الـقـانـون الأجـنـبـي أمـام الـقـضـاء الـوطـنـي
مـذكـرة التخـرج لـنيـل
إجـازة المـدرسـة الـعلـيا للقـضـاء
الـمـوضـوع
مـن إعـداد الـطــالـب الـقـاضــي:
v ضـويـفـي
عـادل
الـســنــة الـــثـالـثـــة
الـدفـعــة: الـرابـعـة عـشـر
الـمـقـدمـة
يمتاز
عالمنا اليوم بتطور وسائل الإتصالات، و بقيام علاقات سلمية بين دوله و هو ما أدى
إلى قيام علاقات اقتصادية و اجتماعية بين شعوبه، و هذه العلاقات العابرة لحدود
الوطنية تتطلب بالضرورة وجود قانون تخضع له ينظم هذه العلاقات من جهة و يقوم
القاضي بتطبيقه في حالة حدوث نزاع من جهة أخرى. و لما كانت هذه العلاقات مرتبطة
بأكثر من دولة واحدة، فإنه من غير المناسب إخضاعها كلها للقانون الوطني خاصة و أن
هذا الأخير يكون في كثير من الأحيان غير متناسب معها و لا يتلاءم مع خصوصيتها، و
لهذا فإن جميع الدول في عالمنا المعاصر تفسح المجال لتطبيق القوانين الأجنبية أمام
قضاءها الوطني و إن اختلف المجال الممنوح لهذا القانون من دولة إلى أخرى.
فالقانون
الأجنبي أصبح إذن محل تطبيق من القاضي الوطني كلما كان هذا الأخير أمام علاقة
قانونية مشتملة على عنصر أجنبي و أشارت قاعدة الإسناد الوطنية بتطبيق قانون أجنبي
معين بوصفه القانون الأنسب في نظر المشرع لحكم هذه العلاقة وهو ما يتطلب معه دراسة مركز هذا القانون أمام
القضاء الوطني خاصة و أن العلاقات الخاصة الدولية في نمو مستمر.
إن العلاقات القانونية المشتملة على العنصر الأجنبي تثير أمام القاضي الوطني مشكلة تنازع القوانين الذي يتم حله عن طريق تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد الوطنية التي تتميز بأنها قاعدة مزدوجة قد تشير بتطبيق القانون الوطني أو بتطبيق قانون أجنبي على ارتباط بهذه العلاقة. و يتم اختيار هذا القانون على أساس منطقي مجرد يراعي فيه المشرع الوطني اعتبارات العدالة و متطلبات الحياة الخاصة الدولية.
فإذا
ما عينت قاعدة الإسناد الوطنية قانونا أجنبيا لحكم العلاقة فإن القاضي الوطني يجد
نفسه وجها لوجه مع هذا القانون الذي لا يعرفه و يعتبر غريبا عنه مما دعا بالبعض
إلى أن يشبه تطبيق القانون الأجنبي بكونه قفز في الظلام، وتفاديا لتعارض مضمون هذا
القانون الذي لا يعلم به القاضي مسبقا مع النظام العام فإن المشرع قد أجاز له
إستبعاده. كما أنه قد يكون ثبت الإختصاص لهذا القانون عن طريق الغش مما يتعين معه
إستبعاده أيضا إحباطا لعملية الغش.
إن تطبيق القانون الأجنبي يستدعي أولا
إثبات مضمونه بما أنه غير منشور في دولة القاضي و لا يفترض علمه به، فالقاعدة
الشهيرة التي تقول أن " القاضي يعرف القانون" لا تجد لها مجالا أمام
القانون الأجنبي، فإذا ما تمكن القاضي من الوصول إلى مضمون هذا القانون إنتقل إلى
تطبيقه على وقائع النزاع، وهنا تثار مسألة تفسير هذا القانون إذا ما كان غامضا و
هو ما يطرح أمام القاضي الوطني عدة إشكاليات إختلفت الحلول و الآراء المقترحة لها
إن
ما يعطي لهذا الموضوع خصوصيته هو كون أن أغلب المسائل التي يعالجها غير مقننة في
كثير من الدول و إن إختلفت درجة التقنين من دولة إلى أخرى، إذ في الغالب ما يكتفي
المشرع بسن مواد قانونية تتضمن القواعد العامة لحل التنازع و يترك باقي المهمة
للقاضي الوطني. و قلة التقنين في هذه المادة ليس أمرا عفويا بل إن مرده إلى
ارتباطه بالتغيرات المتسارعة في العالم و ارتباطه أيضا بموقف القضاء من القانون
الأجنبي في الدول الأخرى، لذلك نجد الفقه و الإجتهاد القضائي في كثير من الدول
يلعب دورا محوريا في التأسيس لكثير من
القواعد و تكريس الكثير من الحلول إزاء الإشكاليات التي يواجهها القاضي أمام
القانون الأجنبي، لذلك فليس من الغرابة أن تنص تشريعات كثير من الدول و من بينها
المشرع الجزائري على إخضاع المسائل التي لم يتناولها نص قانوني إلى المبادئ
المستقر عليها في القانون الدولي الخاص.
أما
في الجزائر فإن الصعوبة التي تواجه الباحث في هذا الموضوع تكمن في ندرة الإجتهاد
القضائي من المحكمة العليا حول موضوع تنازع القوانين بصفة عامة و موضوع تطبيق
القانون الأجنبي بصفة خاصة و هذا راجع لعدة إعتبارات منها أن الأطراف في الدعوى لا
يثيرون في كثير من الأحيان تطبيق القانون الأجنبي أمام القاضي الجزائري إما جهلا
منهم بقاعدة الإسناد أو تغاضيا عنها، كما أن القاضي لا يميل عادة إلى تطبيقه
تلقائيا نظرا للصعوبات التي يواجهها عند البحث عن مضمون هذا القانون و تفسيره، كما
أن الكثير من المعاملات الدولية و خاصة العقود التجارية الكبرى لا تعرض المنازعات
بشأنها على القضاء الجزائري نظرا لاتفاق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم.
و
بناءا على هذا فسوف نلجأ عند تناولنا لمختلف المسائل التي يثيرها القانون الأجنبي
أمام القضاء الوطني إلى الفقه و الإجتهاد القضائي المقارن في الدول الأخرى ثم
نحاول بعد ذلك أن نبين موقف المشرع الجزائري خصوصا و أن المشرع الجزائري في تعديله
الأخير للقانون المدني بموجب القانون 05/10 قد أزاح الغموض عن بعض المسائل التي لم
يكن يتناولها سابقا كما أتى بنص جديد هو المادة 23 مكرر 2 التي تنص على تطبيق
المبادئ المستقر عليها في القانون الدولي الخاص فيما لم يرد بشأنه نص، و هذا ما
يحتم علينا الرجوع إلى هذه المبادئ المستقر عليها في الفقه و القضاء المقارن و
التي يجري إتباعها في غالبية دول العالم فيما لم يرد بشأنه نص لأن القاضي الجزائري
أصبح ملزما بتطبيقها في حالة غياب النص التشريعي.
إن
تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني يثير إشكاليات عديدة تتركز كلها حول
مركز هذا القانون أمام القضاء الوطني و هو ما يدعونا بدوره إلى طرح الإشكالية
التالية: ما هي ضوابط تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني؟ و كيف يطبق
قاضي الدعوى القانون الأجنبي المختص؟
و
للإجابة على هذه الإشكالية سوف نتناول هذا الموضوع في فصلين نخصص الفصل الأول منه
إلى ضوابط تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، فالقانون الأجنبي لا يطبق
أمام هذا القضاء الوطني إلا إذا تم مراعاة جملة من الضوابط تتعلق في مجملها بثلاثة
ضوابط تتمثل في نطاق تطبيق هذا القانون والذي يكون في إطار العلاقات الخاصة
الدولية أي العلاقات المشتملة على عنصر أجنبي و كذلك بكيفية إنعقاد الإختصاص لهذا
القانون و الذي يكون عن طريق تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد الوطنية، و أخيرا فإن
القانون الأجنبي لا يطبق إذا كان مخالفا للنظام العام في دولة القاضي أو ثبت له
الإختصاص بواسطة الغش نحو القانون.
و
نخصص الفصل الثاني إلى كيفية تعامل قاضي الدعوى مع القانون الأجنبي المختص بحكم
النزاع و هو ما يطرح عدة إشكاليات تتعلق بطبيعة هذا القانون أمام القضاء الوطني و
كيفية إثباته أي الطرف الذي يقع عليه عبء إثبات هذا القانون و وسائل الإثبات و
القانون الواجب تطبيقه في حالة تعذر إثباته، كما تطرح إشكالية تفسير هذا القانون
أمام القضاء الوطني خصوصا المنهج المتبع في التفسير و رقابة محكمة النقض على هذا
التفسير.
الــخـطــة
* مــقــدمـة
v
الـفـصـل
الأول: ضوابط تطبيق القانون الأجنبي أمام
القضاء الوطني
Ø المبحث الأول: نطاق تطبيق القانون
الأجنبي
·
المطلب
الأول: العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي و نشأة تنازع القوانين
-
الفرع
الأول: مفهوم العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي
-
الفرع
الثاني: النظم القانونية القديمة و نظرتها إلى العلاقة القانونية ذات العنصر
الأجنبي
-
الفرع
الثالث: تنازع القوانين في الشريعة الإسلامية
-
الفرع
الرابع: المدارس الأوربية الحديثة و نشأة تنازع القوانين
·
المطلب
الثاني: الأنظمة القانونية و القوانين موضوع التنازع
-
الفرع
الأول: الأنظمة القانونية المتنازعة
-
الفرع الثاني: القوانين موضوع التنازع
Ø المبحث الثاني: كيفية انعقاد الإختصاص
للقانون الأجنبي
·
المطلب
الأول: تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد الوطنية
-
الفرع
الأول: عناصر قاعدة الإسناد
-
الفرع
الثاني: التكييف
-
الفرع
الثالث: الإحالة
·
المطلب
الثاني: مدى إلتزام القاضي الوطني بتطبيق قاعدة الإسناد تلقائيا
-
الفرع
الأول: الإتجاه المناهض لمبدأ تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد تلقائيا
-
الفرع
الثاني: الإتجاه المؤيد لتطبيق القاضي لقاعدة الإسناد تلقائيا
-
الفرع
الثالث: موقف محكمة النقض الفرنسية
-
الفرع
الرابع: موقف المشرع الجزائري
Ø المبحث الثالث: موانع تطبيق القانون
الأجنبي
·
المطلب
الأول: مخالفة القانون الأجنبي للنظام العام الوطني
-
الفرع
الأول: تطور فكرة النظام العام
-
الفرع
الثاني: صعوبة ضبط فكرة النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي
-
الفرع
الثالث: أثر النظام العام
-
الفرع
الرابع: الأثر المخفف للنظام العام
·
المطلب
الثاني: الغش نحو القانون
-
الفرع
الأول: نشأة نظرية الغش نحو القانون
-
الفرع
الثاني: شروط الدفع بالغش نحو القانون
-
الفرع
الثالث: نطاق الدفع بالغش نحو القانون
-
الفرع الرابع: أثر الدفع بالغش نحو القانون
الفرع الرابع: أثر الدفع بالغش نحو القانون
v
الـفـصـل
الـثـانـي: القانون الأجنبي المختص أمام قاضي
الدعوى
Ø المبحث الأول: طبيعة القانون الأجنبي
·
المطلب
الأول: اعتبار القانون الأجنبي واقعة
-
الفرع
الأول: موقف القضاء في الدول الأنكلوسكسونية
-
الفرع الثاني: موقف القضاء الفرنسي
·
المطلب
الثاني: الإعتراف بالطبيعة القانونية للقانون الأجنبي
-
الفرع
الأول: نظرية إدماج القانون الأجنبي ضمن النظام القانوني الوطني
-
الفرع
الثاني: الإعتراف بالطبيعة القانونية للقانون الأجنبي مع بقاءه قانونا أجنبيا
Ø المبحث الثاني: إثبات مضمون القانون
الأجنبي
·
المطلب
الأول: كيفية إثبات القانون الأجنبي
-
الفرع
الأول: عبء إثبات القانون الأجنبي
-
الفرع
الثاني: وسائل إثبات القانون الأجنبي
·
المطلب
الثاني: القانون الواجب التطبيق في حالة تعذر إثبات القانون الأجنبي
-
الفرع
الأول: تطبيق المبادئ العامة السائدة في الأمم المتمدنة
-
الفرع
الثاني: تطبيق القانون الأقرب إلى القانون الذي تعذر إثبات مضمونه
-
الفرع
الثالث: تطبيق القانون الوطني
Ø المبحث الثالث: تفسير القانون الأجنبي
·
المطلب
الأول: كيفية تفسير القانون الأجنبي
-
الفرع
الأول: تفسير القانون الأجنبي وفقا للمنهج المتبع في تفسير القانون الوطني
-
الفرع
الثاني: تفسير القانون الأجنبي وفقا لتفسيره في الدولة المصدرة له
·
المطلب
الثاني: رقابة محكمة النقض على تفسير القانون الأجنبي
-
الفرع
الأول: رفض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي:
موقف محكمة النقض الفرنسية
-
الفرع
الثاني: فرض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي: موقف محكمة النقض المصرية
-
الفرع
الثالث: موقف المشرع الجزائري
* خــاتـمــة
الـفـصـل
الأول: ضـوابـط تـطـبـيـق الـقـانـون
الأجـنـبـي أمـام الـقـضـاء
الـوطـنـي
لا
يمكن تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني إلا إذا تمت مراعاة مجموعة من
الضوابط، يمكن حصرها في ثلاث، يتعلق الضابط الأول بنطاق تطبيق القانون الأجنبي،
فلا تطرح مسألة تطبيق هذا القانون إلا إذا كنا أمام علاقة قانونية مشتملة على
عنصرا أجنبي ، هذه العلاقة تثير مشكل تنازع القوانين لأن دخول العنصر الأجنبي على
هذه العلاقة يجعلها مرتبطة بأكثر من دولة و بالتالي بأكثر من قانون .أما الضابط
الثاني فيتعلق بكيفية حل هذا التنازع و ذلك عن طريق تطبيق قاعدة الإسناد الوطنية
التي تعين القانون المختص لحكم هذه
العلاقة، سواء كان قانون القاضي الوطني أو
قانونا أجنبيا.
كما
أنه يشترط من جهة أخرى لتطبيق القانون الأجنبي إذا كان هو المختص لحكم العلاقة
القانونية أن لا يكون متعارضا مع النظام العام في دولة القاضي و أن لا يكون قد ثبت
الاختصاص له بواسطة الغش نحو القانون ، و هي ما تعرف بموانع تطبيق القانون الأجنبي
و هي موضوع الضابط الثالث.
وعلى
هذا الأساس سوف نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
Ø
الـمـبحـث
الأول: نطاق تطبيق القانون الأجنبي
Ø
الـمـبحـث
الثاني: كيفية انعقاد الاختصاص للقانون الأجنبي
Ø
الـمـبحـث
الثالث: موانع تطبيق القانون الأجنبي
الـمـبــحـث
الأول: نـطـاق تـطـبـيـق الـقـانـون
الأجـنـبـي
لا
تثار مسالة تطبيق القانون الأجنبي إلا إذا كنا أمام علاقة قانونية ذات عنصر أجنبي،
هذا الأخير قد يتمثل في أشخاص العلاقة أو في موضوعها أو السبب المنشئ لها، أما إذا
لم يظهر العنصر الأجنبي في العلاقة فان القاضي يطبق مباشرة قانونه الوطني.
تثير
العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي مشكل تنازع القوانين، لاختيار القانون
الأنسب لحكم هذه العلاقة، غير أن التنازع يكون محددا من جهة أخرى بالأنظمة
القانونية و القوانين التي تصلح لان تكون محلا للتنازع.
و
على هذا الاساس سوف نتناول كل هذه النقاط في مطلبين، نخصص المطلب الأول إلى العلاقة القانونية ذات
العنصر الأجنبي و نشأة تنازع القوانين، و
نتطرق في المطلب الثاني إلى الأنظمة القانونية و القوانين محل التنازع.
الـمـطـلـب
الأول: الـعـلاقة القانونية ذات العنـصـر
الأجنـبي و نـشـأة تنازع القوانين
العلاقة
القانونية ذات العنصر الأجنبي، هي التي تثير إمكانية تطبيق القاضي للقانون الأجنبي
على هذه العلاقة، غير أن هذا التطبيق لا يكون بصفة مباشرة بل بعد إعمال قاعدة
التنازع الوطنية التي ترشد القاضي للقانون الواجب التطبيق على هذه العلاقة. غير أن
الأمر لم يكن كذلك مع النظم التشريعية القديمة التي تعاملت مع هذه العلاقات بشكل
مختلف ، فنظرية التنازع حديثة النشأة لم تعرف إلا مع نهاية القرون الوسطى مع مدرسة
الأحوال (المدرسة الايطالية القديمة )، و لم تعرف بمفهومها الحالي إلا في القرن
التاسع عشر مع مدرسة "سافيني " و الفقه الحديث .
الـفـرع
الأول: مـفـهـوم الـعـلاقـة الـقـانـونـيـة
ذات الـعـنـصـر الأجـنـبـي
لا
تثور مسألة " تنازع القوانين " و بالتالي إمكانية أن يطبق القاضي الوطني
قانونا أجنبيا غير قانونه الوطني، فيما لو كان المركز أو العلاقة القانونية
المطروحة أمام القاضي وطنية العناصر ، فإذا تعلق النزاع بعقد أبرم في الجزائر بين
جزائريين، و تعلق بمال موجود في الجزائر، فلا إشكال هنا في تطبيق القانون الجزائري
لكون العلاقة القانونية محل النزاع جزائرية في جميع عناصرها.
أما
إذا دخل على العلاقة القانونية السالفة الذكر عنصر أجنبي سواء من حيث أشخاصها، كأن
يبرم العقد بين جزائري و إسباني، أو من حيث محلها كأن يتعلق العقد بعقار موجود في
دولة أجنبية، أو من حيث سبب هذه العلاقة كأن يبرم عقد بين جزائريين في دولة أجنبية
على مال موجود في الجزائر، فان القاضي يلجأ لقواعد الإسناد لتحديد القانون الواجب
التطبيق، لأن هذه العلاقة تثير تنازعا في القوانين لكونها مرتبطة بأكثر من قانون
واحد.
غير
أنه يشترط في العنصر الأجنبي إن يكون مؤثرا في العلاقة، وهذا الأمر يتوقف على
طبيعة كل علاقة، فإذا أبرم جزائري عقد زواج مع أجنبية فان هذه العلاقة تثير تنازعا
في القوانين لكون عنصر الأشخاص مؤثر فيها، أما إذا اشترى سائح أجنبي بضاعة من
السوق المحلية في الجزائر، فإن العنصر الأجنبي هنا غير مؤثر و بالتالي فان هذه
العلاقة لا تثير تنازعا في القوانين ، بخلاف الأمر لو تعلق العقد بصفقة كبيرة
تتضمن انتقال الأموال خارج الحدود الوطنية(1).
الـفـرع الـثاني:الـنظم
القانونية القديمة و نظريتها إلى العلاقة القانـونـية ذات العـنصـر الأجـنبي
كانت
نظرة المجتمعات القديمة للأجنبي عدائية، لذلك لم يكن هناك اتصال كبير بين الوطنيين
و الأجانب كما لم يكن للأجنبي أي شخصية قانونية، أو أية حقوق إذا خرج من دولته،
وهذا النفور من كل ما هو أجنبي فسر بأن المدنيات القديمة كانت قائمة على الدين و
بما إن الأجنبي لم يكن يشارك في الطقوس الدينية فلا يحق له إذن المشاركة في
القوانين(2).
و
مع تقدم الفكر الإنساني و الإحساس بتماثل البشر، و نشأة علاقات مختلفة بين
الكيانات السياسية المتجاورة ، بدأت النظرة للأجنبي بالتغير بعض الشيء و مما ساهم
في تحسينها المبادلات التجارية، و الحاجة للسلع و الخدمات التي تؤديها الأجانب، كل
هذا أدى إلى تحسن الوضع القانوني للأجانب.
1-
الـشـريعـة الـيـونـانـيـة:
لم
تكن المدن اليونانية القديمة تعرف تنازع القوانين، بل كانت كل مدينة تطبق قانونها
الخاص على المنازعات التي تعرض أمام قضاءها ، غير أن الجوانب الإجرائية أما هذه
المحاكم كانت منظمة بمعاهدات بين هذه المدن، كما أن الأجنبي كان يمكنه الحصول على
جزء من الحماية القانونية الممنوحة للوطني عن طريق نظام الضيافة الذي يدخل بموجبه
الأجنبي تحت حماية احد الوطنيين(3).
