ضابط، التعزير يثبت مع الشبهة -شبهة الإثبات-
ضابط:
التعزير يثبت مع الشبهة
-شبهة الإثبات-
د .نايف بن علي بن عبدالله القفاري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، وبعد:
فمن الضوابط الفقهية التي يكثر استعملها في أروقة
المحاكم "التعزير يثبت مع الشبهة"، وهذا بحث أحاول فيه ضبط هذا الضابط
متى يصح الاستناد إليه ومتى لا يصح.
وأشير هنا إلى أنّي لم أقف على من استوعب الحديث
عن مسألة التعزير مع الشبهة، ومن تطرق لها من المعاصرين-فيما وقفت عليه- يورد كلام
السيوطي وابن نجيم المقرر للتعزير مع الشبهة كرأي أول، ثم يورد نقلاً عن ابن القيم
في نفي التعزير مع الشبهة كرأي ثان في المسألة، ثم يدلف إلى الترجيح..
والذي ظهر لي أنه لا تقابل أصلاً بين عبارة
السيوطي وابن نجيم من جهة وعبارة ابن القيم من جهة أخرى، كما سيظهر في ثنايا البحث
بإذن الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يلهمني الصواب، وأن يهديني
وقارئه للحق بإذنه إنه ولي ذلك. وبالله التوفيق.
أولاً: تعريف الشبهة:
الشبهة في اللغة: الالتباس. قال الرازي: ((الشُّبْهَةُ)
الِالْتِبَاسُ. وَ (الْمُشْتَبِهَاتُ) مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْكِلَاتُ)([1]).
وفي الاصطلاح: عرفت بتعاريف مختلفة. فمن ذلك:
1-هي: ما يشبه الثابت وليس بثابت([2]).
2-هي: وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته([3]).
3-هي: ما التبس أمره حتى لا يمكن القطع فيه أحلالٌ
هو أم حرام، وحق هو أم باطل.
وتتقاطع هذه التعاريف مع التعريف اللغوي في
الالتباس والتردد في الأمر.
وقسمت الشبهة إلى:
شبهة العقد: ما وجد فيه العقد صورة لا حقيقته
كالزواج بغير شهود، ونكاح المحلل.
شبهة الفعل: وتسمى شبهة اشتباه: أن يظن الحرام
حلالاً فيأتيه، كوطء المعتدة من طلاق الثلاث ظاناً أنها تحل.
شبهة في المحل: وتسمى الشبهة الحكمية، وهي أن يظن
المحل محلاً فإذا هو ليس كذلك، كما إذا وطئ امرأة في فراشه ظانا أنها امرأته فإذا
هي أجنبية.
شبهة الملك: أن يملك من الشئ جزءً، كسرقة الشريك
من مال الشركة، ووطئ الأمة المشتركة، أو تكون له فيه شبه ملك، كسرقة الشخص من مال
ابنه([4]).
شبهة الإثبات: وهو أن يلحق مستند الأحكام
القضائية شبهة تورث إبطال هذا المستند أو إضعافه.
وأكثر ما يقع اللبس فيما يتعلق بضابط "التعزير
يثبت مع الشبهة" هو في شبهة الفعل([5]) وشبهة الإثبات، وسينصب
اهتمامي في هذا البحث على ما يتعلق بشبهة الإثبات.
ثانياً:
ألفاظ الضابط في المدونات الفقهية،
والمراد به.
ضابط "التعزير
لا يسقط بالشبهة" من الضوابط المشتهرة التي يعلل بها الفقهاء في مدوناتهم
الفقهية، وتقررها كتب القواعد الفقهية.
من ألفاظها عند الحنفية:
(التعزير يثبت مع الشبهة) ابن نجيم في الأشباه
والنظائر 1/388.
(التعزير خالص حق العبد وهو لا يندرئ بالشبهة) ابن عابدين منحة الخالق على البحر الرائق 5/39.
من
ألفاظها عند الشافعية:
(الشبهة لا تسقط التعزير) السيوطي في الأشباه
والنظائر 123.
(لا تسقط التعزيرات بالشبهة) المنثور للزركشي
2/226.
ومن ألفاظها: (الشبهة تدرأ بها الحدود ولا تدفع
بها الحقوق). الحاوي 16/341. وقال الماوردي أيضاً -الحاوي 14/235- في تقريره لسقوط
الحد عمن وطئ جارية من السبي قبل القسمة: (فإذا ثبت سقوط الحد نظر، فإن علم
بالتحريم عزر؛ لأن الشبهة لا تمنع من التعزير، وإن منعت الحد لحظر الإقدام
على الشبهات، وإن لم يعلم بالتحريم فلا حد عليه ولا تعزير).
أما كتب المالكية والحنابلة فلم أقف على
شيء ذي بال يصلح أن يدرج في هذه الفقرة.
والمقصود
بهذا الضابط إجمالاً أنَّ موجب التعزير إذا ثبت بظن غالبٍ وبقي
شك يُلْبِس أمر الثبوت، فلا يسقط التعزير لأجل هذا اللبس، ولا يُلتفت لهذا الشك مع
وجود الظن الغالب.
فالشبهة في مرادهم = الأمر الملبس أو الشك الذي
يقابل =الظن الغالب على ثبوت التهمة اعتماداً على البينات.
فهذه الشبهة حينئذٍ لا تقوى على إسقاط التعزير،
لأن الصورة هي:
شك "شبهة" في عدم قيام موجب
التعزير =يقابل= ظناً غالباً في قيام موجب التعزير.
فيعمل بالظن الغالب ويثبت التعزير.
هذا هو مراد أهل العلم من هذا الضابط؛ والذي حدث
لدى البعض في الآونة الأخيرة هو قلب لهذا الضابط رأساً على عقب !
وصورة هذا القلب هي:
ظنٌ غالب في عدم قيام موجب التعزير =يقابل=
شكاً "شبهة" في قيام موجب التعزير
فيعمل بالشك ويطرح الظن الغالب، وينسب هذا الفهم
للفقهاء ويجعله هو مرادهم من هذا الضابط، ومن ذلك أنّ أحد التسبيبات القضائية التي
وقفت عليها، قيل فيه: (ولما قرره العلماء رحمهم الله أن التعزير يصدر لأدنى
شبهة) !!
فأين قرر أهل العلم هذا؟! وأين ذكروه؟!
خلطٌ بينٌ منشأه هذا القلب، وسيأتي بإذن الله تعالى
في "رابعاً" مزيد بسط لهذا الفهم ومعارضته للأصول الشرعية.
وقد بدا لي أن منشأ هذا الضابط –والله أعلم- هو تسامح
جملة من أهل العلم في درء الحدود وإسقاطها لأدنى شبهة وفرعوا على ذلك قبول رجوع
المقر بالحد، وأنه يستحب تلقينه الرجوع، ويترك إذا هرب حال إقامة الحد وكان مستند
الحكم إقراره، وهكذا جعلوا الشريعة تتشوف إلى درء الحد بأي وسيلة، وأسقطوا الحد لأدنى
لبس..
ثم قابلوا بين الحدود والتعازير، فقالوا: إن باب
التعازير مغاير لباب الحدود، فالحدود تسقط مع الشبهة، والتعازير تثبت معها.
ومن يجعل الشبهة في باب الحدود كالشبهة في باب
التعازير ينازع في هذا الأصل، وهو يشدد في أمر الشبهة، فليس كل لبس يسقط العقوبة، ومن
ذلك ما قرره ابن حزم حيث يقول: (الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة
..، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وإذا ثبت الحد لم يحل أن
يدرأ بشبهة لقول الله تعالى {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] )([6])،
ويقول الشوكاني: (الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك [يعني: درأ الحد]، أما
لو لم تكن محتملة فليست شبهة؛ بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله
من الحدود )([7]).
ثالثاً: محل العمل بضابط"التعزير يثبت مع الشبهة":
يقصد بهذا الضابط مواطن محددة لا تتجاوز إلى غيرها،
وأنبه إلى أن المقصود من النصوص التي ستأتي تجلية المواضع التي تطبق فيها القاعدة،
ولهذا سأكتفي بإيراد النقول من غير إشارة للخلاف؛ لأن المراد -كما ذكرت- هو
استقراء مواطن تطبيق هذا الضابط لا بحث أفراد المسائل.
