القائمة الرئيسية

الصفحات




الحق في العقاب 



الدكتور أحمد لطفي السيد 



الباب الثاني
صور رد الفعل العقابي

77- تمهيد وتقسيم :
     تحديد صور رد الفعل العقابي ، هو بيان لأنماط الجزاء الجنائي واجبة التطبيق كأثر قانوني لازم عند وقوع الفعل الإجرامي وثبوت الإدانة من قبل القاضي الجنائي حال أداءه لدوره في مرحلة المحاكمة. وكما سبق وأن أوضحنا في الصفحات السابقة أن تطور الفكر الجنائي قد كشف عن ظهور نوعين من الجزاءات الجنائية ، هما العقوبة والتدابير الاحترازية. والأولى أسبق في الظهور من الثانية ، هذه الأخيرة التي ظهرت على يد المدرسة الوضعية ومع ابتداع فكرة الخطورة الإجرامية. وعلى هذا فليس صحيحا الربط بين الجزاء الجنائي - رد الفعل العقابي - وبين العقوبة. فالعقوبة وإن كانت جزاء جنائياً ظل لحقبة طويلة بمثابة الأثر القانوني المباشر للجريمة ، إلا أن كل جزاء ليس بالضرورة يشكل عقوبة جنائية ، فهناك التدابير كصورة أخرى لرد الفعل العقابي. وبذا أصبح مبدأ ازدواج العقوبات والتدابير هو السمة المميزة للسياسة الجنائية المعاصرة.

ولما كانت العقوبة الجنائية هى أخطر الجزاءات وهى الأثر الحتمي والمباشر للجريمة - فلا جريمة بدون عقوبة - فإننا سوف نشرع في دراستها من خلال الفصل الأول ، قبل أن ننتقل بالدراسة إلى التدابير الاحترازية في الفصل الثاني.


الفصل الأولالعقوبة الجنائية 

78- تمهيد وتقسيم :
     العقوبة La peine جزاء يوقع باسم المجتمع ، حماية له وضمان لمصلحته ، وهى جزاء يتناسب مع جسامه الواقعة الإجرامية ومقدار الخطيئة والإثم إعمالا لمبادئ العدالة. وعلى هذا فالعقوبة ضرورة حتمية تفرضها اعتبارات حماية النظام العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولبيان العقوبة كجزاء جنائي فإننا سوف نقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث نحدد فيها على التوالى جوهر العقوبة وأغراضها ، ثم بيان ضماناتها ، ثم بيان أقسامها ، وأخيراً بيان الإشكاليات المتصلة بتطبيق بعض العقوبات خاصة الإعدام والعقوبات السالبة للحرية .

المبحث الأول
جوهر وأغراض العقوبة الجنائية

79- أولا : جوهر العقوبة الجنائية :
     يقرر الفقه التقليدي أن العقوبة ، هى جزاء يقرره القانون ويوقعه القاضي من أجل الجريمة على من يثبت إدانته ومسئولية . غير أن هذا التعريف لا يكفل في حقيقة الأمر بيان ذاتية وجوهر العقوبة الجنائية ، لذا فإننا نميل إلى تعريفها بأنها "إيلام مقصود وحتمي للجريمة ويتناسب معها" . وعلى هذا فإن جوهر العقوبة ينصرف إلى ثلاثة عناصر :

80- أ : العقوبة الجنائية كإيلام مقصود :
     إن أول ما يميز العقوبة الجنائية هو أنها جزاء ينطوي على إيلام. ولا يقصد بالإيلام امتهان كرامة وإنسانية وأدمية المحكوم عليه بهدف إذلاله وتحقيره من الناحية الاجتماعية. إنما يقصد بالإيلام توجيه اللوم للمجرم عما اقترفه من سلوك إجرامي ، من خلال المساس بأحد حقوقه اللصيقة بالشخصية ، إما إلغاءً أو انتقاصاً ، بفرض بعض القيود على استعمال هذه الحقوق.

فقد ينصرف الإيلام إلى سلب المجرم حقه في الحياة باعتباره أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية. وهذا هو الإيلام البدني. كما قد ينصب الإيلام على حق الإنسان في الحرية ، من خلال فرض العقوبات السالبة أو المقيدة للحرية ، وهذا هو الإيلام المعنوي. وقد ينصب الإيلام على حق الإنسان في التملك بحرمانه من جزء من أمواله لصالح الدولة ، كما هو الحال في عقوبة الغرامة والمصادرة ، وهذا هو الإيلام المادي. كما قد يمس الإيلام بحقوق أخرى كالحق في تولي الوظائف العامة أو الترشيح لعضوية المجالس النيابية.

ولا يعنى أن الإيلام مقصود في العقوبة ، أنه يكون مقصود لذاته ، ولكنه مقصود من أجل تحقيق أغراض مفيدة كالردع والإصلاح. ويرتهن تطبيق العقوبة وتنفيذها على نحو سليم باستظهار هذه الأغراض والاجتهاد في توجيه العقوبة نحو تحقيقها. وعلى هذا النحو فإن الإيلام لا يصيب المحكوم عليه عرضاً ، وإنما يقصده الشارع والقاضي والمكلف بالتنفيذ . 

ولا يتوقف هذا الإيلام على إرادة المحكوم عليه ، بل يتحقق كرهاً عنه ، مما يعطي للعقوبة أعلى درجات الألم. وهو إيلام نسبى ويقدر بمعيار موضوعي قوامه الشخص العادي ، فقد لا يتوافر الإيلام لدى البعض ممن اعتادوا الجريمة والعقوبة . وعلى هذا الأساس لا تختلط العقوبة بغيرها من الإجراءات التي وإن أحدثت بعض الألم لدى من توقع عليه ، إلا أن هذا الألم ليس مقصود ولا يستهدف من وراءه ردع ولا إصلاح ، ومثال ذلك إجراءات التحقيق والمحاكمة ، حتى وإن اتخذت صورة القبض أو الحبس الاحتياطي.

81- ب : العقوبة الجنائية كأثر حتمي للجريمة :
     لا يتصور إنزال الجزاء الجنائي ، في صورة العقوبة الجنائية ، إلا كأثر لاحق ومرتبط بسلوك إجرامي سبق تحديده سلفاً من قبل المشرع. بمعنى أخر ، أن إيلام العقوبة لا يجوز إنزاله إلا على من أخل بأمر أو نهي تحدده القاعدة التجريمية. وهذا أهم ما يميز العقوبة عن غيرها من الإجراءات التي قد تتخذها الدولة قبل وقوع الجريمة.

وليس معنى الأثر الحتمي ارتباط العقوبة الجنائية بالجريمة كواقعة مادية أو بالمظهر الشكلي المتعارض مع القاعدة الجنائية ، ولكن هذا الأثر الحتمي لا يتحقق إلا بعد إعمال قواعد تقيمية لهذا السلوك وثبوت توافر رابطة نفسية معينة بين السلوك الإجرامي والنتيجة الضارة الناشئة عنه ، سواء في صورة القصد أو الاهمال (الخطأ الجنائي بالمعنى الواسع). بمعنى أخر ، ضرورة توافر عنصر الإذناب أو الإثم. وعلى ذلك فإن ما يطبق من إجراءات على بعض أنماط السلوك الضار الذي لا يتوافر بشأنه قصد ولا إهمال لا يمكن عده عقوبة ، وإن اعتبرت هذه الإجراءات من قبيل التدابير اللاحقة التي تنم عن وجود حالة إجرامية خطرة لم ترقى بعد إلى درجة الجريمة متكاملة الأركان.

82- ج : العقوبة الجنائية كأثر متناسب مع الجريمة  La proportionnalité :
     إن اشتراط التناسب بين العقوبة الجنائية والجريمة يضمن أن تكون العقوبة عادلة ومحققة لوظيفتها في المجتمع. وعبء تحقيق هذا التناسب يقع على عاتق المشرع ، الذي عليه عند وضع العقوبة أن يراعي توافقها كماً ونوعاً مع جسامة الواقعة الإجرامية كسلوك ونتيجة ضارة ، وكذلك توافقها مع درجة الإثم الجنائي - أو ما يسمى بالركن المعنوي للجريمة - حال ارتكابه للسلوك الإجرامي. ودون التنسيق بين هذين الأمرين (جسامة الواقعة ودرجة الإثم أو الخطأ) لا يمكن ضمان التطبيق السليم والعادل للعقوبة . وهذا ما يسمى بالتفريد التشريعي L’individualisation législative. وعدم قيام المشرع بهذه المهمة عند وضع النص الجنائي قد يصم هذا النص فيما بعد بعدم الدستورية. وهذا ما أكدته محكمتنا الدستورية العليا في حكمها الصادر في 3 فبراير 2001 بقولها "إن المتهمين لا تجوز معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحة تجمعهم لتصبهم في قالبها ، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها. وتقرير استثناء تشريعي من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم ن وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها ، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها والظروف الشخصية لمرتكبها" . 

وقد يترك المشرع أمر مراعاة هذا التناسب للقاضي نفسه ، بعد وضع الضوابط الخاصة به. ومثال ذلك أن يضع المشرع أمام القاضي عقوبة تدور بين حد أقصى وحد أدنى تاركاً له الخيرة بحسب جسامة الواقعة ودرجة الخطأ الجنائي أو يجيز له الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها. وهذا ما يسمى بالتفريد القضائي  L’individualisation judiciaire.

بل لا نشك في أن كل قيد يوضع من قبل المشرع علي سلطة القاضي في التفريد يكون مشوباً بعدم الدستورية. وعلى هذا تؤكد المحكمة الدستورية في حكمها سابق الذكر بقولها "لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً...وكان من المقرر أن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطتان بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها على ضوء دوره فيها ، ونواياه التي قارنتها ، وما نجم عنها من ضرر ، ليكون الجزاء موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك ، وكان تقدير هذه العناصر جميعها داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية ، فإن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة...مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة ، ولا يكون إنفاذها إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال ، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل" .      

83- ثانيا : التمايز بين العقوبة  والجزاءات الأخرى المترتبة على الجريمة :
84- تمهيد :
     لقد أشرنا في أكثر من موضع سابق - وسنشير إليه تفصيلاً بعد قليل - أن العقوبة تتمايز عن التدابير الاحترازية ، التي يكون مبنى توقيعها الخطورة الإجرامية وليس الفعل الإجرامي ولا الخطأ الجنائي كما هو الحال في العقوبة.

وعلى هذا فسوف نكتفي في هذا الموضع ببيان الأوجه التي تميز العقوبة الجنائية عن غيرها من الجزاءات المعروفة في فروع قانونية أخرى ، كالتعويض المدني والجزاء التأديبي ، والتي قد تترتب أحياناً على وقوع الجريمة.

85- أ : العقوبة الجنائية والتعويض المدني :
     تشترك العقوبة الجنائية مع التعويض المدني في أن كل من الصورتين يعد جزاء. وقد يتماثلا من حيث الشكل إذا اتخذت العقوبة الجنائية صورة الغرامة أو المصادرة ، فيكون كلاهما انتقاص من الذمة المالية للمحكوم عليه. وفيما عدا ذلك فإن كلا الجزاءين يتباعدان على النحو التالي :
*- العقوبة الجنائية جزاء شرع من أجل الجريمة ، أما التعويض المدني فجزاء شرع من أجل تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة ، باعتبار أن هناك التزام مدني يقع على عاتق مرتكب الفعل الخاطئ بتعويض المضرور من هذا الفعل عما أصابه من ضرر. فتقضي قواعد المسئولية التقصيرية أن "كل خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" (م 163 مدني مصري و م1382 مدني فرنسي). ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا توقع إلا على فعل تكامل له وصف الجريمة بأركانها المادية والمعنوية ولو لم ينشأ عنها ضرر (إلا إذا كان الضرر ركن فيها وفق ما يحدده المشرع). أما التعويض المدني فلا يحكم به إلا إذا سبب الفعل ضرر في جميع الأحوال ، حتى ولو لم يكون هذا الفعل مكون لجريمة من الناحية الجنائية .
*- لا يتماثل الغرض من العقوبة الجنائية مع الغرض من التعويض المدني. ففي العقوبة الجنائية – حتى لو اتخذت صورة الغرامة – يكون الغرض هو تحقيق وظيفة اجتماعية ، هى مكافحة الجريمة عن طريق إيلام المجرم ، وتحقيق غرض نفعي هو الردع العام والخاص. بينما يقتصر الغرض في التعويض المدني على إعادة التوازن بين الذمم المالية بعد أن أخل به الفعل الخاطئ والضرر الناجم عنه . ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا يجوز توقيعها إلا على مرتكب الجريمة شخصياً - عملاً بمبدأ شخصية العقوبة – في حين أن التعويض المدني يمكن أن يقضى به في مواجهة المسئول عن الحقوق المدنية ، ولو لم يكن هو مرتكب الفعل الخاطئ الضار. ومن هنا كانت العقوبة تتناسب مع شخص الجاني بخلاف التعويض المدني فإنه يتناسب مع عنصر الضرر الناشئ عن الفعل غير المشروع ولا يرتبط بالخطأ وجسامته ولا بشخص مرتكبه .
*- العقوبة الجنائية دائما ذات طبيعة قضائية ، لا تتقرر إلا بحكم قضائي أو ما يقوم مقامه ، كما في حالة الأمر الجنائي. أي أن العقوبة تستوجب دائما تدخل سلطة عليا بعيداً عن أطراف الجريمة (الجاني – والمجني عليه). أما التعويض المدني كما يمكن أن يتقرر بحكم قضائي - صادر عادة من المحكمة المدنية - يمكن أيضاً أن يتقرر باتفاق الأطراف (المخطئ والمضرور) دون الالتجاء إلى المحاكم ، أي عن طريق ما يمكن أن نسميه الأداء الاختياري للحق المدني. فإذا ما نشأ الفعل الضار عن جريمة أمكن للمضرور أن يلتجأ إلى القضاء الجنائي بدعواه المدنية - بالتبعية للدعوى الجنائية - التي تتكفل النيابة العامة (سلطة الاتهام) بمباشرتها.
*- تتعدد العقوبة الجنائية - ومنها الغرامة - بتعدد الجناة في الجريمة. في حين أن التعويض المدني عن الضرر لا يقضى به إلا مرة واحدة حتى ولو تعدد المشتركون في الفعل الضار أو المسئولون عنه. وقد يتضامن هؤلاء في أداء التعويض المقضي به ، بحيث إذا أداة أحدهم برأت ذمة الباقين منه. ومن الممكن أن يلزم الحكم كل مسئول بنصيب من التعويض يتناسب مع مدى ما صدر عنه من خطأ أو ما سببه من ضرر .
*- لما كانت العقوبة الجنائية تهدف إلى تحقيق وظيفة اجتماعية ، لذا فإن المطالبة بتوقيعها أصبحت حكراً على النيابة العامة (سلطة الاتهام) بوصفها ممثلة للمجتمع وتنوب عنه ولا يشاركها في ذلك أحد ، حتى المضرور الذي يباشر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي ، الذي لا يحق له إلا المطالبة بالتعويض المدني دون العقوبة الجنائية. لذا فإن هذا الأخير – المضرور أو المدعى المدني - حينما يخسر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي لبراءة المتهم فإنه لا يحق له الطعن إلا على الشق المتعلق برفض التعويض المدني. أما الطعن على حكم البراءة فيظل حقا للنيابة العامة كممثل وحيد للمجتمع. فالإنابة لا تتصور في المطالبة بتوقيع العقوبة الجنائية ، في حين أن الإنابة جائزة في المطالبة بالحقوق المدنية (التعويض). فضلا عن أن التنازل عن المطالبة بتوقيع العقوبة أمر - بحسب الأصل - غير جائز لتعلقه بحقوق المجتمع على عكس التعويض المدني.
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية تنفذ جبراً على المحكوم عليه ، ويجوز تعليق تنفيذها على شرط (أو ما يسمى عملاً إيقاف التنفيذ) ، وقد تسقط بأسباب متعددة منها التقادم والعفو ، وقد يرد الاعتبار قانونيا أو قضائيا عن الأحكام الصادرة بعقوبة جنائية. أما التعويض المدني فيخضع في تنفيذه للأحكام خاصة يضمها قانون المرافعات المدنية والتجارية والقوانين المتفرعة عنه. وقد يجرى هذا التنفيذ اختياراً باتفاق أطرافه دون جبر ، وقد يلجأ في تنفيذه إلى وسائل جنائية كالإكراه البدني. كذلك فإن التعويض المدني يسقط الحق فيه بآجال وأسباب يحددها القانون المدني تبعد عن أسباب سقوط العقوبة الجنائية.

86- ب : العقوبة الجنائية والجزاء التأديبي :

     تتفق العقوبة الجنائية مع الجزاء التأديبي (كاللوم – والتنبيه – والخصم من المرتب – والفصل عن الخدمة … الخ) في أن كلاهما يرتبط بمبدأ شخصية الجزاء ، فلا يوقعان إلا على المسئول عن الجريمة الجنائية أو الجريمة التأديبية. كما يتفقان في أن كلاهما يرمي إلى تحقيق الردع عن نوع معين من المخالفات (الخروج على أوامر ونواهي القانون الجنائي والقانون الإداري). كما قد يوقع الجزاء التأديبي كأثر ملازم للعقوبة الجنائية ، كما هو الحال في عزل الموظف المحكوم عليه بعقوبة جناية وجوباً (م25 عقوبات).

وفى غير ذلك يختلف كلا الجزاءين بعضهما عن الأخر على النحو التالي :
*- تخضع العقوبة الجنائية لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يوجب الحصر المسبق للأفعال الغير مشروعه أو المجرمة والتي يستحق عنها العقاب. هذا الحصر لابد وأن يكون محدداً بوضوح لا لبس فيه وبألفاظ لا تعوزها الدقة. أما الجزاء التأديبي فهو وإن كان محدد في اللوائح والقوانين إلا أن الأفعال التي يطبق بشأنها هذا الجزاء تبقى غير محددة. إذ يغلب على المخالفات التأديبية أن تتحدد وفق معيار عام مرن وفضفاض مثل الإخلال بواجبات الوظيفة أو الخروج على مقتضيات المهنة …الخ .
*- لا ينال الإيلام الناشئ عن الجزاء التأديبي إلا من المركز الوظيفي للشخص شاغل هذا المركز (كتوقيع التنبيه أو الإنذار أو الخصم من المرتب أو تأخير أو الحرمان من العلاوة أو تأخير الترقية أو الحرمان منها أو الوقف عن العمل أو الفصل من الخدمة…الخ). بينما تنال العقوبة الجنائية من حقوق متنوعة كما سبق وأن أسلفنا ، كالحق في الحياة ، أو في الحرية ، أو الحق في التملك ، أو الحق في الشرف والاعتبار…الخ.
*- إذا كانت العقوبة الجنائية تتقيد بمبدأ القضائية ، أي عدم جواز توقيعها إلا بحكم قضائي ، فإن الجزاء التأديبي لا يتقيد بهذا الأمر. فقد يصدر هذا الجزاء عن محكمة وقد يصدر بقرار من سلطة تأديبية رئاسية.
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية - بحسب الأصل - ذات تطبيق عام على كافة المواطنين المتواجدين على إقليم الدولة ، متى قام أحدهم بانتهاك قاعدة من قواعد قانون العقوبات. بينما لا يتعلق الجزاء التأديبي ولا يثبت إلا بشأن فئة معينة من الأفراد يخضعون لنظام تأديبي معين ، كما هو الحال بشأن الموظفين العموميين. فالجزاء التأديبي محدود من حيث نطاق تطبيقه الشخصي.

87- ثالثا : أغراض العقوبة الجنائية  :
88- تمهيد :
     كشف لنا استعراض الفلسفات التي كانت وراء الحق في العقاب وبيان سلطة الدولة في توقيعه ، أن هناك تطوراً قد لحق أغراض العقوبة الجنائية Les  finalités de la peine  تبعا للتطور الفكري والاجتماعي الذي شهدته المجتمعات.

ولقد استبان لنا أن أغراض العقوبة تنوعت بين ثلاثة اتجاهات : اتجاه موغل في القدم ، يرى في العقوبة غرضاً انتقامياً (سواء أكان انتقام فردى أو جماعي) ، ثم اتجاه لاحق دعمت ظهوره الأفكار المسيحية الكنسية ، يرى في العقوبة غرضاً تكفيرياً. ثم ظهر الغرض النفعي كمرحلة ثالثة في القرن الثامن عشر على يد مفكري هذا العصر أمثال مونتيسكيو وروسو وبيكاريا وبنتام. واقتصر هذا الغرض عند مفكري المدرسة التقليدية الأولى على تحقيق الردع العام ، ثم أصبح تحقيق العدالة هدف يضاف إلى الردع العام عند أنصار المدرسة التقليدية الثانية أو الجديدة. وفى مرحلة رابعة أعيد للردع العام أهميته مرة أخرى وغلب كغرض للعقوبة الجنائية لدى مدارس الوسط التوفيقية. إلى أن استقر الأمر بإعلاء الهدف التأهيلي والإصلاحي للمجرم ، كأسمى أهداف العقوبة مجتمعه عند أنصار حركة الدفاع الاجتماعي الجديد وعند أنصار النيوكلاسيكية المعاصرة ، الذين يرون أن هذا الهدف الإصلاحي يمكن تحقيقه إلى جانب الردع والزجر بشقيه العام والخاص. فالردع يتحقق من مجرد النطق بالعقوبة من قبل القاضي ، أما الهدف أو الغرض الإصلاحي أو التأهيلي فيمكن تحقيقه في مرحلة التنفيذ وداخل المؤسسة العقابية.

على أنه لا يجب أن نفهم أن هذه المراحل تظل منفصلة بعضها عن الأخر. فلا يعنى الاهتمام بالانتقام كغرض للعقوبة في المراحل الأولى للإنسانية أن التكفير أو الردع لم يكن هدفاً. كما أن ظهور الدولة وتسيدها لتوقيع العقاب لم يلغ أبداً فكرة الانتقام والتكفير. والدليل على ذلك أنه إلى وقت قيام الثورة الفرنسية كانت العقوبات تتسم بالوحشية انتقاماً من الجاني وتشفياً فيه. وحتى مع ظهور المسيحية وظهور المحاكم الكنسية ، ظل المجتمع المدني (المحاكم غير الدينية) يطبق العقوبات الوحشية التي كانت تتعدى كثيراً الجاني وتمتد إلى أهله وأحيانا إلى الحيوانات وجثث الموتى. كما لا يمكن القول أن ظهور الغرض النفعي ، خاصة مع ظهور أفكار بيكاريا ، كان جديداً تماما في الفقه. فلقد عرفته المجتمعات القديمة ذات الطابع الانتقامي في العقاب عندما أرادت التخفيف عن غلواء هذا الطابع عن طريق اعتماد نظام الدية الاختيارية ثم الإجبارية فيما بعد. فهذا الإقرار بمبدأ الدية أريد به تغليب المنفعة على شهوة الانتقام.

وبالجملة فإن تقسيم أغراض العقوبة - بحسب المراحل التاريخية - هو تقسيم تحكمي. فتلك الأغراض متداخلة في كل العصور ، ولم يكن الهدف من التقسيم التاريخي إلا التبسيط وإبراز لعلو هدف على أخر خلال مرحلة معينة من تطور المجتمع البشري.

ومن المؤكد أن الهدف أو الغرض الانتقامي أو التكفيري للعقوبة لم يعد له دور يذكر في العصور الحديثة والمعاصرة. ومن ثم يمكن حصر أغراض العقوبة فقط في نوعين من الأغراض ، أحداهما الغرض الأخلاقي ، وهو تحقيق العدالة ، وغرض نفعي هو تحقيق الردع بنوعية العام والخاص.

89- أ : الغرض الأخلاقي للعقوبة :
     كما سبق وأن أوضحنا ، فإنه يرجع الفضل للفلاسفة الألمان – خاصة "إيمانويل كانت" ومن بعده هيجل – في توجيه الأنظار نحو الغرض الأخلاقي للعقوبة Le but rétributif de la peine ، متمثلا هذا الغرض في العدالة. فعندهم أن الجريمة هى نفي للعدالة في المجتمع وأن العقوبة هى نفي لهذا النفي ومن ثم تصبح العقوبة تأكيد للعدالة أو إثبات لها من جديد. فالجريمة عدوان على العدالة كقيمة اجتماعية مثلى يجب أن تسود داخل المجتمع ، لما تمثله الجريمة من ظلم تجاه المجني عليه بحرمانه من حق من حقوقه (كالحياة في حاله القتل – والسلامة الجسدية في حالة الضرب والجرح – والحق في الملكية في حالة السرقة والنصب …الخ) ، وما تمثله من تعدي على الشعور العام في العدالة المستقر في ضمير الأفراد.

وفى ضوء ذلك فإن العقوبة تعمل على تحقيق العدالة لما تقوم به من إعادة التوازن بين المراكز القانونية التي أخل بها الفعل الإجرامي. وتنزل بالمجرم شر مماثل للشر الذي نجم عن الجريمة ولحق بالمجني عليه ، فكأنها تعيد للقانون هيبته في أذهان العامة. ويحقق اعتبار العدالة غرض من أغراض العقوبة ميزة كبيرة ، إذ أن الوصول إلى هذا الهدف يرضي شعور المجني عليه ويهدأ من ثورة المشاعر العامة اللاحقة على ارتكاب الجريمة ، بما يخمد نار الانتقام في صدر المجني عليه وعند أقرانه ، فيحقق بالتالي السلام الاجتماعي الذي ينقص من معدلات الجريمة في المجتمع. كما أن تحقيق هذا الهدف - خاصة عند الإسراع في توقيع العقاب - ينمى روح الندم والشعور بالمسئولية لدى الجاني ، مما يدفعه إلى محاولة تهذيب سلوكه كي يعود من جديد عضواً منتجاً ومندمجاً في مجتمعه .

ويمكننا القول أن الغرض الأخلاقي للعقوبة ، أي تحقيق العدالة ، ينحصر في رسالة القضاء. فهذا الهدف هو المهمة الأساسية للقاضي ولمرفق القضاء بكافة مستوياته الجنائية. وقد يساهم القاضي - وهو في سبيل سعيه نحو تحقيق العدالة - في تحقيق أهداف أخرى للعقوبة ، كالردع العام والخاص مثلا. فالقاضي من خلال العقوبة يؤكد على انتهاك القاعدة الجنائية ، مما يعلي من فكرة القانون في نفوس الأفراد ، ويساهم في كبت عوامل الجريمة أو ما يسمى بالإجرام الكامن ، سواء في نفوس الكافة (الردع العام) أو على المستوى الفردي ، أي في نفس المجرم (الردع الخاص). إلا أن تحقيق هذا الهدف الأخير ( الردع العام والخاص) يتحقق كأثر للهدف الأول المتمثل تحقيق العدالة.
فما يكون نصب عين القاضي هو الغرض الأخلاقي للعقوبة ، المتمثل في تحقيق العدالة. والدليل على ذلك ، أن القاضي (وذلك من خلال ما يثبته الواقع العملي في المحاكم) يسعى في تطبيقه للعقوبة إلى أن تكون متناسبة مع جسامه الفعل وماديات الجريمة (سلوك ونتيجة) ، دون مراعاة لتناسبها مع شخص المجرم. فهو يقدر للجريمة ، وليس للمجرم ، قدراً من العقوبة ، وهو ما يسمى في الفقه "بتسعير العقاب "La tarification de la punition". فلو كان الردع هدف للقاضي ، لأدخل في تقديره العناصر الشخصية للمجرم حتى يتأكد من كون العقاب سيحقق هذا الهدف .

90- ب : الغرض النفعي للعقوبة 
     قلنا أن جوهر العقوبة ، هو الأذى أو الإيلام الذي يلحق بمن توقع عليه نتيجة الماس بأحد حقوقه الأساسية أو اللصيقة بشخصية. ويستهدف إقرار هذا الإيلام والأذى كبح عوامل الجريمة داخل النفس البشرية ، وهو ما يسمى بالردع ، أي التخويف والزجر ، والذي يمثل غرضاً نفعياً للعقوبة  Le but utilitaire de la peine. وقد ينصرف هذا الأخير إلى تحقيق الردع العام La prévention générale الموجه للكافة ، بحيث تمنع العقوبة بقية أفراد المجتمع من تقليد ومحاكاة المجرم ، استهجاناً لما أنزل عليه من عقاب. وقد يستهدف الردع الخاص La prévention spéciale ، أي محاولة وأد ميكروبات الجريمة أو الميكروبات الاجتماعية - على حد قول البعض  - في نفس المجرم للحيلولة بينه وبين الجريمة مرة أخرى.

91- الردع العام:
     ينظر للعقوبة على أنها إنذار موجه للكافة من الناس ، تنذرهم بسوء العاقبة في حالة تقليد المجرم في سلوكه. فالعقوبة هى المضاد الحيوي الذي يكبت نوازع الشر الطبيعية في كل نفس بشرية. فالعقوبة تمارس أثراً نفسياً تهديدياً ، يقوى بواعث الخير تجاه بواعث الشر أو بواعث الجريمة ، بما يحقق الموائمة بين السلوك الجماعي وبين قواعد قانون العقوبات. فالعقوبة هى التي تمنع من تحول الإجرام الكامن إلى إجرام فعلي.

وتحقيق هذا الهدف - أي الردع العام - يتوقف على عوامل كثيرة منها : عدالة العقوبة وتناسبها مع جسامه الواقعة الإجرامية والخطأ الجنائي. فزيادة العقوبة أكثر مما تقضيه جسامه الواقعة قد يحمل القضاء على عدم تطبيقها ، وسعيه الحثيث على تبرئه المتهم مخافة توقيع عقاب غير عادل ، مما يرسخ في أذهان العامة قلة أهمية دور العقوبة فلا يتحقق الردع العام. الأمر الذي يحدث بالمثل في حالة ضعف العقوبة بالمقارنة بجسامة ما وقع من جرم. كما يتوقف الردع العام في النفوس على ميكانيزم القضاء الجنائي ، أي الكيفية التي يسير بها هذا المرفق من حيث البطء أو السرعة في مواجهة الجريمة.

ومهمة تحقيق الردع العام تقع بحسب الأصل على المشرع ، وإليه يسعى دون الأهداف الأخرى للعقوبة ، وذلك من خلال خلق القواعد التجريمية وتقرير الأجزية المناسبة لكل جرم. فهو بهذا الخلق يوجه التحذير للكافة بتوقيع العقاب في حالة انتهاك القاعدة التجريمية.
ولكي يطمئن المشرع إلى تحقيق هذا الهدف ، فإنه يجب أن يستند إلى قواعد العدالة في التشريع. ولما كان أمر تحقيق العدالة موكول إلى القاضي ، لذا فقد جرت التشريعات على تقرير العقوبات بين حد أدنى وحد أقصى ، أو تقرير عقوبات تخيرية ذات جسامه متفاوتة، تاركة للقاضي حرية تقرير العقوبة المناسبة كماً وكيفاً حسب ظروف كل حالة. فهذا الأسلوب يضع أمام الكافة الصورة الفعلية للعقوبة وكيفية تطبيقها ، فتتفاعل النفوس مع هذا التطبيق. فإن رأته عادلاً فإنها تبدأ في مراجعة النفس (التخويف والترهيب) وتبدأ أولى مراحل الردع العام ، وإن رأته ظالماً ، استخفت النفوس بالقانون وبالعقوبة وقلت لديهم عوامل الردع العام.

وعلى ذلك ، فإذا كان المشرع هو المنشئ للردع العام من خلال القاعدة الجنائية ، فإن القاضي هو الموكول إليه التثبت من تحقيق تلك القاعدة للردع العام الفعلي. فيمكننا القول أن هناك نوعا من الإنابة بين السلطة التشريعية وبين القضاء الجنائي في تحقيق الردع العام في المجتمع.

92- الردع الخاص:
     الردع الخاص هو الأثر المباشر للعقوبة الذي تحدثه على ذات المجرم المحكوم عليه ، أو هو الأثر الناشئ عن الانتقاص من حقوق المحكوم عليه في بدنه أو حريته أو ماله أو شرفه واعتباره.

من هنا يظهر أن للردع الخاص طابع فردي Intimidation de nature individuelle ، حيث ينصب على شخص بعينه هو المحكوم عليه ، فيدفعه إلى تغيير عناصر شخصيته في المستقبل بما يحول بينه وبين الرجوع إلى اقتراف الجريمة لاحقاً. فكأن الردع الخاص هو محاولة استئصال الخطورة الإجرامية المستقبلية أو الاحتمالية التي كشفت عنها الجريمة التي ارتكبها الشخص بالفعل. فبالعقوبة يتعاظم مقدار الألم في نفس الجاني وإحساسه بالمهانة والاحتقار بين أفراد مجتمعه ، فتنمو داخله العوامل التي تحول بينه وبين السلوك الإجرامي في المستقبل.

وللردع الخاص - كوسيلة لمنع المجرم من معاودة ارتكاب الجريمة في المستقبل - درجات أشدها هو الردع الخاص الاقصائي ، والذي يتم من خلال استبعاد الجاني كلياً من المجتمع ، كما هو الحال في عقوبة الإعدام وفى العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو المؤبدة ، وذلك بهدف تجميد النشاط الإجرامي للجاني في المستقبل. ولا يتحقق ذلك النوع الاقصائي إلا بشأن الجرائم شديدة الخطورة على مصالح المجتمع وفى حالات المجرمين الذين لا تجدي معهم برامج التأهيل والإصلاح من واقع سجلهم الإجرامي أو جسامه ما ارتكب من أفعال.

وللردع الخاص صورة أخف تتمثل في الردع الخاص الإنذاري. ويتحقق ذلك في حالات الإجرام غير الجسيم أو الذي يتمثل في تفاهة ما نشأ من ضرر ، والذي يثبت فيه أن الحدث الإجرامي لم يكن إلا شئ عارض في حياة المتهم. في تلك الأحوال ، يمكن تطبيق بعض العقوبات ذات الطابع الإنذاري ، كما هو الحال في الحبس قصير المدة مع إيقاف التنفيذ أو الوضع تحت الاختبار أو الحكم بالإدانة مع تأجيل النطق بالعقوبة أو الحكم بعقوبة مالية بسيطة.

وبين الصورتين توجد صورة وسط تتمثل في الردع الخاص الإصلاحي أو التأهيلي ، ويكون ذلك في حالات الإجرام المتوسط (كالسرقة وخيانة الأمانة والقتل الخطأ …الخ) ، حيث يوجب تحقيق هذا النوع من الردع الدخول الفعلي في إحدى المؤسسات العقابية من أجل إخضاع المحكوم عليه للبرامج الإصلاحية والتأهيلية الموضوعة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشئون العقابية ، التي تعمل على تنمية روح التوافق مع المجتمع مرة أخرى.

ويظهر من ذلك أن الردع الخاص في شق كبير منه يلقى على عاتق السلطات القائمة على التنفيذ العقابي ، وإليه تهدف هذه السلطات أكثر من الأهداف الأخرى للعقوبة الجنائية .

المبحث الثانيضمانات العقوبة الجنائية


93- تمهيد وتقسيم :
     يحدد الفقه الجنائي عادةً عدداً من الضمانات الأساسية التي تحكم العقوبة الجنائية عامةً ، أياً ما كان نوعها أو درجتها ، وبصرف النظر عن التقسيم الذي يتبعه المشرع أو الفقه في تحديد أنواع ودرجات العقوبة الجنائية. وللعقوبة ضمانات ستة تحكمها ، سواء في مرحلة وضع النص الجنائي (مرحلة التشريع) أو في مرحلة التطبيق الفعلي للنص من قبل القضاء ، أو في مرحلة التنفيذ العقابي.

94- أولاً : شرعية العقوبة الجنائية   :
     مبدأ الشرعية هو حجز الزاوية في القانون الجنائي عامة ، وهو بهذه الصفة يمثل الركن الركين والضمان العام للعقوبة. فمن هذا المبدأ تتولد بقية المبادئ التي تحكم العقوبة في أي مرحلة من مراحلها .

ويقصد بشرعية العقوبة الجنائية Légalité de la peine أن يوكل إلى المشرع وحدة أمر تقرير العقوبات التي تطبق حال مخالفة الشق التجريمي من القاعدة الجنائية. وإذا كان تحديد العقوبة بالتالي هو عمل السلطة التشريعية ، فإنها قد تفوض في ذلك السلطة التنفيذية في تحديد العقوبات لما يكون المشرع نفسه قد جرمه من أفعال ، وهو ما يسمى بالتفويض التشريعي المنصب على ركن الجزاء .

وعلى ذلك لم يعد صائبا القول أن "لا عقوبة إلا بقانون" ، إنما الأصوب القول أن "لا عقوبة إلا بناء على قانون ، أو لا عقوبة إلا بنص". ومن ثم يكون تطبيق عقوبات لم تصدر من السلطة التشريعية أو من السلطة التي فوضتها في ذلك عمل يمس بشرعية العقوبة مما يبطلها.
ولهذا المبدأ قيمة دستورية في النظام القانوني المصري. حيث نص دستور 1971 في المادة 66/2 على أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على القانون… ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" Nullum crimena, nulla poena sine lege. كما أكدته المادة الخامسة من قانون العقوبات الحالي لسنة 1937 إذ قررت أن "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها".

وينتشر هذا المبدأ في كافة القوانين المعاصرة ، ومنها قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو 1992 ، والذي نص في مادته 111-2 على أن "يحدد القانون الجنايات والجنح، ويحدد العقوبات المطبقة على مرتكبيها ، وتحدد اللائحة المخالفات وتقرر في الحدود وبحسب التفرقة التي يحددها القانون العقوبات المطبقة على المخالفين". وتعود المادة 111-3 لتؤكد على المبدأ قائلةً "لا يعاقب أحد عن جناية أو جنحة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للقانون ، أو عن مخالفة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للائحة. ولا يعاقب أحد بعقوبة لم ينص عليها قانونا إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة ، أو لم ينص عليها في اللائحة إذا كانت الجريمة مخالفة".

ويفرض مبدأ شرعية العقوبة (وكذلك شرعية الجريمة) ، في ضوء مضمونه هذا ، عدداً من الالتزامات في جانب المشرع وفى جانب القضاء :

95- أ : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب المشرع : 
     تلزم السلطة القائمة على تحديد العقوبات أن تبدأ بتحديد موضوع العقوبة .L’objet de la peine ويقصد بهذا الموضوع قيام المشرع بتحديد قصده من العقوبة ، وما إذا كان الهدف منها مجرد الإنذار أم أنه يقصد التقويم والإصلاح ، أم يقصد أخيراً أن يكون لها طابع إقصائي. وهى كلها تندرج ضمن أهداف الردع الخاص لثلاثة سالفة الذكر.

كما أن على المشرع أن يقوم بتحديد طبيعة العقوبة La nature de la peine ، أي تحديد الحق الذي تنال منه من بين حقوق المحكوم عليه. فمن العقوبات ما يسلب المحكوم حقه في الحياة (كالإعدام) ، ومنها ما يسلب حقه في الحرية بصفة نهائية أو مؤقتة (كالعقوبات السالبة للحرية) ، ومنها ما يقيد تلك الحرية (كالوضع تحت مراقبة الشرطة وخطر الإقامة)، ومنها ما ينال من الذمة المالية لهذا المحكوم عليه (كالغرامة والمصادرة) ، ومنها ما يمس بالحقوق السياسية أو الوظيفية له (كالمنع من الترشيح لعضوية المجالس النيابية والعزل) ، ومن العقوبات ما ينال أخيراً من الشرف والاعتبار (كالنشر في الصحف لبعض الأحكام كأحكام الإفلاس والغش التجاري مثلا). كما قد يؤدى تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في ظهور أنواع أخرى من العقوبات ، كسحب الرخص وغلق المنشأة التجارية أو الاقتصادية وحظر مزاولة مهنة أو نشاط تجاري أو اقتصادي لفترة مؤقتة أو دائمة.

وعلى المشرع ألا يقصد عند تحديده لطبيعة العقوبة أن تمتد إلى غير المحكوم عليه إعمالاً لمبدأ شخصية العقوبة ، كما سنوضح بعد قليل.

وأخيراً فإن على المشرع أن يراعي عند تحديد العقوبة مقدار جسامتها ، والتناسب بينها وبين الجسامة الموضوعية للجريمة ، ومدى نصيب إرادة الجاني من الخطأ. وعلى هذا الأساس يقيم المشرع تفرقة مثلاً في العقوبة من حيث كونها عقوبة جناية أم جنحة أم مخالفة ، وإقامته تفرقة عقابية داخل كل طائفة من هذه الجرائم (المواد 9 ، 10 ، 11 عقوبات مصري) .

96- ب : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب القاضي : 
     يفرض مبدأ الشرعية في جانب القاضي عدد من الالتزامات منها : الالتزام بالعقوبات المقررة للجرائم وفق ما تحدده نصوص التشريع ، طبقا لدرجة وطبيعة العقوبة. فيمتنع عليه أن يضيف إلى النص عقوبات لم ترد به ، ولا أن يطبق عقوبة من نوع أو مقدار مختلف. ولا يخل بذلك أن يكون المشرع بنفسه قد أعطى للقاضي سلطة للإعمال التفريد القضائي ، إذا ما وضع له عقوبة بين حد أدنى وحد أقصى ، أو يكون قد خيره بين أكثر من عقوبة ذات طبيعة ومقدار مختلف. فليس في ذلك عدوان على مبدأ الشرعية ، لأن المشرع هو الذي أناب القاضي في أمر التحديد.

كما على القاضي أن يمتنع عن إعمال القياس في تقرير العقوبات. فالقانون الجنائي لا يعرف التفسير بطريق القياس  L’interprétation par l’analogie لا في مقام التجريم ولا مقام العقاب ، فما سكت المشرع عن تجريمه فلا يجرم ، وما سكت عن تحديد عقوبته فلا يتقرر له عقاب ، حتى وإن بدا للقاضي أن هناك تجريم قريب يتحد في العلة مع السلوك الذي لم يوضح له المشرع عقاب. فما ترك على إباحته يظل مباح ، وإلا فتحنا باب التحكم والهوى من قبل القضاء ، ولا يخفى ما لذلك من أثر على حريات وحقوق المواطنين.

97- ثانياً :  عمومية العقوبة الجنائية La généralité de la peine :
     يقصد بعمومية العقوبة المساواة فيها ، أي سريانها في حق جميع الأفراد دون الأخذ في الاعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية. وهذا ما يسمى في الفقه الجنائي الحديث بمبدأ المساواة في العقاب L’égalité de la punition ، وهو مبدأ لم تكن تعرفه الشرائع القديمة حيث كانت تختلف العقوبات التي توقع على الأشراف عن تلك التي توقع على العبيد. وهذا المبدأ يستمد عموماً من القواعد الكلية للقانون ، التي توجب أن تتصف قاعدة القانون بالعمومية والتجريد.

ولقد حثت الشريعة الإسلامية الغراء على تلك المساواة والعمومية لقول سيدنا رسول الله "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .

غير أنه لا يوجد تعارض بين هذا المبدأ وبين ما يخوله المشرع للقاضي من امكانية إعمال قواعد التفريد العقابي ، أو ما يسمى بالتفريد القضائي. فالمساواة والعمومية في العقوبة لا تعني وجوب تطبيق ذات العقوبة على كل من يرتكب جريمة من نوع معين. فالقاضي له أن يعمل سلطته التقديرية في وزن العقوبة حسب ظروف الجريمة الموضوعية (المتعلقة بمادياتها) والشخصية (المتعلقة بشخص الجاني). فالمساواة في العقاب تعني أن القاعدة العقابية إذا كانت تقدر عقاباً مشدداً أو مخففاً ، أو تقدر عقاباً بين حد أدنى وحد أقصى ، فإن تلك الأمور تنطبق على الكافة وللكل أن يستفيد من ذات القاعدة.

98- ثالثاً : قضائية العقوبة الجنائية : 
     إذا كانت شرعية العقاب تعني أن يترك للمشرع وحده أمر تحديد العقوبة كماً ونوعاً ، فإن قضائية هذه الأخيرة تنصرف إلى أن يترك للقاضي وحده أمر تطبيقها. وهذه الضمانة تعد تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات في مجال القانون الجنائي La séparation des pouvoirs. فالعقوبة بحسبانها نوعاً من الألم وانتقاص للأحد الحقوق اللصيقة بالشخصية الجوهرية ، كان لابد من أن يوكل أمر تطبيقها إلى جهة محددة يتوافر بشأنها ضمانات الحيدة والنزاهة والاستقلال. وهو ما يوجب بداءة أن تكون جهة التطبيق محددة سلفاً في التشريع ، لا أن تخلق خلقاً لمواجهة جرم ما بعينه.

ولهذه الضمانة قيمتها الدستورية في النظام القانوني المصري ، حيث نصت المادة 66/2 من دستور 1971 على أنه "… لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي". وفى ضوء ذلك اعتمد قانون الإجراءات الجنائية في مادته 459 ذات المبدأ حين نص على أنه "لا يجوز توقيع العقوبات المقررة بالقانون لأية جريمة إلا بمقتضى حكم صادر من محكمة مختصة بذلك". وهو ما يستتبع ألا يترك لجهة الإدارة أو بعض الفنيين سلطة تطبيق العقوبات. وغني عن البيان أن القاضي عند تطبيقه للعقوبة يلتزم بذات الالتزامات التي تتفرع عن مبدأ الشرعية والتي أوضحناها سالفا.

99- رابعاً : شخصية العقوبة الجنائية : 
     يقصد بشخصية العقوبة الجنائية La personnalité de la peine عدم جواز توقيعها إلا على الجاني نفسه مرتكب الواقعة الإجرامية ، فاعلاً كان أم شريكاً. فالمسئولية الجنائية شخصية ، لا تضامن فيها ، والعقوبة التي تترتب على قيامها لها ذات السمة الشخصية. فلا يجب أن تمتد العقوبة أو أثرها - بحسب الأصل وكأمر مقصود - إلى أشخاص آخرين خلاف الجاني ، كأفراد أسرته أو ورثته أو من يربطهم به صله ما.

وهذا المبدأ يعد من ركائز التشريع الجنائي المعاصر حيث لم يكرس  تشريعياً إلا من عهد قريب. ففي الشرائع القديمة كانت للعقوبة أثراً ممتداً ، يصيب الجاني نفسه وأفراد أسرته. ففي ظل القانون الفرنسي القديم ، كانت عقوبة التآمر ضد الملك أو الحكومة هى الإعدام والمصادرة لأموال المتآمر وأفراد أسرته ونفيهم خارج البلاد . وكان هذا هو الحال القائم في التشريع المصري في فترة سريان قانون المنتخبات وقبل الإصلاح القضائي في عام 1883 ، فكان العقاب يمتد ، بالإضافة إلى فاعل الجريمة ، إلى شيخه أو على القائممقام حسب الأحوال (م21 من قانون المنتخبات) . ولقد مضت تلك العهود إلى غير رجعة وأصبح مستقراً أن المسئولية الجنائية شخصية ولا تمتد إلى فعل الغير ، وأن العقوبة التي تتولد عنها شخصية ولا تمتد إلى غير الجاني ، حتى ولو كانت العقوبة الجنائية تافهة (كالغرامة البسيطة مثلا). وهذا الأمر هو ما حرص الدستور المصري في المادة 66/1 على التأكيد عليه عندما قال "العقوبة شخصية". كما رددته محكمة النقض المصرية في عبارات بليغة عندما قالت :  "من المبادئ الأساسية في العلم الجنائي أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، فالجرائم لا يؤخذ بجريرتها غير جناتها ، والعقوبات شخصية محضة ، لا تنفذ إلا في نفس من أوقعها القضاء عليه. وحكمة هذا المبدأ أن الإجرام لا يحتمل الاستنابة في المحاكمة وأن العقاب لا يحتمل الاستنابة في التنفيذ" .

ولقد سبقت الشريعة الإسلامية الغراء المشرع الوضعي بكل طبقاته في التأكيد على هذا المبدأ. فقد قال رب العزة "ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً ، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" . ويقول المولى عز وجل "كل نفس بما كسبت رهينة" . ويقول الحكم العدل " ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" .

ولما كانت العقوبة شخصية فإن من الطبيعي أنه إذا توفى المتهم من قبل الحكم عليه وأثناء نظر الدعوى فإن تلك الأخيرة تنقضي بوفاة المتهم ، وإذا ما توفى بعد الحكم وقبل التنفيذ ، سقط الحكم وامتنع التنفيذ. كذلك فإن المشرع المصري يمنع تنفيذ حكم الإعدام على المرأة الحامل حتى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات جنائية) ، حتى لا يؤخذ الوليد بذنب أمه. 

ولا يخل بمبدأ شخصية العقوبة كون تلك الأخيرة قد تُحدث في بعض الحالات الفردية أثاراً غير مباشرة تمتد إلى غير الجاني أو المحكوم عليه. فمثلاً كون حكم الإعدام الذي نفذ على شخص قد حرم أسره من عائلها الوحيد الذي كان ينفق عليها لا يعني أن مبدأ الشخصية قد تم المساس به ، فهذه آلام غير مقصودة من المشرع أو من القاضي .


100- خامساً : تفريد العقوبة الجنائية:
     يتصل بضمانة العمومية السابق بيانها أن الفقه الجنائي الحديث لم يعد يعرف العقوبة الثابتة أو المحددة تحديداً جامداً. بمعنى أنه إذا كانت العقوبة معروفة مقدماً إلا أنها أصبحت متدرجة من حيث النوع والمقدار حتى تتلاءم مع جسامه الجريمة وخطورة الجاني. هذا الأمر الذي يعرف بتفريد العقوبة الجنائية  L’individualisation de la peine. ولهذا التفريد مستويات ثلاثة :

101- أ : التفريد التشريعي: 
     يكون التفريد تشريعياً L’individualisation législative  حين يراعي المشرع في إنشاءه للعقوبة تدريجها بحسب ظروف كل مجرم ، فيفرض على القاضي تطبيق نص معين عقوبته أشد أو أخف من العقوبة العادية المقررة لنفس الفعل إذا وقع في ظروف معينة أو من جناه محددين. ومثال ذلك وجوب تشديد العقوبة إذا اتصل السلوك الإجرامي بواقعة إكراه مادي أو معنوي ( م. 268 عقوبات مصري) ، أو إذا وقع هذا السلوك من طائفة معينة (كالإجهاض الواقع من طيب أو صيدلي أو جراح أو قابلة م. 263 عقوبات مصري). ومثال ذلك تقرير الإعفاء من العقاب في حاله إخبار أحد الجناة عن بقية شركاءه متى أوصل هذا الإخبار السلطات إلى القبض على بقية الجناة (الأمر المقرر في جرائم العدوان على المال العام وجرائم الإرهاب م88 مكرر هـ و م. 101 و م. 118 مكرر ب عقوبات مصري ).

102- ب : التفريد القضائي: 
     يكون التفريد قضائياً L’individualisation judiciaire إذا تم عن طريق الإنابة من قبل المشرع. فالأخير يضع العقوبة بين حد أدنى وأخر أقصى ثم يترك للقاضي إعمال سلطته التقديرية بين هذين الحدين حسب ظروف الجريمة والمجرم. ومن صور التفريد القضائي أيضاً أن يترك المشرع للقاضي الخيرة بين عقوبتين من نوعين أو درجتين مختلفتين ، كالخيرة بين الإعدام والسجن المؤبد في الجنايات ، أو بين الحبس والغرامة في الجنح ؛ أو إمكانية النزول بالعقاب درجة أو درجتين وفقا لما تقتضيه ظروف الجريمة (م 17 عقوبات مصري). وصورة ذلك أيضاً الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها أو بنفاذها حسب الأحوال.

103- ج : التفريد التنفيذي:
     يكون التفريد تنفيذياً L’individualisation exécutoire حين يتاح للإدارة العقابية نفسها ، حال تنفيذها للحكم الصادر بالعقوبة ، أن تعدل من طبيعة العقوبة أو من مدتها أو من طريقة تنفيذها حسب ما يطرأ على شخصية المجرم ومدى استجابته للتأهيل والإصلاح.

فمثلا إذا كان نوع العقوبة يقتضي تطبيقها في الليمانات فيمكن لجهة التنفيذ بعد فترة أن تنقل المحكوم عليه إلى أحد السجون العمومية إذا رأت أن التطور الايجابي الذي طرأ على شخصيته لم يعد يناسب ظروف الليمانات. ومثال هذا النوع من التفريد أيضاً إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقا لنظام الإفراج الشرطي أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إبدالها بأخف منها ، متى كان سلوك المحكوم عليه ينبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة مرة أخرى .

104- سادساً : إنسانية العقوبة الجنائية:
     يقصد بإنسانية العقوبة الجنائية Peine humanitaire  ، ألا يكون للعقوبة أثر سالب لكرامة الإنسان. فليس لكون الفرد قد هوى في طريق الجريمة أن يعاقب ويعامل بما يهدر كرامته وأدميته. وعلى هذا أكدت المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حينما نصت على أنه "لا يجوز إخضاع شخص للتعذيب أو لعقوبات قاسية أو غير إنسانية أو حاطه بالكرامة". وإلى هذا أشار المشرع الدستوري المصري في عام 1971 في المادة 42 بقوله "كل مواطن….يحبس… تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً. كما لا يجوز… حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون". وهذا أيضا ما رددته المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية حين نصت على أنه "لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر… كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً". وإلى هذا استجاب المشرع المصري مؤخراً بإلغائه للمادة 43/7 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 التي كانت تنص على الجلد كعقوبة تأديبية توقع على السجون .

المبحث الثالث
أقسام العقوبة الجنائية 

105- تمهيد وتقسيم :
     للعقوبة الجنائية أقسام خمسة متنوعة ، فيمكن تقسيم العقوبات حسب جسامتها إلى عقوبات جنايات وعقوبات للجنح وعقوبات للمخالفات ، وهو ما يعرف بالتقسيم الثلاثي للجرائم والعقوبات  ، ويمكن تقسيمها حسب الحقوق التي تمس بها - أي من حيث محلها - إلى عقوبات بدنية وأخرى ماسة بالحرية وأخرى سالبة للحقوق أو ماسة بالشرف والاعتبار ، ويمكن تقسيمها حسب مدتها إلى عقوبات مؤبدة وأخرى مؤقتة ، ويمكن تقسيمها - وفق ما أخذ به التشريع المصري - حسب أصالتها أو تبعيتها ، إلى عقوبات أصلية وأخرى تبعية وتكميلية ، وأخيراً يمكن تقسيمها حسب مصدرها إلى عقوبات وضعية وأخرى شرعية. وهذه الأقسام سوف نتناولها بالتفصيل في المطالب التالية.

المطلب الأولالعقوبات الجنائية من حيث جسامتها


     أشار المشرع المصري في المواد 10 ، 11 ، 12 من مدونة العقوبات إلى أنواع العقوبات من حيث جسامتها La sévérité des peines ، فقسمها إلى عقوبات للجنايات وأخرى للجنح وأخرى للمخالفات. وقرر بأن عقوبات الجنايات هى الإعدام والسجن المؤبد والسجن المشدد والسجن (م10) . أما عقوبات الجنح فهى الحبس والغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (م11). بينما تتوحد عقوبة المخالفات في عقوبة واحدة هي الغرامة التي لا يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه (م12).

ويظهر من ذلك أن المشرع يجعل من تقسيم العقوبة معيار لبيان نوع الجريمة ، فلاستكشاف كون الجريمة جناية أم جنحة أم مخالفة يتعين الرجوع إلى مقدار عقوبتها. كما يظهر التقسيم أيضا أن ضابط التفرقة بين الجنح والمخالفات ، إذا كانت العقوبة المقررة هى الغرامة ، هو مقدار هذه الأخيرة. فإن كانت تزيد على مائة جنيه فهى جنحة ، وإن كانت تقل عن ذلك فهى مخالفة.

ويرتب المشرع المصري على هذا التقسيم العديد من الأثار  ، يتعلق بعضها بأحكام القانون الجنائي الموضوعي (قانون العقوبات) ، وبعضها الأخر يتعلق بأحكام القانون الجنائي الإجرائي (قانون الإجراءات الجنائية). ومثال ما يتعلق بقانون العقوبات ، أحكام الشروع ، والعود ، ووقف التنفيذ ، وسريان القانون الجنائي من حيث المكان ، والمصادرة، والظروف القضائية المخففة. ومثال أثر هذا التقسيم على الجانب الإجرائي ، تعلق أحكام وضمانات التحقيق الابتدائي ، والادعاء المباشر ، والاختصاص ، ونظام الأوامر الجنائية ، وحق الاستعانة بمحام ، والطعن في الأحكام ، وتقادم الدعوى ، ورد الاعتبار به...الخ.

وقد يثير هذا التقسيم أحد المشكلات الفقهية المتعلقة بتحديد طبيعة الجريمة حينما يقرر لها المشرع عقوبة ثم يسمح للقاضي بإمكانية الحكم بعقوبة أشد أو اخف. فهذه الإجازة التشريعية قد تجعل القاضي يحكم بعقوبة جنحة في جناية ، كحالة اقتران الجناية بعذر قانوني أو بظرف قضائي مخفف (م.17 ، م.251 عقوبات) ، وقد تجعله يحكم بعقوبة الجناية في جنحة ، كما لو كان المتهم عائداً مثلاً (م. 51 عقوبات).

في مثل هذه الأحوال يثور التساؤل حول طبيعة الجريمة ، هل تظل جناية أو جنحة حسب العقوبة المقررة في النص ، أم تتغير طبيعتها حسب ما قد قضى به القاضي من عقوبة. : حول تلك المشكلة تنوعت الآراء على ثلاثة مذاهب : أولها يرى أن الجريمة تظل جناية أو جنحة على حالها وفق ما هو مقرر في النص التشريعي ، على أساس أن العبرة في تحديد طبيعة الجريمة هى بجسامتها الموضوعية لا بما يطرأ من ظروف وأعذار. فهذه الأخيرة أمور استثنائية طارئة لا تغير من جسامة الفعل . 
ويذهب الرأي الثاني إلى القول إلى أن طبيعة الجريمة تتحول إلى جناية أو جنحة حسب الأحوال ، على أساس أن المشرع هو مصدر التشديد أو التخفيف ، وهو وحدة الذي قدر أن جسامه الفعل في ظل ظروف وأعذار معينة تبدل تشديداً أو تخفيفاً .

أما الرأي الثالث فيتجه إلى التفرقة إلى ما إذا كان التشديد أو التخفيف يرجع إلى عذر قانوني أم إلى ظرف قضائي. ففي حالة التشديد أو التخفيف لعذر قانوني يتغير نوع الجريمة من جناية إلى جنحة أو العكس ، أما في حالة التشديد أو التخفيف لظرف قضائي فتظل الجريمة على حالها. وعلة هذا أن العذر القانوني يكون وجوبي التطبيق ولا حيله للقاضي فيه ، أي أن المشرع قدر بنفسه أن الفعل مع توافر هذا العذر يجعل الجريمة من طبيعة مختلفة ، وبالتالي فهو لا يقدر للجريمة إلا عقوبة واحدة وهى التي يجب أن تؤخذ في الحسبان. أما في حالة الظروف القضائية المشددة أو المخففة ، فللقاضي السلطة التقديرية في تطبيقها ، فإن أنزل بنفسه الجناية إلى جنحة أو رفع الجنحة إلى جناية كان هذا هو عمله لا عمل المشرع وبالتالي يجب أن تظل الجريمة على حالها .

ونحن نميل إلى تأييد الرأي الأول للاتفاقه مع مبدأ الشرعية ، والذي يمنع أن يتوقف التكيف النهائي للواقعة الإجرامية على عمل ختامي للقاضي ، ألا وهو النطق بالعقوبة. فتحديد الجريمة وأقسامها عمل تشريعي محض لا شأن للقضاء به.

المطلب الثاني
العقوبات الجنائية من حيث محلها

106- تقسيم :
     تنقسم العقوبات الجنائية من حيث محلها L’objet de la peine ، أي من حيث الحق الشخصي الذي تمس به، إلى عقوبات بدنية ، وسالبة أو مقيدة للحرية ، وسالبة أو مقيدة للحقوق ، ومالية ، وأخيراً ماسة بالاعتبار.

107- أولاً : العقوبات البدنية  :
     العقوبات البدنية Peines corporelles نوع من الجزاءات ينصب على جسد المحكوم عليه ، كالإعدام والجلد وقطع اليد أو الأطراف والتعذيب. ولم يعد يبقى في التشريعات الجنائية المعاصرة إلا الصورة الأولى وهى الإعدام ، والتي سنوليها الشرح في صفحات تالية عند بيان الخلاف حول الإبقاء عليها أو إلغائها.

108- ثانياً : العقوبات الماسة بالحرية: 
     العقوبات الماسة بالحرية Peines touchant la liberté  نمط من العقوبات تصيب المحكوم عليه في حريته فتلزمه بأن يقيم في مكان معين أو تفرض عليه قيوداً تحول دون تجواله بحرية. وهذه العقوبات قد تكون سالبة للحرية  Peines privatives de liberté ، وقد تكون العقوبات الماسة بالحرية مجرد مقيدة لها Peines restrictives de liberté وليست سالبة.

109- أ : العقوبات السالبة للحرية في التشريع المصري : 
العقوبات السالبة للحرية هى تلك التي يقتضي تنفيذها إيداع المحكوم عليه في مكان معين فترة ما من الزمن يحرم خلالها من حريته في التنقل كيف يشاء. وكان المشرع المصري إلى ما قبل صدور القانون رقم 95 لسنة 2003 بشأن إلغاء محاكم أمن الدولة المنشئة بالقانون 105 لسنة 1980 وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات والإجراءات الجنائية ، يدرج بين العقوبات السالبة للحرية عقوبتي الأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة المؤقتة ، إلى جانب عقوبتي السجن والحبس (المواد من 10 إلى 19).  وبصدور هذا القانون حلت عقوبة السجن المؤبد محل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة ، بينما استبدلت عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بعقوبة السجن المشدد ، دون أن يترتب على هذا الاستبدال تغير في مضمون العقوبة أو في مدتها أو في طريقة تنفيذها ، فلا يعدو الأمر إلا إحلال للفظ محل آخر بغية تيسير نفاذ طلبات تسليم المجرمين التي تجريها السلطات المصرية. ومن ثم أصبحت للعقوبات السالبة للحرية في التشريع المصري نماذج أربعة على التفصيل التالي :

110- عقوبة السجن المؤبد  :
    السجن المؤبد Réclusion à perpétuité   ، الذي حل محل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة ، أول العقوبات السالبة للحرية المقررة للجنايات. وقد عرفته المادة 14 عقوبات المعدلة بالقانون 95 لسنة 2003 بقولها "عقوبة السجن المؤبد هى وضع المحكوم عليه في أحد السجون المخصصة لذلك قانوناً ، وتشغيله داخلها في الأعمال التي تعينها الحكومة ، وذلك مدة حياته إذا كانت العقوبة مؤبدة". 

والأصل أن يستغرق السجن المؤبد كل حياة المحكوم عليه بها ، ولكنها تصبح عملياً مؤقتة بتطبيق نظام الإفراج الشرطي ، إذ يجوز وفق شروط معينة الإفراج عن المحكوم عليه بالسجن المؤبد إذا قضى من العقوبة عشرين سنة (م 52/2 من قانون تنظيم السجون).

كما أن الأصل أن تنفذ هذه العقوبة في الليمانات. إلا أن المشرع أعفى فئات معينة من تنفيذها في هذه الأماكن. فنصت المادة 15 عقوبات على أن "يقضي من يحكم عليه بعقوبة السجن المؤبد من الرجال الذين جاوزا الستين من عمرهم ومن النساء مطلقا مدة عقوبته في أحد السجون العمومية". كما أوضحت المادة الثالثة من قانون تنظيم السجون أن "ينفذ المحكوم عليهم بالسجن المؤبد...عقوبتهم في السجون العمومية في الحالات الآتية :

*- الرجال الذين يثبت عجزهم للأسباب صحية عن الخضوع لنظام الليمان؛ 
*- من أمضى في الليمان نصف المدة المحكوم عليه بها أو ثلاث سنوات أي المدتين أقل وكان سلوكه حسنا خلالها.


111- عقوبة السجن المشدد :
     السجن المشدد Réclusion criminelle إحدى العقوبات المقررة للجرائم المعدودة من الجنايات وتقتضي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المخصصة لذلك قانوناً وتشغيله داخلها في الأعمال التي تعينها الحكومة المدة المحكوم بها ، والتي لا يجوز أن تنقص عن ثلاث سنين ، ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً (م. 14 عقوبات معدلة). 

وتلك العقوبة ، شأن سابقتها تنفذ بحسب الأصل في الليمانات ، إلا إذا كان المحكوم عليه امرأة ، أو رجلا جاوز الستين من العمر (م. 15 عقوبات) ، أو ثبت ما يفيد صعوبة خضوع المحكوم عليه من الرجال لنظام الليمان لأسباب صحية ، أو ثبت أن سلوكه كان حسنًا وأمضى نصف المدة المحكوم بها أو ثلاث سنوات أي المدتين أقل (م. 3 من قانون تنظيم السجون). 

112- عقوبة السجن  :
     عرفت المادة 16 عقوبات عقوبة السجن La prison ، كعقوبة مقررة للجنايات ، بقولها أنها وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية ، وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة المدة المحكوم بها عليه. ولا يجوز أن تنقص تلك المدة عن ثلاث سنين ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً".
والسجون العمومية توجد في دائرة كل محكمة ابتدائية وتنفذ فيها عقوبة السجن أو عقوبة السجن المؤبد أو المشدد إذا توافر أحد الظروف التي تقتضى ذلك.

113- عقوبة الحبس :
     عقوبة الحبس L’emprisonnement - هى أولى عقوبات الجنح - عرفتها المادة 18 عقوبات بقولها "عقوبة الحبس هى وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه. ولا يجوز أن تنقص هذه المدة عن أربع وعشرين ساعة ولا أن تزيد على ثلاثة سنين إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً".

والحبس نوعان بنيتهما المادة 19 عقوبات : هما الحبس البسيط والحبس مع الشغل. والأول لا يتضمن إلزام المحكوم عليه بعمل داخل أو خارج المؤسسة العقابية. أما الثاني فقد أوضحت الفقرة الثانية من المادة المذكورة أن المحكوم عليهم بالحبس مع الشغل يشتغلون داخل السجون أو خارجها في الأعمال التي تعينها الحكومة. وفى رأينا أنه على المستوى العملي لا فارق بين النوعين إذ غالبا ما يتضمن الحبس البسيط تشغيل المحكوم عليهم في بعض الأعمال. وبالتالي نؤيد الرأي القائل أن نوعا الحبس ليسا إلا أسلوبين للتنفيذ وليسا عقوبتين منفصلتين. فالحبس عقوبة واحدة لها طريقتين في التنفيذ .

والحبس مع الشغل قد يكون عقوبة وجوبية وذلك كلما كانت العقوبة المقضي بها أكثر من سنة وكذلك في كل حالة ينص عليها القانون حتى ولو كانت العقوبة أقل من سنة. ومن ذلك حالات السرقة والشروع فيها (م 317 و318 عقوبات) جريمة تقليد المفاتيح (م/324)…الخ.

والأصل أن تنفذ عقوبة الحبس في السجون المركزية ، إلا أنه يمكن تنفيذها في السجون العمومية وذلك في حالتين :
*- إذا زادت المدة المتبقية للتنفيذ وقت صدور الحكم عن ثلاث شهور (أى بعد خصم هذه الحبس الاحتياطي من مدة العقوبة المحكوم بها) (م/3 – د من قانون تنظيم السجون).
*- إذا لم يكن المحكوم عليه قد أودع من قبل في السجون العمومية أياً كانت مدة الحبس (أي حتى لو كانت أقل من ثلاثة شهور) (م/3 – د من قانون تنظيم السجون).

وقد أوضحت المادة 18 عقوبات في فقرتها الثانية أنه يجوز لكل محكوم عليه بالحبس البسيط لمدة لا تجاوز ثلاثة شهور أن يطلب بدلاً من تنفيذ عقوبة الحبس عليه تشغيله خارج السجن ، إلا إذا نص الحكم على حرمانه من هذا الخيار. وهو ذات الأمر الذي رددته المادة 479 من قانون الإجراءات الجنائية. وعلة هذا النص واضحة وهى الرغبة في تفادى عيوب عقوبة الحبس قصير المدة كما سنوضح بعد ذلك.

