القائمة الرئيسية

الصفحات



الرقابة القضائية على التسريح التعسفي

الرقابة القضائية على التسريح التعسفي

الرقابة القضائية على التسريح التعسفي







الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
وزارة العدل 

المدرسة العليا للقضاء                           مجلس قضاء بومرداس
الدفعة الرابعة عشر                               محكمة بومرداس
            2003/2006

 
 

مذكرة نهاية التكوين لنيل إجازة المدرسة العليا للقضاء 
  



إعداد الطالب القاضي                                                              تحت إشراف : 
   بلخيري محمد علي                                                             السيد النائب العام المساعد الأول
                                                                                       بن مختار أحمد عبد اللطيف

السنة الأكاديمية
2005-2006

مــقـدمـــــــــــــــــــــة



      تثير علاقات العمل الفردية الكثير من الإشكالات العملية المترتبة عن العلاقة التعاقدية بين المستخدم و العامل بشأن تنفيذ عقد العمل، و هذه العلاقة قد تكون في كثير من الأحيان محل توتر بين الطرفين، يكون نتيجتها إنهاء لعلاقة العمل من طرف المستخدم، وهو ما يثير إشكالية الإنهاء التعسفي لعقد العمل، و البحث عن السبب الحقيقي و الجدي الذي يبرر تسريح العامل من منصب عمله.
      و إذا كانت العلاقة التي تربط العامل بالمستخدم مصدرها عقد العمل الذي ارتضاه الطرفان و قبلا بمقتضاه، فيكون فيه العامل ملزما بتقديم خدماته أو انجاز عمل للمستخدم مقابل أجر، و يمنح من جهة أخرى للمستخدم سلطة الإدارة، و الرقابة و الإشراف على هذا العامل، و يستمد سلطة الإدارة و الإشراف على العامل من عقد العمل، غير أن هذه السلطة تفقد محتواها إذا لم تقترن بصلاحيات أخرى يستمدها المستخدم من هذا الحق، و هذه الصلاحيات تتمحور حول سلطة التأديب، وسلطة تسيير العمل داخل المؤسسة، لأن سلطة التسيير و التنظيم هي نتيجة لسلطة الادارة، و سلطة التأديب وسيلتها، فالمستخدم يسير العمل داخل المؤسسة لأنه يديرها، و يسلط عقوبات تأديبية تختلف حسب اختلاف خطأ العامل الذي يتسبب في خرق نظام المؤسسة، لأنه مسئول عن حسن سيرها.
      غير أن قبول العامل بمقتضيات عقد العمل الذي يلقي عليه التزامات تجاه المؤسسة المستخدمة، لا يعني خضوعه المطلق لسلطة المستخدم لأنه هو أيضا يستمد سلطاته من مقتضيات عقد العمل الذي يفرض عليه أن لا يتجاوز سلطة الرقابة و الإدارة نطاق تنفيذ بنود عقد العمل طبقا لما تم الاتفاق عليه، و طالما أن العقد هو المنشأ الأساسي لالتزامات الطرفين، و حقوقهم و التي بدورها تستمد شرعيتها من قانون العمل الذي يحدد الإطار العام لعلاقة العمل بين العامل و المستخدم.
      و إن كان في الحقيقة أن قوانين العمل ظهرت و تطورت بسبب النزاعات التي تقوم بين العمال و أرباب العمل، مما فرض على المشرع الاهتمام بهذا النوع من الإشكالات و المنازعات و تنظيم عمليات تسويتها، عن طريق وضع إجراءات محددة، و إقامة أجهزة وقائية، و قضائية مختصة في معالجتها، و البت فيها وفقا لقواعد خاصة، مقتضاها خلق نوع من التوازن بين مصالح المستخدم ومصالح العامل.
      و إن كانت فلسفة قانون العمل قائمة على تحقيق معادلة تجمع بين ضرورة حماية مصلحة العامل من جهة، وضرورة حماية مصلحة المؤسسة من جهة أخرى، و تحقيق هذه المعادلة لا يمكن أن يتحقق إذا ترك الأمرلإرادة أطراف عقد العمل، و لذلك كان تدخل المشرع ضروري لتحقيق ذلك بوضع قواعد قانونية آمرة لأن طبيعة العلاقة التعاقدية بين المستخدم و العامل تفرض ذلك نظرا لاختلاف مراكز القوة بين الطرفين.
      وإن كان قانون العمل يتضمن مجموعة من القواعد الآمرة التي تعتبر من النظام العام التي تقيد المستخدم بالدرجة الأولى، خاصة في مجال إنهاء علاقة العمل، فإن هذا النظام العام له مفهوم خاص لارتباطه بالنظام العام الاجتماعي، يعمل القاضي على تحديد مقاييسه و يسهر على احترامه، تطبيقا للقانون وحماية للطرف الضعيف في علاقة العمل وهو العامل.
      لكن حماية العامل باعتباره الطرف الضعيف، لا تعني الإجحاف في حق المستخدم، لأن حسم النزاع في علاقات العمل الفردية يتعلق بمسألة التوفيق بين مصالح العامل باعتباره الطرف الضعيف بما يوجب حمايته، و مصالح المستخدم و المؤسسة باعتبارها جهاز اقتصادي و اجتماعي يتأثر بتوجهات المشرع. 
      و ذلك ما حدا بالمشرع إلى تعديل قانون العمل خاصة تعديل المادة 73 منه بموجب رقم 91/29 المؤرخ في 21 ديسمبر 1991، وقد جاء هذا التعديل نظرا لما يثيره الإنهاء التعسفي لعقد العمل من إشكاليات من الناحية القانونية، و الاجتماعية.
      و أصبح البحث عن الأساس القانوني لإنهاء علاقة العمل يطرح نفسه فهل أن المستخدم يستمد ذلك من  العقد الذي يقوم على مبدأ المساواة و حرية التعاقد، و بالتالي يكون إسناد التعسف للمستخدم في إنهاء علاقة العمل إلى عدم احترامه بنود العقد فيقع عليه إثبات سبب التسريح؟ أم انه يقع على العامل إثبات تعسف المستخدم في دلك؟ وما دور القاضي الاجتماعي في مسألة الإثبات؟، وهل أن  صبغة التعسف في قرار تسريح العامل مقترن ببعض الأخطاء الجسيمة و المنصوص عليها في المادة 73من قانون العمل التي يمكن أن يرتكبها العامل فتبرر قرار تسريحه، وأن كل تسريح خارج هذه الحالات يجعله تعسفيا؟
       أم أن إسناد التعسف في إنهاء علاقة العمل الفردية للمستخدم يقوم على أساس انعدام وجود سبب حقيقي و جدي يبرر تسريح العامل بغض النظر عن الخطأ الذي يرتكبه العامل ما إذا كان ضمن الأخطاء الواردة في نص المادة 73 أم لا؟.
      و لذلك فإن موضوع الرقابة القضائية على التسريح التعسفي يفرض على القاضي الاجتماعي الذي يطرح أمامه النزاع، أن يبحث في الأسباب التي اعتمدها المستخدم لاتخاذ قرار تسريح العامل و يعطيها التكييف القانوني الذي يتلاءم مع مقتضيات قانون العمل الذي يحدد شروط و يضع إطار إنهاء علاقة العمل حتى لا يتعسف المستخدم في ممارسة حقه الإرادي، و ذلك سواء بالتأكد من جسامة الخطأ الذي ارتكبه العامل، أو بتقدير السبب الجدي لتسريحه، و ممارسة هذه الرقابة القضائية تتطلب من القاضي الاجتماعي أن يتأكد من وجود سبب التسريح في حد ذاته أو لا، ثم إذا ثبت له وجوده بالطرق القانونية التي قررها القانون، يمر إلى ممارسة الرقابة القضائية على التسريح التعسفي من الناحية الموضوعية، و ذلك بتقدير مدى جسامة خطأ العامل، وجدية السبب الذي استند إليه المستخدم لتسريح العامل.
      و لمناقشة هذه المسائل ارتأينا معالجتها في فصلين، نتناول في الفصل الأول مسألة إثبات السبب الجدي لتسريح العامل، لأن القاضي الاجتماعي لا يمكن له أن يمارس رقابته القضائية على مشروعية أو تعسف قرار التسريح إذا لم يتأكد أولا من وجود سبب التسريح في حد ذاته، ثم نتناول في الفصل الثاني مسألة تقدير القاضي لجسامة الخطأ الذي يرتكبه العامل، و مدى اعتبار ذلك سببا جديا لتسريحه من طرف المستخدم و هذا هو المبرر المنطقي في نظرنا إلى معالجة هذا الموضوع من خلال الخطة التالية.


- الخــــطــــــــــــــــــــــة -

الفصل الأول:          رقابـة القـاضي الاجتماعي على إثبات سبـب التسريح التعسفي
                  المبحث الأول :        عبء إثبات وجود أو عدم وجود السبب الجدّي للتسريح
     المطلب الأول:          دور طرفي النزاع في إثبات السبب الجديّ للتسريح
- الفرع الأول/       دور المستخدم في إثبات السبب الجديّ للتسريح
- الفرع الثاني/      دور العامل في إثبات تعسف المستخدم
   المطلب الثاني:       دور قاضي الموضوع في إثبات سبب التسريح
- الفرع الأول/        المساهمة الإيجابية لقاضي الموضوع في تقدير وسائل الإثبات
- الفرع الثاني/      وسائل و سلطة القاضي لإثبات سبب التسريح
                 المبحث الثاني :       حجيّة الحكم الجزائي و قرار مجلس التأديب على إثبات سبب التسريح
  المطلب الأول:        أثر الحكم الجزائي على إثبات سبب التسريح
- الفرع الأول/         حجية الحكم الجزائي بالإدانة على إثبات سبب التسريح
- الفرع الثاني/       أثر الحكم ببراءة العامل من المتابعة الجزائية
 المطلب الثاني :        حجيّة قرار مجلس التأديب على إثبات وجود سبب التسريح
- الفرع الأول/          استئناس القاضي الاجتماعي بقرار مجلس التأديب
- الفرع الثاني/       عدم أخذ القاضي الاجتماعي بمحاضر مجلس التأديب
الفصل الثاني :         سلــطة القـاضي الاجـتماعـي في تـقدير الخطأ الجســـيم
                 المبحث الأول :          معايير تقدير الخطأ الجسيم
    المطلب الأول:          تقدير جسامة الخطأ بناء على المعيار الموضوعي
- الفرع الأول/          تأثير خطأ العامل على نشاط المؤسسة
- الفرع الثاني/        تقدير الخطأ بالنظر إلى الظروف الموضوعية
   المطلب الثاني :         تقدير الخطأ بناء على المعيار الذاتي
- الفرع الأول/           نية العامل و درجة وعيه بالخطأ
- الفرع الثاني/         طبيعة سلوك العامل
                المبحث الثاني :        حدود سلطة قاضي الموضوع التقديرية
 المطلب الأول:         المقتضيات القانونية و الموضوعية التي تحد من سلطة القاضي التقديرية
- الفرع الأول/          المقتضيات القـانـونـيـة
- الفرع الثاني/       المقـتضيات المـوضـوعـيـة
المطلب الثاني:           خضوع قاضي الموضوع لرقابة المحكمة العليا
- الفرع الأول/          رقابة تكيف الوقائع
- الفرع الثاني الرقابة على التسبيب القانوني:

الفصــل الأول 
 رقابـة القـاضي الاجتماعي على إثبات سبـب التسريح التعسفي 


          
           إن القاضي الاجتماعي وهو ينظر في النزاع المتعلق بتسريح العامل من منصب عمله و قبل أن يفصل في تكييف جدّية سبب التسريح من عدمه ليقرر إن كان هذا التسريح تعسفيا أم لا، فانه يواجه مسألة في غاية الأهمية وهي إثبات وجود السبب الحقيقي و الجدّي لتسريح العامل من عدمه لما لهذه المسألة من أهمية بالغة بالنظر إلى نتائج هذه الرقابة القضائية على حقوق أطراف النزاع، خاصة بعد التعديل الذي أدخله المشرع على المادة 73 من ق.رقم 90/11 المتعلق بعلاقات العمل ، وذلك بموجب القانون رقم 91/29 ، حيث نصت المادة 73/3 على انه »  كل تسريح فردي يتم خرقا لأحكام هذا القانون يعتبر تعسفيا و على المستخدم أن يثبت العكس «   
           و هو المبرر الذي يجعلنا نتساءل هل أن عبء إثبات وجود السبب الجدّي لتسريح العامل يقع فقط على المستخدم؟ أم أن العامل أيضا يتحمل جزءا من عبء إثبات عدم جدية السبب الذي كان وراء قرار تسريحه؟ ، وما هو دور قاضي الموضوع بالنسبة لمسألة الإثبات في نزعات العمل الفردية؟
          و هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عنها في المبحث الأول « عبء إثبات وجود أو عدم وجود السبب الجدّي للتسريح » هذا من جهة. ومن جهة أخرى فان تسريح العامل قد يكون بناء على حكم جزائي صدر في حقه، أواستنادا إلى قرار صادر عن مجلس التأديب، وهو ما يجعل مسألة الإثبات تتأثر سلبا أو ايجابيا بتلك الأحكام أو القرارات، و هو ما يطرح التساؤل حول حجيّة الحكم الجزائي و القرار التأديبي على إثبات سبب التسريح و تأثيره على قناعة قاضي الموضوع؟
          و هذا ما سنجيب عليه في المبحث الثاني « حجيّة الحكم الجزائي و قرار مجلس التأديب في إثبات سبب التسريح »     







المـبحـث الأول عبء إثبات وجود أو عدم وجود السبب الجدّي للتسريح


           إذا كان عن المسلّم به في القواعد العامة بأن يقع عبء الإثبات على المدعي بناء على مبدأ أنّ البينّة على من أدعى، وهو ما تقضي به المادة 323 من القانون المدني بقولها:« على الدائن إثبات الالتزام، و على المدين إثبات التخلص منه » و المدعي في نزعات العمل الفردية هو العامل الذي عليه أن يثبت قيام الضرر الذي أصابه بسبب التسريح التعسفي الذي لا يقوم على سبب جديّ يبرره القانون، و قد أخذت بهذه القاعدة في مجال إنهاء عقد العمل بعض الدول مثل مصر و فرنسا قبل صدور قانون 13 جويلية 1973، وبعض التشريعات قد خرجت عن هذه القاعدة و قلبت عبء الإثبات و جعلته يقع على المستخدم الذي تقوم في حقه قرينة التعسف في قرار التسريح حتى يثبت العكس (1).
           ثم يرجع لقاضي الموضوع تقدير وسائل الإثبات بناء علي عناصر الملف وما قدمه طرفي النزاع من أدلة إثبات أو نفي، و ذلك بما مكنه المشرع من وسائل تحقيق قانونية يمكن أن يلجأ إليها كلما رأى لذلك ضرورة لكشف الحقيقة و تأكيد قناعته.
           و لذلك فإن مسألة الإثبات في نزعات العمل الفردية أثارت العديد من الانتقادات ولم يستقر الرأي فيها لا فقها و لا قضاء على اعتماد المبادئ العامة في الإثبات، لأن الأمر يتعلق بعقد له خصوصياته من حيث موازين القوى بين طرفيه و ارتباطه بالمجال الاجتماعي و الاقتصادي اللذان هما بطبيعتهما في اطراد و تطور مستمرين، وهو ما يؤثر مباشرة على تشريع العمل، فكان لذلك أثره في وضع قواعد خاصة بالإثبات في تسوية النزعات العمالية الفردية استجابة لخلق توازن بين طرفي عقد العمل، وهو ما كرسه المشرع في المادة 73-3 من قانون 91/29 المعدل و المتمم لقانون 90/11 المتعلق بعلاقات العمل و جعل عبء إثبات السبب الجديّ لتسريح العامل من منصب عمله يقع على المستخدم تدعمه قرينه قاطعة على التعسف إلى أن يثبت هذا الأخير العكس، و ذلك بنص المادة على أنه« كل تسريح فردي يتم خرقا لهذا القانون يعتبر تعسفيا و على المستخدم أن يثبت العكس».




(1) – عبد الحفيظ بلخيضر – الإنهاء التعسفي لعقد العمل – دار الحداثة –ط 1986- ص 364
           إلا أن مناقشة هذه المادة من زاوية أخرى نجدها تلقي جزءا من عبء الإثبات على العامل الذي يقع عليه عبء إثبات عدم جديّة سبب التسريح و ذلك بإقامة الدليل على أنه لم يرتكب خطأ جسيما يبرر قرار التسريح، وأنه جاء خرقا لقواعد هذا القانون، و انطلاقا من هذه القراءة فانه وان كان المشرع الجزائري قد تبنّي فكرة تحميل المستخدم عبء إثبات السبب الجديّ للتسريح و بالتالي عدم تعسفه في قرار التسريح، فانه لم يعف العامل من ضرورة إقامة الدليل على عدم ارتكابه لخطأ جسيم، وأن قرار التسريح كان خرقا لقواعد قانون العمل لاسيما المادة 73-1. ولذلك سنتناول في المطلب الأول «دور طرفي النزاع في إثبات سبب التسريح». هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن المشرع أعطى دورا هاما لقاضي الموضوع في إثبات السبب الجديّ للتسريح و تقدير مدى تعسف المستخدم، وذلك بتمكينه من كل وسائل التحقيق التي يراها لازمة لحسم النزاع، و تقدير عناصر الأدلة ووسائل الإثبات التي يقدمها الأطراف وهو ما أكدته المحكمة العليا في أحد قراراتها عندما اعتبرت أن تقدير وسائل الإثبات يدخل في صميم عمل القاضي:« حيث أن المحكمة بعد الإطلاع على الوثائق المقدمة توصلت إلى أن غياب المطعون ضدّه كان مبررا لكونه كان في عطلة مرضية، و هذا ما يدخل ضمن صلاحيات قاضي الموضوع حول تقدير وسائل الإثبات... » (2).
        وهو الأمر الذي سنعالجه في المطلب الثاني « دور قاضي الموضوع في إثبات السبب الجديّ للتسريح ». 












(2)- قرار رقم 212611 بتاريخ 13-02-2001 المجلة القضائية2002ع1 ص 17
المطلب الأول: دور طرفي النزاع في إثبات السبب الجديّ للتسريح

           بالرجوع إلى أحكام قانون العمل رقم 90/11 خاصة المادة 73-3. منه نجد أن المشرع الجزائري على غرار العديد من التشريعات، و الاتفاقيات الدولية للعمل، (3) تبنى نظرية تحميل المستخدم عبء إثبات سبب التسريح باعتباره الطرف القوي في علاقة العمل, و لم يعتمد على القواعد العامة في الإثبات بإلقاء عبء الإثبات على المدعي الذي هو طالب التعويض المترتب على الإنهاء التعسفي لعلاقة العمل، و لكن في نفس الوقت فإنه لم يعفه كليا من عبء الإثبات بل جعله يتحمل جزءا من الإثبات فيعمل على إقامة الدليل على عدم جديّة سبب الطرد، وأن قرار الطرد جاء خرقا لقواعد قانون العمل إذ أن المادة 73-3 تنص على أنّه « كل تسريح جاء خرقا لهذا القانون يعتبر تعسفيا » فهذه الفقرة تفيد أن العامل يقع عليه عبء إثبات مخالفة المستخدم لقواعد قانون العمل، وتضيف نفس المادة أنّه على المستخدم أن يثبت العكس و هو ما يجعل قرينة التسريح التعسفي قائمة في حقه إلى حين إثبات العكس و هذا المنطق في توزيع عبء الإثبات بين طرفي النزاع، هو الحل الوسط بين حماية العامل باعتباره الطرف الضعيف، و حماية المؤسسة باعتبارها أداة حيوية في حياة المجتمع و اقتصاد دولة تتطلع إلى اقتصاد قائم على المؤسسات المنتجة.
          و أنّ هذا الحل الوسط بين طرفي عقد العمل يعمل القاضي الاجتماعي على تكريسه من خلال تقدير وسائل الإثبات التي يقدمها الأطراف، وتدعيمها بوسائل التحقيق المتاحة له.
           و سنحاول مناقشة دور كل من المستخدم في إثبات السبب الجديّ للتسريح في (الفرع الأول)، ودور العامل في إثبات التعسف المستخدم في قرار التسريح (الفرع الثاني).