وهذه المواطن التي يراد بها الضابط، هي:
1-أن التعازير يتوسع في وسائل إثباتها ما لا يتوسع في غيرها من
أجناس العقوبة، فيقبل لإثباتها وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً في
غير بابي الحدود والقصاص . ومن ذلك: ما جاء في كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم: (تنبيه:
التعزير يثبت مع الشبهة؛ ولذا قالوا: يثبت بما يثبت به المال، ويجري فيه الحلف،
ويقضى فيه بالنكول)([8]).
وفي درر الحكام في الفقه الحنفي: ((يحلف منكر القود).. (فإن نكل في النفس) لم يقض
بقتل ولا دية بل (حبس حتى يقر أو يحلف وفيما دونها يقتص) عند أبي حنيفة وعندهما
تلزمه الدية فيهما ولا يقضى بالقصاص لأن القصاص فيما دون النفس عقوبة تندرئ
بالشبهات ولا يثبت بالنكول كالقصاص في النفس..، (ويحلف في التعزير) يعني إذا ادعى
على آخر ما يوجب التعزير وأراد تحليفه إذا أنكر فالقاضي يحلفه لأن التعزير محض حق
العبد ولهذا يملك العبد إسقاطه بالعفو ولا يمنع الصغر وجوبه ومن عليه التعزير إذا
أمكن صاحب الحق منه أقامه ولو كان حق الله تعالى لكانت هذه الأحكام على عكس هذا
والاستحلاف يجري في حقوق العباد سواء كانت عقوبة أو مالا (فإن نكل عزر) لأن التعزير
يثبت بالشبهات فجاز أن يقضى فيه بالنكول)([9]).
فأجازوا
في التعزير للحق الخاص: أن يُحَلَّف المدعى عليه، ويقضى عليه بالنكول، وهذا مما لا
يعمل به في الحدود والقصاص، لأن النكول
محتمل فلا يقبل فيها كونها تدرأ بالشبهات.
وأما التعزير فيثبت بالشبهة فيُعمل فيه من وسائل الإثبات ما لا يسوغ قبوله في غيره([10]).
ومن
هذا ما ذكره ابن مفلح في المبدع:
(ومن عزر بوطء فرج، ثبت برجلين، قدمه أكثر الأصحاب، وقيل: أربعة)([11]) فالزنا لا يثبت
إلا بأربعة شهود، وأما التعزير لأجل الوطء –كوطء الجارية المشتركة- فيكفي لثبوته
شاهدان في قول أكثر الحنابلة.
ومنه أيضاً ما جاء في فتح القدير: (يستحلف السارق
بالله ما له عليك هذا المال؛ لأنه يثبت بالشبهات؛ ألا يرى أنه يثبت بكتاب
القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة، فجاز أن يثبت بالنكول الذي هو بذل أو
إقرار فيه شبهة، والحدود لا تقام بحجة فيها شبهة فكذلك لا تقام بالنكول،
فلهذا لا يجري اليمين في الحدود)([12])، فجوز تحليف
السارق على المال المسروق لحق العبد؛ لأن المطالبة هنا مالية وهي تثبت مع الشبهة،
وأما السرقة نفسها فلا يحلف عليها لأن الحدود لا تقام بالشبهات.
ومنه أيضاً ما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي
والشهادة على الشهادة، قال الموصلي يعلل لعدم قبول الشهادة على الشهادة في الحدود
والقصاص: (وإنما لم تجز في الحدود والقصاص لأن مبناهما على الإسقاط والدرء وفي ذلك
احتيال على الثبوت، ولأن فيها شبهة لزيادة احتمال الكذب أو البدلية
والحدود تسقط بالشبهات..، وما يوجب التعزير عن أبي حنيفة أنه لا يقبل
كسائر العقوبات، وعن أبي يوسف أنه يقبل، لأن التعزير لا يسقط بالشبهة، لما
روي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً بالتهمة" والحبس تعزير)([13])، فلم تقبل الشهادة
على الشهادة في الحدود؛ لأنها لا تثبت مع الشبهة، وقبلها أبو يوسف في التعازير؛
لأن التعزير يثبت مع الشبهة.
2-إذا وجدت الأمارات القوية على
مواقعة موجب الحد، ولم يثبت
مواقعته بوسائل الإثبات المعتبرة لإقامته، فحينئذٍ لا يحد؛ لأن الحدود لا تقام إلا
بطرق إثباتها المعتبرة، لكن يعزر لأن التعزير يثبت مع الشبهة. وهذا الموطن غير
وارد في مذهب من يرى إقامة الحدود بالقرائن.
ومن تطبيقات هذا الموطن ما جاء في المبسوط: (قلت:والرجل
يوجد في بيته الخمر بالكوفة، وهو فاسق، أو يوجد القوم مجتمعين عليها، ولم يرهم أحد
يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها هل يعزرون قال: نعم؛ لأن الظاهر أن الفاسق
يستعد الخمر للشرب، وأن القوم يجتمعون عليها لإرادة الشرب، ولكن بمجرد الظاهر لا
يتقرر السبب على وجه لا شبهة فيه، فلا يمكن إقامة الحد عليهم، والتعزير مما
يثبت مع الشبهات، فلهذا يعزرون، وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من الخمر بالكوفة،
أو قال ركوة، وقد كان بعض العلماء في عهد أبي حنيفة - رحمه الله - يقول: يقام عليه
الحد كما يقام على الشارب؛ لأن الذي يسبق إلى وَهْمِ كلِّ أحدٍ أنه يشرب بعضها،
ويقصد الشرب فيما بقي معه منها إلا أنه حكي أن أبا حنيفة - رحمه الله - قال لهذا
القائل: لِمَ تحده؟ قال: لأن معه آلة الشرب، والفساد. قال: -رحمه الله-، فارجمه
إذاً، فإن معه آلة الزنا، فهذا بيان أنه لا يجوز إقامة الحد بمثل هذا الظاهر،
والتهمة، والله أعلم)([14]).
مع ملاحظة: أن ما ذكره السرخسي -حيازة الخمر محرم والاجتماع عليها من غير شرب-
محرم في الأصل فتقوت بذلك شبهة الشرب، فجاز تعزيرهم وإن لم يثبت موجب الحد؛ لثبوت
حيازة محرم أو وقوع اجتماع محرم.
ولا يصح طرد هذا فيمن يفعل فعلاً مباحاً في
الأصل؛ كمن يقابل شخصاً متهماً أو يجلس معه فالأصل في هذا الفعل الإباحة أو
المشروعية كما لو كان صلة لمن تُستحب صلته أو تجب.
وقريب من هذا الموطن:
3- إذا وجدت الأمارات القوية
على ارتكاب المدعى عليه موجب العقوبة التعزيرية. ولم أقف
في كتب الفقهاء على نصٍّ يصلح للإيراد هنا؛ والسبب كما هو معلوم أن غالبية الفقهاء
لا يصرحون بالقرائن كطريق من طرق الإثبات([15]).
وهذا الموطن والذي قبله في إعمال الضابط هو غالب
ما يجرى عليه العمل القضائي، فإذا اجتمعت على المدعى عليه قرائن يعضد بعضها بعضها
تقوي ثبوت التهمة، بحيث يصل القاضي إلى الظن الغالب الذي يصح معه اطِّرَاح أصل
البراءة وتقديم ظاهر الحال عليه للقرائن، جاز تعزيره، وحينئذٍ لا أثر لشبهة الشك -تمسكاً
بأصل البراءة- في مقابلة الظن الغالب؛ لأن التعزير يثبت مع الشبهة. وسيأتي إن شاء
الله مزيد بسط للقرائن متى يصح العمل بها ومتى لا يصح.
4-إذا ثبت ارتكاب موجب الحد
والتبس بالواقعة شبهة تمنع من إقامة الحد، فيدرأ الحد وينتقل إلى العقوبة
التعزيرية.