114- ب : العقوبات المقيدة للحرية في التشريع المصري (نموذج الوضع تحت مراقبة البوليس): 
     العقوبات المقيدة للحرية نوع من العقوبات يؤدى إلى وضع قيود على حرية المحكوم عليه في التنقل أو في مزاولة مهنة معينة…الخ. فهى لا تسلب المحكوم عليه حريته تماماً ولكنها تقيد تلك الحرية. ومن أمثلتها تحديد إقامة المهتم في مكان معين أو منعة من ارتياد أمكنة معينة أو الإقامة فيها (م 533 إجراءات جنائية).

ومن أشهر صور العقوبات المقيدة للحرية على الإطلاق في التشريع المصري الوضع تحت مراقبة البوليس والتي بينت المادة 29 عقوبات الأثر المترتب على الحكم بها بقولها "يترتب على مراقبة البوليس إلزام المحكوم عليه بجميع الأحكام المقررة في القوانين المختصة بتلك المراقبة". ثم بينت ذات المادة الأثر المترتب على مخالفة أحكام المراقبة مقررة أنها تستوجب الحكم على مرتكبها بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة.

والقانون المنظم لهذه المراقبة هو القانون رقم 99 لسنة 1945 وكذلك القانون رقم 24 لسنة 1923 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم. ويظهر من هذين القانونين أن الوضع تحت مراقبة البوليس يفرض عدد من الالتزامات على المحكوم عليه بتلك العقوبة منها : إلزامه باتخاذ محل إقامة محدد توافق عليه الجهات الأمنية ، وأن يتقدم لتلك الجهات في مواعيد معينة ، وعدم مبارحة مسكنة من غروب الشمس إلى شروقها ، إلا إذا أعفى من ذلك بسبب عمله أو لأي سبب أخر تقدره جهة الإدارة. وقد استثنى المشرع من الخضوع لعقوبة مراقبة البوليس الأحداث المشردين الذين لم يبلغوا ثمان عشرة سنة ميلادية (م 14 من القانون 124 لسنة 1949 الخاص بالأحداث المشردين وكذلك المادة الأولى من القانون 31 لسنة 1974 بشأن الأحداث).

وعن طبيعة عقوبة الوضع تحت مراقبة الشرطة يمكن القول بأن لها طبيعة مختلطة. فقد تكون عقوبة أصلية أو تبعية أو تكميلية حسب الأحوال.

فقد يكون الوضع تحت المراقبة عقوبة أصلية - أي يحكم بها وحدها- في جرائم التشرد (م 2/1 ، 3 فترة 2 من مرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945) وجرائم الاشتباه (م6 فقرة أولى وم7 فقرة 2 من ذات المرسوم بقانون سالف الذكر). وحال الحكم بهذه العقوبة وحدها فإنها تصبح مماثلة لعقوبة الحبس في كافة أحكامه (م1 من المرسوم بقانون سالف الذكر) ، بمعنى ضرورة خصم مدة الحبس الاحتياطي من مدة الوضع تحت المراقبة ، وكذلك ضرورة احتساب عقوبة المراقبة سابقة في العود (م49/2 ، 3 عقوبات).

وقد تكون عقوبة المراقبة عقوبة تبعية - أي يجب تنفيذها تابعاً للعقوبة الأصلية ولو لم ينطق بها القاضي - وذلك في حالتين :
*- حالة الحكم بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد أو السجن في جرائم معينة ، كالجنايات المخلة بأمن الحكومة وتزيف النقود أو سرقة أو قتل في الأحوال المبينة في الفقرة الثانية من المادة 234 عقوبات ، أو لجناية من المنصوص عليها في المواد 356 و368 عقوبات (وهى جرائم قتل أو سم الحيوانات والدواب بدون مقتضى وجناية إتلاف المزروعات). وفى تلك الأحوال يوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة الأصلية المحكوم بها بما لا يزيد على خمس سنوات (م28 عقوبات).
*- حالة المحكوم عليهم بالسجن المؤبد عند العفو عنهم أو إبدال عقوبتهم. وهذا ما أكدت عليه المادة 75 عقوبات حين نصت على أنه "إذا عفي عن محكوم عليه بالسجن المؤبد أو بدلت عقوبته وجب وضعه حتما تحت مراقبة الشرطة مدة خمس سنوات ما لم يكن نص في قرار العفو على غير ذلك". ونرى أن هذا الحكم يمتد إلى حالة المحكوم عليهم بعقوبة الإعدام حال العفو عنهم أو إبدال هذه العقوبة بعقوبة أخف.

وأخيراً قد يكون الوضع تحت مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية ، أي كعقوبة تكمل عقوبة أصلية ولا تنفذ إلا عند الحكم بها ، سواء كان هذا الحكم جوازياً أو وجوبياً. وعلى هذا فقد تكون عقوبة مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية وجوبية ، أي يلزم القاضي حتماً الحكم بها عند الحكم بعقوبة أصلية ، وذلك في حالات العود إلى التشرد والاشتباه (وفى تلك الحالة لا تقل العقوبة عن سنة ولا تزيد عن خمس سنوات) ( م2/2 و 6/2 من الرسوم سالف الذكر). وقد تكون عقوبة مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية جوازية ، أي يكون للقاضي الخيرة في الحكم بها أم لا عند الحكم بعقوبة أصلية ، ومثال ذلك ما جاء بالمادة 320 عقوبات التي تنص على أن المحكوم عليهم بالحبس لسرقة يجوز في حالة العود أن يجعلوا تحت مراقبة البوليس مدة سنة على الأقل أو سنتين على الأكثر. ومثال ذلك أيضا عقاب العود في النصب (م336 عقوبات)، وقتل أو سم الحيوانات دون مقتضى (م 350 عقوبات) ، أو إتلاف المزروعات (م367 عقوبات).

ويؤثر تقسيم مراقبة الشرطة إلى هذه الأنواع الثلاث على تحديد ميعاد بدأ تنفيذها. ففي حالة كونها عقوبة أصلية ، فإنه يبدأ تنفيذها من يوم صدور الحكم بها نهائياً. أما حين تكون عقوبة تبعية أو تكميلية فإنه يبدأ سريانها من تاريخ انتهاء العقوبة الأصلية.

ويذهب الفقه إلى القول بأن عقوبة مراقبة الشرطة لا توقف ولا يقطع تنفيذها حتى ولو بهروب المحكوم عليه أو لوجوده في الحبس خلال فترة منها. ذلك أن علة هذه العقوبة هو منع المحكوم عليه من ارتكاب جريمة خلال مدة المراقبة. وعلى ذلك لو هرب المحكوم عليه بعقوبة المراقبة مثلا أو حبس خلالها ولكنه لم يرتكب خلال فترة الهروب أي جريمة فما المانع من القول بتمام تنفيذها رغم الهروب أو الحبس وانقضاء أجلها .

115- ثالثاً : العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق 
     العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق   Peines privatives au restrictives de droits نوع من الجزاءات يصيب المحكوم عليه في حقوقه المدنية والسياسية. ومثالها الحرمان من التعيين في وظائف الحكومة ، أو التحلي برتبة أو ينشان ، أو الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح له ، أو الحرمان من ممارس مهنة أو عمل معين. ومثالها في القانون المصري ما جاء في المادة 25 عقوبات عندما قررت أن "كل حكم بعقوبة جناية يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية" : 
*- القبول في أي خدمة في الحكومة مباشرة ، أو بصفة متعهد أو ملتزم أياً كانت أهمية الخدمة ؛
*- الحرمان من التحلي برتبة أو نيشان. وهذا الحرمان مؤبد ينصرف إلى الحاضر والمستقبل ، أي إلى ما قد يتحلى به بعد صدور الحكم من رتب ونياشين.
*- الحرمان من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال. أي تسمع شهادة المحكوم عليه بعقوبة جناية بدون حلف يمين ، ولا يكون لها قوة الدليل في الإدانة أو البراءة . وهذا الحرمان مؤقت بمدة عقوبة الجناية.
*- الحرمان من إدارة أشغاله الخاصة بأمواله وأملاكه. وهو أيضاً حرمان مؤقت بمدة تنفيذ العقوبة الأصلية. وهو حرمان له طبيعة مختلطة إذ ينظر إليه على أنه جزاء إذ يعامل المحكوم عليه معاملة ناقص الأهلية ، وينظر إليه على أنه ضمانة للمحكوم عليه أيضاً حتى يكون هناك مسئول يرعى مصالحة التي صار بحكم سلب حريته عاجزاً عن رعايتها.

116- رابعاً : العقوبات الماسة بالاعتبار :  
     العقوبات الماسة بالاعتبار نوع من العقوبات التشهيرية Peines humiliants ou infamants يستهدف خدش كرامة المحكوم عليه واعتباره ؛ أي النيل من منزلته ومكانته بين أفراد المجتمع ، وذلك من خلال التشهير به وبجريمته وإعلان عقوبته. ومن أمثلة ذلك نشر الحكم في الصحف أو غيرها من وسائل النشر وإلصاقه على الجدان وفى الأماكن العامة (م198 عقوبات) ، وحرمان المحكوم عليه من تولي الوظائف العامة (م 25/1) ، وحرمانه من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال (م25/3) ، وحرمانه من التحلي بالرتب والنياشين (م25/2) ، وحرمانه من إدارة أمواله وأملاكه (م25/4).

117- خامساً : العقوبات الجنائية المالية :
118- تقسيم :
     العقوبات الماليةPeines pécuniaires   نوع من الجزاءات يصيب المحكوم عليه في ذمته المالية فيحرمه من جزء من أمواله ، ويظهر ذلك عن نحو جلي في حالة الحكم بالغرامة أوالمصادرة. وللأهمية هاتين العقوبتين في التطبيق العملي فإننا نوليهما بعض الأهمية على التفصيل التالي :

119- أ : عقوبة الغرامة الجنائية   :
120- تعريف الغرامة الجنائية
     عرفت المادة 22 عقوبات الغرامة Amende بأنها إلزام المحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدر في الحكم. ولا يجوز أن تقل الغرامة عن مائة قترش ولا أن يزيد حدها الأقصى في الجنح على خمسمائة جنيه ، وذلك مع عدم الإخلال بالحدود التي يبنيها القانون لكل الجريمة. فهى عقوبة تهدف إلى إيلام المحكوم عليه في ذمته المالية ويلزم هو فقط بأدائها للدولة. وبالتالي تختلف الغرامة عن التعويض المدني على التفصيل الذي سبق وأن أوضحناه.

والأصل في الغرامة أن تكون عقوبة أصلية ، وذلك في الجنح والمخالفات. إلا أنها قد تكون عقوبة تكميلية ، كما هو الحال في الجنايات الخاصة بجرائم الأموال العامة ، كالرشوة والاختلاس والاستيلاء.

والغرامة هى العقوبة الوحيدة للمخالفات ، ولا يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (م.12). أما الغرامة في الجنح فإنها تزيد على مائة جنيه ، وقد تكون هى العقوبة الوحيدة للجنحة ، وذلك في حالة الجنح التافهة أو قليلة الجسامة. وقد تكون الغرامة إلى جوار الحبس على سبيل الوجوب أو الجواز وقد ينص المشرع عليها على سبيل التخير مع الحبس .

121- أقسام الغرامة الجنائية : 
     تنقسم الغرامة عادة إلى نوعين : أحدهما الغرامة المحددة أو البسيطة Amende déterminée ou simple والأخرى الغرامة النسبية Amende proportionnelle. والغرامة المحددة أو البسيطة هى التي يتولى أمر تحديد مقدارها المشرع أو يحدد لها حدا أدنى وحدا أقصى تاركاً للقاضي حرية تقديرها.

وقد سبق القول بأن الحد الأدنى العام للغرامة هو مائة قرش ، ويجوز أن يجعل المشرع حدا أدنى أخر أعلى من هذا المبلغ ، وهو الأمر الذي أخذ به المشرع المصري في الجرائم المنصوص عليها في المادة 98 (و) عقوبات التي أضيفت بالقانون رقم 29 لسنة 1982 ، والتي جعلت الحد الأدنى للغرامة ألف جنيه. كما سبق كذلك القول أن الحد الأقصى العام للغرامة في المخالفات هو مائة قرش وفى الجنح هو خمسمائة جنيه.غير أن المشرع قد يخرج عن ذلك ، كما هو الحال في جرائم التعامل غير المشروع في المخدرات حيث قد لا تقل الغرامة عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه (م33 و34 و34 مكرر ، 35 و37 من القانون 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989).

أما الغرامة النسبية فهى التي لا يتحدد مقدارها في النص بمبلغ ثابت أو ما بين حدين ثابتين ولكن يجرى ربطها بمقدار الضرر الفعلي أو المحتمل للجريمة ، أو ربطها بالفائدة أو ما كان يطمع الجاني في تحقيقه من كسب مادي أو فائدة.

وقد تكون الغرامة النسبية مطلقة الحدود بأن يترك تحديد مقدارها ابتداًء وانتهاءً ليتحدد وفقاً لحجم الضرر أو الكسب غير المشروع. مثال ذلك ما كانت تنص عليه م 108 عقوبات قبل تعديلها بالمرسوم بقانون رقم 69 لسنة 1953 والتي كانت تقرر للراشي والمرتشي والوسيط عقوبة السجن والغرامة التي تساوى قيمة ما أعطى أو وعد به. ومثال ذلك أيضاً ما تنص عليه حاليا م 118 مكررا (أ) فيما يتعلق بجرائم العدوان على المال العام.

ويمكن للمشرع أن يجعل الغرامة النسبية مقيدة في أحد حدودها ونسبيه في حدها الأخر. مثال ذلك م103 بعد تعديلها بالمرسوم بقانون رقم 69 لسنة 1953 إذ تقرر للرشوة عقوبة السجن المؤبد والغرامة التي لا يقل حدها الأدنى عن ألف جنيه ولا تزيد على ما أعطى أو وعد به.

122- أحكام تنفيذ الغرامة الجنائية :
     تخضع الغرامة في تنفيذها لمبدأ الشخصية ، بمعنى ألا يحكم بها إلا على مرتكب الجريمة. فلا يجوز الحكم بها على المسئول عن الحق المدني ولا على ورثة الجاني إذا توفى قبل صدور حكم نهائي في الدعوى الجنائية المقامة ضده. على أنه إذا توفى المتهم بعد صدور الحكم النهائي عليه بعقوبة الغرامة وقبل التنفيذ ، فإنه يجوز التنفيذ في تركته إذا كان قد ترك مالاً يورث وذلك عملاً بالقاعدة الشرعية القائلة "لا تركه إلا بعد سداد الديون". وعلى هذا نصت المادة 535 إجراءات جنائية حين قررت إذا توفى المحكوم عليه بعد الحكم عليه نهائياً تنفذ العقوبات المالية… في تركته.

والأصل ألا تنفذ الأحكام الجنائية إلا إذا صارت نهائية (م 460 إجراءات جنائية). غير أن المشرع قد خرج في أحكام الغرامة عن هذا الأصل العام فنص في المادة 463 على أن الأحكام الصادرة بالغرامة والمصاريف تكون واجبة التنفيذ فوراً ولو مع حصول استئنافها. والحكمة في هذا الخروج أن أحكام الغرامة في حالة إلغائها في الاستئناف فإنه يمكن تداركها برد قيمة الغرامة المدفوعة إلى المحكوم عليه. وهذا الاستثناء - أي التنفيذ الفوري للأحكام الغرامة ولو كان الحكم ابتدائياً - لا ينصرف إلا إلى الأحكام الصادرة حضورياً ، أما الأحكام الغيابية بالغرامة فإنها تعود للأصل العام في تنفيذ الأحكام. وعله ذلك أن الأحكام الغيابية تكون أضعف في الدلالة على صحة ما قضت به من الأحكام الحضورية .
أما عن طرق تنفيذ الغرامة ، فإن هذا التنفيذ قد يجري اختياراً ، أو جبرياً ، أو بطريق الإكراه البدني ، وذلك على النحو التالي :  

123- التنفيذ الاختياري : 
    قد يقوم المحكوم عليه طواعيًا ودون جبر بدفع المبالغ المقضي بها للحكومة. ورغبة من المشرع في التيسير على المحكوم عليه فإنه نص في المادة 510 إجراءات جنائية على أنه "لقاضى المحكمة الجزئية في الجهة التي يجرى التنفيذ فيها أن يمنح المتهم في الأحوال الاستثنائية بناء على طلبه وبعد أخذ رأى النيابة العامة أجلا لدفع المبالغ المستحقة للحكومة ، وأن يأذن له بدفعها على أقساط ، بشرط ألا تزيد المدة على تسعة أشهر ، ولا يجوز الطعن في الأمر الذي يصدر بتبدل الطلب أو رفضه". وعند التأخر في رفع أحد الأقساط فإنها تحل جميعها ، بل ويجوز للقاضي الرجوع فيما أصدره من أن إذا رأى مقتضى لذلك".

124- التنفيذ الجبري :
     أجازت المادة 506 إجراءات جنائية من أجل تنفيذ أحكام الغرامة أن يجرى تحصيلها بالطرق المقررة في قانون المرافعات في المواد المدينة والتجارية أو بالطرق الإدارية المقررة لتحصيل الأموال الأميرية المستحقة للحكومة.

125- التنفيذ بطريق الإكراه البدني :
     قررت المادة 507 إجراءات جنائية هذا الطريق إذا لم يدفع المتهم المبالغ المستحقة للحكومة. فللنيابة عند عدم الدفع أن تصدر أمراً بالإكراه البدني ، ويكون هذا الإكراه بالحبس البسيط وتقدر مدته باعتبار يوم واحد عن كل خمسة جنيهات (م.511 إجراءات جنائية ).

وقررت المادة 511 أنه لا تزيد مدة الإكراه البدني في مواد المخالفات عن سبعة أيام للغرامة وفى مواد الجنح والجنايات فإن المدة لا تزيد على ثلاثة أشهر للغرامة. وعلى ذلك إذا تبقى في ذمه المحكوم عليه مبالغ أخرى على سبيل الغرامة بعد استنفاذ هذه المدد فإنه يجري التنفيذ باستخدام الطريق المدني (التنفيذ الجبري) المنصوص عليه في قانون المرافعات.

وقد حظر المشرع اللجوء للإكراه البدني كطريق لتنفيذ الغرامات والمبالغ المحكوم بها للحكومة تجاه المحكوم عليهم الذين لم يبلغوا من العمر خمس عشرة سنة كاملة وقت ارتكاب الجريمة ، ولا على المحكوم عليهم بالحبس مع إيقاف التنفيذ (م 512 إجراءات جنائية). وعلة ذلك أنه متى كانت الدولة قد قدرت أن حالة هؤلاء لا توجب أن يزج بهم في السجن كعقوبة ، فمن باب أولى ألا يلجأ للحبس تحت مسمى الإكراه البدني ، خاصة أن هذا الأخير وسيلة لتنفيذ العقوبة وليس في حد ذاته عقوبة.


126- ب : عقوبة المصادرة:
127- تعريف المصادرة :
     المصادرة Confiscation عقوبة مالية تتضمن نقل ملكية المال محل المصادرة جبراً وإضافته إلى ملك الدولة بدون مقابل. وهى بهذا المعنى تشترك مع الغرامة في كونها عقوبة مالية. غير أن المصادرة تختلف عن الغرامة في كون المصادرة عقوبة عينية تنصب على مال بعينه كانت له صله بالجريمة المرتكبة من المحكوم عليه ، أما الغرامة فهو عقوبة نقدية لا ترد على مال بعينه ، فهى لا تنشئ إلا حق دائنية للدولة قبل المحكوم عليه. يضاف إلى ذلك أن المصادرة عقوبة تكميلية بحسب الأصل ، في حين أن الغرامة يمكن أن تكون عقوبة أصلية كما سلف وأوضحنا. كما أن الغرامة قد تعلق بالمخالفات والجنح والجنايات ، أما المصادرة فيقتصر مجالها على الجنح والجنايات فقط.

128- أقسام المصادرة :
     المصادرة نوعان ، فقد تكون مصادرة عامة Confiscation générale  ، وتعني نزع كل أموال المحكوم عليه لصالح الدولة وبدون مقابل  ، وقد تكون المصادرة خاصة Confiscation spéciale حينما تنصب على مال أو أكثر معين من أموال المحكوم عليه سواء آكان منقولاً أو عقاراً.

والنوع الأول تحظره أغلب التشريعات المعاصرة ، ومنها الدستور المصري في مادته رقم 36 عندما قررت أن "المصادرة العامة للأموال محظورة ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي". والغلة من ذلك أن لهذا النوع من المصادرة أثار خطره ومتجاوزه سواء على المحكوم عليه نفسه أو على من يعولهم أثناء حياته وحرمان ورثته من حقوقهم المتعلقة بأموال المحكوم عليه.

129- طبيعة المصادرة : 
     يمكن أن ينظر للمصادرة من نواح ثلاث تبرز الطابع المختلط للمصادرة في التشريع المصري : فهى قد تكون عقوبة جنائية ، وقد تكون تدبيراً احترازياً وقائياً ، وقد تكون تعويضا.

130- المصادرة كعقوبة جنائية :
     تكون المصادرة عقوبة إذا كان محلها أشياء مما يباح حيازته وتداوله بحسب الأصل. وتكون المصادرة في هذه الحالة عقوبة تكميلية ، والتي قد تكون جوازية ، كما هو الحال في المادة 30/1 عقوبات حين نصت على أنه "يجوز للقاضي إذا حكم بعقوبة لجناية أو جنحة أن يحكم بمصادرة الأشياء المضبوطة التي تحصلت من الجريمة وكذلك الأسلحة والآلات المضبوطة التي استعملت أو التي من شأنها أن تستعمل فيها". كما قد تكون المصادرة عقوبة تكميلية وجوبية كما هو الحال في المادة 110 عقوبات التي توجب الحكم في جميع الأحوال بمصادرة ما يدفعه الراشي أو الوسيط على سبيل الرشوة. وكذلك الشأن أيضا بالنسبة لما نصت عليه المادتان 352-353 عقوبات الواردتان في باب ألعاب القمار واليانصيب والبيع والشراء بالنمرة المعروفة باللوتري.

وقد قيد المشرع المصادرة حال الحكم بها كعقوبة بألا تمس بحقوق الغير حسني النية (م 30/1). ويقصد بالغير هنا من كان أجنبياً عن الجريمة ، أي لم يكن فاعلاً فيها ولا شريكاً. فإذا كان المحكوم في مواجهته بالمصادرة قد باع هذا المال المصادر إلى شخص من الغير ، فإن هذا المال يؤول للدولة محملة بحق الملكية المقرر للغير حسن النية.

131- المصادرة كتدبير احترازي وقائي :
     تكون المصادرة تدبيراً وقائيا إذا انصبت على مال مما يعد صنعه أو استعماله أو حيازته أو بيعه أو عرضه للبيع جريمة في ذاته. وهذا ما أشارت إليه الفقرة الثانية من المادة 30 عقوبات عندما أوجبت المصادرة عند ثبوت أن الشيء المصادر يثبت بشأنه أحد الأشكال السالفة ، وذلك حتى ولو لم يكن الشيء مملوكا للمتهم. وهذا الامتداد الأخير يكشف عن طبيعة المصادرة كتدبير ، إذ لو كانت عقوبة هنا لما امتدت إلى أموال غير المتهم.

والمصادرة في تلك الحالة وجوبية دائماً ، نظرا لطبيعتها الخاصة. كما أنه يحكم بها حتى مع الحكم بالبراءة أو بسقوط الدعوى العمومية لوفاة المتهم أو صدور عفو عن جريمته. لأن الهدف منها هو منع تداول أشياء ذات طبيعة خطره.

132- المصادرة كتعويض :
     قد يقصد بالمصادرة تيسير سداد التعويضات المحكوم بها للمدعي. وهذا ما جاء على سبيل المثال في المادة 36 من القانون 57 لسنة 1939 الخاص بالبيانات والعلامات التجارية والتي يجرى نصها على النحو التالي "يجوز للمحكمة في أية دعوى مدنية أو جنائية أن تحكم بمصادرة الأشياء المحجوزة أو التي تحجز فيما بعد للاستنزال ثمنها من التعويضات أو الغرامات أو التصرف فيها بأية طريقة أخرى تراها المحكمة مناسبة". 

والواضح من هذا النص أن حكم المصادرة قد يصدر من المحكمة المدنية أو الجنائية ، دون تقيده في الحالة الأخيرة بصدور حكم بالإدانة قبل المحكوم تجاهه بالمصادرة.

المطلب الثالثالعقوبات الجنائية من حيث مدتها

133- تقسيم : 
     يقسم الفقه الجنائي العقوبة من حيث المدة La durée de la peine إلى عقوبات مؤبدة وأخرى مؤقتة وأخرى غير محددة المدة. وهذا التقسيم لا يتعلق إلا بصنف معين من العقوبات وهى العقوبات الماسة والسالبة للحقوق والمزايا. أما عقوبة الإعدام والمصادرة والغرامة والإزالة ونشر الحكم وغلق المنشأة…الخ فلا محل لتقسيمها من حيث المدة.

134- أولاً : العقوبات الجنائية المؤبدة :
     العقوبة المؤبدة Peine perpétuelle هى التي يستغرق تنفيذها كل حياة المحكوم عليه ، أي يكون لها صفة الدوام فلا تنقضي مهما مضى من زمن. ومثال ذلك السجن المؤبد  ، فهو يمتد بحسب الأصل طيلة حياة المحكوم عليه. ومثال ذلك أيضا حرمان المحكوم عليه من تقلد وظائف الحكومة أو التحلي بالرتب والنياشين ، وحرمانه من عضوية المجالس الحسبية والمحلية واللجان العامة متى كان الحكم صادراً عليه بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد. فهذه النماذج من العقوبات التبعية تمتد إلى نهاية حياة المحكوم عليه (م25 عقوبات فترة أولى وثانية وسادسة) .

وحينما تكون العقوبة مؤبدة فإن المشرع يستهدف بها إنفاذ الهدف الاستئصالي للعقوبة ، بمعنى الخلاص من المجرم بإبعاده عن المجتمع. ولذلك فإن هذا النمط من العقوبات لا يتقرر إلا في الجرائم الخطيرة وقبل عتاة الإجرام الذين لا يرجى صلاحهم.

وقد انتقد البغض فكرة العقوبة المؤبدة ، على أساس أنها تفقد المحكوم عليه كل أمل في العودة للحياة الاجتماعية الطبيعية ، وبالتالي لا يكون لديه الوازع للإصلاح والتأهيل. يضاف إلى ذلك أن تلك العقوبات تجعل المجرم لا يخشى شيئاً إن ارتكب جريمة تالية حتى داخل المؤسسة العقابية ، كالاعتداء على زملائه أو على الحراس أو على رجال الإدارة بالسجن ، إذ أن العقوبة المؤبدة تستغرق بطبيعة الحال كل عقوبة مؤقتة قد يحكم بها.

وكان لهذه الانتقادات أثرها في توجيه نظر المشرع الجنائي نحو ابتداع أساليب معاملة عقابية تفريدية تقضى على مثل تلك العيوب. ومثال ذلك الأخذ بنظام الإفراج الشرطي ، بحيث تتحول العقوبة المؤبدة إلى عقوبة مؤقتة بعد فترة زمنية من التنفيذ إذا ثبت أن المحكوم عليه قد تحسن سلوكه وأصبح مقبلاً على برامج الإصلاح والتأهيل.

135- ثانياً : العقوبة المؤقتة  :
     تكون العقوبة مؤقتة Peine temporelle  متى كان لها مدة محددة تنتهي العقوبة بانتهائها. فهى لا تستغرق حياة المحكوم عليه ، بل لها مقدار زمني معين. وتدخل معظم العقوبات المتعارف عليها في هذا النوع. فالسجن المشدد والسجن لهما حد أدنى هو ثلاث سنوات وحد أقصى خمس عشرة سنة. أما الحبس فيتراوح بين حد أدنى 24 ساعة وأقصى ثلاث سنوات. وكذلك فإن مراقبة البوليس لا يتجاوز حدها الأقصى خمس سنوات. أما عقوبة العزل فلا تقل عن سنة ولا تزيد على 6 سنوات (م26/2 عقوبات).

وهناك عقوبات تبعية تدخل ضمن العقوبات المؤقتة أو محددة المدة. مثال ذلك حرمان المحكوم عليه من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال أو حرمانه من إدارة أمواله أو التصرف فيها ، أو حرمانه من عضوية المجالس الحسبية والمحلية واللجان العامة عند الحكم بعقوبة جناية (م25/3 ، 4 ، 5).

136- ثالثاً : العقوبة غير محددة المدة  :
     العقوبة غير محددة المدة Peine indéterminée هى العقوبة التي يقتصر فيها القاضي على تقرير الإدانة ووضعه في المؤسسة العقابية دون أن يحدد في حكمه مدة للمحكوم عليه ، تاركاً أمر تحديدها فيها بعد إلى السلطة القائمة على التنفيذ ، في ضوء ما يظهر من تحسن على سلوك المحكوم عليه. فإما أن تفرج عنه أو تستمر في التنفيذ لفترات أخرى غير محددة. وعلى هذا تختلف العقوبة غير محددة المدة عن العقوبة المؤبدة في كون الأخيرة محددة سلفا من القاضي بمدة حياة المحكوم عليه ، وبانتهاء هذه الحياة تنهي العقوبة.

وقد ظهرت فكرة المناداة بهذه العقوبات تحت تأثير أفكار المدرسة الوضعية الإيطالية.  كما دعت إليها المؤتمرات الدولية في واشنطن عام 1910 ولندن عام 1925 ، كما بدأت تقرها بعض التشريعات تجاه مرضى العقول وصغار المجرمين الذين يرجى علاجهم وإصلاحهم .

ومن أجل محاولة الحد من الاعتراضات التي قيلت في شأن هذا النوع من العقوبات ، من حيث كونها تمثل اعتداء على حريات الأفراد خاصة عندما تفوض السلطة التنفيذية في تقدير مدة العقوبة ومدى صلاح المحكوم عليه من عدمه ، رغم أن هذا التفويض لا يجب أن يتم حيث أن العقوبة قضائية ولا يملك القاضي أن يفوض أحداً في ذلك  ، رؤي ألا يكون عدم تحديد المدة مطلقاً بل يكون نسبياً ، حتى لا يترك المحكوم عليه تحت رحمة السلطة المنوط بها أمر الإفراج عنه. ويكون ذلك بفرض حدين للمدة ، حد أدنى لا يخلى سبيل المحكوم عليه قبل انقضائه ، وحد أقصى يخلى سبيل المحكوم عليه عند بلوغه. كما رؤي أن يسند أمر تقرير الإفراج من عدمه إلى السلطة القضائية ، لما يشوب عمل السلطة التنفيذية من انحراف وسوء تقدير. ويفضل دائماً أن تكون السلطة صاحبة الحق في تقرير الإفراج هى ذات المحكمة التي أصدرت حكم الإدانة مع امكان الاسترشاد برأي جهة الإدارة العقابية.

وقد أخذ المشرع المصري بفكرة العقوبة غير محددة المدة ، سواء المطلقة أو النسبية ، وذلك في حالتين : 
*- حالة الأحداث المجرمين : وهذه الحالة نموذج لعدم التحديد المطلق للمدة ،  حيث نص قانون الأحداث لسنة 31 لسنة 1974 في المادة 13 منه على أن يكون الإيداع في إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية. وإذا كان الحدث ذا عاهة يكون الإيداع في معهد مناسب لتأهيله، ولا تحدد المحكمة في حكمها مدة الإيداع. وبهذا الحكم أخذت المادة 107 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996. 
*- حالة الأحداث المشردين : وهذه الحالة مثال للعقوبة غير محددة المدة إلا أن عدم التحديد نسبي ، حيث نص القانون 2 لسنة 1908 في شأن الأحداث المشردين ومن بعده القانون رقم 124 لسنة 1949 والقانون 31 لسنة 1974 والقانون 12 لسنة 1996 في شأن الطفل (م 107/2 ، 108) على ألا يزيد الإيداع عن مدد معينة ، على أن ينتهي حتما ببلوغ المحكوم عليه الحادية والعشرين من عمره (م 110 من قانون الطفل) ، وذلك بصرف النظر عن مدة التدبير المحكوم به.

المطلب الرابع
العقوبات الجنائية من حيث أصالتها
137- تقسيم :
     طبقاً لهذا التصنيف تنقسم العقوبة إلى عقوبات أصلية Peines principales ، وأخرى تبعية Peines accessoires وثالثة تكميلية Peines complémentaires. 

138- أولاً : العقوبات الأصلية :
     العقوبة الأصلية هى العقوبة التي تكفي بذاتها لأن تكون الجزاء الوحيد المقابل للجريمة. فهي العقوبة الأساسية التي يلتزم القاضي بالنطق بها صراحة في الحكم وتحديد نوعها ومقدارها دون أي عقوبة أخرى. وقد عرفتها محكمة النقض بقولها أن العقوبة تعتبر أصلية إذا كونت العقاب الأصلي والمباشر للجريمة ووقعت منفردة دون أن يعلق القضاء بها على حكم بعقوبة أخرى .

والعقوبات الأصلية في القانون المصري هى العقوبات الواردة بالمواد 10 إلى 12 عقوبات، أي الإعدام والسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس والغرامة. كما تعتبر مراقبة البوليس عقوبة أصلية في بعض الجرائم الخاصة بالتشرد والاشتباه. على أن يلاحظ أن الغرامة هى العقوبة الأصلية في الجنح والمخالفات فقط. كما أن إدراج العقوبة في طائفة العقوبات الأصلية يجعلها سابقة في العود دون الأنواع الأخرى من العقوبات .

139- ثانياً : العقوبات التبعية :
العقوبة التبعية نوع من العقوبات التي لا تكفي بذاتها لأن تكون جزاء للجريمة ، لذا فهي تتبع الحكم بعقوبة أصلية وتدور في فلكها وجوداً وعدماً. وهذه التبعية تكون بقوة القانون ودون الحاجة إلى أن يذكرها القاضي صراحة في الحكم. فإذا ما فرض وبينها القاضي فإنه لا يضيف إلى حكمه شيئاً لأن السلطة القائمة على التنفيذ كانت ستنفذها حتى وإن أغفلها القاضي.
ومن أمثلة العقوبات التبعية العقوبات المنصوص عليها بالمادة 25 من قانون العقوبات المصري التي توجب حتماً أن يحرم كل محكوم عليه بعقوبة جناية من بعض الحقوق والمزايا. كذلك فإن مراقبة البوليس عقوبة تبعية في الأحوال المنصوص عليها في المادة 28 والمادة 75 عقوبات مصري ، وكذلك العزل في الأحوال المنصوص عليها في المادة 26/1 من مدونة العقوبات.

140- ثالثاً : العقوبات التكميلية :
العقوبة التكميلية - شأنها شأن العقوبة التبعية – لا تكفي بذاتها لأن تكون الجزاء المباشر للجريمة. فلا يقضى بها إلا إلى جانب عقوبة أصلية ، مع ضرورة أن يذكرها القاضي في حكمه ، فإن أغفلها فلا يجوز تنفيذها. وهذا هو ما يفرقها عن العقوبة التبعية. فهي – كما تقول محكمة النقض "أنها تحمل في طياتها فكرة رد الشيء إلى أصله وأنها عقوبات نوعية مراعى فيها طبيعة الجريمة" .

والعقوبة التكميلية قد تكون وجوبية ، أي يتعين على القاضي الحكم بها وإلا اعتبر حكمه معيباً. ومثال ذلك العزل من الوظائف الأميرية في الأحوال المنصوص عليها في المادة 27 عقوبات ، والمصادرة وفق المادة 30/2 عقوبات. ويمكن أن تكون جوازية ، بحيث يكون للقاضي الخيرة في النطق بها من عدمه اكتفاء بالعقوبة الأصلية. ومن أمثلة هذا النوع مراقبة البوليس في الجنح المنصوص عليها في المواد 320 و336 و355 و367 عقوبات. ومن قبيل ذلك أيضاً المصادرة إذا كان محلها أشياء تحصلت عن الجريمة أو أسلحة أو آلات استعملت أو كان من شأنها أن تستعمل في ارتكابها (م. 3/1). وكذلك عقوبة النشر الحكم في الصحف (م 198).

المطلب الخامس
العقوبات الجنائية من حيث مصدرها

141- تقسيم :
     تنقسم العقوبات حسب مصدرها إلى عقوبات وضعية وأخرى شرعية. وأساس هذا التقسيم هو الجهة المنشئة للعقوبة وقواعد تنفيذها.

142- أولاً : العقوبات الوضعية: 
     العقوبات الوضعية Les peines positives  هى الجزاءات التي يجرى سنها وتنفيذها وفق قواعد ونظم بشرية محضة. ومثالها الإعدام والسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس… الخ. وقد سبق لنا بيان بعض أحكام هذه العقوبات في بعض مواضع هذا المؤلف فنحيل القارئ الكريم إليها.
143- ثانياً : العقوبات الشرعية  :
144- تمهيد وتقسيم :
     العقوبات الشرعية Les peines islamiques هى جزاءات تحددت نوعاً ومقداراً من قبل الشارع الحكيم عز وجل في قرآنه أو في سنة رسوله أو إجماع الأمة ممثلة في علمائها. وعن هذا النوع الأخير تتغافل البلدان الإسلامية حالياً ، ماعدا القليل النادر منها كالسعودية وإيران وبعض ولايات السودان. وتنقسم العقوبات الشرعية إلى عقوبات حدية ، وإلى قصاص ودية ، وإلى عقوبات تعزيرية .

145- أ : العقوبات الحدية : 
     العقوبات الحدية هي العقوبات التي فرضت من قبل المولى عز وجل مقدرة وواجبة لعدوانها على حق من حقوق الله خالص أو على حق مشترك بين الله والعبد ولكن حق الله فيه غالب . وهى عقوبات لا يجوز فيها التبديل فيها بالزيادة أو النقص ولا يمكن تعديل نوعها ولا تقبل السقوط لا من قبل الأفراد ولا من الجماعة ، وهذا هو عله تعلقها بحق من حقوق الله. فهى ما شرعت من الله إلا لمصلحة المجتمع والناس كافة ودرءً للفساد عن دار الإسلام عامة. وتسمى الجرائم التي تتقرر لهل هذه العقوبات بجرائم الحدود وهي الزنا والسرقة وشرب الخمر والحرابة والقذف والردة والبغي .

وتتنوع العقوبات الحدية بين الرجم ، والقتل ، والجلد ، وقطع الأطراف ، والنفي ، وعدم قبول الشهادة.

146- الرجم : 
الرجم هو أحد العقوبات المقررة للزاني المحصن ، لقول الرسول (ص) "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" . وقوله (ص) لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى بثلاث ، الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" . وقد ثبت أن الرسول (ص) قد أمر برجم ماعز والغامدية عندما ثبت عليهما ارتكاب الزنا باعترافهما .
147- القتل :
     القتل هو أولى عقوبات الحرابة ، والتي قد تتحقق بأخذ المال على سبيل المغالبة مع القتل ، وقد تتحقق بالقتل إذا هدف المجرم إلى أخذ المال على سبيل المغالبة دون أن يأخذ مالاً بالفعل ، وقد تتحقق بأخذ المال على سبيل المغالبة دون قتل النفس ، وقد تتحقق فقط بإخافة السبيل ، أي بتهديد الطريق دون أن يأخذ مالا أو يقتل نفسا  . والحرابة جريمة أقرب في كثير من جوانبها للسرقة بالإكراه المعرفة في القوانين الوضعية.

وقد ثبت القتل كعقوبة لجريمة الحرابة بالقرآن ، لقوله تعالى " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" . ويتفق الجمهور أن القتل كعقوبة للحرابة لا تتقرر إلا في حالتين فقط ، هما حالة خروج قاطع الطريق لأخذ المال عنوة وعلى سبيل المغالبة فيأخذه ويقتل نفساً ، وحالة خروج المحارب لأخذ المال بالقوة فيقتل في سبيل ذلك نفساً دون أن يأخذ المال بالفعل .

والقتل أيضاً عقوبة جريمة الردة ، أي رجوع المسلم البالغ العاقل عن الإسلام باختياره من غير إكراه بالقول أو بالفعل أو بالامتناع عن فعل. وبالجملة إنكار وجحود المعلوم من الدين بالضرورة . ولقد ثبت حد الردة بالسنة لقوله (ص) "من بدل دينه فاقتلوه . وقوله (ص) "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني ، والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" . كما روى عن جابر رضي الله عنه أن امرأة تدعى أم رومان ارتدت عن الإسلام فلما بلغ أمرها رسول الله (ص)  أمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" . 
كما أن القتل عقوبة حدية لجريمة البغي. ويتفق جمهور الفقهاء على تعريف البغي بأنه "خروج فئة من المسلمين على الإمام بتأويل معين في الدين غير مقطوع بفساده ، مستخدمه في هذا الخروج القوة والمنعة والقتال" .

ولقد ثبت القتل عقاباً للبغي والبغاة بالقرآن لقوله تعالى " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" . ويباح قتل البغاة إلى الحد الذي يردعهم ويكسر شوكتهم ، فإن ظهر عليهم الحاكم وتغلب عليهم عصمت دمائهم وأموالهم، ويمكن للحاكم فقط أن يوقع عليهم عقوبة تعزيرية .

148- الجلد :
     عقوبة الجلد إحدى عقوبت الحدود الأصلية المقدرة لجرائم كثيرة منها :
*- زنا غير المحصن : لقوله تعالى "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" .
*- جريمة القذف : أي الرمي بالزنا أو نفى النسب  لقوله تعالى " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمََ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" .
*- شرب الخمر : وقد ثبتت حرمتها بالقرآن والسنة . أما عقوبتها فقد ثبتت بالسنة لقول أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما  "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين" . وقال على رضوان الله عليه وآله عندما سئل في حد شرب الخمر أنه "إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحده حد المفترى (القاذف) . والثابت لدى الأحناف والحنابلة والمالكية هى الجلد ثمانون جلده للروايات السابقة. أما الشافعية فيرون أنها أربعين جلده فقط  .

149- قطع الأطراف :
     قطع الأطراف عقوبة حدية مقدره لعدد من الجرائم الماسة بحقوق الله منها :
*- السرقة : لقوله تعالى " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" . ويتفق الفقهاء على أن المقصود باليد في الآية هى الأطراف عموماً. فالسارق لأول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، أي من مفصل الكتف ، فإن عاد وسرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب. فإن عاد وسرق ثالثة فلا قطع فيه وإنما يعزر بالحبس مدة غير محددة .
*- الحرابة : قطع الأطراف إحدى عقوبات الحرابة بعد القتل والصلب لقوله تعالى " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" .

150- النفي  : 
     عقوبة النفي عقوبة حدية قد تكون أصلية ، وذلك في جريمة الحرابة لقوله تعالى في سورة المائدة (آية 33) "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ". وقد تكون عقوبة النفي عقوبة تبعية ، بمعنى أنها تكون تابعة لعقوبة أخرى أصلية. وقد ثبت ذلك في حد الزنا بالحديث الذي رواه عباده بن الصامت أن رسول الله (ص) قال "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" .
151- المنع من الشهادة :
     المنع من الشهادة عقوبة حدية تبعية مؤبدة في جريمة القذف ، أى الرمي بالزنا أو نفي النسب. وذلك لقوله تعالى "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" . وهذه العقوبة حدية لكون المولى والشارع الحكيم هو الذي قدرها لتعلقها بحدود وحقوق الله. أما كونها تبعية مؤبدة فذلك لأنه يتوقف الحكم بها على عقوبة أصلية وهي الجلد ثمانون جلده في القذف ، ولأنها تستغرق طيلة حياة المحكوم عليه (القاذف).

152- ب : القصاص والديه :
     القصاص والدية نوع من العقوبات المقدرة شرعاً والتي يطلب توقيعها المجني عليه أو ولي دمه ، إذا انصب الاعتداء على حق خالص للعبد أو على حق مشترك بين الله والعباد ولكن حق العبد فيه غالب. وتعلق هذه العقوبات بحقوق العباد يعطي للمجني عليه أو وليه حق العفو بإسقاط العقوبة.

وعقوبة القصاص والديه تسري في حالة توافر إحدى الحالات التالية : 
*- القتل العمد : أي الاعتداء الذي يقصد به الجاني إزهاق روح إنسان أخر  وذلك باستعمال أداة من شأنها أن تؤدي إلي ذلك في الغالب كالسكين والرمح...الخ . وثبت القصاص بسند من القرآن لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" .

*- القتل شبه العمد : أي الاعتداء الذي يقصد به الجاني الضرب أو الجرح دون إزهاق الروح ولكنه يفضى إلى ذلك  (أي أنه الضرب أو الجرح المفضي إلى موت المعروف في القانون الوضعي). وفيه توجب الدية لقول الرسول (ص)" عقل "أي دية" شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه". والدية عبارة عن مقدار مالي  يؤدى على سبيل العقوبة والتعويض. فالدية عقوبة لأن الحكم بها غير متوقف على طلب المجني عليه ولا وليه. وللدية صبغة التعويض لكونها تدخل ذمة المجني عليه أو ورثته لا خزانة الدولة أو بيت المال ، ولكونها تسقط بتنازل المجني عليه ، ولكون مقدارها يتوقف على جسامة الضرر ، فتكون الدية مغلظة في حالة القتل العمد الذي لا قصاص فيه والقتل شبه العمد  وتكون الدية مخففة في حالة القتل الخطأ .
*- القتل الخطأ : وهو الذي لا تنصرف فيه إرادة الجاني إلى العدوان إطلاقاً. وهو على ثلاثة أنواع : إما الخطأ في القصد ، كأن يرمى إنسانا شيئا يظنه صيداً أو نحوه فإذا هو إنسان، وإما الخطأ في الفعل ، كأن يرمي إنساناً صيداً فيخطئه ويصيب إنسان ، وإما الخطأ بالتسبب ، كمن يحفر حفره في طريق للأغراض الصرف مثلاً فيسقط فيها أحد المارة فيموت . ولا يجب في القتل الخطأ القصاص وتجب فيه الدية لقوله تعالى " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" . ولقول المصطفى (ص) "العمد قود - أي قصاص - إلا أن يعفو ولى المقتول" . ويفهم من ذلك أن ما دون العمد لا قصاص فيه ومن ثم تجب الدية.

*- الجناية على ما دون النفس عمدا : ويقصد بالجناية على ما دون النفس عمداً كل أنواع الضرب والإيذاء المقصود والتي تصل إلى حد القتل العمد أو شبه العمد. مثال ذلك حالات بتر الأطراف أو فقد عضو بالجسم كالأذن اوالعين أوالتذوق ...الخ. وتتمثل عقوبة هذا الجرم في القصاص المتماثل لقوله تعالى " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" . والعفو في القصاص جائز اكتفاءً من المجني عليه بالدية. بل أن لهذا الأخير أن يعفو عن القصاص والدية ، تاركاً الجاني للأمر الحاكم إن شاء أن يوقع عليه عقوبة تعزيرية.

*- الجناية على ما دون النفس خطأ : ويقصد بهذا النوع من الجرائم كل إيذاء بالضرب ونحوه يمس بسلامة الجسم أو عضو من أعضائه دون توافر القصد في الإيذاء. ولا قصاص في الخطأ ، قتلاً كان أم إيذاء ، مما يوجب الدية فقط ، والتي يختلف مقدارها حسب جسامة الضرر الناشئ عن الجناية . وقد يلحق القصاص الدية بعض العقوبات التبعية مثال ذلك وجوب حرمان القاتل من الميراث متى كان بالغاً ورشيداً لقوله (ص) "لا ميراث لقاتل". 

153- ج : العقوبات التعزيرية : 
     العقوبات التعزيرية نوع يقابل الجرائم التي لا حد فيها ولا قصاص ولا دية. وسميت عقوبات تعزيرية لأنها من شأنها أن تدفع الجاني وترده عن ارتكاب الجرائم أو العودة لاقترافها . وأمر تحديد هذه الجرائم وكذلك عقوباتها موكول إلى الحاكم يقدره حسب تطور المجتمع الإسلامي ومدى الحاجة لحمايته من أنماط الإجرام الحديث. لذا فإن جرائم التعازير غير محددة فيدخل فيها كل الجرائم التي لا تجتمع فيها شروط الحد وكذلك أشكال الجرائم البعيدة عنها كالرشوة وخيانة الأمانة والسب والربا والغش التجاري . 

وعلى هذا تقوم سياسة التجريم والعقاب في الفقه الإسلامي على نظام يجمع بين الثبات والمرونة أما الثبات فينحصر بشأن الجرائم والعقوبات الحدية وهي جنايات (جرائم) لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، وقد أوجبها الشرع لعدوانها على حق من حقوق الله ولصيانة المجتمع ككل. أما المرونة فتتمثل في الجرائم والعقوبات التعزيرية الموكول أمر تحديدها إلى ولي الأمر وفقاً لما يراه صالحاً للأمة ، ووفقاً لما قد يطرأ على المجتمع الإسلامي من تغيرات نتيجة لتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية . ونود أن نشير إلى أنه من خلال الأنواع المختلفة من العقوبات الشرعية يحقق النظام الجنائي الإسلامي أهداف العقوبة مجتمعه كما حددتها النظريات الوضعية في العقاب وهى الردع العام والردع الخاص والعدالة. بل لا نشك في أن تلك الأهداف تتحقق على نحو أفضل في ظل النظام الجنائي الإسلامي إذا ما قورن بغيره من الأنظمة الوضعية. وجسامة العقوبات المقررة في التشريع والفقه الإسلامي ، فضلاً عن فورية تنفيذها وعلانيته أمر فيه الكفاية لتحقيق الردع العام والخاص. غير أن الأهداف الأخرى للعقوبة ليست ببعيدة عن النظام العقابي الإسلامي. 

فالإسلام ينشد الإصلاح والتأهيل ويظهر ذلك سواء من حيث طبيعة العقوبة أو من حيث أسلوب تنفيذها. فالنفي مثلاً كعقوبة مقررة  لجريمة الحرابة يستمر إلى أن ينصلح أمر الجاني المحارب. كما أن عقوبات القطع والجلد تنفذ بما يزجر الجاني لا بما يهلكه. فالعقوبات الإسلامية - وإن كانت بدينة – تترك للفرد فرصة البحث عن مصدر رزقه واستمرار اتصاله بأسرته فيرعاهم مادياً ومعنوياً. ويكفينا دليل على نشدان الإسلام للإصلاح أن إقامة الحد أو القصاص والدية إنما تتم بدافع التطهير من الذنب حتى يعود المجرم عضواً نافعاً في المجتمع.

وعدل الإسلام لا يعلوه عدل. فالعقوبة في الإسلام تنشد العدالة ، وذلك عن طريق إقرار القصاص من أجل إرضاء شعور المجني عليه وإطفاء نار الثأر والانتقام بداخله. وإذا كانت التشريعات الوضعية تتفاخر بأخذها بمبدأ "أن الأصل في الإنسان البراءة" ، وأنه لا عقوبة إلا على أساس الإدانة اليقينية ، فإن سيد الخلق (ص) قد سبق الفقه الوضعي في المناداة بذلك حينما قال الرسول الكريم (ص) ادرءوا الحد عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلو سبيله ، فإن للإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". فالأصل الذي لا يقبل استثناء أن الحدود تدرأ بالشبهات ولا حد عند الظن ، ويكفي هذا دليل على عدالة الإسلام وسياسته العقابية .

المبحث الرابعإشكاليات العقوبة الجنائية

154- تمهيد وتقسيم :
     أياً ما كان التقسيم المعتمد للعقوبة ، فإن بعض العقوبات قد أثارت عند تطبيقها العديد من المشكلات والجدل الفقهي ، وقد حدث ذلك على الأخص بالنسبة لعقوبة الإعدام وللعقوبات السالبة للحرية. وعرض المشكلات التي تتعلق بهذين النوعين من العقوبات هو مانسوف نفصله في المطلبين التاليين.

المطلب الأول
إشكالية عقوبة الإعدام 

155- تمهيد وتقسيم :
     الإعدام Peine de mort  هو أخطر وأشد أنواع العقوبات الجنائية على الإطلاق ، إذ يتضمن إزهاق الروح والحرمان من الحق في الحياة. تلك الجسامة دفعت المشتغلين بالحقل الجنائي إلى إثارة الجدل حول إبقاء أو إلغاء تلك العقوبة. ويتنازع الفقه الجنائي اتجاهين في ذلك ، أحدهم مؤيد للإبقاء عليها والأخر معارض يدعو إلى إلغائها . ومن وراء الفقه تنازعت التشريعات فمنهم من أبقى عليها (كالتشريع المصري) ، ومنهم من ألغاها (كبعض الولايات الأمريكية وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وغيرها). وتتجه المواثيق الدولية إلى التأكيد على ضرورة إحاطة هذه العقوبة بالضمانات الكافية في البلدان التي أبقت عليها.

ولبيان إشكالية عقوبة الإعدام يجدر بنا أولاً أن نبين الجدل الفقهي حول عقوبة الإعدام ، ثم بعد ذلك نوضح ضمانات تنفيذ هذه العقوبة حال الأخذ بها.

156- أولاً : الجدل الفقهي حول عقوبة الإعدام :
157- تمهيد وتقسيم :
     ظلت عقوبة الإعدام محتفظة بضرورتها العقابية في الردع فيما قبل القرن الثامن عشر. فجان جاك روسو دعا إلى الاحتفاظ بتلك العقوبة بحسبان أن الفرد بموجب العقد الاجتماعي قد قبل اندماجه في الجماعة وقبل قيام المجتمع بصيانة حقه في الحياة ، فإذا ما اعتدى الفرد بنفسه على المجتمع في شكل القتل فقد قبل مقدماً إعدامه. كما أن بيكاريا قد حبذ الإبقاء على عقوبة الإعدام في ظروف الفتنة السياسية والاضطرابات التي تتطلب توقيع أقصى العقوبات من أجل إقرار النظام. كما أن الشريعة الإسلامية تقرر هذه العقوبة كجزاء لبعض جرائم الحدود والقصاص . بل هى سمة من سمات النظام الجنائي الإسلامي وإرثا من تراثه.

على أنه منذ مطلع القرن الثامن عشر بدأ المفكرين والفلاسفة ينحون نحو مهاجمة هذه العقوبة ، فنشأ في الفقه تيارين منقسمين بين مؤيد ومعارض ولكل حجه وأسانيده. وتتصل هذه الآراء - مع تنوعها - بشرعية عقوبة الإعدام ، وملاءمتها ، وطبيعتها ، وكذلك فائدتها.

158- أ : الجدل من حيث شرعية عقوبة الإعدام :
     انتقد الرأي القائل بوجوب إلغاء عقوبة الإعدام هذه العقوبة من حيث أنها لا تجد سنداً شرعياً. وفى تفسير ذلك يقولون بأن المجتمع لم يهب الحياة للفرد ، بل إن تلك الحياة هى هبة الخالق عز وجل ، وبالتالي فإن الدولة أو المجتمع لا يحق له أن يحرم الفرد من حقه في الحياة.

بيد أن القائلين بالإبقاء على تلك العقوبة يردون على ذلك بقولهم أن الحرية أيضا هبة الله للإنسان وليست هبة المجتمع لأن الأفراد ولدوا أحراراً. فلماذا لم يتم الاعتراض على العقوبات السالبة للحرية مع أن أساس حق العقاب واحد بالنسبة لكافة العقوبات على اختلاف أنواعها. وبالتالي فإن البحث في شرعية العقاب من حيث مانح الحق في الحياة أو الحق في الحرية سيؤدى إلى تعطيل تطبيق العقوبات جميعها.

159- ب : الجدل من حيث تطبيق عقوبة الإعدام :
     قيل في الاعتراض على هذه العقوبة انه لا يمكن الرجوع فيها أو إزالة أثارها ، فهى عقوبة ذات حد واحد ولا يستغرق تنفيذها زمناً. فإذا ما نفذت استحال الرجوع فيها وإصلاح ما يكون قد حدث من خطأ في الحكم القضائي. فإدانة البريء أمر مازال ممكن ، وسيؤذي العدالة كذلك كون الإدانة قد تضمنت عقوبة الإعدام. فالضمير العام سوف يظل مثقلاً بذنب لا يمحى متمثلا في إعدام شخص برئ.

غير أن المؤيدين لهذه العقوبة يردون على ذلك بأن كافة التشريعات التي أبقت على تلك العقوبة تحيطها بالعديد من الضمانات التي تمنع أو تحول دون الوقوع في الخطأ القضائي. كما أن هذا الأخير (الخطأ) أمر ممكن الحدوث بشأن العقوبات السالبة للحرية ، بل بالنسبة لكافة العقوبات ، فهل نطالب بإلغاء كافة العقوبات ؟!!. وكما لا يمكن تعويض حياة إنسان لا يمكن تعويض حريته أيضا.

160- ج : الجدل من حيث ملائمة عقوبة الإعدام : 
     حاول المعارضون لتلك العقوبة إبراز عدم ملائمتها ، بقولهم أن هذه العقوبة تحدث ضرراً غير محدود بالجاني في حين أن أذى وضرر الجريمة يكون محدوداً بالنسبة للمجتمع ، مما يرفع التناسب بين الجريمة والجزاء.

إلا أنه تم الرد على ذلك بالقول بان التناسب بين الجريمة وعقوبة الإعدام المقررة لها يتحقق من كون هذه العقوبة لا تتقرر إلا بصدد الجرائم شديدة الخطورة على المجتمع وعلى حياة الأفراد. فضلا عن أن العدالة توجب في حالة إزهاق روح برئ بالقتل مثلاً أن يقتص من الجاني بإزهاق روحه. فالأرواح تتكافأ ، والقول بغير ذلك يعلي من قيمة نفس وروح الجانى القانونية بالمقارنة بمثيلتها لدى المجني عليه.

161- د : الجدل من حيث فائدة عقوبة الإعدام :
     احتج المعارضون على تلك العقوبة بقولهم أنها غير مجديه ولا فائدة منها ، سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة للمجتمع. فالإعدام عقوبة لا يتحقق فيها معنى الإصلاح والتأهيل ، إنما يكون الانتقام الهدف الأسمى. فضلاً عن أن الإحصاءات قد اثبتت أن معدلات الجريمة لم تنقص في المجتمعات التي مازالت تأخذ بهذه العقوبة ، كما لم تزد نسبة الإجرام في الدول التي ألغتها ، مما ينفى فائدتها بالنسبة للمجتمع ككل.

بيد أن المؤيدين للإبقاء على تلك العقوبة قد ردوا على ذلك بقولهم أن عقوبة الإعدام لا يثبت توقيعها إلا بشأن المجرمين عتاة الإجرام ، والذين يثبت بحسب وضعهم الإجرامي عدم الأهلية للإصلاح. كما أنه من الصعب الربط بين معدل الجريمة وبين كون تلك العقوبة ألغيت أو تم الإبقاء عليها ، حيث لا تتوافر إحصاءات مماثلة عن كم الجرائم الذي لم يقع خشيه الحكم بالإعدام. يضاف إلى ذلك أن لتلك العقوبة أثرها الكبير في تحقيق الردع العام. وليس أدل على ذلك من أن الدول التي كانت قد ألغتها قد اضطرت إلى إقرارها مرة ثانية ، بل وتظهر من آن لأخر - وتحت تأثير بعض الحوادث المؤثرة في المجتمع – دعوات للمطالبة بإعادة عقوبة الإعدام.

وفى الحقيقة فإن الرأي حول الإبقاء أو إلغاء عقوبة الإعدام هو أمر يرتهن بمبادئ وقيم وأخلاق كل مجتمع. لذا فمن الصعب فرض رأى معين قد يتصادم مع أسس المجتمع. ولما كانت الشرعية الإسلامية وحضارتها هى عصب وأساس التشريع المصري في كل فروعه ، فإننا ندعو المشرع إلى الإبقاء على تلك العقوبة توافقاً مع ما قررته الشريعة الغراء في شأن القصاص شريعة النبيين أجمعين في كافة الشرائع السماوية .

وإذا كنا قد أيدنا الإبقاء على تلك العقوبة في التشريع المصري ، إلا أننا ندعو المشرع أيضا إلى الأخذ بالمواثيق الدولية والإعلانات العالمية الخاصة بحقوق الإنسان وما جاء فيها بشأن عقوبة الإعدام. من ذلك ما جاء بالمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966 وتم تنفيذه في 23 مارس 1976 التي نصت فقرتها الثانية على أنه "لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة…". ونرى كذلك حظر إقرار عقوبة الإعدام بشأن جرائم الرأي والفكر أو بشأن الصغار والأحداث (م6/5 من العهد).

162- ثانياً : ضمانات الحكم بالإعدام وتنفيذه :
     أحاط المشرع المصري عقوبة الإعدام بالعديد من الضمانات التي تكفل الاطمئنان لسلامة الحكم القضائي الصادر بها وإلى ما قبل تنفيذها. ويمكن أن نشير بصفة خاصة إلى الآتي :

163- أ : اعتماد جسامه الجريمة معيارا لعقوبة الإعدام
أخذ المشرع المصري بما دعت إليه المواثيق الدولية من عدم وجوب تقرير تلك العقوبة إلا جزاء للجرائم الشديدة والجسيمة. مثال ذلك جنايات القتل مع سبق الإصرار أو الترصد أو القتل بالسم (م 230–233 عقوبات) ، والقتل المقترن بجناية والمرتبط بجنحة (م 234/2) ، والحريق العمد الذي ينشأ عنه موت شخص (م 257) ، وتعطيل المواصلات إذا نشأ عنه موت شخص (م 168) ، وشهادة الزور إذا حكم على المتهم المشهود ضده بالإعدام ونفذت فيه (م 295) ، وبعض جنايات أمن الدولة (م 77–89 عقوبات) ، وجنايات المخدرات المنصوص عليها في المادة 33 من القانون 182 لسنة 1960 المعدلة بالقانون رقم 122 لسنة 1989.

164- ب : أخذ رأى المفتي : 
     أوجب المشرع قبل الحكم بالإعدام استطلاع رأى المفتي. فتنص المادة 381 إجراءات جنائية على أن "… ويجب عليها (أي المحكمة) قبل أن تصدر هذا الحكم (الإعدام) أن تأخذ رأى مفتي الجمهورية. ويجب إرسال أوراق القضية إليه ، فإذا لم يصل رأيه إلى المحكمة خلال عشرة أيام التالية للإرسال الأوراق إليه ، حكمت المحكمة في الدعوى".

ويظهر من ذلك أن رأى المفتى استشاري ، ويمكن للمحكمة أن تحكم دون وروده ، ولها أن تطرحه وتأخذ بغير ما جاء فيه إذا ورد الرد في المواعيد. كما أن المحكمة غير مكلفة بالرد عليه أو مناقشته.
165- ج : اجتماع أراء أعضاء المحكمة :
     الأصل في الأحكام أن تصدر بأغلبية الآراء في المحاكم التي تتشكل من أكثر من قاض. وقد خرج المشرع على هذا الأصل في حالة الحكم بالإعدام إذ اشترط المشرع في المادة 381/2 إجراءات جنائية أن "لا يجوز لمحكمة الجنايات أن تصدر حكما بالإعدام إلا بإجماع أراء أعضائها". وهذه ضمانه من أهم الضمانات التي إذا لم تراعى بطل الحكم وتعين نقضه.

166- د : العرض على محكمة النقض :
     أوجب المشرع على النيابة العامة أن تعرض الحكم الصادر حضوريًا بالإعدام على محكمة النقض ، حتى ولو لم يطعن المحكوم عليه في الحكم الصادر ضده ، كي تتأكد المحكمة من سلامة الحكم من حيث تطبيق القانون (م 46 من القانون 57 لسنة 1959 بشان حالات وإجراءات الطعن بالنقض). ويكون لمحكمة النقض أن تنقض الحكم لمصلحة المتهم من تلقاء نفسها إذا تبين لها مما هو ثابت فيه أنه مبني على مخالفة القانون أو على خطأ في تطبيقه أو تأويله أو أن المحكمة التي أصدرته لم تكن مشكلة تشكيلاً صحيحاً أو لا ولاية لها بالفصل في الدعوى ، أو إذا صدر بعد الحكم المعطون فيه قانون يسرى على واقعه الدعوى (م 35/2 وم 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن بالنقض).

167- هـ : العرض على رئيس الجمهورية :
أوجبت المادة 470 إجراءات جنائية رفع الحكم النهائي الصادر بالإعدام إلى رئيس الجمهورية لينظر في امكان صدور عفو عن المحكوم عليه أو إبدال العقوبة المحكوم بها. ويقوم على تنفيذ هذا الإجراء وزير العدل. على أنه ينفذ الحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو أو بإبدال العقوبة في ظرف أربعة عشر يوما .

فإذا استوفى الحكم بالإعدام كل تلك الإجراءات وجب تنفيذه ، وتتقيد جهة التنفيذ ببعض الإجراءات منها :
*- تأجيل تنفيذ حكم الإعدام على المرأة الحبلى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات). وعله هذا القيد هو إنقاذ الجنين كي لا يؤخذ بذنب أمه عملاً بمبدأ شخصية العقوبة كما سبق وأن ذكرنا .
*- تأجيل تنفيذ أحكام الإعدام الباتة في الأعياد الخاصة والرسمية المتعلقة بديانة المحكوم عليه (م 475 إجراءات)
*- أن يجرى التنفيذ داخل السجن أو في مكان مستور بحضور أحد وكلاء النائب العام ومندوب عن وزارة الداخلية ومأمور السجن وطبيب السجن أو أي طبيب أخر تندبه النيابة العامة. ولا يجوز لغير هؤلاء حضور التنفيذ إلا بإذن خاص من النيابة العامة. ويجوز أن يؤذن للمدافع عن المحكوم عليه بالحضور (م 473).
المطلب الثاني
إشكاليات العقوبات السالبة للحرية

168- تمهيد وتقسيم  :
     يقصد بالعقوبات السالبة للحرية Peines privatives de liberté العقوبات التي يكون مضمونها حرمان المحكوم عليه من حريته الشخصية وذلك عن طريق إيداعه إحدى المؤسسات العقابية. ويمثل لهذه العقوبات في التشريع المصري بالسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس. ومن المعلوم أن تلك العقوبات ظهرت مع بدء العصور الوسطى وثورة مفكري هذه العصور على قسوة العقوبات البدنية المطبقة ومحاولتهم إصلاح النظام الجنائي. فقبل تلك الفترات الزمنية كان السجن مجرد وسيلة للتحفظ على المتهم انتظاراً لتوقيع العقوبة عليه أو لانتظار محاكمته من قبل القضاء.

وقد أثار الأخذ بهذا النوع من العقوبات الجدل الشديد في الفقه ، وذلك من زاويتين : الأولى تتعلق بالجدل حول جدوى تعددها ، والثانية ترتبط بالجدل حول جدوى العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة. وحول كلا المشكلتين تنازع الفقه ، فظهرت اتجاهات تدعو إلى توحيد العقوبات السالبة للحرية وإلى إلغاء العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.  

169- أولاً : إشكالية توحيد العقوبات السالبة للحرية :
170- تقسيم :
     لإبراز مشكلة توحيد العقوبات السالبة للحرية يتعين علينا أن نوضح مضمون مشكلة التوحيد وتطورها ، ثم بيان حجج المؤيدين والمعارضين للتوحيد ، وأخيراً بيان موقف التشريعات المقارنة من تلك المشكلة.

171- أ : مضمون مشكلة التوحيد وتطورها :
     يثور التساؤل بين الفقه حول ما إذا كان من الأفضل تعدد أنواع العقوبات السالبة للحرية تبعا لجسامة الجريمة ، أم أن من الأفضل توحيد كافة العقوبات السالبة في عقوبة واحدة لها اسم واحد وتتفاوت من جريمة إلى أخرى ومن مجرم إلى أخر حسب المدة فقط.

والذي أظهر تلك المشكلة هو اتجاه التشريعات الجنائية الحديثة نحو تبني التقسيم الثلاثي للجرائم حسب نوع ومقدار العقوبة ، ومن ذلك التشريع المصري الذي يقسم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات ، ويفرد لكل نوع من الجرائم عدد من العقوبات يختلف نوعاً ومقداراً. ويبدو على هذا التقسيم أنه يأخذ في اعتباره جسامه الجريمة من أجل تحديد نوع ومقدار العقوبة ، بما يهمل في الحقيقة شخصية المجرم حين تقدير العقوبة. على هذا النحو ذهب البعض إلى القول بأنه لابد من توحيد وجمع العقوبات السالبة للحرية في عقوبة واحدة مع تفريدها حسب المدة وفق ما يتكشف بعد ذلك من ظروف تتصل بجسامه الفعل الإجرامي وحالة المجرم الشخصية والاجتماعية.
ولقد بدأت الدعوة لهذا الاتجاه التوحيدي بهدف القيام بعمل إنساني خالص ، مؤداه التخلص من عقوبة الأشغال الشاقة التي تقوم في جوهرها على فكرة الإيلام والتكفير عن الذنب. ثم بدأت هذه الحركة تتعاظم أواخر القرن التاسع عشر ومع تغير نظرة الفقه الجنائي نحو الجريمة والمجرم ، وحين ظهر الإصلاح والتأهيل كأحد الأغراض السامية للعقوبة.

والحق أن الفضل يرجع على العديد من المفكرين في الدعوة لهذا الاتجاه من أمثال شارل لوكا Lucas في فرنسا عام 1830 وإلى أوبر ماير Obermaier في ألمانيا عام 1835 .

وقد كانت هذه الفكرة مثار بحث في المؤتمرات الدولية الجنائية التي كان أولها في لندن عام 1879 ثم مؤتمر استكهولم عام 1878. ثم أصدرت الهيئة الدولية للعقوبات والسجون في عام 1946 توصية مؤداها الدعوة إلى أن تزول الفروق بين العقوبات السالبة للحرية المؤسسة فقط على طبيعة وجسامه الجريمة. ثم تأكدت هذه الدعوة في اجتماع ثان لهذه الهيئة في برن عام 1951 ، حيث تمت الموافقة على اقتراح بتأكيد أهمية تقرير عقوبة واحد سالبة للحرية يراعى فيها التفريد وتنوع المعاملة العقابية وفقا لحالة كل محكوم عليه وظروفه الشخصية والاجتماعية.

172- ب : موقف الفقه من فكرة التوحيد :
173- تقسيم :
     توزع الفقه حول فكرة التوحيد إلى اتجاهين : أحدهما مؤيد ، والأخر معارض ، ممثلاً لرأى الفقه الجنائي التقليدي.

174- الاتجاه المؤيد لفكرة التوحيد :
     استند أنصار الاتجاه التوحيدي إلى العديد من الجنح منها :
*- أنه لم يعد هناك مبرر لتعدد العقوبات السالبة للحرية بعد أن أصبح هدف كافة أنواعها هو التأهيل والإصلاح عن طريق تطبيق العديد من البرامج العلاجية والتعليمية والتهذيبية التي لا ترمى إلى إيلام المحكوم عليه.
*- أن الاتجاهات العقابية الحديثة تدعو إلى إتباع تصنيف علمي للمحكوم عليهم يعتمد على فحص دقيق للجوانب الشخصية والاجتماعية لكل محكوم عليه ، من أجل تحديد نوع المعاملة العقابية الملائمة. ويتم هذا التصنيف عن طريق اللجوء إلى الخبراء الاجتماعين والنفسين والأطباء وعلماء الاجتماع والإجرام. ولاشك أن إتباع منهج التوحيد يسهل من عمل هذا التصنيف بما يسهل في النهاية مهمة المؤسسة العقابية في إصلاح المجرم وتأهيله.
*- أن الفروق بين العقوبات السالبة للحرية ما هى إلا فروق نظرية بحته ، أما في الواقع العملي فلا فارق بين أنواعها حيث يجرى التنفيذ بأسلوب واحد ، وهو ما يعنى إتباع فكرة التوحيد على المستوى العملي والواقعي. وهذا بالفعل الذي يجرى في مصر حيث تنفذ عقوبة السجن (المحكوم بها في الجنايات) وكذلك عقوبة الحبس (المحكوم بها في الجنح) داخل السجون العمومية. كما أن المشرع المصري يعفي أحيانا بعض الفئات من الخضوع لعقوبة السجن المؤبد أو المشدد مما يعنى التوحيد العملي بين تلك العقوبة والعقوبة الأدنى منها. كما أن المشرع يجمع أحياناً طوائف من المحكوم عليهم في مؤسسات عقابية خاصة، بالنظر إلى ما يحتاجون إليه من معاملة من نوع معين ، دونما النظر لنوع جريمتهم ، وهو ما يعنى أنه قد وحد بين عقوباتهم من الناحية العملية.

175- الاتجاه المعارض لفكرة التوحيد :
     على الرغم مما قدمه أنصار فكرة التوحيد من حجج قوية لتأييد وجه نظرهم ، إلا أن فكرة التوحيد مازالت تلاقى مقاومة شديدة من جانب نفر من الفقه ، وذلك للحجج التالية :
*- أن الأخذ بتوحيد العقوبات السالبة للحرية تحت مسمى عقوبة واحد كالحبس أو السجن مثلا يؤدي إلى إهدار غرض الردع العام وإرضاء الشعور بالعدالة الذين يجب أن تسعى العقوبة إلى تحقيقهما. الأمر الذي يقتضي أن تقدر العقوبة ومدتها ونوعها حسب جسامه الجريمة المرتكبة. فالتوحيد يؤدي إلى هدم التناسب الذي استقر لدى الكافة بين جسامه الجريمة وجسامه العقوبة. فقد استقر في الأذهان أن السجن المؤبد أو المشدد عقوبة جسيمة تواجه جرائم جسيمة ، أما الحبس فهى عقوبة يسيره خصصت لجرائم بذات القدر من اليسر. فإذا ما وحدنا بين العقوبات مثلا في صورة الحبس وجعلناها عقوبة للجرائم أيا كانت جسامتها لتساوى لدى الناس جسامه القتل والاغتصاب مع السرقة والضرب ، مما يقضى على الردع العام والشعور بالعدالة ، ولا يغنى عن ذلك كون العقوبة ستتفاوت من حيث المدة .
*- أن تعدد وتنوع العقوبات السالبة للحرية لا يتعارض بالضرورة مع قواعد مواجهة الجريمة. إذ أن هناك صله وثيقه تربط الجريمة بشخصية المجرم ، فالأولى تساهم في الكشف عن الثانية ، أي أن جسامة الجريمة تدل على خطورة شخصية المجرم والعكس بالعكس. مما يعنى أن التقسيم الثلاثي للجرائم لا يعتبر مجرد افتراض تشريعي غير مطابق للواقع. بل إنه مطابق للكثير من حقائق علم الإجرام والعلوم المتصلة بالجريمة عموماً والتي تكشف عن الربط بين تقسيم الجرائم حسب جسامتها وتصنيف المجرمين حسب خطورتهم ، وأن العلاقة بينهم علاقة غالبا طردية.
*- يضاف إلى ذلك أن إتباع نظام التوحيد ، أي التميز بين طوائف المحكوم عليهم لا حسب نوع العقوبة السالبة ولكن فقط بحسب مدتها ، سوف يحرم السلطة القضائية من سلطتها في التفريد القضائي وتضع المحكوم عليهم تحت تصرف الإدارة العقابية المشرفة على التنفيذ ، مما يحرم المحكوم عليه من الكثير من الضمانات القضائية خاصة المتصلة بالحيدة والموضوعية.
*- وأخيرا فإن الاتجاه التوحيدي يقتضي التغير الشامل في أحكام قانون العقوبات وأحكام قانون الإجراءات الجنائية ، حيث تتوقف العديد من أحكام كلا القانونين على التقسيم الثلاثي للجرائم إلي جنايات وجنح ومخالفات. كما أن التوحيد يوجب التعديل في نظم المؤسسات العقابية التي تعتمد تقسيماً ثلاثياً لها ، فتتنوع بين ليمانات وسجون عمومية وسجون مركزية .

والواقع أننا نؤيد تماما فكرة التوحيد بين العقوبات السالبة للحرية ، وجمعها في عقوبتين فقط أحدهما للجنايات وأخري للجنح. ذلك أن التوحيد يتبع منهجاً علمياً في تقدير العقاب يقوم علي الأخذ في الاعتبار ظروف كل محكوم عليه ودرجة خطورته الإجرامية ، بعض النظر عن جسامه الفعل الإجرامي. فليس صحيحا - كما يقول معارضوا التوحيد - أن هناك تلازم بين خطورة الجريمة وجسامتها وبين خطورة المجرم. فقد يرتكب مجرم مبتدئ جريمة جسيمة تحت ظرف عارض وكذلك قد يرتكب مجرم خطير العديد من الجرائم التافهة والبسيطة. وبالتالي فإن خطورة الجريمة نسبية في دلالتها علي خطورة الجاني , والعكس بالعكس.

ولا يقلل من قوة هذا الرأي ما قد يحتاجه الأخذ بالتوحيد إجراء تعديلات في أحكام قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية , ذلك أن هذه التعديلات لن تكون إلا في إحلال معيار محل معيار أخر , أي إحلال معيار مده العقوبة , محل معيار نوع العقوبة المتبع حالياً من قبل المشرع. فيكون سلب الحرية لمدة معينة عقوبة جناية وسلبها لمده أقل عقوبة جنحة وهكذا. فالتوحيد لا يعني إلغاء تقسيم الجرائم بل هذا الأخير سيظل قائما.

كما لا يقدح في ذلك خشيه سيطرة جهة الإدارة علي التنفيذ وإطلاق يدها في اختيار الأسلوب الملائم لتنفيذ العقوبات بما يهدر من حريات الأفراد. فالحقيقة أنه في ظل نظام التوحيد يكون من اللازم مد نطاق سلطه القضاء إلى مرحلة التنفيذ العقابي , كي يكون عمل الإدارة العقابية محاطاً بإشراف قضائي بما يضمن حقوق وحريات المحكوم عليهم.

176- ج : موقف القانون المقارن من فكرة التوحيد:
     لقد استجابت العديد من التشريعات الجنائية لنداء التوحيد بحيث تكون العبرة بمدة العقوبة وليس بنوعها. من ذلك قانون العقوبات الهولندي الصادر في عام 1881. الذي أدمج ثلاث عقوبات سالبة للحرية في عقوبة واحدة هي الحبس. وبهذا أيضا أخذت كل من بورتوريكو في عام 1902 ، وباراجواي عام 1914 ، والمكسيك عام 1931 ، وكوستاريكا عام 1941. وإلى هذا ذهب المشرع الإنجليزي عام 1948 بعد إصدارة لقانون العدالة الجنائية Criminal Justice Act    ، الذي ألغى التقسيم الثلاثي للعقوبات السالبة للحرية , بأن ألغى عقوبة السخرة المقابلة لعقوبة الأشغال الشاقة Penal Servitude . وكذلك ألغى عقوبة الحبس مع الشغل الشامل Imprisonment With Hard Labor  ، المقابلة لعقوبة السجن ، واستبدل بها عقوبة واحدة هى الحبس البسيط Simple Imprisonment  .

  والى هذا كان قد ذهب المشرع الفرنسي عندما ألغى الأشغال الشاقة Travaux forcée  عام 1960 ، وعندما أخذ في مشروع قانون العقوبات لعام 1978 بعقوبة الحبس كعقوبة سالبة للحرية وحيده (م 131 وما بعدها) . وقد اتبع قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو1992 فكرة تقسيم العقوبات السالبة للحرية إلى عقوبتين أحدهم للجنايات وأخرى للجنح يتفاوتا فقط من حيث المدة تبعاً لجسامه الفعل وخطورة المجرم. فجعل المشرع الفرنسي عقوبة الجنايات المقررة للأشخاص الطبيعيين تتمثل إما في الاعتقال أو السجن المؤبد متفاوتة بين ثلاثون عاما علي الأكثر وخمسة عشر عاماً علي الأكثر. أما مدة الاعتقال أو السجن المؤقت فهى عشر سنوات علي الأقل (م 131/1). أما عقوبة الحبس فهى عقوبة الجنح (م131- 3) مع تدرجها بين عشر سنوات على الأكثر وسبع سنوات علي الأكثر وخمس سنوات علي الأكثر وثلاث سنوات علي الأكثر وسنه علي الأكثر وستة أشهر علي الأكثر (م131- 4).

ولقد اعتمد منهج دمج العقوبات السالبة للحرية في عقوبتين فقط تشريعات أخرى منها قانون عقوبات البرازيل والأرجنتين وأوراجوي ونيوزيلندا والسويد.

ورغم أن التشريع المصري الحالي يأخذ بمبدأ تعدد العقوبات السالبة للحرية مقسماً إياها إلي أربع عقوبات (السجن المؤبد والسجن المشدد والسجن والحبس) ، إلا أن هناك اتجاه كبير يدعم فكرة دمج هذه العقوبات في عقوبتين هما السجن والحبس مع إلغاء عقوبة السجن المؤبد والمشدد واللذين حلا محل عقوبة الأشغال الشاقة بنوعيها ، بحسبان أنه لا يوجد فارق عملي يفصل بين هذه الأنواع من حيث أسلوب تنفيذها .

وبهذا أخذ مشروع قانون العقوبات المصري في عام 1967 ، حين نص علي عقوبتين سالبتين للحرية إحداهما السجن المؤبد أو المؤقت في الجنايات والثانية هي الحبس في الجنح ، وهو اتجاه محمود ندعم الأخذ به.

177- ثانياً : إشكاليه العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة :
178- تمهيد وتقسيم  :       
     تمثل مشكلة العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة Peines privatives de liberté à courte durée أدق المشكلات الجنائية والعقابية التي واجهت الفقه الجنائي , لما لها من تعقيدات تتصل بفاعلية السياسة العقابية ومدي قدرة هذا النوع من العقوبات على تحقيق أغراض العقاب المختلفة خاصة الغرض الأخلاقي والتأهيلي .

ويلاحظ بداءة أن فكرة العقوبة قصيرة المدة ليست فكرة قانونية محددة , فتخلو التشريعات الجنائية من تحديد العقوبات السالبة للحرية التي يمكن أن تعتبر من قبيل العقوبات قصيرة المدة. وعلي هذا فقد تنوعت المعايير من أجل تحديد المقصود بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة. فالبعض أخذ بمعيار مدة العقوبة والبعض أخذ بنوع المحكمة التي أصدرت الحكم والبعض الأخر أخذ بنوع الجريمة.

علي أن أهم تلك المعايير- والتي تتفق مع وصف العقوبة بققصيرة المدة - هو معيار المدة ، أي مدة العقوبة. وعلي هذا أعتبر البعض أن العقوبة تكون قصيرة المدة حين لا تتجاوز ثلاثة أشهر ، وهو الحد المعمول به في الإحصاءات الجنائية في العديد من الدول وأقرته الهيئة الدولية للعقوبات والسجون في اجتماعها في برن عام 1946 .

ويعتقد آخرون أن المقصود بالعقوبة قصيرة المدة تلك التي لا يزيد حدها الأقصى علي سنه ، وهو الرأي المعمول به في دول أمريكا االلاتينية ، خاصة شيلي ، وكذلك في الصين وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا.  بينما يرى آخرون أن تلك العقوبة لا توصف بهذا الوصف إلا حينما يكون الحكم قد صدر بعقوبة لا تجاوز ستة أشهر , وهو الرأي المأخوذ به في بلجيكا وهولندا وفنلندا واليونان والهند واليابان وإنجلترا وبعض الولايات الأمريكية .

وفي رأينا أن المعيار الأصوب يجب أن يستند ألي معيار موضوعي بالنظر إلي مدى إمكانية تطبيق البرامج التأهيلية والأخلاقية خلال مدة العقوبة المحكوم بها أم لا. فإن أمكن تطبيق تلك البرامج خلالها فهى عقوبة طويلة المدة , في حين تصبح قصيرة المدة حينما لا تسمح المدة بتحقيق الغرض من العقوبة خاصة التأهيل والإصلاح .
ولا شك أن هذا المعيار يتسم بنسبيته , فالمدة التي تكفي لتأهيل شخص قد لا تكفي لتأهيل شخص أخر ، إذ يتوقف ذلك على مدى الاستجابة الشخصية للتأهيل والإصلاح ومدى فاعلية البرامج المطبقة من الإدارة العقابية.

وتواجهه العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مشكلتين : الأولى تتعلق بالجدل حول الإبقاء عليها والأخذ بها ، والثانية تتعلق بالبدائل التي يمكن أن تحل محلها في حالة إلغائها. وفي هاتين المشكلتين تفصيل نبينه على النحو التالي :

179- أ : العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين الإبقاء والإلغاء : 
     إنقسم الفقه الجنائي في شأن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة إلى عدة أراء ، فالبعض يرى ضرورة إلغائها لما لها من مضار ونتائج سيئة ، والبعض الأخر يرى ضرورة الإبقاء على تلك العقوبات حيث لا تخلو من المزايا التي تعود بالنفع على النظام العقابي. 
180- حجج فقه الإلغاء:
يستند الرأي القائل بإلغاء العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة إلى عدد من الحجج نوجزها في الأتي :
*- أن العقوبة قصيرة المدة لا تتحقق أي غرض من أغراض العقوبة , سواء كان الردع العام أوالخاص أو الإصلاح والتأهيل. فهى غير كافية لتخويف الأفراد ومنعهم من تقليد الجاني في سلوكه الإجرامي ، كما أنها لا تروع الجاني نفسه. يضاف إلى ذلك أن قصر مدة العقوبة يحول دون التعرف على شخصية المحكوم عليه وتصنيفيه من أجل تحديد برامج التأهيل المناسبة له , مما يبطل وظيفة العقوبة في إصلاح الجاني. وإذا لا حظنا من خلال الإحصاءات أن أغلب المحكوم عليهم بهذه العقوبات القصيرة يكونون من المتشردين والمتسولين والطبقات الفقيرة , أمكن القول بأن هذه العقوبات لا تنمي الشعور العام بالعدالة لدى الجماعة.
*- قيل أن للعقوبة قصيرة المدة أثار سيئة على المستوى الفردى وعلى المستوى الجماعي. فالعقوبة قصيرة المدة تفقد الشخص احترامه لذاته واحترام الآخرين له وثقتهم فيه , مما يحول دون اندماجه في المجتمع مرة أخرى بعد خروجه من المؤسسة العقابية. كما أن هذا النوع من العقوبة يصاحبه عادة فقد عمل المحكوم عليه ، ومن ثم يحرم من مصدر رزقه وتحرم أسرة من مصدر إعالتها. وقد يتطور الأمر فتضطر الزوجة مثلا إلى العمل فتقل الرقابة على الأبناء مما قد يسهل انحرافهم ودفعهم نحو الجريمة. وعند خروج المحكوم عليه لا يجد في الغالب من يمنحه الثقة في عمل ما مما يضطره إلى اكتساب الرزق من طرق غير مشروعة فيعاود ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
*- وقيل أيضاً أن هذا النوع من العقوبات يساعد على نقل عدوى الجريمة نتيجة اختلاط المجرمين بعضهم ببعض , فيتحول الجاني بسيط أو متوسط الخطورة الإجرامية إلى أحد عتاة الإجرام نتيجة هذه الخلطة التي قد تنقل إليه أساليب وطرق فنية جديدة في ارتكاب الجريمة.
*- فضلاً عن كل هذا فإن لهذه العقوبات مردود اقتصادي سيئ في جانب الدولة. إذ تكبد الدولة نفقات باهظة من أجل إيواء المحكوم عليهم بهذه العقوبات وإعالتهم من كساء وطعام وعلاج.

181- حجج فقه الإبقاء :
     على الرغم من وجاهة الحجج التي قال بها الرأي المنادي بإلغاء العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة , إلا أن هناك جانباً من الفقه يرى ضرورة الإبقاء على تلك العقوبات وذلك لعدة أسباب منها :
*- أن هذه العقوبات مازالت تحقق الردع لفئات معينه من المجرمين لا يجدي معهم سوى العزل المؤقت عن المجتمع وعن البيئة الاجتماعية الفاسدة التي كانوا يحيون فيها. كما أن هذه العقوبات مازالت رادعاً مناسباً للمجرمين بالصدفة الذين يرتكبون جرائمهم نتيجة طيش أو رعونة أو عدم تبصر أو عدم احتياط ، دون تأصل نوازع الإجرام داخلهم. ومثال ذلك جرائم القتل الخطأ أو الإصابة الخطأ الناشئة عن استخدام السيارات وغيرها من الآلات الخطرة. فهذا النوع من المجرمين لا يردعهم إلا صدمة سلب الحرية.
*- أن هذه العقوبات تمثل - رغم قصر مدتها – رادعاً وقائياً للعامة يمنعهم من تقليد الجاني. فإلغائها سوف يشجع العامة علي تقليد المجرم , خاصة بالنسبة للمجرمين المبتدئين , الذين يخشون سلوك سبيا الجريمة وتظل داخلهم قوى المنع تتصارع مع قوى الدفع. فحال الإبقاء على هذه العقوبات فإن جانب المنع سوف يقوى داخل هؤلاء المجرمين المبتدئين. حيث سيقارن المجرم بين الفائدة التي ستعود عليه من الجريمة وبين ما سوف يلحق به من أضرار مترتبة علي سلب الحرية ومعاناته الشخصية والعائلية رغم قصر مدة سلب الحرية.

182- ب : بدائل الاتجاه التوفيقي :
     ظهر في الفقه الجنائي اتجاه توفيقي في شأن العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة , فلا يغالي حتى يصل إلى إلغائها ولا يغالي بالإبقاء عليها دون تعديل. فهو اتجاه يعمل على التقليل بقدر الإمكان من مساوئ هذه العقوبة والتخفيف من أثارها الضارة. لذا يدعو هذا الاتجاه إلى استعمال العديد من البدائل العقابية التي تحل محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة متى كانت ظروف الجريمة وشخصية المجرم توجب هذا. فإن رأت المحكمة أن هذا البديل لا يجدي في مواجهه حاله إجرامية معينه كان لها أن تقضي بالعقوبة السالبة للحرية رغم قصر مدتها.

فهذه البدائل من قبيل نظم المعاملة العقابية التفريدية المقررة تشريعياً لتكون بين يد القاضي إن شاء أعملها إذا استدعت ظروف الجريمة ذلك وإن شاء قضى بالعقوبة السالبة للحرية أياً كانت مدتها.

وفي الحقيقة فإن هذه البدائل متنوعة. ومن الناحية التاريخية فإن أقدمها هو نظام إيقاف التنفيذ كبديل ذو نشأه أوربية , ثم ظهر بعد ذلك نظام الوضع تحت الاختبار ذو النشأة الأنجلوسكسونية أمريكية. ثم توالت البدائل كنظام شبه الحرية والإعفاء من العقوبة وتأجيل النطق بها والوضع تحت المراقبة الالكترونية والعمل لخدمة المجتمع وتقسيط العقوبات. وسوف نعطي بعض التفصيلات عن تلك الأنظمة البديلة. 

183- البديل الأول : نظام إيقاف التنفيذ (تعليق تنفيذ الأحكام علي شرط)  :
184- مضمون إيقاف التنفيذ وحكمته  ونشأته :
     يقصد بإيقاف تنفيذ Le sursis العقوبة أنه يجوز للقاضي أن يصدر حكمة بالعقوبة مع تضمين هذا الحكم أمراً بإيقاف تنفيذها إذا توافرت شروط معينة , وذلك لمده معينة. فإذا كان الحكم صادراً بالغرامة أمتنع أدائها , وإذا كان صادراً بعقوبة سالبة للحرية أفرج عن المحكوم عليه ويترك حراً . فإذا ما أنقضت المدة الموقوف تنفيذ الحكم خلالها دون أن يلغي إيقاف التنفيذ سقط الحكم بالعقوبة وأعتبر كأن لم يكن , وإلا نفذت العقوبة الموقوف تنفيذها مع العقوبة الجديدة. فكأن إيقاف التنفيذ هو تعليق العقوبة المحكوم بها على شرط واقف خلال مدة معينة يحددها القانون , فإذا لم يتحقق الشرط أعفى المحكوم عليه من تنفيذها نهائيا , أما إذا تحقق الشرط ألغى إيقاف التنفيذ , ونفذت العقوبة المحكوم بها.

والحكمة من هذا النظام تظهر بوضوح في حالات الإجرام بالصدفة الناشئ عن ضغوط بعض الظروف الاجتماعية على الشخص فتدفعه إلى ارتكاب الجريمة. فهذا النوع من الأجرام غير المتأصل في نفس من يرتكبه , يعود إلى ظروف خارجة في العادة عن إرادة الجاني. ومن ثم فإن السياسة العقابية الحديثة توجب منع المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة - عن جريمة حدثت لظروف اجتماعية خارجة عن إرادة الجاني وللأسباب لا ترجع لتأصل عوامل الشر والأجرام بداخله - من مخالطة غيرة من عتاة الإجرام في السجن , فكان الأخذ بفكرة إيقاف التنفيذ.

وقد ظهر هذا النظام أول ما ظهر في أوربا ، وبالتحديد في القانون البلجيكي عام 1888 ، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا بالقانون الصادر في 26 مارس عام 1891 (قانون برنجيه Bérenger) ومنه انتقل إلى التشريع المصري بدءً من قانون العقوبات الصادر في عام 1904.
185- شروط إيقاف التنفيذ:
     عادة ما يتطلب المشرع عدد من الشروط من أجل تعليق تنفيذ العقوبة , وهى في مجملها شروط قد تتعلق بالجريمة ، وقد تتعلق بالعقوبة ، وقد تتعلق أخيراً بالجاني نفسه . 

وقد كان ذلك هو مذهب المشرع المصري في معالجته لنظام إيقاف التنفيذ. فهذا الأخير يوجب كي يحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها :
*- أن تكون الجريمة من بين الجنايات والجنح , وبالتالي تخرج المخالفات من هذا النطاق لتفاهة عقوباتها, خاصة وأنه لا يعتد بها في العود للجريمة. علي أن هناك بعض الحالات استثناها المشرع من أحكام وقف التنفيذ وذلك بهدف التشديد على مرتكب هذه الجرائم , مثال ذلك بعض جرائم المخدرات وبعض الجرائم الاقتصادية.
*- أن تكون العقوبة بالغرامة أو الحبس الذي لا يزيد علي سنه. فإذا رأت المحكمة أن المتهم يستحق عقاباً أكثر من سنه فإنه لا يستفيد من نظام إيقاف التنفيذ .
*- أن يتبين من أخلاق المحكوم عليه وطباعه وماضيه أو سنه أو كافه ظروف الجريمة ما يبعث علي الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مقارفة الجريمة مرة أخرى (م55 عقوبات). وتحديد هذا متروك لمطلق السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع دون رقابة عليها من محكمة النقض . وعلى هذا يمكن للقاضي أن يحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة في مواجهه شخص له سوابق متي كان هناك اعتقاد أنه في سبيل إصلاح نفسه.

186- مدة إيقاف التنفيذ وأثاره :
     أشارت المادة 56 من قانون العقوبات إلى أن مدة إيقاف التنفيذ هي ثلاث سنوات تبدأ من اليوم يصبح الحكم الصادر بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها نهائيا. وليس للقاضي حيال تلك المدة أي سلطة تقديرية فلا يجوز له أن ينقص منها أو أن يطيلها.

ويترتب على إيقاف التنفيذ – عند توافر شروطه – أنه لا يجوز اتخاذ أي إجراء لتنفيذ العقوبة التي أوقف تنفيذها. وإذا انتهت مدة وقف التنفيذ (ثلاث سنوات) دون أن يصدر خلالها حكماً بإلغائه فلا يمكن تنفيذ العقوبة المحكوم بها ، ويعتبر الحكم بها كأن لم يكن. فكان وقف التنفيذ نوع من رد الاعتبار القانوني بمحو العقوبة الأصلية والعقوبات التبعية والتكميلية والأثار الجنائية المترتبة علي الجريمة.

187- إلغاء إيقاف التنفيذ : 
     حدد المشرع المصري حالتين يجوز فيهما إلغاء وقف التنفيذ : 
*- الأولى حالة صدور حكم خلال فترة إيقاف التنفيذ - أي خلال الثلاث سنوات التالية للحكم النهائي الصادر بالعقوبة مع إيقاف التنفيذ - سواء كان هذا الحكم عن جريمة ارتكبت قبل الإيقاف ولم يحكم فيها إلا بعده , أو عن جريمة ارتكبت بعد الأمر بإيقاف التنفيذ. وفي تلك الحالة يجب أن يكون الحكم الصادر عن تلك الجريمة حكماً نهائياً وأن يكون صادراً بالحبس مدة تزيد علي شهر
*- الثانية حالة ظهور أن المحكوم عليه كان قد صدر ضده قبل الإيقاف حكم بالحبس لمدة تزيد علي شهر , ولم تكن المحكمة التي أمرت بالإيقاف قد علمت به قبل إصدارها الحكم بإيقاف التنفيذ. وعلة ذلك أن المحكمة لو كانت قد علمت بصدور هذا الحكم لكان من المحتمل ألا تأمر بإيقاف التنفيذ.
وإذا ما توافرت إحدى هاتين الحالتين , فإنه يجوز للقاضي أن يلغي ماسبق وأصدره من أمر بإيقاف التنفيذ. فالإلغاء لا يتقرر بقوة القانون , وإنما يخضع للسلطة التقديرية للقاضي. فإذا ما ألغي الإيقاف تعين تنفيذ العقوبة التي قد أوقف تنفيذها وكافة العقوبات التبعية والتكميلية وكافة الأثار الجنائية الأخرى.

188- البديل الثاني : نظام الوضع تحت الاختبار  (الاختبار القضائي)   :
189- مضمون الوضع تحت الاختبار ونشأته :
     يقصد بالوضع تحت الاختبار La mise   à   L’ épreuve - كأحد بدائل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة - عدم الحكم علي المتهم بعقوبة ما , مع تقرير وضعه مدة معينة تحت إشراف ورقابة جهات معينة. فإذا مرت تلك المدة ووفى المحكوم عليه بالالتزامات المفروضة عليه فإن الحكم الصادر بالإدانة يعتبر كأن لم يكن. أما إذا أخل المحكوم عليه بهذا الالتزام خلال المدة فإنه يتعين استئناف إجراءات المحاكمة والحكم علي المتهم بالعقوبة . فكأن نظام الاختبار القضائي أو الوضع تحت الاختبار يتضمن إيقاف مؤقت لإجراءات المحاكمة عند حد معين وإرجاء النطق بالحكم إلي فترة لاحقة ، مع إخضاع المتهم خلال تلك الفترة إلي عدد من الالتزامات التي يمكن أن يترتب على الإخلال بها أن تسلب حريته . فهو نظام يحقق الدفاع عن المجتمع عن طريق حماية نوع من المجرمين المنتقين بتجنيبهم دخول السجن وتقديم المساعدة الإيجابية لهم تحت التوجيه والإشراف والرقابة .

ولقد نشأ هذا النظام أولاً في الدول ذات النظام الأنجلوأمريكي. فطبق في إنجلترا عام 1820 بهدف إنقاذ الأحداث الجانحين من دخول المؤسسات العقابية. وكان يجوز لقاضي الصلح Judge of Peace أن يلزم من ارتكب جريمة ما تخل بالأمن العام أن يكتب تعهداً يلتزم فيه باحترام الأمن وأن يسلك سلوكاً حسناً مقابل إطلاق سراحه. فإن خالف ذلك أمكن توقيع عقوبة عليه أو إبدالها بمبلغ من المال. ثم أستبدل بهذا التعهد فيما بعد إجراءات رقابية وإشرافية من قبل الشرطة للتحقق من سلوك المتهم , وكانت هذه هى بداية ظهور نظام الوضع تحت الاختبار بمعناه الدقيق.

وقد أخذت بعض الولايات الأمريكية بفكرة الوضع تحت الاختبار The Probation ، منها ولاية ماساشوشتس عام 1841 ، إلى أن أقر القانون الفيدرالي هذا النظام بصفه عامة في عام 1925. ومن دول القانون العام إلى الدول الأوروبية أنتقل هذا النظام فأخذ به التشريع الألماني عام 1953 والفرنسي عام 1957.

190- الصلة بين وقت التنفيذ والوضع تحت الاختبار : 
     يشترك كلاً من وقف التنفيذ والوضع تحت الاختبار في أن الهدف منهما هو تجنيب الشخص مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة , فكلاهما بديلاً لتلك العقوبة , ويهدفان إلى إفساح فترة زمنية للشخص المحكوم عليه كي يثبت فيها صلاح حاله وحسن سلوكه كي يتجنب العقوبة السالبة.

بيد أن كلا النظامين يختلفان في فروق معينة منها :
*- في إيقاف التنفيذ يترك الفرد لجهوده الخاصة لإثبات إنصلاح حاله واندماجه الاجتماعي , أي أن لإيقاف التنفيذ دور سلبي. على العكس من ذلك يقف نظام الوضع تحت الاختبار , حيث يتميز بالايجابية , نظراً لأنه يتضمن فرض عدد من القيود والالتزامات تحت رقابة وإشراف جهات معينة  يوكل إليها أمر التحقيق من تنفيذها.
*- في إيقاف التنفيذ يكون القاضي قد أظهر في الحكم شقين , شق الإدانة وشق الجزاء المترتب علي تلك الإدانة , مع تعطيل تنفيذ الشق الثاني دون الأول. أما في الوضع تحت الاختبار فإن القاضي لا يقرر إلا الشق الأول فقط المتعلق بالإدانة , دون أن يظهر الشق الثاني المتعلق بالجزاء أو العقوبة. فهذا الشق يكون لاحقاً على الحكم وبعد ثبوت فشل فترة الاختبار.
*- لا يلغى إيقاف التنفيذ إلا بثبوت ارتكاب المحكوم عليه لجريمة , في حين أنه يكفي لإلغاء الوضع تحت الاختبار أن يخالف الموضوع تحت الاختبار أحد الالتزامات المفروضة عليه حتى ولو لم تشكل هذه المخالفة فعلاً إجرامياً في نظر القانون.
*- يعد إيقاف التنفيذ أحد صور أو أحد أساليب المعاملة العقابية , فهو ليس بجزاء ولكنه أسلوب لتنفيذ الجزاء. بينما يعد الوضع تحت الاختبار جزاء بالمعنى الفني الدقيق أو كتدبير جنائي مستقل.

191- مضمون الالتزامات والرقابة في الوضع تحت الاختبار :
     يتعلق نظام الوضع تحت الاختبار بفئة المجرمين الذين يقتضي اصلاحهم إبعادهم عن محيط المؤسسات العقابية. أي فئة من المجرمين يعتقد من خلال ظروفهم وفحص شخصيتهم أنهم قابلين للإصلاح وعدم العودة لسبيل الجريمة دون الخضوع لعقوبة سالبة للحرية . وعلى هذا فلا ينظر لنوع الجريمة المرتكبة أو لجسامة الواقعة بقدر ما ينظر إلى شخصية المحكوم عليه ، ومدى إمكانية تأهيله في الوسط الحر - أي خارج السجن - ومدى استعداده لتنفيذ الالتزامات المفروضة عليه ، حتى يكون في مأمن من تنفيذ عقوبة سالبة للحرية عليه إذا ما أخل بتلك الالتزامات.

وتتنوع الالتزامات التي تفرض على الخاضع للاختبار بين تدابير مساعدة تستهدف مساندة الجهود التي يبذلها الخاضع للاختبار في سبيل تأهيله اجتماعياً. وقد تأخذ تدابير المساعدة صورة معنوية ، كإلزامه بحضور جلسات دينية وعلمية معينة ، وقد تأخذ صورة مادية كإعانته بمبلغ نقدي أو مده بعمل مهني معين. وقد تكون التدابير ذات طابع رقابي تستهدف كفالة احترام الخاضع للاختبار للالتزامات المقررة وتمكينه من الاندماج في البيئة الاجتماعية. ومثال ذلك إلزامه بالإقامة في مكان معين ، أو إلزامه بتقديم مستندات معينة إلى مأمور الاختبار  Agent de probationأو إلى الشخص القائم برقابته كي يتعرف منها على موارد رزقه وعلى الأشخاص الذين يخالطونه.

كما قد تأخذ الالتزامات صور سلبية أخرى كالامتناع عن ممارسة بعض الأنشطة أو الامتناع عن ارتياد بعض الأماكن كالحانات ودور القمار ، والامتناع عن الاشتراك في المراهنات أو عن شرب الكحوليات والامتناع عن قيادة وسائل معينة من وسائل النقل.

ويجوز للقاضي (قاضي تنفيذ العقوبات) أو لمأمور الاختبار أن يضيف إلى هذه الالتزامات كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكلما ثبت أن الالتزامات المفروضة لم تعد كافية لتحقيق تأهيل المحكوم عليه وإصلاحه أو لم تعد تتلائم مع شخصية هذا الأخير.

وتجري الرقابة من قبل أشخاص يمثلون فئة من معاوني القضاء (ضباط الاختبارAgents de probation). فلقد ثبت أن الخاضع للاختبار لا يمكنه من تحقيق التأهيل لنفسه ، إنما هو دائماً في حاجة إلى معاونة من قبل أخصائيين مؤهلين ومدربين علمياً ومهنياً على تقديم النصح والإرشاد للخاضع للاختبار وقادرين على إقناعه بأهمية هذا النظام في الإصلاح والتأهيل. ويجرى عمل ضباط الاختبار تحت رقابة القضاء (قاضي تنفيذ أو تطبيق العقوبات Juge d’exécution ou d’application des peines) حتى نضمن عدم المساس بحريات وحقوق الأفراد أوالتعسف في تقيدها بدون مبرر أو مقتضى.

192- نهاية الوضع تحت الاختبار :
     ينتهي الوضع تحت الاختبار عادة بنهاية المدة المقررة له دون إخلال الموضوع تحت الاختبار للالتزامات المفروضة عليه خلال تلك المدة. وعادة ما يحدد المشرع مدة الاختبار بين حد أدنى وأخر أقصى ، على أن يترك للقاضي سلطة تقديرية في تحديد مدة الاختبار فيما بين الحدين. ودائماً يجب على المشرع أن يراعي أن تكون هذه المدة مدة معتدلة حتى لا يكون الشخص الخاضع للاختبار أسوأ حظاً من الشخص الذي يحكم عليه بعقوبة سالبة للحرية. وفي حالة نهاية الوضع تحت الاختبار عن طريق إخلال الشخص الخاضع لهذا النظام للالتزامات المفروضة عليه تستأنف الدعوى الجنائية سيرها من جديد ، ويمكن للقاضي أن يقضي في مواجهة المخالف بعقوبة جنائية سالبة للحرية أو بغيرها من العقوبات حسب الأحوال.

193- الوضع تحت الاختبار في التشريع المصري :
     أخذ المشرع المصري بنظام الوضع تحت الاختبار في شأن الأحداث الجانحين. فقد نصت المادة 12 من القانون رقم 13 لسنة 1974 على أن يكون الاختبار القضائي بوضع الحدث في بيئته الطبيعية تحت التوجيه والإشراف ومع مراعاة الواجبات التي تحددها المحكمة. ولا يجوز أن تزيد مدة الاختبار على ثلاث سنوات ، فإذا فشل الحدث في الاختبار عرض الأمر على المحكمة لتتخذ ما تراه مناسباً من التدابير . وقد أعيد التأكيد على هذا الأمر ثانية في المادة 106 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 الذي حل محل قانون الأحداث سالف الذكر.

194- مدى تطلب رضاء الخاضع للاختبار :
     أثار الفقه تساؤلاً حول مدى لزوم رضاء الشخص الخاضع للاختبار لما هو مفروض عليه من التزامات. فقد ذهب رأى إلى اشتراط رضا الخاضع لهذا النظام على أساس أن الوضع تحت الاختبار يتضمن فرض قيود والتزامات تستهدف التأهيل والإصلاح ، وبداهة لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا إذا كان الشخص الخاضع للاختبار راضياً ومقتنعاً بتلك القيود والالتزامات. فلا يتصور تأهيل شخص عن طريق فرض قيود يرفضها منذ البداية.

في حين ذهب رأى ثان إلى القول بأنه لا يجوز تعليق الوضع تحت أو تعليق الهدف منه على رضاء الخاضع له ، إذ يعني ذلك أن يترك تقدير ملائمة أساليب التأهيل لكل محكوم عليه وتقييد سلطة القضاء التقديرية في اللجوء لهذا الأسلوب من أساليب المعاملة العقابية.

وفي رأينا أن اشتراط الرضا غير ضروري ، حيث أن العقوبة وأساليب تنفيذها أمور تتعلق بالمصلحة العامة ولا يجوز ترك صيانة هذه المصلحة معلقاً على قبول ورضاء المحكوم عليه. غير أنه يغلب أن يرغب المحكوم عليه في الخضوع لهذا النظام بدلاً من توقيع عقوبة جنائية سالبة للحرية عليه فضلاً على أن ما يحققه هذا النظام من مزايا تضمن استجابة المحكوم عليه الخاضع للاختبار للالتزامات والقيود المفروضة عليه وتضمن تعاونه مع السلطات الرقابية خلال مدة الاختبار.

195- البديل الثالث : نظام وقف التنفيذ المقترن بالوضع تحت الاختبار :
196- مضمون النظام ونشأته :
     فضلاً عن نظام وقف التنفيذ البسيط Le sursis simple المعروف في التشريع المصري ، يعرف التشريع الفرنسي نظام الجمع بين إيقاف التنفيذ والوضع تحت الاختبارLe sursis avec la mise à l’épreuve (المواد من 738 إلى 747 إجراءات جنائية فرنسي). وفق هذا النظام يجوز للقاضي أن يحكم بالعقوبة الجنائية مع إيقاف تنفيذها مدة معينة في خلالها يخضع الموقوف تنفيذ العقوبة قبله لعدد من القيود والالتزامات .

والواقع أن هذا الجمع أريد به تفادي ما قيل في شأن نظام إيقاف التنفيذ البسيط من كونه يقتصر على القيام بدور سلبي محض ، هو مجرد التهديد بتنفيذ العقوبة في المحكوم عليه إذا صدر عنه ما يجعله غير جدير بإيقافها ، دون أن يخضع الموقف ضده العقوبة لنوع من تدابير المساعدة أوالرقابة. فالمحكوم عليه في حالة إيقاف التنفيذ العادي يترك وشأنه دون إعانته ومساعدته على مقاومة العوامل الإجرامية الكامنة داخله أو المحيطة به.

وترجع بدايات هذا النظام إلى عام 1952 عندما قدمت الحكومة الفرنسية مشروع قانون يهدف إلى الأخذ بنظام الوضع تحت الاختبار مقترناً بإيقاف التنفيذ. وقد تم إقرار هذا القانون من قبل الجمعية الوطنية عام 1957 وتم إدماجه في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي في المواد 738 وما بعدها ، والتي أعيد الأخذ بها في قانون العقوبات الفرنسي الجديد في 22 يوليو 1992 (المواد 132–40 إلى 132–53) بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة . 

ويختلف نظام الجمع بين وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار الفرنسي عن نظام الوضع تحت الاختبار العادي المعروف خصوصاً في النظام الأنجلوأمريكي. ففي نظام الجمع الفرنسي يفترض أن يقرر القاضي الإدانة والعقوبة مع إيقاف تنفيذها وإخضاع المحكوم عليه لعدد من القيود والالتزامات خلال مدة إيقاف العقوبة. أما في نظام الوضع تحت الاختبار الأمريكي فيقتصر دور القاضي على تقرير الإدانة فقط تاركاً الحكم بالعقوبة في مرحلة تالية عند إخلال المحكوم عليه بالالتزامات المفروضة عليه خلال مدة الوضع تحت الاختبار .

197- شروط وقف نظام التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار :
     اشترط المشرع الفرنسي عدداً من الشروط من أجل الاستفادة من نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، بعضها يتصل بالمتهم وبعضها يتعلق بالعقوبة وبعضها يتعلق بمدة الاختبار.

أما بالنسبة للشروط المتعلقة بالمتهم ، فخلافاً لوقف التنفيذ البسيط الذي لا يتقرر إلا إذا كان المتهم لم يحكم عليه بالإدانة خلال الخمس سنوات السابقة على الجناية أو الجنحة بعقوبة الاعتقال Réclusion أو الحبس (م132-30 عقوبات فرنسي جديد) فإن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار يطبق على كل متهم محكوم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات أو أكثر لجناية أو جنحة من جرائم القانون العام (م 132-741).

أما فيما يتعلق بالعقوبة ، فعلى العكس من وقف التنفيذ البسيط الذي يمكن للمحكوم عليه الاستفادة منه إذا حكم عليه بالحبس أو الغرامة أو العقوبات البديلة أو الغرامة اليومية أو العقوبات التكميلية مع استبعاد المصادرة وغلق المنشأة ولصق الإعلان  (م132–31/2 عقوبات فرنسي جديد) فإن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار لا يطبق إلا بالنسبة لعقوبة الحبس لجناية أو جنحة من جرائم القانون العام (م132-41/1). مما يعني استبعاد عقوبات الحبس المقررة للجرائم السياسية والعسكرية.

وأخيراً فيما يتعلق بمدة الاختبار ، فإن للمحكمة الجنائية – سواء كانت محكمة الجنح أو محكمة الاستئناف أو محكمة الجنايات أو حتى المحكمة العسكرية وفقاً للشروط الواردة في المادة 369 من قانون العقوبات العسكري رقم 82/621 الصادرة في 21 يوليو 1982 – أن تقرر الأخذ بإيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار بحيث لا تقل مدة الاختبار عن ثمانية عشر شهراً ولا أن تزيد عن ثلاث سنوات (م 132 –42/1 عقوبات فرنسي جديد). ويبدأ ميعاد الوضع تحت الاختبار وفقاً للفقرة الثانية من المادة 132– 42 من اليوم الذي تصبح فيه الإدانة نافذة وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 708 إجراءات جنائية فرنسي.
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي لم يخير المحكوم عليه في المفاضلة بين الحبس وبين إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، حيث أن إعمال هذا النظام لا يتوقف على رضاء المحكوم عليه.

198- أثار نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار :
     يترتب على نظام الجمع بين وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار -كما هو الحال في حالة إيقاف التنفيذ البسيط – وقف عقوبة الحبس كلها أو بعضها (م132–42 فقرة ثانية عقوبات فرنسي جديد) دون إيقاف تنفيذ العقوبات المالية أو التبعية (م746 إجراءات جنائية فرنسي) .على أن أهم ما يرتبه هذا النظام من أثار هو إخضاع المحكوم عليه لعدد من تدابير الرقابة والمساعدة والالتزامات التي تهدف إلى تأهيل المحكوم عليه اجتماعياً (132–43 ، 132–44 ، 132–45).

فقد نصت المادة 132–44 عقوبات على عدد من تدابير الرقابة تفرض على كل شخص خاضع للاختبار منها  : الاستجابة لطلب الاستدعاء الذي يصدر من قاضي تنفيذ العقوبات أو مأمور الاختبار ، إلزام المحكوم عليه بإخطار مأمور الاختبار بكل تغيير يتم في محل العمل وبكل تغيير في محل الإقامة أو بكل انتقال تزيد مدته على خمس عشر يوماً وإلزامه بالحصول على إذن مسبق عند الرغبة في الانتقال خارج فرنسا وإلزامه بتقديم المستندات اللازمة لمأمور الاختبار للتحقق من وسائل معيشته.

كما تنص المادة 132–45 على أنه يجوز للمحكمة التي أصدرت حكم الإدانة أو قاضي تنفيذ العقوبة أن يفرض على من وضع تحت الاختبار واحد أو أكثر من الالتزامات المنصوص عليها في تلك المادة ، ومنها : المنع من مزاولة نشاط مهني معين أو الإقامة في مكان معين ، أو الخضوع لتدابير وإجراءات الفحص الطبي أو العلاج حتى ولو اقتضى الأمر الالتزام بالإقامة في مستشفى ، وإلزامه بإصلاح الأضرار الناشئة عن الجريمة ، أو المنع من قيادة السيارات أو ارتياد أماكن معينة أو ارتياد بيوت المراهنات أو محال بيع الخمور والكحوليات، أو المنع من حيازة أو حمل أسلحة ، أو المنع من مخالطة أشخاص معينين ، كالمساهمين معه في الجريمة أو المجني عليه فيها . 

199- تعديل وإلغاء نظام إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار:
     أجاز المشرع الفرنسي لكل من المحكمة التي قضت بإيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار وإلى قاضي تطبيق العقوبات Juge d’application des peines تعديل هذا الإجراء أثناء مدة الاختبار. 

فللمحكمة الابتدائية Tribunal de Grande Instance (TGI)  التابع لها محل إقامة المحكوم عليه أن تضيف إلى الالتزامات الواقعة على عاتق المحكوم عليه. ولها أن تمد مدة الاختبار بما لا يجاوز الحد الأقصى لها (3سنوات) (م 742 إجراءات جنائية فرنسي). وللمحكمة أن تأمر بالتنفيذ الكامل أو الجزئي للعقوبة السابق إيقافها إذا أخل المحكوم عليه بالالتزامات والقيود المفروضة عليه. كما أن للمحكمة أن تقرر إعفاء المحكوم عليه من مدة الاختبار المتبقية وإلغاء الالتزامات المفروضة إذا ما كشفت شخصيته عن قابلية للتأهيل والإصلاح. واعتبار حكم الإدانة الصادرة ضده كأن لم يكن بشرط مضي سنة على الأقل ابتداءً من اليوم الذي أصبح فيه حكم الإدانة نهائياً (م743 إجراءات جنائية فرنسي).

كما يجوز لقاضي تطبيق العقوبات - أثناء مدة الاختبار - أن يعدل من الالتزامات المفروضة على المحكوم عليه بالزيادة أو النقص. ويجوز للمحكوم عليه التظلم من هذا القرار أمام محكمة الجنح ، ولهذه الأخيرة أن تقره أو تعدله (م729/2 ، 3 إجراءات جنائية فرنسي). كما أن لقاضي تطبيق العقوبات أن يأمر باعتقال المحكوم عليه في أقرب مؤسسة عقابية إذا ما أخل بالالتزامات المفروضة عليه ، على أن يعرض أمر الاعتقال على محكمة الجنح خلال خمس أيام وإلا أفرج عن المحكوم عليه المعتقل.

ويعد إخلال المحكوم عليه بالالتزامات وتدابير الرقابة والمساعدة المفروضة عليه سبباً لإلغاء إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار (م 132–47). وهذا الحق مقرر لمحكمة الجنح وفقاً للشروط المنصوص عليها في المادة 132–48 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد. كما يمكن للجهة القائمة على تنفيذ العقوبات أن تقرر إلغاء هذا النظام وفقاً للشروط المحددة في قانون الإجراءات الجنائية. ويمكن لهذا الإلغاء أن يكون كلياً أو جزئياً إذا ما ثبت ارتكاب المحكوم عليه في فترة الاختبار جناية أو جنحة وتمت إدانته عنها والحكم بعقوبة سالبة للحرية وكان الحكم بها نهائي ( م132–48 عقوبات).

200- البديل الرابع : نظام الإعفاء من العقوبة وتأجيل النطق بها:
     حاول المشرع الحد من مثالب العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة بإتباع بعض وسائل المعاملة العقابية التي تتمثل في العفو عن العقوبة أو في تأجيل النطق بها La dispense de peine et de l’ajournement. وإلى هذين النظامين ذهب المشرع الفرنسي في قانون العقوبات الفرنسي الجديد. فقد أجازت المادة 132–59 لمحكمة الجنح أن تعفي المتهم من العقوبات إذا تبين أن تأهيل المتهم قد تحقق وأن الضرر الناتج عن الجريمة قد عوض وأن الاضطراب الذي أحدثته الجريمة قد توقف. كما أجاز المشرع الفرنسي تأجيل النطق بالعقوبة ، ولهذا التأجيل صور ثلاث :
*- فإما أن يكون هذا التأجيل بسيطاً Ajournement simple إذا ظهر أن المتهم في سبيله إلى التأهيل وأن الضرر الناجم عن الجريمة في سبيله للإصلاح وأن الاضطراب الذي أحدثه الجريمة على وشك التوقف. ويشترط في جميع الأحوال حضور الشخص بنفسه أما المحكمة أو ممثله إذا كان شخصاً معنوياً (م 132–60).
*- كما قد يكون التأجيل مع الوضع تحت الاختبار Ajournement avec mise à l’épreuve. فيجوز للمحكمة في مواجهة المتهم الحاضر للجلسة أن تؤجل النطق بالعقوبة تجاهه مع إخضاعه لعدة من القيود والالتزامات وفقاً لما هو معمول به في نظام الوضع تحت الاختبار (المواد 132–43 إلى 132–46 من قانون العقوبات). وتكون مدة الوضع تحت الاختبار سنة على الأكثر. ويجوز للمحكمة أثناء تلك المدة أن تعفي المتهم من العقوبة نهائياً أو أن تنطق بها أو تؤجل النطق بها لمدة أخرى. على أنه يجب الفصل في أمر العقوبة خلال سنة من أول تأجيل.
*- وأخيراً هناك نظام التأجيل مع الأمر .Ajournement avec injonction ويتعلق هذا النظام بالأحوال التي توجد فيها قوانين ولوائح خاصة تفرض عقوبات معينة نتيجة الإخلال بالتزام معين. في تلك الحالة يجوز للقاضي الجنائي أن يؤجل النطق بالعقوبة المفروضة في تلك القوانين واللوائح مع إلزام المحكوم عليه بتنفيذ الالتزام الوارد في القانون أو في اللائحة.وهذا يفرض على المحكمة أن تحدد في الأمر طبيعة الالتزامات والتعليمات التي يجب الامتثال لها والقيام بتنفيذها ، وكذلك يفرض عليها أن تحدد ميعاد للتنفيذ يختلف عن ميعاد التأجيل (م132–66). ولا يصدر الحكم بالتأجيل مع الأمر إلا في الجنح والمخالف دون الجنايات ، ولا يشترط فيه حضور المتهم أو ممثل الشخص المعنوي. ويجوز للمحكمة أن تصدر التأجيل مع الأمر مقروناً بغرامة تهديدية إذا كان القانون أو اللائحة الذي تمت مخالفته يقرر ذلك. ويمتنع تنفيذ هذه الغرامة إذا نفذ المحكوم عليه الالتزامات المقررة في القانون أو في اللائحة (م 132–67). وكبقية أنواع التأجيل فإن التأجيل مع الأمر يتقرر لمدة سنة على الأكثر. غير أن هذه المدة - على خلاف الأنواع الأخرى من التأجيل - لا تمتد إذا تم تحديدها من قبل المحكمة (م132–68). فإذا تم تنفيذ التعليمات الواردة بالأمر في الميعاد المحدد فإن للمحكمة الحق في أن تعفي المتهم من العقوبة المقررة في القانون أو اللائحة أو تؤجل مرة ثانية النطق بها. أما إذا حدث تأخير في التنفيذ فإن للمحكمة أن تعفي من الغرامة التهديدية مع تطبيق العقوبات الواردة بالقانون أو اللائحة. فإذا لم يتم التنفيذ نهائياً فإن للمحكمة أن تعفي من الغرامة التهديدية إذا كان لذلك محل وتقضي بالعقوبات المقررة ، ولها أن تأمر بمتابعة التنفيذ على نفقة المحكوم عليه (م 132–68).

201- البديل الخامس : نظام شبه الحرية  :
202- مضمون النظام :
     يقصد بنظام شبه الحرية Régime de semi-liberté إلحاق المحكوم عليه بعقوبة قصيرة المدة بعمل خارج المؤسسة العقابية دون إخضاعه لرقابة جهة الإدارة ، مع إلزامه بالعودة إلى المؤسسة العقابية كل مساء وقضاءه فترة العطلات فيها ، كل ذلك طيلة مدة العقوبة . وعادة ما يكون هذا النظام أسلوباً تدريجياً يلجأ إليه بشأن المحكوم عليهم الذين قرب موعد الإفراج عنهم أو من أجل تمكين المحكوم عليهم من متابعة دراسة معينة أو مهنة معينة أو الخضوع لعلاج معين أو المشاركة في حياته الأسرية (م 132–26 عقوبات فرنسي) . وبهذا النظام أخذ المشرع الفرنسي  ، إذ أجاز تطبيق نظام شبة الحرية على المحكوم عليهم الذين بقي على إتمام عقوبتهم مدة لا تزبد على سنة (م132–25). ويخضع المحكوم عليه في هذا النظام لذات الأوضاع التي يعمل فيها أي عامل حر غير محكوم عليه. وبالتالي فهو يخضع لعقد عمل حقيقي ولمظلة التأمين الاجتماعي. غير أن الخاضع لهذا النظام لا يتقاضى أجره من رب العمل مباشرة ، وإنما يتقاضاه من مدير السجن. على أن يستقطع من هذا الأجر مبلغاً يخصص للمحكوم عليه بعد انتهاء فترة شبه الحرية ، ويخصص لتعويض المضرور من الجريمة (المدعي بالحق المدني) فيما لا يجاوز نسبة 10%. 

وبالإضافة إلى التزام الخاضع لنظام شبة الحرية بالعودة إلى المؤسسة العقابية عقب انتهاء فترة العمل بالخارج ، فإن هناك عدد آخر من الالتزامات قد تفرض عليه من قبل قاضي تطبيق العقوبات ، لا تخرج في مجموعها عن الالتزامات التي سبق وأن أشرنا لها عند الحديث عن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، باستثناء ما يتفق مع طبيعة هذا النظام. ومثال ذلك إلزام المحكوم عليه بمراعاة ساعات الخروج والعودة التي يقررها القاضي ومراعاة الضوابط المحددة بمعرفة وزارة العدل بشأن حسن الهيئة والهندام والمسلك الشخصي والانتظام في العمل وعدم التخلف عنه بدون عذر.

203- مميزات وصعوبات تطبيق نظام شبه الحرية :
     لا شك أن نظام شبة الحرية يضمن تحقيق العديد من المزايا بالنسبة للمحكوم عليه. فهذا النظام يجنب المحكوم عليه الاختلاط بالسجناء نظراً لتغيبه طيلة فترة النهار ، وبالتالي فإنه يتجنب عدوى الجريمة ممن هم أشد منه خطورة. كما أن النظام يضمن للمحكوم عليه عدم الانفصام عن بيئته الطبيعية ، فهو يضمن له الاستمرار في الدراسة ومتابعة أسرته ومتابعة نشاطه المهني. وعلى الرغم من تلك المزايا فإن تطبيقه يواجه العديد من الصعوبات ، حيث من المتعذر غالباً أن يجد المستفيد من نظام شبه الحرية عملاً مناسباً نظراً لفقد الثقة القائمة بشأنه من قبل أرباب الأعمال. فضلاً عن أن اتصال المحكوم عليه بالعالم الخارجي واختلاطه ليلاً بعد العودة من العمل بأقرانه في المؤسسة العقابية سيساعد على دخول الأشياء الممنوعة داخل السجن ، ولا يمكن مواجهة ذلك إلا بفصل المستفيدين من نظام شبة الحرية عن بقية النزلاء داخل المؤسسة العقابية. 

وتفادياً لتلك الصعوبات كانت بعض الدول قد طورت نظام شبة الحرية ، آخذةً ما يعرف بنظام "حبس نهاية الأسبوع"Arrêt de fine de semaine ، وبهذا أخذ المشرع البلجيكي طبقاً للمنشور الصادر عن وزارة العدل بتاريخ 15 فبراير 1963. ويتمثل هذا النظام في إيداع المحكوم عليه السجن بعد ظهر يوم السبت إلى السادسة من صباح الاثنين ، على ألا يزيد حبس نهاية الأسبوع على ثلاثين مرة على أن تحسب كل مرة بيومين حبس. بمعنى آخر فإن العقوبة يجري تنفيذها على أجزاء ، كل أسبوع ينفذ المحكوم عليه يومين من أيام الحبس مضافا إليها أيام العطلات ويستمر هذا النظام إلى حين انقضاء العقوبة كاملةً.

204- إلغاء نظام شبة الحرية :
     يكون إلغاء نظام شبة الحرية من قبل المحكمة الابتدائية التابع لها محل إقامة المحكوم عليه إذا كانت هي التي قررته - بناء على تقرير من قبل قاضي تطبيق العقوبات - وذلك في حالة إخلال المحكوم عليه بالقواعد والالتزامات المفروضة عليه. كما يجوز في هذه الحالة لقاضي تطبيق العقوبات في حالة الاستعجال أن يوقف من تلقاء نفسه نظام شبة الحرية على أن يعرض هذا القرار على المحكمة لتنظر فيه خلال خمسة أيام. كما أن لهذا القاضي أن يلغي هذا النظام إذ كان هو الذي قرره. ولمدير المؤسسة العقابية في حالة الاستعجال أن يصدر أمراًًًًًًًًً بإعادة المحكوم عليه إلى المؤسسة العقابية ، على أن يطلع قاضي تطبيق العقوبات على هذا الأمر. 

205- البديل السادس  : نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية :
     أصدر المشرع الفرنسي قانون في 19 ديسمبر 1997 من أجل استحداث المواد 723/7 إلى 723/12 في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي بغية ابتداع بديل آخر من بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، ألا وهو نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية Le placement sous surveillance électronique ، وذلك بعد نجاح تجربته في دول أخرى ، كالولايات المتحدة ، والسويد ، وبريطانيا ، وهولندا ، وكندا. ويقوم هذا النظام على ترك المحكوم عليه بعقوبة سالبة قصيرة المدة طليقاً في الوسط الحر مع إخضاعه لعدد من الالتزامات ومراقبته في تنفيذها الكترونياً عن بعد. وقد بدأت تجربة هذا النظام في عام 2000 في أربع مؤسسات عقابية ، ثم في تسع في أول أكتوبر 2002، واستفاد منه 393 محكوم عليه. ثم أصدر المشرع قانون توجيه وتنظيم العدالة loi d’orientation de programmation pour la justice في 9 سبتمبر 2002 بهدف تعميم هذا النظام تدريجياً على ثلاث سنوات بحيث يستفيد منه 400 محكوم عليه في البداية ويضاف مئة مستفيد كل شهر للوصول لثلاثة آلاف محكوم عيه نهاية عام 2006 . 

ويشترط للاستفادة من هذا النظام ألا تكون مدة العقوبة المطلوب تنفيذها أو المتبقية أكثر من عام ، ويجري تطبيقه بعد موافقة المحكوم عليه بناء على أمر من قاضي التنفيذ أو بناء على طلب النائب العام أو طلب من المحكوم عليه ذاته (م. 723-9). والخاضع لهذا النظام يلزم بعدم التغيب عن محل إقامته أو أي مكان آخر يحدده القرار الصادر من قاضي التنفيذ خلال ساعات معينه من اليوم ، بما يتفق مع الوضع الأسري والمهني للمحكوم عليه. ويراقب تنفيذ تلك الالتزامات الكترونياً عن طريق ارتداء المحكوم عليه أسورة الكترونية Bracelet-ématteur في كاحله تقوم بإرسال إشارة مداها 50 متراً كل 30 ثانية. وتستقبل تلك الإشارات على جهاز Récepteur مثبت في مكان يحدده قاضي تطبيق العقوبات ويتصل بمركز المتابعة الموجود في المؤسسة العقابية عن طريق خط تليفون. كما قد يجرى التحقق من احترام الالتزامات المفروضة عن طريق زيارات تجريها الإدارة العقابية للمحكوم عليه (م. 723-9). وإذا حدث وعطل المحكوم عليه أجهزة المراقبة الإلكترونية فإنه يعد مرتكباً للجريمة المنصوص عليه في المادة 349-29 ، ويكون ذلك سبباً لإلغاء قرار الوضع تحت المراقبة الالكترونية.
   
206- البديل السابع : نظام العمل للصالح العام:
     من أجل تدارك عيوب العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، أخذ المشرع الفرنسي - في قانون العقوبات الفرنسي الجديد - بنظام العمل للصالح العام Le travail d’intérêt général  (م131–8 عقوبات). ويتقرر هذا النظام بشأن المتهمين المحكوم عليهم في مواد الجنح بعقوبة الحبس أياً كانت مدته. وكذلك يستفيد من هذا النظام المتهمين الذين صدرت ضدهم أحكاماً بالإدانة خلال الخمس سنوات السابقة على الجريمة. بمعنى أن المشرع لا يأخذ في اعتباره الماضي الإجرامي للمتهم  Le passé pénal du prévenu، مما يعطي مساحة تقديرية أكبر للقاضي الذي يمكن له بالتالي أن يقرر نظام العمل للصالح العام في حالات لا يمكن الأخذ فيها بنظام إيقاف التنفيذ.

ويطبق هذا النظام على البالغين وعلى الأحداث البالغ عمرهم ست عشر سنة فأكثر. وكذلك جعل المشرع الفرنسي مدة العمل واحد في شأن البالغين وفي شأن الأحداث بحيث تصل لكلاهما إلى 240 ساعة عمل كحد أقصى. ولا يتقرر العمل للصالح العام إلا إذا كان المتهم حاضراً بالجلسة وقبله حين عرض عليه من قبل رئيس المحكمة. وفي حالة قبول المتهم لهذا البديل عن الحبس تحدد المحكمة المدة التي يتعين أداء العمل خلالها ، بما لا يجاوز ثمانية عشر شهراً ، كما تحدد مدة ساعات العمل المحكوم بها ، وهي تتراوح بين 24 ساعة و 240 ساعة سواء بالنسبة للبالغين والأحداث. وهذا العمل لا يتقرر مع الحبس إذ أنه بديل عنه. كما أنه يتقرر دون مقابل Travail non Rémunéré لما للعمل للصالح العام من معنى الجزاء الجنائي.

ويجرى تنفيذ العمل للصالح العام تحت إشراف قاضي تنفيذ العقوبات الذي يقع في دائرته محل إقامة المحكوم عليه. ويتقيد العمل للصالح العام بكافة القيود التشريعية واللائحية المنصوص عليها بشأن العمل عموماً ، كتلك المتعلقة بأوقات العمل وجوانب الأمن الصناعي وعمل النساء والعمل الليلي ...الخ (م 131–23 عقوبات فرنسي). ويستفيد المحكوم عليه أثناء القيام بالعمل للصالح العام من كافة أحكام قانون الضمان الاجتماعي فيما يتعلق بحوادث العمل والأمراض المهنية. وإذا ما سبب العمل للصالح العام ضرراً للغير فإن الدولة تحل بقوة القانون في حقوق المجني عليه أو المضرور ، ولها أن تقيم دعوى المسئولية ودعوى الرجوع قبل المحكوم عليه (م 131–24). ويجرى تحديد الأعمال التي يمكن القيام بها للصالح العام عن طريق مشاورات بين التجمعات العامة والأهلية وقاضي تطبيق العقوبات وأعضاء المجلس الإقليمي للوقاية من الإجرام Le conseil départemental du prévention de la délinquance. وعادة ما تتصل هذه الأعمال بتحسين البيئة الطبيعية ، كإعادة غرس الغابات وإصلاح وترميم الآثار التاريخية وإنارة الطرق ونظافة الشواطئ وأعمال التضامن ومساعدة المرضى والمعاقين. 

ويمكن إخضاع المحكوم عليه بالعمل للصالح العام لعدد من تدابير الرقابة والمساعدة التي سلف وأشرنا إليها في معرض حديثنا عن نظام إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار. 

وإذا ما تم تنفيذ العمل المحدد للمحكوم عليه فإن جهة العمل أي الجهة التي تم العمل لصالحها تخطر قاضي تنفيذ العقوبات أو مأمور الاختبار بهذا وتسلم المحكوم عليه شهادة تفيد تنفيذ العمل. أما إذا خل المحكوم عليه بالعمل الموكول إليه تنفيذه أو أخل بأحد الالتزامات المصاحبة للعمل أمكن عقابه عن جنحة عدم مراعاة الالتزامات الناشئة عن العمل للصالح العام المنصوص عليها بالمادة 434–42 عقوبات والتي يتقرر لها عقوبة الحبس سنتان وغرامة مائتي ألف فرنك.

207- البديل الثامن : نظام تقسيط العقوبات  :
     أخذ المشرع الفرنسي بنظام تقسيط العقوبات Fractionnement des peines  في قانون العقوبات الجديد في المادة 132–27 التي تقرر أنه "يجوز للمحكمة في مواد الجنح وللأسباب جدية طبية أو عائلية أو مهنية أو اجتماعية ، أن ينفذ الحبس المحكوم به لمدة سنة على الأكثر بالتقسيط ، خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات ولا تقل مدة كل تقسيط عن يومين". ويظهر من هذه المادة أن نظام تقسيط العقوبات لا يسري إلا بشأن الجنح دون الجنايات ويصدر القرار به من المحكمة المختصة وليس من قاضي تطبيق العقوبات. وهي نظام يقترب في مجموعه من النظام البلجيكي المعروف باسم "حبس نهاية الأسبوع" سالف الإشارة إليه.

ونهيب من جانبنا بالمشرع المصري أن يوسع من الأخذ بهذه البدائل كي يتجنب مساوئ العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، والتي انتشرت بعد تفشي ظاهرة "تسعير العقاب" Système de trafication de la punition في النظام القضائي المصري ، أي إصدار القضاء أحكام متماثلة في الجرائم المتماثلة دون اعتبار لشخصية المحكوم وظروفه ، وكذلك ما يسمى "عقدة الحد الأدنى" ، أي ميل القضاة إلى إصدار أحكام تقترب من الحد الأدنى للعقوبة .

الفصل الثانى
التدابير الاحترازية 

208- تمهيد :
     ظلت العقوبة لسنوات طويلة تمثل السلاح الوحيد في يد المجتمع ضد الجريمة. غير أن هذا السلاح قد أخفق في مواطن عدة عن تحقيق الهدف المنشود المتمثل في مكافحة الظواهر الإجرامية المختلفة ، الأمر الذي استوجب البحث عن بديل يحل محل العقوبة - أو يشاركها في بعض الأحيان - ويكون له من الفاعلية التي تمكن من تحقيق أغراض الجزاء الجنائي المتنوعة. وعلى هذا ، وفي ضوء الرغبة في تنوع أساليب مكافحة الجريمة، ظهرت فكرة التدابير الاحترازية Mesures de sûreté كصورة جديدة من صور الجزاء الجنائي .
وهذا النمط الجديد من الجزاءات يثير في الواقع بعض التساؤلات المتعلقة ببيان ماهيته وكيفية تطوره ، وكذلك أقسامه وأغراضه ، ثم بيان خصائصه وشروط تطبيقه ، وأخيراً إظهار الإشكاليات المتصلة بعلاقة التدابير بالعقوبة الجنائية. ولكل من هذه التساؤلات سوف نخصص مبحثاً.

المبحث الأول
ماهية التدابير الاحترازية وتطورها ومبرراتها

209- أولاً : ماهية التدابير الاحترازية : 
     التدابير الجنائية عموماً مجموعة من الإجراءات القهرية التي يرصدها المجتمع من أجل مواجهة الخطورة الإجرامية  الكامنة في الشخص والتي تنبئ عن احتمال ارتكاب الجريمة في المستقبل. ويتضح من هذا التعريف أن التدابير ليست إلا وسائل الغرض منها حماية ووقاية المجتمع ضد الخطر المستقبلي للمجرم ، وذلك بقطع الطريق بينه وبين الوسائل الدافعة أو التي تسهل له ارتكاب الجريمة - مثال ذلك مصادرة السلاح أو إغلاق المحل أو حظر الإقامة ...الخ - أو عن طريق إعداده لحياة شريفة في المجتمع أو علاجه من مرض عقلي أو نفسي يؤثر في سلوكه ، كإلحاق المجرم بعمل ما من الأعمال أو وضعه تحت مراقبة الشرطة أو إيداعه في إحدى المصحات النفسية أو العقلية.

والتدبير وفق هذا التعريف لا يتوافر فيه معنى الألم المتوافر في العقوبة ، أي أنه يتجرد من المضمون الأخلاقي الذي يعطي للعقوبة أهم خصائصها. فالغرض النفعي ، المتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد خطورة المجرم لمنع ارتكاب لجرائم جديدة ، هو الغرض الأساسي للتدابير .

كذلك يتضح أن التدابير إجراءات قسرية توقع جبراً على من توافرت فيه الخطورة الإجرامية. ومن ثم فهي لا تؤسس على فكرة المسئولية الجنائية وإنما على أساس الخطورة المستقبلية للمجرم. لذا فمن المتصور توقيعها قبل من لم توافر فيه شروط المسئولية الجنائية ، كالمجنون وناقص الأهلية وصغير السن ...الخ.

وارتباط التدابير بالخطورة الإجرامية إنما يعني توقيع هذه التدابير على من وقعت منه بالفعل جريمة سابقة تكشف عن تلك الخطورة. ومن هنا تتميز التدابير الاحترازية عن إجراءات الوقاية التي قد يتخذها المجتمع قبل وقوع الجريمة ، وبهدف منع وقوعها بداءةً. تلك التدابير الأخيرة - التي يطلق عليها البعض "تدابير التحصين الاجتماعي ضد الإجرام" - توصف بأنها تدابير ذات طبيعة اجتماعية عاطلة من أي صبغة جنائية بهدف تضيق فرص الإجرام ، مثالها إنارة الطرق وتحسين مستوى المعيشة والاهتمام بالتعليم والحد من البطالة...الخ . 

210- ثانياً : نشأة وتطور التدابير الاحترازية :
     عرفت التدابير الاحترازية منذ زمن بعيد ، حتى قبل ظهور أفكار المدرسة الوضعية الإيطالية كإجراءات مشتتة لا يجمعها نظرية عامة موحدة وتحت أسماء متفاوتة كالتدابير الإدارية في حالة إيداع المجنون في محل معد لذلك أو كعقوبة تبعية أو تكميلية كما هو الحال في المصادرة أو الحرمان من بعض الحقوق والمزايا.

إلا أن تأصيل جملة التدابير - على تنوعها - وإعطائها صفة الجزاء الجنائي ووضعها في إطار نظرية عامة كان الفضل فيه للمدرسة الوضعية الإيطالية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن عقيدة تلك المدرسة هي حماية المجتمع والدفاع عنه ضد مصادر الخطورة الإجرامية. ولما كانت العقوبة في نظر أنصار هذه المدرسة قد أفلست في القيام بدورها سواء قبل معتادي الإجرام أو قبل طائفة المجانين وعديمي التميز والشواذ والأحداث فكان لابد من ابتداع ما أسمته تلك المدرسة تدابير الأمن Mesures de sûreté اللاحقة على ارتكاب الجريمة متى كانت هذه الأخيرة تنم عن خطورة إجرامية في المستقبل.

ولقد أثرت المدرسة الوضعية على تشريعات العديد من الدول فأخذت بصور متنوعة من التدابير ، مثال ذلك القانون الفرنسي عام 1885 الذي كان يقضي بالنفي Relégation  على معتادي الإجرام ، وكذلك القانون البلجيكي عام 1891 الذي كان يقرر وضع المتشردين تحت تصرف الحكومة بغرض تأهيلهم ، وقانون البرتغال عام 1892 والأجنتين عام 1903 وكذلك قانون الحجز الوقائي في إنجلترا عام 1908.

غير أن أولى المحاولات الجادة لوضع تنظيم متكامل للتدابير كان في مشروع قانون العقوبات الذي قدمه كارل استوس Karl Stooss في سويسرا عام 1893 ، والذي أصبح قانوناً بالفعل بعد عدة سنوات في عام  1937. هذا المشروع اختص بالتدابير حالات معتادي الإجرام والمتشردين ومن اشتهر عنهم سوء السلوك ومدمني الكحول. حيث اقترح إرسالهم لأماكن خاصة عازلة في حالات الخطورة الجسمية أو إلى محال عمل لذوي الخطورة المتوسطة أوالبسيطة .

وقد دعت مدارس الوسط ، والتي ترمي إلى التوفيق بين أفكار المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الوضعية ، إلى الأخذ بالتدابير الاحترازية إلى جوار العقوبة مع الاحتفاظ لكلا الجزاءين بنطاقه الخاص. فتختص العقوبات بالمجرمين كاملي الأهلية وتنفرد التدابير بالحالات التي تحتاج إلى العلاج أو التقويم كالأحداث وناقصي وعديمي الأهلية. 

وإلى هذا النظام الجمعي بين العقوبة والتدابير ذهبت العديد من التشريعات كالقانون اليوغسلافي عام 1929 ، والألماني عام 1933 ، وقوانين كل من إيطاليا والدنمارك وبولندا عام 1930 ، والمكسيك في عام 1928 ، وقانون الدفاع الاجتماعي الكوبي عام 1936. واخذ بهذا الاتجاه أيضا المشرع الفرنسي في قوانين كثيرة ، منها قانون عام 1953 المتعلق بالاتجار واستعمال المواد المخدرة ، وقانون 14 أبريل عام 1954 بشأن علاج مدمني الكحول والخطرين على الغير ، وقانون 4 يوليو سنة 1954 بشأن العائدين ،  وقانون مارس لسنة 1955 بشأن حظر الإقامة. وأخذ بذلك أيضاً بشأن المجرمين الشواذ ومعتادي الإجرام 1936. يضاف إلى ذلك بعض التشريعات العربية كلبنان عام 1943 ، وليبيا عام 1953 ، والأردن عام 1960 ، وقانون العقوبات الاتحادي الإماراتي رقم 3 لسنة 1987 والذي خصص الباب السابع منه (م 159 –132) لبيان التدابير الجنائية. وقد نهج هذا النهج مشروع قانون العقوبات المصري عام 1967 والذي خصص للتدابير الاحترازية الفصل الثالث والرابع منه (م 76 إلى 113) .

211- ثالثاً : علة التدابير الاحترازية :
     تستمد التدابير الاحترازية وجودها من قصور فكرة العقوبة عن القيام بدورها في مكافحة الجريمة وصيانة المجتمع ضد حالات الخطورة الإجرامية. فلقد سبق وأن ذكرنا أن جوهر العقوبة هو الألم الذي يصيب المحكوم عليه في حق من حقوقه اللصيقة بشخصيته كالحق في الحياة أو في الحرية أو الحق في التملك أو في الشرف والاعتبار. بهذا الأسلوب العقابي أراد المشرع أن ينقل المحكوم عليه من مرحلة تمثل الألم إلى مرحلة التذوق الفعلي له لكي لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى .

كما سبق وأن قلنا أن هذا الأسلوب العقابي يرتكن إلى فلسفة قوامها الإرادة الآثمة أو الخطأ، أي اندفاع المجرم بإرادته نحو الجريمة حراً مختاراً. وارتكان العقوبة على هذا المنطق يعطيها المشروعية كوسيلة لتقويم الإدارة الآثمة عن طريق إشعار المجرم بما يجره عليه الإجرام من متاعب وآلام.

هذا الأسلوب يظل قاصر في الحالات التي تكون الجريمة فيها قد ارتكبت تحت تأثير الجنون أو المرض العقلي أو النفسي أو بسبب انعدام التميز والإدراك. فلدى المصابون بتلك الحالات ينعدم استشعار الألم والإحساس به مهما عظم العقاب وتكرر. فأي ألم يجدي في منع الصغير أو المجنون المجرم أو المجرم العائد من تكرار الجريمة.

من هنا كان لابد من البحث عن منهج آخر خلاف ألم العقوبة ، وكان هذا السبيل هو استخدام وسائل تقوم على التأهيل والعلاج ، ولا تستند مشروعيتها إلى الخطأ بقدر ما تستند إلى أساس اجتماعي مضمونه الدفاع عن المجتمع ضد حالات الخطورة الإجرامية ، والتي أطلق عليها اسم التدابير الاحترازية . هذا السبيل الذي بدأت المؤتمرات الدولية الحث على الأخذ به بدءً من المؤتمر الرابع للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في كيوتو باليابان في الفترة من 17 إلى 26 أغسطس 1970.
المبحث الثاني 
أقسام وأغراض التدابير الاحترازية

212- أولاً : أقسام التدابير الاحترازية :
     لبيان أقسام التدابير يجدر بنا أن نبين أولاً الأقسام العامة للتدابير ، قبل تبيان أقسامها في كل من التشريعين المصري والفرنسي.

213- أ : الأقسام العامة للتدابير :
     تنقسسم التدابير - كما هو الشأن في العقوبات - إلى أقسام متنوعة تكشف عن موضوعها ، أو عن طبيعتها ، أو عن سلطة القاضي نحوها ، أو عن علاقتها بالعقوبة.

فمن حيث موضوعها تنقسم التدابير إلى تدابير شخصية وأخرى عينية. والأولى هي التي يكون موضوعها شخص المجرم ذاته ، وبعضها قد يكون سالب للحرية ، كإيداع المجنون إحدى المصحات العقلية أو النفسية أو إيداع المتسول غير صحيح البنية إحدى دور الرعاية الاجتماعية أو الملاجئ (م8 من قانون رقم 49 لسنة 1933 الخاص بالتسول) ، وبعضها الآخر قد يكون مقيد للحرية ، كالوضع تحت مراقبة الشرطة وكحظر إقامة كل محكوم عليه بالإعدام أو بالسجن المؤبد أو المشدد لجناية قتل أو شروع فيه أو ضرب أفضى إلى موت بعد سقوط العقوبة بمضي المدة في دائرة المديرية أو المحافظة التي وقعت فيها لجريمة (م523 و م523 إجراءات جنائية) وكإيداع معتادي الإجرام ومعتادي ممارسة الفجور أو الدعارة مؤسسات أخلاقية (م9 من قانون رقم 10 لسنة 1961 بشأن مكافحة الدعارة).

أما التدابير العينية فهي التي تنصب على شئ مادي استخدمه المجرم في جريمته أو عاد عليه منها للمباعدة بينه وبين وسائل إجرامه. ومن أمثلتها مصادرة الأِشياء التي تستعمل في جناية أو جنحة أو تتحصل منها (م30 عقوبات) ، ومصادرة الموازين والمكاييل والمقاييس المغشوشة (م11 من قانون رقم 229 لسنة 1951) ، ومصادرة المخدرات المضبوطة (م42 من قانون رقم 182 لسنة 1960) ، ومصادرة النقود والأمتعة في محال القمار واليانصيب (م352 و م353 عقوبات) ، وإغلاق المحال العمومية (م36 و37 من قانون رقم 371 لسنة 1956) ، وإغلاق بيوت الدعارة (م128 من قانون رقم 10 لسنة 1969) ، وتعطيل إصدار الجرائد (م179 و200 عقوبات).

أما من حيث طبيعتها فتنقسم إلى تدابير إلى تدابير علاجية وأخرى تحفظية. والأولى يغلب عليها طابع العلاج لا الإيلام ، كإيداع المجنون مصحة عقلية أو علاجية ، وإيداع المعتاد الإجرام إصلاحية أو منشأة عمل. أما الثانية فيتساوي فيها نسبة العلاج مع الإيلام ، كالوضع تحت مراقبة الشرطة أو إغلاق بيوت الدعارة.

أما من حيث سلطة القاضي إيذائها ، فتنقسم التدابير إلى تدابير وجوبية وأخرى جوازية ، بحسب السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي في تطبيق التدبير.
وأخيراً تنقسم التدابير من حيث صلتها بالعقوبة إلى تدابير يمكن الجمع بينها وبين العقوبة ، وذلك إذا توافر للمجرم الأهلية الجنائية اللازمة لتحمل المسئولية الجنائية ، وإلى تدابير لا يتصور تطبيقها مع العقوبة وإنما توقع بمفردها في حالات تنعدم فيها المسئولية الجنائية لدى المجرم لمرضه أو لعاهة عقلية فيه.

214- ب : أقسام التدابير في التشريع الفرنسي والمصري :
215- التدابير الجنائية في التشريع الفرنسي  :
     تنقسم التدابير في التشريع الفرنسي إلى تدابير ذات طابع تهذيبي أو تأهيلي Mesures de sûreté à prédominance rééducation وتدابير ذات طابع إبعادي Mesures de sûreté neutralisatrice.

أما التدابير التهذيبية فهى على أنواع شتى. فمنها التدابير التربوية     Mesures éducatives التي تهدف إلى إعادة تأهيل الفرد من كافة جوانبه العقلية أو المهنية أو الأخلاقية أو الاجتماعية كالتدابير التي تطبق بشأن المشردين Vagabonds والمتسولين Mendiants و العاهرات Prostituées وفقاً للمرسوم رقم 143 الصادرة في يناير عام 1959 ، والذي أسند إلى لجنة مساعدة المشردين Commission d’assistance aux vagabonds - التي يرأسها قاضي تنفيذ العقوبات -  تحديد التدابير التربوية المناسبة للمتشرد.

ومن التدابير التهذيبية أو التأهيلية ما يعرف بالتدابير العلاجية Mesures thérapeutiques  التي تطبق على المصابين بأمراض عضوية أو عقلية أو نفسية أو على مدمني الكحوليات Les alcooliques والشواذ جنسياً Malades vénériens أو على المجرمين المجانين Les délinquants aliénés ويخضع تطبيق مثل تلك التدابير لإشراف رئيس المحكمة الابتدائية من أجل ضمان الحريات والحقوق الفردية.

ومثال التدابير التهذيبية كذلك ما يسمى تدابير مساعدة الوصي Mesures d’assistance tutélaire والتي تخضع الشخص إلى وصاية أحد الأفراد المؤهلين من أجل توجيه النصح والإرشاد له.

وهناك أخيراً ما يسمى بتدابير الرقابة والإشراف Mesures de surveillance والتي تخضع الشخص لعدد من الالتزامات والقيود تحت رقابة عدد من الأشخاص المؤهلين لتلك الرقابة كمنعه من ارتياد بعض الأماكن أو مخالطة من شاركوه في الجريمة أو الاتصال بالمجني عليه أو إلزامه بالحضور أمام قاضي التنفيذ أو مأمور الاختبار (مسئولي الرقابة والإشراف) في مواعيد محددة ….الخ.

أما التدابير ذات الطابع الإبعادي فمثالها طرد المجرمين الأجانب وإبعادهم عن البلاد L’expulsion des étrangers délinquants ، وهو إجراء هددت السلطات الفرنسية باستخدامه قبل من يثبت إدانتهم في أحداث العنف التي اندلعت في شهر نوفمبر 2005 في ضواحي باريس وفي مدن فرنسية غيرها.   
216- التدابير الجنائية في التشريع المصري : 
     يمكن القول بأن المشرع المصري الحالي لم يفرد للتدابير نظرية كاملة وإنما قرر النص عليها في أماكن متفرقة بين قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وبعض القوانين الخاصة. وبمراجعة هذه القوانين يمكننا أن نقسم التدابير في التشريع المصري إلى تدابير تطبق على البالغين وأخرى على صغار السن.

217- التدابير المقررة بشأن البالغين :
     يطبق المشرع المصري العديد من التدابير تجاه البالغين بعضها ذات طابع شخصي تتصل بشخص المجرم والأخرى ذات طابع عيني تتصل بماديات الجريمة أو بما تحصل عنها.

ومن التدابير ذات الطابع الشخصي النصوص عليها في قانون العقوبات يمكن أن نذكر الوضع تحت مراقبة الشرطة التي يحكم بها في بعض الجرائم (م28 و355 و367 عقوبات) أو تجاه المحكوم عليهم بالسجن المؤبد عند العفو عنهم أو إبدال عقوبتهم (م 75/2 عقوبات). ومثال ذلك أيضاً الحرمان من الحقوق والمزايا (م25 أولاً عقوبات و م26 و27 عقوبات). ومثال ما ورد من تدابير شخصية في قوانين خاصة يمكن أن نذكر تحديد الإقامة في جهة أو مكان معين أو المنع من الإقامة في مكان معين والإعادة إلى الموطن الأصلي والإبعاد بالنسبة للأجنبي أو الإيداع في إحدى مؤسسات العمل المحددة بقرار من وزير الداخلية. ومثال ذلك أيضاً الإيداع في مؤسسات أخلاقية للمجرمين معتادي ممارسة الفجور والدعارة (م9 من قانون رقم 10 لسنة 1961 بشأن مكافحة الدعارة) أو الإيداع في مؤسسة علاجية لمدمني المخدرات (م37 من قانون رقم 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989). ومثال ذلك أيضا ما تنص عليه المادة 48 مكرراً من القانون الأخير من جواز أن تحكم المحكمة الجزئية على من يثبت ارتكابه وسبق الحكم عليه أكثر من مرة في جناية من الجنايات المنصوص عليها في القانون. وهذه التدابير هي الإيداع في إحدى مؤسسات العمل أو تحديد الإقامة في جهة معينة أو منع الإقامة في جهة معينة أو الإعادة للموطن الأًصلي أو حظر التردد على أماكن ومحال معينة أو الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة. ولا يجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به عن سنة ولا أن يزيد على عشر سنوات. وفي حالة مخالفة التدبير يحكم على المخالف بالحبس .

ومن أمثلة التدابير العينية في التشريع المصري ما سلف وأن ذكرناه منذ قليل في شأن المصادرة المنصوص عليها بالمادة 30 عقوبات ، ومصادرة الموازين والمكاييل والمقاييس المغشوشة ، ومصادرة النقود والأمتعة في محال القمار واليانصيب ، وإغلاق المحال كالصيدليات والمحال المرخص لها بالاتجار في المواد المخدرة إذ وقعت فيها جريمة مخدرات، وإغلاق المحال العامة وبيوت الدعارة وتعطيل الجرائد …الخ.
218- التدابير المقررة بشأن صغار السن :
     نصت المادة 101 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 على أنه يحكم على الطفل الذي لم يبلغ سن خمس عشرة سنة ، إذا ارتكب  جريمة بأحد التدابير الآتية  :

*- التوبيخ : أي توجيه اللوم للحدث من قبل المحكمة في الجلسة وتأنيبه.
*- التسليم : أي أن يعهد القاضي بالصغير إلى لولديه أو لمن له الولاية عليه. فإذا لم يكن له والدين أو ولي أمر جاز أن يعهد إلى شخص مؤتمن برعاته وتربيته.
*- الإلحاق بالتدريب المهني : بأن تعهد المحكمة بالصغير إلى أحد المصانع أو المزارع أو المتاجر من أجل تدريبه وتعليمه ، على ألا يجاوز ذلك ثلاث سنوات. 
*- الاختبار القضائي : أي ترك الحدث في الوسط الحر في بيئته الطبيعة مع إخضاعه للرقابة والإشراف وتقيده بمجموعة من الالتزامات. ولا يجاوز هذا التدبير ثلاث سنوات .
*- الإيداع الاجتماعي : أي وضع الصغير إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية. ويظل الحدث في الدار أو الإصلاحية إلى أن يأمر وزير العدل بالإفراج عنه بقرار يصدر بناء على طلب مدير الإصلاحية وموافقة النائب العام. ولا يجوز أن يبقى الحدث أكثر من عشر سنوات في الإصلاحية في حالة الجنايات وخمس سنوات في حالة الجنح وثلاث سنوات في حالة التعرض للانحراف. وعلى المؤسسة المودع لديها الحدث أن ترفع إلى المحكمة تقريراً عن حالته كل ستة شهور على الأكثر لتقرر ما تراه بشأنه.
*- الإيداع العلاجي : أي وضع الصغير في إحدى المستشفيات المتخصصة وذلك في حالة الأحداث المجرمون المصابون بمرض عقلي أو نفسي. وتخضع هذه المستشفيات لرقابة وإشراف المحكمة والتي لها أن تخلي سبيل الحدث إذا سمحت التقارير الطبية المرفوعة عن حالته بذلك.
*- الإلزام بواجبات معينة : يكون ذلك بترك الحدث في الوسط الحر مع إلزامه ببعض الواجبات الإيجابية أو السلبية. كالامتناع عن ارتياد أماكن معينة أو التقدم لجهة رقابية أو إشرافية في فترات معينة أو الامتناع عن مخالطة بعض الأشخاص ...الخ.
وتقر ذات المادة (م110) أنه لا يجوز أن يحكم على الطفل الذي لم يجاوز سنه خمس عشر سنة بأي عقوبة أو تدبير آخر منصوص عليه في قانون آخر ، وذلك فيما عدا المصادرة وإغلاق المحل. كما تطبق هذه التدابير أيضاً على الطفل الذي تعرض للانحراف وفقاً للمادة 98 من قانون الطفل.

والواقع أن القول بعدم جواز توقيع عقوبة أخرى أو تدبير آخر على الطفل الذي لم يبلغ خمس عشر سنة يدفع إلى التساؤل حول طبيعة الجزاءات المنصوص عليها في المادة 110 ، هل هي عقوبات أم تدابير ؟ 

في البداية ذهبت محكمة النقض في أحكامها القديمة إلى القول بأن الطرق التقويمية المقررة للأحداث وصغار السن ليست بعقوبات بالمعنى القانوني. فهي ليست داخلة في التعداد الوارد بقانون العقوبات بصدد العقوبات الأصلية أو التبعية أو التكميلية. فهي مجرد طرق تربوية يحكم بها بديلاً عن العقوبات لظروف خاصة بالحدث . ثم عدلت محكمة النقض بعد ذلك عن هذا الاتجاه مقررة أنه وإن كان المشرع لم يذكر بالمادة 9 وما بعدها عقوبات تلك التدابير إلا أنها في حقيقتها عقوبات مقررة لصنف معين من المجرمين ويتوافق مع ظروفهم .

والواقع أننا نحبذ وصف هذه الجزاءات بأنها مزيج يجمع بين وصف العقوبات ووصف التدابير ، ولا يبرر رأي محكمة النقض وصفها لهذه الوسائل التقويمية بأنها عقوبات إلا بتأثرها بخطة المشرع الذي لم يجعل من نظام "التدابير الاحترازية" نظاماً قانونياً مستقلاً وبرغبتها في إجازة الطعن بالاستئناف والنقض في الأحكام الصادرة بهذه الوسائل .

وقد استبعد المشرع المصري توقيع عقوبتي الإعدام والسجن المؤبد على الحدث إذا كان الحث قد جاوز خمسة عشر عاماً. فإذا ما ارتكب الحدث في ذاك السن جناية فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها هي السجن الذي لا يقل عن عشر سنوات وذلك إذا كانت عقوبة الجناية هي الإعدام أو السجن المؤبد. فإذا كانت العقوبة هي السجن المشدد ، فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها هي السجن بحدها الأدنى والأقصى. وإذا كانت العقوبة هي الأشغال السجن المشدد أو السجن ، فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها على الحدث الذي يجاوز خمس عشر عاماً هي الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر. أما إذا كانت العقوبة هي السجن فإن العقوبة تبدل إلى الحبس مدة لا تقل عن ثلاث أشهر ، وفي جميع الأحوال لا تزيد عن ثلث الحد الأقصى المقرر للجريمة. ويجوز للمحكمة أن تقرر إيداع الحدث إحدى دور الرعاية الاجتماعية مدة لا تقل عن سنة. فإذا كانت جريمة الحدث الذي جاوز خمس عشر عاماً جنحة جاز الحكم عليه بالحبس أو إيداعه في إحدى المؤسسات الاجتماعية أو وضعه تحت الاختبار (م.12 من قانون الأحداث ، م. 111 من قانون الطفل).

وكان المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات عام 1967 قد قسم التدابير إلى تدابير دفاع اجتماعي ، وتدابير جنائية مقيدة للحرية ، وتدابير جنائية سالبة للحقوق ، وأخرى مادية. 

فقد نصت المادة 104 من المشروع على أن تدابير الدفاع الاجتماعي هي الإيداع في مأوى علاجي ، أوالإيداع في إحدى مؤسسات العمل ، أوالمراقبة ، أو الإلزام بالإقامة في الموطن الأصلي. ونصت المادة 77 منه على أن التدابير المقيدة للحرية هي حظر ارتياد  الحانات ، أومنع الإقامة في مكان معين ، أوالمراقبة ، أوالاختبار القضائي ، أوالإلزام بالعمل ، أوالإبعاد عن البلاد (بالنسبة للأجانب فقط). كما قررت المادة 78 من ذات المشروع على أن التدابير السالبة للحقوق هى إسقاط الولاية أو الوصاية أو القوامة وكذلك الوكالة عن الغائب ، أوحظر ممارسة عمل أو سحب ترخيص القيادة. وأخيراً قررت المادة 79 على أن التدابير المادية هي المصادرة أو إغلاق المحل. 
219- ثانياً : أغراض التدابير الاحترازية :
     إذا كان للعقوبة ، كما أسلفنا ، أهداف ثلاث تتمثل في تحقيق الردع العام والردع الخاص وإرضاء الشعور بالعدالة ، فإننا نجد أن التدابير تتميز بكونها أحادية الهدف ، الذي يتمثل فقط في تحقيق الردع الخاص. وعلى هذا يمكن القول أن العقوبة لها وظيفة أخلاقية ، أي الرغبة في التكفير أو إرضاء الشعور الاجتماعي الذي تأذى بالجريمة بما يحقق معنى العدالة ، الأمر الذي يستوجب أن تنطوي العقوبة على معنى الإيلام المكافئ أو المعادل لما أحدثه الجاني من ضرر بالمصلحة المعتدى عليها. على العكس من ذلك فإن الوظيفة الأساسية للتدابير هو تحقيق غرض نفعي يتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد احتمالية ارتكاب جرائم تمثل عدوان  عليه في المستقبل ، وذلك إما بالتوجه للمتهم من أجل إصلاحه أو علاجه وإما بعزله وإقصائه نهائياً عن المجتمع .

فالتدابير تتجرد من أي وظيفة أخلاقية ، حيث لا يبني توقيعها على أساس الخطأ أو قيام المسئولية الأخلاقية ، وإنما مناط توقيعها هي الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص الجاني والتي كشفت عنها الجريمة التي سبق له ارتكابها.

فلا تستهدف التدابير تحقيق الردع العام - وإن أمكن تحقيقه عرضاً وعلى نحو غير مقصود - حيث لا يرتبط توقيعها بالجريمة التي ارتكبت وإنما بالخطورة الإجرامية المستقبلية ، أي احتمالية ارتكاب الجرائم في المستقبل. ومن ثم تنتفي الصلة في تقدير الرأي العام بين الجريمة المرتكبة وبين التدابير المطبقة. وعلى هذا النحو فإن أثرها التهديدي والتخويفي أثر ضعيف لا يكاد يذكر.

كما أن التدابير لا تهدف إلى تحقيق العدالة. فهي لا ترمي إلى إعادة التوازن بين الجريمة كشر وقع والتدبير كشر مقابل. فهي على الأكثر تقدير وسيلة لعلاج المجرم بالقضاء على الخطورة الكامنة فيه وتحويله إلى رجل شريف .

ويتحقق الردع الخاص الذي ترمي إليه التدابير بإحدى ثلاثة أساليب : إما بالتأهيل وإما بالإبعاد وأما بالتعجيز. ويقصد بالتأهيل علاج خطورة المجرم وأسباب إجرامه بمختلف الأساليب الطبية والنفسية والعلمية من أجل تحويله إلى عضو نافع في المجتمع. وقد يصبح التأهيل أمراً عسيراً وصعب المنال في بعض الحالات بما يدفع المجتمع - من أجل أن يقي نفسه شر المجرم في المستقبل - إلى ابعاد المجرم عن المجتمع ، سواء على سبيل التأبيد أو بشكل مؤقت عن طريق العزل أو بمنعه من ارتياد بعض الأماكن أو بإبعاده عن البلاد إذا كان المجرم أجنبيا. وقد يتحقق الردع الخاص أخيراً عن طريق المباعدة بين المجرم وبين الوسائل التي يكون بغيرها عاجزاً عن الإجرام ، ومثال ذلك غلق المنشأة أو المصادرة.

وهذه الوسائل ليست منفصلة بعضها عن بعض ، ولكنها تتكامل أحياناً بحيث يكون إحداها تمهيداً للآخر أو قد تشترك واحدة مع الأخرى إذا استدعت ظروف المجرم هذا الأمر .
المبحث الثالث
خصائص التدابير الاحترازية وشروط تطبيقها

220- أولاً : خصائص التدابير الجنائية :
     لإبراز الخصائص التي تميز التدابير الاحترازية يتعين علينا أن نبين أولاً الخصائص التي تشترك فيها التدابير مع العقوبات قبل أن نبين ما تتميز بها التدابير وحدها.

221- أ : الخصائص المشتركة بين التدابير والعقوبات  :
222- التدابير والعقوبات جزاءات قانونية :
     حاول البعض أن يشكك في الطبيعة القانونية للتدابير من حيث كونها جزاءات قانونية ، على أساس أن هذه الأخيرة هي رد فعل يقرره النظام القانوني في مواجهة وقائع مخالفة للقانون ، وتعبر بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن سلوك إرادي. وبالتالي فالجزاء يفترض قاعدة قانونية انتهكت إرادياً ، وهذا الأمر لا يتوافر بشأن التدابير. فهده الأخيرة لا تفترض قاعدة موجهة للأفراد بل إن القاعدة القانونية التي تنص على التدابير إنما هي موجهة إلى أجهزة الدولة تطبقها متى توافرت شروطها.

فالفرد لا يمكن أن يوجه إليه أمراً بألا يكون خطراً ، ذلك أن الخطورة صفة وليست واقعة، قد تتدخل الإرادة أحياناً وبصورة غير مباشرة في اكتسابها بالنسبة لفئات معينة من الأفراد، مثل كاملي الأهلية الخطرين ، بينما بالنسبة لفئات أخرى ، كالأحداث عديمي الأهلية ومرضى العقول ، فتتخلف ارادة اكتساب تلك الصفة. فالتدابير لا تجازي الفرد على جريمة ، بل هى وسيلة تستخدمها الدولة في مكافحة الجريمة .

ولاشك أن هذا الرأي ينظر إلى الجزاء الجنائي بمنظور ضيق. فالوظيفة الوقائية للتدابير - التي وإن كانت تختلف بالطبع عن وظيفة العقوبة التي يناط بها أساساً الردع - لا تحول دون اعتبار التدابير من قبيل الجزاءات القانونية. فليس في التشريع ما يمنع من تبني مفهوم موسع للجزاء الجنائي يشمل الجزاء الرادع والجزاء الوقائي. ويكون كلاً من العقوبات والتدابير صورتين للجزاءات الجنائية ، وأن القواعد التي تتعلق بهما تتوجه بالخطاب إلى الأفراد للعمل على احترامها .


223- شرعية التدابير والعقوبات :
     تخضع التدابير لمبدأ الشرعية الجنائية المقرر بشأن العقوبات. فإذا كان المبدأ أنه لا عقوبة إلا بناءً على قانون ، فإن ذات المبدأ يسري على التدابير الاحترازية ، فلا يوقع تدبير إلا بناءً على قانون. والعلة في ذلك أن التدابير شأنها شأن العقوبات تتضمن قيوداً على حريات وحقوق الأفراد ، ومن ثم فلا يجوز تقريرها إلا من قبل المشرع أو من يفوضه في ذلك.

وقد كرست بعض التشريعات هذه الشرعية صراحاً ومن ذلك ما نص عليه قانون العقوبات اللبناني في مادته الأولى من أنه "لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو إصلاحي من أجل جرم لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترانه". ومن ذلك أيضاً ما نص عليه قانون العقوبات الاتحادي بدولة الإمارات العربية المتحدة في مادته الرابعة حين أكد على أنه "لا يفرض تدبير جنائي إلا في الأحوال وبالشروط المنصوص عليها في القانون". وإلى هذا ذهب أيضاً مشروع قانون العقوبات المصري في عام 1967 حين نص في المادة الرابعة فقرة أولى منه على أنه "لا يحكم بتدبير إلا في الأحوال وبالشروط المنصوص عليها في القانون".

224- شخصية التدابير والعقوبات :
     تخضع التدابير الجنائية - كما هو الحال في شأن العقوبات - لمبدأ الشخصية ، بحيث لا يتحمل الأثار الناشئة عن التدابير إلا من عينة الحكم لتحملها. وإذا كانت العقوبات تتقرر على مرتكب الفعل بشخصه ولا يجوز فيها الحلول في تحميلها ولا التوارث فكذلك الأمر بالنسبة للتدابير ، فلا توقع إلا على من ثبتت خطورته الإجرامية دون حلول في ذلك أو توارث. فالتدابير إجراء قصد به تفريد الجزاء الجنائي تبعاً للشخصية الفردية ، أي يستهدف مكافحة عوامل الخطورة الكامنة في الشخص. ولما كانت الخطورة صفة فردية فقد كان طبيعياً أن يطبق التدبير على الإنسان الخطر فقط محواً لخطورته ومن أجل الدفاع عن المجتمع.

225- قضائية التدابير والعقوبات :
     تتضمن التدابير بحسبانها جزاءً جنائياً - مهما كانت بساطتها - تقيداً وسلباً للحرية أو حرمان من بعض الحقوق والمزايا ، مما يعني أنها تمس بحقوق وحريات الأفراد ، من هنا كان لابد من أن يوكل أمر توقيعها إلى السلطة القضائية منفردة بهذا الأمر وحدها لا يشاركها فيها سلطة أخرى ، شأنها في ذلك شأن العقوبات.

لذا فإن كل تدخل من جهة الإدارة في أمر توقيع التدابير يمثل انتهاكاً لمبدأ قضائية الجزاء الجنائي .La juridictionnalisation de la sanction pénale   ومن قبيل ذلك القانون رقم 74 لعام 1970 في شأن وضع بعض المشتبه فيهم تحت مراقبة الشرطة بناء على حالة الاشتباه. فهذا القانون قد أجاز لوزير الداخلية وضع المعتقل تحت مراقبة الشرطة لمدة سنتين بعد الإفراج عنه إذا توافرت في حقه حالة الاشتباه ، مع إعطائه الحق في التظلم أمام السلطة القضائية. هذا النص قد انتقدته المحكمة العليا في حكمها الصادر بتاريخ 5 أبريل 1975 مطالبة بأن يوكل أمر وضع المشتبه فيهم تحت مراقبة الشرطة للسلطة القضائية وحدها خشية التعسف والاستبداد من الإدارة.
كما يمكننا أيضاً أن ننتقد تدخل الإدارة في توقيع تدابير غلق المنشأة والمحال العامة بناء على التوسع في فكرة قانون العقوبات الاقتصادي.

226- جبرية التدابير والعقوبات : 
     الجزاء الجنائي - تدبير كان أم عقوبة - مقرر لمصلحة المجتمع ، لذا فإن التدابير - كما هو الحال في شان العقوبات - تطبق بصرف النظر عن رضاء أو إرادة المحكوم عليه. وهذه الصفة الجبرية هي التي تكفل للتدابير عامة صفة الجزاء الجنائي.

227- ب : السمات الخاصة بالتدابير:
     تنفرد التدابير بحسبانها جزاء يتعلق بمواجهة الخطورة الإجرامية الكامنة في الجاني بعدة خصائص منها :

228- الوقاية الخاصة كهدف للتدبير:
     للتدابير وظيفة محددة هي الوقاية أو المنع الخاص ، أي محاولة القضاء على عوامل الخطورة الفردية التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب جريمة في المستقبل. وعلى هذا الأساس فيتوقف تطبيق التدابير على تحقق شرطين : الأول موضوعي يتمثل في ارتكاب الفرد لجريمة، والثاني شخصي يتمثل في توافر الحالة الخطرة التي تجعل من صاحبها مصدر لإجرام جديد .

ويترتب على ذلك أن التدابير ، حتى ولو اتخذت صورة سلب الحرية ، فإنها لا تستهدف الإيلام والتكفير عن الجريمة التي وقعت. وإنما ترمي إلى إبعاد المجرم عن الظروف والعوامل التي تهيئ له سلوك سبيل الجريمة ، أي إبعاده عن أسباب خطورته. وكون التدابير تتصل بالخطورة الإجرامية المستقبلية وليس الجريمة أو الواقعة الإجرامية المرتكبة فإن الأمر يوجب أن يراعى عند توقيعها تناسبها مع شخصية الجاني وخطورته دون بحث في الأساس الموضوعي المتمثل في الجريمة التي كانت قد وقعت.

229- عدم تحديد مدة التدابير Mesures indéterminées :
     لما كان هدف التدابير ينحصر في مقاومة الحالة الخطرة الكامنة داخل الشخص المجرم كي يباعد بينه وبين ارتكاب جريمته في المستقبل ، فإن من الصعب وضع حد أقصى محدد سلفاً لما قد يفرض من تدابير تقومية وتأهيلية وعلاجية تجاه شخص المجرم. لهذا تذهب التشريعات إلى وضع حداً أدنى للتدابير مع ترك انتهائها متوقف على السلطة التقديرية للقاضي في ضوء ما يرفع له من تقارير عن حالة المجرم ومدى نجاحه أو فشله في التأهيل.

ونظراًُ لأن مثل هذا الإطلاق في مدة التدابير قد يمس بمبدأ الشرعية الجنائية ، خاصة في حالة التدابير السالبة للحرية ، فإن التشريعات المختلفة توجب إخضاع المجرم المحكوم عليه لفحص دوري يباشره الأخصائيون في مجال العلوم النفسية والاجتماعية وعلوم الجريمة مع عرض أمر الخاضع للتدبير على السلطة القضائية في فترات دورية للاستجلاء حالته الإجرامية وتقدير ما إذا كان من المناسب إنهاء التدبير أو تجديده لمدة أخرى .

230- قابلية التدبير للتعديل  :
     من بين السمات التي تميز التدبير عن العقوبة الجنائية هي قابلية التدبير للتعديل Mesures modifiables خلال مرحلة لتنفيذ. فعلى العكس من العقوبة التي لا يجوز إبدالها بعقوبة أخرى أثناء مرحلة التنفيذ ، فإن التدبير يجوز أن يبدل كليه أو يعدل جزئياً أثناء التنفيذ ، متى كان ذلك يلاءم شخصية المجرم ودرجة خطوته الإجرامية. وعلى هذا نص قانون العقوبات الإيطالي في مادته 27 في فقرتها الأخيرة إذ أجاز التعديل اللاحق للحكم بالتدبير سواء كان هذا التعديل بالتخفيف أو التشدد أو الإلغاء.

231- عدم خضوع التدابير لأحكام العقوبة الجنائية :
     هناك العديد من الأحكام الخاصة المتعلقة بالعقوبة التي تستقل بها هذه الأخيرة عن التدابير الجنائية. ومن تلك الأحكام ما يتعلق بعدم رجعية نصوص التجريم والعقاب على الماضي وعدم تنفيذ العقوبة إلا بعد حكم نهائي وأحكام التقادم وإيقاف التنفيذ والعفو والعود. كل تلك الأحكام تستقل بها العقوبة دون التدابير ، حيث أن تلك الأحكام لا تتمشى مع فكرة الدفاع الاجتماعي القائمة على الإصلاح والتقويم والعلاج والتأهيل.

فعند البعض تخضع التدابير لقاعدة الأثر الفوري والمباشر ، أي تطبيق القانون المنظم لها مباشرة فور صدوره ولو على وقائع ارتكبت قبل نفاذه. فهي ليست عقوبة عن فعل مضى وإنما هي علاج لحالة خطرة قائمة وقد تستمر في المستقبل .

إلا أننا لا نسلم بصلاحية هذا الرأي حيث أن هناك من التدابير ما قد يسلب الحرية أو يقيدها ، أي أنها قد تنطوي على إيلام يعادل الإيلام الناجم عن العقوبة. فضلاً عن أنه من غير المنطقي القول بخضوع التدابير لمبدأ الشرعية ثم إرجاع هذه التدابير إلى الماضي.

كذلك لا تخضع التدابير لنظرية الظروف المخففة. كما لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذها ولا انقضائها بالتقادم أو العفو. فضلاً عن أن الأحكام الصادرة بالتدابير تكون واجبة التنفيذ فوراً دون انتظار لصدور حكم نهائي. ولا تعد الأحكام الصادرة بها سابقة في العود لأن الألم الذي تنطوي عليه غير مقصود لذاته حتى يقال أن المحكوم عليه بها لم يرتدع فيجب أن يزاد الألم بالتشديد عليه. وأخيراً لا تخضع التدابير لقاعدة خصم مدة الحبس الاحتياطي من مدتها لأنها أصلاً غير محددة ولأنها لا تنطوي على إيلام مقصود حتى يقال أن هناك تعادلاً بين هذا الإيلام وإيلام  الحبس الاحتياطي . 
232- ثانياً : شروط تطبيق التدابير الاحترازية  (الخطورة الإجرامية) :
233- تمهيد :
     لقد اختلطت السياسة العقابية الحديثة لنفسها منهجاً واقعياً قوامه حماية المجتمع من الاتجاهات الخطرة للمجرم. ولهذا لم يعد أساس الجزاء يتمثل فيما قد وقع من جرم ، متمثلاً في الواقعة الإجرامية ، بهدف التكفير والإيلام أو حتى الردع العام و الخاص. وإنما أصبح أساس الجزاء الجنائي في شق منه يقوم على الخطورة الإجرامية La dangerosité criminelle الكامنة في الشخص ، وبقدر توافر تلك الخطورة يمكن إخضاع الفرد إلى جزاء جنائي بهدف التوجه إلى المجرم ذاته للإعادة تأهيله ليتكيف من جديد مع المجتمع.

وعلى هذا أصبح منع المجرم من أن يفضي سلوكه إلى جريمة حقيقية في المستقبل هو الهدف الذي تسعى إليه الدراسات الجنائية العقابية الحديثة ، وكان ذلك هو الدافع إلى ظهور فكرة التدابير الاحترازية كنوع من الجزاء الجنائي بغرض إلى الضرب على عوامل الجريمة الكامنة في شخص المجرم للحيلولة بينه وبين الإجرام المستقبلي.

وكون الخطورة الإجرامية أصبحت أحد الأسس التي يقوم عليها توقيع الجزاء الجنائي المتمثل في التدابير فإنه يجب علينا أن نبدأ بتعريف فكرة الخطورة الإجرامية وتحديد طبيعتها قبل أن نحدد أخيراً أدلة الخطورة الإجرامية.

234- أ : مضمون الخطورة الإجرامية :
     يتحدد مضمون الخطورة الإجرامية في كونها حالة نفسية يحتمل من جانب صاحبها أن يكون مصدراً لجريمة مستقبلة .

ويظهر من هذا أن الاحتمال هو معيار الكشف عن الخطورة الإجرامية وعن مداها وفقاً للمبادئ التي تحكم السببية أو العلاقة بين النتائج والعوامل التي تؤدي إلى حدوثها. فكما يقول بعض الفقه أن سبب نتيجة من النتائج هو مجموعة العوامل التي أدت إلى حدوثها. ويمكن أن تقاس هذه العوامل قياساً سليماً بعد تحقق النتيجة بالفعل ، لكنه قبل تحقق النتيجة بالفعل يصبح الأمر متوقعاً. هذا التوقع يكون "مؤكداً" ما دامت عوامل إحداث الظاهرة معروفة بطريقة واضحة ثابتة ، بحيث تكشف عن إكتمال سائر العناصر المحدثة لها فيكون تحقق النتيجة مؤكداً. غير أن تحقق النتيجة قد يكون ممكناً فحسب إذا انحصرت المعرفة في بعض العناصر التي تسبب النتيجة والتي تجعل توقع حدوثها متساوياً مع توقع انتفائها. أما إذا ذادت العناصر المعروفة عن هذا الحد بحيث أصبح توقع الحدوث طاغياً على توقع عدم الحدوث صار حدوث النتيجة "محتملاً". وعلى هذا فينحصر مضمون الاحتمال في العلاقة السببية التي تربط بين جملة من العوامل الإجرامية وبين الجريمة ذاتها كواقعة مستقبلية .
ودراسة الاحتمال كمعيار للخطورة الإجرامية يقوم على دراسة العوامل بمختلف أنواعها التي من شأنها أن تفضي إلى الجريمة في شخص ما. فإذا كانت كثافة هذه العوامل من شأنها أن تؤدي - وفقاً لما توفره تجارب الحياة ووفقاً للمجرى العادي للأمور - إلى احتمال وقوع الجريمة من شخص ما كان هذا الشخص ذو خطورة إجرامية. فجوهر الخطورة الإجرامية هو طغيان الدوافع التي تجعل لدى الفرد ميلاً إلى الجريمة على الموانع التي تصرفه عنها ، أي أنها نقص في الموانع وإفراط في الدوافع .

والخطورة الإجرامية قد تكون عامة ، حين تنذر بوقوع أي جريمة من أي نوع ، وقد يكون طغيان دوافع الجريمة متجهاً نحو نوع معين من الجرائم وحين إذا توصف الخطورة بأنها خاصة (كالتخصص في النصب أو النشل أو سرقة المنازل ...الخ).

وبذات التقسيم يمكن أن تتدرج الخطورة الإجرامية ، فنسبة الميل للجريمة تتنوع من شخص إلى آخر. فقد يكون طغيان عوامل الإجرام كبير إلى حد الدفع للارتكاب جرائم جسمية كالقتل العمد ، وقد تكون هذه العوامل غير  متأصلة في الشخصية الإنسانية فتدفع إلى ما يسمى إجرام الصدفة أو إجرام اللحظة كالسب والقذف. وفي العادة تتحدد درجة الخطورة الإجرامية بنوع العوامل الدافعة للجريمة. فحينما تكون تلك العوامل أقرب للعوامل الجينية أو الوراثية كانت درجة الخطورة أشد وأعظم منها حين تكون تلك العوامل مستندة إلى أساس اجتماعي أو بيئي.

235- ب : طبيعة الخطورة الإجرامية :
     يظهر من المضمون السابق أن الخطورة الإجرامية حالة تتعلق بالفرد الذي تتوافر لديه جوانبها ، لكنها لا ترتبط بالواقعة الإجرامية ذاتها. وعلى هذا فإن الخطورة الإجرامية تختلف عما يسمى بجرائم الخطر التي يرى المشرع فيها أن سلوكاً معيناً يمثل في ذاته خطراً اجتماعياً لمساسه بمصلحة معينة يحرص عليها المجتمع فيعده من قبيل الجريمة دون الحاجة للانتظار وقوع ضرر فعلي (مثال ذلك تجريم القيادة تحت تأثير عقار مخدر أو مادة مسكرة أو تجريم القيادة المتسرعة). فالخطورة  حالة نفسية وصفه فردية تكشف عن إمكانية وقوع جريمة ما في المستقبل.

وكذلك تختلف الخطورة الإجرامية عن الجريمة ذاتها ، فالأولى كما قلنا صفة فردية أما الثانية فهي سلوك إرادي يصدر من جانب الفرد. وعدم الربط التام بين الجريمة كواقعة مادية وبين الخطورة الإجرامية كتعبير  عن الإجرام المستقبلي ، يوجب عدم اشتراط أن تكون الجريمة المحتمل ارتكابها من نوع معين ، أو أن تكون على درجة معينة من الجسامة ، أو أن يكون ارتكاب المجرم لها محتملاًُ في وقت معين من تاريخ ارتكابه للجريمة السابقة. فالخطورة الإجرامية أساس للجزاء الجنائي (التدابير) بهدف منع الجريمة في المستقبل ووقاية المجتمع أياً كان نوع ودرجة الجريمة .
إلا أن الفصل بين الجريمة والخطورة الإجرامية ليس تاماً ، فوقوع الجريمة يعتبر أمراً أساسياً للقول بتوافرها كدليل إثبات لها وليس كعنصر من عناصرها. أي أن الجريمة السابقة قرينة على قيام حالة الخطورة الإجرامية. بيد أن هذه القرينة ليست مطلقة. فهذا الدليل - أي الجريمة السابقة - يفقد دلالته في الحالات التي تكون فيها الجريمة الواقعة على درجة دنيا من الجسامة. والدليل على ذلك أن المشرع المصري يعطي مثلاً سلطة تقديرية للقاضي في الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة (م55 عقوبات) ، رغم وقوع الجريمة واكتمال أركانها المادية والمعنوية، إذا ما تبين له أن فاعل الجريمة ليس على درجة كبيرة من الخطورة الإجرامية.

وبالمثل فإن وقوع الجريمة ليس شرطاً للقول بتوافر هذه لخطورة , أي لن تنحصر الخطورة فيمن سبق ارتكابهم لوقائع إجرامية. فتلك الخطورة قد تتوافر حتى فيمن لم يرتكب جرماً قط ما دام وقوع هذه الجرم في المستقل صار أمراً محتملاً ، غاية الأمر أن الخطورة لا تثبت على هؤلاء إلا بعد إجرامهم بالفعل .

236- ج : أدلة الخطورة الإجرامية :
     قلنا أن شرط ارتكاب جريمة سابقة ليس عنصراً من عناصر الخطورة الإجرامية ولا شرطاً من شروطها. فقد تتوافر تلك الخطورة في حالة ارتكاب أفعال لا تصل إلى مرحلة التجريم. غير أن كون الخطورة الإجرامية أصبحت وفقاً للسياسة العقابية الحديثة تمثل أساساً لتوقيع التدابير الاحترازية التي قد تأخذ طابع سلب الحرية أو تقيدها أو الحرمان من الحقوق والمزايا فإن إعمال الشرعية الجنائية يوجب عدم توقيع التدبير والقول بالتالي بتوافر الخطورة الإجرامية إلا بعد وقوع جريمة بالفعل باعتبارها أمارة قوية على هذه الحالة. ويبرر هذا القول أن الخطورة الإجرامية حالة نفسية كامنة وباطنة لا يتأتى الوقوف عليها مباشرة وإنما بطريق غير مباشر من خلال السلوك الذي سلكه من كان على هذه الخطورة .

فوقوع الجريمة يعد أمارة حاسمة على وجود الخطورة باعتبار أن الجريمة أشد صور السلوك الإنساني انحرافاً وتكشف أكثر من غيرها من صور السلوك غير الأخلاقي عن طبع الشخص ومزاجه. فالثابت – حسب الخبرة الحياتية للمجموع – أن وقوع الجريمة من شخص يكون في ذاته دليلاً على أن فاعلها يكون على استعداد لأن يجرم مرة ثانية في المستقبل مما يوجب توقيع تدبيراً احترازياً ذو طابع تأهيلي أو علاجي إلى جانب العقوبة.

غير أن الجريمة بحسبانها دليلاً أو أمارة على الخطورة الإجرامية لا يعني القول بضرورة اشتراط توافر المسئولية الجنائية واكتمال شروطها للقول بإمكان توقيع أحد التدابير الجنائية ، فقد توقع تلك الأخيرة رغم انتفاء مسئولية الفاعلين أو الشركاء عن الجريمة المرتكبة ، حيث سبق القول بأن مناط توقيع التدابير هو الخطورة الإجرامية وليس الخطأ الجنائي بصوره المختلفة.

وقد حاول البعض التأكيد على عدم اشتراط وقوع جريمة بالفعل كشرط لتوقيع التدابير حيث أن التدابير تواجه حالة نفسية كامنة لا صلة لها بالواقعة الإجرامية. ودليلهم في ذلك أن كون الجريمة المرتكبة تعد أمارة أو قرينة على توافر الخطورة الإجرامية وليس عنصراً من عناصرها لا يمنع من القول بتوافر تلك الخطورة – ومن ثم امكان توقيع التدابير الجنائية – إذا توافرت أمارت أخرى قد لا تصل إلى حد الجريمة .

والواقع أننا لا نوافق على هذا الرأي لمساسه بالحرية الفردية التي يمكن أن تهدد بتدابير سالبة أو مقيدة دون وجود إجرام حقيقي من قبل الفرد. فإطلاق توقيع التدابير لمجرد وجود أمارات لا تصل إلى حد الجريمة هو أخذ للناس بالشبهات ودعوة إلى التعسف والاستبداد من قبل السلطات العامة.

وفي رأينا أن هذا الرأي يخلط بين الخطورة الإجرامية كأساس لتوقيع التدابير الجنائية وبين الخطورة الاجتماعية التي يمكن أن تتخذ كأساس لتوقيع تدابير وقائية غير ماسة بالحرية أو بالحقوق الفردية. فهذا النوع الأخير من الخطورة قد يقوم في حق الأفراد لمجرد وجود أمارت أو قرائن تثبت في حقهم نوع من المناهضة للمجتمع دون أن يصل الأمر إلى حد ارتكاب جرائم معينة. أي يمكن القول بأن الخطورة الإجرامية تضم في طياتها الخطورة الاجتماعية ، أما الأخيرة فلا تعني بالضرورة توافر الخطورة الإجرامية ، ومن ثم فلا يمكن اتخاذها كأساس لتوقيع جزاء جنائي ، عقوبة كان أم تدبير .

ولقد اتجهت التشريعات إلى الأخذ بالرأي الأول الذي يربط بين الخطورة الإجرامية وسبق ارتكاب جريمة كقرينة على توافرها. فقد نص قانون العقوبات الإيطالي على ألا يطبق التدبير الاحترازي إلا على من ارتكب فعلاً منصوصاً عليه في القانون كجريمة (م202). وعلى هذا نص المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات لسنة 1967 (م106) وقانون العقوبات اللبناني (م1/1). وقد تنكشف الخطورة الإجرامية بناء على عناصر متصلة بماديات الواقعة الإجرامية السابقة أو بعناصر متصلة بشخص المجرم ذاته. ومن قبيل ذلك ما نص عليه المشرع الإيطالي في المادة 133 من قانون العقوبات من أن تعد أمارت على توافر الخطورة الإجرامية :
*- طبيعة الجريمة ومدى جسامتها وكيفية وزمان ومكان تنفيذها
*- نوع ودرجة الضرر الناشئ من الجريمة
*- درجة الآثم الجنائي (العمد والخطأ غير العمدي)
*- بواعث الجريمة وطباع المجرم
*- سوابق المجرم وظروفه الجنائية السابقة على الجريمة
*- سلوك المجرم المعاصر واللاحق على الجريمة.

كما قد يفترض المشرع الخطورة الإجرامية إذا كانت الجريمة من نوع معين أو تم ارتكابها من شخص بذاته. مثال ذلك ما نص عليه المشرع الإيطالي في المادة 204/2 عقوبات من افتراض الخطورة الإجرامية بشأن المجرم شبه المجنون الذي يرتكب جريمة عمدية أو متعدية القصد يعاقب عليها القانون بعقوبة لا تقل مدتها عن خمس سنوات. ومعنى هذا الافتراض هو إلزام القاضي بتوقيع أحد التدابير العلاجية والتأهيلية الملائمة لهذا النوع من الخطورة .

والواقع أن المشرع المصري قد أخذ بشكل ضمني بفكرة الخطورة الإجرامية كأساس لتوقيع الجزاء الجنائي المتمثل في صورة التدابير أو كأساس لإعمال قواعد التفريد القضائي. مثال ذلك الأخذ بنظام وقف التنفيذ (م55 عقوبات) ، ومثال ذلك ما توجبه المادة 342 من قانون الإجراءات من إيداع المتهم أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إذا ما صدر أمر بأن لا وجه للإقامة الدعوى أو حكم ببراءة المتهم وكان ذلك بسبب عاهة في عقله متى كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس.

ويؤكد ذات الفكرة أخذ المشرع المصري بنظام الإفراج تحت شرط (م52 وما بعدها من قانون تنظيم السجون) ، وأخذه بفكرة تصنيف المحكوم عليهم إلى فئات داخل المؤسسة العقابية (م13 من قانون السجون) ، ومنح السجين فترة انتقال تخفف فيها القيود قبل الإفراج عنه (م18 من قانون السجون) ، وكذلك أخذه بفكرة رد الاعتبار سواء القانوني منه أو القضائي (م563 إجراءات الجنائية).

المبحث الرابع 
إشكاليات التدابير الاحترازية
237- تمهيد :
     سبق وأن ذكرنا أن كلاً من العقوبات والتدابير تتحد في التكيف من حيث كونهما جزاءات جنائية. هذه الوحدة أثارت جدلاً في الفقه حول مدى جواز الجمع بين كلاً من الجزاءين ومدى استقلال كل منهما عن الآخر. والواقع أن لهذا التساؤل مستويين ، الأول يتعلق بمدى جواز الجمع بين الجزاءين على مستوى التشريع ، والثاني يتعلق بمدى جواز الجمع بينهما في مرحلة التطبيق.

238- أولاً : مدى قابلية العقوبات والتدابير للوحدة في مرحلة التشريع  :
     يذهب اتجاه في الفقه – خاصة من بين أنصار مدرسة الدفاع الاجتماعي - إلى القول بإمكانية الجمع بين كلاً من العقوبات والتدابير في نظام واحد L’unification de la peine et de la mesure de sûreté ، قائلين بأن ذلك لا يتعارض مع أهداف السياسة الجنائية ، متى كانت الفوارق بين نوعي الجزاء ليست بالفروق العميقة. فعند هذا الاتجاه يتحد كلاً الجزاءين في الغاية كما أنهما من حيث الموضوع يمسان بحق من حقوق المجرم ، على الأخص إذا كان سالب أو مقيد للحرية. كما أن كلا الجزاءين يخضع لمبدأ الشرعية بحيث لا يجوز تقريرهما إلا بناء على قانون وينطبق بشأنهما مبدأ القضائية. كما يؤكد هذا الاتجاه على أنه لا يجوز التعليل من أجل رفض فكرة التوحيد بكون التدابير تهدف إلى مواجهة الخطورة الإجرامية بينما العقوبة تستهدف في الأصل تحقيق الردع والعدالة ، وذلك لأن تطبيق العقوبة وتنفيذها يستند إلى حد كبير على درجة خطورة الجاني الإجرامية.

وفوق أن كلا الجزاءين يهدف إلى تحقيق الردع الخاص ، فإن التدابير يمكن أن تشارك العقوبة تحقيق الردع العام والعدالة. ذلك أن التدابير وما تنطوي عليه من ألم غير مقصود وبحسبانها جزاء مرتبط بوقع جريمة يجعل العامة تربط بين هذه الصورة من الجزاءات وبين الجريمة المرتكبة ، مما يخلق في نفوس العامة نوعاً من الزجر والترهيب (الردع العام) والكافي لتحقيق العدالة.

وعلى الجانب الآخر يؤيد بعض الفقه فكرة استقلالية العقوبة عن التدابير وعدم قابليتهما للجمع في نظام عقابي موحد. وعلة ذلك أن العقوبة تقوم على أسس أخلاقية تستهدف توجيه اللوم القانوني للمجرم مما يوجب عند وزنها الرجوع إلى ماضي المجرم لمحاسبته على جريمته وإلى جسامة الواقعة الإجرامية ودرجة الإثم الذي صاحب الإرادة ، حتى تكون العقوبة في النهاية متعادلة ومتناسقة مع تلك العناصر. تلك الأمور لا تتوافر بشأن التدابير فهي لا تتوجه إلا إلى المستقبل كي تقي المجتمع الخطورة الإجرامية المتمثلة في احتمالية وقوع الجريمة في المستقبل. لذا فإنها لا تقاس - في الأصل - حسب جسامة الواقعة الإجرامية ولكن بحسب درجة خطورة المجرم. ولهذا كله كانت العقوبة محددة المدة بخلاف التدابير التي يتوقف انتهائها أو تعديلها على ما سوف يكشف عنه مستقبل المجرم ومدى تفاعله مع المجتمع وتقلص نوازع الشر داخله.

ولدينا أن هذا الرأي الأخير يجب تأييده ، ذلك أن الجمع بين العقوبة والتدابير في نظام عقابي واحد سوف يؤدي إلى تغليب أغراض العقوبة أو أغراض التدابير ، وفي ذلك ضرر بالمجتمع. حيث أن تغليب أغراض العقوبة فيه من التشديد تجاه المجرمين الذين تقل درجة خطأهم عن درجة خطورتهم الإجرامية. كما أن تغليب مقتضيات التدابير قد يؤدي إلى التساهل مع المجرمين اللذين تقل لديهم الخطورة عن درجة خطأهم.

وفي رأينا أنه يجب أن يبقى لكل من الجزاءين مجاله الخاص ، فيبقى للتدبير طبيعته كأسلوب دفاع اجتماعي لا يجازي خطيئة ولا يعبر عن لوم ولا يصم من ينزل به بالعداء للمجتمع أو التقصير قبله ، على العكس من العقوبات التي يظل مناط توقيعها الخطأ الجنائي ويبقى الإيلام جزء من كنهها ومقصود كي يعبر عن طبيعتها كجزاء أخلاقي.

ويكفينا دليل على سلامة رأينا هذا المبني على استقلالية الجزاءين أن الجمع بين العقوبة والتدبير في نظام موحد سوف يضع على قدم المساواة من حيث طبيعة الجزاء الأشخاص الذين تتوافر بشأنهم عناصر المسئولية الجنائية ومن يتوافر بشأنهم مانع من موانع المسئولية كجنون أو كعاهة في العقل أو كصغر السن.

ويبدو أن هذا الرأي هو الراجح لدى غالبية التشريعات الجنائية. فبه أخذ القانون الإيطالي والألماني واليوناني والسويسري والدنماركي ، وكذلك بعض التشريعات العربية كالقانون اللبناني والسوري والعراقي والجزائري ومشروع من قانون العقوبات المصري في عام 1967. وقد أخذ بهذا الأسلوب أيضاً - وإن كان بشكل ضمني – التشريع الفرنسي والتشريع المصري. بل لقد عدلت التشريعات التي كان قد سبق لها أن أخذت بفكرة التوحيد إلى نظام الاستقلال ومن ذلك التشريع السوفيتي الصادر عام 1926 والذي عدل عن فكرة الوحدة تحت مسمى "تدابير الدفاع الاجتماعي" إلى نظام استقلال العقوبة عن التدابير عام 1958.

239- ثانياً : مدى قابلية العقوبات والتدابير للوحدة في مرحلة التطبيق :
     ينصب التساؤل في تلك النقطة حول مدى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء عن جريمة واحدة توافر في شأن مرتكبها عناصر المسئولية الجنائية وكذلك الخطأ تعبير عن الإرادة الجنائية الآثمة مما يوجب توقيع العقوبة ، وتوافرت لدية الخطورة الإجرامية ، مما يوجب توقيع تدبير. فهل يطبق على هذا المجرم عقوبة مقابل ما بدر منه من خطأ فضلاً عن التدبير لقاء ما ظهر لديه من خطورة إجرامية ؟

هذا التساؤل يطرح جانباً حالة الأشخاص الذين لا يتوافر بشأنهم إلا أحد الأساسين الذين يبنى عليهما الجزاء الجنائي عقوبة أم تدبير ، ألا وهما الخطأ والخطورة. فالمجرم بالصدفة لا يثور بشأنه هذا التساؤل حيث يتوافر لدى هذا النمط الإجرامي الخطأ دون الخطورة ، كما أن المجرم المجنون تتوافر بشأنه الخطورة دون الخطأ مما لا يجعل لهذا التساؤل محلاً بشأنه أيضاً. وبالتالي فإن المشكلة ستثور بشأن أولئك الذين تكتمل لديهم عناصر الأهلية الجنائية ، كحالة المعتاد على الإجرام والأشخاص ناقصي الأهلية كالشواذ أو ذوي المسئولية المخففة .

وللإجابة على التساؤل المطروح ذهب البعض إلى أنه لا مانع من الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء واحد طالما اجتمع لدى الجاني مرتكب الجريمة الخطأ والخطورة. فهذا أمر يحتمه المنطق القانوني ، كي تكون العقوبة مقابل الخطأ ويكون التدبير مقابل الخطورة. وعلى هذا سارت التشريعات الغالبة كالتشريع الألماني والإيطالي واليوناني والفرنسي ومشروع قانون العقوبات المصري والقانون اللبناني.

على أن الأخذ بهذا الرأي يوجب طرح تساؤل آخر مؤداه بأي الجزاءين - عند الجمع بينهما عن جريمة واحدة - يبدأ التنفيذ. 

ذهب البعض إلى ضرورة البدء في تنفيذ العقوبة ، حيث أن البدء في تنفيذها متى كان الخطأ ثابتاً أمر يحقق الردع العام ، فالتأخير في تنفيذها يقتل في النفوس الزجر والترهيب. فإذا ما نفذت وتحقق الهدف منها أمكن البدء في تنفيذ التدابير بقصد التأهيل أو العلاج. في حين ذهب البعض إلى ضرورة البدء بتطبيق التدابير باعتبارها أسلوباً علاجياًُ وتأهيلياً للمجرم تهدف إلى إعادته إلى حظيرة المجتمع كشخص سوي يدرك معنى العقاب ويتفهم دلالته. فلا شك أن البدء في تنفيذ العقوبة قد يعقد من نفسية المجرم ويجعل تحقق أغراض التأهيل والإصلاح والعلاج المستهدفة من التدابير أمراً صعباً فيما بعد.

ولدينا أن هذا الرأي الذي يرى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء عن جريمة واحدة يجب رده وعدم الأخذ به. وعلة ذلك أن هناك تناقض جوهري بين العقوبة كوسيلة إيلام وبين التدبير كوسيلة علاج ، والجمع بين الوسيلتين في مجرم بعينه فيه تجاهل لوحدة شخصية الإنسان وتمزيق لها. فالتناقض في معاملة المجرم سوف يؤدي إلى إحداث خلل اشد في شخصيته. فالبدء بتنفيذ عقوبة على مجرم يعاني شذوذاً قد يؤدي إلى زيادة الشذوذ تجاهه ، بحيث يصبح من الصعب علاجه فيما بعد عن طريق التدابير. كما أن البدء بتنفيذ التدبير بهدف العلاج قد يوقف فوائدة العقوبة التي توقع لاحقا . من هنا نرى ضرورة تغليب أحد الجزاءين على الأخر إذا اجتمع في شخص واحد الخطأ والخطورة. ولدينا أنه من الضروري في تلك الحالة تغليب الخطأ بما يوجب توقيع العقوبة دون التدبير. ذلك أن العقوبة تشتمل على أهداف أعم وأشمل وتجب في داخلها هدف التدابير المتمثل في تحقيق الردع الخاص .

ونود أخيراً الإشارة إلى أن مبدأ عدم جواز الجمع بين الجزاءين عن جريمة واحدة وفي شخص واحد قد أوصىت به المؤتمرات الدولية ، ومنها مؤتمر لاهاي الدولي في عام 1950، والمؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات بروما عام 1953 ، والمؤتمر الأوروبي لمكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين بجنيف في عام 1956.

تعليقات