2-
الـشـريـعـة الـرومـانـيـة :
لم
تكن الشريعة الرومانية القديمة تعرف تنازع القوانين ، و لم يكن للأجنبي في روما
القديمة أي شخصية قانونية أو أية حقوق،و كان القانون المدني الروماني يطبق فقط على
الرومانيين غير أن توسع الإمبراطورية الرومانية
دخول العديد من الشعوب تحت سلطتها واتساع المعاملات بين الرومانيين و
الأجانب أو بين الأجانب فيما بينهم دفع الرومان إلى إصدار
قانون يحكم هذه العلاقات و كان هـذا القانون
(1) : هشام علي صادق : دروس في تنازع القوانين ، دار
المطبوعات الجامعية طبعة 2003 ص 4.3
(2) : Mohand Issad. droit
international privé OPU. tome 1. 2ème édition 1983. p25
(3)
: هشام خالد، مدخل إلى القانون الدولي الخاص
العربي، دار الفكر الجامعي، الطبعة الأولى 2003، ص 15
هو
قانون الشعوب « Jus gentium »الذي
كان يحكم العلاقات القائمة فيما بين الأجانب و كان لهذا القانون قضاء خاص به، و
الملاحظ أن الرومان و إن كانوا قد عرفوا ظاهرة التنازع إلا أن حلها لم يكن يتضمن
إمكانية تطبيق قانون أجنبي، بل كان عن طريق وضع قواعد قانونية موضوعية مسبقة تنظم
هذه العلاقات.
الـفـرع
الـثـالـث :
تـنـازع الـقـوانـيـن فـي الـشـريـعـة الإسـلامـيـة
لم
يطرح الفقهاء المسلمون مسالة تطبيق القانون الأجنبي في صيغة تنازعية مع الشريعة
الإسلامية لأن ذلك يقتضي الاعتراف بمساواة
الشريعة الإسلامية مع الشرائع الأجنبية الأخرى، و هذا يتعارض في نظرهم مع دور
الإسلام الريادي بوصفه الدين الذي يعلوا على جميع الديانات(1)، لذلك لم
يكن هناك خلاف بين الفقهاء على أن القاضي المسلم إذا عرض عليه النزاع فانه لا يحكم
إلا بأحكام الشريعة الإسلامية، سواء كان النزاع بين مسلمين، أو بين غير مسلمين،
سواء كانوا رعايا و هم أهل الذمة أو كانوا أجانب و هم المعاهدون أو المستأمنون ،
فالجنسية في الإسلام لا تقوم إلا على الديانة, و ليس على أي رابطة أخرى.
لكن
هذا لا يعني أن الشريعة الإسلامية تعتنق مبدأ الإقليمية المطلقة ، حيث كان الأجانب
يتركون لما يعتقدون في قضاياهم الخاصة خصوصا
تلك القضايا المتعلقة خصوصا بالأحوال الشخصية كالأنكحة وما يتعلق بها، ففي
هذه القضايا كان يطبق على الأجنبي قانونه الشخصي، غير أن القاضي المسلم لا يطبقها
بل يرفع النزاع إلى رؤسائهم في الملة أو الدين(2)،و هذا ما يعني وجود
تلازم مطلق بين الاختصاص التشريعي و القضائي، فإذا انعقد الاختصاص للقاضي المسلم
أو ترافع أمامه الأجانب برضاهم حتى في القضايا الخاصة بهم، فإنه يطبق الشريعة
الإسلامية و لا تثور مسألة التنازع أمامه مطلقا.
الـفـرع
الــرابــع : الـمـدارس
الأوروبـيـة الـحـديـثـة و نـشـأة تنازع الـقـوانـيـن
لم
تظهر القواعد العامة لتنازع القوانين إلا مع نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الحديث
مع تهيأ الظروف المناسبة لها، إذ أن ظهور نظرية التنازع و ما يستتبعها من إمكانية
تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، كان يتطلب توفر عاملين أولهما قيام
علاقات سلمية متطورة بين كيانات سياسية متجاورة و العامل الثاني هو ضرورة أن تكون
القوانين متقاربة و لا توجد بينها اختلافات جوهرية حتى يسهل تطبيق هذه القوانين في
الدول الأخرى، هاذين العاملين لم يتوفر إلا في إيـطاليا حـيث كانت مدن الشمال
(1) : Mohand Issad. op.
cit. p40
(2): رمزي محمد علي دراز، فكرة تنازع
القوانين في الفقه الإسلامي، دار الجامعة الجديدة للنشر، طبعة 2004 ص 286
الايطالية
المستقلة تربطها علاقات تجارية و اجتماعية متطورة كما أن قوانين هذه المدن لم تكن
مختلفة اختلافا كبيرا نظرا لوحدة المصدر: القانون الكنيسي(1).
1-
الـمـدرسـة الإيـطـالـيـة الـقـديـمـة: (مـدرسـة الأحـوال )
كان
للعلاقات الاقتصادية و الاجتماعية المتنوعة التي ارتبط بها سكان المدن الايطالية
دور في دفع الفقه إلى البحث على القانون الأنسب الذي تخضع له هذه العلاقات، و قد
اهتدى الفقهاء الايطاليون القدامى و على رأسهم الفقيه بارتول "BARTOLE " إلى منهجية
تقوم على تحليل القوانين أو الأحوال "status" لمعرفة ما
يطبق منها تطبيقا إقليميا، و سموها الأحوال العينية، و ما يطبق منها تطبيقا شخصيا
بغض النظر عن الإقليم الذي يتواجد فيه الشخص، و سموها الأحوال الشخصية، و هذا
التقسيم لا يقوم على أي فكرة مسبقة بل يراعى فيه فقط المنطق القانوني و حاجة
المعاملات.
و
هكذا فان فقهاء المدرسة الايطالية توصلوا إلى سن عدة قواعد، بعضها لا يزال يطبق
حتى الآن، من ذلك مثلا أنهم فرقوا بين
إجراءات التقاضي و القوانين الموضوعية الأخرى، و أخضعوا الإجراءات إلى قانون
القاضي الذي يعرض عليه النزاع، كما أنهم أخضعوا الجرائم إلى قانون مكان وقوع الفعل،
أما المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية فقد أخضعوها لقانون موطن الشخص و يتبعه هذا
القانون أينما ذهب، كما أن نواة فكرة النظام العام في إطار القانون الدولي الخاص تعود لهم، إذ فرقوا
ما بين الأحوال المستحسنة التي يمكن أن تطبق خارج الإقليم و الأحوال المكروهة التي
يقتصر على تطبيقها على داخل الإقليم دون
أن تمتد خارجه.
و
الملاحظ على المنهج الذي اعتمدته هذه المدرسة انه منهج تحليلي يرتكز على تحليل
طبيعة كل قانون، دون الانطلاق من مبدأ مسبق, لهذا فان الحلول التي اقترحتها جاءت
عالمية و عامة و صالحة للتطبيق في أي وقت.
2-
مـدرســة إقـلـيـمـيـة الـقـوانـيـن : فـقـه داجـنتـريـه
« d’Argentré »
أسس
دارجنتريه منهجه في حل التنازع على فكرة الإقليمية، إذ يرى أن الأصل هو إقليمية القوانين
أي تطبيقها على جميع السكان الذين يتواجدون فوق إقليم معين، و الإستثناء هو أن
القوانين قد تكون شخصية فتطبق على الشخص و لو كان خارج الإقليم. و يعود تغليب فكرة
الإقليمية لدى هذا الفقيه الفرنسي إلى تأثره بظروف بيئته الإقطاعية " مقاطعة بريتاني
" التي كانت تسعى إلى الإحتفاظ بهويتها بعد ضمها إلى التاج الفرنسي.
(1) : Mohand Issad. op.
cit. p45
و
هكذا فقد انتهى داجنتريه إلى أن القانون يطبق تطبيقا إقليميا، إذا كان متصلا
بالأموال بصرف النظر عن جنسية الشخص أو موطنه، أما إذا ما تعلق بحالة الأشخاص و
أهليتهم فإنه يطبق على الشخص أينما ذهب، غير أنه يحصر أهلية الشخص في الأهلية
العامة فقط كتحديد سن الرشد و عوارض الأهلية، أما ما يسمى بالأهلية الخاصة و
الأحوال المختلطة التي تتصل بنظام الأسرة و الأموال في نفس الوقت كالميراث و
الوصايا، فتخضع لقانون الإقليم الذي توجد عليه لان أصل هو إقليمية القانون.
3-
نـظـريـة شـخـصـيـة الـقـوانـيـن : فـقـه مـانـشـيـني « Mancini »
المبدأ
الذي ينطلق منه "مانشيني " في تأسيس منهجه لحل تنازع القوانين، هو أن
الأصل أن يطبق القانون تطبيقيا شخصيا، مهما كان المكان الذي يقيم فيه هذا الشخص،
فالقوانين في نظره لم توضع لتطبق في إقليم معين و إنما وضعت لتحكم الأشخاص أينما
ذهبوا(1).
و
قد كان مذهب مانشيني في تنازع القوانين وليد الظروف السياسية التي كانت تمر بها
إيطاليا آنذاك حيث كان مجزأة إلى عدة أقاليم، تسعى إلى التوحد و الإستقلال عن
النمسا، لذلك كان يرى أن كل أمة يجب أن تكون لها دولة، و أن هذه الأخيرة ليست في
الحقيقة إلا الأمة(2).
غير
أن مانشيني اضطر إلى إيراد استثناءات عديدة على مبدأ شخصية القوانين، و هكذا فقد
استثنى القوانين المتعلقة بالنظام العام كالقواعد المنظمة للملكية و قوانين
البوليس، و القواعد المتعلقة بشكل التصرفات الخارجي، و القانون المطبق على العقود
الذي يخضع حسبه لمبدأ سلطان الإرادة، حيث تطبق هذه القوانين تطبيقا إقليميا كاستثناء
على مبدأ شخصية القوانين.
و
الملاحظ أن كل من "دارجنتريه " و "مانشيني " قد أسسا منهجهما
في حل تنازع القوانين على فكرة مسبقة و هي الإقليمية عند الأول، و الشخصية عند
الثاني، و أن كلا منهما اضطر إلى وضع استثناءات عديدة على المبدأ الذي انطلاقا منه
ممن جعلهما في الأخير يصلان إلى نتائج تكاد تكون متشابهة، على خلاف المدرسة الإيطالية
القديمة التي كان منهجها تحليليا لا يقوم على فكرة مسبقة و إنما على اعتبارات
المنطق القانوني المجرد من جهة و المتطلبات العلمية و اعتبارات العدالة من جهة
أخرى(3).
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، دار الكتاب الحديث، الطبعة الثالثة
1993
(2): علي سليمان، مذكرات في القانون الدولي الخاص الجزائري، ديوان
المطبوعات الجامعية الطبعة الثالثة 1991 ص 33
(3):هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 44
4-
الـمـدرسـة الـعـالـميـة : فـقـه سـافـيـني "Savigny"
اتبع
الفقيه الألماني سافيني في حل مشكل تنازع القوانين المنهج التحليلي، الذي اتبعته
المدرسة الإيطالية القديمة، غير أنه لم يعتمد على تحليل القوانين و تقسيمها إلى
عينية و شخصية بل اعتد أساسا بتحليل الروابط القانونية التي يقوم عليها التنازع، و
نقطة البداية عنده أن الدول الأوروبية الوارثة للقانون الروماني و الديانة
المسيحية، يجمعها " إشتراك قانوني " و يترتب على هذا الإشتراك القانوني
أن حلول تنازع القوانين التي توحي بها مقتضيات العدالة تكون واحدة و مقبولة لدى
الجميع، و لن يكون هناك محل للتعصب لإقليمية القانون أو العمل على تغليب قانون على
آخر(1).
ثم
انتقل سافيني بعد ذلك إلى تحليل الروابط القانونية، و أوضح أن لكل رابطة مركز
مكاني معين و من ثم يتعين إخضاعها إلى قانون هذا المكان، و هكذا فقد انتهى إلى
إخضاع الروابط المتعلقة بحالة الأشخاص و أهليتهم إلى قانون المكان التي يتوطن فيه
هؤلاء و الروابط المتعلقة بالأموال إلى قانون موطن الأموال، أما الروابط التعاقدية
فقد ارتأى إخضاعها إلى قانون المكان الذي ينفذ فيه العقد، فيما يخص الإلتزامات
المترتبة عن الفعل الضار فقد أخضعها لقانون محل وقوع الفعل(2).
و
في النهاية أوضح سافيني أن تطبيق قواعد التنازع السالفة الذكر، يتطلب وجود
"اشتراك قانوني " في الأصول العامة بين قانون دولة القاضي و القانون
الأجنبي، أما إذا تبين للقاضي انقطاع هذا الاشتراك القانوني المفترض، فإنه يستبعد
القانون الأجنبي باسم النظام العام و كان بهذا أول من استعمل هذه الفكرة بمعناها
الحالي كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي.
لقد
كان للمنهج الذي اتبعه سافيني القائم على تحليل الروابط القانونية انتشار كبير، إذ
أخذت به معظم التشريعات المعاصرة، نظرا لما يتميز به هذا المنهج خصوصا قيامه على
اعتبارات المنطق القانوني المجرد، و عالمية الحلول التي أتى بها .
الـمـطـلـب
الـثـانـي :الأنـظـمـة الـقـانـونـيـة و
الـقـوانـيـن مـوضـوع الـتـنـازع
انتهينا
في المطلب الأول إلى أن العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي تثير تنازعا في القوانين، بشأن تحديد القانون
الأنسب الذي يحكم هذه العلاقة، و رأينا أن حل هذا التنازع يتم عن طريق قواعد
التنازع التي نشأت تدريجيا، و اكتملت مع الفقيه الألماني "سافيني"، غير
أن هذا لا يعني أن التنازع يثور أمام القاضي إزاء كل نزاع يحتوي على عنصر أجنبي،
فيشترط لقيام التنازع أن يكون القانون الأجنبي صادر عن دولة أجنبية ذات سيادة هذا
من جهة، و من جهة أخرى فإن التنازع لا يكون إلا بين القوانين الخاصة و تستبعد
قواعد القانون العام.
(1):عز الدين عبد الله، القانون الدولي الخاص ن دار النهضة العربية،
الطبعة الثامنة 1977 ص 48
(2):هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 45
الــفـــرع
الأول: الأنــظـمـة الـقـانـونـيـة
الـمـتـنـازعـة
يشترط
لقيام التنازع أن يكون القانون الأجنبي صادر عن دولة أجنبية ذات سيادة، و تتمتع
بهذا الوصف وفقا لقواعد القانون الدولي العام، و منه يستبعد التنازع الداخلي في
الدول المتعددة الشرائع و تستبعد أيضا القوانين الصادرة عن كيانات لا تتمتع بوصف
الدولة، كما أن الاعتراف بالدولة و الإعتراف بالحكومة يطرح مشكلا في هذا المجال في
مدى اشتراطه لقيام التنازع بين قانون دولة القاضي و القانون الصادر عن دولة أو
حكومة غير معترف بها.
1-
الـصـفـة الـدولـيـة لـلـتـنازع
:
يقصد
بالصفة الدولية للتنازع أن تكون القوانين محل التنازع صادرة عن دول ذات سيادة،
وتتمتع بوصف الدولة طبقا لقواعد القانون الدولي العام، و من هنا ينبغي استبعاد
القوانين الصادرة عن كيانات لا تمتع بوصف الدولة.
و
قد أقر القضاء الإنجليزي هذا المبدأ في قضية تتلخص وقائعها، في أن موطنا انجليزيا
تزوج بامرأة تنتمي إلى إحدى القبائل الإفريقية و أنجب منها ولدا، ولما توفي طالبت
المرأة بنصيبها و نصيب ابنها من الميراث، على أساس أن عقد الزواج كان صحيحا وفقا
لعادات القبيلة الإفريقية و هو ما يتفق مع قاعدة الإسناد التي تخضع شكل الزواج إلى
قانون بلد إبرامه، غير أن المحكمة العليا في انجلترا طبقت القانون الانجليزي و
رفضت طلبات المدعية لأن عقد الزواج غير صحيح و كون المسألة لا تنطوي على أي تنازع
لأنه لا يتصور أن ينشأ التنازع بين القانون الانجليزي، و الأعراف المتبعة في قبيلة
المدعية(1).
2-
الإعـتـراف بـالـدولـة :
إذا
كانت الدولة تكتسب وجودا واقعيا على الصعيد الدولي عندما تجتمع جميع عناصرها
(الإقليم، الشعب، السلطة ذات السيادة ) فأن هذا الوجود لا يسري تجاه الدول الأخرى
إلا بالاعتراف(2). و على أساس هذا المبدأ يميل الاتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى أن القاضي لا يمكنه أن يطبق
قانون دولة أجنبية لا تعترف بها دولته، و تعتبر غير موجودة في نظرها، و إلا وقع في
تناقض مع الموقف السياسي الذي تتخذه حكومته.
غير
أن بعض الفقه يرى أن القاضي يمكنه أن يطبق قانون دولة لا تعترف بها حكومته، معللا
ذلك باختلاف الرسالة التي يؤديها القاضي عن الموقف الذي يمكن أن تتخذه حكومته،
فالقاضي يستطيع فقط لتطبيق القانون الأنسب على النزاع المطروح أمامه حتى و لو كان
قانون دولة غير معترف بها، و هذا لا يـتناقـض مـع موقف حـكومـته التي ترفض الاعتـراف
بالـدولة الأجنبية لأسـباب سياسـية تراها
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 69
(2): سامي بديع منصور، القانون الدولي الخاص، الدار الجامعية للنشر، ص 69
ويضيف
هذا الإتجاه أن عدم الاعتراف بالدولة الأجنبية لا يلغي حقيقة أن القانون الأجنبي
هو المطبق فعلا في تلك الدولة، كما أنه لا يمنع استمرار المعاملات و انتقال
الأشخاص بين الدولتين(1).
والواقع
أن هذا الرأي ليس له تطبيقات في الإجتهاد القضائي المقارن، الذي يتبنى الرأي الأول
وهو عدم تطبيق القانون الأجنبي في غياب الاعتراف بالدولة الأجنبية، و هو ما يعني
تجاهل هذه الدولة و إنكار أي وجود لها على الصعيد الدولي من قبل كل السلطات في
الدولة.
3-
الإعـتـراف بـالـحـكـومـة
:
أثارت
مسألة الإعتراف بالحكومة الأجنبية كشرط لتطبيق القانون الأجنبي جدلا واسعا في
الفقه و القضاء, و طرحت هذه القضية لأول مرة عام 1917 بعد قيام الثورة البلشفية في
روسيا, و وصول حكومة شيوعية إلى الحكم لم تعترف بها الكثير من الدول الغربية إلا
بعد مرور مدة طويلة، وقد ألقى هذا الموقف بظله على القضاء فرفضت المحاكم الفرنسية
والبلجيكية و الإنجليزية تطبيق القوانين الصادرة عن هذه الحكومة بدعوى أنها صدرت
عن حكومة غير معترف بها، وطبقت بالمقابل القانون الوطني للقاضي أو القانون الذي
كان ساريا قبل قيام الثورة في بعض الأحكام.
وبالمقابل
فقد طبق القضاء الألماني و النمساوي القانون الصادر عن الحكومة الجديدة غير
المعترف بها, على أساس أنه القانون المطبق فعلا في روسيا، ويميل الفقه الحديث إلى
هذا الرأي معتبرا أن عدم الإعتراف بالحكومة أو بالسلطة القائمة في دولة ما هي إلا
مسألة سياسة, لا أثر لها على العلاقات الخاصة بالأفراد, معتبرا فضلا عن ذلك أن
تطبيق القوانين التي كان معمولا بها في ظل السلطة القديمة كما قضت بذلك بعض
الأحكام يتنافى مع حكمة قاعدة الإسناد الوطنية, التي تفترض أن يكون القانون
الأجنبي الذي أشارت إليه هو المطبق فعلا في تلك الدولة(2).
و
إلى هذا الرأي أصبح يميل الاجتهاد القضائي الفرنسي، إذ أن محكمة النقض الفرنسية
اعتبرت في قرار لها صادر بتاريخ 03 ماي 1973 أن " عدم الإعتراف بحكومة أجنبية
لا يمنع القاضي من تطبيق القانون الصادر عن هذه الحكومة قبل الاعتراف بها باعتباره
القانون المطبق فعليا على هذا الإقليم "(3).
(1) : Mohand Issad. op.
cit. p110
(2): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 67
Revue critique de droit international
privé, édition sirey. 1975 n° p 426 :(3)
الـــفــرع
الــثــانـــي:الـقـوانـيـن
مـوضــوع الـتـنـازع
لا
يثور التنازع كقاعدة عامة إلا بين فروع القانون الخاص التي تنظم العلاقات الخاصة
بين الأفراد في المجتمع، أما قواعد القانون العام التي تستهدف تنظيم المصالح
العليا للمجتمع و حمايتها، فهي لا تثير مبدئيا إلا مسألة تحديد مجال تطبيقها من حيث المكان، غير أن
الأمر ليس كذلك في كل الحالات فقد يضطر القاضي إلى الرجوع إلى أحكام القانون العام
الأجنبي و مراعاتها في بعض الحالات.
1-
الـصـفـة الـخـاصـة للـقـوانـيـن مـحل الـتنـازع
:
لا
يثور التنازع إلا في نطاق العلاقات القانونية الخاضعة للقانون الخاص، حتى و لو كان
أحد أطرافها شخص معنوي عام، و على هذا الأساس فالتنازع يكون بين القوانين المتعلقة
بالحالة الشخصية أو المعاملات المالية كقانون الأسرة, القانون المدني، والقانون
التجاري.