وهذا يستعمل كثيراً في كلام الفقه، ومن ذلك: ما
ذكره ابن قدامة في المغني في مسألة وطء الأب لجارية الابن: (..، إذا ثبت هذا، فإنه
لا حد على الأب؛ للشبهة؛ لأنه إذا لم يثبت حقيقة الملك؛ فلا أقل من أن يكون شبهة
تدرأ الحد، فإن الحدود تدرأ بالشبهات، ولكن يعزر؛ لأنه وطئ جارية لا
يملكها، وطئا محرما، فكان عليه التعزير، كوطء الجارية المشتركة. وفيه وجه آخر، لا
يعزر عليه؛ لأن مال ولده كماله. ولا يصح لأن ماله مباح له، غير ملوم عليه، وهذا
الوطء هو عاد فيه، ملوم عليه)([16]).
ومنه أيضاً، ما ذكره البهوتي: ((ولا يثبت به) أي
بنكاح المتعة (إحصان ولا إباحة للزوج الأول) يعني لمن طلقها ثلاثا لأنه فاسد فلا
يترتب عليه أثره (ولا يتوارثان وتسمى زوجة) لما سبق (ومن تعاطاه عالما) تحريمه
(عزر) لارتكابه معصية لا حد فيها ولا كفارة (ويلحق فيه النسب إذا وطئ يعتقده
نكاحا). قلت: أو لم يعتقده نكاحا لأن له شبهة العقد (ويرث ولده ويرثه) ولده للحوق
النسب (ومثله) أي مثل نكاح المتعة فيها ذكر (إذا تزوجها بغير ولي ولا شهود واعتقده
نكاحا جائزاً) قلت: أو لم يعتقدوه كذلك (فإن الوطء فيه وطء شبهة يلحقه الولد فيه)
لشبهة العقد (ويستحقان العقوبة) أي التعزير (على مثل هذا العقد) لتعاطيهما
عقدا فاسداً)([17]). فدُرِأَ الحد عنه
للشبهة، وعزر لأن التعزير يثبت مع الشبهة.
ومنه ما قرره سماحة الشيخ ابن إبراهيم في قضية
امرأة زنت ودفعت بأنها كانت مكرهة لكن دعواها الإكراه ضعيفة، يقول رحمه الله: (أفيدكم
أنه قد جرى دراسة المعاملة بكاملها بما فيها... فظهر لنا درأ الحد عن
المرأة المذكورة لادعائها الإكراه، والحدود تدرأ بالشبهات. لكن دعواها الإكراه
ضعيفة حيث لم تقم ما يعضدها من استعداء وإقامة شكوى أو نحو ذلك. فلهذا يتوجه
تعزيرها. وإن كان لها سوابق فيغلظ تعزيرها)([18]).
ومما يندرج تحت هذا الموطن:
5-إذا ثبت ارتكاب موجب العقوبة بالإقرار مختاراً، ثم رجع عن إقراره.
وهذا الموطن داخل في الرابع لكني أفردته لأهميته
وللبس يقع فيه!
فإذا أقر المدعى عليه طائعاً مختاراً بموجب الحد،
ثم رجع عن إقراره وقلنا بقبول الرجوع على قولٍ جرى عليه العمل في السابق([19]): فيدرأ عنه الحد؛
لأن الرجوع شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، وينتقل إلى عقوبة تعزيرية على أحد القولين؛
لأن التعزير يثبت مع الشبهة.
وكذلك إذا أقر طائعاً مختاراً بموجب تعزير ثم رجع
عن إقراره، فإنه يعزر مطلقاً؛ ولا أثر لرجوعه إلا في تخفيف العقوبة؛ لأن التعزير
يثبت مع الشبهة.
ومن اللبس الذي يقع فيه البعض: أنه يعزر كل راجع
عن إقراره سواء اعتضد به دلالة الإكراه أو لا. والذي يتسق مع تقرير أهل العلم:
التفريق بين من أقر طائعاً مختاراً، وبين من أقر مكرهاً أو دلّ الحال على إكراهه.
إذاً هي صورتان:
الصورة الأولى :أقر طائعاً مختاراً، ثم رجع عن إقراره وقلنا
بقبول الرجوع على رأيٍ هو قول الجمهور، درأنا الحد، وهل ننتقل إلى تعزيره؟ خلاف
على رأيين.
الرأي الأول: يعزر؛ لأن التعزير يثبت مع الشبهة،
وهذا رأي الأوزاعي وعليه العمل. جاء في التمهيد لابن عبد البر: (قال الأوزاعي في
رجل اعترف على نفسه بالزنا أربع مرات وهو محصن ثم ندم وأنكر أن يكون أتى ذلك: أنه
يضرب حد الفرية على نفسه، فإن اعترف بسرقة أو شرب خمر أو قتل ثم أنكر عاقبه
السلطان دون الحد)([20]).
وفي فتاوى سماحة الشيخ ابن إبراهيم في قضية امرأة زنت وأقرت طائعة ثم رجعت عن إقرارها:
(أولاً: أن هذه المرأة إن رجعت عن إقرارها بالكلية أو عن شرط من شروطه وهو
الاستمرار على الاعتراف بالزنا بطوعها واختيارها فإنه يدرأ عنها الحد، ولا رجم
عليها في هذه الحالة، لأنه حجة الرجم الإقرار على الزنا بالطوع والاختيار، وقد
زالت قبل استيفائه فسقط الرجم. كما لو رجع الشهود، ولأن ذلك شبهة والحدود تدرأ
بالشبهات، وهذا بخلاف ذلك بالبينة التي تشهد على فعلها فإن إنكارها لا يقبل بل
يقام عليها الحد بكل حال،.. ثانياً: إذا سقط عنها الحد في مثل هذه الحالة فإن
عليها التعزير البليغ بما يراه ولي الأمر: من ضرب وحبس حسب ما تقتضيه المصلحة)([21]).
الرأي الثاني: لا يعزر؛ بل يترك. وهذا رأي جمهور
القائلين بقبول الرجوع عن الإقرار. قال ابن قدامة: (إن رجع عن إقراره, وقال: كذبت
في إقراري. أو: رجعت عنه. أو: لم أفعل ما أقررت به. وجب تركه)([22])، وقال أيضاً: (من
شرط إقامة الحد بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحد, فإن رجع عن إقراره أو هرب, كف
عنه. وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق
وأبو حنيفة وأبو يوسف)([23])،
قال ابن عبدالبر بعد أن أورد قول الأوزاعي: (الصحيح أنه لا يجلد إذا رجع عن إقراره،..والكلام
في هذا واضح)([24])، ووصف رأي
الأوزاعي بأنه (ضعيف لا يثبت على النظر)([25]).
واستدلوا لهذا بخبر ماعز رضي الله عنه وفيه:
"هلا تركتموه"([26])
وعللوا له: بأن العقوبة لا تقام إلا ببينة ولا
بينة هنا مع الرجوع عن الإقرار لأنه نزع عن إقراره فصار كمن لم يأتِ بإقرار،
وقايسوه على الشهود فيما لو رجعوا عن شهادتهم بأنه لا يجب على المشهود عليه شيء([27]). قال ابن عبد
البر: (أجمع العلماء على أن الحد إذا وجب بالشهادة وأقيم بعضه ثم رجع الشهود قبل
أن يقام الحد أو قبل أن يتم أنه لا يقام عليه ولا يتم ما بقي منه بعد رجوع الشهود ،
فكذلك الإقرار والرجوع)([28]).
والرأي الثاني -لا يعزر الراجع عن إقراره- مطردٌ،
لأن مستند العقوبة هنا كحد أو تعزير واحد، وهو الإقرار، فإما أن نبطله في الجميع –الحد
أو التعزير-، أو نعمل الإقرار في الجميع –الحد أو التعزير- فلا نقبل رجوعه عن
الإقرار مطلقاً كقول جماعة من أهل العلم.
أما أن يبطل أثر الإقرار في باب الحد، ثم يعزر
بناءً على الإقرار المردود نفسه فهذا فيه تناقض.
الصورة الثانية:
أقر مكرهاً أو دل الحال على إكراهه -كالسجين- إذا
دفع بالإكراه: لا محل لمؤخذاته بإقراره مطلقاً ولا قائل من أهل العلم بأنه يعزر، فيجب
تخلية سبيله؛ لأن تعزيره حينئذٍ ظلمٌ لا تأتي به شريعةٌ. ومن ذلك أن عمر رضي الله
عنه لما أُتي بسارق قد اعترف، ثم ذكر أنهم تهددوه خلى سبيله ولم يُذكر أنه عزره
على إقراره الأول([29])، وإذا كان الجمهور
يسقطون التعزير عمن أقرَّ بموجب الحدِّ اختياراً متى رجع عن إقراره ولو لم يدع
الإكراه، فمن باب أولى سقوط التعزير إذا دفع بالإكراه وأثبته بالبينة أو شهدت له
دلالة الحال.
6-ومن المواطن التي يُتَجوّز في
تطبيق الضابط عليها: تعزير
مجهول الحال أو المعروف بالشر إذا اتُهم بما يوجب العقوبة، بنحو حبسٍ أو مس بعذاب حتى
يتبين حاله بأن يظهر من البينات ما يُمكن أن يبنى عليها القاضي حكما شرعياً، أو لا
يظهر شيء فيخلي سبيله.
وهذا الموطن قد يقال بأنه: غير داخل في الضابط؛
لأنه ليس عقوبة بناءً على حكم قضائي لجناية ثابتة بشبهة أو من غير شبهة وإنما هو
استبراء واستظهارٌ لحال المتهم فهو لا يدخل في مصطلح "التعزير" القضائي.
وإطلاق مصطلح "التعزير" هنا تجوز في العبارة؛ لأن العقوبة لاستظهار
الحال لا تدخل ضمن نطاق التعزير المستند لحكم قضائي والذي لا يكون إلا بالبينات.
والتفريق بين التعزير قبل ثبوت موجبه للاستبراء
وبين التعزير القضائي المعتمد على ثبوت الموجب صريح في عبارات أهل العلم الذين
يقصرون حق استبراء المتهم على الولاة –جهات التحقيق حالياً-. يقول أبو يعلى الفراء
بعد تفصيل طويل: (فقد وقع الفرق بين الأمراء والقضاة في حال الاستبراء وقبول ثبوت
الحق، لاختصاص الأمراء بالسياسة، واختصاص القضاة بالأحكام. فأما بعد ثبوت جرائمهم،
فيستوي في إقامة الحدود عليهم أحوال الأمراء والقضاة. وثبوتها عليهم من وجهين:
إقرار، وبينة)([30]).
أيا ما كان فهذا الموطن خاصٌ بدعاوى التهم، وهي:(
أن يُدّعى فعل محرم على المطلوب, يوجب عقوبته, مثل قتل أو قطع طريق أو سرقة أو غير
ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأحوال).
أما دعاوى غير التهم، مثل (أن يدعي عقداً من بيع
أو قرض أو رهن أو ضمان أو غير ذلك) فهذا القسم ذكر ابن تيمية أنه لا يعلم نزاعاً
بين أهل العلم في أن القول فيه قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم يأت المدعي بحجة
شرعية وهي البينة([31]).
ومن نصوص الفقهاء التي تقرر التعزير لاستظهار
الحال: ما في تبصرة الحكام: (مسألة: قال ابن حبيب: سألت مطرفا عن رجل سرق متاعه
فاتهم به رجلا من جيرانه، أو رجلا غريبا لا يعرف حاله، أترى الإمام يحبسه حتى يسأل
عنه ويتبين؟ قال: نعم، أرى ذلك على الإمام، وأرى ألا يطيل حبسه؛ لأن النبي - صلى
الله عليه وسلم - حبس رجلاً اتهمه المسروق منه بسرقة، وقد صحبه في السفر. قال ابن
حبيب: وقد قاله ابن الماجشون وأصبغ وابن عبد الحكم)([32]).
وقال ابن تيمية ضمن تأصيل طويل له: (المتهم إما
أن يكون بريئاً ليس من أهل تلك التهمة, أو فاجراً من أهلها, أو مجهول
الحال لا يعرف الوالي والحاكم حاله.
فإن كان بريئاً لم تجز عقوبته اتفاقاً, واختلفوا
في عقوبة المتهم له على قولين, أصحهما: أنه يعاقب؛ صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان
على أعراض البرآء.
القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال
لا يعرف ببر ولا فجور, فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام.وقال
الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة, قال أحمد وذلك حتى يتبين
للحاكم أمره.
القسم
الثالث: أن يكون المتهم معروفاً بالفجور, فإذا
جاز حبس المجهول فحبس هذا أولى. وما علمت أحداً من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى
عليه في جميع هذه الدعاوي يُحَّلف ويرسل بلا حبس ولا غيره, فليس هذا-على إطلاقه- مذهباً
لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة, ومن زعم أن هذا- على إطلاقه وعمومه-
هو الشرع فقد غلط غلطاً فاحشاً مخالفاً لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع
الأمة. وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع, وتوهموا أن الشرع لا
يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة)انتهى ملخصاً([33]).
فاتهام المدعى عليه لا يعدو أن يكون شبهة ضعيفة؛
لأنها قول مجرد عن بينة، ومع ذلك يحبس ويمس بعذاب في أحوال حتى يتبين حاله، وهذا
الذي يُفعل به تعزيرٌ ثبت مع الشبهة.
إلا أن هذا التعزير إنما هو للاستثبات واستنطاق
البينات، فإن خرج لنا ما يثبت التهمة تمسكنا به وصح للقاضي أن يبني عليه حكماً
شرعياً وإلا خَلَّى سبيله إذ الأصل الشرعي براءة المتهم([34]). قال ابن فرحون: (مسألة:
وفي المتيطية: ويضرب السارق حتى يخرج الأعيان التي سرقها). وقال أيضاً:(ومن
اتهم رجلاً أنه غصبه مالاً فأنكر, فإن كان ممن يليق به ذلك هدد وسجن, فإن
لم يخرج شيئا أُطْلِقَ، وفائدته لعله أن يخرج عين ما غصب إن كان
يعرف بعينه, وأما الذي لا يعرف بعينه فلا فائدة في تهديده, إذ لو أخرج شيئاً بعد
التهديد لا يعرف بعينه, لم يؤخذ منه حتى يقر به وهو آمن غير خائف)([35])،
والإمام أحمد ذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة وعلل تجويز
الحبس: (حتى يتبين للحاكم أمره)، وإذا لم يتبين شيء يصح الاعتماد عليه في الحكم
فليس إلا التخلية عنه.
وهل التعزير هنا مع الشبهة حق للوالي فقط –جهات
التحقيق- أو يملكه القاضي أيضاً؟ قولان([36]):
الأول: يملكه الوالي والقاضي. هذا المنصوص عليه عند
أكثر الأئمة نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره
أصحاب أبي حنيفة.
وليس معنى ملك القاضي للتعزير هنا أنه يُصدر به
حكماً، فالحكم لا يكون إلا بعد ثبوت الموجب بالبينات، ولا بينة هنا فلا زلنا في
مرحلة التهمة.
وإنما المقصود: أنه يستبرأ المتهم فإنّ ظهرت
بينات يمكن الاستناد إليها في إصدار الحكم، وإلا خلى سبيله([37]). قال القاضي أبو
يعلى الفراء: (وظاهر كلام أحمد رحمه الله ورضي عنه: أن للقضاة الحبس في التهمة.
فقال في رواية حنبل" إذا قامت عليه البينة أو الاعتراف أقيم عليه الحد، ولا
يحبس بعد إقامة الحد، وقد حبس النبي - صلى الله عليه وسلم - في تهمة وذلك حتى
يتبين للحاكم أمره. ثم يخليه بعد إقامة الحد") ثم قال: . ولفظ الحديث: ما
روى أبو بكر الخلال في أول كتاب الشهادات بإسناده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده،
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة". وبإسناده عن أبي هريرة
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة يوماً وليلة استظهاراً
واحتياطاً"([38]))([39]).
وقال البغوي: (وإن كان له مال يخفيه، حبس وعزر،
حتى يظهر ماله، وإن ادعى هلاك ماله لم يقبل حتى يقيم عليه البينة، فإن لم يقم
البينة حبس، ولا غاية لحبسه أكثر من الكشف عنه، فمتى ظهر للحاكم عدمه خلى سبيله،
وروي عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس
رجلا في تهمة"، وروي "أنه حبسه ساعة من نهار، ثم خلى سبيله")([40]). فالتعزير هنا
لاستنطاق البينات، فإن ظهر للحاكم براءته أو لم يتبين له أمره، فالأصل البراءة
وليس إلا التخلية عنه.
الثاني: يملكه الوالي دون القاضي. نقله القرافي في
الذخيرة وذكره طائفة من أصحاب الشافعي كأبي عبد الله الزبيري، والماوردي وغيرهما، وطائفة
من أصحاب أحمد المصنفين في أدب القضاة وغيرهم.
وحجته: أن الضرب المشروع هو ضرب الحدود
والتعزيرات، وذلك إنما يكون بعد ثبوت أسبابهما وتحققهما، فيتعلق ذلك بالقاضي وموضع
ولاية الوالي المنع من الفساد في الأرض وقمع أهل الشر والعدوان، وذلك لا يتم إلا
بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام بخلاف ولاية الحكام، فإن موضوعها إيصال
الحقوق وإثباتها، فكل وال أمر يفعل ما إليه فوض.
قال ابن فرحون:(الولايات تختلف بحسب العرف
والاصطلاح، كما تقدم في كلام ابن قيم الجوزية أن عموم الولايات وخصوصها ليس له حد
في الشرع، وأن ولاية القضاء من بعض البلاد وبعض الأوقات، تتناول ولاية والي الحرب
وبالعكس، وذلك بحسب العرف والاصطلاح والتنصيص في الولايات. وكلام ابن سهل وابن
حبيب وغيرهما من أصحابنا مبني على عرف بلاد الأندلس في ولاية القضاء، فإن كانت
ولاية قضاء في قطر آخر تمنع من تعاطي هذه السياسات نصاً أو عرفاً، فليس للقاضي
تعاطي ذلك، وإلا فله أن يفعل ذلك، لأنه دعوى شرعية حكمها الاختبار بالحبس والضرب،
فليسوغ له الحكم فيها كغيرها من الحكومات)([41]).
ونظرياً بغض النظر عمّا قد يمارس فإن النظام
القائم حالياً: يمنع جميع الولاة –والي الضبط والتحقيق والقضاء- من ضرب المتهم
وإيذائه الجسدي، أما السجن والتوقيف فيملكه المحقق والقاضي.
جاء في المادة 2 من نظام الإجراءات الجزائية: (يحظر
إيذاء المقبوض عليه جسدياً، أو معنوياً، كما يحظر تعريضه للتعذيب، أو المعاملة
المهينة للكرامة).
والفصل الثامن من الباب الرابع لنظام الإجراءات
الجزائية [المادة 112 وما بعدها] شَرَحَ ما ينبغي سلوكه مع أوامر التوقيف.
كما أن المادة 123 ملَّكَت المحكمة بعد إحالة
المتهم إليها أمر الإفراج عنه أو إيقافه وذلك في مرحلة المحاكمة قبل صدور الحكم.
والمحكمة حين تصدر أمراً بالإفراج أو الحبس، تصدره وفق إرادة القضاء واستقلاله..
وحين تمارس محكمة دورها المناط بها وهي تُراعي
أهواء جهات الضبط، أو تقف عاجزة عن ممارسة دورها لسطوة جهة ضبط "ما"، أو
تكون أوامرها بالإفراج حبراً على ورق، فكبّر على الاستقلال أربعاً واشْرَق بِريقِكَ
أو فَغُصَّ بعَلْقمِ..
وإذا لم يظهر شيء يثبت التهمة فهل للمتهم أن يقتص
أو يعوض؟! ابن حزم يرى أن له القصاص([42]) وقد جاءت أخبارٌ
في ذلك لكن ليس هذا محل إيرادها، والعمل على أنه إذا لم يثبت على المتهم شيء يعوض
مالياً عن المدة التي قضاها في الحبس.
بقي موطن يجعله البعض من مواطن تطبيق الضابط، وهو
إذا وجدت الأمارات المحتملة على ارتكاب موجب العقوبة التعزيرية، فهل يعزر بناءً
على أن التعزير لا يسقط بالشبهة؟!
هذا ما سيأتي بيانه فيما يلي.
رابعاً: هل يدخل في ضابط :"التعزير لا يسقط بالشبهة" الأمارات المحتملة؟
مما جرى عليه العمل لدى البعض التعزير لأدنى
شبهة، ويُسَبِّب بهذا الضابط تحججاً به واعتماداً عليه!
فمن ذلك أن يُعزر الشخص لأجل أنه قبل وديعة من
صاحبه، ثم تبين أنها مسروقة، والمودَع لا علم له بالسرقة، وليس ثمة برهان على
علمه.
أو يعزر لأنه أوصل الجاني من مكان إلى آخر، بأن
اتصل به صديقه بعد الحادثة وطلب منه أن يأتيه في مكان معين لينقله إلى آخر، وهو لا
علم له بما فعل الجاني وقد أوهمه بأن سبب استعانته به أمر معتاد، كتعطل سيارة، ولم
تقم بينة على درايته بما فعل الجاني.
ومن ذلك أنّ يعزر الشخص لأجل أنّ له علاقة ذات
طابع اجتماعي بمطلوب لجهات القبض، لم يعلن للعموم أنه مطلوب! وحينئذٍ فمجرد وجود
رقم هاتف أحدهما لدى الآخر، أو كان سافر معه لنزهة، أو زار أحدهما الآخر في منزله
ونحو ذلك كافٍ في تعزيره؛ ويستند في ذلك على هذا الضابط.
بل مجرد إقامة المدعي العام دعوى ضد شخص ولو خلت
من أي برهان، فهي عند البعض شبهة موجبة لإجراء السوط عليه، أو لأخذ التعهد على
الأقل، والتعهد عقوبة تعزيرية.
ومن ذلك الاتكاء في التعزير على الإقرار الذي لا
يصدقه شيءٌ وقد صدر من المتهم حال سجنه، ولو ادعى الإكراه لم يلفت إلى دعواه -
رابط لبحث إقرار السجين [ http://twitmail.com/q7b ].
ومن ذلك أيضاً الإقرارات الصادرة من الغير
وسريانها عليه.
فهل مثل هذا ونحوه داخل في الضابط "التعزير
يثبت مع الشبهة"؟
وهل هذا هو مقصود أهل العلم؟!
إن القرائن إجمالاً لا تخلو إما أن تكون قوية أو
ضعيفة أو بين بين.
يقول ابن القيم في معرض حديثٍ له: (والمعول في
ذلك على القرائن، فإن قويت حكم بموجبها، وإن ضعفت لم يلتفت إليها، وإن
توسطت: طلب الاستظهار، وسلك طريق الاحتياط)([43]). فإذا طلبنا
الاستظهار ولم نقف على شيء يعضد القرينة ويرفعها عن رتبة التوسط، لم يبق أمامنا
إلا الاحتياط !
والاحتياط هنا أن تجعل القرينة المتوسطة
كالمعدومة، لقوله تعالى :{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن
إثمٌ} قال ابن السبكي مستدلاً بهذه الآية على الاحتياط: (فلا يخفى أنه أمر باجتناب
بعض ما ليس بإثم خشية من الوقوع فيما هو إثم؛ وذلك هو الاحتياط)([44]).
وابن الغرس من الحنفية اشترط لإعمال القرينة: أن
تكون من القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تُصَيِّر الأمر في
حيِّز المقطوع به([45]).
وهذا ما مشت عليه مجلة الأحكام العدلية، ففي
المادة 1740 عدت القرينة القاطعة أحد أسباب الحكم، ثم في المادة التي تليها عرفت
القرينة القاطعة بأنها: (الأمارة البالغة حد اليقين). ودفعاً للخلط بين القرينة
القاطعة والقرينة الضعيفة طلب مراجعة المادة 74، وقد أوردت المادة 74 القاعدة
الفقهية المشهورة: "لا عبرة بالتوهم".
وإنما اطُّرِحَ التوهم؛ لأنه أحط مرتبة من الشك؛ ولأن
الأصل في حكم اليقين الثبات والاستمرار عملاً بقاعدة: "ما ثبت بيقين لا يرتفع
إلا بيقين" واليقين هنا السلامة من موجب التعزير، فلا يرتفع بطروء الشك عليه
ولا بطروء التوهم([46]).
قال د.محمد الزحيلي: (التوهم: هو إدراك الطرف
المرجوح من طرفي أمر متردد فيه.
والمراد من التوهم:الاحتمال العقلي البعيد النادر
الحصول، وهذا لا يبنى عليه حكم شرعي، ولا يمنع القضاء، ولا يؤخر الحكم، لأن الأمر
الموهوم يكون نادر الوقوع، ولذلك لا يعمل به في تأخير صاحب حق؛ لأن الثابت قطعاً
ويقيناً أو ظاهراً لا يُؤخر لأمر موهوم)([47]).
1. والأمارات المحتملة لا تعدو أن تكون قرائن ضعيفة،
لا يبنى على مثلها حكمٌ، وإلا لكان الأصل في الناس الاتهام، ولذهب المعروف بين
الناس تحرزاً من عواقب بذل المعروف، وقَطَّعَ المرءُ صلاته حذراً من أن تكون الصلة
سبب بلاء، فهل هذا مقصود للشارع؟!
إن الاسترسال مع القرائن الضعيفة يوقع ولا بد في
الظلم وتجريم البريء، يقول ابن القيم عن القرائن: (إن توسع فيها وجعل معوله عليها،
دون الأوضاع الشرعية، وقع في أنواع من الظلم والفساد)([48]).
2. والأصل حرمة بشرة المسلم وعرضه فلا يستباح
بالقرائن الضعيفة، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأصل في أعظم الأيام
عند الله.. في بلد حرام.. في شهر حرام.. فقال: "إن دماءكم، وأموالكم،
وأعراضكم، وأبشاركم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا،
ألا هل بلغت". قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه
رب مبلغ يبلغه لمن هو أوعى له"([49]). وفي الحديث الآخر
أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه"([50]). قال النووي: (المراد
بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك)([51])، وقال ابن حزم: (لا
يحل لأحد من مال أحد ولا من دمه ولا من عرضه ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو
إجماع وما عدا ذلك فباطل بالنصوص)([52])، وقال ابن تيمية:
(الأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا
بإذن الله ورسوله)([53])،
فلا يُنتقل عن هذا الأصل بأدنى الشبه.
3. كما أنَّ من أصول العدالة الشرعية "براءة
الذمة"، ولولاه لأمكن للظالم -فرداً كان أو
سلطة- التسلط على أموال الناس
وأبشارهم وحرياتهم هكذا بمجرد التهم التي لا تثبت في ميزان القسط !
وهو أصل شرعي مقرر في جميع الدعاوى بما فيها
دعاوى التعازير، ويدل له ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن
اليمين على المدعى عليه". قال النووي: (هذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد
أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه؛ بل يحتاج إلى
بينة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وقد بين صلى الله
عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أُعْطي بمجردها لادعى
قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه،
وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة)([54]).
ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم "لو
يعطى الناس" الدعاوى التي يقيمها المدعي العام أياً كان طلبه.
ويستثنى من هذا الأصل
التهم التي تقوت بالقرائن القوية، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام
العقوبة على العرنيين([55]) و فعل بهم ما فعل بناء
على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ولا وقف الأمر على إقرارهم([56]). على أن التهم إذا
قوتها القرائن القوية ارتفعت عن منزلة التهمة
ولا يصح حينئذٍ تسميتها تهمة !
فإذا أعملنا هذه القاعدة في باب التعازير: فإن
الأصل براءة ذمة المدعى عليه من موجب التعزير، قال العز بن عبدالسلام: (الأصل
براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات)([57])، ولا ينتقل عن هذا
الأصل بقرائن ضعيفة أو واهية، ولا يقدم ظاهر متوهم أو ضعيف على أصل.
ومن
القواعد الفقهية التي لها صلة بهذا:
"اليقين لا يزول بالشك" واليقين
في المدعى عليه البراءة فلا ينتقل عنه بالقرائن الضعيفة.
"الأصل العدم" والأصل في دعاوى
التعزير عدم إتيان المتهم بموجب التعزير، فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل راجح.
والأصوليون يذكرون هذا ضمن دليل الاستصحاب.
وبراءة المتهم أصل تتابع عليه دساتير الدول
الحديثة، وتطالب به المواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان، ومن ذلك ما تنص
عليه مدونات الإجراءات الجنائية من تفسير الشك لمصلحة المتهم.
ومنه ما قضت به محكمة النقض المصرية بأن الأحكام
في المواد الجنائية، يجب أن تبنى على الجزم، واليقين لا على الظن والاحتمال، وأن
الأحكام الصادرة بالإدانة يجب ألا تبنى إلا على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم
واليقين([58]).
4. وأهل العلم نصوا على أنَّ ما قعد عن كونه بيِّنة
في باب التعزير– أي لم يصل إلى درجة اليقين أو غلبة الظن- فهو شبهة لا يسوغ
القضاء بها: فمن ذلك: ما جاء في المغني لابن قدامة عند حديثه عن القضاء بالنكول في
باب العقوبات، حيث قال:: ( ولا يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة،
لا يقضى به في شيء من الحدود ولا العقوبات، ولا ما عدا الأموال)([59]).
و"العقوبات" مصطلح عام يدخل تحته جنس التعازير([60]).
وقال الزيلعي الحنفي: (العقوبات لا تثبت بالشبهة)([61]).
وقال ابن
القيم: الـــــ(عقوبة لا تسوغ إلا عند تحقق السبب الموجب ولا تسوغ بالشبهة، بل
سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة من ثبوتها بالشبهة)([62]).وقال
أيضاً: (الحبس عقوبة، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها، وهي من جنس الحدود، فلا
يجوز إيقاعها بالشبهة، بل يتثبت الحاكم)([63]).
ولا
تعارض بين هذا النصوص التي تنفي التعزير مع الشبهة، وبين النصوص الفقهية الأخرى
التي تثبت التعزير مع الشبهة.
فالنصوص
التي تنفيها محمولة على الشبهة التي في مرتبة الشك أو الأمارات الضعيفة مقابل أصل
البراءة؛ فلا يحوز حينئذٍ العمل بالشبهة ولا تقوى على دفع أصل البراءة.
والنصوص
التي تثبتها محمولة على الشبهة التي في مرتبة الشك مقابل ظن غالب في قيام موجب
التعزير، فيجوز حينئذٍ اطراح الشبهة ويعمل بالظن الغالب الموجب للتعزير.
وأهل
العلم يعبرون بالشبهة في الموضعين، مرة مقابل أصل البراءة، ومرة مقابل الظن الغالب
على الثبوت، ومن هنا نشأ الخلط ! ومن ذلك أن ابن حزم فيما نقلت عنه سابقاً قال: (الحدود
لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة ..، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام
بشبهة،.. وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة)([64]).
5. وأقل أحوال التمسك بالشبه الضعيفة أنْ يصدق عليها
قول ابن تيمية رحمه الله :(فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئاً أو يخطئ
فيعفو عن مذنب كان هذا الخطأ خير الخطأين)([65])،
فالخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
6. ولو سُلِّم جدلاً بأنَّ مما يشمله ضابط
"التعزير يثبت مع الشبهة": الشبهة الضعيفة، يقال: إن الضوابط الفقهية
يُستدل لها قبل أن يستدل بها، فما هو دليل إعمالها هنا؟.
وأين نجد
ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما بُني عليهما من الأدلة
المعتبرة؟
فإذا لم
نقف على شيء لم يحل لنا مغادرة الأصول وتشبثنا بها، خاصة إذا استحضرنا ما ذكره
جملة من الأعلام في الاحتجاج بالقواعد الفقهية، ومن ذلك ما نقل عن ابن نجيم: (بأنه
لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية خصوصا وهي لم تثبت
عن الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه)([66])، وليراجع في هذا
كتاب القواعد الفقهية لشيخي د.يعقوب الباحسين ص273وما بعدها.
إذا تبين أن القضاء بالقرائن الضعيفة أو الأمارات
المحتملة ليس من الشريعة في شيء، وأن الحكم بها تحججاً بضابط "التعزير يثبت
مع الشبهة" خلطٌ لا يقول به فقيه، فلننتقل إلى مسألة ذات صلة، وهي: هل يصح
التعزير من غير ثبوت الإدانة.
خامساً: حكم التعزير مع عدم ثبوت
الإدانة.
الإدانة: من الدين، وهو الجزاء والمكافأة، ومنه
قوله تعالى: {أَءِنَّا لَمَدينونَ} أي: مجزيُّون محاسَبون، ومنه ما يقال:"كما
تَدينُ تُدانُ"، أي: كما تُجازِي تُجازَى، أي تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت([67]). وقال في معجم لغة
الفقهاء: (الإدانة: من أدانه إذا جازاه أو حكم عليه)([68])
والمراد بثبوت الإدانة: أن يتيقن القاضي أو يغلب
على ظنه قيام سبب المجازاة في المدعى عليه.
والشريعة الإسلامية تقرر أنه لا يعاقب أحدٌ حتى
يتحقق الموجب فيه تحقق قطع أو غلبة ظن، ففي الصحيحين: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال
وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، وفيهما أيضاً: "واغد يا أنيس
إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، قال ابن تيمية: (العقوبة لا تكون إلا
على ذنب ثابت. وأما المنع والاحتراز فيكون مع التهمة كما منع عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن يجتمع الصبيان بمن كان يتهم بالفاحشة. وهذا مثل الاحتراز عن قبول
شهادة المتهم بالكذب وائتمان المتهم بالخيانة ومعاملة المتهم بالمطل)([69]). وقد مضى فيما سبق
إيراد شيء مما يتعلق بهذا الأصل.
وهذا الذي تقرره الشريعة
هو منصوص نظام الإجراءات الجزائية في مادته الثالثة: (لا يجوز توقيع عقوبة جزائية
على أيِّ شخص إلا على أمر محظور ومُعاقب عليه شرعاً أو نِظاماً، وبعد ثبوت إدانته
بناءً على حُكم نهائي بعد مُحاكمة تُجْرى وِفقاً للوجه الشرعي).
إلا أنَّ ما جرى عليه
العمل القضائي -لدى البعض- في هذا الباب مشكل ويحتاج إلى مراجعة وتأمل!
فالعمل –لدى البعض- جارٍ
على أنَّ الحكم يصدر بنفي ثبوت الإدانة، ثم يقرر تعزيره بناءً على توجه الشبهة أو
التهمة القوية، ويسبب بعضهم بضابط (التعزير يثبت مع الشبهة)، فما محل هذا من قواعد
العدالة؟!
هي قسمة ثنائية لا ثالث
لها:
إما أن تثبت الإدانة
استناداً إلى بينة قطعية أو ظنية غالبة= فيصح معها المجازاة.
وإما ألا تثبت الإدانة
لعدم كفاية الأدلة أو لانعدامها= فلا تصح المجازاة لأن الأصل البراءة.
فمن أين جاءنا القسم
الثالث: لا تثبت الإدانة = ثم يعزر !!
إن نظام الإجراءات
الجزائية يشترط لإيقاع العقوبة ثبوت الإدانة كما في مادته الثالثة.
والمواد 174وَ 187 وَ
193 قابلت بين ثبوت الإدانة وعدم ثبوتها فلم تجعل بينهما برزخاً.. فمن أين دخل
علينا قسم ثالث ؟!
فإن قيل: المقصود بثبوت الإدانة: أن يثبت لدى القاضي قيام السبب
الموجب ثبوتاً قطعياً، وفي أحوال لا توجد بينة قطعية، لكن توجد بينة تحمل على الظن
الغالب، فهو ينفي ثبوت الإدانة لانعدام القطع، ويعزره للظن الغالب.
فالجواب: بأن البينة
الشرعية –كما هو معلوم- لا يشترط فيها القطع، ولو اشترط القطع لضاعت الحقوق، ولهذا
اعتبرت الشريعة الوسائل التي تحمل على الظن الغالب، وإلا فإن الإقرار يدخله الكذب،
والشهادة يدخلها الخطأ ويرد عليها الكذب، والنكول يعتريه ما يعتريه من الاحتمالات
الأخرى.. وهكذا في طرق الإثبات التي سنتها الشريعة لا تخلو من شك يعتريها.
الحاصل: بأنه لا يسلم أن
المراد بثبوت الإدانة أن يكون ثبوتها بطريق قطعي، بل بطريق قطعي أو ظني غالب
كقاعدة الشريعة في طرق الإثبات.
إذا تقرر هذا، فإما أن
يكون مستند التعزير مع نفي ثبوت الإدانة: بينة معتبرة شرعاً ومن المعتبر شرعاً على
الصحيح القرائن القوية.
أو يكون المستند بينة
غير معتبرة شرعاً كالقرائن الضعيفة والشبه الواهية.
1-فإن كان المستند بينة
معتبرة شرعاً: فإما أن يرى الحاكم صحة الاعتماد عليها وأنها من طرق الإثبات وإما
ألا يرى ذلك.
فإن كان يرى صحة
الاعتماد عليها فليصرح بثبوت الإدانة حتى لا نقع في التناقض. فيصرح بأنه لم يثبت
لديه سبب المجازاة (ثبوت الإدانة) ثم يجازيه !
وإن كان لا يرى صحة
الاعتماد عليها فكيف يؤسس عقوبة على بينة يراها باطلة!
2-وإن كان المستند بينة
غير معتبرة شرعاً، فهل يصح أن يبنى على مثلها عقوبة؟.
من أسباب دخول الغلط هنا
هو الاتكاء في التعزير على الأمارات المحتملة !
وإذا كان مثل هذا
القرائن لا يصح الاعتماد عليها في حقوق الآدميين وهي مبنية على المشاحة، فهل يجوز
الاعتماد عليها في حقوق الله تعالى ومبناها العفو والصفح. وقد مضى الحديث عن
الإمارات المحتملة وأنها لا تدخل في ضابط التعزير مع الشبهة.
نعم يجوز أن يعزر المتهم
المجهول أو المعروف بالشر قبل ثبوت إدانته؛ لكن لغرض استبانة أمره واستنطاق
البينات. وهذا التعزير سابقٌ للحكم القضائي، فإن خرج لنا ما يثبت التهمة ثبوتاً
قطعيا أو بظن غالب تمسكنا به وصح للقاضي حينئذٍ أن يبني عليه حكماً شرعياً، أما أن
يصدر الحكم القضائي على مجرد التهمة من غير ثبوتها بإحدى طرق الإثبات فهذا خرم
للعمل القضائي القائم على البينات "شاهداك أو يمينه..([70]) ليس لك منه إلا ذلك"([71])،
"البينة أو حد في
ظهرك"([72]). وقد مضى شرح هذه الحالة في ثالثاً الفقرة رقم"6".
وقد سألت أحد الفضلاء
المتخصصين في القانون حول عنوان الفقرة، فأجابني: بأنه لا يوجد في قانون العقوبات
أو القانون الجنائي الوضعي مصطلح "الشبهة"، ولا يحكم القاضي في أي دولة
بها تقنين جنائي بالشبهة على الإطلاق.
وأفاد: بأنه لا يوجد
مصطلح "عدم الإدانة"؛ بل "البراءة" فقط؛ لكن للبراءة أسباب
حسب واقعة الحكم، فبراءة لعدم ثبوت التهمة، وبراءة لعدم كفاية الأدلة ، وبراءة
لبطلان الإجراءات..
وهكذا فالشبهة هي سبب
البراءة في مصر "الشك يفسر لمصلحة المتهم".
وأضاف: بأنه لا تبنى
الإدانة إلا على دليل مكتمل الشروط الموضوعية بشكل كامل، فلو نقص شرطٌ حُكِمَ
بالبراءة، وبالتالي فمعنى ثبوت الإدانة: هو أن القاضي وجد من بين أدلة الاتهام
على الأقل دليلا واحدا صحيحا ومستوفيا لشروطه الموضوعية وأسس حكمه عليه.
وعليه لا يوجد بين ثبوت
الإدانة والبراءة وصف آخر، فإما أن تثبت الإدانة بدليل كامل الشروط، أو البراءة
لعدم كفاية الأدلة على اعتبار أنها لا تصلح لأن يؤسس عليها حكم جنائي. أ.هـ كلامه
جزاه الله خيراً.
وبعد:
فإذا تحرر لك مواطن تطبيق الضابط، وأبصرتَ الذي
أبصرته تبين لك مقدار الغلط والخلط الذي يرتكبه البعض باسم الشريعة!
وأعيد في الختام ما ذكرته في بحثي عن إقرار
السجين، فأقول:
إن تقصير جهات الضبط في جمع الأدلة المادية على
المتهم، لا يعني أن يتطوع الحاكم بإلقاء التبعة على عاتقه، فيُعمل أدنى شبهة يقف
عليها وهي لا يُبنى على مثلها شيءٌ في ميزان العدل. وأخذ الناس بالعدل الذي أُرسل
به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كافٍ في أمن الناس على ضرورياتهم الخمس، ومن لم
يحصل له الأمن بما شرع الله فلا أَمّنه الله، هذا يحي الغساني عامل عمر بن عبد
العزيز رحمه الله على الموصل يحكي قائلاً: لما ولاني عمر بن عبدالعزيز الموصل
قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البلد وأسأل:
آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟. فكتب
إليه أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة: فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم
الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها
سرقة ونقبًا([73]).
وعن نور الدين زنكي يقول ابن الأثير: ومن عدله أنه
لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظنة والتهمة؛ بل
يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت البينة الشرعية عاقبه العقوبة الشرعية من غير
تعدٍ، فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة
السياسة والمبالغة في العقوبة والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها وقل المفسدون
ببركة العدل واتباع الشرع المطهر([74]).
اللهم استعملني في طاعتك ووفقني لهداك واجعل عملي
في رضاك، وأعذني يا رب من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. آمين.. وقارئه الكريم..
وجميع المسلمين.
([4]) التعريفات للجرجاني 123-124، معجم لغة
الفقهاء 257. وعرفها الكاساني وغيره من الحنفية بأنها: (اسم لما يشبه الثابت وليس
بثابت) بدائع الصنائع 7/36.
([5]) ومن نصوص العلماء في شبه الفعل: ما قاله ابن تيمية: (وأما من
يقول إن هذا الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين وقد قلته
اجتهاداً أو تقليداً فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ
خطأ مخالفاً للكتاب والسنة ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين .. والجندي والعامي
إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهاداً أو تقليداً قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ
علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطأوا خطأ مجمعاً عليه، وإذا
قالوا إنا قلنا الحق واحتجوا بالأدلة الشرعية: لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم
بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم بل يحكم بينه وبينهم الكتاب
والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر فإن ظهر رجع الجميع إليه وإن
لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل
المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما فإن هذا
ينقلب فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله هو الصواب..) الفتاوى 35/378-280
وانظر أيضاً: الفتاوى 35/382-383.
وقال ابن مفلح معلقاً
على خبر حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه: (وقد دل الحديث على أن حكم المتأول في
استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل, ودل على أن من أتى
محظوراً وادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن
بخلاف) الفروع 10/117.
ومن ذلك أن الماوردي في
مسألة وطء زوجته الرجعية قبل مراجعتها بالقول-والخلاف مشهور- ذكر أن وطأها وطء
شبهة يدرأ الحد، ثم قال-الحاوي 10/314-: (وأما التعزير فإن اعتقد إباحته أو جهل
تحريمه فلا تعزير عليهما، لأنه لما كانت الشبهة مسقطة للحد فأولى أن تسقط التعزير)
فجعل بابهما واحداً.
([10]) وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: (وفي
اليتيمة: أن الأب يعزر إذا شتم ولده مع كونه لا حد له) علق الحموي في غمز عيون
البصائر على (قوله: مع كونه لا حد له) فقال: (لا يقال إذا سقط الحد الذي هو الأعلى
فلم لا يسقط التعزير الذي هو الأدنى؛ لأنا نقول الحد يندرئ بالشبهة؛ لأنه حق لله
تعالى وحرمة الأبوة شبهة صالحة للدرء والتعزير خالص حق العبد وهو لا يندرئ بالشبهة
ولا يلزم من سقوط الأعلى سقوط الأدنى). الأشباه والنظائر مع غمز عيون البصائر
1/187-188.
([26])أخرجه أبو داود كتاب الحدود باب رجم ماعز ح : 4419 الحديث حسن
إسناده ابن حجر في تلخيص الحبير (4/107) والألباني في إرواء الغليل (7 / 358) ، وقال عنه ابن القطان في بيان الوهم
والإيهام في كتاب الأحكام (4 / 334) : ( ليس إسناده بالقوي؛ لأنه من حديث هشام، عن
يزيد بن نعيم، عن أبيه ولا يحتج بهذا الإسناد) ، وقال ابن الملقن في البدر المنير
(8 / 621) : (وفي إسناده هشام بن سعد المخزومي المدني ، قال فيه يحيى مرة: ليس
بشيء. ومرة: ليس بذاك القوي. ومرة: ضعيف. قال: وكان يحيى القطان لا يكتب عنه. وقال
أحمد: ليس هو بمحكم الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال
ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه. وقال أبو عبد الله الحاكم: لين. قال: وقد احتج به
مسلم. و قال عبد الحق : هذا إسناد لا يحتج به) أهـ .
([34]) يقول د.أشرف توفيق
شمس الدين أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة بنها المحامي
بالنقض والإدارية العليا: (يجب ملاحظة أن هناك تدرجاً في الشبهة التي تحيط
بالمتهم، وبقدر هذا التدرج بقدر ما يجوز معه المساس بحرية المتهم، فبينما تكفي
الدلائل الأولية في توجيه التهمة واتخاذ بعض الإجراءات الماسة بحرية الشخص كتسجيل
مراسلاته والأمر بالقبض عليه، فإن حبسه احتياطياً يستوجب توافر حد أعلى من هذه
الدلائل يرقى بها إلى مستوى الدلائل الكافية، كما أن إحالة المتهم للمحاكمة يستوجب
أن تصل هذه الدلائل لمستوى تعتبر معه أدلة يحتمل معها القضاء بإدانة المتهم لو أنه
أحيل للمحاكمة). شرح قانون الإجراءات الجنائية ص 44.
([37]) ومن هذا أن أهل
القانون يفرقون بين المتهم وبين المحكوم عليه، فالمتهم هو الشخص الذي ما زالت
الإجراءات تتخذ بشأنه ولم يتأكد موقفه بعد بحكم بالإدانة أو بالبراءة، أما المحكوم
عليه فهو الذي صدر بشأنه حكم بالإدانة أياً كان مضمونه. ينظر: شرح قانون الإجراءات
الجنائية للدكتور اشرف توفيق شمس الدين ص 41.
([60]) جاء في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 12/5 :
(وسميت عقوبات الجرائم (حدوداً) لأن من شأنها أن تمنع ارتكاب الجرائم، وتجب حقاً
لله تعالى، لما في الجرائم المقررة فيها الحدود من الخطورة البالغة على المجتمع
وكذلك (التعزير) يطلق على عقوبته اسم (الحد) إذا وجب لحق الله تعالى، فيجب
تنفيذ ما صدر من العقوبات في الحدود والتعزير).
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم