباً - لا يعرف شخص العسكري الشاهد حتى وإن ذُيل الخطاب أو المحضر باسمه ، فهو مجهول العين والحال عنده . هذه واحدة .
والثانية : أن القاضي أيضاً لا يعرف - غالباً - خط رجل الأمن الذي كتبه وذيله بتوقيعه حتى يميزه من غيره ويعتمد عليه .
وإن كانت الشهادة مكتوبة بالحاسوب فيرد عليها أيضاً ما يرد على الشهادة المكتوبة بخط اليد ، فرجل الأمن غالباً مجهول العين والحال عند القاضي ، وهو لا يعرف توقيعه المذيل بالشهادة ليميزه من غيره .
قال ابن القيم : ( قال محمد بن عبد الحكم : لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط , لأن الناس قد أحدثوا ضروباً من الفجور , وقد قال مالك في الناس : تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور . وقد روى لي عبد الله بن نافع عن مالك قال : كان من أمر الناس القديم : إجازة الخواتيم , حتى إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه , فيعمل به , حتى اتهم الناس , فصار لا يقبل إلا بشاهدين ) ([30]).

خلاصة هذه المقدمة : أن القاضي يُؤتى ولا يأتي ، وأن ما سنه المنظم من إلزام القاضي بالانتقال لسماع شهادة الشاهد الذي قام به عذر خاص بالقضايا المدنية ( الحقوقية) بشرط تحقق العذر في الشاهد ، مع إمكان الأخذ بمبدأ الشهادة على الشهادة التي قررها علماء الإسلام ، وأما في القضايا الجنائية فالأمر متروك لاجتهاد المحكمة في تقدير ضرورة الانتقال ،ومشروط بحصول العذر للشاهد في العجز عن الحضور ، والأجدر الأخذ بمبدأ الشهادة على الشهادة التي قررها أهل العلم في مثل هذا الظرف ، ولا يمكن الاكتفاء بأداء الشهادة كتابة لما قرره أهل العلم ولواقع الحال([31]) .


المقدمة الثالثة : إذا ترتب على أداء الشهادة ضرر
فهل للشاهد التخلف عن أدائها ؟ .

هذا المقدمة مفروضة في الحالات التي تتعين فيها أداء الشهادة كما في حقوق الآدميين التي لا يثبت الحق فيها إلا بشهادته ، أو في حقوق الله تعالى إذا كان المشهود ضده متهتكاً لا يُستر على مثله .
فإذا كان أداء الشهادة متعيناً في حقه لكن يلحقه بأدائها ضرر متحقق أو غالب فهل يلزمه الأداء والحال ما ذكر ؟ .
نص الفقهاء على أنّ الشاهد لا يلزمه أداء شهادته مع الضرر ؛ لعموم قوله تعالى : {ولا يضار كاتب ولا شهيد} ، ولعموم قوله e : " لا ضرر ولا ضرار " ([32])؛ ولأن دفع الضرر الذي سيلحق النفس أولى من دفع ضرر يلحق غيرها وفي الصحيح : " ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك " ([33]) .
جاء في الجوهرة النيرة : ( إذا خاف الشاهد على نفسه من سلطان جائر أو غيره أو لم يتذكر الشهادة على وجهها وسعه الامتناع ) ([34]) .
وجاء في كشاف القناع : ( ( ويشترط في وجوب التحمل و ) وجوب ( الأداء أن يدعى إليهما من تقبل شهادته ) لقوله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} . ( و ) أن ( يقدر ) الشاهد ( عليهما بلا ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو أهله أو عرضه ولا تبذل في التزكية ) أي وبلا ضرر يلحقه بتبذل نفسه إذا طلبت منه تزكيتها فإن حصل له ضرر بشيء من ذلك لم تجب لقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ) ([35]).
وجاء في الموسوعة الكويتية : ( وإذا وجب أداء الشهادة على إنسان ولكنه عجز لبعد المسافة , كأن دعي من مسافة القصر أو كان سيلحقه ضرر في بدنه أو ماله أو أهله فلا يلزمه الأداء لقول الله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } , وقول النبي e : { لا ضرر ولا ضرار } . ولأنه لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره ) ([36]).

على أنه ينبغي أن يُستحضر في هذا الشأن أن شهادة رجل الأمن ضد المجرمين ونحوهم من لوازم وظيفته ، وهو يتقاضى راتباً مراعى فيه بدلات لما قد يلحقه من ضرر – بدل خطر - ، ثم إن الضرر المتوقع لحوقه برجل الأمن بسبب شهادته على الجاني ، متوقع حصوله أيضاً بسبب قبضه عليه فهل يقال : بدفع هذا الضرر أيضاً بألا يُقبض على المجرم ابتداءً ؛ لئلا يلحق رجل الأمن ضرر ! وليس طلب دفع أحد الضررين بأولى من الآخر .
ثم إن دفع هذا الضرر المتوقع حصوله -لو وقع - يكون بتشديد العقوبة على المعتدي وإشهارها .
والسؤال الذي يطرح نفسه : كم عدد الحالات التي لحق رجال الأمن ضرر بسبب التصريح بأسمائهم في الشهادة أو بسبب حضورهم مجلس الحكم لأدائها ؟ .
فإن كانت نادرة – وهذا هو الظن أو الواقع لأن شهاداتهم تُعد بالآلاف وحوادث الاعتداء بسبب أداء الشهادة نادرة جداً - فالنادر لا حكم له !([37])

فقصارى هذه المقدمة : أن الشاهد متى ما تيقن أو غلب على ظنه لحوق الضرر به من المشهود عليه جاز له التخلف عن أداء الشهادة وسقط وجوب الأداء عنه إن كان متعيناً .
ومن نافلة القول : أن سقوط وجوب الأداء عن الشاهد لا يستلزم وجوب الحكم بطلب المدعي من غير بينة أو إقرار ، فالجهة منفكة ، وليس كل حق ثابتٍ ديانة يثبت قضاء .

المقدمة الرابعة :
هل من حق المشهود عليه معرفته بمن شهد ؟

جمهور أهل العلم على أن من الحقوق المكفولة للمشهود ضده معرفته بالشهادة ومن شهد عليه ، وسواء كان المشهود ضده ممن يخشى ضرره أو لا .
ووجه اشتراط معرفته بمن شهد ضده : ليتمكن من جرح الشهود والتفتيش عن حالهم ([38])، وجرحهم لا يمكن من غير معرفتهم .

قال الإمام مالك رحمه الله : ( ولا يشهد الشهود عند القاضي سراً وإن خافوا من المشهود عليه أن يقتلهم , إذ لا بد أن يُعَرَّفه القاضي بمن شهد عليه ويعذر إليه فيه ) ([39]) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : ( وإذا شهد الشهود على الرجل بشهادة فعدلوا انبغى للقاضي أن يسميهم وما شهدوا به على المشهود عليه ويمكنه من جرحهم ، فإن جاء بجرحتهم قبلها ، وإن لم يأت بها أمضى عليه الحق ) ([40]) .
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( للمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق ) ([41])

وخالف ابن بشير تلميذ مالك وتبعه بعض متأخري المالكية ، فقالوا : إن من يخشى منه ضرر على بينة شهدت عليه فلا إعذار إليه بل ولا تسمى له البينة ([42]).
قال الدسوقي : (قول ابن بشير هذا خلاف المدونة ) ثم قال : ( وقد يجاب عن تضعيفهم قول ابن بشير بأنه وإن قال بعدم الإعذار لمن يخشى منه على البينة ؛ لكنه يقول : إنه يجب على القاضي أن لا يهمل حق المشهود عليه من التفتيش عن حال الشهود بالكلية بل يتنزل في السؤال عنهم منزلة المشهود عليه وحينئذ فالمقصود من الإعذار إليه حاصل بغيره مع الأمن على البينة ) ([43])
وهذا الذي ذكره ابن بشير مع توجيه الدسوقي له يمكن أن يناقش فيقال:
لا يخلو الحال في عدم تسمية البينة من احتمالين :
الأول : أن يعلم القاضي البينة دون الخصم : وهذا فيه شبه قريب بقضاء القاضي بعلمه إن لم يكن من صوره . وسواء كان شبيهاً به أو من صوره فهو باب لتطرق الناس إلى اتهام القاضي والوقوع في عرضه ([44]) .
الثاني : ألا يعلم القاضي والخصم البينة : وهذا من القضاء بلا برهان ، وقد مضى في المقدمة الأولى أنه لا قضاء إلا ببينة أو إقرار .
والذي سار عليه المنظم يوافق ما ذهب إليه الجمهور :
جاء في المادة التاسعة عشرة بعد المائة من نظام المرافعات : ( تسمع شهادة كل شاهد على انفراد بحضور الخصوم وبدون حضور باقي الشهود الذين لم تسمع شهادتهم على أن تخلفهم لا يمنع من سماعها ، وعلى الشاهد أن يذكر اسمه الكامل وسنه ومهنته ومحل إقامته وجهة اتصاله بالخصوم بالقرابة أو الاستخدام أو غيرها إن كان له اتصال بهم مع التحقق عن هويته ) .
ونظام الإجراءات الجزائية وإن كان أغفل النص التصريح باسم إلا أنه قرر في مادته 221 : (تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام وفيما لا يتعارض مع طبيعة الدعاوي الجزائية )