أما
المراكز القانونية الخاضعة للقانون العام فهي لا تثير أمام القاضي إلا مسألة تحديد
نطاق تطبيقها من حيث المكان، فقانون العقوبات الجزائري حدد مجال تطبيقه بموجب نصوص
خاصة ( المادة 03 من قانون العقوبات) و (المواد من 582 إلى 589 من قانون الإجراءات
)، فإذا رأى القاضي الجزائري أن الجريمة المرتكبة لا تدخل في نطاق اختصاصه بموجب
النصوص السالفة الذكر، فإنه يقضي بعدم الإختصاص دون أن تثار مسألة التنازع أمامه.
و
يجد هذا الفرق بين القوانين الخاصة و العامة تفسيره، في أن القوانين العامة تهتم
بحماية المصلحة العليا للمجتمع الذي صدرت فيه و بالتالي فإن هذه القوانين تبقى
محصورة في نطاق إقليم الدولة الذي صدرت فيه، و لا يمكن أن يناط الإختصاص لقاض
أجنبي لحماية المصلحة العليا لمجتمع آخر فهو أمر منوط فقط بالقضاء الوطني لكل دولة،
بينما تنظم القوانين الخاصة مصالح الأفراد
و لا تمس مصلحة المجتمع إلا بطريقة غير مباشرة، ومنه فإن المشرع فتح بخصوصها المجال
لتنازع القوانين، فالتلازم بين الإختصاص القضائي و التشريعي لم يعد قائما في
المجالات الخاضعة لقانون الخاص، بينما هذا التلازم لا يزال قائما في مجال القوانين
العامة، فالقاضي الوطني لا يطبق إلا قانونه العام(1).
2-
تـطـبـيـق الـقـانـون الـعـام الأجـنـبـي فـي بـعـض الـحالات
:
بالرغم
من أن التنازع يكون كما قلنا محصور بين القوانين الخاصة، إلا أن القاضي يجد نفسه
في بعض الحالات مضطرا إلى الرجوع إلى أحكام القانون العام الأجنبي بصفة تبعية
لتطبيقه القانون الخاص فعلى سبيل المثال: إذا تصدى القاضي إلى دعوى إبطال زواج تم
في دولة أجنبية بسبب خروج الموثق عن اختصاصه، فسوف يضطر إلى الرجوع إلى أحكام
القانون العام الأجنبي التي تحدد سلطات الموثق و اختصاصه.
Yvon Lousouarne,
Piere Bourel, droit international privé Dolloz, 4ème édition, 1993, p :105:(1)
كما
أن القضاء الفرنسي طبق في بعض أحكامه القوانين الأجنبية الخاصة بالحماية الإجتماعية
للعمال كالقوانين المتعلقة بحوادث العمل و التأمينات الإجتماعية، على الرغم من أن
الاتجاه الفقهي الأغلب يعتبرها من فروع القانون العام(1).
و قد أدت هذه التطبيقات القضائية، بجانب
من الفقه الحديث إلى القول بأن تنازع القوانين قد يكون بين القوانين العامة مثل
القوانين الخاصة تماما، غير أنه ما يمكن قوله هو أن حالات رجوع القاضي إلى القانون
العام الأجنبي غير بعيدة الحدوث، لكن قيام التنازع بين القوانين العامة أمر غير
مطروح، نظرا لارتباط القانون العام بفكرة السيادة التي تشكل عقبة تحول دون إدماجه
في القانون الدولي الخاص(2).
3-
تـطـبـيـق قـوانـيـن الأمـن و الـسـلامـة الـعامـة الأجـنـبيـة:
قوانين
الأمن و السلامة العامة هي قوانين إقليمية التطبيق، و هذا ما نصت عليه المادة 05
من القانون المدني الجزائري: "يخضع كل سكان الإقليم الجزائري لقوانين الشرطة
و الأمن " و تقابلها المادة 03 من القانون المدني الفرنسي، و هو ما يعني استبعاد
قوانين الشرطة و الأمن الأجنبية من التطبيق على الإقليم الجزائري، إذ أن هذه الأخيرة
شرعت لحماية النظام السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي في كل دولة.
كما
أن القاضي الجزائري لا يطبق من جهة أخرى القانون الأجنبي إذا ما تعارض مع قوانين
الأمن الوطنية، فهذه الأخيرة تدخل ضمن ما يسمى بالقواعد ذات التطبيق المباشر التي
تطبق مباشرة على النزاع المطروح، و لا تقبل التنازع مع أي قوانين أجنبية أخرى، و
تحديد ما إذا كان القانون المرتبط بالعلاقة القانونية المعروضة على القاضي هو
قانون يدخل ضمن قوانين الأمن و السلامة العامة يعود إلى القاضي، و معياره في ذلك،
أن هذه الأخيرة تهدف عادة إلى حماية النظام العام في الدولة و تكون في مجالات تغلب
فيها المصلحة العامة على المصلحة الخاصة(3).
(1): هشام علي صادق ن تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 50/51
(2) : Mohand Issad op, cit p103:(2)
(3): Mohand Issad op, cit p103:(3)
الـمــبـحـث
الــثـانــي : كـيـفـيـة انـعـقـاد الاخـتــصـاص
للـقـانـون الأجـنـبـي
لمعرفة
القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية المشتملة على عنصر أجنبي يلجأ
القاضي الوطني لاستشارة قاعدة الإسناد الوطنية التي تحدد له القانون الواجب
التطبيق، سواء كان قانونه الوطني أو قانونا أجنبيا له صلة بهذه العلاقة. و التساؤل
الذي يطرح هنا هو حول مدى التزام القاضي بتطبيق هذه القاعدة عن تلقاء نفسه، أم
يشترط لتطبيقها تمسك الأطراف في الدعوى بها؟
وعلى
هذا الأساس نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في المطلب الأول تطبيق القاضي
لقاعدة الإسناد الوطنية و في المطلب الثاني مدى إلتزام القاضي الوطني بتطبيق هذه
القاعدة تلقائيا.
الـمـطــلـب
الأول :تـطـبـيـق الـقـاضــي لـقـاعـدة
الإسـنـاد الـوطـنـيـة
يلجأ
المشرع لحل تنازع القوانين، إلى وضع قواعد قانونية مهمتها إرشاد القاضي إلى
القانون الواجب تطبيقه على هذه العلاقة تسمى هذه القواعد " قواعد الإسناد
". و تتميز بأنها قواعد غير مباشرة أي لا تطبق على النزاع مباشرة وإنما ترشد
القاضي إلى القانون الذي الواجب التطبيق على العلاقة محل النزاع، كما أنها قاعدة
مزدوجة قد تشير بتطبيق القانون الوطني أو القانون الأجنبي و إضافة إلى ذلك فان
قاعدة الإسناد قاعدة محايدة لأن المشرع عندما يضعها لا يعلم هل ستؤدي إلى تطبيق
القانون الوطني أم الأجنبي؟ و هذا لأن توزيع الإختصاص بين القانون الوطني و
الأجنبي قائم على أسس موضوعية مجردة.
و
كل قاعدة إسناد تتألف من عنصرين هما الفئة المسندة و هي مجموعة من المسائل القانونية
جمعها المشرع في فئة واحدة، و ضابط الإسناد الذي يعتبر بمثابة همزة الوصل بين
الفئة المسندة و القانون الواجب التطبيق، إلا أن القاضي قبل أن يقوم بتطبيق قاعدة
الإسناد يقوم بعملية التكييف من أجل إدخال العلاقة القانونية في إحدى الفئات
المسندة .
كما
أن قاعدة الإسناد قد تشير باختصاص قانون أجنبي لحكم العلاقة القانونية، غير أن
نصوص هذا القانون الخاصة بالتنازع، قد ترفض هذا الاختصاص و تحيل القاضي إما إلى
قانونه مرة أخرى أو تشير باختصاص قانون أجنبي آخر و هذا ما يطرح مشكلة الإحالة.
الــفـــرع
الأول : عــنــاصــر قــاعــدة الإسـنــاد
تتألف
قاعدة الإسناد من عنصرين: العنصر الأول هو الفئة المسندة و هي العلاقات القانونية
المتقاربة التي جمعها المشرع في فئة واحدة، و العنصر الثاني و هو ضابط الإسناد
الذي يربط العلاقة القانونية بالقانون المسند إليه.
1-
الـفـئـة الـمـسـنـدة:
المسائل
القانونية من الكثرة بحيث لا تدخل تحت حصر مما يجعل من المستحيل وضع لكل واحدة
منها قاعدة إسناد خاصة بها، و لذلك فإن المشرع عمد إلى جمع المسائل القانونية
المتقاربة في فئة واحدة تسمى الفئة المسندة.
وهكذا
فإن المشرع الجزائري على سيبل المثال جمع المسائل المتعلقة بالأهلية و الحالة
المدنية للأشخاص في فئة واحدة، و أسندها إلى قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم
(المادة 10 من القانون المدني )، و جمع المسائل المتعلقة بالميراث و الوصية و سائر
التصرفات التي تنفذ بعد الموت في فئة واحدة و أسندها إلى قانون جنسية الهالك أو
الموصي أو من صدر منه التصرف وقت موته (المادة 16 من القانون المدني ).
وعلى هذا الأساس فإذا ما طرح أمام
القاضي نزاع بشأن علاقة قانونية مشتملة على عنصر أجنبي فإن أول ما يقوم به هو
تحديد طبيعة هذه العلاقة لإدراجها ضمن إحدى الفئات المسندة, تمهيدا لإسنادها
للقانون المختص الذي يحدده ضابط الإسناد الخاص بها.
2-
ضــابــط الإسـنـاد:
بعد
أن قام المشرع بتصنيف المسائل القانونية المختلفة في فئات مسندة، عمد بعد ذلك إلى
إسناد كل فئة منها إلى قانون معين، عن طريق ضابط الإسناد، و هو بذلك عبارة عن أداة
ربط بها المشرع بين الفئة المسندة و القانون المسند إليه(1).
وهكذا
فأن المشرع الجزائري على سبيل المثال أخضع الإلتزامات غير التعاقدية ( الوقائع
القانونية ) إلى قانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للإلتزام المادة 20 من
القانون المدني، فهو بذلك اختار مكان وقوع الفعل كضابط إسناد بالنسبة إلى
الإلتزامات غير التعاقدية، و أخضع المسائل المتعلقة بالنسب إلى قانون جنسية الأب
وقت الميلاد الطفل (المادة 13 مكرر من القانون المدني ) فضابط الإسناد هنا هو
جنسية الأب الذي ربط بموجبه المشرع بين الفئة المسندة و القانون المسند إليه.
الـــفـــرع
الـــثـــانــي :
الــتــكـيــيــف
أشرنا
في السابق أن القاضي و قبل أن يقوم بربط الفئة المسندة بضابط الإسناد يقوم بعميلة
أولية هي تحليل العلاقة القانونية و إعطائها الوصف القانوني الصحيح تمهيدا
لإدراجها ضمن إحدى الفئات المسندة, و هو ما يصطلح عليه قانونا بالتكييف.
(1): بلقاسم أعراب، تنازع القوانين، دار هومة، طبعة 2002، ص 68
والتكييف
هو بهذا الوصف عملية يقوم بها القاضي في كل فروع القانون، كلما تصدى للفصل في أي
دعوى قضائية، فهو على سبيل المثال يكيف العقد ما إذا ما كان عقد عارية أو عقد
إيجار، و يكيف الجريمة فيما إذا كانت سرقة أو خيانة أمانة. غير أن ما يميز التكييف
في إطار القانون الدولي الخاص ليس عملية التكييف في حد ذاتها، و إنما القانون الذي
يتم التكييف طبقا لأحكامه هل هو قانون القاضي أم القانون الأجنبي الذي يطبق على
العلاقة ؟ فالمسألة إذن ليست مسألة تكييف و إنما تنازع في التكييف(1).
و
ما يعطي لهذه المسألة أهميتها في إطار تنازع القوانين هو أن قوانين الدول مختلفة في
تكييف المسائل القانونية التي يثيرها النزاع المطروح على القاضي، فمثلا تدخل قوانين
بعض الدول المشارطات المالية التي تصحب عقد الزواج ضمن نظام الأحوال الشخصية، و
تخضع بالتالي لقانون جنسية الشخص و تدخلها بعض القوانين في نظام العقود، و تخضع
تبعا لذلك للقانون الذي يختاره المتعاقدان، و بعض القوانين تدخل شكل الوصية في
نظام الأهلية فتخضع بالتالي لقانون جنسية الشخص و بعضها الآخر يدخلها ضمن نظام الشكل
و تخضع بالتالي لقانون محل التصرف(2).
وقد
طرحت مشكلة التكييف في إطار تنازع القوانين مبكرا، عبر عدة قضايا شهيرة كقضية
ميراث المالطي، و وصية الهولندي، و زواج اليوناني. وترتب على ذلك بروز عدة اتجاهات
فقهية لحل هذه المسألة ليس هنا مجال لعرضها جميعا، غير أن أبرز هذه الاتجاهات هو
الاتجاه الذي يخضع التكييف لقانون القاضي و هو الاتجاه الذي تبناه المشرع الجزائري
بموجب المادة 09 من القانون المدني.
ويعتبر
الفقيه الفرنسي بارتن "BARTIN" أبرز رواد
نظرية إخضاع التكييف لقانون القاضي و تبعه في ذلك الإتجاه الفقهي الغالب قديما و
حديثا، و تستند هذه النظرية في إخضاعها التكييف لقانون القاضي لعدة أسس، أهمها أن
التكييف لا يعدو أن يكون في الحقيقة إلا تفسيرا لقاعدة الإسناد الوطنية و بالتالي من
المنطقي إخضاعه لقانون القاضي، و منها أيضا أن القاضي في قيامه بعملية التكييف
يتأثر حتما بالمفاهيم القانونية المستقاة من قانونه الوطني(3).
و
يفرق هذا الاتجاه الفقهي بين التكييف الأولي La
qualification préalable و هو التكييف اللازم لأعمال
قاعدة الإسناد و يخضع لقانون القاضي و التكييف الثانويLa
qualification secondaire و الذي
يكون وفقا للقانون الذي عينته قاعدة الإسناد، كتكييف ما إذا كان العقد يشكل عقد أو
هبة أو إيجار. غير أن الفقيه الفرنسي بارتن أورد استثناء وحيدا على نظريته و هو ضرورة
الرجوع إلى قانون موقع المال، و
ليس قانون القاضي الوطني لتحديد وصف هذا الـمال أي ما إذا كان يـشكل عـقـارا أو
منقولا
(1) : Loussouarne. et Bourel, op, cit, p 180
(2): علي علي سليمان، مذكرات في
القانون الدولي الخاص الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الثالثة 1991،ص
41
(3): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 124
مبررا
ذلك بفكرة إستقرار المعاملات، و توطيد فكرة الطمأنينة و الأمن التي ينبغي آن تسود
إكتساب الحقوق العينية(1).
و
قد أخذ المشرع الجزائري بنظرية بارتن في التكييف بموجب المادة 09 من القانون
المدني التي تنص: " يكون القانون الجزائري هو المرجع في تكييف العلاقات
المطلوب تحديد نوعها عند تنازع القوانين لمعرفة القانون الواجب التطبيق". كما
أن المشرع الجزائري أخذ بموجب التعديل الجديد للقانون المدني بالاستثناء الذي
أورده بارتن على نظريته بخصوص الأموال و هكذا فقد نصت المادة 17/1"يخضع تكييف
سواء كان عقارا أو منقولا إلى قانون الدولة التي يوجد فيها".
الـــفـــرع
الـــثـــالـــث :
الإحـــالـــة
قد
تشير قاعدة الإسناد باختصاص قانون أجنبي لحكم العلاقة القانونية المطروحة على القاضي،
غير أن نصوص هذا القانون الخاصة بتنازع القوانين ترفض هذا الاختصاص و تحيله إما
إلى قانون القاضي مرة أخرى، و هذا ما يسمى بالإحالة من الدرجة الأولى، و إما إلى
قانون أجنبي آخر، و هو ما يسمى بالإحالة من الدرجة الثانية و هو ما يطرح أمام
القاضي الوطني مشكلة الإحالة، فهل يقبل الإحالة من القانون الأجنبي، أم يرفضها و
يطبق القواعد الموضوعية لذلك القانون دون الإلتفات إلى القواعد الخاصة بالتنازع؟
وتنبع
مشكلة الإحالة من اختلاف ضوابط الإسناد بالنسبة للفئة المسندة الواحدة من دولة إلى
أخرى فعلى سبيل المثال تعتبر الجنسية ضابط الإسناد في مسائل الحالة و الأهلية في
القانون الجزائري، بينما يعتبر موطن الشخص هو ضابط الإسناد في مثل هذه المسائل في القانون
الانجليزي، و هو ما يعني أنه إذا أحالت قاعدة الإسناد الجزائرية إلى القانون
الإنجليزي على أساس أنه قانون جنسية الشخص، فإن هذا الأخير سوف يحيلنا إلى قانون
آخر إذا لم يكن هذا الشخص متوطنا في إنجلترا.
و قد تعددت الآراء و الإجتهادات الفقهية في مدى
قبول الإحالة، و ما يهمنا هنا هو موقف المشرع الجزائري الذي أفصح عنه بموجب التعديل
الجديد للقانون المدني، إذ جاء في المادة 23 مكرر 1
" إذا تقرر أن قانونا أجنبيا هو الواجب
التطبيق فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون تلك الخاصة بتنازع القوانين من حيث
المكان غير أنه يطبق القانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في
القانون الأجنبي ".
و
هكذا فإن المشرع الجزائري أخذ بالإحالة من الدرجة الأولى أي عند ما تحيل قواعد
تنازع القانون الأجنبي على القانون الجزائري، بينما رفض الإحالة في الحالات
الأخرى.
(1): هشام علي صادق ،تنازع القوانين المرجع السابق ص 128
الـمطـلـب الـثـانـي:
مدى الـتزام الـقاضـي الوطـني بـتـطـبيق قـاعدة الإسـنـاد تـلقائيا
انتهينا
في المطلب الأول، إلى أن المشرع قد وضع كمنهج لحل تنازع القوانين قواعد إسناد
وطنية ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على النزاع، غير أن التساؤل الذي
يطرح هنا هو حول مدى التزام القاضي بتطبيق هذه القاعدة، خصوصا إذا لم يتمسك
الأطراف في الدعوى بتطبيقها، و ظهر للقاضي من أوراق الدعوى وجود العنصر الأجنبي في
العلاقة القانونية، و هو ما يعني ارتباطها بأكثر من قانون واحد قد يحكمها، أي من شأن
هذه العلاقة أن تثير تنازعا في القوانين.
إن
الإجابة على هذا التساؤل لا تثير أي صعوبة إذا كان القانون الوطني هو المختص،
فتطبيق القاضي للقانون الوطني مباشرة يعتبر تطبيقا ضمنيا لقاعدة الإسناد، لكن الإشكال
يكمن في حالة ما إذا كان القانون الأجنبي هو المختص، و لم يثر الأطراف في الدعوى
تطبيق قاعدة الإسناد إما لأنهم لا يعلمون بها، أو تعمدوا السكوت عنها، فهل يطبق
القاضي قاعدة الإسناد تلقائيا كلما ظهر له العنصر الأجنبي في العلاقة؟
لقد
تعددت الإجابات حول هذه المسألة في الفقه والقضاء المقارن، فهناك اتجاه يكرسه
القضاء في البلاد الأنكلوسكسونية مناهض لمبدأ تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد من
تلقاء نفسه، و هناك اتجاه في الدول الأخرى يتبنى موقفا معاكسا للموقف الأول، وبين
هاذين الاتجاهين تتبنى محكمة النقض الفرنسية موقفا خاصا من هذه المسألة، أما في
الجزائر فإن القضاء لم يتناول بعد هذه المسألة، كما أن المشرع الجزائري لم يأت بنص
صريح في شأنها.
الــفـرع الأول:
الاتـجـاه المـناهـض لـمـبدأ تـطـبيق القـاضي لقاعدة الإسناد مـن تلقاء نفسه
هذا
الاتجاه يكرسه القضاء في انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا و البلاد
الأنكلوسكسونية بصفة عامة، و مفاده أنه يقع على عاتق الطرف في الدعوى الذي يتمسك
بتطبيق قاعدة الإسناد التي تشير باختصاص قانون أجنبي أن يثيرها أمام القاضي، و
يثبت أن القانون الأجنبي الذي يتمسك به يختلف مضمونه عن القانون الوطني في المسألة
القانونية محل النزاع، و إذا لم يتمكن من ذلك فإن القاضي يطبق قانونه الوطني. و
يؤسس هذا القضاء موقفه على أساس افتراض أو "حيلة قانونية " مفادها أن
هناك تطابقا بين القانون الوطني و القانون الأجنبي المختص بموجب قاعدة الإسناد و
على من يدعي خلاف ذلك أن يتمسك بتطبيق هذه القاعدة و يثبت اختلاف مضمون القانون
الأجنبي(1).
إن
هذا الموقف الذي يتبناه القضاء في هذه البلاد من مسألة التطبيق التلقائي لقاعدة
الإسناد، يمكن أن يفسر بموقف هذه الأنظمة من الخصومة المدنية بوجه عام، ومن
القانون الأجنبي بوجه خاص، إذ أن القاضي في هذه الأنظمة لا يتمتع بأي دور إيجابي
في الخصومة المدنية، و ينحصر دوره في مراقبة مدى
(1): عكاشة محمد عبد العال، تنازع القوانين، دراسة مقارنة: دار المطبوعات
الجامعية، طبعة 2002، ص 297
احترام
الخصوم لإجراءات القانونية، و على الخصوم إثبات الوقائع بكل حرية و التمسك بها
أمام القاضي بينما يطبق القاضي القانون عليها، و من جهة أخرى فإن القانون الأجنبي
وفقا لهذه الأنظمة لا يعدوا إلا أن يكون مجرد واقعة على الطرف صاحب المصلحة التمسك
به و إثباته(1).
و
قد تعرض هذا الإتجاه إلى عدة انتقادات، فهو أولا يؤسس موقفه على أساس حجة مصطنعة لا
وجود لها في الواقع و هي افتراض تطابق القانون الوطني مع القانون الأجنبي، و الحق
أن هذا الافتراض لا وجود له في الواقع بالنظر إلى اختلاف قوانين الدول المختلفة و
تعددها، كما أن هذا الاتجاه أخلط بين التطبيق التلقائي لقاعدة الإسناد و إثبات
القانون الأجنبي، و التي هي مسألة مستقلة لها حلولها الخاصة، و هذا ما دعا جانبا
من الفقه الانجليزي الحديث إلى انتقاد هذا الخلط مفضلا الدعوة إلى تطبيق القانون
الإنجليزي عند تعذر إثبات القانون الأجنبي (2).
الــفـرع الــثـانـي: الاتـجاه الـمـؤيـد لـتـطبيق القـاضي لقـاعـدة
الإسناد من تلقاء نفسه
يتبنى
هذا الإتجاه خصوصا القضاء في ألمانيا، الذي استقر منذ أواخر القرن التاسع عشر على
أن القاضي ملزم في جميع الأحوال بتطبيق قاعدة الإسناد، و لا يعفى من هذا الإلتزام
حتى و لو كان القانون الأجنبي المختص يتبنى نفس الحل للنزاع الذي يتبناه المشرع
الوطني، كما أنه يمكن التمسك بتطبيق قاعدة الإسناد لأول مرة أمام محكمة النقض
الألمانية بوصفها مسألة قانون تخضع لرقابة هذه المحكمة(3).
كما
أن هذا الموقف تبنته العديد من التشريعات الحديثة بنصوص صريحة، مثل القانون
النمساوي (المادة 2، 3) و القانون المجري (المادة 5)، القانون السويسري (المادة
16)، كما أوصى بإتباع هذا الموقف مجمع القانون الدولي في دورته لعام 1989 حيث أوصى
بتطبيق القاضي لقاعدة الإسناد تلقائيا، و بتطبيق القانون الأجنبي الذي تعينه من
جهة أخرى(4).
و
يؤسس هذا الإتجاه موقفه على أساس أن قاعدة الإسناد الوطنية قاعدة آمرة، و متعلقة
بالنظام العام في جميع الحالات، وضعها المشرع الوطني بغية تحقيق الإستقرار في
المعاملات الدولية الخاصة باختيار القانون الأنسب الذي يحكم هذه المعاملات، و منه
فإن القاضي ملزم بتطبيقها حتى و لو اتفق الخصوم صراحة على استبعادها(5).
(1): حفيظة
السيد الحداد، الموجز في القانون الدولي الخاص "الجزء الأول " منشورات
الجليس الحقوقية، الطبعة الأولى 2004 ص 35
(2): حفيظة السيد الحداد، المرجع السابق ص35
(3): نادية فوضيل:
تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، دار هومة طبعة 2002، ص 11
(4): حفيظة السيد الحداد، المرجع السابق، ص 38
(5): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 252
الـفــرع
الــثــالــث : مـوقـف مـحـكـمـة الـنـقـض
الـفـرنـسـيـة
انتهى
اجتهاد محكمة النقض الفرنسية إلى اتخاذ موقف وسط من مسألة التطبيق التلقائي لقاعدة
الإسناد الوطنية، و قبل أن نعرض للموقف الذي استقر عليه حاليا اجتهاد المحكمة سوف
نستعرض تطور اجتهادها القضائي و المراحل المختلفة التي مر بها.
نقطة البدء في تطور هذا الاجتهاد ترجع إلى قرار
بيسبال "BISBAL" الشهير الصادر في 12 ماي 1959، حيث تبنى هذا القرار موقفا
قريبا من موقف القضاء في البلاد الأنكلوسكسونية إذا جاء فيه "أن قواعد
الإسناد الفرنسية لا تتعلق بالنظام العام على الأقل، حين تشير باختصاص القانون
الأجنبي و أنه على الأطراف التمسك في هذه الحالة بتطبيقها، و من ثم فإنه لا يمكن
النعي على محكمة الموضوع لعدم تطبيقها القانون الأجنبي تلقائيا، و تطبيق القانون
الفرنسي الذي له الصلاحية لحكم جميع علاقات القانون الخاص"(1).
و
قد أثار هذا الموقف انتقادا حادا من جانب الفقه الفرنسي، الذي أخذ عليه إعطاءه
قاعدة الإسناد طبيعة قانونية مختلفة حسبما إذا كانت تشير بتطبيق القانون الفرنسي
أو القانون الأجنبي، ففي الحالة الأولى تعتبر قاعدة آمرة من النظام العام و في
الحالة الثانية لا تعتبر كذلك، كما أنه وفقا لهذا الاجتهاد فإن الخصوم يمكنهم
التحايل على قاعدة الإسناد الوطنية باتفاق مشترك بينهم على عدم التمسك بها، و هو
ما كان في قضية قرار بيسبال إذ أن الزوجين الإسبانيين حصلا على الطلاق وفقا للقانون
الفرنسي رغم أن القانون الإسباني كان يسمح في ذلك الوقت بالانفصال الجسماني فقط و
لم يكن يسمح بالطلاق (2).
وقد
خففت بعد ذلك المحكمة من حدة موقفها فسمحت للقاضي بموجب قرارها الصادر في 02 مارس
1960 أن يطبق تلقائيا قاعدة الإسناد، غير أنها لم تلزمه بتطبيقها بل تركت له
الاختيار، و في قرار لها بتاريخ 09 مارس 1984 اعتبرت أن القاضي يكون ملزما بتطبيق
قاعدة الإسناد إذا كانت المنازعة تتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، كما
أنها ألزمت القاضي في قرار لها صادر بتاريخ 04 مارس 1986 بتطبيقها إذا كان مصدر
هذه القاعدة اتفاقية دولية (3).
(1) : Loussouarne,
Bourel, op, cit, page 249
(2) : Loussouarne, Bourel, op, cit, page 247
(3): حفيظة السيد
الحداد، المرجع السابق ص 45-46
و
في تطور لاحق أصدرت المحكمة قرارين متتاليين بتاريخ 11 و 18 أكتوبر 1988 نقضت
فيهما حكم قاضي الموضوع بحجة أنه " فصل في الدعوى دون أن يبحث إذا اقتضى
الأمر تلقائيا « au besoin d’office « أثر القانون الأجنبي المختص على الطلب القضائي موضوع الدعوى، في
حين أن المادة 12/1 من قانون الإجراءات المدنية الجديد تلزمه بالفصل في النزاع
طبقا للقواعد القانونية التي تطبق عليه"(1).
و هذا بالرغم من أن الأطراف في كلتا القرارين لم يثيروا تطبيق قاعدة الإسناد التي
تمنح الإختصاص للقانون الأجنبي .
غير
أن محكمة النقض الفرنسية لم تثبت على هذا الإجتهاد و تراجعت عنه في قرارات لاحقة،
إذ قررت في حكم لها صادر بتاريخ 04/12/1990 أن القاضي غير ملزم بالتطبيق التلقائي
لقاعدة الإسناد، إلا إذا كان مصدرها اتفاقية دولية أو تعلق النزاع بحقوق لا يجوز
للأطراف التصرف فيها، و في حكم لها صادر بتاريخ 26 ماي 1999 ضيقت من نطاق هذه
القاعدة و قضت بأنه حتى و لو كانت قاعدة النزاع ذات مصدر اتفاقي فإن القاضي يمكنه
ألا يطبقها تلقائيا إذا لم يتمسك الخصوم بها(2).
و ما
يمكن استخلاصه من كل هذا القرارات و الإجتهادات، هو أن موقف محكمة النقض الفرنسية
قد استقر على الأقل في الوقت الحالي، على أن القاضي الموضوع ليس ملزما بتطبيق قاعدة
الإسناد تلقائيا إلا إذا تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، رغم أن هذا
المفهوم أي مفهوم الحقوق التي لا تجوز للأطراف التصرف فيها يبقى غامضا و ليس محددا
في جميع الحالات .
الــفــرع
الــرابـــع : مـوقـف الـمـشـرع الـجـزائـري
لم
يتضمن القانون المدني الجزائري نصا صريحا بخصوص مدى التزام القاضي الجزائري بالتطبيق
التلقائي لقاعدة الإسناد، كما أن المحكمة العليا لم يكن لها - على الأقل في
قراراتها المنشورة – رأي حول هذه النقطة.
غير أنه مع ذلك يمكننا القول أنه على القاضي
الجزائري أن يطبق تلقائيا قاعدة الإسناد الوطنية كلما كان أمام علاقة قانونية ذات
عنصر أجنبي، تثير أمامه تنازعا في القوانين، و هذا ما يمكن استخلاصه من صياغة نصوص
قواعد الإسناد في القانون الجزائري التي لا توحي أبدا أن تطبيقها يتوقف على إدارة
الأطراف، فقد استعمل المشرع الجزائري عبارات (يسرى، يطبق، تخضع ، يرجع....) و هي
كلها عبارات توحي بأن قواعد الإسناد قواعد آمرة يطبقها القاضي تلقائيا دون حاجة
إلى تمسك الأطـراف بـها، كما أن
(1) : Loussouarne, Bourel,
op, cit, page 249
(2): حفيظة السيد الحداد، المرجع
السابق، ص55
المشرع
عندما يضع قواعد الإسناد يختار دائما القانون الأنسب لحكم هذه العلاقات، و أن
تطبيق القانون الوطني على كل هذه العلاقات دون الإلتفات إلى قواعد الإسناد ما دام
الأطراف لم يتمسكوا بها يؤدي إلى نتائج غير مقبولة، لأن القانون الجزائري في كثير
من هذه الحالات يكون بعيدا عن هذه العلاقة كما هو بالنسبة للحالة الشخصية للأجانب،
و القانون الذي يحكم العقار إذا كان في الخارج و قانون محل وقوع الفعل الضار، و هو
ما يعني أن قواعد الإسناد غالبا ما تتعلق بمجالات هي من النظام العام.
كما
أن هذا الرأي يتبناه الاتجاه الفقهي الحديث، و قد أخذت به العديد من الدول صراحة
في نصوصها التشريعية، وقد مالت إليه محكمة النقض الفرنسية عندما يكون النزاع يتعلق
بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، مما يجعله يكاد يكون من المبادئ المستقر عليها
في القانون الدولي الخاص التي تلزم القاضي الجزائري طبقا للمادة 23 مكرر 2 من
القانون المدني.
الــمــبـحـث
الــثــالـث : مـوانــع تـطـبـيـق الـقـانـون
الأجـنـبـي
رأينا
في المبحث الثاني أن الإختصاص ينعقد للقانون الأجنبي بحكم النزاع، بموجب قاعدة
الإسناد الوطنية التي تشير بتطبيقه بوصفة القانون الأنسب لحكم العلاقة القانونية محل
النزاع، غير أن مضمون هذا القانون الأجنبي قد يتعارض مع المفاهيم الأساسية و
المبادئ القانونية المستقر عليها دولة القاضي، و هنا يمكن للقاضي الوطني استبعاده
بسبب مخالفته للنظام العام، كما أن القانون الأجنبي قد يثبت له الإختصاص عن طريق
التغيير الإرادي الإحتيالي لضابط الإسناد للهروب من أحكام قانون معين هو المختص
أصلا بحكم النزاع، وهنا يمكن للقاضي الإمتناع عن تطبيقه بسبب "الغش نحو
القانون ".
إن
معظم التشريعات في العالم قد أوجبت على القاضي الإمتناع عن تطبيق القانون الأجنبي
إذا خالف النظام العام أو إذا ثبت له الإختصاص بواسطة الغش نحو القانون كأسباب
عامة لاستبعاد القانون الأجنبي، ومنها المشرع الجزائري الذي ينص في المادة 24/1 من
القانون المدني: " لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة
إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر، أو ثبت له الاختصاص
بواسطة الغش نحو القانون ".
و
على هذا الاساس سوف نتطرق في مطلب أول إلى النظام العام كسبب لاستبعاد القانون
الأجنبي و في مطلب ثان إلى الغش نحو القانون.
الـــمــطــلــب
الأول
: الــنـظـام الـعـام
عندما
تعين قاعدة الإسناد الوطنية قانونا أجنبيا لحكم العلاقة القانونية المطروحة أمام
القاضي، فإن هذا التعيين يكون محددا بشرط هام و هو عدم التعارض الجوهري بين مضمون
هذا القانون، و الركائز التي يقوم عليها النظام القانوني في دولة القاضي(1).
و هو ما يعرف اختصارا باسم النظام العام "L’ordre
public".
إن
فكرة النظام العام كانت معروفة منذ نشأة تنازع القوانين، غير أنها استعملت في بادئ
الأمر كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني، و استعملت فيما بعد من طرف الفقيه
الألماني سافيني كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي، لكن رغم ذلك فإن مفهومها ظل
غامضا و يصعب ضبطه، رغم اتفاق أغلب التشريعات على آثارها في استبعاد القانون
الأجنبي المختص و تطبيق القانون الوطني مكانه، غير أنه مع ذلك فإن أغلب الفقه يفرق
بين أثر النظام العام عندما تنشأ المراكز القانونية في دولة القاضي حيث يكون لفكرة
النظام أثرها كاملا و أثرها عندما تنشأ المراكز في دولة أجنبية و تنتج آثارها في دولة القاضي حيث يكون أثرها مخففا.
(1): سامي بديع منصور، المرجع السابق ص 140
الــفـــرع
الأول: تـطـور فــكـرة الــنـظـام الـعـام
استعملت
فكرة النظام العام في بادئ الأمر كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني ولم تبرز
بمفهومها الحالي كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي إلا مع الفقيه الألماني سافيني
"Savigny " .
1-
الـنظـام الـعام كـأداة لـتثبـيت الإخـتـصاص للقـانـون الـعام الوطـني
:
بدأت
الملامح الأولى لفكرة النظام العام مع المدرسة الإيطالية القديمة حيث كان الفقيه
"Bartole" يفرق بين الأحوال الملائمة التي يمكن أن يمتد تطبيقها إلى خارج
الإقليم و الأحوال المكروهة التي يقتصر تطبيقها على داخل الإقليم.
ثم
جاء الفقيه الايطالي مانشيني "Mancini" رائد مدرسة
شخصية القوانين و استعمل النظام العام كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني
كاستثناء على نظريته، مبررا ذلك بكون هذه القوانين لا تشكل جزءا من القوانين الشخصية،
و بكونها ضرورية لصيانة النظام العام على الإقليم، مثل القوانين المتعلقة بالملكية
العقارية و المسؤولية التقصيرية(1).
2-
الـنـظـام الـعـام كـأداة لاسـتـبـعـاد الـقانـون الأجـنبي
:
أول
من استعمل فكرة النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي هو الفقيه الألماني
سافيني، فبعد أن عرض نظريته في الإشتراك القانوني التي تسمح للدول الأوروبية
بتطبيق قوانين بعضها البعض، أشار إلى استثناء هام خول بموجبه لقاضي الإمتناع عن
تطبيق القانون الأجنبي إذا ما تبين له انقطاع " الوحدة القانونية " بين قانونه
و القانون الأجنبي المختص(2).
وقد
أخذ الفقه الحديث عن سافيني نظريته للنظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي
دون أن يشترط مسبقا وجود" اشتراك قانوني "، و ذلك لأن سافيني وجه نظريته
في التنازع إلى الدول الأوروبية قبل أن تنتشر و تأخذ بها أغلب دول العالم.
الــفــرع
الـــثــانــي : صـعـوبـة ضـبـط
فـكـرة الـنـظـام العام كأداة لاستبـعاد
الـقانـون
الأجـنبـي
رغم
أن الفقه الحديث مجمع على أهمية فكرة النظام العام و دورها كأداة لاستبعاد القانون
الأجنبي إلا أنه يبقى مختلفا مع ذلك حول
تحديد مضمونها، و مع ذلك فإن هناك اتفاق حول تحديد هدفها، و هي أنها تمكن القاضي
من استبعاد القانون الأجنبي المختص إذا تعارض تطبيقه مع الأسس السياسية و
الإجتماعية و الإقتصادية السائدة في الدولة (3).
(1): Jean Deruuppé .droit intenational privé. Dalloz 2ème
édition.1993. p77
(2): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص304
(3): هشام علي صادق، تنازع القوانين،
المرجع السابق ص 314
وهي
على هذا الأساس فكرة مرنة و متطورة تختلف باختلاف الزمان و المكان، فما يعتبر اليوم
من النظام العام قد لا يعتبر في المستقبل كذلك، و ما يعتبر متعارضا مع النظام
العام في دولة ما قد لا يعتبر في دولة أخرى كذلك. فهي فكرة لا تتجسد إلا عندما
تقوم بوظيفتها و يصعب تحديدها قبل ذلك(1).
وقد
أدت الاعتبارات السالفة الذكر إلى إعطاء القاضي سلطة واسعة في تقديرها حسب
المفاهيم السائدة في دولته على أن القاضي لا يقتصر في تقديره لمدى تعارض القانون
الأجنبي مع النظام العام في دولته على مضمون هذا القانون، و إنما إضافة إلى ذلك
على الأثر الذي يتركه تطبيق هذا القانون على النزاع، إذ قد يكون القانون الأجنبي
في ظاهره، غير أن الأثر الذي يترتب عن تطبيقه هو الذي يتعارض مع النظام العام.
ويضيف
الفقه الألماني معيارا آخر، و هو ضرورة وجود صلة بين النزاع و دولة القاضي، و في
هذه الحالة يجب التفريق بينما إذا كان تطبيق القانونية الأجنبي المتعارض مع النظام
العام ينتج أثاره في دولة القاضي أم خارجها، و هذا الرأي تبنته مؤخرا محكمة النقض
الفرنسية. في قرار لها صادر بتاريخ 10 فيفري 1993 في قضية تتعلق بإثبات النسب
الطبيعي filiation naturelle » « La إذ نص هذا القرار " إذا كان القانون الأجنبي الذي يمنع
إثبات النسب الطبيعي لا يتعارض مبدئيا مع المفهوم الفرنسي للنظام العام، إلا أنه
يتعارض مع هذا النظام إذا كان يحرم طفلا فرنسيا، أو مقيما بصفة دائمة في فرنسا من
حقه في إثبات نسبه، مما يتعين معه استبعاد هذا القانون الأجنبي "(2).
الــفــرع
الــثــالــث: أثـر الـنـظــام الـعــام
إذا
تعارض القانون الأجنبي مع النظام العام في دولة القاضي، ترتب على ذلك أثران: أثر
سلبي و هو الإستبعاد الجزئي أو الكلي للقانون الأجنبي و أثر الإيجابي و هو ثبوت
الإختصاص للقانون الوطني.
1-
الأثـر الـسـلبـي للـنـظـام الـعـام:
يتمثل
الأثر السلبي للنظام العام في اسبتعاد تطبيق القانون الأجنبي لكن السؤال الذي يطرح
هنا هو هل يتم استبعاد القانون الأجنبي كليا أم يستبعد منه الجزء المتعارض مع
النظام العام فقط؟
إن
الإجابة على هذا السؤال من طرف الإتجاه الفقهي الغالب هو أن الأثر السلبي للنظام
العام ليس من شأنه استبعاد القانون الأجنبي كليا، و إنما ينحصر هذا الأثر في الجزء
الذي يتعارض مع النظام العام، و يطبق القانون الأجنبي على باقي عناصر النزاع. و
هذا الرأي له تطبيقات عديدة في القضاء القانون الفرنسي فـفي قـرار
صـادر عـن مـحكـمة الـنقـض الـفـرنـسـيـة بـتاريخ: 17/11/1964 جاء فيـه
(1) : Mohand Issad op.cit. p270
(2): Rev. crit.dr. internat. Privé. n° 4. 1993. p :
311
"
أن ما تنص عليه أحكام الشريعة الإسلامية في الميراث لا يمس النظام العام في
فرنسا، إلا في منعها التوارث بين المسلم و غير المسلم و من ثم يتعين استبعاد أحكام
الشريعة الإسلامية في هذه النقطة و حسب، من دون أن يحل القانون الفرنسي محل
القانون الأجنبي الإسلامي في بيان مراتب الورثة وأنصبتهم"(1).
و هو الرأي نفسه الذي سار عليه القضاء المصري.
و
يستند هذا الاتجاه إلى حجج عدة منها أنه ينبغي استخدام الدفع بالنظام العام بحذر
شديد، و وفقا للغاية التي يسعى إلى تحقيقها، أي بالقدر الذي يمنع المساس بالمبادئ
الأساسية السائدة في دولة القاضي كما أن
الدفع بالنظام العام لا يهدف إلى إصدار حكم قيمي على القانون الأجنبي برمته، و
إنما يهدف فحسب إلى استبعاد النتيجة
المخالفة للنظام العام و متى أمكن ذلك عن طريق الإستبعاد الجزئي كان ذلك أمرا
مقبولا(2).