(3) الاتفاقية الدولية المؤرخة في 22جوان1982.المتعلقة بإنهاء علاقة العمل بمبادرة من المستخدم تحمله عبء إثبات وجود سبب جديّ للطرد                        www.juristravail.com.
الفرع الأول : دور المستخدم في إثبات السبب الجديّ لتسريح العامل : 
          قد يلجأ المستخدم إلى إنهاء علاقة العمل لأسباب مشروعة مثل الأسباب المتعلقة بالوضعية الاقتصادية للمؤسسة فيقوم بتسريح العامل بناء على إجراءات التسريح لأسباب اقتصادية طبق للمادة 71 من قانون 90/11، كما يكمن أن يكون سبب التسريح نتيجة لوضعية العامل في حد ذاته مثل حالات العجز عن العمل أو ضعف مردوده لأسباب صحية، وقد يكون بسبب خطأ يرتكبه فيؤثر على نشاط المؤسسة، وهنا يقع على المستخدم عبء إثبات الأسباب الجديّة التي دفعته لاتخاذ قرار التسريح سواء كان ذلك لأسباب اقتصادية أو بسبب خطأ تأديبي، وقد أكدت المحكمة العليا على أن الأمر لا يختلف بالنسبة لإثبات سبب قرار التسريح أيّا كان سببه إذ جاء في أحد قراراتها أنّه:« حيث أنّ عملية التقليص من عدد العمال لا تختلف في وجودها عن عملية التسريح، لأنها تشكل فكا للعلاقة التعاقدية بالإرادة المنفردة للمستخدم، وحيث أن المرسوم التشريعي 94/09 جاء تكفلا بالعمال الذين يفقدون عملهم بصفة غير إرادية، ممّا يبيّن أنه لا يتضمن تأسيس طابع قانوني مميز لعملية التسريح في إطار التقليص و التي تبقي من إجراءات التسريح الأخرى خاضعة للقواعد القانونية المنصوص عليها في قانون 90/11 لاسيما المادة 73-3. »(4).
         وطالما أنّ المشرع لم ينص صراحة في قانون 90/11 على وسائل إثبات معينة فإنه يجب تطبيق القواعد العامة في الإثبات الواردة في القانون المدني، وطالما أنّ إثبات السبب الجديّ لتسريح العامل يتعلق بإثبات وقائع مادية فإنه يجوز إثباتها بكافة وسائل الإثبات و هي: الكتابة - البينة – القرائن – الإقرار – اليمين.
          و قد ألزم المشرع المستخدم في المادة 73-2 من قانون 90/11 بأن يبيّن في رسالة الإعلام بإنهاء علاقة العمل الخطأ أو الأخطاء التي ارتكبها العامل، و المنصوص عليها في المادة 73 من نفس القانون، على وجه الخصوص, أو أي خطأ تأديبي يراه المستخدم سببا جديّا لتسريح العامل من منصب عمله، وإن كان هناك من يعتبر الأخطاء التأديبية المنصوص عليها في هذه المادة إنما هي أخطاء على سبيل الحصر، و نحن نرى أن نص المادة 73 لا يفيد الحصر لأن عبارة « على وجه الخصوص » لا تفيد من الناحية اللغوية الحصر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبرة في الخطأ التأديبي هي جسامته، و العبرة في قرار التسريح هي جديّة السبب الذي اعتمده المستخدم لإصداره، ولذلك فإنه و مهما كان الخطأ الذي ارتكبه العامل فإنه على المستخدم أن يثبت خطورة الخطأ، و يقيم الدليل على تأثيره على السير العادي للمؤسسة.


(4) قرار رقم 191272 بتاريخ 14-03-2000 المجلة القضائية 2001 ع2 ص 167         
           و إن كانت المحكمة العليا قد اعتبرت أن الأخطاء الجسيمة الواردة في نص المادة 73 من قانون 90/11 جاءت على سبيل الحصر لا المثال حيث جاء في أحد قراراتها أنّه « و لما تثبت في قضية الحال: إن المؤسسة الطاعنة قامت بتسريح العامل على أساس ارتكابه طبقا لنظامها الداخلي خطأ من الدرجة الثالثة و المتمثل في عدم امتثاله لعملية التفتيش عند الخروج من العمل، حيث أن الخطأ المنسوب للمطعون ضدّه حتى و إن نص عليه النظام الداخلي للمؤسسة فإنه لا يوجد ضمن الأخطاء الجسيمة التي تؤدي إلى الطرد المنصوص عليها في المادة 73 على سبيل الحصر » (5).
            فإننا لا نرى فيما ذهبت إليه المحكمة العليا ما يبرره من الناحية القانونية لأن المادة 73 لا تنص صراحة على أن هذه الأخطاء هي على سبيل الحصر، وإنما جاء النص على أنه تعتبر أخطاء جسيمة على وجه الخصوص...» هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المادة قد استلهمها المشرع من نص المادة 2-14-122 L من قانون العمل الفرنسي الصادر بتاريخ 13جويلية1973، حيث كان المشرع الفرنسي أكثر وضوحا عندما لم يعدد الأخطاء الجسيمة، وإنما أكد على أن يكون إنهاء عقد العمل غير محدد المدة مدعما بأسباب حقيقية و جديّة وهو التزام يقع على المستخدم (6).
        وما يؤخذ على المشرع في نص المادة 73 أنه جاء بمجموعة من الأخطاء الجسيمة التي يمكن أن يرتكبها العامل و تكون سببا جديّا يعتمده المستخدم في إنهاء علاقة العمل، إلا أنه لم يعط تعريفا للخطأ الجسيم، وإن كان التعريف هو من المسائل الفقهية التي يتصدي لها الفقهاء، فإن التعريف التشريعي له فوائده في إزالة اللبس و الغموض حول المفاهيم القانونية، خاصة عندما تكون محل خلاف فقهي.
      و لذلك فقد عرف الفقه الخطأ الجسيم أو الخطأ التأديبي الذي يكون سببا جديا لأنها علاقة العمل بأنه "الأمر الذي يجعل الاحتفاظ بعلاقة العمل غير ممكن حتى في مدة الإعلام بالطرد و يكون بطبيعته سببا جديّا للطرد" (7)., وعرفه فريق آخر بأنه هو السبب الذي يعد في نفس الوقت موجودا و صحيا و موضعيا, و عرفه القضاء الفرنسي بأنه هو السبب الذي يتطلب باعثا حقيقيا ينطبق مع حقيقة ملموسة و موضوعية متينة.
    وعرفه وزير العمل الفرنسي بأنه « هو السبب الذي يكتسي نوعا من درجة الخطورة تؤدي إلى الإخلال بعلاقة العمل، ومن ثمة استحالة استمرار العمل دون إلحاق ضرر بالمشروع الشيء الذي يؤدي إلى ضرورة التسريح » (8).

(5) –  قرار رقم 155985 بتاريخ 10-02-1998 المجلة القضائية ع2000 ع1 ص 
(6) -  بلخيضر عبد الحفيظ –المرجع السابق-ص:165 
(7) - عبد الوهاب البندار –العقوبات التأديبية- دار الفكر-ص:109
(8) - بلخيضر عبد الوهاب –المرجع السابق- ص:168     
        وأيا كان مفهوم الخطأ الجسيم فإن المستخدم ملزم بأن يقدم ما من شأنه إثبات حصوله و جديّته و موضوعيته، وذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات وهو ما ذهبت اليه المحكمة العليا إذ جاء في حيثيات أحد قراراتها أنّه « حيث بالرجوع إلى الحكم المطعون فيه يتبين منه أنه تطرق لجميع الإجراءات المتخذة من الطاعنة حول إحالة العامل على لجنة التأديب، و كيفية توجيه الخطأ إليه و الظروف التي تمت فيها معاينة الخطأ، و ناقش هذه الإجراءات معتبرا أن الطرد تعسفيا لعدم تقديم المؤسسة السند القانوني الذي يثبت الأفعال المنسوبة للعامل » (9).
        و السند القانوني في إثبات الأفعال المنسوبة إلى العامل قد يكون إقراره بتلك الأفعال، فإقرار العامل مثلا بعدم إيداع المبالغ المالية التي كان يحصلها بخزينة صندوق الشركة من تاريخ تحصيلها و عدم إيداعها قبل إقفال العمليات المالية في محاسبة الميزانية، هو خطأ يسمح له بالانتفاع بأموال الشركة بدون وجه حق من تاريخ تسلمها إلى تاريخ إيداعها صندوق الخزينة و إقفال العمليات المالية، وقد اعتبرت المحكمة العليا أن اقرار العامل بعدم نفيه الوقائع المنسوبة إليه سندا صحيحا لا يحتاج معه المستخدم إلى دليل آخر لإثبات خطأ العامل حيث جاء في حيثيات قرارها « و لكن حيث أنه فضلا على أن هذا الوجه لا يوجد ضمن أوجه الطعن المنصوص عليها في المادة 235ق.إ.م فإن طلب الطاعنة كان بدون موضوع طالما أن الطاعن لم ينفي الواقعة المذكورة و عليه فإن هذا الوجه غير مجدي » (10).
        في حالة إقرار العامل بخطئه فإنه يكتفي المستخدم بما يفيد إقراره بعدم إيداع المبالغ المالية بخزينة الشركة في الوقت الذي يتسلمها فيه ليثبت الخطأ الجسيم القائم على سبب جديّ يبرر قرار التسريح.
      كما يمكن للمستخدم أن يستند إلى شهادة الشهود في إثبات خطأ العامل, إلا أن الإثبات بشهادة العمال الذين يعملون لدى المستخدم طرحت إشكالا يتعلق بتجريح الشاهد طبقا للمادة 69/2 من ق.إ.م التي تنص على أن تجريح الشاهد يكون بسبب عدم الأهلية أو القرابة أو لأي سبب جديّ آخر، خاصة وأن ارتباطهم بعقد العمل لدى المستخدم و مركزهم الضعيف من الناحية الاقتصادية و نظرا لمقتضيات التبعية للمستخدم تجعل شهادتهم محل تجريح.(11) و هو ما يجعل المستخدم في كثير من الأحيان عاجزا عن إثبات خطأ العامل لأن الأفعال و الوقائع التي تقع داخل المؤسسة لا يطلع عليها إلا الأشخاص الموجدين داخل هذه المؤسسة و هم عادة العمال.

 

(9) -  قرار رقم 211629 بتاريخ 17-01-2001 المجلة القضائية 2002 ع1 ص173
(10) -  قرار رقم 155985 بتاريخ 10-02-1998 المجلة القضائية ع 1
(11) - عبد الوهاب البندار- طرق الطعن في العقوبات التأديبية – دار الفكر – ص 178.
      لذلك يرى البعض بإمكانية الأخذ بشهادة العمال ضد العامل لأن الأخطاء الجسيمة التي تقع داخل المؤسسة لا يمن إثباتها في كثير من الأحيان إلا بشهادة العمال مثل رفض العامل تنفيذ تعليمات المتعلقة بالالتزامات المهنية.
      إلا أنه فيما يتعلق باجتهاد المحكمة في هذا المجال لم نجد من القرارات المنشورة ما يفيد أنها أخذت بهذا الطرح، وإن كنا نرى أن هناك مبررات موضوعية قوية تسمح بالأخذ بشهادة العامل ضدّ العامل نظرا لطبيعة الخطأ التأديبي الذي يقع في الغالب في إطار محدود و مغلق هو المؤسسة التي يعمل بها العامل، كما أن علاقة العامل الشاهد بالمستخدم قائمة على شروط موضوعية و مصالح متبادلة، وليس لها علاقة بالطابع الشخصي مما قد يؤثر على شهادتهم من الناحية القانونية دون التأُثر بتلك الاعتبارات الشخصية، ولأنه في الأخير يبقي لقاضي الموضوع سلطة تقدير تلك الشهادة للأخذ بها أو استبعادها.
       ولكن إذا كان المستخدم يتمتع بحرية إثبات خطأ العامل طبقا للقواعد العامة في إثبات الوقائع المادية بكافة الطرق، فإنه يجد نفسه في بعض الأحيان مقيدا بطرق إثبات محددة، وهي الحالة التي يتم فيها تسريح العامل بناءا على خطأ يعاقب عليه التشريع الجزائي، إذ يجب على المستخدم الإدلاء بنسخة من الحكم الصادر ضد العامل بالإدانة على الأفعال التي تشكل جريمة في القانون العام، حائزا لقوة الشيء المقضي فيه وفي نفس الوقت خطأ تأديبيا،. 
      و إن كان المشرع لم ينص صراحة على ذلك فإن المحكمة العليا ذهبت إلى أنه لا يمكن الاستناد إلى الحكم بالإدانة إلا إذا كان نهائيا، حيث جاء في حيثيات قرارها « حيث أنه لا يسوغ لصاحب العمل اتخاذ إجراءات التسريح دون تعويض و لا إنذار على أساس ارتكاب العامل جرائم اختلاس و سوء التسيير إلا بمقتضي حكم جزائي نهائي، ولا يحق للجنة التأديب أن تحل محل الجهات القضائية »(12).









(12) -  قرار رقم 188909 بتاريخ 15-02-2000 المجلة القضائية 2001 ع 2 ص 176.

الفرع الثاني: دور العامل في إثبات تعسف المستخدم في قرار التسريح

      إذا كانت المادة 73-3 من قانون 91/29 تجعل قرينة التسريح التعسفي قائمة في كل قرار يتخذه المستخدم بإنهاء علاقة العمل إلى أن يثبت هذا الأخير العكس، فإن القواعد العامة في الإثبات تقتضي أن كل مدعي عليه إثبات الدعواه، وإلا كانت دعوى غير مؤسسة و يكون مصيرها الرفض أمام قاضي الموضوع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن نص المادة 73-3 عندما نصت على أن « كل تسريح جاء خرقا لهذا القانون » يفهم منها أنه على العامل أن يثبت تعسف المستخدم في قرار التسريح الذي جاء خرقا لأحكام قانون العمل، و هذا ما يفيد أن المشرع قد أبقى على دور العامل في الإثبات و ذلك حتى لا يضعه في موقف سلبي من الدعوى، فطالما اقتضت مصلحة العامل إثبات عدم جديّة سبب التسريح فإنه يكون من المجدي في الدعوى أن يقدم وسائل إثباته التي من شأنها أن تقنع القاضي بتعسف المستخدم في قرار التسريح سواء من حيث عدم وجود السبب أصلا أو وجوده و عدم صحته أو صحته و عدم موضوعيته.
      و طالما أن السبب الذي يستند إليه المستخدم في اتخاذ قرار التسريح حتى لا يكون مخالفا للقانون هو في نفس الوقت سبب موجود و صحيح و موضوعي أي أنه جديّ يبرر إنهاء علاقة العمل، فإنه تبعا لذلك يقع على العامل عبء إثبات تخلف أحد عناصر السبب الجديّ، حتى يتمكن من إثبات تعسف المستخدم في إنهاء علاقة العمل، وهو الرأي الذي دعمته المحكمة العليا في قرارها الذي جاء فيه « ولكن حيث أن الحكم المطعون فيه أسس قضاءه على ما جاء في النظام الداخلي من وجوب تبليغ المؤسسة بكل غياب في ظرف 48 ساعة، فإن إدعاء الطاعن بأنه أخبر رئيسه المباشر يقع عليه عبء إثباته »(13), ففي هذا القرار فإن المحكمة العليا جعلت إثبات التسريح بسبب الغياب خلال المهلة القانونية يقع على العامل. 
      و يمكن للعامل أن يقدم وسائل إثبات غير كافية أو ضعيفة لا ترقى إلى مستوى إقناع القاضي، إلا أن تلك الأدلة التي يقدمها يمكن أن تكون منطلقا له للأمر باتخاذ إجراءات التحقيق التي يراها ضرورية لاستكمال قناعته و الفصل في النزاع بشأن تعسف أو عدم تعسف المستخدم.
      و طالما أن المادة 73-2 من قانون 91/29 تلزم المستخدم الذي قرر تسريح العامل أن يبين له في رسالة الإعلام بإنهاء علاقة العمل الأسباب التي كانت وراء قرار التسريح فإن العامل و حماية لحقه في التعويض عن التسريح التعسفي يكون مجبرا على تقديم وسائل إثباته التي من شأنها إقناع القاضي بعدم صحة السبب, على أن يقع تقدير السبب بالنظر إلى الوقت الذي وقع فيه التسريح(14)، وهو في ذلك ليس مقيدا بوسيلة معينة و إنما يجوز له إثبات تعسف المستخدم بكافة وسائل الإثبات بما في ذلك القرائـن كـــأن
(13) - قرار رقم 167320بتاريخ 18-12-1998 المجلة القضائية 2000 ع 1 ص 105
(14) - G.H.camerlynch- traité du droit du travail « contrat de travail » DALOZ 1988 p19
يعتمد على وقائع أو أفعال صدرت عن المستخدم بتاريخ سابق عن قرار التسريح، فقد يدعي هذا الأخير بأنه قام بتسريح العامل من منصب عمله لأنه قام بتاريخ معين بالمشاركة في توقف جماعي عن العمل، و يثبت العامل أنه بذلك التاريخ كان في عطلة مرضية ففي هذه الحالة يكون سبب التسريح من الناحية الواقعية غير موجود أصلا و عليه يكون قرار التسريح تعسفيا.
      غير أنه في بعض الأحيان يكون السبب موجودا و لكنه غير صحيح، وهنا يجب على العامل أن لا يثبت عدم وجود السبب، وإنما أن ينفي أن يكون هذا السبب هو الذي جعل المستخدم يتخذ قرار التسريح.
        فالمستخدم الذي يقوم بتسريح عامل بفندق بسبب أخذه لبعض بقايا الطعام التي يتركها النزلاء يكون سببا غير صحيح رغم أنه موجود لأن العامل قدم الدليل على أن قرار التسريح إنما اتخذه المستخدم لأنه سبق للعامل أن تقدم بشهادته أثناء دعوى طلاق بين المستخدم و زوجته، فالسبب الحقيقي لتسريحه من منصب عمله هو شهادته ضد مستخدمه أمام القضاء، وبما أن هذا السبب غير مشروع أصلا فإن المستخدم استند إلى سبب آخر مشروع ليخفى بذلك الدافع الحقيقي، فالسبب الحقيقي لم يكن خطأ العامل بأخذه بقايا الطعام و إنما شهادته ضد مستخدمه أمام القضاء(15).
      و قد يكون سبب التسريح موجودا و صحيحا و لكنه غير موضوعي، وقد آثار الطابع الموضوعي لسبب التسريح العديد من الإشكالات القانونية، ولم يستقر فيها الاجتهاد القضائي خاصة الفرنسي على رأي معين.
      وليكون سبب التسريح موضوعيا يجب أن يترجم إلى مظاهر خارجية يمكن التحقق منها(16)، فإذا لم يستند السبب إلى أي فعل محدد و ملموس، أو إذا كان موجودا فقط في ذهن المستخدم فإنه لا يمكن اعتباره سببا موضوعيا، وهنا يظهر دور القاضي في تقدير موضوعية سبب التسريح بالبحث في الباعث الحقيقي وراء قرار المستخدم بتسريح العامل لأنه من المستحيل على هذا الأخير أن يثبت أمرا سلبيا موجودا في ذهن المستخدم و لم تتم ترجمته إلى أفعال مادية ملموسة، فإذا ادعى المستخدم فقدان ثقته في العامل أو عدم ارتياحه له فإنه يستحيل على العامل أن يثبت عكس ذلك.





(15) - Cass soc.28 oct 1981 D.O 1982 p 195
- (16) Gerad lyon cafen.jeon Pelissier - Droit du travail-16eme edit DALOZ 1982 p270
      و إلى غاية سنة 1990 كان القضاء الفرنسي يؤكد على أن فقدان الثقة أو عدم الوفاق بين المستخدم و العامل يعتبر سببا جديّا لإنهاء علاقة العمل لكن هذا الاتجاه تعرض إلى النقد الشديد مما جعل محكمة النقض الفرنسية تغير موقفها انطلاقا من قرارها الشهير الذي يعرف بقرار « Mme FERTREY » إذ جاء في حيثيات هذا القرار:« إن التسريح لسبب حقيقي لصيق بالشخص يجب أن يكون مؤسسا على عناصر موضوعية و أن فقدان الثقة الذي ادعاه المستخدم لا يكون في ذاته سببا للتسريح » (17).
      إلا أنه بالنسبة للمشرع الجزائري فأنه رغم تعديل قانون العمل لاسيما المادة 73 بموجب قانون 91/29 و التي استلهم أحكامها من المادة 4-14-122 L من قانون العمل الفرنسي إلا أن القضاء الجزائري و على الخصوص قرارات المحكمة العليا مازالت تعتمد على التعداد الحصري للأخطاء الجسيمة متقيدة في ذلك بما ورد من أخطاء في المادة 73، وهو الموقف الذي لا يسمح للقاضي بتكييف السبب الجديّ للتسريح إذا لم يكن ضمن الأخطاء المذكورة في نص المادة، عكس القانون الفرنسي الذي يعطي أكثر مرونة لقاضي الموضوع لتقدير مدى جديّة سبب التسريح و إلزام المستخدم بإتباع الإجراءات المقررة لتبرير قرار التسريح بناء على خطأ فعلي و جديّ، و هذا يعني أن القاضي يفحص القانون الموضوعي أي موضوعية السبب قبل فحص القانون الإجرائي (18)، وهو ما يسمح بتقدير جديّة سبب التسريح حتى وإن كان قائما على خطأ غير مذكور في المادة 73، لأن العبرة في الخطأ الجسيم بجديّة السبب من الناحية الموضوعية.     











 -  (17)Cass.Soc.29 NOV 1990. D.O 1991 p190 « qu’un licenciement pour une cause inhérents a la
La personne doit être fondée sur des éléments objectifs .que la perte de confiance allegué par l’employeur ne constitue par en soit sur un motif de licenciement ».  
( 18)- عبد لسلام ذيب- الحلول القضائية للمشاكل المترتبة عن تطبيق المادة 4.73  من قانون 90/11 – مقال نشر  بالمجلة القضائية 2001 ع 2 ص 21
المطلب الثاني: دور قاضي الموضوع في إثبات سبب التسريح

       إن خصوصية نزاعات العمل الفردية خاصة فيما يتعلق بإنهاء علاقة العمل وإثبات السبب الجديّ لتسريح العامل، و نظرا لاختلال التوازن في عقد العمل بين العامل و المستخدم, و رغم أن المشرع كما سبق وأن بيّنا في المطلب الأول قد جعل قرينة التعسف قائمة في قرار التسريح إلى أن يثبت المستخدم العكس، فإن ذلك فرض على القاضي الاجتماعي أن يلعب دورا ايجابيا في مسألة الإثبات متجاوزا بذلك النقاش الفقهي التقليدي حول قضية حياد القاضي في النزاع، و هل يجب أن يكون سلبيا أم إيجابيا، و الذي استقر فيه الرأي الغالب سواء في الفقه أو القضاء أو التشريع مقرا بضرورة الحياد الإيجابي.
         و إن كان المشرع الفرنسي من أكثر المشرعين وضوحا في تأكيد الدور الايجابي للقاضي في إثبات السبب الجديّ للتسريح، إذ نص في المادة 3-14-122 L من قانون 13جويلية1973 على أنه :« في حالات النزاع على القاضي المكلف بتقدير صحة الإجراء المتبع و الطابع الحقيقي و الجديّ للأسباب التي يدعيها صاحب العمل، أن يكون اقتناعه بناءا على العناصر التي يقدمها الأطراف، وعند الاقتضاء بعد اتخاذ تدابير التحقيق التي يراها صالحة  ».
          ونظرا لدور القاضي في الإثبات فإنه بهذا الصدد يقول وزير العمل الفرنسي آنذاك « إذا كان لزاما عليّ أن أرد على السؤال المطروح و الذي مفاده على من يقع عبء الإثبات هل على العامل أو صاحب العمل فإني لا أتردد في القول دون تهكم بأن الإثبات يقع على القاضي »(19)
        و نظرا لأهمية دور القاضي في الإثبات فإننا سنتناول دوره في تقدير أدلة الإثبات التي يقدمها الأطراف في( الفرع الأول )، ثم الوسائل القانونية التي أتاحها المشرع في مجال التحقيق القضائي في(الفرع الثاني ).






(19) - « s’il me fallait répondre à la question de savoir qui désormais, de l’employeur au de l’employé portera la charge de la preuve, je serais tenté de dire sans aucune ironie c’est le  ironie c’est le juge’J.O.Debats : assemblée nationale 23 mai 1973. p 1445, cité par : HELENESINEY » les difficultés d’ordre probatoire nées de la loi du 13 juillet 1973 R.D.S. n° avr 1978. p23. 

الفرع الأول: المساهمة الإيجابية لقاضي الموضوع في تقدير وسائل الإثبات
        إذا كان القاضي ينحصر دورة في تطبيق القانون، في حين يتولى الخصوم تقديم أدلتهم وأوجه دفاعهم و يقوم القاضي بعملية موازنة بين هذه الأدلة و يحكم لمن كانت حجته أقوى، وذلك استنادا إلى مبدأ أن القضاة يحكمون بكامل التجرد دون اعتبار للأشخاص أو المصالح، و ليس لهم الحكم في قضية استنادا إلى علمهم الشخصي و ليس لهم إتمام أو إحضار حجج الخصوم، وقد تأسس هذا المفهوم للحياد التام للقاضي انطلاقا من أفكار المذهب الفردي الذي يعتبر أن الدعوى ملك الخصوم لا يجوز للقاضي التدخل فيها بأي وجه، فإذا رأى أن الدليل ناقصا أو مبهما فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه (20).
        غير أن هذا الاتجاه قد تجاوزته معظم التشريعات التي أصبحت تأخذ بالحياد الايجابي للقاضي في المنازعة القضائية، خاصة في مجال نزاعات العمل الفردية الناشئة عن عقد العمل، لأن الأخذ بمبدأ الحياد التام أفرز في الكثير من الأحيان ضياع الحقوق و هو ما يتعارض مع وظيفة القاضي التي هي في جوهرها إيصال الحقوق إلى أصحابها.
        لذلك ظهر تيار فقهي ينادي بضرورة تخلي القاضي عن مبدأ الحياد السلبي و اعتماد الحياد الايجابي فيما يتعلق بمسألة الإثبات خاصة في نزاعات العمل الفردية.
        وهو الاتجاه الذي تبناه المشرع ضمن القواعد العامة في الإثبات الواردة في قانون الإجراءات المدنية، أو في قانون العمل خاصة المادة 73-3 من قانون 91/29 التي أسست قرينة على تعسف المستخدم في إنهاء علاقة العمل يعتمدها القاضي إلى حين أن يثبت العكس.
        وفي كل الحالات فإنه يرجع للقاضي تقدير عناصر الإثبات المقدمة إليه من طرف الخصوم لأن ذلك يدخل في صميم صلاحيات القاضي، كما أكدت على ذلك المحكمة العليا في قرار رقم 212611 المؤرخ في 13-02-2001 الذي سبق وأن أشرنا إليه، حيث اعتبرت « أن تقدير وسائل الإثبات هي مسألة جوهرية تدخل ضمن صلاحيات قاضي الموضوع ».
        و انطلاقا من هذا فإن للقاضي الاجتماعي في منازعات العمل الفردية دور جوهري و إيجابي في إثبات السبب الجديّ للتسريح، فإذا كان على طرفي الخصومة تقديم وسائل إثباتهما فإن القاضي يتولى فحصها بالبحث عن التكييف القانوني للأسباب التي قام عليها قرار التسريح، فإن ثبت له أنها كانت مشروعة و جديّة فإن القرار يكون مبرر من الناحية القانونية، أما إذا أثبت له انعدام السبب الجديّ فإنه عليه أن يصرح بالصبغة التعسفية لقرار التسريح.


(20) - عبد الرزاق السنهوري-الوسيط في شرح قانون المدني- الجزء الثاني ص 30.
 وقد ذهبت المحكمة العليا في هذا الاتجاه عندما قررت « أنه من الثبات قانونا أن الخطأ المنسوب إلى العامل لما يكون غير ثابت أو غير قائم يجعل قرار التسريح تعسفي"(21).وهو ما يفيد أن قاضي الموضوع ينظر في عناصر الإثبات لتكييف سبب التسريح من حيث ثبوته أو عدمه و مدى موضوعيته كمبرر جدي لإنهاء علاقة العمل، وفي نفس القرار المذكور أعلاه أكدت المحكمة العليا في أحد حيثياته « حيث أن المحكمة الابتدائية رغم أنها لاحظت كل العيوب التي لحقت الشهادة الطبية المستظهر بها – لتبرير الغياب- إكتفت بالتصريح بأنها سليمة طالما لم يطعن فيها بالتزوير فإن المحكمة استبعدت التجريح في هذه الشهادة بعدما تحققت من أنها تم دفعها إلى صندوق الضمان الاجتماعي و تم التأشير عليها و هذا ما توصلت إليه المحكمة الابتدائية...».
            غير أنه رغم السلطة الواسعة لقاضي الموضوع في تقدير وسائل الإثبات إلا أنه يبقي خاضعا للمبادئ الأساسية في الإثبات، فليس له أن يحكم انطلاقا من علمه الشخصي و عليه أن يحترم مبدأ المواجهة بين الخصوم و في كل الأحوال فهو رغم دوره الايجابي فإن ذلك لا يجعل منه قاضي تحقيق مدني, لأنه و إن كان أنيط به تقدير وسائل الإثبات و تكييف السبب الجديّ لإنهاء علاقة العمل, فإنه لا يجوز له البحث عن الوقائع المادية، بل يعتمد في ذلك على تقدير وسائل الإثبات التي يقدمها الأطراف(22).
           و إذا رأى الأطراف سعوا بجديّة في تقديم وسائل إثباتهم و لم تكن كافية في حد ذاتها للفصل في النزاع، فإنه بإمكانه بناء على طلب أحد الخصوم أو من تلقاء نفسه الأمر بكل وسيلة تحقيق يراها ضرورية لحسم النزاع طبقا للمادة 43 من قانون الإجراءات المدنية, و ذلك ما سنتناوله في الفرع الثاني.











(21)- قرار رقم 212611 بتاريح 13/02/2002 المجلة القضائية ع 1 ص:177
 (22)- MARC Richevaux – les mesures d’instruction-D.O mai-juin 1987 p175 

الفرع الثاني: وسائل و سلطة القاضي لإثبات سبب التسريح
           إذا كان المشرع قد تبنى في خصوص إثبات السبب الجديّ للتسريح نظام تحقيقي يخول لقاضي الموضوع كل الوسائل القانونية الكفيلة لتدعيم قناعته للفصل في النزاع، فإن المشرع الفرنسي في إثبات السبب الجديّ للتسريح كان أكثر وضوحا و لم يكتف بالقواعد العامة في الإثبات وإنما نص في المادة :
3-14-122 L من قانون العمل على أنه « في حالات النزاع، على القاضي المكلف بتقدير صحة الإجراء المتبع و الطابع الحقيقي و الجديّ للأسباب التي يدعيها صاحب العمل أن يكون اقتناعه بناء على العناصر التي يقدمها الأطراف و عند الاقتضاء بعد اتخاذ تدابير التحقيق التي يراها صالحة.» (23).
            غير أنه وإن كان المشرع الجزائري اكتفى بالقواعد العامة الواردة في المادة 43 من قانون الإجراءات المدنية، فإن سلطة القاضي الاجتماعي التحقيقية في نزاعات العمل الفردية هي حقيقة ملموسة تكرس الاتجاه الحديث لدور القاضي في النزاع المدني بصفة عامة و نزاعات العمل الفردية بصفة خاصة, وفي هذا المجال يمكن للقاضي ألا يتقيد بما يقدمه أطراف النزاع من أدلة إثبات إذا كانت هذه الأدلة قاصرة عن توضيح الحقيقة، و إقامة الدليل على صحة الوقائع المدعى بها، فيعمل على توضيح الجوانب الغامضة في تلك الأدلة، فيقرر مثلا سماع شهادة بعض الأطراف و يقوم لذلك الغرض باستدعائهم لحضور الجلسة .
            و عند سماع الأطراف يمكن له سماع كل طرف على حدى أو أن يسمع الطرفين معا و له أن يوجه إليهم الأسئلة التي يراها ضرورية لكشف الحقيقة، غير أنه إذا سمع كل طرف على حدى فإنه يتوجب عليه إعلام كل طرف بتصريحات الطرف الآخر.
            و للقاضي مطلق الحرية في استخلاص النتائج في تصريحات الأطراف واستخلاص القرائن من حضور أو غياب الأطراف، خاصة و أن المستخدم غالبا ما يتم تمثيله في الجلسة بواسطة نائبه القانوني.
            و يمكن له أيضا أن يطالب المستخدم بكل الوثائق و المستندات و الدفاتر التي يمسكها للاطلاع عليها إذا كان ذلك ضروريا للكشف عن واقعة معينة.
            كما له دائما في إطار سلطته التحقيقية الانتقال إلى المؤسسة و أماكن العمل للمعاينة وان يطلب من المستخدم إفادته بكل وثيقة يطلبها يمكن أن تساعده على كشف الحقيقة.


(23) - ART L 122-14-3 du code de travail   F .du 13 juillet 1975 «  En cas de litiges le juge a qu’il appartient d’apprécier la régularité de la procédure suivie et le caractère réel et sérieux des motifs invoquée par l’employeur.forme sa conviction au  vu des élements fournis par les parties et au besois après  toutes mesures d’instruction qu’il estime utiles 
خاصة إذا استحال على العامل الحصول عليها لإثبات تعسف المستخدم في قرار التسريح، ورغم عدم حصول مثل هذا الإجراء في التطبيق القضائي فانه ليس هناك مانع إذا تبين للقاضي ضرورة لذلك. و قيام القاضي بوسائل التحقيق من شأنه أن يوضح الجوانب الغامضة في النزاع، ويدعم وسائل الإثبات التي قدمها الأطراف مما يؤكد قناعته بوجود السبب الحقيقي و الجديّ للتسريح من عدمه.
            غير أن القاضي عند قيامه بإجراءات التحقيق قد يصطدم ببعض المسائل الفنية التي تخرج عن مجال اختصاصه و يحتاج في توضيحها إلى خبرة أهل الاختصاص لتقدير ما إذا كان هناك سببا جديّا و مشروعا للتسريح خاصة وأن هناك عدة ميادين في عالم الشغل و علاقات العمل تتصل بالقضاء اتصالا مباشرا و لكن لا يكون للقاضي علم كافي بها نظرا لتكوينه القانوني و طبيعتها التقنية مثل المحاسبة.
            و طالما كان الفصل في النزاع يتطلب التحقيق في معطيات لا يمكن للقاضي أن يكتشفها بنفسه فإن المشرع خول له الالتجاء إلى الخبراء و تكليفهم بإعداد تقارير حول موضوع أو مسألة غامضة من الناحية الفنية.
            و على القاضي إذا أمر بخبرة أن يحدد بدقة ما هو مطلوب إنجازه من طرف الخبير، و المدة التي يجب على هذا الأخير إيداع تقرير خبرته لدى أمانة ضبط المحكمة.
           و تبرز أهمية اللجوء إلى الخبراء في مجال المحاسبة في حالات الاختلاس و التسريح لأسباب اقتصادية خاصة أن التسريح في هذه الحالات يكون سببه صعوبات مالية و اقتصادية تعاني منها المؤسسة، ولا يمكن للقاضي أن يكشف هذه الصعوبات المالية دون الاعتماد على تقارير الخبراء المحاسبين، الذين يمكنهم وحدهم تقرير الوضعية الاقتصادية للمؤسسة.
          إلا أنه رغم دور الخبير في إنارة سبيل العدالة فإنه لا يمكن له أن يتجاوز حدود مهامه التي كلف بها، و ليس له أن يبين أن الحق في جانب هذا أو ذاك لأنه ليس من اختصاصه البت في النزاع الذي يعود إلى القاضي, الذي له السلطة المطلقة في اعتماد الخبرة أو استبعادها غير مقيد في ذلك إلا بتسبيب حكمه.
          فقد تحصل على سبيل المثال كارثة في المؤسسة فيستغل المستخدم الواقعة لتسريح عدد من العمال بدعوى أنه أصبح من المستحيل الحفاظ على عقود عملهم نتيجة استحالة مواصلة تنفيذ العمل بسبب القوة القاهرة، ولكن إذا أمر القاضي بخبرة فإنه يمكن للخبير أن يثبت من خلال تحليل الوضعية المالية للمؤسسة بأن الكارثة التي حلت بالمؤسسة ليست بالخطورة التي تجعل مواصلة العمل بها غير ممكن.
          ولكن في بعض الحالات قد يطرح النزاع أمام القاضي الاجتماعي بعد أن يكون قد طرح نزاع آخر يتعلق بنفس الوقائع أمام القاضي الجزائي، أو مجلس التأديب فما مدى تأثير الحكم الجزائي أو قرار مجلس التأديب على إثبات السبب الجديّ لتسريح العامل؟ و هذا التساؤل ما سنحاول الإجابة عليه في المبحث الثاني.
المبـحـث الثاني
حجيّة الحكم الجزائي و قرار مجلس التأديب على إثبات سبب التسريح
         كنا قد بينا في المبحث الأول توزيع عبء إثبات سبب تسريح العامل أو دور كل طرف في النزاع في تقديم وسائل إثباته، و بينا دور القاضي الاجتماعي في منازعات العمل الفردية في تقدير تلك الوسائل.
          غير أنه قد يحدث و أن يقدم المستخدم في ملف النزاع حكما جزائيا صادرا بخصوص الخطأ الذي ارتكبه العامل وكان سببا في اتخاذه قرار التسريح، وهذا ما يطرح سؤالا حول هذا الحكم الجزائي في إثبات السبب الحقيقي والجديّ للتسريح و مدى حجيّته على القاضي الذي ينظر في النزاع المطروح أمامه بشأن إنهاء علاقة العمل.(المطلب الأول)
         كما يمكن للمستخدم أن يتمسك في دعواه بقرار مجلس التأديب الذي يراه قرارا مشروعا و حجة على العامل في ارتكابه لخطأ جسيم يستوجب تسريحه، طالما أن مجلس التأديب من الهيئات القانونية التي ينص عليها القانون، تصدر قرارتها طبقا لإجراءات قانونية تتاح فيها فرصة للعامل في أن يدافع عن نفسه و يثبت عدم ارتكابه لخطأ جسيم وهو ما يطرح السؤال حول تأثير قرار مجلس التأديب على إثبات سبب التسريح(المطلب الثاني). 
المطلب الأول: أثر الحكم الجزائي على إثبات سبب التسريح
          يعود أثر الحكم الجزائي على إثبات وجود سبب جديّ لتسريح العامل من منصب عمله إلى مبدأ عام أخذت به معظم التشريعات، و هو مبدأ حجية الحكم الجزائي على الدعوى المدنية، وهو مبدأ يقضي بأن يتقيد القاضي المدني بمنطوق الحكم الجزائي فيما يتعلق بما أثبته من أفعال مكونة للجريمة و نسبتها للفاعل.
          وقد استقر الفقه و القضاء على حجية الحكم الجزائي القاضي بالإدانة على الدعوى المدنية في إثبات الوقائع المادية و نسبتها إلى فاعلها، إلا أنه لم يستقر على الأخذ بهذا المبدأ بالنسبة للحكم الجزائي القاضي بالبراءة، وحجتهم في ذلك أنه إذا كان القاضي المدني ملزما بالحكم الجزائي الذي قضي بإدانة المتهم، فإنه في الحكم الجزائي القاضي بالبراءة يمكن للقاضي المدني أن يبين قيام الخطأ المدني دون قيام الخطأ الجزائي، لأن الأمر يختلف في النزاع العمالي نظرا لإسقلالية الخطأ التأديبي عن الخطأ الجزائي، ذلك أن الخطأ و إن نتج عنه عقاب تأديبي و عقوبة جزائية فإن القواعد التي يخضع لها الأول تختلف عن تلك التي يخضع لها الثاني(24).

(24) - jean paul-antona: la rupture du contrat du travail- 3eme édit°1999 P:03
         فالخطأ الجزائي مرتبط باعتبارات حماية المجتمع من الجريمة في حين الخطأ التأديبي مرتبط باعتبارات حماية المؤسسة، و إذا كان في كثير من الأحيان يرتبط الخطأ التأديبي بالخطأ الجزائي وهو ما يبرر العقوبة الجزائية و التأديبية، فإنه في كثير من الأحيان الأخرى لا يكون الخطأ التأديبي خطأ جزائيا.وهذا مما يجعل حجية الحكم الجزائي على إثبات سبب التسريح تختلف بحسب طبيعة الحكم الجزائي إذا قضي بالإدانة أو البراءة، و هو ما سنتطرق إليه في الفقرتين التاليتين : 
- الفرع الأول: حجية الحكم الجزائي بالإدانة على إثبات سبب التسريح.
- الفرع الثاني: أثر الحكم بالبراءة على إثبات سبب التسريح.   
الفرع الأول: حجية الحكم الجزائي القاضي بالإدانة على إثبات سبب التسريح
          إذا كان الحكم الجزائي قد قضي بإدانة العامل بثبوت الأفعال المكونة للجريمة وفقا لقانون العقوبات، وكانت تلك الأفعال المادية المكونة للركن المادي للجريمة، هي التي استند إليها المستخدم في تسريح العامل من منصب عمله بمفهوم الخطأ الجسيم المنصوص عليه في المادة 73 من قانون العمل، فإن القاضي الاجتماعي الذي ينظر في النزاع المتعلق بإنهاء علاقة العمل يكون مقيدا بها بما أثبته الحكم الجزائي من وقائع و أفعال في حق العمل.
          و إن كان المشرع نص صراحة في المدة 339 من ق.م على تقيد القاضي المدني بالحكم الجزائي فيما فصل فيه من وقائع وكان فصله فيها ضروريا. فإن الاجتهاد القضائي تبنى هذا المبدأ من حيث أن القاضي المدني عليه أن يتقيد بالحكم الجزائي القاضي بالإدانة لأنه لا يمكن استبعاد صحة الوقائع المادية التي أثبتها القاضي الجزائي، ومبرر تقيد القاضي الاجتماعي بالوقائع التي أثبتها الحكم الجزائي في مواجهة العامل المدان بإحدى جرائم القانون العام هو تحقيق عدم تضارب الأحكام المدنية و الجزائية فطالما كان للقاضي الجزائي في إثبات الوقائع التي أسس عليها حكمه بالإدانة و نسبتها للمتهم له من وسائل التحقيق ما يمكنه من تأكيد تلك الأفعال.
         فإذا أثب القاضي الجزائي ارتكاب العامل لجريمة خيانة الأمانة أو كانت هده الجريمة هي سبب تسريح العامل فإن القاضي الاجتماعي لا يمكنه أن ينفي قيام العناصر المادية المكونة لجريمة خيانة الأمانة، لأنه طالما تبين ذلك جزائيا بحكم نهائي فإنه تصبح له حجية مطلقة فيما أثبته من وقائع و نسبتها للعامل.
          و قد تبنت المحكمة العليا هذا المبدأ في أحد قراراتها، الذي جاء فيه « حيث أنه بالرجوع إلى الحكم المنتقد يتبين منه أن قاضي الدرجة الأولى أسس قضاءه بأن تهمة السرقة المنسوبة للعامل تعد من الأخطاء التي يعاقب عليها القانون الجزائي و التي لا يمكن إثباتها في حق العامل إلا بموجب حكم قضائي نهائي و في قضية الحال فإن هذه التهمة تبقي مجرد اتهام غير ثابت في حق العامل بانعدام الحكم القضائي». 
       ثم أضافت في حيثية أخرى « حيث أنه من الثابت في اجتهاد المحكمة العليا أن الخطأ المهني المؤدي إلى إنهاء علاقة العمل و الذي يكون جريمة في القانون الجزائي لا يمكن اعتماده كسبب للتسريح ما لم يثبت وقوعه بحكم نهائي حائز قوة الشيء المقضي فيه قبل إعلان التسريح » (25).
           و استنادا إلى هذا القرار و بمفهوم المخالفة فإن تقيد القاضي الاجتماعي بما سبق و أن فصل فيه القضاء الجزائي بحكم نهائي بخصوص الوقائع المادية مرتبط بالحجية المطلقة للحكم الجزائي الذي قضي بإدانة العامل بإحدى جرائم القانون العام التي تكون في نفس الوقت خطأ مهنيا يستوجب تسريح العامل، حيث لا يبقي للقاضي الاجتماعي مجالا للتشكيك في صحة ارتكاب الأفعال, وصحة نسبتها إلى العامل، لأن الحكم الجزائي هنا يعبر عن حقيقة مطلقة لا يمكن إثبات عكسها، إذ أنه ليس من المنطقي أن يصدر القاضي الجزائي حكما نهائيا بارتكاب العامل الجرم المنسوب إليه و الذي هو في نفس الوقت يشكل عنصر الخطأ التأديبي ثم يصدر القاضي الاجتماعي حكما يصرح فيه بعدم وجود الصبغة لتعسفية لتسريح العامل لعدم ثبوت ارتكابه لتلك الأفعال التي كانت من جهة سببا في المتابعة الجزائية، ومن جهة أخرى سببا جديّا لقرار التسريح.
          ورغم أن مبدأ حجية الحكم الجزائي على المدني قد أصبح من المبادئ المسلم بها في الفقه و القضاء سواء الجزائري أو الفرنسي، إلا أنه نظرا لخصوصية المنازعة العمالية الفردية فإن بعض الفقهاء اعتبروا أن إدانة العامل لا تعني بالضرورة إمكانية استناد المستخدم لهذه الإدانة لتبرير التسريح لأن التسريح لا يكون مبررا إلا إذا ارتكب العامل فعلا من شأنه أن يحدث اضطرابا على حسن سير المؤسسة، فقد يحدث أن يكون الفعل الذي ارتكبه العامل معاقب عليه جزائيا و لكن ليس من قبيل الأفعال التي تبـررالتسريح لأنه لا يكون من نتائجه عرقلة سير المؤسسة(26) ومنطلق هذا الرأي الذي ذهب إليه البعض في رأينا أنه في كل الحالات فإن التسريح يجب أن يقوم على سبب حقيقي و جديّ يبرر قرار التسريح، بغض النظر عما إذا كان هذا السبب مرتبط بإحدى الأخطاء التأديبية الواردة في المادة 73 من قانون العمل، أو أي خطأ طالما كان قائما على سبب جديّ، وهو ما يؤكد على أن تلك الأخطاء إنما جاءت على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، طالما أن العبرة في الخطأ هي الجسامة و العبرة في قرار التسريح بالسبب الجديّ المرتبط بذلك الخطأ.



(25) - قراررقم1629 بتاريخ 17/01/2001 المجلة القضائية 2002 عدد الأول ص 17.
(26)- jean rivero et j.savatier: droit du travail 6eme édt° dalloz p626 
و إن كان تقيد القاضي الاجتماعي في منازعات العمل الفردية بالحكم الجزائي القاضي بالإدانة له مبررات قانونية تتمثل في حجية الحكم الجزائي على الدعوى المدنية، فإن لهذه الحجية آثار قانونية تترتب عليها.
       إن القاضي الاجتماعي عند نظره في الدعوى المتعلقة بنزاعات العمل الفردية فإنه في وجود حكم جزائي قاضي بالإدانة لا يمكنه أن يتجاوز هذا الحكم و لا يقبل وسيلة إثبات مخالفة لما أثبته القاضي الجزائي، و بالنتيجة لذلك لا يبقى له مبرر للقيام بأي إجراء تحقيقي لمعرفة ثبوت الخطأ من عدمه، أو لمعرفة جديّة سبب التسريح من عدمه، فينتفي بذلك أي موجب لإعادة النظر فيما أثبته القاضي الجزائي من وقائع في حق العامل المدان بمقتضي ذلك الحكم.
       أما بالنسبة للعامل فإنه بوجود الحكم الجزائي القاضي بإدانته فإنه يتعذر عليه أمام ذلك الاستناد إلى أي وسيلة إثبات أخرى لنفي ارتكابه تلك الأفعال و نسبتها إليه.
       أما بالنسبة إلى المستخدم فإن الحكم الجزائي النهائي القاضي بإدانة العامل يكتفي معه بإحضار نسخة منه لإثبات نسبة الخطأ للعامل، و بالتالي تبرير قرار التسريح إذ أن إدانة العامل بالجرم المنسوب إليه في حد ذاته كاف لإثبات السبب الجديّ للتسريح دون تدعيمه بوسائل إثبات أخرى.
       لكن السؤال الذي يبقى مطروحا في قانون العمل الجزائري، هل أنه يجوز للمستخدم تسريح العامل من منصب عمله إذا ما حكم عليه نهائيا في جناية أو جنحة ماسة بالشرف و الأمانة أو الآداب العامة، إذا كانت أحدى هذه الجرائم خارج نطاق صور إخلال العامل بإلتزامته الجوهرية طالما أن المشرع نص في المادة 73 من قانون العمل على أنه:« و علاوة على الأخطاء الجسيمة التي يعاقب عليها التشريع الجزائي و التي ترتكب أثناء العمل... » ؟                     
        و يمكن أن نطرح السؤال بطريقة أخرى هل أن المتابعة الجزائية المؤسسة على وقائع خارجة على مجال تنفيذ عقد العمل يمكن أن تكون سببا جديّا لتسريح العامل؟ و هل تعتبر من الأخطاء الجسيمة التي يمكن أن يتمسك بها المستخدم أمام القاضي الاجتماعي؟
       إن الفقه الفرنسي يرى أن الأصل في التسيير و سلطة التأديب لا يمارسان إلا أثناء وجود العامل في مكان و زمان العمل، فرقابة صاحب العمل لا تتجاوز حياة العامل المهنية، حتى ولو تعلق الأمر بأفعال لها وصف جزائي طالما أنه ارتكبها خارج نطاق تنفيذ التزاماته التعاقدية، ومن ثم تبقى حياة العامل غير المهنية بعيدة من حيث المبدأ عن علاقات العمل، ألاّّ أنه ترد على هذا المبدأ بعض الاستثناءات التي يُخوّل فيها لصاحب العمل سلطة الرقابة على حياة العامل غير المهنية و ذلك في حالة ما إذا كان سلوك العامل الخارجي له تأثير على السير الحسن للمشروع أو المساس بسمعته(27)
       
(27)- بلخيضر عبد الحفيظ- الإنهاء التعسفي لعقد العمل –دار الحداثة1987 –ص 228
ولذلك فإن المتابعة الجزائية المؤسسة على وقائع أجنبية عن العمل لا تعتبر من حيث المبدأ سببا كافيا لتبرير التسريح إلا إذا كانت الجريمة المرتكبة من طبيعتها أن تلحق بالمشروع ضرر.
        و قد أجاز المشرع المصري لصاحب العمل إذا ما حكم على العامل نهائيا في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو الأمانة أو الآداب العامة في المادة 61/7 من قانون العمل فصل العامل دون أن يلزم أن تكون الجريمة المحكوم بها على العامل متصلة بالعمل أو مرتكبه في أثنائه أو في مكانه(28), و يبدوا أن المشرع المصري في إعطائه لصاحب العمل إمكانية تسريح العامل في هذه الحالة قد تأثر بما قد يتحقق من جراء ارتكاب العامل لجريمته من زعزعة ثقة المستخدم فيه و تأثير ذلك على نشاط المؤسسة.
        وهو ما كان على المشرع الجزائري أن يأخذ به دون أن يضيق مجال ارتكاب الخطأ الجزائي المبرر لتسريح العامل في الأخطاء التي يرتكبها أثناء العمل، لأنه في اعتقادنا أن العبرة في الخطأ الجزائي تكمن في تأثيره على علاقة المستخدم بالعامل من حيث الثقة التي يقوم عليها عقد العمل من جهة, إذ لا يمكن أن نتصور ارتكاب العامل لجريمة من جرائم القانون العام خارج نطاق عقد العمل دون أن تتأثر تلك العلاقة سلبيا، وهو من الناحية الموضوعية سبب جديّ لتسريح العامل ومن جهة أخرى فإن الخطأ الجزائي حتى لو كان خارج نطاق تنفيذ عقد العمل فإن له آثاره على سير المؤسسة مما يجعل قرار التسريح مبررا وإضافة إلى ثبوت الوقائع التي لها وصف جزائي في حق العامل فإن المستخدم يعفى من واجب عرض العامل على مجلس التأديب، ودون أن يحصل على التعويض من التسريح ولا على مهلة الإنذار(29).










(28) - محمد السيد عمران- شرح قانون العمل- دار المطبوعات الجامعية2000- ص:93
(29) - بلحيضر عبد الحفيظ –المرجع السلبق –ص:23
الفرع الثاني : أثر الحكم ببراءة العامل من المتابعة الجزائية
         إذا كان الحكم الجزائي القاضي بالإدانة يقيد القاضي الاجتماعي فيما أكده من وقائع و صحة نسبتها للعامل، فإن الأمر يختلف إذا كان الحكم الجزائي قضى ببراءة العامل من الجريمة المنسوبة إليه. و لا يؤسس القاضي الجزائي الحكم بالإدانة إلا إذا ثبت لديه على وجه اليقين ارتكاب المتهم للأفعال المنسوبة إليه و توفر كامل أركان الجريمة، فإذا لم يثبت لديه قطعيا ارتكاب المتهم للأفعال المنسوبة إليه أو عدم مشاركته في ارتكابها، أو إذا ثبت لديه ارتكاب الأفعال المنسوبة إليه و تخلف ركن من أركان الجريمة، أو إذا بقي لديه شك في نسبة الأفعال للمتهم فإنه يحكم ببراءته.

أ‌- عدم ثبوت ارتكاب العامل للأفعال المنسوبة إليه: 
إذا لم يثبت للقاضي الجزائي ارتكاب العامل المتهم للأفعال المنسوبة إليه و التي كانت سببا في تسريحه فإنه يحكم ببراءته، وهذا الحكم يكون له حجية على القاضي الاجتماعي في خصوص ما أثبته، ولكن يبقي القاضي الاجتماعي مؤهلا للنظر فيما إذا كان اتهام العامل و متابعته جزائيا مكونا لسبب حقيقي و جديّ للتسريح، فحتى لو استفاد العامل من البراءة أو بأن لا وجه للمتابعة فإن التسريح يكون مبررا و صحيحا بشرط أن يثبت المستخدم أن التصرف الذي قام به يعد خطأ تأديبيا، وهذا ما قضت به محكمة النقض الفرنسية  « إن فتح تحقيق قضائي لا يمنع أن يكون العامل مخطئا بتصرفات معاقب عليها في تنفيذ الالتزامات الملقاة على عاتقه طبقا لعقد العمل بحيث تكون مثل هذه التصرفات حتى وإن لم تقع تحت طائلة قانون العقوبات بطبيعتها مبررا لإنهاء عقد العمل من طرف صاحب العمل(30).
          وقد أقر الاجتهاد القضائي للمحكمة العليا أن الحكم الجزائي القاضي بالبراءة يلزم القاضي الاجتماعي في خصوص ما أثبته، و جعلت الحكم بالبراءة له أثر في إثبات سبب التسريح، حيث جاء في أحد قراراتها «...إن رفض الطاعنة بإعادة إدراج المطعون ضدّه إلى عمله بعد إثبات براءته بموجب حكم جنائي من التهم التي كانت سببا في تعليق علاقة العمل و عدم إحالته على التقاعد رغم توافر الشروط يعد بمثابة تسريح تعسفي غير معلن عنه يبرر حقه في التعويض مقابل الضرر اللاحق به »(31)




 - (30Cass.Soc 19 Mars 1953 LAMY SOCIAL S.A  p 2416
(31) - قرار رقم 224829 بتاريخ 03/04/2002 المجلة القضائية 2003 العدد الأول ص 226

وقد سبق للمحكمة العليا في قرار سبق الإشارة إليه اعتبر إن الخطأ المهني والذي يكوّن جريمة في القانون العام لا يمكن اعتماده كسبب للتسريح ما لم يثبت وقوعه بحكم نهائي(32).
    فطالما أن المستخدم استند في قرار تسريح العامل إلى ارتكاب هذا الأخير لجريمة السرقة، وطالما لم يثبت ذلك بحكم جزائي نهائي فإن السبب الذي بني عليه قرار التسريح يكون غير موجود أصلا مما يجعل الطرد غير مبرر، و في هذه الحالة لا يمكن للمستخدم أن يعتمد أي من وسائل الإثبات الأخرى حتى يثبت وجود ما أثبت القاضي الجزائي عدم وجوده.
        و لكن قد تطرء بعض الحالات الاستثنائية التي يصدر فيها الحكم الجزائي ببراءة العامل من التهمة المنسوبة إليه لعدم ثبوتها في حقه، و لكن مع ذلك يقرر القاضي الاجتماعي بوجود سبب حقيقي و جديّ للطرد. 
        وقد تبني القضاء الفرنسي هذا الاتجاه استنادا إلى انه توجد بعض المؤسسات تتأثر بمجرد توجيه التهمة إلى احد أجرائها خاصة إذا كان إطارا فيها، وبين في أحد قرارات الطعن بالنقض أنه " إذا كان من شأن توجيه تهمة خرق أحكام القانون المتعلق بالشركات إلى أحد الإطارات بشركة أن يحدث اضطرابا على حسن سيرها فإن ذلك يبرر الطرد و لو صدر الحكم قاضيا بتبرئة ساحة المتهم"(33). وتفيد وقائع هذه القضية أن إطارا بإحدى الشركات مكلف بتمثيل شركته لدى الشركات الأخرى و المؤسسات العمومية، قد وقع اتهامه بخرق أحكام قانون الشركات و أحيل من أجل ذلك على القضاء الجزائي، و بعد صدور الحكم عليه ابتدائيا بالإدانة نقلت وسائل الإعلام وقائع القضية و أصبحت محل تعليق و مناقشات طويلة على صفحات الجرائد الفرنسية، و امتدت فترة من الزمن، هي الفترة الفاصلة بين صدور الحكم الابتدائي بالإدانة و الحكم الاستئنافي الذي قضي من جديد بإلغاء حكم محكمة الدرجة الأولى و صرح ببراءة المتهم لعدم ثبوت التهمة في حق هذا الأخير.
        و على الرغم من استقرار الاجتهاد على حجية الحكم الجزائي على الدعوى المدنية فيما أثبته و مما لا ريب فيه أن الأمر يثير التساؤل لأول وهلة، لأن القاضي المدني مقيد بالإثبات الجزائي، لكن في الواقع فإن محكمة النقض الفرنسية اعتمدت التحليل المنطقي و الموضوعي، و لم تؤسس الحكم بناء على ثبوت أو عدم ثبوت خرق العامل للتشريع المتعلق بالشركات، و إنما بناء على الصدى الذي لقيته القضية في وسائل الإعلام، وهو ما من شأنه أن يحدث اضطرابا على السير العادي للمؤسسة.
        فالقاضي الاجتماعي لم يؤسس حكمه على وقائع نفي القاضي الجزائي ثبوتها في حق المتهم، وإنما على وضعية واقعية ووقائع أخرى لم ينظر فيها القاضي الجزائي.
 (32) - المجلة القضائية 2002 العدد الأول –ص 173.
33) - cass.soc.12 mars 1991.bull.civ.1991n°12

ب ـ ثبوت ارتكاب العامل للأفعال المنسوبة إليه وانتقاء ركن من أركان الجريمة:
       لقد تبين لنا أنه إذا كان الحكم الجزائي قاضيا بالبراءة لعدم توفر الركن المادي للجريمة أي عدم ثبوت قيام العامل بالأفعال المنسوبة إليه، فإن القاضي الاجتماعي يتقيد بنفس الوقائع التي أثبت القاضي الجزائي عدم ثبوتها، إلا إذا كان التسريح يستند إلى سبب آخر غير الذي أحيل من أجله العامل أمام القضاء الجزائي.
        لكن إذا كان الحكم الجزائي القاضي ببراءة العامل مؤسسا على عدم توافر الركن المعنوي أو ركن آخر اشترطه المشرع، رغم أن الأفعال المادية قد ثبت ارتكابها من طرف العامل، فإن القاضي الاجتماعي يكون ملزما بما أثبته القاضي الجزائي، لكن يبقى له في هذه الحالة تقدير إذا ما كان تصرف العامل الذي يكون خطأ تأديبيا مستقلا عن التكييف الجزائي مبررا للتسريح أم لا ؟ و هنا يستعيد القاضي الاجتماعي حريته في تقدير و تكييف الوقائع عند ثبوت الأفعال، و انتفاء ركن من أركان الجريمة، و يعود الأمر في ذلك إلى الاتجاه الفقهي و القضائي الذي يقر بأن حجية الحكم الجزائي على الدعوى المدنية لا تكون مطلقة إلا إذا قضى بالإدانة (34).
      وإن كان الاجتهاد القضائي الجزائري لم يتعرض لهذه المسألة، فإن القضاء الفرنسي كثيرا ما أقر بوجود سبب حقيقي و جديّ للتسريح رغم أن العامل لم يدن جزائيا، وذلك بناء على أن الجرائم التي يحال من أجلها العمال على القضاء الجزائي هي في أغلب الأحيان جرائم قصدية، و طالما كان القاضي الجزائي مقيدا في إدانة المتهم بتوافر القصد الجنائي فإنه في غياب هذا الركن يكون ملزما بالحكم ببراءة المتهم، إلا أن القاضي الاجتماعي لا يتقيد بهذا الحكم إذ يمكن له تكييف و تقدير الوقائع فيما إذا كانت خطأ عقديا مستقلا عن الخطأ الجزائي، و هنا يبرز دور القاضي في تقدير الوقائع و تبرز التفرقة بين الخطأ الجزائي و الخطأ التأديبي الذي يستند في كل الحالات إلى سبب جديّ و إلا كان تعسفيا، فإذا أحيل العامل من أجل جريمة السرقة لأخذه بعض الوثائق من المؤسسة إلى منزله، و صرح القاضي الجزائي ببراءته لعدم توافر القصد الجنائي، فإن القاضي الاجتماعي يمكن أن يعيد تكييف الوقائع على أنها خطأ جسيم يبرر تسريح العامل من منصب عمله خاصة إذا كان هذا السلوك محظورا على العامل من قبل المستخدم.
      و لكن إذا كانت حجية الحكم الجزائي على القاضي الاجتماعي الذي ينظر في نزاعات العمل الفردية تتراوح بين الحجية المطلقة و الحجية النسبية حسبما قضى به الحكم بالإدانة أو البراءة، وحسبما إذا كان الحكم الجزائي القاضي بالبراءة مؤسسا على عدم ارتكاب العامل للأفعال المنسوبة إليه أو تخلف ركن من أركان الجريمة, فإن الأمر يختلف بالنسبة لحجيّة قرارات مجلس التأديب.

 (34) - Marie Armelle souriac-Rotshild « Rupture du Contrat : licenciement  individuel –Juris- Classeur,1998 p08.
      فما هي حجية قرارات مجلس التأديب على إثبات وجود سبب التسريح؟ وهو ما سنتناوله في المطلب الثاني.
        
المطلب الثاني: حجيّة قرار مجلس التأديب على إثبات وجود سبب التسريح

      لقد عمل المشرع على حماية العمال نظرا لوضعيتهم الخاصة في النظامين الاجتماعي و الاقتصادي، فهم العنصر الأكثر استهلاكا و الأكثر إنتاجا في المجتمع، و كل تطور اقتصادي يقوم على ما يقدمونه من إنتاج، ومن جهة أخرى فهم الفئة الأكثر خضوعا لسلطة المستخدم، ومن هنا كان العمل على ضمان حقوق العامل و حمايته من أولويات المشرع، و إذا كان من المسلم به أن حماية الحقوق هي جوهر وظيفة القاضي، فإن الرغبة في توفير أكبر قدر من الحماية جعل المشرع يكرس مراقبة إدارية سابقة للمراقبة القضائية لعمليات التسريح.
      و لكي لا يستأثر المستخدم بسلطة التأديب و اتخاذ قرار التسريح فإن كل مؤسسة ملزمة بإنشاء هيكل إداري ينظر في مسألة التأديب و ذلك من خلال مجلس التأديب الذي يتكون من ممثلين من العمال و ممثلين عن إدارة المؤسسة، و لهذا المجلس كافة الصلاحيات للنظر في مسألة تأديب العمال المحالين إليه بأخطاء مهنية، فله الحق في الإطلاع على كافة وثائق المؤسسة و الاستماع للعمال و ممثليهم و سماع المستخدم، و أن يتخذ بشأن ذلك   القرار الذي يراه مناسبا، وعلى الرغم من فعالية الإجراءات الإدارية التي تسبق التسريح إذا ثبت الخطأ التأديبي في حق العامل، فإن القضاء يبقى صاحب السلطة و الكلمة الأخيرة في تقدير مدى جديّة الخطأ الذي ارتكبه العامل وكان سببا في تسريحه.
      و من هنا يجدر التساؤل عن مدى أثر قرار التأديب على إثبات وجود سبب التسريح.إذا كان تمثيل العمال في مجلس التأديب شرط جوهري لصحة قراراته و ضمانة لحماية العامل، غير أن ذلك لا يعني عدم إمكانية مراجعة هذه القرارات إذ يبقى القاضي الاجتماعي هو الوحيد المؤهل للفصل في جديّة سبب التسريح و الجزم بوجوده من عدمه، غير أن القاضي عندما ينظر في النزاع المعروض عليه يجد من بين وسائل الإثبات المقدمة في ملف الدعوى قرار مجلس التأديب القاضي بتسريح العامل فيتفحصه و يمكن الاستئناس به (الفرع الأول)كما يمكن له استبعاده و عدم الأخذ به إذا ما وجد ما يبرر ذلك (الفرع الثاني).




الفرع الأول: استئناس القاضي الاجتماعي بقرار مجلس التأديب
      يقع في كل نزاع يعرض على مجلس التأديب تعيين مقرر من بين أعضائه، يتولى تحرير محضر كتابي في المرافعات وما تم اتخاذه من قرارات و يتم توقيع هذا المحضر من طرف كل أعضائه.
      و رغم أن القرار الذي يتخذه المجلس يجب أن يكون مسببا، فإنه يبقي للأطراف حق اللجوء إلى القضاء لعرض النزاع أمامه(35).
      و هذا يعني أن القرار الذي يتخذه مجلس التأديب ليست له حجية على القاضي الاجتماعي، بل لا يعدو هذا القرار أن يكون ورقة من ضمن أوراق ملف القضية يمكن للمحكمة أن تستأنس به عند النظر في النزاع.
      و طالما أن محضر مجلس التأديب يعتبر من أوراق الملف التي يتعين على القاضي تفحصها و تقديرها، فإنه يمكن له أن يجد فيه ما يدعم قناعته بوجود سبب جديّ للتسريح أو بعدم وجوده. ولا شك أن تقدير القاضي للقوة الثبوتية لمحضر مجلس التأديب يختلف من المحضر الذي صدر بإجماع الآراء عن ذلك الذي صدر بالتساوي، و من المحضر الذي اعترف فيه العامل بالوقائع المنسوبة إليه عن ذلك الذي تضمن إنكاره.
      فقد يعتبر القاضي محضر مجلس التأديب حجة على العامل فيكون له أثر على وجه الفصل في النزاع إذا تضمن ما يفيد انسجام حيثياته مع بقية وسائل الإثبات المقدمة إليه كأن يتضمن شهادة بعض أعضاء المجلس بحضورهم الواقعة التي من اجلها أحيل العامل على هذا المجلس.
       إلا أن ذلك لا يعني أن محضر مجلس التأديب له حجية قاطعة على ارتكاب هذا الأخير للوقائع المنسوبة إليه، وإنما على القاضي إذا أخذ بهذا المحضر أن يسبب حكمة تسبيبا كافيا لإثبات السبب الجديّ للتسريح، و هذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها حيث نعت على القرار المطعون فيه " أن قضاة الموضوع قد اعتمدوا على محضر لجنة المشاركة ليس له أي قوة ثبوتية، حيث لم يناقشوا و لم يتعرضوا للإتفاق الحقيقي الموقع بين المؤسسة و النقابة، وبذلك قد تجاهلوا مقتضيات المرسوم التشريعي 94/09 المتعلق بالحفاظ على الشغل و حماية العمال الذين يفقدون عملهم بصفة لا إرادية"(36).




(35) -  قرار رقم 228085 بتاريخ 09/01/2002 المجلة القضائية 2003 عدد 1 ص 230
(36) -  قرار رقم 222184 بتاريخ 16/05/2001 المجلة القضائية ع2/2002 ص287
      و انطلاقا من هذا التوجه القضائي فإن محاضر مجلس التأديب ليس لها أي حجيّة على قاضي الموضوع، وإنما هي مجرد وثائق تقدم في الملف على القاضي أن يتفحصها كما يتفحص بقية الوثائق، و له أن يأخذ بها على سبيل الاستئناس، أو أن يستبعد الأخذ بها إذا تبين له أنه ليس هناك ما يدعم ثبوت الخطأ في حق العامل.
الفرع الثاني: عدم أخذ القاضي الاجتماعي بمحاضر مجلس التأديب 
      لقد استقر الفقه و القضاء على عدم إلزامية رأي مجلس التأديب للمحكمة التي تبقى لها الحرية المطلقة في تجاوز قراره، وعدم الأخذ به، و يعود ذلك إلى مبررات واقعية و قانونية(37).
      فمن الناحية الواقعية فإن تقييد المستخدم بضرورة عرض العامل على مجلس التأديب لا يوفر الضمانات الكافية للعامل، وإن كان القانون يشترط التناصف في مجلس التأديب بين ممثلي العمال و ممثلي الإدارة، فإن تأثير المستخدم على القرار المتخذ ضد العامل لا يمكن أن يكون منعدما، بالإضافة إلى أن رأي المجلس التأديبي هو رأي استشاري يمكن للمستخدم عدم الأخذ به، لأن التسريح هو من الحقوق الإرادية التي تنتج أثرها بمجرد التصريح بها دون حاجة لتدخل إرادة الطرف الآخر.
      أما من الناحية القانونية فإنه رغم أن محاضر مجلس التأديب تتضمن ما دار بالجلسة من مرافعات و مناقشات، و يتضمن القرارات المتخذة من طرف أعضاء المجلس فإنه مع ذلك لا يمكن اعتباره محرر رسمي يتمتع بالحجيّة الرسمية، لأنه لا يستجيب لشروط و مقتضيات المادة 324 من القانون المدني، ذلك أن مقرر مجلس التأديب ليست له صفة الضابط العمومي، و لذلك فإن المحاضر التي يحررها ليست لها أيّ حجيّة قضائية، فهو لا يعدو أن يكون مجرد تقرير لمداولات هيئة مكلفة بإقتراح العقوبات في المجال التأديبي للقطاع الخاص.
      و قد أخذت بهذا الاتجاه المحكمة العليا في قرارها، حيث اعتبرت أن تأسيس حكم قضاة الموضوع على السوابق التأديبية للعامل التي اتخذها ضده مجلس التأديب، وعدم مناقشة الخطأ المنسوب إليه يعد قصورا في التسبيب(38).





(37) -  عبد الوهاب البندار- طرق الطعن في العقوبات  التأديبية – دار الفكر- ص 237.
(38) –  قرار رقم 210446 بتاريخ 17/01/2001 المجلة القضائية 2002 ع 2 ص:312
      وهذا يعني أنه مهما يكن من أمر محاضر مجلس التأديب فإن قاضي الموضوع يبقي غير ملزم بما تضمنته هذه المحاضر، حتى ولو تضمن اعتراف العامل بما نسب إليه طالما لم يكن ممضي منه، ولو صدر بإجماع أعضاء المجلس، و يظل محضر مجلس التأديب مثله مثل أي وثيقة أخرى في الملف ووسيلة من وسائل الإثبات التي تخضع لتقدير القاضي الذي يبقى مكلفا بالتحقيق فيما نسب إلى العامل من خطأ وجودا و عدما.
      و لتأسيس قناعته فله أن يستعمل ما خوله القانون من وسائل تحقيق يراها لازمة لتدعيم قناعته بوجود الخطأ التأديبي من عدمه، دون أن يعتمد فقط على ما جاء في محاضر مجلس التأديب، و الا عرض حكمه للنقض. 






















الفصـل الثــاني
سلطة القاضي الاجتماعي في تقدير الخطأ الجسيم 

      إذا كان من الطبيعي أنه بعد أن يتأكد قاضي الموضوع من إثبات صحة الوقائع المدعى بها و نسبتها إلى العامل أن يحدد لنفسه معايير معينة لتقدير الخطأ الجسيم، لأن الرقابة القضائية على قرار التسريح التعسفي تمر حتما بمرحلتين تفترض الثانية حصول الأولى.
      فالقاضي لا يمكنه مراقبة و تقدير أسباب التسريح قبل أن يثبت لديه صحتها و نسبتها إلى العامل، و لذلك فإن هذه الرقابة تنصب على واقعة ثبت حصولها، و يبقى عليه في الأخير تقدير مدى جسامة تلك الوقائع، ومع ذلك فإنه لا يجوز إطلاق سلطة القاضي في هذا التقدير، و إنما يتعين عليه أن يعتمد معايير قانونية و موضوعية حتى يتسنى له تقدير قرار التسريح ما إذا كان تعسفيا أم لا ؟
      و يرجع للقاضي تقدير الظروف الذاتية و الموضوعية التي ارتكب فيها الخطأ لتحديد الوصف القانوني لهذا الخطأ، وإن كان المشرع قد نص في المادة 73-1 من قانون 90/11 على أنه << يجب على المستخدم أن يراعي على الخصوص عند تحديد وصف الخطأ الجسيم الظروف التي ارتكب فيها الخطأ>>.  فإذا كان وصف الخطأ الجسيم يرتبط بالظروف الملابسة له التي يقع على المستخدم واجب مراعاتها، فإنه يقع على القاضي واجب تقديرها دون أن يتقيد بالوصف الذي يعطيه المستخدم.
      فتقدير مدى جسامة الخطأ و جدية سبب التسريح يرجع للقاضي لا إلى المستخدم انطلاقا مما يفرضه عقد العمل على الجانبين من حقوق و التزامات، و من مدى جسامة الخطأ و تأثيره على السير العادي للمؤسسة مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي حصل فيها الخطأ.
      ولذلك سنتناول في هذا الفصل المعايير التي يعتمدها القاضي في تقدير جسامة الخطأ.(المبحث الأول) وخضوع قاضي الموضوع لرقابة المحكمة العليا (المبحث الثاني).








المبـحـث الأول
مـعايير تقديـر الخـطأ الجـسيم

      انطلاقا من سلطة المستخدم في التسيير و الإشراف و الإدارة، و علاقة التبعية التي تربط العامل به نتيجة للعلاقة التعاقدية التي تمنح للمستخدم سلطة التوجيه و المراقبة على قيام العامل بالتزاماته التعاقدية و الاتفاقية و القانونية و التنظيمية، وذلك باتخاذ التدابير اللازمة للسير الحسن للعمل، و منها تلك التي تتعلق بالانضباط، وتكون هذه التدابير بمبادرة منفردة من صاحب العمل (39).  
      إلا أنه وإن كان المستخدم ينطلق من سلطة التوجيه و الإدارة التي يتمتع بها، بما يبرر له اتخاذ قرار التسريح فإن هذه المسألة مقيدة بالنظام القانوني لإنهاء عقد العمل غير محدد المدة الذي يستند إلى منطق يهدف إلى حماية مصلحة العامل و مصلحة المؤسسة في نفس الوقت، لذلك يشترط في قرار التسريح أن يكون مبنيا على خطأ جسيم قائم على سبب جدي بالنظر إلى الظروف الموضوعية و الذاتية التي حصل فيها ذلك الخطأ.
      و من هنا تتحدد سلطة القاضي في تقدير جسامة الخطأ، و جدية السبب من خلال تقدير الظروف الملابسة لارتكاب العامل لهذا الخطأ، ولا يمكن تقدير تلك الظروف التي تحدد الوصف القانوني للخطأ، إلا بالاعتماد على معايير موضوعية و أخرى ذاتية تعطي لنا التفسير الحقيقي لارتكاب الخطأ، و تمنحنا الوصف القانوني الأكثر ملائمة في تحديد مدى تعسف المستخدم في قرار التسريح.
      و لذلك سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين ، نتناول في ( المطلب الأول ) تقدير جسامة الخطأ بناء على المعيار الموضوعي وفي ( المطلب الثاني ) تقدير جسامة الخطأ بناء على المعيار الذاتي للعامل.








(39)- عبد السلام ذيب- قانون العمل الجزائري و التحولات الاقتصادية- ص 168
المطلب الأول: تقدير جسامة الخطأ بناء على المعيار الموضوعي

      لقد نص المشرع في المادة 73-1 من قانون 90/11 على أنه << يجب أن يراعي المستخدم على الخصوص، عند تحديد وصف الخطأ الجسيم الذي يرتكبه العامل الظروف التي ارتكب فيها الخطأ و مدى اتساعه و درجة خطورته و الضرر الذي ألحقه...>>.
      فإن كان المشرع قد ألقى على المستخدم التزاما مقتضاه مراعاة الظروف الموضوعية لارتكاب الخطأ، فإن ذلك لا يعني أن القاضي ملزم بالوصف الذي يعطيه المستخدم لذلك الخطأ، و إنما يرجع له تقدير تلك الظروف الملابسة للخطأ. لتحديد مدى جسامته و جدية سبب التسريح من خلال بسط سلطة الرقابة القضائية دون تقيد بتقدير المستخدم في تحديد الأخطاء الجسيمة، حيث قد يتبين له أن هذه الأخطاء لا تخل بحسن سير المؤسسة، وبالتالي يعتبر تلك الأخطاء متعارضة مع القواعد الآمرة في قانون العمل، والتي يستمد منها العامل حقه في اللجوء إلى القضاء(40).  
      و يستمد المعيار الموضوعي في تقدير الخطأ الجسيم أهيمته من طابعه الموضوعي إذ يمكن من خلاله للقاضي تقدير سبب التسريح بناءا على معطيات موضوعية لا تتغير من شخص إلى آخر، و إنما تستخلص من أثر الخطأ على نشاط المؤسسة، وهو ما نعالجه في ( الفرع الأول )، و كذلك تستنتج من الظروف الموضوعية التي حصل فيه الخطأ، وهو ما سنعالجه في (الفرع الثاني).

 الفرع الأول: تأثير خطأ العامل على نشاط المؤسسة
        تبرم عقود العمل بين المستخدم و العامل طبقا للمقتضيات الأهداف التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها، و أهم الأهداف التي يقوم عليها نشاط المؤسسة هو تحقيق الربح، لذلك يكون من أهم التزامات العامل تأدية عمله بأقصى ما لديه من قدرات تنفيذا للواجبات المرتبطة بمنصب عمله، و أن يعمل بعناية و مواظبة في إطار تنظيم العمل الذي يضعه المستخدم(41). 
      وهو التزام يقع على عاتق العامل طبقا لنص المادة 07 من القانون 90/11، و كل إخلال بهذا الالتزام من شأنه أن يؤثر على نشاط المؤسسة.



(40)- أحمد شوقي محمد عبد الرحمان- المرجع السابق- ص 76.
(41) - عبد السلام ذيب- المرجع السابق- ص 165.
      فإذا تمسك المستخدم في قرار تسريحه للعامل بإخلال هذا الأخير بالتزاماته بترقية نشاط المؤسسة، فان خطأ العامل في هذا الخصوص قد يكون له تأثير مباشر أو غير مباشر على نشاط المؤسسة، لذلك فانه يتعين على القاضي في تقديره لسبب التسريح أن ينظر في مدى تأثير الخطأ على حسن سير المؤسسة و استمرارية نشاطها.
      فتغيب العامل عن عمله عدة مرات بصورة غير مبررة و دون ترخيص سابق من المستخدم يمثل خطأ جسيما يبرر قرار التسريح، لان الغياب المتكرر يؤثر سلبا على نشاط المؤسسة.
      وغالبا ما يثار هذا السبب في مواجهة العمال المطالبين بالنتائج مثل أعوان و إطارات أقسام الإنتاج أو وحدات البيع، و في هذا الإطار يقوم القاضي بالبحث عما إذا كان تدهور النتائج يرجع لمسؤولية العامل الشخصية، فالعامل الذي يحقق رقم معادلات متدنية نظرا لعدم اهتمامه بالعمل المكلف به يكون بذلك قد ارتكب خطأ جسيما من شانه أن يبرر قرار تسريحه(41).
      أما إذا كان ضعف النتائج يرجع إلى أسباب تخرج عن إرادة العامل فانه لا يمكن الاستناد اليها في تبرير تسريحه، و للقاضي أن يعتمد في تقدير ذلك على معيار الرجل العادي لان العامل مطالب ببذل عناية، و ليس تحقيق غاية.
      و في كثير من الأحيان يتعاقد المستخدم مع العامل آخذا بعين الاعتبار الكفاءة المهنية التي يتمتع بها العامل، فإذا تبين للمستخدم بعد إبرام عقد العمل أن العامل ليست له الكفاءة المهنية التي جعلته يتعاقد معه خاصة إذا كان نقص الكفاءة احدث اضطرابا في نشاط المؤسسة فان ذلك يبرر تسريحه، فالعامل الذي يظهر عجز أو نقص في القطاع الذي كلف به، يكون غير مؤهل للعمل المسند  اليه و يكون بالتالي مرتكبا لخطإ جسيم يبرر تسريحه.
      لكن تقدير القاضي لجسامة الخطأ بالنظر لتأثيره على نشاط المؤسسة لا يكون في حد ذاته كافيا إلا إذا اخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي حصل فيها الخطأ.






 (41)- MARIE ARMELLE SOURIAC.ROTCHILD –la rupture du contrat du travail .licenciement individuel .faute grave .faute lourde. J.C 1998 P/08

الفرع الثاني: تقدير الخطأ بالنظر إلى الظروف الموضوعية
      من البديهي أن الخطأ الجسيم الذي يرتكبه العامل و يؤثر على نشاط المؤسسة من شأنه أن يكون سببا جديا يبرر قرار التسريح، لكن إذا أخذانا بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي حصل فيها الخطأ
فإنه يمكن النظر إليه على أنه لا يبرر ذلك، فرفض العامل مثلا تنفيذ تعليمات المستخدم دون مبرر يكون سببا جديا يبرر التسريح على أساس الخطأ الجسيم طبقا للمادة 73 من قانون رقم 90/11، و هنا يقدر القاضي جدية سبب التسريح.
      أما إذا استند رفض تنفيذ التعليمات إلى أسباب موضوعية فإن التسريح يكون غير مبرر، فالعامل الذي يرفض تعليمات المستخدم إذا تعلقت هذه التعليمات بأوامر تهدد السلامة الجسدية للعامل، كأن يرفض سائق في مؤسسة قيادة شاحنة غير مهيئة للعمل بها إذا كان في سياقتها احتمال كبير لتعريض حياته للخطر كأن تكون معطلة الفرامل أو الأضواء، لذلك فإنه يتعين على القاضي أن ينظر إلى عدم امتثال العامل لتعليمات المستخدم بالنظر للظروف الموضوعية الملابسة لهذا السلوك، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار العامل في هذه الحالة قد ارتكب خطأ جسيما يبرر تسريحه على أساس عدم تنفيذ التعليمات الرئاسية.
      فالظروف الموضوعية التي يحصل فيها الخطأ لها تأثير على الوصف القانوني للخطأ من حيث جسامته أو بساطته.
      فالصفة الرئاسية للعامل مثلا تعتبر من الظروف الموضوعية التي تؤثر على جسامة الخطأ بالنظر إلى هذه الصفة التي ترتب على عاتقه التزامات أكثر تعقيدا و أثقل من ناحية المسؤولية، لأنه من خلال هذه الصفة يكون في وضع متميز، بحيث يتعين تقدير الخطأ الذي يرتكبه بصورة أشد، و يعتبر بالتالي خطأ جسيما، حتى لو كان مجرد خطأ بسيط بالنسبة للعامل المرؤوس(42). 
      و يرجع ذلك إلى اعتبارات موضوعية، لأن المركز الرئيسي للعامل يعطيه سلطة من الناحية الإدارية و الفنية بالمؤسسة، بحيث أن خطؤه يمكن أن يعرض المؤسسة إلى أخطار جسيمة.
      و قد استقرا القضاء الفرنسي على اعتبار خطأ العامل جسيما بناء على صفته الرئاسية، وقد قضى تطبيقا لذلك بجسامة خطأ رئيس العمل إذا قام بأعمال تضر بالمؤسسة، بأن اشترى أشياء معينة من مؤسسة أخرى يشترك بنصيب كبير في رأسمالها بحيث تجتمع لديه صفتا المورد و المشتري في نفس الوقت، مما يعرض المؤسسة التي يشتغل فيها لأضرار  جسيمة، فمثل هذا الخطأ يمثل استغلاله لسلطته، و إهدارا للثقة اللازمة لاستمرار  العـلاقة بين المستخدم و رئيس العمـل، و بنـاء على هذه الاعتبارات فـإن


(42)- أحمد شوقي محمد عبد الرحمن – المرجع السابق- ص 78
استيلاء رئيس العمل على أموال المؤسسة يجعل من خطئه حتى لو ثبت لديه نية رد هذه الأموال(43).  كما أنه إذا أخذنا بالظروف الموضوعية لتقدير جسامة الخطأ فإنه لا يشترط لاعتبار الخطأ جسيما أن يلحق بسببه ضررا بصاحب العمل أو أن يتحقق الضرر بالفعل، فبمجرد علم أو استطاعة العامل العلم بفداحة الضرر الذي قد يترتب على خطئه يمكن اعتباره خطأ جسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي ارتكب خلالها الخطأ، فالعامل الذي يقوم بالتدخين في المؤسسة بالقرب من مواد سريعة الالتهاب يعتبر قد ارتكب خطأ جسيما حتى و لو لم يتحقق الضرر فعلا، لان الخطأ ارتبط بظرف موضوعي يغير من وصفه القانوني من خطأ بسيط إلى خطأ جسيم يبرر قرار تسريح العامل من عمله لأنه كان يعلم أو باستطاعته أن يعلم بفداحة الضرر الذي يمكن أن يتسبب فيه سلوكه الذي يعد خطأ بسيطا لو كان في ظرف يختلف على ذلك الذي كان فيه.
      إلا أن القاضي في تقدير جدية سبب التسريح بالنظر إلى جسامة الخطأ، لا يمكنه الاستناد فقط إلى المعيار الموضوعي، بل لابد عليه الأخذ بعين الاعتبار المعيار الذاتي بالنسبة للعامل، حتى يتمكن من تقدير أسباب التسريح انطلاقا من كافة الظروف المحيطة بخطأ العامل. و ذلك ما سنتناوله في ( في المطلب الثاني )  تقدير الخطأ الجسيم بناء على المعيار الذاتي.

المطلب الثاني: تقدير الخطأ بناء على المعيار الذاتي
      لقد نص المشرع في المادة 73-3 على أنه << يجب أن يراعي المستخدم على الخصوص عند تحديد وصف الخطأ الجسيم الذي يرتكبه العامل الظروف التي ارتكب فيها الخطأ... وكذلك السيرة التي كان يسلكها العامل حتى تاريخ ارتكابه الخطأ نحو عمله، و نحو ممتلكات هيئته المستخدمة >>.فإذا كان العامل ملزما بموجب مقتضيات عقد العمل أن يبذل العناية اللازمة في أدائه لعمله المكلف به و أن يلتزم سلوكا يتماشى و طبيعة العلاقة التعاقدية التي تربطه بالمستخدم، فهو من هذا المنطلق ملزم بعدم ارتكاب أخطاء في ممارسة عمله تؤثر على نشاط المؤسسة، فإنه يقع أيضا على المستخدم في وصف الخطأ الجسيم الذي ينسبه إلى العامل أن يراعي السيرة التي كان يسلكها العامل نحو عمله وهنا يثور التساؤل بالنسبة للقاضي الذي هو غير ملزم بالوصف الذي يعطيه المستخدم لخطأ العامل عن المعيار الواجب إتباعه في تقدير الخطأ و مدى جسامته؟
      فالقاعدة في تقدير الخطأ في المسؤولية التقصيرية قد تختلف عن معيار تقدير خطأ المدين في المجال العقدي، حيث أن الخطأ يقاس في المسؤولية التقصيرية، بمعيار مجرد هو معيار الرجل العادي، و الأصل تطبيق هذا المعيار أيضا في مجال العقد(43).
 (43)- أحمد شوقي محمد عبد الرحمن- المرجع السابق- ص 84.
      فلا يمكن تقدير مدى جسامة الخطأ من هذه الزاوية إلاّ من خلال اعتماد المعيار الذاتي الذي يأخذ بعين الاعتبار سيرة و سلوك العامل، و درجة وعيه بالخطأ الذي ارتكبه، ومن هنا فإنه على القاضي عند تقديره لمدى جسامة الخطأ أن ينظر في طبيعة سلوك العامل و أن يناقش مدى وعيه بدرجة الخطأ الذي ارتكبه.
الفرع الأول : نية العامل و درجة وعيه بالخطأ
      إذا كان الخطأ الجسيم يجيز لصاحب العمل تسريح العامل و إنهاء علاقة العمل فإن هذا يصدق من باب أولى إذا كان خطأ العامل عمديا، فارتكاب العامل لخطأ بحسن نية معتقدا مشروعية عمله لا يجعل منه خطأ جسيما كما لو كان ذلك راجع إلى غلطه في تفسير اللائحة، أو تعليمات مشوبة بالغموض صادرة من المدير الفني، أو قيامه بعمل يعتقد بحسن نية أنه يدخل في صميم عمله.
     ولذلك فإن الأخذ بالمعيار الذاتي أو الشخصي يتطلب النظر في مدى وعي العامل بالخطأ الذي ارتكبه، فإذا كان واعيا بما فعله فإن ذلك يوفر لديه عنصر القصد الذي يغير من وصف الخطأ فيحوله من خطأ بسيط إلى خطأ جسيم، و خلافا لذلك فإنه إذا لم تنصرف إرادة العامل إلى ارتكاب الفعل الضار بالمؤسسة فإن وصف الخطأ بالجسيم ينتفي، و يصبح معه التسريح تعسفيا(44). 
      و ما يؤكد أن المشرع قد تبني فكرة وجوب مراعاة نية العامل و درجة وعيه بالخطأ الذي ارتكبه هو نص المادة 73 من قانون 90/11 التي ذكرت بعض الأخطاء التي تبرر قرار التسريح، و كانت كل هذه الأخطاء قائمة على ضرورة اتجاه نية العامل إلى الإضرار بالمؤسسة، حيث نص المشرع في هذه المادة على كل فعل اعتبره خطأ جسيما و ربطه بصفة لا تدع مجالا للشك في اتجاه نية العامل إلى الإضرار بالمؤسسة، فقد استعمل عبارات تدل دلالة قاطعة على نية العامل مثل رفض العامل< بدون عذر مقبول>
تنفيذ التعليمات، < عمدا> التوقف عن العمل الجماعي< التشاوري>، و كلها عبارات تفيد وجوب توفر عنصر القصد بالإضرار في خطأ العامل.
      و لذلك فإنه يتعين على قاضي الموضوع في تقدير مدى جسامة الخطأ أن يميز بين الخطأ القائم على نية الإضرار بالمؤسسة، و الخطأ الناتج عن حسن نية دون قصد الإضرار.  فقد يرتكب العامل أحيانا خطأ يبرر تسريحه إذا نظرنا إليه بصفة مجردة من كل ظرف، إلا أنه عندما نضعه في إطار الظروف الواقعية التي حصل فيها فإنه يصبح مبررا غير كافي للتسريح، فالعاملة التي تغيبت عن العمل لعدة أيام نتيجة لتعرض زوجها لحادث مرور خطير لا تعتبر قد ارتكبت خطأ جسيما يبرر تسريحها من عملها(45).

(44) – CASS.SOC 04 AVR1973 n°72-40.183 –cité dans –LAMY SOCIAL –édit°Lamy S.A 1997 sous la direction de ELISABETH PAOLINI-VERBRUGGHE. P/1360
(45)- CASS.SOC 02OCT 1991CIT2 DANS LAMY S op cite P/1360.

      و قد نقضت المحكمة العليا في أحد قراراتها قرارا صادرا عن مجلس قضاء سكيكدة الذي قضى بالمصادقة على حكم محكمة عزابة، نظرا لأن قضاة الموضوع لم يأخذوا بعين الاعتبار في تقدير جسامة الخطأ الذي ارتكبه العامل، و لم تراع المؤسسة المطعون ضدها عند اتخاذ قرار التسريح الناجم عن الخطأ الضرر الذي لحق المؤسسة، ولا السلوك الذي كان يسلكه الطاعن تجاه عمله وأملاك المؤسسة إلى غاية ارتكاب الخطأ، خاصة أنه كان وقت الوقائع رئيس مركز الإنتاج مما يدل على الثقة التي وضعتها فيه المؤسسة من جهة، ومن جهة أخرى يحال لأول مرة على لجنة التأديب(46).
      فالاجتهاد القضائي للمحكمة العليا هو التطبيق السليم لمقتضيات المادة 73-1 التي تعتمد في تقدير الخطأ الجسيم أن لا يكون في إطار مجرد و إنما يجب أن تراعى فيه الظروف الموضوعية التي حصل فيها الخطأ، و الظروف الذاتية للعامل الذي ارتكب الخطأ.
      ولا يمكن للقاضي تقدير الخطأ الجسيم بالنظر إلى نية العامل و درجة وعيه بالخطأ فقط، و إنما يجب أن ينظر من جهة أخرى إلى طبيعة سلوك العامل. 
الفرع الثاني: طبيعة سلوك العامل
      كما سبق وأن بينا فإنه يفترض في العامل عند إبرامه لعقد العمل أن يسلك سلوكا يتماشى و طبيعة العلاقة التعاقدية التي تربطه بالمستخدم، فعقد العمل يفرض عليه أن يقدم الخدمات التي كانت محلا للعقد تحت سلطة و إدارة المستخدم، و يلتزم بعدم ارتكاب أخطاء في ممارسة عمله، فإذا أخل بهذا الالتزام يكون قد ارتكب خطأ يبرر تسريحه، فرفض العامل بدون عذر مقبول تنفيذ التعليمات المرتبطة بالتزاماته المهنية، و إفصاحه بمعلومات مهنية تتعلق بالتقنيات و التكنولوجيا و طرق الصنع، و كل الوثائق الداخلية المتعلقة بالهيئة المستخدمة، و المشاركة العمدية في التوقف عن العمل، و التسبب عمدا في أضرار مادية تصيب المؤسسة، و تناول الكحول و المخدرات داخل أماكن العمل، كلها سلوكات من شأنها أن تبرر تسريح العامل، وإن كانت تبرر ذلك فإنه لا يمكن حصرها لأنها تتعلق بوقائع و أفعال مادية غير محددة، فإن الشيء الذي يتبين بوضوح ودون أي لبس في المادة 73 أن المشرع استعمل عبارات تدل دلالة قاطعة على رفض العامل أداء عمله طبقا لما يفرضه عليه عقد العمل من إخلاص و تفاني في إنجاز المهام التي أسندت إليه في إطار وظيفته



 (46)-  قرار رقم/49103 بتاريخ 06/03/1989 –الموسوعة القضائية 2000- C.D
      و قد ذهب الاجتهاد القضائي الفرنسي إلى اعتبار أن التصرفات الشخصية للعامل في إطار عمله المهني يمكن أن تكون سببا حقيقيا و جديا للتسريح، إذا وضعت تلك التصرفات في إطار مخالفته للالتزامات المترتبة عن عقد العمل(47).
      و لذلك فإنه يتعين على قاضي الموضوع في تقدير جسامة خطأ العامل أن ينظر إلى سلوك هذا الأخير في إطار نية العامل في تنفيذ الالتزام الذي يلقي على عاتقه واجب حماية المؤسسة، و حماية مصالحها و يترتب على ذلك أن خطأ العامل العمدي الذي من شانه الإضرار بهذه المصالح يعتبر جسيما لانعدام أمانة العامل في تنفيذ التزاماته التعاقدية.     
     وقد يتخذ هذا السلوك من جانب العامل عدة مظاهر يمكن للقاضي أن يستخلصها من ملابسات القضية و تكون له سندا في إعطاء الوصف الصحيح للخطأ، و تقدير ما إذا كان مبررا للتسريح، لأن القاضي غير ملزم بالوصف الذي يعطيه المستخدم للخطأ حتى ولو كان من الأخطاء المتفق على جسامتها، في التنظيمات و اللوائح الداخلية للمؤسسة، و قد ذهبت محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها إلى أن << الخطأ الجسيم يبرر إنهاء علاقة العمل مباشرة، غير أن قاضي الموضوع غير مقيد بوصف الخطأ الذي يصفه المستخدم >>(48). 
      وقد حاول القضاء خاصة الفرنسي استخلاص بعض المظاهر في سلوكات العامل التي يمكن أن تكشف عن نيته في ارتكابه للخطأ، و استنادا إلى ذلك يمكن تقدير جسامة الخطأ، و يمكن حصر هذه المظاهر في سلوك العامل بالصور التالية، والتي هي في الواقع لا تتناقض مع قانون العمل خاصة المادة 73 التي ذكرت بعض الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها العامل، و يمكن للقاضي الجزائري اعتمادها كإطار قانوني في تكييف جسامة الخطأ المنسوب إلى العامل، وهي : 
- التشكيك في مركز المؤسسة
- الانحراف في السلطة
- الاستيلاء على أموال المؤسسة و الاحتفاظ بها دون وجه حق
- تحريض العمال على ترك المؤسسة و توقيف العمل، أو التغيب المستمر
- أداء العمل لحساب الغير في الوقت المخصص للمؤسسة




 (47)-  CASS.SOC.11 JUILL 1986-LAMY S.A .OP cité p 1232
 (48)- CASS.SOC.03JUILL1986.n°48.40.764- LAMY AS OP p 1359.
1- التشكيك في مركز السلطة:
      وهو كل سلوك يرتكبه العامل من شأنه إضعاف الثقة في مركز المؤسسة سواء حصل هذا التشكيك للعمال أو الغير، ولأن هذا التشكيك قد يؤدي إلى إلحاق ضرر بالمؤسسة فإن ذلك يبرر للمستخدم إنهاء علاقة العمل، لأن هذا السلوك يتعارض مع التزامات العامل تجاه الهيئة المستخدمة و ينطوي على نية الإضرار التي تتعارض مع مقتضيات الإخلاص و الأمانة في أداء المهام المكلف بها.
2- الانحراف في السلطة: 
      إن استغلال العامل للسلطة المخولة له و قيامه بأعمال تتجاوز واجباته المهنية يعتبر خطأ عمديا جسيما يبرر لصاحب العمل إنهاء العقد، و مثال ذلك قيام المدير الفني أو التجاري بعمل يتجاوز اختصاصه لجلب ربح خاص له على حساب المؤسسة(49). 
3- منافسة المؤسسة: 
      تعتبر المنافسة من قبيل الأخطاء الجسيمة، و المنافسة غير المشروعة التي يمكن أن يقوم بها العامل ضد المؤسسة المستخدمة يمكن أن تكون في شكل سلوكات متعددة، مثل إنشاء مؤسسة منافسة، أو تصنيع أدوات من نفس النوع، أو تعاونه مع عملاء المستخدم، أو تحريضهم على التعامل مع مؤسسة أخرى .
4- الاستيلاء على أموال المؤسسة بدون وجه حق: 
      يعد هذا السلوك الذي يصدر عن العامل بسوء نية من الأخطاء الجسيمة على الإطلاق، لما في ذلك من أضرار بممتلكات المؤسسة، و يتخذ الاستيلاء على أموال المؤسسة عدة صور مثل حصول العامل على أجر مقابل عمل لم يؤديه، اختلاس أموال المؤسسة، استعمالها لتحقيق ربح له على حساب المستخدم.
5- تحريض العمال على ترك المؤسسة أو التغيب عن العمل: 
      إن سلوك العامل الذي يهدف من خلاله إلى التوقف الجماعي عن العمل يمكن أن يترجم في عدة مظاهر و صور تتساوى كلها في الجسامة سواء كان يهدف من خلالها إلى تشغيل العامل في مؤسسة أخرى، أو لحسابه، أو بقصد مجرد الإضرار بالمؤسسة المستخدمة.
6- أداء العمل لحساب الغير في الوقت المخصص للعمل بالمؤسسة: 
      وهو سلوك يتنافي مع واجبات العامل الذي يتعين عليه تكريس وقت العمل كله لحساب المؤسسة المستخدمة، و لذلك فإنه يعتبر من قبيل الخطأ الجسيم قيام العامل بعمل لحساب الغير أو لحسابه نفسه في الأوقات المخصصة للعمل في المؤسسة التي يربطه بها عقد العمل. و لكن إذا كان يرجع للقاضي تقدير مدى جسامة الخطأ، من خلال المعيار الموضوعي أو الشخصي و تكييف أسبـاب قرار التسريح و مـدى 

 (49)-CASS.SOC.29AVR1975.BUL.CIV.cité par   أحمد شوقي عبد الرحمان –المرجع السابق – ص98
وجود الصبغة التعسفية لإنهاء عقد العمل من طرف المستخدم بما له من سلطة تقديرية واسعة, إلا أن هذه السلطة غير مطلقة، حيث قد توجد مقتضيات و معطيات قانونية أو موضوعية، وإن كانت لا تسلب القاضي سلطته في تقدير أسباب قرار تسريح العامل، إلا أنها تحد من هذه السلطة استجابة لتلك المقتضيات هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن قاضي الموضوع في تقدير جسامة الخطأ، و تكييف مدى تعسف المستخدم في قرار التسريح، يخضع لرقابة قضائية تمارسها المحكمة العليا التي تبسط رقابتها على الجوانب القانونية في تقدير القاضي لقرار التسريح التعسفي، و تقدير الوقائع المادية طبقا لما ينص عليه القانون.
      ولذلك سنتناول في المبحث الثاني : المقتضيات القانونية و الموضوعية التي تحد من سلطة قاضي الموضوع في تكييف التسريح التعسفي في ( المطلب الأول)، و خضوع قاضي الموضوع إلى رقابة المحكمة العليا في ( المطلب الثاني).



















المبـحـث الثاني
 حدود سلطة قاضي الموضوع التقديرية

      إذا كان لقاضي الموضوع سلطة تقديرية واسعة في تكييف مدى تعسف المستخدم في اتخاذ قرار التسريح، فإنه أحيانا يكون ملزما بالتصريح بوجود مبرر للتسريح نظرا لمقتضيات قانونية تتعلق بتنفيذ العامل لالتزاماته الناشئة عن عقد العمل.
      و قد يجد القاضي نفسه في أحيان أخرى ملزم بمقتضيات موضوعية تبرر قرار المستخدم بتسريح العامل، نظرا لاستحالة تنفيذ العامل لالتزاماته التعاقدية، مع وجود هذه الظروف الموضوعية، وهو ما يلزم القاضي بالتصريح بوجود مبرر للتسريح، وهو ما سنعالجه في ( المطلب الأول).
      كما أن سلطة قاضي الموضوع التقديرية تخضع لرقابة المحكمة العليا التي تبسط رقابتها على تكييف قاضي الموضوع و استنتاجاته القانونية لمعرفة إذا كانت هذه الاستنتاجات تتوافق ووقائع القضية المعروضة عليه و ذلك ما سنعالجه في ( المطلب الثاني).   

المطلب الأول: المقتضيات القانونية و الموضوعية التي تحد من سلطة القاضي التقديرية
      قد يكون قرار التسريح مبني على أسباب تبرره تتعلق بقدرات العامل على تنفيذ التزاماته تجاه المستخدم، سواء تعلق الأمر بأسباب مهنية تحد من قدرة العامل على تنفيذ مقتضيات عقد العمل، أو تعلق الأمر بظروف موضوعية تؤثر على التزاماته مثل الحالة الصحية، فيجد القاضي نفسه أمام هذه الحدود القانونية أو الموضوعية ملزما بالتصريح بعدم وجود الصبغة التعسفية لقرار التسريح، بل يقتصر دوره على التأكد من توفر هذه المقتضيات التي تجعل تنفيذ عقد العمل مستحيلا، و لذلك سنتناول هذا المطلب في فرعين : 
- الفرع الأول : المقتضيات القانونية.
- الفرع الثاني : المقتضيات الموضوعية.
 
الفـرع الأول: المقتضيات القـانـونـيـة
      رغم أن عقد العمل يتمتع بخصوصيات مميزة لارتباطه بالجانب الاجتماعي و الاقتصادي، فإن ذلك لا يؤثر على طبيعته القانونية، وخضوعه للأحكام العامة، من حيث الإبرام و المضمون و الآثار المترتبة عليه، في إطار النظرية العامة للعقد التي نضمها القانون المدني.  
      وإذا كان الفقه قد قسم الالتزامات الناشئة عن العقد إلى التزام ببذل عناية، والتزام بتحقيق غاية، فإن عقد العمل بطبيعته مبدئيا من العقود التي ترتب على عاتق العامل التزاما ببذل عناية، لتحقيق أهداف المؤسسة المستخدم بها، فإذا تعذر تحقيق تلك النتيجة فإن العامل لا يتحمل مسؤولية ذلك، إلا إذا أثبت المستخدم عدم قيام العامل بذل العناية اللازمة في إطار عناية الرجل العادي.  
      إلا أن تطور النشاط الاقتصادي و التقدم التكنولوجي في ميدان المؤسسات خاصة الفنية و المتخصصة في مجالات تعتمد على التقنيات العلمية العالية، قد تتعاقد مع فئة معينة من العمال المختصين قصد تحقيق نتيجة معينة، فيكون العامل هنا قد التزم بموجب عقد العمل بتحقيق تلك النتيجة التي كانت سببا لإبرام العقد، فإذا عجز عن تحقيق ما التزم به جاز للمستخدم تسريحه ولا يمكن للعامل أن يتحلل من مسؤوليته، إلا بإثبات وجود قوة قاهرة أو ظروف طارئة لم يكن في وسعه توقعها أو دفعها طبقا للمادة 107 من القانون المدني.
     فقد اعتبر القضاء الفرنسي أن تسريح العامل الذي التزم في عقد العمل بتطوير نقطة نشاط البيع التي عين على رأسها مسئولا فإن تسريحه مبرر، و قائم على سبب جديّ لأنه لم يتمكن من تحقيق ما التزم به(50).
      و في هذه الحالة يكون القاضي مقيدا في تقدير سبب التسريح، فإذا ثبت لديه في ملف القضية أن العامل عجز عن تنفيذ التزاماته، فإنه يكون أمام مقتضيات قانونية ناشئة من عقد العمل، و تلزم العامل بتنفيذه طبقا لما اشتمل عليه من التزامات وفقا للقانون، كما نصت على ذلك المادة107 من ق. م.
     لأنه لا يمكن أن ينكر على صاحب العمل حق تسريح العامل ظهر بالفعل أنه غير قادر على القيام بعمله، و قد اعتبر القضاء الفرنسي أن صاحب العمل الحكم الوحيد في معرفة  ما إذا كانت الخدمات التي يقوم بها العامل مرضية أو غير مرضية، و حضرت محكمة النقض على قضاة الموضوع أن يحلوا محل صاحب العمل في تقدير الكفاءة الجسمانية أو الفكرية للعامل المفصول(51). 
      و لأن المستخدم منحت له سلطة إنهاء عقد العمل و تسريح العامل فإنه مقابل هذه السلطة فهو ملزم بأن يؤسس قرار التسريح الذي يتخذه في حق العامل على عناصر موضوعية تخضع لرقابة قاضي الموضوع و من ثم فعلى صاحب العمل أن يقدم سبب التسريح بدقة كافية مستندا على مقتضيات عقد العمل الذي ترتبت عليه التزامات مهنية على عاتق العامل الذي عجز عن تنفيذها، ذلك أن الكفاءة المهنية تقدر حسب الوظيفة التي يشغلها العامل، و المسئوليات المتعلقة بها، فعدم الأخذ بعين الاعتبار بهذه الظروف تجعل قرار التسريح تعسفيا.

 (50)- CASS SOC . 25 MARS 1988 – LAMY. S.A. OP p, 1349.
(51)-  بلخيضر عبد الحفيظ- المرجع  السابق- ص 255.
      و لكن إذا كان القاضي يجد نفسه مقيدا في سلطته التقديرية إذا تعلق الأمر بالحدود القانونية التي يفرضها العقد طبقا لما اشتمل عليه و بحسن نية، فإنه يفقد البعض من سلطته التقديرية إذا تعلق الأمر بمقتضيات موضوعية تجعل تنفيذ عقد العمل مستحيلا بسبب الحالة الصحية للعامل التي تعتبر من المبررات الموضوعية لإنهاء علاقة العمل طبقا للمادة 66 من قانون 90/11.  

الفـرع الثـانـي: المقـتضيات المـوضـوعـيـة
      بالإضافة إلى الحدود القانونية التي تقيد من سلطة قاضي الموضوع في تقدير أسباب التسريح، فانه في أحيان أخرى يجد نفسه مقيدا في تقدير التسريح التعسفي، مقتضيات موضوعية تجعل تنفيذ عقد العمل مستحيلا مما يبرر للمستخدم إنهاء علاقة العمل بالاستناد إلى تلك الظروف الموضوعية و في هذه الحالة يكون على القاضي فقط التأكد من توافر هذه الظروف التي تحول دون تنفيذ عقد العمل.
      و طالما أن عقد العمل يخضع للقواعد العامة المتعلقة بالعقد في القانون المدني، فانه ينتهي عند تعذر تنفيذه أما بسبب قوة قاهرة أو أمر طارئ، و قد حاول الفقه وضع شروط لنظرية الظروف الطارئة أو القوة القاهرة و أجملوها في ثلاثة شروط(52).
      يتعلق الشرط الأول باستحالة التوقع، وهذا يعني أن الواقعة التي يعتد بها كقوة قاهرة هي تلك الواقعة التي لم يكن من الممكن توقعها أثناء إبرام العقد، أما إذا كان بالإمكان توقعها فإنه يكون من المفروض على المستخدم القيام بما يكفي لمنع وقوعها، و يقدر القاضي تلك الواقعة تقديرا موضوعيا، فلا يكفي اعتبارها غير متوقعة، أن تكون كذلك بالنسبة للمستخدم، بل يجب أن لا يتوقعها الشخص العادي، طبقا للمادة 107/2 من القانون المدني.
      أما الشرط الثاني فهو استحالة دفع تلك الواقعة، فالقوة القاهرة هي كل شيء لا يستطيع الإنسان دفعه
فلا يعتبر الأمر قوة قاهرة إذا كان باستطاعة العامل تنفيذ التزاماته، ولو كان بتضحيات كبيرة، لأنه لا يكفي أن تصبح مواصلة تنفيذ التزاماته مرهقا، بل يجب أن ترتبط استحالة التنفيذ باستحالة الدفع.
      و الشرط الثالث أن لا تنسب الواقعة إلى خطأ العامل، فلا تعتبر الواقعة قوة قاهرة إذا سبقها أو اقترنت بخطئه. و هنا يكون على القاضي التأكد من توافر عناصر القوة القاهرة، فقد يدعي المستخدم أن واقعة معينة مثل الحريق أصاب المؤسسة فاستحال معه تنفيذ عقد العمل، و استمرار نشاط المؤسسة، و بالتالي الإبقاء على عقود العمل التي تربطه بمستخدميه، فإن قاضي الموضوع له سلطة تقدير تلك الواقعة ما إذا كانت قوة قاهرة تحول دون تنفيذ عقد العمل أم مجرد حادث عرضي كان بالمكان توقعه أو دفعه، وفي هذه الحالة يكون قرار التسريح تعسفيا.   
 (52) -  جورج سيوفي- النظرية العامة للموجبات و العقود- بيروت1994 – ص 346
      فإذا كانت القوة القاهرة ظرفا موضوعيا يستحيل معه تنفيذ عقد العمل و يترتب عليه تسريح العامل، فإن هناك ظروف أخرى موضوعية تتعلق بعدم القدرة الصحية للعامل على تنفيذ التزاماته تجاه المؤسسة المستخدمة، مما يجعل عجزه الجسمي مبررا لتسريحه من منصب عمله.
      و يقصد بعدم القدرة الجسمية أو الجسدية عجز العامل عن العمل بسبب المرض، أو بسبب حادث عمل بحيث تصبح حالته الصحية لا تسمح باستمراره في العمل الذي كان يمارسه(53). والمرض هو فساد المزاج أو تغيير الصحة بعد اعتدالها، وهو غالبا ما يكون مانعا مؤقتا أو مؤبدا من العمل، لأنه يؤثر على تنفيذ عقد العمل في أهم خصائصه القائمة على تقديم العامل لخدماته لفائدة المستخدم.
      و مثلما ينقسم العمل إلى عمل ذهني و عمل بدني فإن المرض كذلك يمكن أن يؤثر على قدرة العامل البدنية كما يمكن أن يؤثر على مداركه العقلية، إلا أنه ليس كل مرض مانع من العمل و مبرر لتسريح العامل، فقد استقر القضاء الفرنسي على مبدأ يقضي بأن المرض يجعل العقد موقوفا دون إنهائه، ولا يبرر إنهاء العقد بسبب المرض إلا في الحالات التالية: 
- المرض الخطير.
- المرض المستمر.
- عندما تستدعي الضرورة استخلاف العامل المريض بعامل آخر.   
     وإذا كان المرض خطيرا أو مستمرا، فإنه يكون من شأنه أن يؤثر على حسن سير المؤسسة بما يجعله غير متلائم مع فكرة توقيف عقد العمل، و إنما يفرض على المستخدم إنهاء علاقة العمل بتسريح العامل، لأن مرضه يجعله غير قادر على تأدية مهامه و التزاماته، لعدم توافر المؤهلات البدنية فيه. 
     وهذه الحالة تحد من سلطة قاضي الموضوع في تقدير مدى وجود سبب حقيقي و جدي يبرر التسريح، و ما على القاضي إلا الاستجابة إلى طلب صاحب العمل المتعلق بالتسريح، و يبقي عليه فقط التأكد من خطورة المرض بالالتجاء إلى خبرة أهل الاختصاص، و رغم أن القاضي غير ملزم بتقرير الخبرة، فإنه في مثل هذه الحالات يجد نفسه ملزما واقعيا و موضوعيا و فنيا بتقرير الخبير الطبي، لأن الطبيب هو الوحيد المؤهل لتحديد ما إذا كان مرض العامل خطيرا أم لا، و ما إذا كان مستمرا و يحتاج إلى فترة طويلة من العلاج أم قصيرة، وهو الوحيد الذي يمكن أن يحدد نسبة عجز العامل و قدرته على العمل.




(53) -  بلخيضر عبد الحفيظ – المرجع السابق- ص 258.
      و قضت محكمة النقض الفرنسية في العديد من أحكامها بأن المرض الدائم و المستمر يبرر إنهاء علاقة العمل، مؤكدة على أن << عدم القدرة الجسمية المؤدية إلى غياب غير محددة المدة يمكن اعتباره كقوة قاهرة مؤدية إلى إنهاء عقد العمل>>، إلا أنه إذا كان المرض قصيرا، فإن التسريح يعد تعسفيا، غير أنه يقع على العامل واجب إعلام المستخدم من استفادته من العطلة المرضية التي يمنحها له طبيب الضمان الاجتماعي، و حسب محكمة النقض الفرنسية فإنه لا يمكن تطبيق أحكام المادة 4-24-122 L إلا إذا قرر الطبيب المختص عدم قدرة العامل على مواصلة العمل في منصبه أو في أي منصب آخر يتلاءم مع مؤهلات البدنية و المهنية(54).    
      و يعد كذلك من مبررات التسريح بسبب المرض حالة عدم استغناء صاحب العمل عن العامل، إذا كان غياب هذا العامل بسبب مرضه يقتضي لضرورة سير المؤسسة استخلافه بعامل آخر، إلا أن تسريح العامل دون أن يؤثر غيابه بسبب حالته الصحية على المؤسسة يعتبر تسريحا تعسفيا، و هو ما أكدته محكمة النقض الفرنسية في حكم جاء فيه << أنه إذا كان مرض العامل يبرر تسريحه، فيجب أن يخضع هذا التسريح لغياب العامل، وأن يؤثر هذا الغياب بصفة قوية على المشروع حتى يستطيع صاحب العمل أن يحل محله عاملا آخر>>(55).
      و هكذا فإنه يتعين على قاضي الموضوع أن يأخذ بعين الاعتبار مدى تأثير مرض العامل على نشاط المؤسسة، ليقرر إن كان المستخدم قد تعسف في قرار التسريح أم لا.
      وهو ما أخذت به المحكمة العليا في أحد قراراتها، عندما قضت بنقض قرار صادر عن مجلس قضاء الجزائر في 11 أفريل 1990 القاضي بتأييد الحكم المستأنف الصادر عن محكمة بئر مراد رايس في 29-12-1988 على أساس أنه << مادام المدعية- الهيئة المستخدمة- تزعم أن المدعي كان مريضا وقت اجتماع لجنة التأديب، كان عليها أن تأمر بإجراء فحص طبي عليه للتأكد من مرضه، و اتخاذ الإجراءات 
الضرورية في حالة إثبات المرض العقلي المزعوم، و هذا وفقا لنص المادة 24 من المرسوم رقم 74-254 في 28 ديسمبر 1974، و بالتالي المدعية قد خالفت تشريع العمل>>(56).





(54)-CASS.SOC.18JUILL1996.n°95.45.246- LAMY. SA.1997p596.
(55)-CASS.SOC.05OCT1978.n°77.40.445-LAMY. S.A .1997.P597.
(56)- قرار رقم 88717 بتاريخ 23-11-1992 – الموسوعة القضائية 2000 –  C.D

      فقرار تسريح العامل من منصب عمله بسبب حالته الصحية يكون تعسفيا إذا لم يثبت عجز العامل عن أداء مهامه بعد فحص طبي، و تقرير خبرة طبية يؤكد عدم قدرة العامل على ممارسة مهامه المسند إليه، أو ممارسة أي مهام أخرى تخوله مؤهلاته المهنية القيام بها، لأنه جاء في قرار آخر للمحكمة العليا أنه يتعين على المستخدم قبل أن يتخذ قرار تسريح العامل بسبب حالته الصحية، أن يتأكد من عدم وجود أي منصب مماثل لمستوى تصنيف المنصب الذي يشغله العامل و يطابق مؤهلاته و كفاءته، و يمكن تعينه فيه(57). 
      وعلى قاضي الموضوع في كل هذه الحالات الأخذ بعين الاعتبار الحدود القانونية و الموضوعية التي تحد من سلطته التقديرية في تكييف السبب الحقيقي و الجدي لتسريح العامل، و إن كانت له سلطة واسعة في تكييف الأسباب و تقدير الوقائع بما يتلاءم مع الواقع و القانون، فإنه مع ذلك يخضع لرقابة المحكمة العليا من حيث تطبيق القانون، وهو ما سنتطرق إليه في المطلب الثاني.




الطرد التعسفي بدون عقد

تعويض العامل عن الفصل التعسفي

حقوق العامل في حالة الفصل التعسفي

التعويض عن الفصل التعسفي

مقدار التعويض عن الفصل التعسفي

قانون الشغل بالمغرب للقطاع الخاص

التعويض عن فقدان الشغل pdf

الفصل التعسفي PDF













 (57)-  قرار رقم 58789 بتاريخ 09-07-1990 – الموسوعة القضائية 2000  - C.D 

المطلب الثاني: خضوع قاضي الموضوع لرقابة المحكمة العليا

      إذا كان دور القاضي في الخصومة هو وضع حد للمنازعة التي تطرح عليه بما خوله القانون من سلطة في تكييف الوقائع موضوع النزاع، و تطبيق القاعدة القانونية التي في إطارها وضع الخصومة، و بمقتضاها فصل في النزاع، فإن هذه المسألة تفرض عليه أن يتولى تحديد الوقائع بدقة، و المجال القانوني الذي تصنف فيه و تخضع له، ثم عليه أن يستخلص النتائج المنطقية المطابقة لروح القانون ويكون ذلك على بناء منطقي، وأسباب قانونية تؤدي حتما و بالضرورة إلى النتيجة القانونية التي توصل إليها في حسم النزاع المعروض عليه.
      و إن كان قاضي الموضوع يتمتع بهذه السلطة فإنه يخضع في ذلك لرقابة المحكمة العليا التي تبسط رقابتها على أحكامه من حيث تكييف الوقائع و تطبيق القانون, و لذلك سنتناول في هذا المطلب رقابة المحكمة العليا على تكييف قاضي الموضوع للوقائع ( الفرع الأول )، ثم رقابتها على تسبيب الحكم ( الفرع الثاني ).

الفرع الأول: رقابة تكيف الوقائع 
      تتمتع المحكمة العليا بصفتها محكمة للنقض بمهمة مراقبة قضاة الموضوع في تكييفهم للوقائع لمعرفة مدى تطابقها مع الواقع، و إن كانت المحكمة العليا هي محكمة قانون لا تنظر في أصل النزاع، فإن معيار التفرقة بين الوقائع التي يستقل قضاة الموضوع بتقديرها، و بين القانون الذي هو من اختصاص المحكمة العليا، قد يبدوا سهلا من الناحية النظرية، و لكنه في الواقع يثير عددا من المسائل التطبيقية، و ذلك لأن المحكمة العليا إذا تصدت لمعرفة ما إذا كان قضاة الموضوع قد قاموا بتطبيق القانون تطبيقا سليما، فإن عليها أن تنظر في الوقائع، و تتفحص كيفية تقديريها من طرف القضاة و من ثم فإن الحدود الفاصلة بين المجالين تبدوا صعبة التمييز(58). 
      ومن باب قيام المحكمة العليا بضمان تطبيق القانون، و احترامه فإنها تنظر في تقدير و تكييف الوقائع التي بُنيّ عليها الحكم، لا كمحكمة أصل، وإنما للتأكد من صلاحية تلك الوقائع لتكون مستندا واقعيا للحكم.





(58) -  يحي بكوش – الأحكام القضائية و صياغتها الفنية- ص 55.
      و الرقابة على التكييف القانوني للوقائع بما يتطابق مع الواقع، و يتلاءم مع القانون، تجد مدى أوسع في مجال منازعات العمل، نظرا لتضارب مصالح الأطراف، واختلاف موازين القوى بينهما، و إثبات وجود سبب حقيقي و جدي لإنهاء علاقة العمل، أو إثبات تعسف قرار التسريح، يستمد من واقعة العلاقة التعاقدية في حد ذاتها، فيكون للأطراف عدد كبير من الأدلة و الوقائع التي تدعم ادعاءاتهم، و غالبا ما يكون للتسريح عدة أسباب، تعطي للمستخدم الخيار في اعتماد السبب الذي يراه أكثر إقناعا للقاضي، ولو كان هذا السبب ليس هو في حد ذاته الذي دفع في الواقع المستخدم إلى تسريح العامل، وفي هذه الحالة يتعين على قاضي الموضوع أن يحدد أصل النزاع، ثم يستخلص الأسباب الحقيقية التي كانت دافعا للمستخدم في إنهاء علاقة العمل، و من جهة أخرى فإن عليه أن يسبب حكمه تسبيبا مقبولا من الناحية الواقعية، وخاضعا لمقتضيات القانون من الناحية المنطقية، بحيث يمكن للمحكمة العليا أن تتأكد من فهم قاضي الموضوع للوقائع انطلاقا مما هو ثابت بأوراق القضية.
      و قد قضت المحكمة العليا بأنها ليست درجة من درجات التقاضي التي تعني بالوقائع، وليس من شأنها أن تعرض للظروف الخاصة بكل قضية عليها، فالمحاكم هي وحدها التي تتمتع بالفصل في الوقائع 
حيث جاء في أحد قراراتها << حيث لكن أن الطاعن لم يوضح كيف تم خرق القانون لما كيف رب العمل نوم المدعي أثناء تأدية عمله كحارس بخطأ جسيم، و على كل حال أن تقدير الخطأ هو من تقدير الوقائع، وهو في ذلك من اختصاص قضاة الموضوع، و لا رقابة عنه من المحكمة العليا مادام أن تكييفه يتماشي و التصنيف الشرعي للعقوبات التأديبية >>(59).
      و يفهم من ذلك أن النظر في الوقائع من حيث هي من اختصاص قضاة الموضوع، إلا أن المحكمة العليا تبسط رقابتها على بيان تكييف تلك الوقائع و كيف توصل قاضي الموضوع إلى قناعته التي جعلته يتجه في حكمه الاتجاه السليم، و ذلك من خلال تقدير الأسباب و الحجج القانونية، و الأدلة الواقعية التي بنى عليها حكمه، ومدى تفسير قاضي الموضوع لإدعاءات الأطراف، وفهم ما أحاط بها من مسائل قانونية، و هي الوسيلة القانونية التي من خلالها تتمكن المحكمة العليا من مراقبة تقدير قاضي الموضوع الوقائع، لأن القانون يلزمه بذكر الأسباب و الوقائع التي استخلص من ثبوتها النتيجة القانونية التي توصل إليها، و القواعد القانونية التي وضعت في إطارها تلك النتيجة.




(59) –  قرار رقم111662 بتاريخ 22-11-1994 – نشرة القضاة. ع 55 ص 120. 

      و قد ذهبت المحكمة العليا إلى << أن تكييف الوقائع ينبغي أن يستمد من حقيقة الوقائع المطروحة أمام قضاة الموضوع بما لهم من سلطة تقديرية في ذلك، ولذلك فإن الحكم الذي تكون أسبابه غير كافية لمواجهة ما قدم من أدلة و ما أبدى الأطراف من طلبات و دفوع يكون مشوبا بالقصور في التسبيب المساوي لانعدامه>> (60).
      و لذلك فإن قاضي الموضوع إذا ما ثبت له وجود السبب الحقيقي و الجدي القائم على خطأ جسيم، أو إذا ما ثبت له الطابع التعسفي لقرار التسريح، فإنه يبني حكمه على الوقائع المعروضة عليه، و التي يعطيها التكييف القانوني الذي يتلاءم مع النتيجة التي توصل إليها، سواء بإضفاء الصبغة التعسفية على قرار تسريح العامل، أو تقرير مشروعيته. 
      وبينت المحكمة العليا في قرار لها أنه << إذا ثبت وجود الطابع التعسفي للطرد من خلال تقدير قاضي الموضوع لوقائع القضية، فلا شيء يمنع القاضي من استنتاج حتمية رجوع العامل إلى منصب عمله مع إلغاء قرار الفصل وذلك في غياب نظام داخلي للمؤسسة.>>(61).
      وهذا يعني أن قضاة الموضوع ملزمون بتقدير الوقائع تقديرا واقعيا يتلاءم مع مقتضيات القانون، و يكون نتيجة منطقية مترابطة مع ما توصل إليه في حسم النزاع.
      فإذا كان هناك تحريفا في الوقائع، فإن المحكمة العليا لا تمارس رقابتها بالبحث عن أدلة جديدة، أو تجرى موازنة بينها و بين الأدلة التي قدمها الأطراف، و إنما تقتصر رقابتها عما إذا كان قاضي الموضوع قد التزم بما جاء في أوراق الملف فلم يناقضه أو يتجاوزه، لأن القاضي الاجتماعي يستمد عناصر اجتهاده مما له أصل ثابت بأوراق القضية المعروضة عليه.

الفرع الثاني : الرقابة على التسبيب القانوني:

      لا تكتفي المحكمة في بسط رقابتها على أحكام قضاة الموضوع بفحص التكييف القانوني للوقائع، التي يستخلص منها القضاة النتائج التي توصلوا إليها وإنما تتولى مهمة مراقبة تسبيب الحكم تسبيبا منطقيا و قانونيا يتوافق مع وقائع القضية. وطالما كان التسبيب ينطلق من خلال التكييف القانوني للوقائع، فالقاضي يعرض عليه النزاع،  وهو الذي يعمل على تحديد طبيعته، و يضعه في إطار القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على ذلك النزاع.


(60) -  قرار رقم 35213 بتاريخ 21-011986 – الموسوعة القضائيةC.D 
(61) -  قرار رقم 126057 بتاريخ 21-11-1995 – غير منشور. 

      و عليه فإن الأسباب هي الجزء الذي يبين فيه القاضي المبررات التي من أجلها أصدر حكمه، وذلك بتفحص الحل القانوني الذي تتضمنه المادة القانونية، و مدى إنطباقها على الوقائع التي كان قد وضع لها التكييف الملائم، فإذا انطبقت القاعدة القانونية على الواقعة انزل حكم القاعدة القانونية على الواقعة حسما للنزاع، وإن لم يتحقق ذلك، فإنه يتعين عليه البحث عن القاعدة القانونية التي تتضمن الحل القانوني لتلك الواقعة.
      فالتسبيب هو الجزء الفني الذي يربط فيه قاضي الموضوع بين الوقائع باعتبارها هي عناصر النزاع، و القاعدة القانونية المتضمنة الحل القانوني المجرد، و بذلك يضع نقطة تلاقي أو انسجام بين الوقائع و القانون، و القصور في التسبيب هو عرض غير كاف للعناصر الواقعية التي تبرر تطبيق القاعدة القانونية، بحيث إذا وضعت تلك العناصر إزاء قواعد قانونية أخرى فلا تؤدي إلى حل مختلف بالنسبة للقضية(62).
      فإذا قرر القاضي الاجتماعي أن الوقائع التي ادعى المستخدم ارتكابها من طرف العامل تعتبر خطأ جسيما يبرر تسريحه، فهل بهذا يكون قد قام بتقدير الوقائع غير خاضع لرقابة المحكمة العليا، أم أنه قام بعملية قانونية خاضعة  لرقابة هذه الجهة القضائية؟.
      الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في تحديد دور كل من قاضي الموضوع، وقاضي القانون، فقاضي الموضوع يراقب تكييف المستخدم لسبب تسريح العامل، و قاضي القانون يراقب تكييف قاضي الموضوع لهذا السبب.
      فإذا تناقض قاضي الموضوع في عرضه و تكييفه مع الحل القانوني الذي تفرضه القاعدة القانونية، نكون بصدد قصور في الأسباب، لأن تسبيب الحكم هو إيراد الحجج الواقعية و القانونية التي بنى عليها قاضي الموضوع حكمه. و قد فرض المشرع في المادة 239 من ق.إ.م التسبيب ليحمل القضاة على العناية  بتمحيص مزاعم الخصوم، و فحص أدلتهم ووزنها و دراسته جميع نقاط النزاع،  سواء اتصلت بالوقائع أو بالقانون دراسة وافية تمكنهم من استخلاص النتائج التي يؤسسون عليها حكمهم.
      و يجب أن يكون كل حكم مستوفيا بذاته أسبابه، و أن يكون التسبيب جديا يواجه فيه القاضي جميع نقاط ووقائع النزاع في نطاق القانون و الواقع، فلا يقتصر على أسباب عامة أو ناقصة أو متناقضة، بل يجب أن يكون التسبيب واضحا و كافيا لإسناد الحل القانوني المقرر في الحكم.





(62) -  أحمد هندي -  أصول المحاكمات المدنية- الدار الجامعية 1989- ص 440. 
      و قد بينت المحكمة العليا في العديد من قراراتها أن فقدان الأساس القانوني، و قصور التسبيب يتوفر عندما تطبق المحكمة قاعدة قانونية دون بيان العناصر الواقعية الكافية، و المبررة لتطبيقها، حيث جاء في أحد قراراتها أنه" متى كان من المقرر قانونا أن القرار الذي احتفظ بعدم توضيح الوقائع المنسوب فعلها للعامل، و تشخيص أخطائه وفقا لنظام الطاعنة المطبق عليه، و ذلك بعدم ذكر الأخطاء الجسيمة من طرفه لتبرير فصله، فإن هذا القرار تكون أسبابه غير كافية لمواجهة ما قدم من أدلة في الدعوى و ما أبديّ من طلبات و دفوع أطرافها، و يكون ذلك مشوبا بالقصور في التسبيب و التناقض في المقتضيات"(63).
و جاء في قرار لها آخر أنه " من المقرر قانونا أن عقوبة التسريح من العمل بدون تعويض يكون في حالة ارتكاب العامل لخطأ جسيم، و من ثم فإن القضاء بما يخالف أحكام هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون، و لما كان من الثابت في قضية الحال أن المجلس أيد التسريح عن العمل بدون تعويض دون التحقق من الخطأ المنسوب إلى العامل، يكون قد سبب حكمه تسبيبا غير كاف، ومتى كان ذلك استوجب النقض"(64).
    و القرارات التي نقضت فيها المحكمة العليا أحكام قضاة الموضوع نظرا للقصور في التسبيب كثيرة، وهو ما يفيد أن التسبيب هو المهمة الأساسية التي تقع على عاتق القضاة، لأنها تتطلب إيصال الفهم الذي توصلوا إليه في النزاع إلى أذهان المتقاضين ليقتنعوا به، و يتمثل غرض المشرع في فرض التسبيب تمكين كل من سيطلع على الحكم، أما بقصد المراقبة أو التحليل لأن يطمئن إلى أنه يمثل قدرا من الصواب، وأنه أقرب ما يكون إلى الحق و مطابقة الواقع والقانون.(65).
      و هكذا تمارس المحكمة العليا رقابتها على تسبيب الأحكام من الناحية القانونية، و هي رقابة ضرورية، حتى تتمكن هذه المحكمة من تحقيق مهمتها المتمثلة في السهر على حسن تطبيق القانون، و توحيد الاجتهاد القضائي.








(63) -  قرار رقم 36976 بتاريخ 26-03-1994 – الموسوعة القضائية 2000 C.D.
(64) -  قرار رقم 45462 بتاريخ 07-03-1988 - الموسوعة القضائية 2000 C.D.
(65) -  يحي بكوش – المرجع السابق- ص 33.
الخـــاتـمة
     نخلص من هذه الدراسة إلى أن التسريح التعسفي, وإن كان المشرع الجزائري قد نص عليه في نص المادة 73 من القانون المتعلق بعلاقات العمل, وحدد الحالات التي يجب على المستخدم أن يؤسس عليها قرار تسريح العامل, وربط دلك بمجموعة من الأخطاء الجسيمة التي تعد سببا حقيقيا وجديا للتسريح, وهذا يعني أن التسريح التعسفي هو الذي يكون خرقا للقواعد الموضوعية لقانون العمل, وهو ما يعبر عنه في القانون الفرنسي بانعدام السبب الحقيقي والجدي (la cause réelle et sérieuse de licenciement).
     وقد خلصنا في البحث إلى أن الأخطاء الجسيمة المذكورة في المادة73 ما هي إلا حالات على سبيل المثال لا الحصر, لأن الأخطاء لا يمكن حصرها لارتباطها بوقائع مادية مختلفة. وبالتالي فإن التسريح لا يكون مبررا إلا إذا كان قائما على سبب حقيقي وجدي, حتى ولو كان الخطأ الذي ارتكبه العامل من غير الأخطاء المنصوص عليها في هذه المادة, على أن يرجع إلى القاضي الاجتماعي سلطة تقدير ذلك السبب تحت رقابة المحكمة العليا لأنه ليس هناك تسريح قائم على أسباب أو وقائع تشبه الأخرى.
     وطالما أن القانون يحدد الإطار العام الذي يجب أن يمارس فيه القاضي رقابته على التسريح التعسفي وذلك من خلال تقدير السبب الحقيقي والجدي وبالتالي يرجع له تقدير مدى وجود الصبغة التعسفية لقرار التسريح, بالاستناد على عناصر الإثبات التي يقدمها الأطراف والوسائل التي منحه إياها المشرع لتدعيم اقتناعه, وذلك بالأمر بكل وسيلة تحقيق يراها لازمة لحسم النزاع . 
     وقد وفق المشرع حينما جعل عبء إثبات السبب الجدي للتسريح يقع على عاتق المستخدم لأنه الطرف القوي في العلاقة التعاقدية, وفي نفس الوقت لم يضع العامل في موقف سلبي من مسالة الإثبات, ثم بعد ذلك أعطى للقاضي سلطة تقدير وسائل الإثبات التي يقدمها الأطراف, لينتقل في المرحلة الثانية بعد التأكد من ثبوت الوقائع ونسبتها إلى العامل, إلى تقدير مدى جدية سبب التسريح ما إذا كان يبرر ذلك معتمدا على معيار موضوعي مستمد من تأثير الخطأ على نشاط المؤسسة, ومعيار ذاتي مستمد من وعي العامل بدرجة الخطأ وجسامته تطبيقا للمادة 73-1.
     إلا انه تجدر الإشارة إلى أن القضاة يواجهون إشكالات قانونية في مسألة الرقابة القضائية على التسريح التعسفي القائم على مقتضيات موضوعية وهي انعدام الخطأ الجسيم, والتسريح الذي يكون مخالفا للإجراءات طبقا للمادة73-4 حتى وإن تعلق الأمر بتسريح مبرر من حيث موضوعه. وهو ما جعل القضاة في كثير من المحاكم لا يميزون بين التسريح التعسفي والتسريح المخالف للإجراءات, ويصرحون في كلا الحالتين بإلغاء قرار التسريح رغم اختلافهما من حيث السبب و النتيجة. 


قائمة المراجع
أولا - المراجع باللغة العربية:
آ- المؤلفات :
1- احمد محمد شوقي عبد الرحمان:       الخطأ الجسيم للعامل وأثره على حقوقه-المطبعة العربية الحديثة.
2- احمد عبد الرزاق السنهوري:         الوسيط في شرح القانون المدني –جزء2 –منشورات الحلبي –بيروت -1989.
3- احمــــد هنـــدي:         أصول المحاكمات المدنية-الدار الجامعية 1989.
4- الــسيد محمد عمــران:        شرح قانون العمل – دار المطبوعات الجامعية 2000.
5- بلخيضر عبـد الحــفيظ:         الإنهاء التعسفي لعقد العمل –دار الحداثة-لبنان 1986. 
6- عبد الوهــاب الــبندار:        العقوبات التأديبية – دار الفكر.
7- عبد الوهـاب الـــبندار:        طرق الطعن في العقوبات التأديبية – دار الفكر.
8- عبد الــسلام ذيـــب:        قانون العمل الجزائري والتحولات الإقتصادية – دار القصبة للنشر.
9- يحـــي بكــــوش:         الأحكام القضائية وصياغتها الفنبة.

ب-المجلات و الدوريات القانونية

1- المجلة القضائية 1989 العدد الأول.
2- المجلة القضائية 2000 العدد الأول.
3- المجلة القضائية 2001 العدد الأول والثاني.
4- المجلة القضائية 2002 العدد الأول والثاني.
5- المجلة القضائية 2003 العدد الأول.
6- نشرة القضاة 1999 عدد 55.
7- الموسوعة القضائية 2000 – قرص مضغوط.

ثانيا - المراجع باللغة الفرنسية:
A- OUVRAGES :

1- GERARD lyon cafen – JEAN pelissier :     droit du travail 16eme edition.DALLOZ.1982.
2- G.H.camerlynch :                  traité du droit du travail "contrat du travail".DALLOZ.1989.
3- JEAN-PAUL antona :           la rupture du contrat du travail.3 eme édition d'organisation.
4- JEAN reviro et J.savatier :    droit du travail 6 eme édition DALLOZ.

B- REVUES ET RECEIULS DE JURISPRUDENCE :

1- bulletin civil N°120 mars 1991.
2- revue du droit social N°04 avr 1978 + N°01 jan 1982 + N°12 déc. 1986.
3- droit ouvriers 1982-1987-1991.
4- Lamy social 1997.
5- juris classeur 1998.
6- www.juris travail com.
الفهرس
مقدمة.......................................................................................................................01
الفصل الأول: رقابـة القـاضي الاجتماعي على إثبات سبـب التسريح التعسفي............................................05
المبحث الأول : عبء إثبات وجود أو عدم وجود السبب الجدّي للتسريح............................................................06
المطلب الأول: دور طرفي النزاع في إثبات السبب الجديّ للتسريح..............................................................08.                      الفرع الأول دورالمستخدم في إثبات السبب الجديّ للتسريح....................................................................09
الفرع الثاني دورالعامل في إثبات تعسف المستخدم............................................................................13
المطلب الثاني: دور قاضي الموضوع في إثبات سبب التسريح......................................................................16
الفرع الأول المساهمة الإيجابية لقاضي الموضوع في تقدير وسائل الإثبات.....................................................17
الفرع الثاني وسائل و سلطة القاضي لإثبات سبب التسريح....................................................................19
المبحث الثاني : حجيّة الحكم الجزائي و قرار مجلس التأديب على إثبات سبب التسريح...........................................21
المطلب الأول: أثر الحكم الجزائي على إثبات سبب التسريح.....................................................................21
الفرع الأول حجية الحكم الجزائي بالإدانة على إثبات سبب التسريح............................................................22
الفرع الثاني أثر الحكم ببراءة العامل من المتابعة الجزائية.....................................................................26
المطلب الثاني : حجيّة قرار مجلس التأديب على إثبات وجود سبب التسريح......................................................29
الفرع الأول استئناس القاضي الاجتماعي بقرار مجلس التأديب.................................................................30
الفرع الثاني عدم أخذ القاضي الاجتماعي بمحاضر مجلس التأديب.............................................................31
الفصل الثاني : سلطة القاضي الاجتماعي في تقدير الخطأ الجسيم..............................................................33
المبحث الأول : معايير تقدير الخطأ الجسيم....................................................................................34
المطلب الأول: تقدير جسامة الخطأ بناء على المعيار الموضوعي...............................................................35
الفرع الأول تأثير خطأ العامل على نشاط المؤسسة............................................................................35
الفرع الثاني تقدير الخطأ بالنظر إلى الظروف الموضوعية....................................................................37
المطلب الثاني : تقدير الخطأ بناء على المعيار الذاتي.........................................................................38
الفرع الأول نية العامل و درجة وعيه بالخطأ.................................................................................39
الفرع الثاني طبيعة سلوك العامل.............................................................................................40
المبحث الثاني : حدود سلطة قاضي الموضوع التقديرية.......................................................................44
المطلب الأول: المقتضيات القانونية و الموضوعية التي تحد من سلطة القاضي التقديرية........................................44
الفرع الأول المقتضيات القـانـونـيـة.....................................................................................44
الفرع الثاني المقـتضيات المـوضـوعـيـة...............................................................................46
المطلب الثاني: خضوع قاضي الموضوع لرقابة المحكمة العليا................................................................50
الفرع الأول رقابة تكيف الوقائع..............................................................................................50
الفرع الثاني الرقابة على التسبيب القانوني....................................................................................52
الخاتمة.....................................................................................................................55

الطرد التعسفي بدون عقد

تعويض العامل عن الفصل التعسفي

حقوق العامل في حالة الفصل التعسفي

التعويض عن الفصل التعسفي

مقدار التعويض عن الفصل التعسفي

قانون الشغل بالمغرب للقطاع الخاص

التعويض عن فقدان الشغل pdf

الفصل التعسفي PDF

تعليقات