ثم وقفنا بعدُ على نصٍّ في كتب الحنابلة يحتمل موافقته لمذهب ابن بشير المالكي ، قالوا : ( (ويحرم الاعتراض عليه) أي الحاكم (لتركه تسمية الشهود)) ([45])  قال المرداوي : ( ذكره القاضي وغيره في مسألة المرسل ، وابن عقيل ، وقدمه في الفروع )([46])  . ثم اعقبوا بعد كلامهم هذا النقل عن ابن تيمية بحكاية الاتفاق على أنَّ للمحكوم عليه مطالبة الحاكم تسمية البينة وهو النقل الذي أوردناه آنفاً .
وإنما قلنا يحتمل لأمور :
o   أن الحنابلة نصوا على أن من حق المشهود عليه جرح الشهود  ، بل ويمهل لذلك ، جاء في زاد المستقنع : ( وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه )([47]) . وما جاء في الزاد أمر مقرر في عامة كتب المذهب . والجرح لا يتأتى إلا مع معرفة أعيان الشهود ! 
o   أنهم نصوا أيضاً على أن من شروط الشهادة على الشهادة : تعيين شاهدي الأصل وتسميتهما ؛ وعللوا لذلك بحفظ حق المشهود عليه ، فربما أمكنه جرح الشهود وإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك . جاء في الكافي: (الشرط الثالث: أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم ، وأنسابهم، ولو قالوا: نشهد على شهادة عدلين، لم تقبل؛ لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير عدلين عند الحاكم، ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما )([48]) . فإذا كان معرفة المشهود عليه أسماءَ الشهود مكفولة له في الشهادة على الشهادة ؛ لأجل الجرح ، فمن باب أولى تسميتهم  من غير شهادة على شهادة.
o   أنَّ هذا يخالف أصل القاضي أبي يعلى ، فإنه يذهب إلى أن الحاكم لا يحكم بإقرار الخصم في مجلس الحكم حتى يسمعه معه شاهدان ؛ دفعاً للتهمة([49]) . فإذا كان هذا أصله في الإقرار الذي هو سيد الأدلة ، فمن باب أولى ألا يحكم بناءً على شهادة لا يعلم المشهود ضده من أدائها !
   ولهذا فلعل مراد القاضي وابن عقيل هو حكم تسمية الشهود في كتاب القاضي إلى القاضي ، وهذه مسألة معروفة في كتب المذاهب الأخرى هل يسمى في كتاب القاضي الشهود أو لا ؟ ويؤيد هذا ما ذكره المرداوي من أن القاضي أبو يعلى ذكرها في مسألة المرسل !

إذا تقرر أنه من حق المشهود معرفته بالشهادة ومن شهد بها ، فهل :
يُكفل هذا الحق له شفاهاً – بأن يصرح بأسمائهم في مجلس الحكم مشافهة – لا تحريراً في الضبط والصك ؟ .
أو يُكتفى فيهما بترميز الأسماء ؟ .
أما الضبط فالظن أنه لا بد من ذكر أسمائهم صراحة ؛ لأنه في مأمن عن التداول وتناقل الأيدي له .
ولأنه قد يحتاج إلى مراجعة القضية بكل ملابساتها وتفاصيلها – بما في ذلك الشهود وشهاداتهم - ولا ضابط لها إلا الضبط .
وأما الصك فيمكن الإذن بترميز أسماء الشهود فيه خاصة ؛ لأنه مما تتناقله الأيدي غالباً ، والخصم كُفِلَ حقه بحضور الشاهد مجلس الحكم ومعرفته بعين من يشهد ضده واسمه .
ولكون المادة الرابعة والستين بعد المائة من نظام المرافعات لم توجب ذكر الأسماء في الصك, وإنما أوجبت ذكر نص الشهادة والتزكية لتعلق الحكم بها. ونصها :( بعد الحكم تصدر المحكمة إعلاماً حاوياً لخلاصة الدعوى والجواب والدفوع الصحيحة وشهادة الشهود بلفظها  وتزكيتها و تحليف الأيمان وأسماء القضاة الذين اشتركوا في الحكم واسم المحكمة التي نظرت الدعوى أمامها وأسباب الحكم ورقمه وتاريخه مع حذف الحشو والجمل المكررة التي لا تأثير لها في الحكم .).

ونورد هنا إتماماً للعقد كلام الفقهاء في حكم تدوين أسماء الشهود في المحاضر والسجلات :
عند الشافعية : المحضر : هو حكاية الحال لما جرى في الدعوى ([50]) أو هو مُسَودَّات الشهود ([51])
والسجل : هو حكاية المحضر مع زيادة إنفاذ الحكم به ([52]) .
ومنهم من يرى أن السجل هو الذي يبقى عند القاضي  ، وأما الذي يكتب في إنفاذ الحكم فيسمى الحُجَج ([53]) .
ويرون أيضاً : أنه قد يطلق المحضر على السجل ، وقد يطلق السجل المحضر ([54]).
وأما الحنابلة : فالمحضر : ما تضمن الحكم بإقرار أو نكول ([55]). وهو شرح لثبوت الحق عنده لا الحكم بثبوته، وهو الصك ، سُمي بذلك لما فيه من حضور الخصمين والشهود ([56])  .
والسجل : ما تضمن الحكم ببينة ([57]) ، ويقولون : بأن السجل يُكتب لإنفاذ ما ثبت عند القاضي وحَكَم به ([58]) .
ثم هم – الشافعية والحنابلة - يقولون : يُجعل من السجل نسختين ، نسخة يدفعها الحاكم لطالب الوثيقة ، والنسخة الأخرى يحبسها الحاكم عنده ؛ ليرجع إليها عند ضياع ما بيد الخصم أو الاختلاف ([59]) .

أما تدوين أسماء الشهود فيهما ، فسأورد نصوصهم حسب المذاهب الفقهية :
فالحنفية : يشيرون إلى أن الكاتب يدون أسماء الشهود ، جاء في تحفة الفقهاء للسمرقندي : ( وفي عادة السلف أنَّ القاضي هو الذي يكتب خصومة كلا الخصمين على كاغد السؤال والسؤال والجواب ثم يكتب شهادة الشهود على حسب ما شهدوا بعد كتابة جواب الخصم ثم يطوي الكتاب ثم يختمه ثم يكتب على ظهره خصومة فلان وفلان في شهر كذا في سنة كذا ويضعه في قمطرة على حدة .
وفي زماننا العادة أن الكاتب هو الذي يكتب كتاب الدعوى ويترك موضع التاريخ ولا يكتب جواب الخصم ويكتب أسماء الشهود بعد ذلك ويترك فيما بين الخطين فرجة فإذا رفع الدعوى عند القاضي فيكتب التاريخ بنفسه ويكتب جواب الخصم على الوجه الذي تقرر ) ([60]) .

والمالكية : يفرقون بين حكم صادر على حاضر وبين صادر على غائب .
فأما الحكم على غائب : فيوجبون فيه التصريح بأسماء الشهود ، قال ابن فرحون : (قال المازري: إذا لم يصرح القاضي بأسماء الشهود في الحكم على الغائب فالمشهور أن ذلك حكم لا ينفذ دون أن يعرف الغائب من يشهد عليه، ووقع في المذهب رواية أن ذلك ينفذ، ولكنها مطروحة عند القضاة المالكية ) ([61])؛ وعللوا ذلك : بأن التسمية لإرجاء الحجة للغائب فيهم ، فلا يمكنه القدح فيهم من غير معرفة أسمائهم ([62]) ، بل إن أشهب يقول : ( ينبغي للقاضي إذا سجل بين الخصمين أن يذكر في الكتاب أسماء الشهود فإن لم يفعل حتى أوقع الحكم فالأحب إلي أن يبدل الكتاب، فإن لم يفعل حتى عزل أو مات نفذ الحكم إلا على الغائب؛ لأنه إن قدم فقال - من الشاهد علي - فإن عندي تجريحه : فالقضية مردودة، والخصومة مؤتنفة، والبينة معادة ) ([63]) .

وأما الحكم على حاضر ، فاختلفوا في تدوين أسمائهم على رأيين :
الأول : لا تدون أسماء الشهود ؛ لأن القاضي قد يحكم بهم وهم عدول ثم تحدث لهم جرحة، وقد عزل القاضي أو مات، فيدعي المقضي عليه أن القاضي قبل شهوداً غير عدول . وهذا مذهب سحنون ([64]).
والثاني: تدون أسماء الشهود . وهذا مذهب أصبغ ، قال ابن فرحون : (وإلى قول أصبغ وتسمية الشهود ذهب من رأيته من فقيه وحاكم ، ... وبه جرى العمل فهو في الحاضر مستحب وفي الغائب واجب لإرجاء الحجة له ) ([65]).

أما الشافعية : فاعتصر الماوردي -رحمه الله- الخلاف فقال : ( فأما تسمية الشهود الذين حكم بشهادتهم في المحضر والسجل فقد ذكرنا اختلاف الناس في الأولى منه مع اتفاقهم على جواز الأمرين .
فرأى أكثر أهل العراق أن ترك تسميتهم أولى وهو أحوط للمشهود له. واختاره أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا.
ورأى أكثر أهل الحجاز أن تسميتهم فيه أولى وهو أحوط للمشهود عليه مما لعله يقدر عليه من جرحهم، واختاره أبو العباس بن سريج من أصحابنا.
ولو أن القاضي عدل عن كتب السجل إلى أن زاد في المحضر إنفاذ حكمه وإمضائه بعد إمهال المشهود عليه بما يدفع به الشهادة فلم يأت بها وعلم فيه وأشهد به على نفسه جاز ) ([66])

أما الحنابلة : فإنهم ذكروا أن مما يدون في السجل ([67]) أسماء الشهود ، جاء في الشرح الكبير : (وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في أول المحضر ومن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهاة فلان وفلان وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين وإلا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر ...)([68])

خلاصة المقدمة أن من حقوق المشهود عليه معرفته بالشهادة وبعين من شهد ضده في قول جمهور أهل العلم خلافاً لبعض المالكية .

المقدمة الخامسة :متى يحتاج الشاهد إلى تزكية ؟ .


لا يخلو الحال :
إما أن يعلم القاضي حال الشاهد أو لا ؟ . فهذه صورتان :

الأولى : أن يعلم القاضي حال الشاهد تعديلاً أو جرحاً .
حكم هذه الصورة : يعمل القاضي بعلمه في حال الشاهد بالإجماع ، قال ابن قدامة : (وأما الجرح والتعديل , فإنه يحكم فيه بعلمه , بغير خلاف ; لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه , لتسلسل , فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما , فإذا لم يعمل بعلمه , احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين , ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين , فيتسلسل , وما نحن فيه بخلافه ) ([69]) ، وحكى الإجماع أيضاً ابن رشد في بداية المجتهد([70]) ، والقرافي في الذخيرة ([71]) ، وابن فرحون في التبصرة ([72]).


الثانية : ألا يعلم القاضي حال الشاهد .
وهذه الصورة لا تخلو من ثلاثة أحوال :
إما أن يقدح المشهود ضده في الشاهد ، أو يعدله ، أو لا يقدح فيه ولا يعدله .
1- فإن قدح : نُظر في قدحه ومدى ثبوته ، حتى يظهر رجحان أحد الجانبين .
2- وإن عدله فخلاف - نرجئ إيراده إلى ما بعد الصورة الثالثة -
3- وإن لم يقدح ولم يعدل : فاختلفوا على ثلاثة أقوال :

القول الأول : يُزكى في الحدود والقصاص دون غيرها ، وهذا قول أبي حنيفة ([73]) .
القول الثاني : لا بد من تزكيته مطلقاً . وهذا قول صاحبي أبي حنيفة ([74])، والمالكية ([75])، والشافعية ([76]) ، ورواية عن أحمد ([77]).
القول الثالث : لا يزكى مطلقاً . وهذا قول الحسن ، وهو رواية عن أحمد ([78]).
قال السرخسي مبيناً سبب الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه : ( قيل هذا اختلاف عصر وزمان ، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي في القرن الثالث , وقد شهد فيه رسول الله e بالصدق والخيرية بقوله e: " خير الناس قرني" الحديث ، وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت ; فلهذا كان يكتفي بظاهر العدالة ، وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله على أهله بالكذب بقوله e : " ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد " وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول ، فقال لا بد للقاضي أن يسأل عن الشهود ) أهـ.([79])

الأدلة :
أدلة القول الأول :
قالوا لا يزكى في الأموال – وإنما يُزكى في الحدود والقصاص خاصة - ؛ لما يلي :
1- ما روي مرفوعاً إلى النبي e وموقوفاً على عمر ابن الخطاب t : " المسلمون عدول بعضهم على بعض " ([80]) ، قالوا : فهذا تعديل من صاحب الشرع لكل مسلم ، وتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكي ([81]) .
نوقش : المراد به أن ظاهرهم العدالة ، ولا يمنع ذلك من وجوب البحث ، والتحقق من عدالته ، بدليل أن عمر t عنه كان يتحقق ممن يشهد عنده – كما سيأتي في أدلة القول الثاني – ([82]) ، وأيضاً كان t لا يقبل أن يحدث صحابي عن رسول الله e إلا بآخر يشهد معه أنه e نطق به ([83]) .
ويمكن أن يناقش أيضاً : بأن الأثر لو صح فليس على إطلاقه بالإجماع ، فلو كان على إطلاقه لقبل قول المدعي المسلم بلا برهان ؛ لأنه مسلم .
ولما سُمع قدح المشهود ضده في الشهود أصلاً ؛ لأنهم مسلمون .
ولكان لازم إطلاقه من باب أولى أن ترد دعوى المدعي الكافر على المسلم إذا أنكرها المسلم من غير بينات .

2- ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : جاء أعرابي إلى النبي e فقال إني رأيت الهلال ، فقال e : " أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ " . قال : نعم . قال : " أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ " . قال : نعم . قال " يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " ([84]).
ووجه : أن النبي e قبل قول الأعرابي في رؤية الهلال لمجرد إسلامه ، فظاهر السياق أنه e كان لا يعلم حاله ؛ وإلا لو كان e يعلم حاله لما سأله عن إسلامه باستنطاقه الشهادتين .
نوقش بما يلي :
          أ‌-    الحديث مرسل ، قال الترمذي : (حديث ابن عباس فيه اختلاف وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي e مرسلاً وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي e مرسلاً ) ([85]) . وقال ابن حجر بعد أن أشار إلى ما نقلته عن الترمذي : ( وقال النسائي إنه أولى بالصواب ، وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة ) ([86]).
         ب‌-   ويناقش أيضاً - على فرض صحته - : بأن الصحابة كلهم عدول ، ولهذا لم يُسأل عن حاله ([87]). قال السخاوي : ( وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً ، كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتنة أم لا ) ([88]) .
         ت‌-   ويقال لهم أيضاً : ( إن كونه أعرابياً لا يمنع من كونه عدلاً ، ولا من تقدم معرفة النبي e بعدالته ، أو أخبار قوم له بذلك من حاله ، ولعله أن يكون نزل الوحي في ذلك الوقت بتصديقه ، وفي الجملة فما نعلم أن النبي e اقتصر في قبول خبره على ظاهر إسلامه فحسب ، على أن بعض الناس قد قال : إنما قبل النبي e خبره لأنه أخبر به ساعة إسلامه وكان في ذلك الوقت طاهراً من كل ذنب بمثابة من علم عدالته ، وإسلامه عدالة له ، ولو تطاولت به الأيام لم يعلم بقاؤه على طهارته التي هي عدالة ) ([89])
3- ولأن الأموال تثبت مع الشبة ، وإذا وقع الغلط فيها يمكن تداركه بإلزام من حُكِمَ له بالمال أن يرده ؛ ولهذا يُكتفى فيها بظاهر العدالة ([90]) .
يمكن أن يناقش : بأن إمكان تدارك المال غير مضمون فقد يستنفق المال ويعسر من أخذه ، فيتعذر حينئذٍ تداركه . ودفع هذا الخطر قبل وقوعه بتزكية الشهود والتيقن من عدالتهم أسهل من رفعه .
4- ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله تعالى ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على خلافه دليل ([91]) .
نوقش : وإن كان أمر العدالة خفياً إلا أن الاكتفاء بمجرد الإسلام للحكم بالعدالة يكذبه الواقع – كما سيأتي في أدلة القول الثاني - ، فإن عدد فساق المسلمين أكثر من عدولهم ، يصدقه قوله تعالى : {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } ، وقوله : {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ، وقوله e : " ثم يفشو الكذب " ([92]) .

قالوا ويزكى في الحدود والقصاص ، لما يلي :
1- احتيالاً لدرء الحد بالشبهات ، وقد أمرنا بدرء الحدود ، فيسأل عن الشهود عسى يطلع على ما يسقط به ([93]).
2- ولأن الحدود والقصاص يتضمنان إتلافاً لا يمكن تداركه إذا تبينا الغلط ، ولهذا يحتاط فيهما ما لا يحتاط في غيرهما ([94]) .


أدلة القول الثاني :
1- قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } . قال القرطبي : ( في الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة ) ([95]) .

2- قوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ]
قال ابن تيمية : ( وأما قول من يقول : الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل ؛ بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل ، كما قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ] ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل ) ([96]). وقال ابن القيم : ( إذا شك في الشاهد هل هو عدل أو لا؟ لم يحكم بشهادته لأن الغالب في الناس عدم العدالة .
وقول من قال: "الأصل في الناس العدالة" كلام مستدرك ؛ بل العدالة طارئة متجددة والأصل عدمها ، فإن خلاف العدالة مستَنَده جهلُ الإنسانِ وظلمِه ، والإنسان خلق جهولاً ظلوماً ، فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل ، وهما جماع الخير ، وغيره يبقى على الأصل ، أي : فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب ) ([97]).

3- قوله تعالى  : {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [ الطلاق : 2 ]  .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله :( لا يخفي أن العدالة شرط في الشهداء كلهم سواء كانت شهادتهم شهادة أصل أو شهادة فرع تزكية وتعديل فلا بد من عدالة البينة ظاهراً وباطناً) . ([98])

4- ما أخرجه مسلم في خبر طلاق فاطمة بنت قيس ، وفيه أن عمر t قال : " لا نترك كتاب الله وسنة نبينا e لقول امرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله U { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } " ([99]).
قال الخطيب البغدادي : ( الطريق إلى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها إلا باختيار الأحوال وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة ... ، يدل على صحة ما ذكرناه : أن عمر بن الخطاب رد خبر فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقتها وسكناها لما طلقها زوجها ثلاثاً مع ظهور إسلامها واستقامة طريقتها ) ([100]).

5- ما جاء أن شاهدين شهدا عند عمر t فقال لهما : إني لا أعرفكما ، ولا يضركما أن لا أعرفكما ، ائتيا بمن يعرفكما . فأتاه رجل ، فقال : تعرفهما ؟ قال : بالصلاح والأمانة . قال : كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما ومخرجهما قال : لا . قال : هل عاملتهما بهذه الدراهم والدنانير التي تعرف بها أمانات الرجال ؟ قال : لا . قال : فهل صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال ؟ قال : لا . قال : فأنت لا تعرفهما ، ائتيا بمن يعرفكما ([101]) .

6- ولأن العدالة شرط في الشهادة ، فلم يجب الاقتصار في معرفة الشاهد على الظاهر قياساً على الإسلام ([102]) .

7- ولأن مبنى القضاء على الحجة ، وهي شهادة العدول فلا بد من تزكية الشهود تعرفاً على عدالتهما ([103]) .

8- ولأن العدالة ليست وصفاً سلبياً فقط – وهو اجتناب المحارم - ؛ بل هي وصف ثبوتي أيضاً – وهو القيام بالواجبات - ، والأصل في الواجبات عدم الوجود .
ومن هنا يُعلم أن قول ( الأصل في المسلم السلامة ) لا يساوي في المعنى قول : ( الأصل في المسلم العدالة ) ؛ إذ العدالة ليست سلامةً من المحرمات فقط ، بل أداء للواجبات أيضاً ([104]).

9- ولأن في السؤال عن الشهود بطلب تزكيتهم صيانة للقضاء عن البطلان على تقدير ظهور الشاهد كافراً أو فاسقاً ([105]) .

10- ولأن القاضي لا يعرف عدالة الشاهدين في الباطن فلم يجز الحكم بشهادتهما قياساً على حال تجريح الخصم لهما ([106]) .

أدلة القول الثالث :
يمكن أن يستدل لهم بأدلة القول الأول التي ذكروها فيما يتعلق بالمال وأنه لا يحتاج الشاهد إلى تزكية فيها ، مع طردها في كل شيء .


نعود إلى الحالة الثانية وهي إذا ما عدل المشهود ضده الشاهد ، هل يُعْتَدُّ بتزكيته أم لا ، خلاف على قولين :
القول الأول : تعديل الخصم للشاهد يغني عن الاستزكاء . وهذا قول الصاحبين ([107])، والمالكية([108]) ، وقول عند الشافعية ([109])، ووجه عند الحنابلة ([110]) اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ([111]).
القول الثاني : تعديل الخصم للشاهد لا يغني عن الاستزكاء . قال به الشافعية في قول وصفه النووي بالأصح ([112])، وقال به الحنابلة في وجه ([113]). وبه يقول أبو حنيفة تفريعاً على قول الجمهور المذكور في المسألة السابقة - في حال لم يجرحه ولم يزكه – والذين يرون السؤال عن الشهود ، وأما على قوله فلا يتأتى ذلك ؛ لأنه لا يرى السؤال عن الشهود أصلاً في حال السكوت فمن باب أولى إذا زكاهم الخصم ([114]) .

الأدلة :
أدلة القول الأول :
1.     لأن البحث عن عدالة الشاهد لحق المشهود عليه ، فإذا زكاه لم يكن للبحث معنى ([115]).
2.  ولأن إقرار المشهود عليه بعدالة الشاهد ، إقرار منه في الحقيقة أن هذا الشاهد شهادته صالحة بما يوجب الحكم عليه لخصمه ، فيؤخذ بإقراره ([116]).

أدلة القول الثاني :
1.     لأن اعتبار العدالة في الشاهد لحق الله تعالى ، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم ([117]).
2.     ولأن الحكم بشهادته يتضمن تعديله ، وتعديله لا يثبت بقول واحد ([118]) .
3.  ولأن المدعي وشهوده يرون المشهود عليه كاذباً ظالماً في جحوده ، وتزكية الكاذب الفاسق لا تصح ؛ إذ العدالة شرط في المزكي ([119]) .

وهذا سياق ابن قدامة للمسألة بأدلتها : ( فصل : وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال , فقال المشهود عليه : هو عدل . ففيه وجهان ; أحدهما , يلزم الحاكم الحكم بشهادته ; لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه , وقد اعترف بها , ولأنه إذا أقر بعدالته , فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه , فيؤخذ بإقراره , كسائر أقاريره . والثاني , لا يجوز الحكم بشهادته ; لأن في الحكم بها تعديلا له , فلا يثبت بقول واحد , ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى , ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق , لم يجز الحكم به , ولأنه لا يخلو ; إما أن يحكم عليه مع تعديله , أو مع انتفائه , لا يجوز أن يقال مع تعديله ; لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد , ولا يجوز مع انتفاء تعديله ; لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز , بدليل شهادة من ظهر فسقه . ومذهب الشافعي مثل هذا , فإن قلنا بالأول , فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه ; لأنه لم توجد بينة التعديل , وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم , وإقراره يثبت في حقه دون غيره , كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره , ثبت في حقه دون غيره ) أهـ([120]).


ويحسن أن نورد في خاتمة هذه المسألة مراتب الشهود عند المالكية :
المالكية يجعلون الشهود على إحدى عشرة رتبة ، وهذا سياق ابن فرحون لها بنصه :
( الأولى : الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة : فتجوز شهادته في كل شيء وتجريحه ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه , ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة , وقد قيل : إن التجريح لا يقبل فيه أصلاً لا بالعداوة ولا بغيرها .
الثانية : الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة : فحكمه كالأول إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الثالثة : الشاهد المعروف بالعدالة بما تصح به الشهادة : فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها , وهي : التزكية ، وشهادته لأخيه ، ولمولاه ، ولصديقه الملاطف ، ولشريكه في غير التجارة , وإذا زاد في شهادته أو نقص منها . ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها , ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الرابعة : الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة : حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الخامسة : الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد : اختلف في إجازة شهادته فلم يجزها ابن الماجشون , وأصبغ وأجازها ابن القاسم وهو المشهور في المذهب ; لأن بالحد تسقط الشهادة .
السادسة : الشاهد الذي يتوسم فيه العدالة : تجوز شهادته دون تزكيته فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات على مذهب ابن حبيب ولا تجوز فيما سوى ذلك دون تزكية , فهذا هو المجهول الحال وقال المازري : الشاهد الذي لم تثبت له عدالة ولا جرحة يشهد فيما سوى الحدود مذهب مالك أنه يجب على القاضي البحث عن حاله , ولا يحمله على فسق ولا عدالة حتى ينكشف له إحدى الحالتين . وقال ابن رشد : أجاز بعض المتأخرين شهادة المجهول الحال في اليسير جداً من المال , وهو استحسان والقياس منعه واتفقوا في الحدود , والقصاص أنه لا يقبل فيها إلا العدل .
السابعة : الشاهد الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة : فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية , إلا أن شهادته تكون شبهة في بعض المواضع عند بعض العلماء , فتوجب اليمين وتوجب الحميل وتوقيف الشيء على المدعى عليه .
الثامنة : الشاهد الذي يتوسم فيه الجرحة : فلا تجوز شهادته دون التزكية , ولا تكون شهادته شبهة توجب حكماً .
التاسعة : الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه : فلا تجوز شهادته دون تزكية , ولا يقبل فيه التزكية على الإطلاق , وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها , ونزوعه عنها , والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك ; لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق , وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخبر .
العاشرة : الشاهد المقيم على الجرحة المشهود بها : فلا تجوز شهادته ولا يقبل التزكية فيه وإن زكي , وإنما تصح تزكيته فيما يستقبل إذا تاب .
الحادية عشرة : شاهد الزور : فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله , وروى أبو زيد عن القاسم : أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح , قال ولا أعلمه إلا في قول مالك , فقيل : إن ذلك اختلاف من القول , وقيل : معنى رواية أبي زيد , إذا جاء تائباً مقراً على نفسه بشهادة الزور قبل أن يظهر عليه , وهو الأظهر ) ([121]) .


بقي مسألة لها صلة بالمقدمة يحسن الإشارة إليها :
وهي : هل يغني عن تزكية الشاهد تحليفه ؟ .
سنورد أولاً الخلاف في حكم تحليف الشاهد ، ثم نتبعه بجواب السؤال المطروح .
اختلف الفقهاء في حكم تحليف القاضي الشاهد على قولين :
القول الأول : ليس للقاضي تحليف الشاهد . وهذا مذهب متقدمي الحنفية ([122]) حتى قال بعضهم : إن السلطان إذا أمر قضاته تحليف الشهود يجب على العلماء أن ينصحوا السلطان ، ويقولوا له : لا تكلف قضاتك أمراً إن أطاعوك يلزم منه سخط الخالق ، وإن عصوك يلزم منه سخطك ([123])
وقال بهذا القول أيضاً بعض المالكية ([124])، و الشافعية ([125]) .
والحنابلة قالوا به كذلك خلا موضعين : شهادة الكافر على الوصية في السفر ، وشهادة المرأة بالرضاع على رواية ([126]) .

القول الثاني : للقاضي تحليف الشاهد . وهذا ما عليه متأخروا الحنفية ([127])بما في ذلك مجلة الأحكام العثمانية ([128])، وهو قول لبعض المالكية ([129])، واختاره ابن تيمية في كل من قبلت شهادته للضرورة ([130]) ، وابن القيم اختار العمل به في حال ارتاب القاضي في الشهود ([131]) .
وحكي القول به أيضاً عن محمد بن بشير و ابن وضاح ، قال ابن حزم : ( روي عن محمد بن بشير القاضي بقرطبة أنه أحلف شهودا في تزكيه : بالله إن ما شهدوا به لحق .  وروي عن ابن وضاح أنه قال : أرى لفساد الناس أن يحلف الحاكم الشهود ) ([132]).


الأدلة .
أدلة القول الأول :
1- أن الاستحلاف ينبني على الخصومة ، والشاهد ليس بخصم لأحد طرفي الدعوى ([133]) .
2- ولأنا مأمورون بإكرام الشهود وليس من إكرامهم طلب اليمين منهم ([134]) ، رُوي مرفوعاً : " أكرموا الشهود فإن الله يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم "([135]) .
3- ولأن الشاهد لا يخلوا إما أن يكون عدلاً أو لا .
·        فالعدل قوله كافٍ لا يحتاج إلى تقويته باليمين ؛ لعلمنا بعدالته .
·        وغير العدل لا تنفع فيه اليمين ، فقد لا يتورع عن الحلف كاذباً ([136]).
4- ويمكن أن يستدل له بعموم قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } .
5- كما يمكن أن يستدل له بأن تحليف الشاهد يؤدي في الغالب إلى إعراض أصحاب المروءات عن تحمل الشهادة وأدائها ، والذي يترتب عليه ضياع الحقوق ؛ بل إن الحنابلة يقولون : من توجهت عليه يمين هو فيها صادق , أو توجهت له فالأفضل له ( افتداء يمينه ; فإن عثمان افتدى يمينه , وقال : خفت أن تصادف قدراً , فيقال حلف فعوقب , أو هذا شؤم يمينه . وروى الخلال , بإسناده , أن حذيفة عرف جملاً سرق له , فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين , فصارت اليمين على حذيفة فقال : لك عشرة دراهم . فأبى , فقال لك عشرون , فأبى , فقال : لك ثلاثون . , فأبى , فقال : لك أربعون . فأبى , فقال حذيفة : أتراني أترك جملي ؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب . ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلاً , ولا يأمن أن يصادف قدراً , فينسب إلى الكذب , وأنه عوقب بحلفه كاذباً , وفي ذهاب ماله له أجر , وليس هذا تضييعا للمال , فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة ) ([137])قالوا هذا إذا كان الحق له ، فأولى أن يستنكف الشاهد عن الشاهدة التي لا بد فيها من بذل يمينه إذا كان الحق لغيره .

أدلة القول الثاني :
1- لتعذر تزكية الشهود في الأزمان المتأخرة بسبب زيادة الفسق ، حيث تكون عدالة الشاهد مجهولة ، وعدالة المزكي أيضاً مجهولة ، فلا تظهر عدالة الشاهد بتزكية المجهول ؛ لأن حقيقتها سلسلة مجاهيلٍ فلم تفد علماً بل ولا ظناً ([138]) .
قال ابن نجيم : ( وفي التهذيب : وفي زماننا لما تعذرت التزكية بغلبة الفسق اختار القضاة استحلاف الشهود ، كما اختاراه ابن أبي ليلى لحصول غلبة الظن ) أهـ([139]) .
2- قياساً على أمر الله جلَّ وعلا تحليف الشاهدين إذا كانا من غير أهل الملة على الوصية في السفر وذلك في قوله تعالى : {   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } ([140]) .
3- قياساً على ما روي عن ابن عباس t من تحليف المرأة إذا شهدت بالرضاع وحدها وهو رواية عن أحمد . أخرج البيهقي في الكبرى : أن ابن عباس t سئل عن امرأة شهدت أنها أرضعت امرأة وزوجها ، فقال : استحلفها عند المقام فإنها إن كانت كاذبة لم يحل عليها الحول حتى يبيض ثدياها ، فاستحلفت فحلفت ، فلم يحل عليها الحول حتى ابيض ثدياها ([141]).
4- قياس الأولى على جواز تفريق الحاكم الشهود إذا ارتاب فيهم ، قال ابن القيم ( وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب فيهم , فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم ) ([142]).

5- أن تحليفهم من باب السياسة الشرعية ، ويحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور ، قال ابن فرحون : ( قال ابن وضاح : قلت لسحنون ... : أن ابن عاصم عندنا يحلف الناس بالطلاق يغلظ عليهم , فقال لي : ومن أين أخذ ذلك ؟ قلت له : من الأثر المروي من قول عمر بن عبد العزيز : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور , فقال لي : مثل ابن عاصم يتأول هذا )([143]) وكان ابن عاصم محتسباً في سوق الأندلس ([144]) .
قال ابن عابدين : ( باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة.., وبه علم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضاً , والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي بل لكونه هو الأصل , والقاضي : نائب عنه في تنفيذ الأحكام .., وفي الدر المنتقى عن معين الحكام : للقضاة تعاطي كثير من هذه الأمور حتى إدامة الحبس والإغلاظ على أهل الشر بالقمع لهم , والتحليف بالطلاق وغيره , وتحليف الشهود إذا ارتاب منهم ذكره في التتارخانية , وتحليف المتهم لاعتبار حاله أو المتهم بسرقة يضر به ويحبسه الوالي والقاضي . ا هـ ) ([145]) .

وبعد إيراد خلافهم في حكم تحليف الشاهد بقي أن نجيب على السؤال الذي طرحناه، وهو : على القول الثاني هل تغني يمين الشاهد عن استزكائه ؟
لم أقف على من نصَّ على جواب هذا السؤال غير علي حيدر في شرحه لمجلة الأحكام العثمانية ، حيث قال : ( والظاهر أن تحليف الشهود لا يغني عن التزكية السرية والعلنية ، فإذا طلب تحليف الشهود بعد التعديل والتزكية جاز ، وفي هذه الصورة لا يكون تحليف الشهود بدلا للتزكية ) ([146]).
هذا ما نصَّ عليه ، والظاهر أن يمين الشاهد - على القول به - تغني عن استزكائه ؛ لأن المقصود من التزكية الوصول إلى ظنٍ غالب بصدق الشاهد ، واليمين توصل إلى هذا المقصود وزيادة .
ولأنه لا معنى للجمع بين التزكية واليمين إذ لا يخلو الحال :
إما أن يكون المزكي معلوم العدالة ، وحينئذٍ فلا معنى ليمين الشاهد ؛ لأنا عرفنا عدالة الشاهد بتعديل المزكي - الذي عرفت عدالته - له .
وإما أن يكون المزكي غير معلوم العدالة ، وحينئذٍ فلا معنى للتزكية ؛ لأنها تزكية مجهول لمجهول لا تفيد علماً ولا ظناً غالباً ، فكان وجودها كعدمها – عند أصحاب القول الثاني القائلين بتحليف الشاهد - .


قصارى المقدمة : أن الشاهد لا يحتاج إلى تزكية إن علم القاضي عدالته ، أما إذا لم يعلم عدالته ولم يطعن فيه الخصم أو يزكه وجب على القاضي في قول جمهور أهل العلم البحث عن حاله بطلب المزكين سواء في حقوق الخالق أو المخلوقين .



المقدمة السادسة : واقع شهادات رجال الأمن في المحاكم


من خلال اطلاعنا على عمل المحاكم وجدنا جملة من أصحاب الفضيلة يؤكدون على عدم الاطمئنان إلى المحاضر المعدة من قبل رجال الضبط الجنائي لعدد من الملحوظات نذكر أبرزها ثم نورد مثالين من واقع قرارات المحاكم ([147]) .

أولاً : يلاحظ على شهادات رجال الأمن ما يلي :
1- يوقع محاضر القبض عدد كثير من أفراد الجهة القابضة، وعند طلب البينة من قبل ناظر القضية وبعد سؤالهم يتضح أن الذي حضر الواقعة واحد أو اثنان فقط ؟!!
ولذا يقترح: أن يوعز إليهم بأن يقتصر في محاضر القبض على إثبات شهادة من شهد الواقعة فقط ، أو يميز من شهد الواقعة عن غيره ، ليقتصر الأمر عند طلب الشهود على من حضرها وشهدها.

2- المحضر يكتبه في كثير من الأحايين فرد غير الفرد الذي شهد الواقعة ، وقد يزيد أحياناً أو ينقص بحسب ما يفهمه من تعبير زميله الشاهد ، وعند حضور الشاهد إلى المحكمة يخُطِّئ أحياناً كل ما كُتب عنه أو بعضه .

3- يُكتب أحياناً في المحاضر أن الاستلام والتسليم في قضايا المخدرات تم تحت رؤية الفرقة القابضة ، وعند مناقشة بعض الشهود يفيد بأنه لم يشاهد واقعة الضبط وإنما اعتمد على إفادة المصدر السري .
ومن المعلوم أن المصادر السرية – وغالبهم من متعاطي المخدرات – لا يمكن الاعتماد على إفادتهم .

4- إغفال المحاضر لأوصاف مهمة ، ومؤثرة في الحكم قوة وضعفاً ، والاهتمام بأصافٍ دقيقة لوقائع ليس لها أثر في الحكم .
ومن أبرز الأمثلة على ذلك محاضر السرقات فتجد أن المحضر لم يذكر فيه ما يدل على قيمة المسروق ، وصفة إخراج السارق للمسروق من مكانه ، وصفة المكان الذي سرق منه ومدى تحصينة ...إلخ .
فالحاصل أن المحاضر لا تستوعب كل تفاصيل الواقعة ، وبمناقشة الشهود إذا حضروا يفيدون بأشياء تؤثر على الحكم الصادر في القضية قوة وضعفاً .


على أنه ينبغي أن يُستصحب في شهادات رجال الأمن أمران :
1-         الرغبة : والمتمثلة في المكافآت والحوافز التي تُعطى لرجال الأمن مقابل العمل الذي يقومون به ، مع ضعف الديانة العام في عصرنا والله المستعان .
2-         الرهبة : والمتمثلة في أن المحضر الذي كُتب يعود إلى الجهة التي يعمل فيها . فيحتمل أن يتجرأ بعضهم على تصديقه ولو علم كذبه لئلا يضرَّ مرجعه أو زملاءه ، أو يضر نفسه بكيد أو عقوبة من فوقه.


ثانياً : نماذج لواقع شهادات رجال الأمن :
1- الصك الصادر من محكمة الخبر الجزئية في 16/3/1426 برقم 56/3 :
أقيمت دعوى من المدعي العام ضد شخصين بتهمة شرب مسكر وبينة الدعوى محضر استشمام أعده عسكريان من الشرطة العسكرية بالحرس الوطني ، فطلب القاضي حضور معدي التقرير ، ولما حضرا جرى سؤالهما عما لديهما من شهادة فـــــــ( أنكرا قيامهما باستشمام المدعى عليهما وأنهما وقعا على محضر الاستشمام دون علم منهما بما دون فيه أهـ ، فجرت الكتابة لمرجع الشاهدين المذكورين للتحقيق معهما عن ذلك فوردتنا إفادة مرجعهم قائد كتيبة الشرطة العسكرية بالنيابة للقطاع الشرقي رقم ... في ... المتضمن مسؤلية الشاهدين عن محضر الاستشمام وتحميلهما المسؤلية كاملة حيال ما قاموا به من شهادة ثم نقضها أهـ. ) .

2- الصك الصادر من محكمة الخبر الجزئية في 7/11/1425 برقم 187/3 :
أقيمت دعوى من المدعي العام ضد شخصين أحدهما بتهمة ترويج حشيش والثاني بتهمة التوسط في بيع الحشيش وكانت محاضر القبض مقتصرة على أن فعل الترويج والتوسط مقتصر على المتهمين ، ولما حضر الشاهد عضو القبض ذكر في شهادته علاقة شخصين آخرين بالدعوى غير المتهمين - مهنتهما ضباط في قطاعات عسكرية - لم تذكر أسماؤهم في محضر القبض المرفق، وقد أدخلهما القاضي في الدعوى بعد موافقة المدعي العام على توجيه الاتهام إليهما، وصدر بحقهما أحكام تعزيرية.
وهذان المثالان يؤكدان ما ذكرناه في صدر هذه المقدمة ، وثمة عشرات الأمثلة في واقع المحاكم ، يمكن لمن يتفرغ أن يحصي عدداً غير قليل .


المقدمة السابعة : الشاهد في القوانين العربية

جرى استعراض تسعة قوانين عربية وتم استخراج نصوص المواد التي تتعلق بالشهادة وأدائها وهي ملحقة بالبحث ، وهذه القوانين التي تم استعراضها هي :
1.     وثيقة الرياض للنظام ( القانون ) الموحد للإجراءات الجزائية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية .
2.     قانون أصول المحاكمات الجزائية بالأردن .
3.     قانون المحاكمات الجزائية وقانون البينات في سوريا .
4.     قانون المسطرة الجنائية بالمغرب .
5.     قانون الإجراءات الجنائية بمصر .
6.     قانون الإجراءات الجزائية بالجزائر .
7.     قانون أصول المحاكمات الجزائية بلبنان .
8.     قانون الإجراءات الجزائية بفلسطين .
9.     قانون الإجراءات الجزائية باليمن .
ويلاحظ أن قوانين الدول التسعة المذكورة أعلاه تتقاطع فيما يلي :
                    أ‌-    الشاهد ملزم بالحضور إلى المحكمة متى ما طلبته ، ويستثنى من ذلك حال العذر ، فإذا قام بالشاهد عذر انتقلت المحكمة إليه مع الخصوم . والقانون الأردني انفرد بأنه ( يجوز للمدعي العام أو المحكمة إذا اقتضت الضرورة وبقرار معلل استخدام التقنية الحديثة وذلك حماية للشهود الذين لم يكملوا الثامنة عشر من العمر عند الإدلاء بشهادتهم وعلى أن تمكن هذه الوسائل أي خصم من مناقشة الشاهد أثناء المحاكمة ، وتعد هذه الشهادة بينة مقبولة في القضية ) .
وبعض القوانين تخص الأشخاص المقيدين بسر المهنة بحكم ، فالقانون اللبناني نص على أنه ( لا يجبر على أداء الشهادة من كان ملزماً بسر المهنة إذا كان موضوع الشهادة يكشف سراً من الأسرار المؤتمن على كتمها ) . أما القانون الجزائري فنص على أن ( الأشخاص ... المقيدون بالسر المهني فيجوز سماعهم بالشروط والحدود التي عينها لهم القانون ) ، وقريب منه قانون المسطرة المغربي ، حيث نص على ما يلي : ( يمكن الاستماع إلى الأشخاص المقيدين بالسر المهني، وفق الشروط وفي نطاق الحدود المقررة في القانون ) ([148]).
                   ب‌-   إذا طلبت المحكمة الشاهد وتخلف عن الحضور ، فللمحكمة إحضاره بالقوة ولها أن تحكم عليه بغرامة مالية . والقانون الأردني والفلسطيني جوز معاقبته بالحبس مدة لا تتجاوز الشهر ([149]) .
                                              ت‌-       لا بد من تسمية الشاهد ([150]).
                   ث‌-   الأصل في الشهادة أن تؤدى شفهياً ، واستعانة الشاهد بأوراق ونحوها حال أدائه الشهادة يجوز استثناء وفي حالات معينة .
                                               ج‌-        للقاضي والمشهود ضده مناقشة الشهود ([151]).
                   ح‌-   على الشاهد إذا بلغ سناً محددة – تختلف من نظام إلى آخر - أن يؤدي اليمن قبل أدائه الشهادة بصيغة معينة في بعض الأنظمة ، وفي بعضها بصفة معينة أيضاً ([152]) ([153]).
                                               خ‌-        القوانين المذكورة أعلاه أغفلت أمر تزكية الشهود فلم تتطرق إليه لا بإثبات ولا نفي .
                   د‌-    كما أن أغلبها أغفل الحديث عن قوادح الشهادة ، سوى القانون اللبناني فقد نصّ على أنه ( لا تقبل مبدئياً شهادة أصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته ومن هم في درجتهم عن طريق المصاهرة والزوج والزوجة حتى بعد الطلاق. يمكن للقاضي سماع شهادة أي من هؤلاء إذا لم يعترض عليها المدعي الشخصي أو المدعى عليه ولا تكون باطلة شهادة هؤلاء. غير أن اعتراض أحدهما على سماعهم لا يمنع القاضي من أن يسمعهم على سبيل المعلومات ) . وأما القانون المصري فنص على أنه يجوز للشاهد ( أن يمتنع عن أداء الشهادة ضد المتهم أصوله وفروعه وأقاربه وأصهاره إلى الدرجة الثانية ، وزوجة ولو بعد انقضاء رابطة الزوجية . وذلك ما لم تكن الجريمة قد وقعت على الشاهد أو على أحد أقاربه أو أصهاره الأقربين ، أو إذا كان هو المبلغ عنه ، أو إذا لم تكن هناك أدلة إثبات أخرى ) .
                                                ذ‌-         وأيضاً أغفلت الحديث عن نصاب الشهادة ، ومتى تقبل شهادة المرأة ومتى لا تقبل .


وأختم هذه المقدمة بالمقارنات التي عقدها الدكتور محمد الزحيلي بين الشهادة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية – بتصرف - :
1- التشريعات الوضعية اتفقت على مشروعية الشهادة وحجيتها في الإثبات ؛ لكنها جعلتها في المرتبة الثانية بعد الكتابة لاعتبارات كثيرة منها سهولة الكتابة وانتشار العلم في العصر الحديث ، مع فساد الأخلاق وضعف العقيدة ، ومنها المحاباة في الشهادة لقرابة أو مصلحة أو التحامل فيها لعداوة أو ضغينة مع انتشار شهادة الزور ، ومنها طروء النسيان مع التقادم ، والقانون يحاول تقليل الدعاوى أمام القضاء التي لا تستند إلى دليل كتابي ؛ لذلك جعل القانون الشهادة وسيلة احتياطية للإثبات وأخضعها لسلطة القاضي التقديرية في قبول الإثبات بها ولقناعته الخاصة في الاعتماد عليها ، كما أنه أجاز الإثبات بها في بعض الوقائع دون بعض ([154]).
أما الشهادة في الشريعة فتأتي في المرتبة الأولى لوسائل الإثبات وهي ذات حجية مطلقة في جميع الوقائع ، وأحاط الشارع اعتبارها بشروط وضوابط ، فحذر من كتمها أو الكذب فيها ، وحدد أنصبة معينة لها بحسب نوع المشهود فيه .
كما أن القانون متناقض فهو يجيز أقوال أهل الخبرة ويعطي القضاة سلطة تقديرية مطلقة في تقدير الشهادة والقرائن رغم اشتراك القضاة وأهل الخبرة في الاعتبارات التي ذكروها في الشاهد ([155]).

2- الازدواجية في القانون ، فهو قد حط من قيمة الشهادة لاحتمال الزور والخطأ والنسيان التي تنشأ من فساد الذمم ، وفي الوقت نفسه وضع الثقة الكاملة بالقضاة ومنحهم الحرية المطلقة في تقدير قيمة الشهادة ، وهذا التقدير لا يخضع لرقابة محكمة النقض ، فما هو الضامن بالنسبة للقضاة ألا يقعوا فيما جعلهم ينزلون منزلة الشهادة ([156]).
3- فقدان القواعد والضوابط ، ذلك أن القانون في نظرته للشهادة لم يضع لها قيداً ولم يحدد فيها شروطاً ، وأطلق عنانها بل لم يكلف نفسه أن يميز بين أفرادها وأنواعها ، وفي الجانب المقابل وضع السلطات المطلقة في يد القاضي يقبل ما يشاء من الشهادات ويرد ما يشاء وأطلق له الحرية في اقتناعه بما شاء منها ، ورفضه ما شاء دون أن يرسم له طريقاً في ذلك أو يضع أمامه معياراً للقبول والرفض ، أو يقيم له أساساً لا يحيد عنه ([157]).
4- لم يرد في القوانين الوضعية شيء عن تحمل الشهادة ولم يلزم الأفراد بتحملها ، أما الأداء فألزمهم به وأعطى المحكمة الحق في إحضارهم بالقوة وفرض عقوبات على المتخلفين عن الحضور أو الذين يمتنعون عن أداء القسم قبل إدلائه بشهادته ، تطبيقاً للمبدأ القائل بأن الشهادة أمام القضاء خدمة عامة .
كما أنه ليس في قوانين الإثبات مجال لشهادة الحسبة ، فلا تسمع الشهادة أمام القضاء إلا بتعيين المتخاصمين أو بطلب القاضي ([158]).
أما الشريعة فيحكمها قوله تعالى : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ، وقوله : {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقوله e في شهادة الحسبة : " ألا أخبركم بخير الشهداء الذى يأتى بشهادته قبل أن يسألها " ([159]) .
5- لم يحدد القانون نصاباً للشهادة وإنما أجاز شهادة الواحد واعتبرها حجة كاملة وبينة تامة ولم يفرق بين شاهد وآخر بل ترك الأمر للقاضي في قبوله الشهادة ومدى القناعة التي يكونها منها سواء كانت من شاهد واحد أو أكثر ، وسواء كانت من كبير أو صغير ناقص الأهلية ، ومن أقوالهم : ( المدار في الشهادة على الوزن لا على العدد ) ، أي : أنهم ينظرون إلى الكيف لا إلى الكم ، وعملاً بهذا المبدأ يصح أن يعول القاضي على شهادة الفرد وينبذ شهادة الجماعة حسبما يوحي إليه ضميره وتبعاً للمؤثرات الخاصة التي يستخلصها من وقائع الحال ([160]) .

قصارى المقارنة : أن القوانين العربية تنص على أن الشاهد ملزم بالحضور إلى المحكمة متى ما طلبته ويفرض عليه غرامة مالية إن تخلف عن الحضور بلا سبب ، كما أنه ملزم بالإفصاح عن اسمه ، والأصل أن تكون شهادته شفاهاً لا كتابة .

النتيجة

إذا تقرر ما مضى الإشارة إليه في المقدمات السبع ، وهي :
1.  قانون الشريعة جارٍ على أنه لا يحكم لأحدٍ مهما بلغت منزلته وعرف صدقه وظهرت عدالته إلا ببينة أو إقرار ، و يستوي في ذلك سائر الدعاوى أو المدعين في الحق العام أو الخاص .
2.  القاضي يُؤتى ولا يأتي ، وما سنه المنظم من انتقال القاضي إلى الشاهد إذا قام به عذر يمنعه من الحضور فيه ما فيه علاوة على أنه جعله في باب الجزاءات أمراً جوازياً ، والأجدر الأخذ بمبدأ الشهادة على الشهادة التي قررها أهل العلم في ظرف العذر ، ولا يمكن الاكتفاء بأداء الشهادة كتابة لما قرره أهل العلم ولواقع الحال .
3.   الشاهد متى ما تيقن أو غلب على ظنه لحوق الضرر به من المشهود عليه جاز له التخلف عن أداء الشهادة وسقط وجوب الأداء عنه إن كان متعيناً ، ولا تلازم بين سقوط وجوب الأداء عن الشاهد وبين وجوب الحكم بطلب المدعي من غير بينة أو إقرار ، فالجهة منفكة ، وليس كل حق ثابتٍ ديانة يثبت قضاء .
4.  من حقوق المشهود ضده معرفته بالشهادة وبعين من شهد ضده في قول جمهور أهل العلم خلافاً لبعض المالكية .
5.  الشاهد لا يحتاج إلى تزكية إن علم القاضي عدالته ، أما إذا لم يعلم عدالته ولم يطعن فيه الخصم أو يزكه وجب على القاضي في قول جمهور أهل العلم البحث عن حاله بطلب المزكين سواء في حقوق الخالق أو المخلوقين .
6.  واقع شهادات رجال الأمن فيه ما فيه ، مما يبعث عدم الاطمئنان التام إلى المحاضر المعدة من قبل رجال الضبط .
7.  القوانين العربية تنص على أن الشاهد ملزم بالحضور إلى المحكمة متى ما طلبته وتفرض عليه غرامة مالية إن تخلف عن الحضور بلا سبب ، كما أنه ملزم بالإفصاح عن اسمه ، والأصل أن تكون شهادته شفاهاً لا كتابة .

إذا تقررت هذه المقدمات أمكن القول تأسيساً عليها :
أولاً : سبق طرح موضوع تزكية رجال الأمن وطلب مساواتهم بأعضاء الهيئات في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى فصدر جوابه المتضمن ضرورة تزكيتهم كغيرهم كونهم قد يجرون إلى أنفسهم نفعاً ، وهذا نص كتابه :
( من محمد بن إبراهيم إلى صاحب السمو الملكي وزير الداخلية. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فنشير إلى برقيتكم لنا برقم 4175 وتاريخ 30/3/84هـ بشأن ما رفعته لكم إمارة المنطقة الشرقية من جهة طلب المحكمة المستعجلة تزكية الموظفين والضباط والجنود الذين يشهدون في قضايا أخلاقية للصالح العام، وترغبون إخباركم عما نراه نحو مساواتهم بأعضاء الهيئات الذين لا يقبل فيهم طعن، ولا تطلب عليهم التزكية.
وعليه نشعر سموكم أنه من المعلوم أن الشرطة ليست جهة دينية تقوم بما تقوم به غيرة وحسبة. كما أنه من المعلوم أن رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجهة الدينية المختصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وأنهم إنما يقومون بما يقومون به من واجبهم غيرة لله من انتهاك حرماته أو تعطيل شيء من شرائعه.
وقد ذكر الفقهاء أن دعوى الحسبة في حق الله تسمع، وأن شهادة المدعي فيه تقبل، لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً، بخلاف رجال الشرطة فإنهم إنما يتولون بعض هذه الأشياء بصفة الجندية وحفظ الأمن، وقد يكون ذلك في انتظار المكافآت التي يتقاضونها في مقابل اكتشاف الجرائم، وهم بهذا قد يجرون بشهادتهم إلى أنفسهم حظاً مادياً، وحينئذ فهم كغيرهم من الشهود الذين لابد من تزكيتهم وسماع الطعن في شهادتهم، والله يحفظكم. والسلام. (ص/ق 1104/1 في 4/11/1384) رئيس القضاة ) ([161]) .
هذا ما جاء في جوابه رحمه الله تعالى ، وقد مضى في المقدمة الخامسة أن جمهور أهل العلم يوجبون على القاضي البحث عن حال الشاهد بطلب المزكين متى كان الشاهد مجهولاً عنده أو لم يزكه الخصم .
وجهالة القاضي بحال الشاهد هو الغالب على قضاتنا خاصة مع كثرة الناس في المدن ، وكون قاضي المحافظات الصغيرة غالباً ليس من أهل البلدة أو لكون العاملين في جهات القبض وافدين عليها أصلاً .
والمخرج الذي يمكن القول به :
سؤال المشهود ضده عن حال الشهود فإن زكاهم  اكتفي بتزكيته بناء على قول الجمهور ؛ لأن الحق في الاستزكاء لأجله . لكن هذا المخرج لا ينفع في كل الصور فقد لا يزكيهم المشهود ضده . وحينئذٍ يمكن الانتقال إلى المخرج الثاني ، وهو :
تحليف الشاهد ، فيطلب من رجل الأمن أن يحلف على ما شهد به ، ولعل القول بتحليفه أولى من طلب تزكيته لكونها أكثر توثيقاً للشهادة وقبولاً عند الخصم ، خاصة إذا استحضرنا واقع التزكية في عصرنا ، وأنها تزكية مجهول لمجهول – كما مرَّ في آخر المقدمة الخامسة - .

ثانياً : بناء على ما جاء في المقدمة الرابعة وهي أن من حق المشهود ضده معرفته بعين من شهد عليه في قول جمهور أهل العلم ومنصوص النظام : لا يمكن أن يُأذن بعدم التصريح باسم الشهود ، وهذا ما أخذت به القوانين العربية المشار إلى خلاصتها في المقدمة السابعة .
نعم يمكن الإذن بترميز أسماء الشهود في الصك خاصة – دون الضبط - لأنه مما تتناقله الأيدي غالباً ، والخصم كُفِلَ حقه بحضور الشاهد مجلس الحكم ومعرفته بعين من يشهد ضده واسمه .

ثالثاً : لا يمكن القول بتشريع خروج القاضي في سماع شهادات رجال الأمن ؛ لما مضى ذكره في المقدمة الثانية من أن القاضي يؤتى ولا يأتي ؛ ولأن دفع الضرر الذي قد يلحق الجهات الأمنية من توقف عملها يوم أداء أفرادها الشهادة ، ليس بأولى من دفع ضرر توقف عمل المحكمة بخروج القاضي ([162])؛ إضافة إلى ما مضى ذكره هناك من أن المنظم في قضايا الجنايات خير المحكمة بين الانتقال وعدمه ولم يحتمه عليها .
ويمكن في ظرف تعذر سماع شهادة الأصل الانتقال إلى ما قرره فقهاؤنا من العمل بمبدأ الشهادة على الشهادة .

رابعاً : ليس من لازم تخلف الشاهد - رجل الأمن -لتوقعه لحوق الضرر به أن يُحكم بما جاء في دعوى الجهة القابضة من غير بينة ؛ إذ قانون الشريعة جارٍ على أنه لا يحكم لأحد إلا ببينة أو إقرار .
فتخلف الشاهد يُضعف الدعوى إن لم يسقطها ، نعم إذا وجدت تهمة قوية فيمكن الاستناد عليها في الحكم ؛ ومع ذلك فالحكم المستند إلى تهمة قوية من غير شهادة لا يساوي ولا يقارب الحكم الصادر استناداً إلى شهادة الشهود.



تعليقات