غير
أن هذا الحل يرد عليه استثناء وحيد، و هو في حالة ما إذا كان ثمة ارتباط بين أجزاء
القانون الأجنبي بحيث يكون من المستحيل استبعاده جزئيا ففي هذه الحالة يستبعد
القانون الأجنبي كليا.
1-
الأثـر الإيـجـابـي للـنظـام الـعـام :
الأثر
الإيجابي للنظام العام هو تطبيق القانون الوطني للقاضي محل القانون الأجنبي
المستبعد، و هو ما تبناه المشرع الجزائري بنص المادة 24/2 من القانون المدني.
فالدفع بالنظام العام هو بهذا مسألة موضوعية على خلاف ما ينظر إليه في البلاد الأنكلوسكسونية
على أنه مسألة إجراءات، حيث تكتفي المحكمة باستبعاد تطبيق القانون الأجنبي و تحيل
الأطراف إلى المحكمة أخرى(3).
ورغم
أن الاتجاه الفقهي الغالب و معظم التشريعات تؤكد أن الأثر الإيجابي للنظام العام
هو تطبيق قانون القاضي، إلا أن جانبا من الفقه الألماني يرى أن الأثر الايجابي هو
تطبيق نص قانوني آخر من القانون الأجنبي لا يتعارض مع النظام العام. ويستند هذا
الاتجاه إلى قرار صادر عن محكمة النقض الألمانية استبعدت نص القانون السويسري الذي
يمنع تقادم الدين محل النزاع بسبب تعارضه مع النظام العام، و أخضعت الدين إلى أطول
مدة تقادم نص عليها القانون السويسري نفسه(4).
إلا
أن هذا لرأي محل نقد لكون القانون الأجنبي المطبق في هذه الحالة لا علاقة له
بالنزاع كما أنه لا يمكن تطبيقه في اغلب الحالات التي يصعب فيها العثور على نص
قانوني بديل.
(1) : Loussouarne. et
Bourel. ap.cit .p 280
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق ص 530
(3): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 328
(4) :
Loussouarne. et Bourel. ap.cit .p 279
الـــفــرع
الــرابــع : الأثـر الـمـخـفـف لـنـظـام
الـعـام
يميز
الفقه والقضاء عادة في مجال أثر النظام العام بين الحالة التي تنشأ فيها
الحقوق في دولة القاضي، حيث يكون للنظام العام أثره كاملا « Plein effet »، و بين الحالة التي تنشأ فيها الحقوق في ظل قانون دولة أجنبية و
تنتج آثارها في دولة القاضي حيث يكون للنظام العام أثرا مخففا « Effet
atténué »
.
و تستند هذه الفكرة إلى أنه ثمة حالات يتعارض
فيها القانون الأجنبي مع النظام العام، سواء نشأ الحق موضوع النزاع في الخارج أو في دولة القاضي،
و هناك حالات أخرى يتعارض فيها فقط إذا نشأ في دولة القاضي، و لهذا الموقف عدة
تطبيقات في القضاء الفرنسي، منها أن محكمة النقض الفرنسية قضت بعدم الإعتراف بحق
الملكية الذي اكتسب في الخارج عن طريق نزع الملكية دون تعويض، و بالمقابل فإنها
تعترف بآثار الطلاق بالإرادة المنفردة. وكذلك تعدد الزوجات الذي نشأ في الخارج رغم
أن القانون الفرنسي لا يقره، لكن إذا أريد الإعتراف ببعض آثاره كحق الزوجة في طلب
النفقة أو الإرث فإن هذا الأثر ليس فيه ما يمس النظام العام في فرنسا(1).
غير
أن هناك حالات أخرى لا يعترف فيها القضاء الفرنسي بآثار هذا الزواج، و ذلك متى كان
للنزاع علاقة بالقانون أو الإقليم الفرنسي، و من ذلك على سبيل المثال ما جاء به
قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 01 مارس 1973 الذي اعتبر فيه: " أن
الزوجة الثانية لزوج جزائري لا يمكنها المطالبة بمنحة الضمان لاجتماعي، ما دام أن
الزوجة الأولى قد استفادت منه لتعارض ذلك مع النظام العام في فرنسا"(2).
الـمـطـلـب
الــثــانــي : الـغـش نـحــو الـقـانــون
رأينا
فيما سبق أن كل قاعدة إسناد تعتمد على ضابط معين لتحديد القانون الواجب التطبيق، و
كثير من هذه الضوابط يكون للأفراد دخل في تغييرها كالجنسية أو الموطن أو موقع
المنقول، و الأصل أن قيام الأفراد بتغيير هذه الضوابط يترتب عليه كامل آثاره، غير
أنه إذا دخلت نية الغش على هذا التغيير الإرادي أي أن التغيير في ضابط الإسناد تم
بهدف التهرب من أحكام قانون معين وسعيا لتطبيق قانون آخر، فإن القانون هنا يتدخل
إعمالا للقاعدة القانونية القديمة " الغش يفسد كل أمر" و يحرم بالتالي
الغاش من الإستفادة من غشه باستبعاد القانون الأجنبي الذي ثبت له الإختصاص بواسطة
الغش نحو القانون "La fraude à la loi" .
(1):عكاشة محمد عبد العال ، المرجع السابق، ص 550، 551
(2) : Rev.Crit .dr. internat privé. 1975. n°
1.page 54
ويعود
أصل نظرية الغش نحو القانون إلى القضاء الفرنسي الذي طبقها في قضية شهيرة هي قضية
الأميرة "دوبوفرمون" « De
Bouffrement »، الذي اشترط لإعمالها توفر شرطين هما التغيير الإداري لضابط
الإسناد ونية الغش، و هذا سواءا كان القانون المتهرب من أحكامه قانون القاضي أو
قانونا أجنبيا آخر، و رتب على الدفع بالغش استبعاد القانون الأجنبي الذي ثبت له
الإختصاص عن طريق الغش و تطبيق القانون المختص أصلا مكانه.
الــفــرع
الأول : نـشـأة نـظـريـة الـغـش نـحـو
الـقـانـون
طرحت
نظرية الغش نحو القانون كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي لأول مرة أمام القضاء
الفرنسي في قضية تعرف بقضية الأميرة " دوبوفرمون "، التي تتلخص وقائعها
في أن أميرة بلجيكية الأصل تزوجت بالأمير الفرنسي " دوبوفرمون " و
استقرت معه في فرنسا و اكتسبت الجنسية الفرنسية، و على إثر خلاف بينهما حاولت
الحصول على الطلاق غير أنها لن تستطع لكون القانون الفرنسي آنذاك كان يمنع الطلاق
فلجأت إلى التجنس بجنسية إحدى الدويلات الألمانية التي يجيز قانونها الطلاق، و
تمكنت بعد ذلك من الطلاق من زوجها الأول، و تزوجت بأمير روماني و استقرت معه في
فرنسا، وحصل بعد ذلك أن رفع زوجها الأول
دعوى طالب فيها ببطلان الزواج الثاني لكون الطلاق لا يعتبر صحيحا، لأنه تم بعد
تغيير الجنسية، و قد قضت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 18/03/1878
بإبطال الزواج الثاني على أساس أن الطلاق لم يتم إلا بعد تغيير الزوجة لجنسيتها، و
هو ما يشكل غشا نحو القانون(1).
ومنذ
ذلك التاريخ استقر القضاء الفرنسي على الأخذ بالغش نحو القانون كسبب لاستبعاد
القانون الأجنبي، و قد أفسح لهذه النظرية مجالا
للتطبيق لم تحظ به في كثير من الدول، فإذا
كان القضاء في دول مثل بلجيكا و إيطاليا أخذ بها مع تضييق في نطاق تطبيقها،
فإن تطبيقها في دول أخرى كألمانيا كان
نادرا جدا، أما في البلاد الأنكلوسكسونية فإن الفقه لم يهتم بها إطلاقا و من
النادر أن نجد تطبيقها لها في القضاء، كما أن بعض الدول مثل سويسرا عالجت هذه
المشكلة بنصوص تشريعية في حالات محددة دون أن تضع لها قاعدة عامة(2).
أما في الجزائر فقد تبنى المشرع الجزائري هذه النظرية بموجب نص تشريعي هو نص المادة
24/1 من القانون المدني.
(1) : Loussouarne. et
Bourel. ap.cit .p 286
(2): عز الدين عبد الله المرجع السابق ص 561
الــفــرع
الــثــانــي : شـروط الـدفـع بـالـغـش نـحـو
الـقـانـون
يشترط
لإمكان الدفع بالغش نحو القانون توافر شرطان: الشرط الأول مادي و هو إجراء تغيير
إرادي في ضابط الإسناد، والشرط الثاني معنوي
و هو توفر نية الغش .
1-
الـتـغـيـيـر الإرادي فـي ضـابـط الإسـنــاد :
يشترط
للتمسك بالدفع بالغش نحو القانون أن يقوم الغاش – أو صاحب المصلحة- بإجراء تغيير
إرادي في ضابط الإسناد الذي يتحدد بموجبه القانون الواجب التطبيق، و هذا لا يتحقق
إلا في الحالات التي يكون فيها ضابط الإسناد من الضوابط التي يمكن أن يتدخل
الأفراد في تغييرها(1).
و
الضوابط التي يمكن للأفراد تغييرها نذكر منها خصوصا الجنسية، و هي ضابط الإسناد في
مسائل الحالة الشخصية في كثير من الدول كالجزائر، و الموطن الذي و هو أيضا ضابط
إسناد بالنسبة لمسائل الحالة الشخصية في البلاد الأنكلوسكونية، و تغييره أسهل من
تغيير الجنسية، و كذلك موقع المنقول الذي يحدد القانون المطبق عليه .
و
يشترط أن يكون التغيير في ضابط الإسناد فعليا و ليس صوريا، فالتمسك بالصورية في
هذه الحالة يبطل كل أثر لهذا التغيير، كالحالة التي يغير فيها الشخص موطنه صوريا
من دون أن يكون مستقرا فيه و يباشر شؤونه منه، فالعبرة بالموطن الفعلي. كما يشترط
أن يكون التغيير مشروعا فإذا كان بوسيلة غير مشروعة فإنه لا يعتد به، و يبطل دون
حاجة لأعمال نظرية الغش نحو القانون. و الخلاصة أن الدفع بالغش نحو القانون لا
يتأتى إلا في الأحوال التي ينعدم فيها وجود جزاء آخر يمكن عن طريقه تلافي النتيجة
غير المشروعة التي سعى الشخص إلى تحقيقها(2).
2-
نـيـة الـغـش :
لا
يكفي أن يقوم الشخص بالتغيير الإداري في ضابط الإسناد لقيام الغش نحو القانون، بل
يجب بالإضافة إلى ذلك أن يهدف الشخص من وراء هذا التغيير إلى التحايل بقصد الإفلات
من أحكام القانون المختص أصلا، فنحن هنا نتكلم عن النية، التي يتعين على القاضي في
تقصيها و إثباتها من ظروف الدعوى وملابساتها.
غير
أن مهمة القاضي في تقصي نية الغش ليست سهلة في جميع الأحوال و هذا ما دفع البعض
إلى محاولة إنكار نظرية الغش في مجال التنازع، على أساس أن القاضي لا يمكنه العلم
بنوايا الأفراد، غير أن هذا الرأي مردود عليه في أن نصوص القانون زاخرة بالأمثلة
التي يتعين فيها على القـاضي تقـصي
(1): نادية فوضيل، المرجع السابق ص 129
(2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 348
النية،
كالتعسف في استعمال الحق في القانون المدني، و التعسف في استعمال السلطة في
القانون الإداري و العمد و غير العمد في القانون الجنائي(1). و القاضي
يمكنه استخلاص نية الغش من عدة ملابسات تحيط بالدعوى منها:
-
التلازم الزمني بين الإجراء المادي أي التغيير ضابط الإسناد و بين القيام بالتصرف
المراد إخضاعه للقانون الجديد.
-
و من هذه الملابسات أيضا أن يكون القانون الذي سعى الأفراد إلى تطبيق أحكامه من
القوانين التي تعطي تسهيلات استثنائية للأفراد بقصد جذبهم لأغراض اقتصادية(2).
الــفــرع
الــثـالــث :
نـطــاق الـدفـع بـالـغـش نـحـو الـقـانــون
استقر
الفقه و القضاء لمدة طويلة على حصر نطاق التطبيق الدفع بالغش نحو القانون على
الحالة التي يتهرب فيها الأفراد من قانون القاضي، و قد استند الفقه في ذلك إلى أن
وظيفة القاضي هي كفالة تطبيق قانونه الوطني و منع الأفراد من مخالفته بالتهرب من
أحكامه أما الدفاع عن القانون الأجنبي فلا يدخل في نطاق وظيفته(3).
غير
أن الفقه الحديث يميل إلى تطبيق نظرية الغش نحو القانون، سواء كان القانون المتهرب
من أحكامه هو قانون القاضي الوطني أم قانونا أجنبيا آخر، مستندا في ذلك إلى أن
نظرية الغش نحو القانون تستجيب إلى مبدأ عام و هو مطاردة الغش بكل صوره سواء قصد
به التهرب من أحكام القانون الوطني أو قانون أجنبي آخر، وهذا الاتجاه هو الذي
تبناه القضاء الفرنسي مؤخرا(4).
و
يبدو أن هذا الرأي هو الذي تبناه المشرع الجزائري، عندما نص في المادة 24 من
القانون المدني على استبعاد تطبيق القانون الأجنبي إذا كان مخالفا للنظام العام أو
ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون، ثم نص في الفقرة الثانية أن القانون
الجزائري هو الذي يطبق محل القانون الأجنبي المخالف للنظام العام، و سكت بالمقابل
على القانون الذي يطبق في حالة ثبوت الغش، مما يعني أنه قد يكون القانون الجزائري
إذا كان هو القانون الذي تهرب الأفراد من تطبيق أحكامه، و قد يكون قانونا أجنبيا
إذا كان هو ضحية الغش .
(1): علي علي سليمان، المرجع السابق، ص 162
(2): نادية فوضيل: المرجع السابق، ص 135
(3) (4): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 352. 353
الــفـــرع
الــرابــع : أثــر الـدفــع بـالـغـش نـحـو
الـقـانـون
يثور
التساؤل في هذا المجال حول ما إذا كان أثر الدفع بالغش نحو القانون يمس النتيجة
فقط التي سعى الشخص لتحقيقها، أم يمتد ليشمل النتيجة و الوسيلة معا؟
فإذا
ما غير الشخص جنسية لإثبات الاختصاص لقانون معين فهل ينحصر أثر الغش حول استبعاد
تطبيق هذا القانون، و تطبيق القانون المختص أصلا مكانه؟ أم يمتد ليشمل إلغاء الجنسية
الجديدة التي اكتسبها الشخص؟
للإجابة على هذا التساؤل يرى جانب من الفقه أن
أثر الدفع بالغش يمتد ليشتمل النتيجة و الوسيلة معا، فهو في المثال السابق يستبعد
القانون الذي ثبت له الإختصاص بواسطة الغش و يطبق القانون المختص مكانه ويلغي
الجنسية الجديدة التي اكتسبها الشخص .
غير
أن هذا الرأي محل انتقادات عديدة أهمها أن الوسيلة التي تم بها تغيير القانون
المختص و إثبات الإختصاص لقانون آخر تم اكتسابها بطريقة صحيحة و مشروعة، و أن
الشخص يفترض أن كافة الشروط قد توافرت فيه، و أن الجزاء المعقول في هذه الحالة هو عدم الإعتداد
بالتجنس في القضية التي طرح فيها النزاع فقط(1).
ولهذا
فإن الفقه الغالب يميل إلى القول أن أثر الغش ينصب فقط على استبعاد القانون
الأجنبي الذي ثبت له الاختصاص وفقا للضابط المفتعل و إعادة الإختصاص إلى القانون
الذي تهرب الشخص من أحكامه، فأثر الغش هو أثر حلولي أو استبدالي، أي إحلال القانون
المختص مكان القانون الذي انعقد له الاختصاص بالتغيير في ضابط الإسناد(2).
(1):عكاشة محمد عبد العال ، المرجع السابق، ص 462
(2): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق ص 366
الـفـصـل
الـثـانـي: الـقـانـون الأجـنـبي الـمخـتـص أمـام
قـاضـي الـدعـوى
إذا
انعقد الإختصاص لقانون أجنبي معين، بموجب قاعدة الإسناد الوطنية، و لم يوجد مانع
يدعو
إلى استبعاده، فإن قاضي الدعوى ينتقل
إلى تطبيقه على النزاع المطروح أمامه، غير أن هذا التطبيق لا يخلوا من إشكاليات
عديدة، فالقانون الأجنبي قانون غير معروف لدى قاضي الدعوى، و هو صادر عن دولة
أجنبية لا تمارس أي سلطة عليه، مما يطرح مسألة طبيعة القانون الأجنبي و كيفية
تعامل القاضي معه هل يعتبر من قبيل الوقائع؟ أم يظل محتفظا بكيانه القانوني؟
كما
أن القانون الأجنبي مجهول غالبا لدى قاضي الدعوى و لا يفترض علم القاضي به كما هو
الحال بالنسبة للقانون الوطني، مما يطرح أيضا مسألة عبء إثباته هل يقع ذلك على
عاتق الأطراف في الدعوى؟ أم على عاتق القاضي؟ وأيضا وسائل إثبات هذا القانون والحل
الواجب إتباعه في حالة تعذر الوصول إلى مضمونه.
وأخيرا فإن القاضي سوف يلجأ إلى تفسير
هذا القانون إذا كان غامضا و غير واضح المعنى فكيف يفسر هذا القانون، و ما دور
محكمة النقض في الرقابة على هذا التفسير؟
و
على هذا الأساس سوف نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
Ø الـمـبــحـــث
الأول: طبيعة
القانون الأجنبي
Ø الــمـبـحـث
الــثـانـي:
إثبات مضمون القانون الأجنبي
Ø الـمـبـحــث
الـثـالــث:
تفسير القانون الأجنبي
الـمـبـحـث الأول: طبــيـــعــة
الـــقــــانـــون الأجــنـــبـي
إذا
أشارت قاعدة الإسناد الوطنية بتطبيق القانون الأجنبي بوصفه القانون المختص لحكم
النزاع المطروح على القاضي، و لم يوجد مانع يستدعي استبعاده التزم القاضي بتطبيقه
على وقائع الدعوى، غير أن الصفة الأجنبية لهذا القانون و كونه صادر عن دولة أجنبية
لا تملك سلطة على القاضي و الصعوبات العملية التي تبرز عند تطبيقه خصوصا صعوبة
إثباته و كيفية تفسيره من طرف القاضي، كل هذا يطرح التساؤل حول طبيعة هذا القانون
أمام قاضي الدعوى.
إن
المعاملة التي يلقاها القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني مختلفة من دولة إلى
أخرى، فالقضاء في الدول الأنكلوسكسونية
خصوصا و القضاء الفرنسي بدرجة أقل يعتبر القانون الأجنبي مجرد واقعة و
يعامله على هذا الأساس مع كل النتائج التي تترتب على هذه الصفة، بينما يذهب القضاء
في دول أخرى إلى اعتباره قانونا و يرتب على ذلك كافة النتائج المترتبة على هذه
الصفة.
و
على هذا فسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في المطلب الأول تطبيق القانون
الأجنبي باعتباره واقعة و في المطلب الثاني تطبيق القانون الأجنبي باعتباره
قانونا.
الــمـطـلـب
الأول:
الــقـانـون الأجــنـبـي بـاعـتـبـاره واقــعة:
يطبق القانون الأجنبي في كثير من الدول
أمام القضاء الوطني باعتباره واقعة كمجمل وقائع الدعوى و يعامل على هذا الأساس و
يتبنى هذا الموقف خصوصا القضاء في الدول الأنكلوسكسونية، الذي يعتبر القانون
الأجنبي كالواقعة تماما أما القضاء الفرنسي وخصوصا موقفه التقليدي فهو يعتبر
القانون الأجنبي كعنصر من عناصر الواقع قبل أن يتطور موقفه في اتجاه الإعتراف
بالطبيعة القانونية للقانون الأجنبي.
الـفـرع
الأول: مـوقـف الـقـضـاء فـي الـدول الأنـكـلـوسـكـســونـية
يتشدد القضاء في هذه الدول في اعتبار
القانون الأجنبي مجرد واقعة و يعامله على هذا الأساس، أما لماذا يطبق أمام القضاء
الوطني رغم كونه قانونا أجنبيا؟ فإن هذا التطبيق يجد تفسيره لدى الفقه هناك في نظرية
الحقوق المكتسبة « Vested rights » حيث ترى هذه النظرية أن القانون الأجنبي لا يطبق أمام القضاء بقوة
نفاذه – أي بوصفه قاعدة قانونية آمرة – و إنما احتراما للحقوق المكتسبة التي
اكتسبت في ظل هذا القانون، فالقاضي في نظرهم لا يطبق القانون الأجنبي كما يظهر
لأول وهلة و إنما هو يعترف بالحق الذي اكتسب في ظل القانون الأجنبي و بالتالي فإن
القانون الأجنبي يعتبر في نظر القاضي مجرد عنصر في واقعة هي: الحق الذي نشأ في ظل
هذا القانون(1).
غير
أن هذه النظرية التي تفسر أساس تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء منتقده خاصة
لمحدوديتها، فهي لا تفسر تطبيق القانون الأجنبي إلا في الحالة التي ينشأ فيها الحق
في الخارج، مع أن الغالب هو أن ينشأ الحق في دولة القاضي طبقا للقانون الأجنبي(2).
ويرتب
القضاء في هذه الدول كافة النتائج المترتبة على اعتباره القانون الأجنبي مجرد
واقعة فالقاضي لا يطبقه إلا إذا تمسك أحد الأطراف به و أثبت اختلاف مضمونه على
القانون الوطني، كما أنه إذا اتفق الأطراف على مضمون القانون الأجنبي فإن القاضي
يطبقه دون حاجة إلى وسيلة أخرى لإثباته و أخيرا فإن الخطأ في تطبيقه لا يخضع
لرقابة محكمة النقض.
الـفـرع
الـثـانـي: مـوقـف الـقضـاء الـفـرنـسي:
الموقف الفرنسي التقليدي من القانون
الأجنبي صاغه الإجتهاد القضائي عبر عدة قرارات أسس من خلالها مجموعة من المبادئ
شكلت في مجملها مركز هذا القانون أمام
القضاء الفرنسي، و تتمثل هذه المبادئ في أنه يقع على عاتق الأطراف إثبات
مضمون القانون الأجنبي، و إذا لم يتمكنوا
من ذلك طبق القاضي القانون الفرنسي، كما أن القاضي لا يمكنه أن يثير تلقائيا تطبيق
هذا القانون ما لم يتمسك به أحد الأطراف، كما أن محكمة النقض الفرنسية ترفض
باستمرار فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي من قبل قاضي الموضوع(3).
(1): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 574.
(2): Mohand Isaad. op. cit. p 173
(3) : Loussouarn, et Bourel. op. cit. P
244,245
و
قد استنتج الفقه الفرنسي من ذلك أن القضاء الفرنسي لا يعامل القانون الأجنبي كـالقانـون
الـفرنسـي، و استخلص من ذلك أن القانون الأجنبي يعتبر أمام هذا القضاء عنصرا من
عناصر الواقع « Elément
de fait ». و استند الفقه الفرنسي في تبرير موقف قضاءه من القانون الأجنبي
إلى حجة مفادها أن كل قاعدة قانونية تتكون من عنصرين: العنصر العقلي أو مضمون
القاعدة و هو كونها عامة و مجردة، و عنصر الأمر أو الإلزام الذي تستفيد منه
القاعدة قوتها الملزمة، فإذا كانت القاعدة القانونية الأجنبية تمتلك العنصرين في
بلد المشرع الذي أصدرها، فإنها تعتقد عنصر الأمر أو الإلزام عند تطبيقها أمام
القضاء الفرنسي، لأن عنصر الإلزام لا يتعدى الإقليم الذي يزاول فيه مشرع هذه القاعدة
سيادته. أما خارج هذا الإقليم فلا يبقى للقاعدة سوى مضمونها أو عنصرها العقلي و من
ثم تفقد صفتها كقاعدة قانونية ملزمة.
و
لا يغير أمر المشرع الوطني بمقتضى قاعدة الإسناد بتطبيق القانون الأجنبي من طبيعة
هذا القانون، إذ أنها تبقى حسب الفقيه الفرنسي باتيفول « Batifole » غريبة عن النظام القانوني الداخلي، الذي يشبه تطبيق القاضي
للقانون الأجنبي بتطبيقه للوائح الشركات، فكلاهما قواعد عامة تطبق على حالات خاصة
و لكنها لا تكتسب صفة القانون كونها غير صادرة عن المشرع الوطني(1).
وقد
أخذ على هذا الإتجاه أنه ينطلق من نقطة بداية
خاطئة فإذا كان أن القاعدة القانونية الأجنبية تفقد صفة الإلزام خارج إقليم المشرع
الذي أصدرها، إلا هذه الصفة ترجع لها بمجرد أن تأمر قاعدة الإسناد بتطبيقها بوصفها
القاعدة القانونية الأنسب لحكم هذه العلاقة، فالقانون الأجنبي يطبق أمام قاضي الدعوى لأن المشرع
الوطني أمر بتطبيقه، أما في تشبيه القانون الأجنبي بلوائح الشركات فهو تشبيه مع
الفارق لأن القاعدة القانونية الأجنبية عامة و مجردة أما لوائح الشركات فهي تحكم
مركز ذاتية و حالات محددة.
وأخذ
على هذا الإتجاه أيضا أنه استمد فكرته حول الصفة الواقعية للقانون الأجنبي من
التقسيم الإجرائي لعناصر الدعوى إلى وقائع
من جهة يثيرها و يتمسك بها الخصوم و إلى القانون الذي يقوم القاضي بتطبيقه على
وقائع الدعوى و كما لاحظ أن القضاء لا
يعامل القانون الأجنبي كالقانون الوطني تماما استخلص من ذلك أنه عنصرا من عناصر
الواقع لأن ما يقابل القانون هو الواقع.
(1): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 247. 248
غير
أن تقسيم عناصر الدعوى على النحو السالف الذكر، و اعتبار أن ما لا يدخل في إحداهما
يدخل بالضرورة بالأخرى، هو تقسيم صالح في إطار المنازعات الداخلية فقط، و من ثم
فإن إعماله في نطاق المنازعات الخاصة الدولية تجاهل لخصوصية هذه المنازعات الناتجة عن ظهور عنصر جديد لم
يكن في الحسبان و هو القانون الأجنبي(1).
و
لعل هذا ما دعا جانبا من الفقه الفرنسي إلى التأكيد أن موقف قضاءه من القانون
الأجنبي لا يرجع إلى كونه أن يعتبره مجرد واقعة، بل راجع إلى الصعوبات العملية
الناتجة عن تطبيق القانون الأجنبي خصوصا من ناحية صعوبة إثباته، و بسط الرقابة على
تفسيره من قبل محكمة النقض.
و
لعل ما يؤكد هذا الرأي هو أن محكمة النقض الفرنسية قد تراجعت على موقفها السابق من
القانون و أصبحت تقضي بإلزام قاضي الموضوع بتطبيق القانون الأجنبي تلقائيا و البحث
عن مضمونه عندما يتعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، بل إن هذه
المحكمة أصبحت لا تبرر رفضها فرض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي بكونه
واقعة صراحة إلى الإعتراف بصفته
القانونية، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 13/01/1993 " أن قاضي الموضوع يطبق و يفسر بكل
سيادة القانون الأجنبي، هذا الأخير يبقى رغم غياب رقابة محكمة
النقض قاعدة قانونية لا تخضع لأحكام المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية الجديدة"(2)
(3)
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 254
(2) :
Rev. Crit. dr. internat. privé. 1994. n° 1 tome 83. p78
(3):
تنص المادة 07 من قانون الإجرءات المدنية الفرنسي الجديد
أن القاضي لا يبني حكمه إلا على الوقائع التي تطرح أمامه في الدعوى، و بهذا أرادت
محكمة النقض الفرنسية أن تقول أن القانون الأجنبي لا يدخل ضمن هذه الوقائع مما
يعني الإعتراف بصفته كقانون.
الـمطـلب
الـثانـي: الإعـتـراف بـالطـبيـعة الـقانونـية
للقـانون الأجـنـبي
يميل
الإتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى الإعتراف للقانون الأجنبي بصفته القانونية أمام
القضاء الوطني، فيرى الفقه الإيطالي أن القانون الأجنبي الذي أشارت قاعدة الإسناد
بتطبيقه يندمج في القانون الوطني ويصبح جزءا منه، و عليه فهو يعامل تماما كالقانون
الوطني.
بينما
يميل الإتجاه الراجح إلى الإعتراف للقانون الأجنبي بصفته القانونية و الأجنبية في
نفس الوقت، و يؤكد هذا الإتجاه أن الصفة الأجنبية لهذا القانون هي التي تبرر
المعاملة الإجرائية المختلفة التي يلقاها عن القضاء الوطني.
الـفـرع
الأول: نـظريـة إدماج الـقانون الأجـنبي في
النظـام القـانوني الوطـنـي
ترى
المدرسة الإيطالية أن القانون الأجنبي لا يطبق من طرف القضاء الوطني بصفته
الأجنبية و إنما بعد أن يندمج في القانون الأجنبي و يصبح جزءا منه و تصور هذه
النظرية التي تسمى نظرية الإستقبال، قاعدة الإسناد الوطنية على أنها قاعدة بيضاء أو فارغة المضمون
تمتص و تستوعب القوانين الأجنبية التي تشير بتطبيقها(1).
فالقانون
الأجنبي وفقا لهذه النظرية لا يطبق بصفته تلك، و إنما يطبق بوصفه قانونا وطنيا
لكون قاعدة الإسناد عندما تستوعب القانون الأجنبي، تنشأ أحكاما مطابقة للأحكام
التي نص عليها هذا القانون غير أن الفقهاء الإيطاليون اختلفوا في نوع هذا الإدماج،
فمنهم من قال أنه " إدماج مادي" بمعنى أن قاعدة الإسناد عندما تقضي
بتطبيق قانون أجنبي تنشئ في الحقيقة أحكاما قانونية مطابقة لأحكام هذا القانون ويكون
معنى القانون الأجنبي الواجب التطبيق هو " القانون الوطني المتفق مع القانون
الأجنبي"، بينما يرى البعض الآخر أن الإدماج المقصود هو "إدماج
شكلي" بمعنى أن القانون الأجنبي و إن أدمج في القانون الوطني إلا أنه مع ذلك
يبقى محتفظا بمقوماته كقانون أجنبي(2).
وتستند
هذه النظرية على فكرة الثنائية التي تقوم على وجود نظام قانوني دولي، ونظام قانوني
وطني لكل دولة من جهة، و من جهة أخرى على خصوصية و تفرد كل نظام قانوني وطني داخلي
و اختلافه على الأنظمة الأخرى، مما لا يسمح بتطبيق القانون الأجنبي إلا بعد
استيعابه من قبل النظام القانوني الوطني(3).
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 250
(2): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 576
(3) : Mohand Isaad. op.
cit. p243
ويترتب
على ثبوت الصفة القانونية للقانون الأجنبي وفقا لهذه النظرية أن القاضي ملتزم
بتطبيقه تلقائيا، كما يفترض علم القاضي به تماما كالقانون الوطني، كما يخضع في
تفسيره لهذا القانون إلى رقابة محكمة النقض.
غير
أن هذه النظرية لاقت عدة إنتقادات، فالقول بإدماج القانون الأجنبي في النظام
القانوني الوطني يقتضي، أن يطبق و يفسر كالقانون الوطني و في ذلك تجاهل للبيئة
التي صدر فيها هذا القانون، كما أنه من الصعب أن نسلم بعلم القاضي بالقانون
الأجنبي لكونه غير منشور في بلاده، كما انتقدت هذه النظرية لكونها تقوم على نوع من
الرؤية الذهنية البعيدة عن الواقع القانوني(1).
الـفـرع
الـثانـي: الإعـتـراف للقانون الأجنبـي بطبيعـته
القانونية مع بقاءه قانـونا أجنـبيـا
يميل
الإتجاه الغالب في قانون القضاء إلى تأكيد الطبيعة القانونية للقانون الأجنبي، مع
الإحتفاظ بصفته الأجنبية في نفس الوقت، فهو يؤكد أولا أن القانون الأجنبي يطبقه
القاضي بوصفه " قانونا " و هو لا يفقد هذه الصفة و لا ينقلب إلى واقعة
إذا خرج من نطاق الإقليم الذي يباشر فيه المشرع الذي أصدره سيادته، و القول بأن
القانون الأجنبي يعتبر أمام القاضي مجرد واقعة من شأنه أن يؤدي بنا إلى الإستنتاج
أن القاضي يطبق " واقعة على واقعة"، و هو أمر لا معنى له. و ثانيا أن
هذا القانون لا يفقد صفته الأجنبية بل يحتفظ بها، و القاضي يطبقه إستجابة لأمر
المشرع الوطني الوارد في قاعدة الإسناد دون أن يدمج في النظام القانوني الوطني(2).
ويترتب
على الإعتراف بالقانون الأجنبي بصفته القانونية مع بقاءه قانونا أجنبيا في نفس
الوقت إختلاف في المعاملة الإجرائية التي يلقاها هذا القانون مقارنة بالقانون
الوطني، و يفسر هذا الإختلاف بأن القانون الأجنبي ليس موجها في الأصل ليطبق من طرف
القاضي الوطني، كما أنه لا ينشر في دولته و لا يفترض علم القاضي به, لأنه نشأ
بعيدا عن الأجهزة التشريعية لدولة القاضي.
ولعل
تشبيه القانون الأجنبي بالعرف بعض الصواب، فالعرف ينشأ و يتكون هو الآخر بعيدا عن
الأجهزة التشريعية للدولة، مع أن هذا لا ينفي عنه صفته القانونية التي تتوفر بمجرد
إكتمال عناصره و إحالة المشرع الوطني إليه، و هذا رغم أن العرف لا يفترض علم
القاضي به كالنص التشريعي، و أن على الخصم الذي يتمسك بوجوده إثباته إلا أن هذا لا
يمنع القاضي من القضاء فيه بعلمه الشخصي إذا كان يعلم به(3).
(1): Mohand Isaad. op. cit. p 174
(2): عز الدين
عبد الله، المرجع السابق، ص 578
(3): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص252
و
لا شك أن هذا الرأي الأخير القائم على التفريق بين الطبيعة القانونية للقانون
الأجنبي و معاملته الإجرائية أمام القضاء الوطني يتفق مع طبيعة الأمور و يساعد على
مرونة الحلول و تكييفها مع هذه النظرة، إذ لا يلزم بالضرورة أن يعامل القانون
الأجنبي من الوجهة الإجرائية نفس معاملة القانون الوطني.
و
سوف نرى في المبحثين التاليين أن التشريع و القضاء في كثير من الدول يميل نحو هذا
الرأي فهو يعترف صراحة بالصفة القانونية للقانون الأجنبي و لا يدخر جهدا في تطبيقه
من دون أن يهمل الصعوبات العملية التي تواجه القاضي و هو يطبقها و هذا ما يبرر
معاملته إجرائيا بشكل مختلف عن القانون الوطني.
الـمـبـحـث
الـثــانـي: إثــبــات مــضـمـون
الـقـانـون الأجـنـبـي
من
المبادئ المستقر عليها في قانون الإجراءات المدنية أن الخصوم يثبتون وقائع الدعوى،
و أن القاضي يطبق القانون طبقا لما ثبت أمامه من وقائع فيستجيب لطلبات الخصوم أو
يرفضها، غير أن الأمر لا يبدو كذلك إذا تعلق بالقانون الأجنبي، فهذا الأخير لا
ينشر في دولة القاضي و لا يفترض علم القاضي به كما هو الشأن بالنسبة لقانونه
الوطني، مما يجعل التساؤل حول كيفية إثباته ملحا؟
إن
الصعوبات التي تثور بشأن إثبات مضمون القانون الأجنبي دفعت البعض إلى إلقاء عبء
إثباته على الطرف الذي يتمسك بتطبيقه، بينما يميل البعض الآخر إلى إلزام القاضي
بالبحث عن مضمونه بكل الوسائل المناسبة بما في ذلك طلب معاونة الخصوم.
غير
أنه قد يتعذر في بعض الأحوال الوصول إلى مضمون هذا القانون مما يتعين معه تطبيق
قانون آخر مكانه، و إلا أصبح القاضي منكرا للعدالة، مما يؤدي بنا إلى التساؤل أيضا
حول القانون الذي يتعين تطبيقه في هذه الحالة؟
و
على هذا الأساس سوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في المطلب الأول كيفية
إثبات مضمون القانون الأجنبي، و في المطلب الثاني القانون الواجب تطبيقه في حالة
تعذر إثباته.
الـمـطـلب
الأول: كـيـفـيـة إثـبـات الـقانـون الأجـنـبي
القانون
الأجنبي لا يفترض علم القاضي به كالقانون الوطني، لذلك فإن تطبيقه على وقائع
الدعوى يحتاج أولا إلى إثبات مضمونه، و نظرا لأن تطبيق القانون الأجنبي يكون عادة
في صالح أحد الأطراف في الدعوى، فإن هناك إتجاها في القضاء خاصة في الدول
الأنكلوسكسونية يميل إلى إلقاء عبء لإثباته على عاتق الأطراف. بينما يميل الإتجاه
الغالب في كثير من الدول إلى إلزام القاضي بالبحث عن مضمونه بكل الوسائل بما في
ذلك طلب معاونة الخصوم.
الـفـرع
الأول: عـبء إثـبـات الـقـانـون الأجـنـبي
يتجه
الفقه و القضاء في بعض الدول إلى إلقاء عبء إثبات القانون الأجنبي على عاتق الأطراف
في الدعوى، بينما يميل الإتجاه الراجح إلى إلقاء هذا العبء على عاتق القاضي.
1-
إلـقـاء عـبء إثـبـات الـقـانـون الأجـنبي على عاتـق الخصـوم:
يتبنى
هذا الموقف القضاء في الدول الأنكلوسكسونية و منها إنجلترا، فبالرغم من إلتزام
القاضي نظريا بتطبيق القانون الأجنبي إذا أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد، إلا أنه
مع ذلك يفترض أن مضمون هذا القانون يتطابق نع القانون الوطني و يترتب على ذلك أن
عبء إثباته يقع على عاتق الطرف الذي يتمسك به و يدعي أن مضمونه مختلف عن القانون
الوطني.
كما
أن موقف القاضي في هذا النظام سلبي للغاية من مسألة إثبات القانون الأجنبي فلا
يجوز له تطبيقه تلقائيا حتى و لو كان يعلم بمضمونه، و لا يجوز له أيضا أن يقضي بما
أثبته الخصوم عن هذا القانون في دعوى سابقة، كما أنه إذا اتفق الخصوم على مضمون
معين لهذا القانون فإن القاضي يأخذ به و يطبقه، غير أن بعض الأحكام الصادرة عن هذا
القضاء ذهبت إلى أنه إذا كان مضمون القانون الأجنبي من الأمور الذائعة الصيت و
المشهورة فإن القاضي يمكنه أن يقضي فيه بعلمه الشخصي(1).
كما
أن الموقف التقليدي لمحكمة النقض الفرنسية يتبنى نفس الرأي عموما مع إبداء مرونة
أكبر فهو يسمح للقاضي بأن يقضي في القانون الأجنبي بعلمه الشخصي إذا كان يعلم
بمضمونه، أما إذا لم يكن على علم به فإن عبء إثباته يقع على عاتق الأطراف في
الدعوى، و هذا الموقف التقليدي يجسده قرار لوتور « Lautour » الصادر بتاريخ 25/05/1948 الذي اعتبر " أن عبء إثبات
القانون الأجنبي يقع على عاتق الطرف الذي يخضع إدعائه لهذا القانون" (2).
وقد
أثار هذا القرار عدة إنتقادات لكونه قلب في الحقيقة عبء الإثبات إذ يكفي أن يدفع
المدعى عليه بأن القانون الأجنبي الذي يطبق على الدعوى يكون لصالحه، حتى يكون
المدعي في وضع حرج لكونه يصبح مطالبا بإثباته، نظرا لأنه الطرف الذي يخضع إدعاءه
لهذا القانون.
كما
يتيح الموقف التقليدي لمحكمة النقض الفرنسية للأطراف التمسك بتطبيق القانون
الأجنبي لأول مرة أمام جهة الإستئناف لكونه ليس طلبا جديدا و إنما مجرد وسيلة دفاع
جديدة، غير أنه لا يجوز لهم التمسك بتطبيقه لأول مرة أمام محكمة النقض (3).
غير
أن المحكمة غيرت موقفها من هذه النقطة تماشيا مع قضائها بإلزام القاضي الفرنسي
بتطبيق القانون الأجنبي تلقائيا إذا تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف
فيها، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 01 جويلية 1997 في قضية طلاق بين زوجين من
جنسية مغربية طبق فيها القاضي القانون الفرنسي " أن تطبيق القانون الأجنبي
المختص لحكم نزاع يتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها يفرض على القاضي البحث
عن مضمون هذا القانون" (4).
(1): نادية فضيل، المرجع السابق، ص35. 36
(2) :
Loussouarne, et Bourel. op. cit. p 254
(3): عز الدين عبد
الله، المرجع السابق، ص581
(4) :
Rev. Crit. dr. internat. Privé. 1998. n°1.p60
وهذا
الموقف هو نفسه الذي كانت تتبناه محكمة النقض المصرية بإلقائها عبء إثبات القانون
الأجنبي على عاتق الطر ف الذي يتمسك به مستندة في ذلك إلى أنه لا يعدو أن يكون
مجرد واقعة، فقد جاء في قرار لها صادر بتاريخ 26 جويلية 1967 أن: " الإستناد
إلى قانون أجنبي - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – لا يعدو إلا أن يكون مجرد
واقعة و هو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه"(1).
غير
أنها غيرت موقفها أيضا في قرار لها صادر بتاريخ 06 فيفري 1984 جاء فيه: " إذا
كان من المقرر قانونا في قضاء هذه المحكمة أن التمسك بقانون أجنبي لا يعدو إلا أن
يكون مجرد واقعة يجب إقامة الدليل عليها، فإن مرد هذا القضاء هو الإستجابة
للإعتبارات العملية التي لا يتيسر معها للقاضي الإلمام بأحكام هذا القانون، فإن
مناط تطبيق هذه القاعدة أن يكون القانون الأجنبي غريبا عن القاضي يصعب عليه الوقوف
على أحكامه، و الوصول إلى مصادره، أما إذا كان القاضي يعلم بمضمونه أو كان علمه به
مفترضا فلا محل للتمسك بهذه القاعدة" (2).
و
يلاحظ على هذا القرار أن المحكمة فسرت تكييفها السابق للقانون الأجنبي بأنه مجرد
واقعة بكونه لا يرجع إلى ماهية هذا القانون و طبيعته، و إنما هو أمر أملته فقط
الإعتبارات العملية، كما أنها ألقت على القاضي بواجب البحث عن مضمون القانون
الأجنبي مادام ذلك في استطاعته, أي طالما كان من اليسير عليه الوقوف على أحكامه و
الوصول إلى مصادره, و هو يخضع في هذا إلى رقابة محكمة النقض التي تقيم علم القاضي
على أساس معيار موضوعي يقاس بمسلك القاضي المجتهد في مثل ظروف و ملابسات الدعوى(3).
(1): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص264
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 354
(3): هشام علي صادق، دروس في تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 161
2-
إثــبـات الـقـانـون الـوطنـي إلتـزام يقـع على عاتـق القـاضي:
يتجه
القضاء و التشريع في عدة دول إلى إلزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي,
كلما أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد الوطنية، فقط قضت بهذا محكمة النقض الإيطالية
في القرار الصادر عن دوائرها المجتمعة بتاريخ 26 فيفري 1966 وهو نفس اتجاه محكمة
النقض البلجيكية في قرارها الصادر في 23 فيفري 1984، كما أن المشرع الألماني
والسويسري تدخل بنص صريح و ألزم القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي من تلقاء
نفسه مستخدما في ذلك كافة الوسائل المتاحة بما في ذلك طلب معاونة الخصوم. و كما
رأينا فإن هذا الإتجاه هو نفسه الذي تسلكه محكمة النقض الفرنسية كلما تعلق النزاع
بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها.
ومضمون
هذا الإتجاه أن القاضي يلتزم بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي بكل الوسائل، و هو
إلتزام تمليه عليه القواعد العامة في المرافعات التي تقضي بأن يطبق القاضي القانون
على وقائع الدعوى دون حاجة إلى تمسك الخصوم به أو إثباته، غير أنه يمكنه أن يطلب
معاونة الخصوم نظرا لأن مصلحتهم قد تكون في تطبيق هذا القانون. و لا يعفى القاضي
من هذا الإلتزام إلا إذا بذل قصارى جهده و لم يصل إلى نتيجة، فالتزامه بالبحث عن
القانون الأجنبي هو إلتزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة و بالتالي يبرأ منه إذا
أثبت أنه سعى جاهدا إلى الوصول إلى مضمونه غير أنه تعذر عليه ذلك و يجب عليه في
هذه الحالة تسبيب حكمه و إلا تعرض للنقض(1).
وفي
رأينا أن هذا الرأي هو الواجب الإتباع في الجزائر في ظل سكوت المشرع
الجزائري, و عدم وجود إجتهاد من المحكمة
العليا حول هذه النقطة، و هذا راجع لعدة إعتبارات منها أن الإلتزام بتطبيق القانون
على وقائع الدعوى هو إلتزام يقع على عاتق القاضي طبقا للقواعد العامة في
الإجراءات, و هذا حتى ولو كان الأمر يتعلق بقانون أجنبي طالما أن القاضي طبقه
إمتثالا لأمر المشرع الوطني الوارد في قاعدة الإسناد الوطنية، كما أن هذا الرأي
يتماشى مع حكمة المشرع الذي اختار القانون الأجنبي بوصفه القانون الأنسب لحكم
العلاقة القانونية محل النزاع، فكان لزاما إذا على القاضي الجزائري أن يبذل جهده
لتطبيق هذا القانون بالبحث عن مضمونه من تلقاء نفسه دون انتظار مبادرة الخصوم
بذلك، خاصة و أن القانون الأجنبي يتعلق في كثير من الحالات بمجالات من النظام
العام لا يجوز للأطراف التصرف فيها كمسائل الحالة الشخصية.
(1): هشام عي
صادق، دروس في تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 162. 163
الـفـرع الـثـانـي: وسـائـل إثـبـات
الـقـانـون الأجـنـبـي
إذا
كان من المسلم به أن القانون الأجنبي قد يكون محلا للإثبات نظرا لأنه لا ينشر في
دولة القاضي و لا يفترض علمه به كالقانون الوطني، لكنة هذا لا يعني أن القانون
الأجنبي أصبح محلا للإثبات بالمعنى القانوني للكلمة، و المقصود به إثبات وقائع
الدعوى بوسائل حددها المشرع سلفا، ذلك أن القاضي في بحثه عن مضمون القانون الأجنبي
ينشد الوصول إلى الحقيقة الموضوعية لا إلى الحقيقة القضائية كما يعرضها الخصوم.
وفي
ظل سكوت التشريعات الحديثة و منها المشرع الجزائري عن وسائل إثبات القانون الأجنبي
يتجه الفقه الحديث إلى عدم التقيد بطرق الإثبات القضائي التي نظمها المشرع لإثبات
الوقائع، و إعطاء حرية أكبر للقاضي للإلتجاء إلى كافة وسائل العلم بالقانون
الأجنبي التي يراها الأصلح للوصول إلى مضمون هذا القانون دون أن يتقيد سلفا بالطرق
التي نص عليها المشرع لإثبات الوقائع و إن جاز له الاستهداء بها إذا قدرها ملائمة
لإثبات هذا القانون.
وتطبيقا
لهذا فقد استقر الفقه و القضاء في فرنسا على استبعاد الإعتراف و اليمين كوسائل
إثبات القانون الأجنبي على الرغم من أنها من أكثر الطرق المستعملة لإثبات الوقائع,
لأن القاضي في بحثه عن مضمون هذا القانون يبحث عن حقيقة موضوعية لا عن حقيقة ذاتية
ينشئها الخصوم في الدعوى(1).
وسوف
نستعرض فيما يلي أهم الطرق المستعملة لإثبات القانون الأجنبي:
1-
الـخـبرة الشـفـويـة:
تستبعد
شهادة الشهود من وسائل إثبات القانون الأجنبي لأن الشاهد تسمع شهادته على وقائع
رآها أو سمعها، أما القانون الأجنبي فلا يصلح لأن يكون محلا للشهادة لكونه يتطلب
علما و خبرة بمضمونه. و بالمقابل فإن الخبرة الشفوية تعتبر من الطرق المستعملة
لإثبات القانون الأجنبي خصوصا من طرف المحكم الإنجليزية و هو اتجاه سارت عليه
مؤخرا بعض المحاكم الفرنسية و أيده الفقه هناك(2).
والخبير
يكون في هذه الحالة من أهل الدراية و الإختصاص في القانون الأجنبي المراد الكشف عن
مضمونه، كما أن الخصوم يمكنهم مناقشته فيما أدلى به عن مضمون هذا القانون و إبداء
ملاحظاتهم، كما أنه و تطبيقا للقواعد العامة فإن القاضي له السلطة التقديرية
الكاملة في قبول الخبرة أو استبعادها بحكـم
مسبب.
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 268
(2): نادية فضيل، المرجع السابق، ص 61
2-
الـخـبـرة الـمكـتـوبـة:
الإلتجاء
إلى الخبرة المكتوبة هو عادة المسلك المتبع من قبل المحاكم الفرنسية، و تسمى هناك
بشهادات العرف « Certificats
de coutume » وهي مستندات مكتوبة من قبل أخصائيين في القانون
المراد إثابته، و يعود هذا الإصطلاح إلى ماجرى به العمل في فرنسا قبل صدور تقييم
مجموعة نابليون حيث كان يحكم كل مدينة عرف محلي خاص بها، و كان إثبات هذه الأعراف
يتم عن طرق شهادات عرف يحررها متخصصون في هذه الأعراف(1).
كما
أن الخبرة المكتوبة كالخبرة الشفوية يجب أن تعرض على الأطراف في الدعوى لإبداء
ملاحظاتهم بشأنها إحتراما لحقوق الدفاع و مبدأ وجاهية الدعوى و تخضع أيضا لتقدير
القاضي.
3-
نـصــوص القـانون الأجـنبـي أو تـرجـمتـها:
من
الوسائل التي يمكن اعتمادها لإثبات القانون الأجنبي نصوص هذا القانون نفسها كما هي
صادرة في الجريدة الرسمية أو مترجمة و من الأفضل أن تكون هذه الترجمة رسمية، كما
أنه كلما كانت هذه النصوص صادرة عن هيئة معروفة أو في مؤلف علمي معتمد كانت ها
مصداقية أكبر في الإثبات(2).
و
على كل فإن الأخذ بهذه النصوص أو استبعادها يخضع أيضا لتقدير القاضي.
4-
الـمؤلـفـات الـفقـهـيـة:
يمكن
للقاضي أيضا الإستعانة بالمؤلفات الفقهية كوسيلة لإثبات القانون الأجنبي خصوصا أن
هذه المؤلفات لا تثبت القانون الأجنبي فقط، و إنما تقوم أيضا بشرحه و تفسيره و هو
ما يساعد القاضي على تطبيقه، لكن يستحسن أن تكون هذه المؤلفات حديثة تفاديا
لإمكانية أن يكون القانون الأجنبي المراد إثباته قد تم تعديله.
5-
الأحـكـام الـقضـائـيـة:
في
ذات السياق يمكن للقاضي أيضا الإستعانة بالأحكام القضائية السابقة التي صدرت
بمناسبة الفصل في نزاع مماثل للنزاع المطروح أمام القاضي، سواءا تلك الصادرة عن
جهات قضائية وطنية أو أجنبية.
كما
أنه يمكن للقاضي اللجوء إلى الإنابة القضائية الدولية خصوصا بالنسبة للدول التي
تربطها مع الجزائر إتفاقيات للتعاون القضائي.
كما
نشير أيضا إلى أن وسائل العلم بالقانون الأجنبي قد تيسرت كثيرا، نتيجة لظهور شبكة
الإنترنيت التي لا تتيح للقاضي فقط الإطلاع على أحكام هذا القانون و إنما على
تفسيره و كيفية تطبيقه من طرف القضاء هناك.
(1): نادية فضيل،
المرجع السابق، ص 68
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 372
الـمـطـلب
الـثانـي: الـقانـون الـواجـب تـطبيقه في حالـة
تـعذر إثـبات الـقانـون الأجنبي
الصعوبات
التي تواجه القاضي عند بحثه عن مضمون القانون الأجنبي تجعل فرضية تعذر إثباته
مطروحة، و ما دمنا قد سلمنا من جهة أخرى أن إلتزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون
الأجنبي هو إلتزام ببذل عناية ينتهي إذا تعذر عليه الوصول إلى مضمونه رغم بذله
قصارى جهده، و التساؤل الذي يطرح هنا هو حول القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة
إذا تعذر الوصول إلى القانون الأجنبي، خاصة و أن القاضي ملزم طبقا للقانون بالفصل
في النزاعات التي تطرح أمامه و إلا كان منكرا للعدالة.
إن
الإجابات المقدمة لهذا التساؤل تعددت، فهناك من يرى أن القاضي يطبق في هذه الحالة
المبادئ العامة المستقر عليها في الأمم المتمدنة، و يميل إتجاه آخر إلى تطبيق
القانون الأقرب إلى القانون الذي تعذر الكشف عن مضمونه، بينما يميل الإتجاه الغالب
فقها و قضاءا إلى تطبيق القانون الوطني للقاضي في هذه الحالة.
و
سوف نعرض لكل هذه الإتجاهات مع تقدير كل منها و بيان الموقف الذي إتخذه المشرع
الجزائري
الـفـرع
الأول: تـطـبـيـق الـمـبـادئ الـعامـة الـسـائـدة
فـي الأمـم الـمتمدنـة:
يرى
البعض أنه إذا تعذر على القاضي الوصول إلى مضمون القانون الأجنبي فعليه في هذه
الحالة أن يطبق " المبادئ العامة" أو " القواعد العقلانية المستمدة
من العقل و المنطق و العدالة"، و قد طبقت هذا الرأي بعض أحكام القضاء الفرنسي
و الأمريكي، و يستند هذا الرأي إلى حجة تقوم على افتراض تطابق القانون الواجب
تطبيقه مع ما يسمى " بالمبادئ العامة
السائدة في الأمم المتمدنة "(1).
غير
أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو كون هذه المبادئ العامة السائدة في الأمم المتمدنة هي
عبارة عن قواعد عامة لا تفي بالغرض، فحتى لو سلمنا فرضا بوجود هذه المبادئ كمبدأ
" العقد شريعة المتعاقدين" فإن النزاع لا يكون مطروحا حول المبدأ في حد
ذاته و إنما حول حدوده و تفصيلاته و هو ما ينفرد ببيانه كل قانون، فضلا عن أن
تطبيق هذا الرأي يؤدي إلى اختلاف الأحكام من محكمة إلى أخرى نظرا لعمومية هذه
المبادئ و سعتها.
الـفـرع
الـثانـي: تـطبيـق الـقانون الأقـرب إلى القـانون
الأجـنبي الـذي تـعذر إثـباته
يميل
إتجاه آخر إلى تطبيق القانون الأقرب إلى القانون الأجنبي الذي تعذر الوصول إلى
مضمونه، و يستند في ذلك إلى أن تطبيق هذا القانون فيه انسجام مع قاعدة الإسناد و
حكمة التشريع فإذا ما أشارت قاعدة الإسناد بتطبيق القانون الأمريكي و تعذر على
القاضي الكشف عن مضمونه فإنه من الأجدر في هذه الحال تطبيق القانون الإنجليزي لأنه
من نفس العائلة القانونية(2).
(1)
(2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع
السابق، ص 271
غير
أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو أنه لا يمكن الجزم بوجود تقارب بين التشريعات
المختلفة في نفس المسألة، حتى و لو كانا ينتميان إلى نفس العائلة القانونية، لأن
النزاع كما أسلفنا ينصب على نقطة قانونية محددة لا على مبدأ عام، و هو ما يمكن معه
إفتراض وجود إختلافات حتى بين القوانين المتقاربة. كما أنه في تطبيق هذا القانون
مفاجأة للأطراف، بتطبيق قانون غريب لم تشر إليه قاعدة الإسناد.
الـفـرع
الـثـالـث: تـطـبـيق الـقـانـون الـوطـني
يميل
الإتجاه الغالب فقها و قضاءا إلى تطبيق القانون الوطني القاضي في حالة تعذر الوصول
إلى مضمون القانون الأجنبي وهو المستقر عليه في فرنسا و إيطاليا و سويسرا و
ألمانيا و دول أخرى، و هو نفس الرأي الذي تبناه المشرع الجزائري بموجب التعديل
الجديد للقانون المدني إذ تنص المادة 23 مكرر: " يطبق القانون الجزائري
إذا تعذر إثبات القانون الأجنبي الواجب تطبيقه".
و
يستند هذا الإتجاه في تطبيق القانون الوطني مكان القانون الأجنبي الذي تعذر إثبات
مضمونه إلى ما لهذا القانون من خاصية إحتياطية بالنسبة للعلاقات الخاصة الدولية،
حيث يعود إليه القاضي و يطبقه إذا استحال عليه إثبات القانون الأجنبي الذي أشارت
قاعدة الإسناد الوطنية باختصاصه، و لأن الأصل هو إطلاق الإختصاص التشريعي لهذا
القانون في بلد القاضي و كون هذا الإطلاق هو الأصل في تطبيق القانون من حيث المكان
(1).
غير
أن البعض يشترط لتطبيق هذا القانون أن يكون على صلة منطقية بالنزاع المطروح أمام
القاضي و ليس غريبا تماما عنه لأن تطبيق القانون الوطني قد يؤدي في بعض الحالات
إلى نتائج غير مقبولة تتنافى مع مبادئ العدالة و يقترح في مثل هذه الحالة تطبيق
القانون الأكثر ارتباطا بالمسألة المعروضة على القاضي بعد القانون الذي تعذر الكشف
عن مضمونه(2).
و
نشير في الأخير إلى أن تطبيق القانون الوطني في هذه الحالة مشروط بداهة بعدم وجود
قاعدة إسناد إحتياطية نص عليها المشرع، إذ لو وجدت هذه القاعدة فإن القاضي يطبق
القانون الذي تشير باختصاصه سواء كان
قانونه الوطني أو قانونا أجنبيا، كما هو الحال بالنسبة للمادة 18 من
القانون المدني الجزائري بشأن القانون الذي يطبق على العقود.
(1): عز الدين عبد الله، المرجع السابق، ص 592
(2): هشام علي صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 274
الـمـبحـث الـثـالـث:
تـفـسيـر الـقـانـون الأجـنـبي
إذا
ما تمكن القاضي من الوصول إلى مضمون القانون الأجنبي، انتقل إلى تطبيقه على وقائع
النزاع المطروح أمامه، غير أن القاضي و هو يطبق هذا القانون قد يبدو له معناه
غامضا و غير واضح، فيلجأ إلى تفسيره لإعطاءه المعنى الصحيح، إلا أن تفسير القاضي
للقانون الأجنبي يطرح تساؤلين أولهما حول الطريقة التي يفسر بها هذا القانون أي هل
يفسر حسب الطرق المعتمدة في تفسير القانون الوطني بالبحث عن نية المشرع و تحري
المعنى الصحيح للنص طبقا للمبادئ القانونية و المفاهيم السائدة في دولة القاضي أم
أن القاضي لا يمكنه تفسيره إلا كما هو مفسر و مطبق في الدولة التي صدر فيها؟
والتساؤل
الثاني الذي يطرح هو حول رقابة محكمة النقض على هذا التفسير، فإذا كانت هذه
الأخيرة بوصفها محكمة قانون تراقب تطبيق القاضي الموضوع للقاعدة القانونية الوطنية
فهل تراقب تفسير القانون الأجنبي؟
وعلى
هذا الأساس نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في المطلب الأول منه كيفية تفسير
القاضي للقانون الأجنبي و في مطلب ثان رقابة محكمة النقض على هذا التفسير.
الـمـطـلب
الأول: كـيـفيـة تـفسـير الـقـاضي للقـانـون
الأجـنـبي
إذا
كان القاضي ملتزما بتطبيق القانون الأجنبي المختص على وقائع الدعوى فإن هذا يعني
أنه السلطة الكاملة في تفسيره متى بدا له مبهم المعنى و يحتاج إلى تفسير، غير أنه
و بالنظر إلى أن تفسير النص القانوني بهذه الطريقة أو تلك يلعب دورا هاما في حسم
النزاع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، فإن التساؤل الذي يطرح هنا هو حول كيفية تفسير
القاضي لهذا القانون؟
و
نظرا لأن الأمر يتعلق بالقانون الأجنبي فهناك فرضيتان أولهما أن يتبع القاضي في
تفسيره له المنهج المتبع في تفسيره لقانونه الوطني فيخرج لنا بالتالي تفسيرا وطنيا
لقانون أجنبي، و الفرضية الثانية أن يتبع التفسير المعطى له في الخارج أي في دولته
الأصلية.
الـفـرع
الأول: تفـسير القانون الأجنـبي وفقا للمنـهج
المتبع في تفـسير القـانون الـوطني
يرى
جانب من الفقه أن منهج القاضي في تفسير القانون الأجنبي لا يختلف البتة عن المنهج
الذي يتبعه في تفسير القانون الوطني، فهو في كلت الحالتين يبحث عن نية المشرع،
مراعيا في ذلك نصوص هذا القانون الأخرى، مستهديا بمبادئ العدالة و فقا للمفاهيم
السائدة في دولته. و إن جاز له الرجوع في تفسيره للقانون الأجنبي إلى الآراء السائدة
لدى كل من الفقه و القضاء الأجنبيين إلا أنه مع ذلك غير ملزم
بها،
لأنه إذ يحكم بالعدل فهو يفعل ذلك باسم الدولة التي يتبعها و تحت مسؤوليتها، و لا
يلتزم بالحلول القضائية السائدة في الخارج إلا في الحالة التي يعتبر القضاء مصدرا
رسميا للتشريع في الدولة التي يطبق قانونها(1).
غير
أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو كونه يؤدي إلى فصل القانون الأجنبي عن البيئة التي
يطبق فيها، فالمشرع عندما أشار بتطبيق القانون الأجنبي إنما قصد القانون الأجنبي
السائد فعلا في الخارج لا مجرد النصوص المطلقة التي يحتويها، و أن القول بغير هذا
يؤدي إلى تحريف هذا القانون و إعطاءه معنا لم يقصده أصلا مشرع الدولة التي أصدرته.
الـفـرع
الـثانـي: تـفسيـر القانـون الأجـنبي وفـقا
لتفسيره في دولـته الأصـليـة
يميل
الإتجاه الغالب في الفقه إلى إلزام القاضي بتفسير القانون الأجنبي حسب ما هو مفسر
في دولته التي صدر فيها، و يستند في ذلك إلى أن قاعدة الإسناد إذا ما عينت قانونا
أجنبيا لحكم النزاع فإن على القاضي أن ينظر إلى هذا القانون في مجموعه « Dans sa
totalité »، أي سواءا من حيث مصادره أو الحلول و التفسيرات التي يكرسها له
القضاء الأجنبي، و ذلك حتى و لو بدا له النص واضحا و لا يحتاج إلى تفسير، لأنه
يطبق القانون الأجنبي الموجود فعلا في الخارج و لأن القاعدة القانونية الأجنبية لا
تتشكل من مجرد النصوص التشريعية و ما تتضمنه من مبادئ عامة و مطلقة، بل إن مضمونها
الحقيقي هو مجموع هذه المبادئ كما هي مطبقة في واقع الحال في الدولة الأجنبية(2).
غير
أنه يمكن للقاضي إستثناءا على هذا المبدأ أن يقوم بدور إيجابي في تفسير النص
القانوني الأجنبي متى بدا له أنه غير مفسر في الخارج أو قد أعطيت له تفسيرات
متناقضة من قبل القضاء هناك، على أن يراعي في تفسيره البيئة التي صدر فيها و
المبادئ القانونية السائدة في الدولة المصدرة له.
وفي رأينا أن هذا الرأي هو الأولى بالإتباع
بالنسبة للقاضي الجزائري، وهذا كل ما تمكن من معرفة التفسير المعطى في الخارج
للقانون الأجنبي و هذا للإعتبارات التي ذكرناها سالفا، أما إذا لم يتمكن من التعرف
على التفسير المعطى له ففي هذه الحالة يقوم بتفسيره مراعيا بذلك البيئة التي صدر
فيها و المبادئ القانونية السائدة في تلك الدولة.
(1): هشام علي صادق، تنازع القوانين،
المرجع السابق، ص 270
(2): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 379
الـمـطـلب
الـثانـي: رقـابة محـكمـة النـقض عـلى التفسـير
القانوني الأجـنـبي
إذا
كان من المستقر عليه أن محكمة النقض تراقب تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد بوصفها
قاعدة قانونية وطنية، يلزم القاضي بحسن تطبيقها، فإذا أخطأ القاضي في تفسيرها أو
في تكييف العلاقة القانونية محل النزاع، فإن حكمه هذا يكون معرضا للنقض، غير أن ما
يثير التساؤل هو مدا رقابة هذه المحكمة على تطبيق القانون الأجنبي؟
إن
موقف القضاء من هذه المسألة مختلف من دولة إلى أخرى، فبينما تستبعد محكمة النقض
الفرنسية فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي، إلا في حالة تحريف مضمونه،
يتمسك بالمقابل القضاء في كثير من الدول بفرض رقابة على تطبيق و تفسير هذا
القانون.
أما في الجزائر و غياب إجتهاد من المحكمة العليا
حول هذه النقطة فإن المشرع الجزائري يميل إلى عدم إخضاع تطبيق هذا القانون لرقابة
المحكمة العليا إلا إذا تعلق القانون الأجنبي بالحالة الشخصية.
الـفـرع
الأول: رفـض الرقابة على تفسير الـقانون
الأجنبي: مـوقف محكمة النقض الفـرنسيـة
يتسم
موقف محكمة النقض الفرنسية برفضها فرض رقابتها على تفسير و تطبيق قاضي الموضوع
للقانون الأجنبي إلا إذا كان هذا الأخير قد حرف النص القانوني الأجنبي بالخروج
الكامل عن معناه الواضح
1-
الـمـبدأ:
رفـض الـرقـابة عـلى تفسـير الـقانون الأجـنبـي
ترفض محكمة النقض الفرنسية في كثير من
قرارتها فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي معتبرة أن تطبيق و تفسير هذا
القانون يخضع لمطلق سلطة تقدير قاضي الموضوع، و اللافت أنها لا تستند في ذلك إلى
أن القانون الأجنبي يعتبر واقعة أمامها، بل تشير صراحة إلى صفته القانونية فقد جاء
في قرار لها صادر بتاريخ 13 جانفي 1993 أن " قاضي الموضوع يطبق و يفسر بكل
سيادة القانون الأجنبي، هذا الأخير يبقى رغم غياب رقابة محكمة النقض قاعدة
قانونية لا تخضع لأحكام المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية الجديد"(1).
و قد ماثل الفقه الفرنسي بين موقف
المحكمة من تفسير القانون الأجنبي و موقفها من تفسير العقود، إذ أنها ترفض أيضا
فرض رقابتها على تفسير قاضي الموضوع للعقود، غير أن هذا التشبيه أثار إنتقادات
عديدة، على أساس أن العقود مراكز قانونية ذاتية يقتضي تفسيرها البحث عن نية
المـتعاقدين، و التحري
(1): Rev. Crit. dr. internat.
privé. 1994 n°1 tome 83. p 78
على الظروف الواقعية الملابسة للعقد، و
قد يتطلب الأمر اللجوء إلى إجراء تحقيق و هو ما يخرج عن دور محكمة النقض، أما
القانون الأجنبي فهو يتضمن قواعد عامة و مجردة يمكن أن تخضع لتفسير المحكمة دون أن
يتطلب منها ذلك التطرق إلى وقائع الدعوى.
لذا فإن الفقه الفرنسي الحديث يميل إلى
تبرير موقف محكمته بأسباب إجرائية بحتة تتعلـق بتنظيم المحكمة، و دورها في النظام
القضائي الفرنسي الذي يتمثل في المحافظة على وحدة تـطبيق الـقانـون الـفرنسـي،
وإعطاءه التفسير الصحيح، أما إذا مددت مهمتها هذه إلى القانون ففي هذه الحالة لا
تعطيه تفسيرها الخاص كما تفعل بالنسبة للقانون الوطني، و إنما تبحث عن التفسير
المعطى له في الخارج، و هو ما يدفعها للقيام بتحريات واقعية تخرج عن وظيفتها
كمحكمة قانون(1).
إلا أن هذا التبرير لموقف المحكمة تعرض
بدوره إلى انتقادات من جانب الفقه الفرنسي مستندا في ذلك إلى أن وظيفة محكمة النقض
هي توحيد الحلول القضائية السائدة في الدولة، و هذا يقتضي منها فرض رقابتها على
تفسير قواعد هذا القانون وطنية كانت أم أجنبية. و من جهة أخرى أنه إذا كان صحيحا
أن البحث عن التفسير المعطى للقانون الأجنبي في الخارج أمر غير ميسر في جميع
الأحول إلا أن هذا البحث لا يضفي على مهمة الحكمة صفة الواقع، فالبحث عن مضمون
العرف الداخلي لا يقل صعوبة عن التصدي لتفسير القانون الأجنبي، و مع ذلك فإن محكمة
النقض الفرنسية لم تتردد في فرض رقابتها على تفسير القواعد العرفية. كما أن الرأي
السالف يتجاهل تطور الدراسات المقارنة التي يسرت على القاضي مهمة البحث عن مضمون
القانون الأجنبي و تفسيره (2).
و
لعل كل هذه الإعتبارات هي التي أدت إلى تغيير موقف المحكمة في اتجاه فرض رقابتها
على تفسير القانون الأجنبي في حالة تحريف مضمونه.
2-
الإسـثـنـاء: فـرض الرقابـة في حالة تحريف مضـمـون الـقانـون الأجـنـبي
على
الرغم من أن نظرية تحريف « la
Dénaturation » القانون الأجنبي كانت معروفة لدى القضاء الفرنسي منذ زمن بعيد،
إلا أن محكمة النقض لم تطبقها إلا مرة واحدة في حكم لها صادر بتاريخ 18 جويلية
1878، و منذ صدور هذا القرار كانت المحكمة ترفض باستمرار فرض رقابتها على تفسير
القانون الأجنبي تحت شكل من الأشكال، إلى أن صدر قرار مونتيفيور « Montefiore »
بتاريخ 21 نوفمبر 1961، وهو القرار الذي نقض حكم
قاضي الموضوع بدعوى أنه: " تجاهل و حرف المعنى الواضح و الدقيق للمستند
التشريعي"
(1) :
Laussouarne, et Bourel. op. cit. p 258.259
(2): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 288
و
كان الطعن مؤسسا على أن قاضي الموضوع حمل دولة بلجيكا المسؤولية عن القرض محل
النزاع متجاهلا بذلك القانون الصادر في: 18 أكتوبر 1908 الذي نص بوضوح على فصل
الذمة المالية لبلجيكا عن الذمة المالية لدولة الكونغو التي كانت مستعمرة بلجيكية
في ذلك الوقت(1).
و
من بين القرارات الحديثة أيضا التي مارست فيها المحكمة رقابتها على تحريف القانون
الأجنبي القرار الصادر في 01 جويلية 1997 الذي نقض حكم قاضي الموضوع كونه: " تجاهل
المعنى الحرفي الواضح للمادة 1380 من قانون الالتزامات المدنية و التجارية
السنغالي، و فسره التفسير ذاته المعطى للمادة 244 من القانون المدني الفرنسي رغم
أن عبارات النصين ليست متطابقة، و دون الرجوع إلى أية مصادر أخرى معتمدة في
القانون السنغالي" (2).
لكن
رغم ذلك فإن الملاحظ على قضاء هذه المحكمة هو أنها تلجأ إلى هذه الوسيلة بحذر شديد،
و لا تأخذ بها إلا في حالات محددة تقدر فيها أن القاضي قد حرف مضمون القانون
الأجنبي، و هو ما جعل جانبا من الفقه يتساءل عن المعيار المعتمد للتفريق بين مجرد
الخطأ في تطبيق هذا القانون، و تحريف مضمونه.
ففكرة
خروج القاضي عن المعنى المحدد و الواضح للقانون الأجنبي، لا تصلح كمعيار للتفرقة
لأن النص القانوني الأجنبي ليس في حقيقته إلا جزءا من التنظيم التشريعي ككل، و لا
يمكن الحكم بوضوحه أو غموضه إلا بالرجوع إلى النصوص الأخرى التي يتضمنها هذا
التنظيم. فليس من الممكن التعرف على حقيقة مضمون القاعدة القانونية إلا بالرجوع
إلى مجموعة القواعد القانونية الأخرى و إلى التفسير المعطى لها من طرف القضاء
الأجنبي، و على هذا الأساس يرى جانب من الفقه أن المحكمة مارست في الحقيقة التفسير
تحت ستار فكرة التحريف، و أن هذه الرقابة تبقى سلطة تقديرية للمحكمة تحتفظ بها
لنفسها في الحالات التي تراها لازمة و مناسبة(3).
الفـرع
الـثانـي: فـرض الرقابة على تفـسير القانـون
الأجنبي: موقف محكـمة النقض المصـرية
تميل
محكمة النقض المصرية إلى اتجاه فرض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي تماما
كالقانون الوطني، و هذا هو إتجاه القضاء في دول أخرى كإيطاليا، تركيا و اليونان و
أيضا العديد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة، الكويت و الأدرن، و هذا الموقف تبناه
صراحة المشرع التونسي في المادة 34 من المجلة التونسية للقانون الدولي الخاص إذ
تنص هذه المادة " يطبق القاضي
القانون الأجنبي كما
(1) : Laussouarne, et Bourel. op.
cit .p 269
(2) : Rev. Crit. dr. internat.
privé. 1998 n° 2. p292
(3): هشام علي
صادق، تنازع القوانين، المرجع السابق، ص 294
وقع
تأويله في النظام القانوني المنتمي إليه، و يخضع تأويل الـقانون الأجنبي لرقابة
محكمة التعقيب"(1).
وقد
استحسن الفقه المصري موقف محكمته فير فرض الرقابة على تفسير القانون الأجنبي، معتبرا
أن ذلك يدخل في نطاق وظيفتها، و واجبها المتمثل في توحيد الحلول القضائية في
الدولة، كما لم يجد أي تناقض بين موقف المحكمة من إثبات القانون الأجنبي الذي ألقت
بعبء إثباته على عاتق الخصوم في بعض الحالات، و بين موقفها في فرض رقابتها على
تفسير هذا القانون معتبرا أنها لم تنكر على هذا القانون صفته القانونية إبتداءا،
بل رأت أنه ليس من السائغ أن ترهق القاضي في كل مرة بالبحث عن قوانين يجهلها، و
قدرت أن الأصل هو وقوع هذا الإلتزام على عاتق الخصوم بوصفهم أصحاب مصلحة. أما و قد
ثبت مضمون هذا القانون فليس من العسير عليه أن تلزمه بحسن تطبيقه مادام ذلك يدخل
في نطاق وظيفته و هي أن يطبق القانون التطبيق السليم و يحسن تفسيره (2).
الـفـرع الـثالـث: مـوقـف الـمشـرع الـجزائـري
في
ظل غياب إجتهاد من المحكمة العليا في الجزائر حول مسألة فرض رقابتها على تفسير
القانون الأجنبي، فإن المادة 233/5 من قانون الإجراءات المدنية جاءت بموقف المشرع
الجزائري حول هذه النقطة، إذ تنص أن أحد أوجه الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا
هو: " مخالفة أو خطأ في تطبيق القانون الداخلي أو الخطأ في تطبيق قانون
أجنبي متعلق بالأحوال الشخصية" فقراءة هذا النص بمفهوم المخالفة تقتضي أن المحكمة العليا في
الجزائر لا تبسط رقابتها على المخالفة أو الخطأ في تطبيق قانون أجنبي غير متعلق
بالأحوال الشخصية.
إن
هذه الأهمية التي أولاها المشرع للقانون الأجنبي المتعلق بالأحوال الشخصية، تعود
إلى إرتباط مسائل الحالة الشخصية بالنظام العام، و لهذا فإنه ارتأى إخضاعها لنفس
الأحكام المتعلقة بالقانون الوطني، و هذا ما يوجب على قضاء الموضوع السهر على حسن
تطبيقها و تفسيرها التفسير الصحيح، و إلا تعرض قضاءهم للنقض.
غير
أن هذا النهج الذي تبناه المشرع الجزائري في التفريق بين القانون الأجنبي المتعلق
بالحالة الشخصية و القانون الأجنبي المتعلق بمجالات أخرى، لاقى انتقادا من البعض
على أساس أن القاضي قد يطبق في دعوى واحدة قانونا أجنبيا متعلقا بالحالة الشخصية و
قانونا أجنبيا غير متـعلق به، و هو ما يوجب على قضاة المحكمة العليا التفريق
بينهما و هو أمر صعب و غير سائغ(3).
(1): عكاشة محمد عبد العال، المرجع السابق، ص 427
(2): هشام علي صادق، المرجع السابق، ص 289
(3): Mohamed Isaad. op. cit. p 199
و
قد دفع هذا الموقف من المشرع الجزائري البعض إلى القول أن القانون الأجنبي يعتبر
في نظر هذا الأخير مجرد واقعة إذا لم يكن مرتبطا بالحالة الشخصية، و قد بينا خطأ
هذا الرأي عندما خلصنا- كما يرى ذلك الفقه الحديث- إلى ضرورة التفريق بين طبيعة
القانون الأجنبي، و معاملته الإجرائية بشكل مختلف عن المعاملة التي يلقاها القانون
الوطني نتيجة للصعوبات العملية التي تواجه القاضي عند تطبيقه للقانون الأجنبي.
على
أننا و إن كنا نرى أن نص المادة 233/5 بصيغتها الحالية لا تسمح للمحكمة العليا
ببسط رقابتها على تفسير القانون الأجنبي إذا لم يكن متعلقا بالحالة الشخصية، إلا
أنه لا يوجد ما يمنعها من بسط رقابتها في حالة التحريف الكامل لمضمون النص
القانوني الأجنبي لأن في هذا خرق لقاعدة الإسناد الوطنية في حد ذاتها التي أشارت
بتطبيق هذا القانون فكأن القاضي بتحريفه لمضمونه طبق قانونا آخر لم تشر إليه هذه
القاعدة أصلا. و أيضا فإن هذا الرأي يتماشى مع الإجتهاد القضائي في الدول التي لا
تأخذ بالرقابة على تفسير القانون الأجنبي.
الـخــاتـمــة
بعد
أن إنتهينا من دراسة مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، و استعراض مختلف
الإشكاليات التي تواجه القاضي عند تطبيقه، و الحلول المقترحة لها، فإن ما يمكن أن
نخلص إليه من دراستنا لتعامل القضاء و التشريع في كثير من الدول مع هذا القانون،
هو أن هذا الأخير أصبح محل تطبيق من القضاء الوطني في كل دول العالم، و هو ما دعا
بالبعض إلى القول بوجود عرف دولي ملزم يحتم على كل دولة السماح بتطبيق القوانين
الأجنبية على إقليمها، كما أن القانون الأجنبي أصبح يحتل تدريجيا مكانة تضاهي
المكانة التي يتمتع بها القانون الوطني، و هذا ما نلاحظه من خلال إتجاه القضاء
الوطني في كثير من الدول إلى تطبيقه تلقائيا و الإعتراف بطبيعته كقانون خلافا لما
كان عليه الحال في السابق.
إن
هذه المكانة التي أصبح يتمتع بها القانون الأجنبي تعود إلى ازدهار العلاقات
الدولية الخاصة و نموها نتيجة لتطور وسائل الإتصالات و نتيجة أيضا لقيام علاقات
سلمية بين كثير من دول العالم، و هو ما أدى إلى نمو التجارة الدولية و اتساع حركة
إنتقال السلع و الخدمات من دولة إلى أخرى و هو ما يعني إزدياد العلاقات القانونية
ذات العنصر الأجنبي، المجال الخصب لتطبيق القانون الأجنبي.
غير
أن هذا لا يحول دون الإعتراف بوجود عدد من الصعوبات تواجه تطبيق القانون الأجنبي
أمام القضاء الوطني ناتجة بالدرجة الأولى عن الصفة الأجنبية لهذا القانون، و نذكر
على سبيل المثال مسألة صعوبة إثباته، و كذلك مشكلة تفسير القانون الأجنبي خاصة إذا
ما علمنا أن القاضي يجد صعوبة حتى في تفسير نصوص قانونه الوطني، و هذه الصعوبة
تتعقد أكثر إذا كنا أمام القانون الأجنبي الذي ينتمي في كثير من الأحيان إلى أنظمة
قانونية لا تشبه النظام القانوني الوطني و بالتالي يكون هناك إختلاف في المفاهيم و
المبادئ القانونية و هو ما يصعب على القاضي مهمة تطبيق القانون الأجنبي.
إن
هذه الصعوبات التي تواجه تطبيق القانون الأجنبي والاشتباه في تحيز القاضي الوطني
إلى دولته دفعت بالأفراد خصوصا في العقود التجارية الدولية الكبرى إلى الاتفاق على
اللجوء إلى التحكيم لحل نزاعاتهم، و أدت أيضا إلى ظهور القواعد المادية ذات
التطبيق المباشر و التي ترصد حلولا موضوعية مباشرة لبعض العلاقات القانونية ذات
العنصر الأجنبي.و هذه القواعد هي في نمو مستمر خاصة في مجالات معينة و نذكر على
سبيل المثال هنا عقود النقل البحري و الجوي على المستوى الدولي، و في حالة حدوث
خلاف حول تطبيق هذه القواعد الإتفاقية فإن النزاع غالبا يعرض إما على التحكيم وهذا
هو الغالب أو أمام القضاء الوطني.
غير
أن هذه المناهج و الطرق المتبعة لتنظيم العلاقات الدولية الخاصة لا تعني أن المنهج
التنازعي الذي يتيح إمكانية تطبيق القانون الأجنبي في طريقه إلى الزوال بل إن
الحاصل أن هذه المناهج تسير جنبا إلى جنب في تنظيم العلاقات الخاصة الدولية و لكل
منهج مجاله المعين.
أما
في الجزائر فإن ما يمكن أن نلاحظه هو أن هناك تأخرا في تطبيق القانون الأجنبي
مقارنة بما هو الحال عليه في دول أخرى، فإذا ألقينا نظرة على قرارات المحكمة
العليا في هذه المادة فإننا نجدها قليلة و تقتصر على مجموعة من القرارات تتعلق في
مجملها بتفسير قواعد الإسناد و كيفية تطبيقها خصوصا في مسائل الحالة الشخصية
كالزواج، الطلاق، و الوصاية، أما المسائل الأخرى الناتجة عن تطبيق القانون الأجنبي
كإثبات مضمونه و تفسيره و حالات إستبعاد تطبيقه لمخالفته النظام العام أو الغش نحو
القانون فلم تثر أمام هذه المحكمة و هو ما يعني أن القانون الأجنبي لا يثار تطبيقه
أمام قاضي الموضوع إلا نادرا.
إن
إنفتاح الجزائر على التجارة الدولية، و اتساع حركة المعاملات مع الخارج و زيادة
حركة انتقال الأفراد من و إلى الجزائر، ينعكس على ازدياد العلاقات القانونية
المشتملة على عنصر أجنبي و هو ما يفرض على القاضي الجزائري أن يتصدى للحكم في
النزاعات الناجمة عن هذه العلاقات و يفرض
عليه أيضا عدم تجاهل القانون الأجنبي و تطبيقه تلقائيا إذا كان هو المختص لحكم هذه
العلاقات و هو ما ينعكس على تطور هذه المعاملات و نموها، لأن القاضي المتكون و
المستقل هو أكبر ضمان لتطور الحياة الإقتصادية و ازدهارها في أي دولة.
و
أخيرا فإن ما نخرج به كاستنتاج هو أن مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني
يتوقف بشكل كبير على الطريقة التي يتعامل بها القاضي مع هذا القانون.
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم