تنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري
|
تنفيذ الأحكام
الصادرة عن القضاء الإداري
إعداد
القاضي بديوان المظالم
بنــــدر بن عبــدالرحمن الفــــالح
1433هـ - 2012م
المقدمــــــــــــــة
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد,,,
فإن الدول الراسخة لا تقوم إلا على أركان ثابتة,
وأسس ومبادئ واضحة.
وإن من أهم أركان الدولة وأسسها: ركن القضاء, إذ إن
القضاء هو الباعث على استقرار الدول, وطمأنينة الشعوب وثبات الحقوق؛ لأنه الوسيلة
الصحيحة للوصول إلى المطالب المشروعة, والمقاصد المرومة.
ولما كان القضاء بهذه المثابة الرفيعة, فإنه لا
بد من الاهتمام به وبكل ما يتعلق به من جوانب وملمات.
ولا شك أن كل مَنْ يقصد القضاء, إنما يقصده لهدف
واحد وهو: الوصول إلى حقه المفترض, أو حمايته وذلك بارتجاء إصدار الحكم الذي
بمقتضاه يصل إلى حقه, وينال مراده.
وحيث إن القضاء بين الناس غايته تحقيق العدل
بينهم, فإن القضاء إذا ارتبط بالإدارة التي هي ممثلة الدولة, فإن هذا القضاء يزداد
أهمية ومكانة, ذلك أن الدولة هي المسيطرة والغالبة على جميع السلطات, فإذا جعلت
الدولة من نفسها شخصاً مفترضاً يمكن إقامة الدعوى عليه, فإن هذا يمثل قمة العدالة
والأمانة, ومن هنا: تميز القضاء الإداري بوصفه منصفاً للناس من الدولة, وملجأ لهم
عند وجود حق لهم عليها.
ولذا, كان من الواجب على الدولة النظامية
الاهتمام بهذا القضاء, وإيجاد رقابة قضائية على جهات الإدارة, لكي تضبط تصرفاتها,
وتحد من سلطاتها إذا تعدت اختصاصها, لكي تحقق التوازن بين المصالح العامة للدولة,
ومصالح الأفراد الخاصة.
وعلى
الرغم من أن وجود القضاء الإداري بحد ذاته يعد مظهراً من مظاهر تحقيق العدالة,
ووجهاً من وجوه الإنصاف, إلا أن ذلك لا يكتمل ولا يتم بمجرده فقط, بل ينبغي أن يقر
في الأذهان أنه لا قيمة لذلك القضاء ألبتة إن لم يقترن وجود ذلك القضاء بمبدأ هام
مضمونه: ضرورة احترام أحكام القضاء ووجوب تنفيذها.
ذلك أن الهدف والغاية من إقامة الدعوى أساساً هو
الحصول على الحق المدعى به وهذا لا يتم بمجرد الحكم, بل يتوقف على تنفيذه, ومن هنا
يتبين أنه وإن كانت المطالبة بالحق لا تخلو من أهمية, إلا أن الأهم هو أن يكون
لهذا الحق التحول إلى حقيقة, وواقع ملموس.
فالقضاء لا يُقصد من أجل مجرد بيان أحقية المدعي,
إذ إن هذا ليس حكراً على القضاء, ولكن هذا البيان للحق إنما يُقصد باعتباره موصلاً
للغاية المنتظرة وهي تحويل تلك الأحقية إلى حقيقة, ولذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي
الله عنه ـ في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: "... فإنه لا ينفع تكلم
بحق لا نفاذ له".
وبهذا يتضح أن التنفيذ هو غاية الأحكام القضائية
وهدفها.
وعلى الرغم من أهمية تنفيذ الأحكام القضائية بصفة
عامة, إلا أن هذه الأهمية تزداد, وتتضح بصورة أكبر في مجال: تنفيذ الأحكام
الإدارية, حيث إن أحد أطراف الخصومة في الدعوى الإدارية: جهة الإدارة بما لها من
سلطات واسعة, واستثناءات وامتيازات خاصة, ومن جهة أخرى كونها المعنية بتنفيذ
الأحكام القضائية.
ومن هنا يتبين أن: تطبيق الأحكام القضائية يعد من
واجبات جهة الإدارة, والمفترض أن تنفذ هذه الأحكام طواعية ودون تردد, إلا أن جهة
الإدارة قد لا تقوم بهذا الواجب في كل الأحوال, مما يعرض المحكوم لـه لمشكلات
كبيرة في الوصول إلى حقه, فقد تتعامل الإدارة مع الحكم القضائي بسلبية, أو مماطلة
أو تعطيل, بل قد يصل الأمر في بعض الحالات إلى الامتناع كلياً عن التنفيذ.
ورغم أن عملية تنفيذ الأحكام القضائية هي من صميم
واجبات الإدارة, والقاعدة المستقرة هي: أن الدولة النظامية قائمة على سلطات ثلاث
هي:
السلطة القضائية, والسلطة التنظيمية, والسلطة التنفيذية.
وأنه يجب استقلال كل سلطة من هذه السلطات عن
الأخرى, ولا يجوز بحال أن تتدخل سلطة في اختصاص سلطة أخرى.
ولكن وعلى الرغم من استقرار هذا المبدأ, إضافة
إلى ما استقر عليه من أنه يجب على القاضي الإداري عدم التدخل في عمل الإدارة, وعدم
توجيه أوامر لها, وأن لا يُحل نفسه محلها في مباشرة مهامها.
إلا أنه يجب ألا يكون ذلك عائقاً عن بحث حل لهذه
المشكلة قضائياً, فالتنفيذ وإن كان من اختصاص الإدارة, إلا أن عدم تنفيذ الأحكام
القضائية بالإضافة إلى أنه يعد تقصيراً من قبل جهة الإدارة بالقيام بواجبها, فهو ـ
أيضاً ـ تدخل من قبل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية, ذلك أن عدم التنفيذ
يعني بالضرورة: إهدار حجية الأحكام القضائية, وانعدام ثقة الناس بالقضاء بشكل عام,
مما يعود بالتالي على مبدأ تحقيق العدالة بالإبطال.
ورغم أن هذه المشكلة لا تعد ظاهرة متفشية بشكل
واضح, إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة عدم جدوى بحث هذه المشكلة, والوقوف على صورها
وأسبابها, وإيجاد الحلول الملائمة لها؛ وذلك لمنع حدوثها في المستقبل, والحد من
ازديادها إن ظهر لها وجود في المجال القضائي، ذلك أن وجود الحل والعلاج للمشكلة
قبل تفاقمها أمر محمود, لاسيما وأن بحث مثل هذه الأمور يتيح المجال أمام الباحثين
والقضاة والمعنيين بالأمر للوقوف على هذه المشكلة وأسبابها, والحلول الملائمة لها,
مع الإحاطة بالتصورات العامة عنها, حتى إذا وجدت سهل عليهم علاجها.
وسيكون تقسيمات
هذا البحث المختصر من مقدمة وتمهيد, وثلاثة مباحث، التمهيد: يتضمن مفهوم التنفيذ ، والمبحث الأول: سيكون حول أساس التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام
الإدارية؛ أما المبحث الثاني: فسيكون حول صور وأسباب امتناع الإدارة عن تنفيذ
الأحكام الإدارية، أما المبحث الثالث: فسيكون حول ضمانات تنفيذ الأحكام الإدارية، وفيه
مطلبان: المطلب الأول: عن وسائل حث الإدارة على تنفيذ الأحكام الإدارية، والمطلب
الثاني: عن جزاء امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الإدارية ([1]).
التمهيد
: مفهوم التنفيذ:
إن لفظ (التنفيذ) من الألفاظ التي تختلف معانيها
حسب المقام الذي ترد فيه, فالتنفيذ في اللغة: مصدر للفعل نَفَّذ, والنون والفاء
والذال أصل صحيح يدل على قضاءٍ في أمرٍ وغيره ([2])
.يقال: نَفَذ السهم من الرمية نَفَاذاً ونُفُوذاً إذا خرق جوف الرمية وخرج طرفه من
الشق الآخر ([3])
. والنَّفاذ: جواز الشيء والخلوص منه, ونَفَذ الأمر والقول: مضى, وأنفذ
الأمر: قضاه ([4])
.
ومن هنا
يفهم أن التنفيذ لغة: جعل الشيء يجاوز محله, ومن ذلك تنفيذ الحاكم للحكم إذا أخرجه
إلى العمل حسب منطوقه ([5]) .
ومنه تنفيذ القاضي أو صاحب السلطة لقرار أو حكم
وإخضاع أطرافه له بالسريان عليهما.
والتنفيذ في المفهوم النظامي اختلف فيه الشراح
تبعاً لاختلاف أوجه بحثهم للتنفيذ, والتنفيذ في القانون عموماًـ ومن ذلك القانون
الإداري ـ يقترب معناه كثيراً من المعنى اللغوي لكلمة (تنفيذ) أي: إتمام الشيء
والخلاص منه, وهذا ما يجعل معنى التنفيذ في القانون هو: إعمال القواعد القانونية
في الواقع العملي ([6]) .
أو: احترام القانون أو العقد وإعمال ما يقضيان به
من أوجه الأمر والنهي.
وعلى هذا فإن التنفيذ في أنظمة المرافعات يختص
بالتنفيذ الإجباري دون التنفيذ الاختياري, وذلك عن طريق إعمال القواعد النظامية
المقررة في هذا الشأن.
وأما التنفيذ بصفة عامة, فالأرجح أن يقال: هو
إعمال القواعد النظامية في الواقع العملي اختياراً أو جبراً ([7]) .
وبهذا
التعريف يكون التنفيذ في المفهوم النظامي بوجه عام هو تطبيق النظام على الواقع
سواءً كان ذلك عن طريق التنفيذ الاختياري من قبل المحكوم عليه ـ سواء كان فرداً أو
جهة عامة ـ أو كان عن طريق تدخل السلطة العامة لإجباره على التنفيذ.
المبحث الأول: التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام الإدارية:
إن الإدارة وهي بصدد تنفيذ الأحكام الإدارية إنما
تنفذ هذه الأحكام بموجب الالتزام الذي يقع على عاتقها, وإذا كان هذا الالتزام على
الإدارة يعتمد على حسن نية الإدارة في تطبيق الأحكام القضائية وتنفيذها, فإن هناك
أساساً نظامياً يحتم على الإدارة تنفيذ أحكام القضاء, وهذا الالتزام التزام عامٌ
مضمونه: احترام الأحكام القضائية عموماً, حتى تلك الصادرة بين الأفراد, فتلتزم
بتنفيذها متى طلب منها ذلك ولو بالقوة الجبرية إن لزم الأمر ([8]) .
وإذا كانت الإدارة ملتزمة بتنفيذ أحكام القضاء
عموماً ـ كما سبق ـ فإن التزامها بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها أولى
وأحرى؛ لأن الإدارة يجب أن تكون في موقف المنصف من نفسه, وأن تحقق العدل وتتحراه
حتى ولو كان ضدها, لاسيما وأن الإدارة لا يمكن تنفيذ الأحكام القضائية ضدها جبراً,
ولذا كان واجبها بتنفيذ تلك الأحكام أقوى وأخص من تنفيذ الأحكام عموماً، ولكن لا
بد أن يكون لهذا الالتزام الخاص أساس يقوم عليه, وقد تعددت الأسس التي يرى شراح
الأنظمة أنها تصلح كأساس لهذا الالتزام الخاص، ولكن أرجحها تلك التي تقوم على نظرية النص القانوني، من حيث إن القانون هو
أساس الالتزام بالتنفيذ, وأن الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة القانونية الملزمة,
ومتى ما أصبح الحكم نهائياً, فإنه حينئذ يعد قاعدة قانونية واجبة الاتباع في
النزاع الذي صدر بشأنه ([9])
، إذ إن تنفيذ الأحكام يعد التزاماً يماثل
الالتزام بتنفيذ القانون ذاته, وعدم التنفيذ للأحكام هو عدم تنفيذ للقانون أيضاً([10]).
أما في الفقه الإسلامي فإن أساس التزام الإدارة
بتنفيذ أحكام القضاء منطلق من التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن القضاء في
حقيقته ما هو إلا تنفيذ لشرع الله تعالى, والدولة ممثلة بولي الأمر ملزمة بتطبيقه,
وهذا أقوى التزام ممكن يعتمد عليه الحكم القضائي في تنفيذه, سواء كان صادراً ضد
فرد عادي أو ضد الدولة ذاتها, كما في حكم القاضي في عهد عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه
الله ـ عندما دخل الجيش سمرقند دون إنذار فرفع الأمر إلى عمر فأمر بأن تنظر الدعوى
من قاضٍ فقضى القاضي بخروج الجيش منها وعزم على تنفيذ الحكم إلا أن أهل سمرقند
رضوا بالأمر لما تحققوا من عدالة المسلمين ([11])
؛ لأن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين المحكوم عليهم, وإنما الأساس في ذلك الحكم
ذاته فإن كان موافقاً للشرع نُفذ, لأنه شرع ـ أيضاً ـ, وإن كان مخالفاً لم ينفذ
لمخالفته الشرع بغض النظر عمن سينفذ الحكم عليه.
المبحث الثاني : صور وأسباب امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الإدارية:
إن جهة الإدارة حين تمتنع عن تنفيذ الأحكام
الإدارية فإنها تتخذ في هذا الامتناع عدداً من الصور التي تكون بمثابة الشكل الذي
تتخذه الإدارة في سبيل امتناعها عن تنفيذ الأحكام الإدارية.
وكذلك فإن الإدارة تبرر امتناعها عن التنفيذ
بوجود أسباب لا تمكنها من هذا التنفيذ, وهذه الأسباب قد تكون صحيحة وقد تكون غير
صحيحة.
المطلب الأول : صور امتناع الإدارة عن تنفيذ
الأحكام الصادرة ضدها:
إن جهة الإدارة حين لا تكون راغبة في تنفيذ الحكم
القضائي فإنها قد تتخذ في سبيل ذلك عدداً من الصور والوسائل التي تمكنها في
اعتقادها من التهرب من التنفيذ ـ بداية بمحاولة التأخير في التنفيذ, ومروراً
بالتنفيذ الناقص للحكم وكذلك الامتناع عن التنفيذ عن طريق إصدار قرار إداري فردي
أو لائحي, ونهايةً بالرفض الصريح لتنفيذ الحكم القضائي وهو أخطر هذه الأنواع,
وأقلها وجوداً في الواقع العملي ([12]) .
ويلحظ على هذه الصور أنها غالباً ما توجد في
أحكام الإلغاء؛ وهذا الأمر لا يعني عدم وجود تلك الصور في القضاء الكامل (قضاء
التعويض), إلا أن وجوده يعد نادراً نسبياً مقارنة بوجوده في أحكام الإلغاء وذلك
كله فيما عدا الامتناع المشروع عند تنفيذ الحكم القضائي لوجود أسباب تسوغ ذلك
الامتناع بوجود قوة قاهرة أو صعوبات مادية حقيقية ونحو ذلك ([13])
أولاً: التأخير في التنفيذ : إن الأحكام القضائية الصادرة ضد جهة الإدارة لا
تحدد بوقت معين لتنفيذها, وإنما يكون ذلك عائد إلى تقدير جهة الإدارة ذاتها, فهي
تملك سلطة تقديرية في هذا الشأن ([14])
.
ولكن هذه السلطة التقديرية للإدارة ليست مطلقة بل
يجب أن تكون المدة التي يتم فيها التنفيذ معقولة ومناسبة, وتقدير ذلك عائداً إلى
رقابة القضاء الإداري ([15])
.
وعلى الرغم من ذلك, فإنه إذا كان للتأخير ما
يبرره كوجود صعوبات مادية حقيقية, أو وجوب اتخاذ إجراءات إدارية معينة قبل تنفيذ
الحكم, كأن يكون التنفيذ يتطلب اتخاذ سلسلة من القرارات والتدابير الإدارية
اللازمة, فإن ذلك لا يعد تأخيراً موجباً لمسؤولية الإدارة ([16])
.
وعلى هذا فإنه إذا ما تجاوزت جهة الإدارة المدة
المعقولة لتنفيذ الحكم القضائي, ودون أن يكون لهذا التجاوز ما يبرره انعقدت
مسؤوليتها تجاه هذا التأخير, وعدَّ ذلك الامتناع بمثابة قرار سلبي غير مشروع ([17])
يحق معه للمحكوم لـه رفع دعوى للمطالبة بإلغائه, كما يحق لـه المطالبة
بالتعويض إذا كان قد ترتب عليه ضرر من جراء هذا التأخير.
وهذا التأخير يعد أحد نوعي القرارات الإدارية
للامتناع من تنفيذ الحكم القضائي وهو القرار السلبي, والنوع الآخر هو القرار
الإيجابي (الرفض الصريح) .
وهذه الصورة من صور امتناع الإدارة عن تنفيذ
الحكم القضائي غالباً ما توجد في أحكام الإلغاء, ذلك أنه في حكم الإلغاء يلزم
إعطاء الإدارة فسحة من الوقت لتقوم بترتيب أوضاعها الإدارية واتخاذ الإجراءات
اللازمة للتمهيد لتنفيذ مضمون الحكم([18]).
ثانياً: التنفيذ الناقص: قد تقوم الإدارة بتنفيذ الحكم القضائي ظاهراً,
فلا تلتزم بتنفيذ مضمون الحكم حرفياً, وإنما تتعسف بمقتضى السلطة الممنوحة لها,
فلا تنفذ الحكم حسب مضمونه ([19])
, بل تنفذه تنفيذاً ناقصاً ومبتوراً بما يتوافق مع رغبتها, ومن هنا كان ذلك صورة
من صور الامتناع عن تنفيذ الحكم القضائي؛ لأن الإدارة ـ والحالة هذه ـ استخدمت
سلطتها في التنفيذ على غير ما أراد الحكم فكان ذلك امتناعاً منها عن التنفيذ
الواجب عليها.
فالواجب على جهة الإدارة أن تنفذ الحكم القضائي
تنفيذاً صحيحاً, كاملاً, مراعية في ذلك ما جاء في منطوقه, وما ارتبط بهذا المنطوق
من أسباب جوهرية ([20])
.
والإدارة حين تلجأ إلى هذه الصورة فإنها تتخذها
بديلاً للرفض الصريح أو التأخير في التنفيذ, فتقوم بالتنفيذ الناقص لكي تتخلص من
تبعات الحكم التي لا تتوافق مع إرادتها.
والتنفيذ الناقص للحكم يقوم مقام عدم التنفيذ من
حيث الأثر, فالإدارة حين تنفذ الحكم ـ هنا ـ فإنها لا ترتب على هذا الحكم جميع
الآثار النظامية التي يتعين إعمالها إنفاذاً لـه, وبذلك يكون تنفيذها للحكم قاصراً
ومبتوراً ([21])
.
وفي هذه الحالة يحق للمحكوم لـه الطعن في القرار
الإداري الصادر تنفيذاً للحكم على غير الوجه الذي طلبه الحكم, ولـه الحق ـ أيضاً ـ
في المطالبة بالتعويض إذا ترتب عليه ضرر.
ثالثاً: الامتناع بإصدار قرار إداري: إن الإدارة في سبيل امتناعها عن تنفيذ الحكم
القضائي قد تلجأ إلى الامتناع في صورة قرار إداري, فتقوم الإدارة بإصدار قرار
إداري مطابق للقرار الملغي, أو مشابه له في المضمون ([22])
.
وعلى ذلك يكون القرار الجديد ـ سواء كان فردياً
أو لائحياً ـ مستحقاً للطعن ولصاحب الحق اللجوء إلى القضاء للمطالبة بإلغائه شرط
ألا يكون هناك عذر من ضرورة أو تغيير في مركز الطاعن قد اضطر الإدارة إلى اتخاذ
هذا القرار ([23])
, بل إن البعض يرى أنه في هذه الحالة يعد إصدار القرار الجديد قرينة ضد الإدارة
تدل على لجؤها إلى وسائل مُقنَّعة لتحقيق ذات الآثار التي كانت تستهدف تحقيقها من
القرار الملغي, وبالتالي يقع على عاتقها عبء الإثبات بأن القرار الجديد قد صدر
لتحقيق مصلحة عامة ([24])
.
رابعاً: الرفض الصريح: هذا الرفض يتجسد في صورة قرار إداري صريح يرفض
تنفيذ الحكم القضائي الصادر ضد جهة الإدارة ([25]).
واستخدام الإدارة لهذه الصورة يحملها المسؤولية
كاملة تجاه عدم تنفيذ الحكم القضائي, ولكن هذه المسؤولية إنما تنشأ أساساً إذا كان
هذا التنفيذ لا يرتب إخلالاً خطيراً بالصالح العام أو لم توجد قوة قاهرة تمنع من
تنفيذ الحكم أو حدث تغيير في المركز القانوني أو الواقعي للمحكوم لـه, فإنه ـ
والحالة هذه ـ لا يعد رفضها لتنفيذ الحكم موجباً للمسؤولية مع عدم الإخلال بحق
المحكوم لـه الثابت بالحكم ([26])
.
المطلب الثاني: أسباب امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الإدارية:
إن
الإدارة حين تمتنع عن تنفيذ الحكم القضائي, فإنها لا بد أن تتمسك بأسباب معينة
تحول دون ذلك التنفيذ, وهذه الأسباب قد تكون أسباباً حقيقية تحول دون قيام جهة
الإدارة بواجبها في التنفيذ رغم سعيها بكل الوسائل الممكنة للتنفيذ, وقد تكون تلك
الأسباب واهية لا مستند لها من الواقع أو النظام, وبناء على ذلك فإن تلك الأسباب
لا تخلو إما أن تكون مستمدة من المصلحة العامة، أو متعلقة بصعوبات التنفيذ، أو متعلقة
بدوافع شخصية.
إن جهة
الإدارة حين اتجاه إرادتها إلى التنصل من مسؤوليتها في تنفيذ الأحكام الإدارية؛
فإنها كثيراً ما تتذرع بأسباب متعلقة بالمصلحة العامة, فتدعي أن تنفيذ الحكم
القضائي يتعارض مع المصلحة العامة التي يعود تقديرها إلى جهة الإدارة ذاتها, ومن
ثم فهي تتخذ من المصلحة العامة حصناً تحتمي به من مساءلتها عن عدم تنفيذ تلك
الأحكام, ولذا فإنه لا يجوز لجهة الإدارة التهرب من مسؤولياتها في تنفيذ الأحكام
الصادرة ضدها بهذه الحجة؛ لأن تنفيذ الأحكام القضائية نابع أساساً من تحقيق
المصلحة العامة التي هي احترام النظام وطاعة أحكام القضاء وتحقيق الاستقرار
الاجتماعي([27]).
وكذلك فإنه لا يجوز استهداف تحقيق المصلحة العامة
عن طريق غير مشروع ومخالف للنظام ([28])
.
ولكن وعلى الرغم من ذلك, فإن أحكام
القضاء الإداري قد استقرت على التمييز بين الإدعاء بتحقيق المصلحة العامة من خلال
عدم التنفيذ, وبين احتمالات حدوث اضطرابات خطيرة في الأمن والنظام العام ([29])
, كأن يترتب على
تنفيذ الحكم ـ في هذه الحالة ـ حدوث فتنة أو تعطيل سير مرفق عام, فإنه يحق للإدارة
ـ هنا ـ الامتناع عن التنفيذ ترجيحاً للصالح العام على الصالح الفردي الخاص ([30])
.
على أن هذا الحق للإدارة لا يمنع من المحافظة على
حقوق المحكوم لـه, بحيث إذا استمر الامتناع عن تنفيذ الحكم مدة طويلة, أو لم ينفذ
أصلاً, فإنه يكون من حقه ـ حينئذٍ ـ المطالبة بالتعويض ليس على أساس خطأ الإدارة
في عدم التنفيذ حيث لم يصدر منها خطأ, وإنما على أساس قواعد المسؤولية الإدارية
بدون خطأ (المخاطر) والتي تقوم على مبدأ المساواة بين الأفراد في تحمل الأعباء
العامة ([31])
.
وقد يكون من الأسباب وجود صعوبات مادية تعوق تنفيذ الحكم القضائي الصادر ضد
جهة الإدارة, وقد استقر القضاء الإداري على عدم الاعتداد بتلك الأسباب ما لم تكن
لها مستندات حقيقية ([32])
.
وجهة الإدارة حين تتذرع ببعض الصعوبات
المادية فإن بعض تلك الصعوبات قد تكون واقعية تمنع من تنفيذ الحكم القضائي, بل قد
تجعل تنفيذه مستحيلاً أساساً كما لو صدر حكم بإلغاء قرار يمنع عقد اجتماع بعد
التاريخ المحدد لذلك الاجتماع بفترة طويلة.
وكذا
لو كانت الاستحالة شخصية عائدة إلى المحكوم لـه بأن تتعلق به ظروف تفضي إلى
استحالة تنفيذ الحكم كأن يبلغ الموظف المحكوم بإلغاء فصله سن التقاعد مما يعد معه
تنفيذ الحكم مستحيلاً, فهنا تحول هذه الاستحالة دون مسؤولية الإدارة عن عدم
التنفيذ ([33])
.
وقد يكون عدم التنفيذ متعلق بأسباب نظامية
تمنع جهة الإدارة من تنفيذ الحكم, وهذه الأسباب قد تكون غير حقيقية وإنما تتخذها
جهة الإدارة ستاراً لكي لا تتحمل مسؤولية عدم التنفيذ, وقد تكون تلك الأسباب
حقيقية تعود إلى إجراء يستند إلى نص نظامي, أو إلى الحكم القضائي ذاته وهو الغالب,
فقد تلاقي جهة الإدارة صعوبة في تفسير الحكم, أو فهم مقصوده, أو كيفية تنفيذه, حيث
يكون الحكم مشوباً بغموض في منطوقه أو أسبابه الجوهرية وغير ذلك مما يتعذر على
الإدارة معرفة كيفية تنفيذه, ولا تتمكن بسبب ذلك من بيان الحقوق والمراكز النظامية
التي يرتبها الحكم القضائي, وهنا يجب على جهة الإدارة الرجوع إلى الجهة القضائية
التي أصدرت الحكم لتفسيره وبيان كيفية تنفيذه ([34])
.
المبحث الثالث: ضمانات تنفيذ الأحكام الإدارية
إن تنفيذ الأحكام الإدارية يتعرض لبعض الصعوبات
في تنفيذه, وذلك راجع إلى أن هذه الأحكام تصدر ضد الإدارة, ولذا لا بد من وجود
ضمانات تحقق التنفيذ الكامل للأحكام الإدارية, وتكفل لها الهيبة الكاملة عند
الجهات الإدارية, كما يُوجد ذلك الثقة في نفوس المتداعين.
والضمانات المقررة لتنفيذ الأحكام الإدارية تتكون
من وسائل لحث الإدارة على التنفيذ وجزاءات لامتناعها عن التنفيذ.
المطلب الأول: وسائل حث الإدارة على تنفيذ
الأحكام الإدارية.
إن من أهم الضمانات التي تكفل احترام الأحكام
الإدارية وتنفيذها الوسائل التي تحث الإدارة على تنفيذ تلك الأحكام واحترامها.
وهذه الوسائل التي يمكن عن طريقها تحقيق تلك
الغاية تنقسم إلى قسمين:
أ ـ وسائل قضائية. ب ـ وسائل شبه قضائية.
القسم الأول: الوسائل القضائية: منها:
1- إخطار
الإدارة بواجبها في تنفيذ الأحكام.
لقد ظل القضاء الإداري يرفض مبدأ إخطار جهة
الإدارة وتذكيرها بواجبها في تنفيذ الأحكام, بل وتعدى ذلك إلى رفض مجرد التلميح
لها بالإجراءات الإيجابية الواجب اتخاذها لتنفيذ أحكامه, وذلك بناء على أنه لا
يجوز للقضاء أن يحل محل جهة الإدارة فيما هو من اختصاصها ([35])
.
ولكن مع مرور الوقت بدأ التحول تدريجياً عن رفض
التدخل وذلك لكثرة الصعوبات النظامية التي تصاحب تنفيذ الأحكام الإدارية وخاصة
أحكام الإلغاء, وما تحويه من مسائل قانونية معقدة وما تتطلبه من إجراءات إدارية
متسلسلة, لذا كان من الضروري تضمين أسباب الحكم كيفية تنفيذه, خاصة وأن الأحكام
الإدارية جميعاً تتضمن إخطاراً لجهة الإدارة بواجبها في التنفيذ كما يقرره بعض
الشراح ([36]) .
وقد أخذ ديوان المظالم بهذا الاتجاه, فيلحظ في
بعض أحكامه تذكير للإدارة بواجبها في التنفيذ وكيفية ذلك ([37])
.
وهذا الإخطار لجهة الإدارة يمكن أن يأخذ عدة صور
منها:
أ-
تضمين الحكم الأصلي كيفية تنفيذه, وخاصة في أسباب الحكم, ويثبت لها حينئذ القوة
التنفيذية شأنها شأن المنطوق طالما أنه لا يمكن تنفيذ المنطوق دون الرجوع إليها ([38]) .
ب- تضمين
كيفية التنفيذ في حكم لاحق, وهذا
عائد لرفض جهة الإدارة التنفيذ, أو بسبب التنفيذ الناقص, أو بسبب طلب تفسير الحكم
والذي يرفع من جهة الإدارة أو المحكوم له([39]).
وفي مجال تذكير
جهة الإدارة بواجبها في التنفيذ من خلال الصورتين السابقتين يستطيع القاضي الإداري
أن يبين في حكمه الالتزامات التي يرتبها الحكم, أو يطلب القيام بالعمل الذي رفض
دون وجه حق, أو أن يوضح الخطأ الذي يرتكبه الموظف في حالة امتناعه عن التنفيذ ([40])
.
2- تدخل
القاضي الإداري لتنفيذ أحكامه:
لقد استقر القضاء الإداري على مبدأ حظر توجيه
أوامر من القاضي الإداري إلى الإدارة وحظر حلولـه محلها, وأن القاضي يقضي ولا
يدير, ولذا لا يجوز لـه التدخل في اختصاص الإدارة لإرغامها على تنفيذ أحكامه, وكل
ذلك من أجل تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات([41]) .
وقد أخذ بهذا الاتجاه عدد من الشراح, وهو ما
استقر عليه القضاء اعتماداً على المبادئ السابقة, ولأن القاضي تنتهي مهمته بالحكم
في القضية, ومن ثم لا يعدو تدخله لتنفيذ أحكامه عن كونه تدخلاً في ما لا يملكه
ولذا لا يجوز لـه ذلك ([42])
. وقد
أخذ ديوان المظالم بذلك ([43])
.
ولكن مع ذلك, فإنه ينبغي حث جهة الإدارة على
الوفاء بالتزامها بتنفيذ الأحكام عن طريق الوسائل الأخرى والتي يغني استخدامها عن
استخدام هذه الوسيلة.
3- استخدام أسلوب الضغط المالي :
إن القاضي الإداري إذا كان لا يملك حق توجيه
أوامر لجهة الإدارة لتنفيذ أحكامه, فإنه على الرغم من ذلك لم يعدم الوسائل التي
تمكنه من ممارسة الضغط على جهة الإدارة من أجل تحقيق ذلك, ومن هذه الوسائل:
استخدام أسلوب الضغط المالي على جهة الإدارة لحملها على التنفيذ, فجهة الإدارة
ملتزمة بتنفيذ الحكم, فإذا لم توف بهذا الالتزام, فإن للقاضي الإداري ـ حسب
القانون الفرنسي ـ إلزامها بدفع مبلغ معين عن كل فترة تأخير إلى أن تقوم بالتنفيذ ([44]) .
الأول: وجود التزام على جهة الإدارة بالتنفيذ,
وهذا الالتزام أساسه ما يتمتع به الحكم الإداري من حجية على الجميع, والتي يكتسب
بها الحكم قوة تنفيذية تفرض على جهة الإدارة بوجه خاص احترامه.
الثاني: وجوب أن يكون التنفيذ ممكناً؛ لأن اللجوء
إليها حينئذٍ ـ سيكون غير مجد, لاستحالة التنفيذ.
وأسلوب الضغط المالي أو ما يسمى: بالغرامة
التهديدية أخذ به القضاء الإداري في فرنسا ([46]) , ولكن لم يؤخذ به في ديوان المظالم؛ لأن الحاجة
لم تدع إليه, وذلك لقلة حالات عدم التنفيذ من قبل جهة الإدارة؛ إضافة إلى أن ذلك
ليس من اختصاص الديوان.
القسم الثاني: الوسائل
شبه القضائية: ومنها :
1- لجان
التقرير والإيضاح:
إن لجان
التقرير والإيضاح من الوسائل شبه القضائية التي عُرفت في النظام القضائي الفرنسي
منذ عام 1963م من أجل الحد من مشكلة عدم تنفيذ الأحكام الإدارية ([47]) .
وتختص هذه اللجان بإعطاء إيضاحات لجهة الإدارة عن
كيفية تنفيذ الحكم, وكذلك فإنه يحق للأفراد الذين صدرت لهم أحكام ضد جهة الإدارة
اللجوء إليها لكي تقوم بالاتصال بجهة الإدارة وبيان الإجراء الذي يتعين عليها
اتخاذه من أجل تنفيذ الحكم والاتصال بالموظف المسؤول لحثه على التنفيذ, وكذلك
فإنها تقوم بتقديم تقرير سنوي حول نشاطه بشكل عام, ويدخل في نطاق هذا التقرير
الإشارة إلى الصعوبات التي تواجه تنفيذ الأحكام الصادرة عن جهة القضاء الإداري,
ومن ذلك إدراج أسماء الجهات الإدارية الممتنعة عن التنفيذ ([48]).
فهذه اللجان تقوم بمحاولة علاج مشكلة عدم تنفيذ
الأحكام بطريقة إدارية بحتة, وعلى الرغم من مميزاتها في الحث على الإسراع بالتنفيذ
إلا أن بعض الشراح عدَّ هذه اللجان غير مجدية,لعدم وجود عنصر الإلزام فيها, كما
أنه ليس لها اتخاذ إجراءات قوية كفيلة بحمل جهة الإدارة على التنفيذ ([49]).
2- الوسيط.
نتيجة للصعوبات التي تواجه تنفيذ الأحكام
الإدارية الصادرة ضد الإدارة ظهرت وسائل عديدة لمحاولة الحد من هذه الظاهرة ولعل
من أبرزها: الوسيط.
والوسيط في حقيقته عضو مستقل مهمته القيام بدور
الوساطة بين المحكوم لـه وجهة الإدارة في سبيل الوصول إلى تنفيذ الحكم القضائي,
وظهر الأخذ بهذا النظام عام 1976م في فرنسا, ويتدخل الوسيط في حالة عدم تنفيذ
الحكم القضائي من قبل جهة الإدارة ([50]), وتتلخص سلطاته في هذا المجال ([51]) في المساعي الودية بين الجهة الإدارية والمحكوم
لـه بما يؤدي إلى تنفيذ الحكم الإداري، وسلطة الأمر, والتي يحق لـه بموجبها توجيه
الأمر إلى الجهة الإدارية لتنفيذ الحكم الصادر ضدها طبقاً للمهلة التي يحددها، والتقارير
العامة سواءً التقرير السنوي الذي يرفع لرئيس الحكومة، أو التقرير الذي ينشر في
الجريدة الرسمية متضمناً الجهات الإدارية الممتنعة عن تنفيذ الأحكام القضائية، وحق
المقاضاة.
ودور الوسيط يختلف عن دور لجان التقرير والإيضاح
من خلال السلطات الممنوحة لكل منها, فسلطات الوسيط تفوق سلطات هذه اللجان, إذ أنه
يملك توجيه أوامر مباشرة لجهة الإدارة بضرورة التنفيذ مع تحديده مدة معينة لذلك,
مع الاتفاق في عدم وجود جزاءات مادية توقع على الجهة الإدارية عند عدم التنفيذ ([52]) .
المطلب الثاني: جزاء امتناع الإدارة عن تنفيذ
الأحكام الإدارية
تقدم بيان أن وسائل حث الإدارة على تنفيذ الأحكام
الإدارية من الضمانات المقررة لتنفيذ الأحكام الإدارية, ولكن هذه الوسائل لا تكفي
لتحقيق الضمانات الكافية لتنفيذ الأحكام؛ لأنها لا تتمتع بعنصر الإلزام الذي يجبر
الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية, ولذا كان لا بد من إيجاد ضمان آخر يكفل
للأحكام القضائية أن تجد طريقها إلى التنفيذ بدون معوقات, وهذا ما يتمثل في
الجزاءات التي تتعرض لها الإدارة عند امتناعها عن تنفيذ الأحكام الإدارية.
ومن هذه الجزاءات:
أولاً: إلغاء القرار المخالف للحكم المقضي به.
إن امتناع جهة الإدارة عن تنفيذ الحكم القضائي
الصادر ضدها يمثل تجاوزاً للسلطة, يعطي للمحكوم لـه حقاً في رفع دعوى جديدة بإلغاء
القرار الإداري الصادر في هذا الشأن سواء عبرت جهة الإدارة عن موقفها هذا في صورة
قرار إيجابي صريح, أو صورة قرار سلبي ضمني, وكذلك فإن هذا لا يقتصر على ذات القرار
الذي تضمن الامتناع, بل إن أي قرار إداري يتضمن خروجاً على الالتزامات التي يفرضها
تنفيذ الحكم القضائي وإعمال آثاره يخول للمحكوم لـه الطعن عليه بدعوى جديدة ([53]) .
ولكون هذه الدعوى لا تختلف عن دعوى الإلغاء
العادية في جوهرها, فقد ذهب بعض الشراح إلى تبرير وجودها كجزاءٍ لامتناع جهة
الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية فأبرزوا أن لهذه الدعوى جدوى تتلخص في أمور
منها ([54]) :
أنها تحمل نوعاً من الإكراه الأدبي لجهة الإدارة
مما يحملها على المسارعة في تنفيذ الحكم القضائي.
أنها تضيف قوة جديدة إلى الالتزام السابق, خاصة
مع تذكير جهة الإدارة بواجبها تجاه تنفيذ الأحكام القضائية.
أن الحكم الصادر في هذه الدعوى يزيل أيَّ حجة قد
تدعيها جهة الإدارة كمانع من التنفيذ.
ولكن عند التأمل, نجد أن هذه الدعوى لا تمثل
جزاءً رادعاً لجهة الإدارة من الناحية العملية, بل إن المحكوم لـه والذي قد
استغرقت الدعوى الأولى جهده ووقته من خلال طول مدة التقاضي ومماطلة الإدارة, ثم مع
صدور الحكم لصالحه لم يتمكن من الوصول إلى حقه, فإن ذلك داع لـه بأن يفقد الأمل في
الوصول إلى حقه بذات الطريق إذا كان ليس فيه إجبار حقيقي لجهة الإدارة على
التنفيذ.
ثم إن في هذه الدعوى إضعافاً لهيبة القضاء في
نفوس الأفراد, وإشعارهم بأنه لا سلطان له على تصرفات الإدارة الخاطئة.
ثم إن الإدارة قد لا تستجيب لهذا الحكم ـ أيضاً ـ
مما يدخلنا في حلقة مفرغة تستدعي رفع دعوى ثالثة ورابعة.. دون جدوى، ما يفضي إلى
الدور، ما جعل البعض من القضاة والفقهاء يتجهون إلى عدم صحة هذه الدعوى، لأنه لا
يسوغ إعادة النظر في هذا القرار؛ حيث إن مقتضى فصل الخصومة في الدعوى الأولى بطلان
جميع ما يتعارض مع تنفيذ الحكم.
وهذا ما أكده الفقهاء بقولهم: "الدعوى متى
فصلت مرة بالوجه الشرعي لا تنقض ولا تعاد, حيث لا فائدة في إعادتها..." ([55])
.
وكذا فإن الفقهاء قدر قرروا في اختصاصات قاضي
المظالم: الإشراف على تنفيذ الأحكام القضائية التي يعجز القضاة عن تنفيذها لنفوذ
المحكوم عليه أو وجاهته ([56]) , وهذا يدخل فيه جهة الإدارة عند امتناعها عن
التنفيذ, ومرجع هذا الاختصاص: أن الحكم القضائي الذي لا ينفذ يعد نوعاً من الظلم
يستلزم تدخل قاضي المظالم للتنفيذ ([57])
, وبذلك
يظهر أن أيَّ عمل مخالف للحكم القضائي يُعد ظلماً ينبغي إزالته فوراً لا رفع دعوى
للنظر فيه؛ لأن صدور الحكم القضائي يعني: فصل الخصومة وقطعها ـ كما سبق ـ وهذا
يقتضي الإمضاء والتنفيذ مباشرة, فيكون الاختصاص ـ في هذه الحالة ـ اختصاص تنفيذي
محض ([58])
.
ولذلك كله كان من الأوْلى البحث عن طريق آخر يجبر
الإدارة على تنفيذ الحكم القضائي, وهذا يتأتى من خلال إيجاد جهة مستقلة تُعنى
بمشكلة عدم تنفيذ الأحكام القضائية, ويكون دورها متمثلاً فيما يأتي:
1- التقصي عن وقائع عدم تنفيذ الأحكام القضائية كل واقعة على حِدة,
وذلك بالبحث ومخاطبة الجهة الإدارية لمناقشة الأسباب الداعية لذلك الرفض.
2- التحقيق الفعلي في واقعة عدم التنفيذ عن طريق
موظفين مستقلين في هذا القسم يكون من اختصاصهم إجراء التحقيقات مع كل من المحكوم
لـه طالب التنفيذ, وموظفوا الجهة الإدارية المسؤولون عن التنفيذ مع منحهم
الصلاحيات الكاملة لذلك.
3- عند التحقق من مسؤولية الجهة الإدارية عن
التنفيذ يتم مخاطبتها رسمياً, والتأكيد عليها بواجبها في التنفيذ,.
4- تتم
محاسبة الجهة الإدارية وموظفيها عن واقعة عدم التنفيذ من قبل الجهة المسؤولة عن
ذلك وفقاً لما تقتضيه القواعد العامة للمسؤولية على اعتبار أن ذلك من الإخلال
بواجبات الوظيفة العامة.
ثانياً: انعقاد المسؤولية المدنية للإدارة وجزاؤها:
إن امتناع جهة الإدارة عن تنفيذ الحكم القضائي مع
ما يترتب عليه من إخلال بالتزامها بواجباتها, فإنه كذلك يوجب مسؤوليتها المدنية ـ
أيضاً ـ ومن ثم يحق لصاحب الشأن المطالبة بالتعويض متى ما توافرت الشروط اللازمة
لانعقاد مسؤولية جهة الإدارة عن هذا الامتناع([59]) .
فإذا امتنعت جهة الإدارة عن القيام بواجبها في
تنفيذ الحكم القضائي دون مبرر, فإنه يحق للمتضرر من هذا الامتناع التقدم إلى
القضاء الإداري طالباً تعويضه عن هذا الخطأ من قبل جهة الإدارة, بل إنه يحق لـه
طلب التعويض حتى ولو كان لهذا الامتناع ما يبرره, كما لو امتنعت جهة الإدارة عن
التنفيذ حفاظاً على النظام العام, أو كان تنفيذ الحكم مستحيلاً لفوات محله ([60])
.
إن الجزاء المترتب على انعقاد المسؤولية المدنية
بأركانها هو: التعويض وذلك بثبوت الحق في التعويض للمتضرر على الجهة الإدارية.
فإذا انعقدت المسؤولية سواء على أساس الخطأ أو
بدون خطأ فإن صاحب الشأن يستحق تعويضاً لجبر ما أصابه من ضرر جراء عدم تنفيذ الحكم
القضائي, وبهذا تبتعد فكرة التعويض عن أن تكون عقوبة للإدارة وموظفيها؛ إذ العقوبة
تكون على قدر الخطأ, أما التعويض فيكون على قدر الضرر, ولذا فإن القاضي الإداري لا
ينظر في تقدير التعويض إلى درجة الخطأ الذي ارتكبته جهة الإدارة بل إلى جسامة
الضرر ([61]) .
وإذا كانت جهة الإدارة هي الملتزمة بجبر الضرر
الواقع على صاحب الشأن وتعويضه, فإن موظفيها المسؤولون عن التنفيذ تقع عليهم مسؤولية
ـ أيضاً ـ ذلك أن الإدارة إنما تعمل في النهاية بواسطة موظفيها, وهو ما يحملهم
المسؤولية تجاه تصرفاتهم الخاطئة التي ترتكب بدافع شخصي محض, وهذه المسؤولية
الشخصية فضلاً عن كونها ضرورة منطقية, فإنها تولد شعوراً لدى موظفي الإدارة,
بأهمية الالتزام بأحكام القضاء وتنفيذها, وهذا مما يقلل من إمكانية حدوث حالات الامتناع
عن تنفيذ الأحكام ([63]) .
وفي هذه الحالة يمكن رفع دعوى التعويض على جهة
الإدارة وتتحمل التعويض, ثم ترجع على الموظف المسؤول إذا تبين حصول الخطأ منه بصفة
شخصية, كما يمكن لصاحب الشأن رفع دعوى أمام المحاكم العامة لمطالبة الموظف بصفته
الشخصية عن الأضرار التي تسبب بها ([64]) .
ثالثاً: المسؤولية الجزائية للموظف المسؤول:
تنقسم المسؤولية الجزائية للموظف المسؤول في حال
عدم تنفيذ الحكم القضائي إلى مسؤولية تأديبية، ومسؤولية جنائية.
فالمسؤولية التأديبية تعني: قيام مسؤولية الموظف
على أساس إخلاله بواجبات الوظيفة العامة التي يتولاها ([65])
.
وإن عدم تنفيذ الأحكام القضائية يعد مخالفة
إدارية تستحق الجزاء التأديبي, ذلك أن المخالفات التأديبية لم تُحصر, وإنما تُرِكت
لتقدير السلطة الإدارية, كما نصت على ذلك المادة (31) من نظام تأديب الموظفين
بقولها: "يعاقب تأديبياً كل موظف ثبت ارتكابه مخالفة مالية أو إدارية".
وهذه المادة نصت على استحقاق العقوبة في حالة
ارتكاب الموظف مخالفة مالية أو إدارية, ولم تُحدد المخالفات على وجه الحصر بل تُرك
ذلك للسلطة المشرفة على التأديب ([66]) لتقرر ما إذا كان الفعل المنسوب للموظف يمكن أن
يكون مخالفة تأديبية أو لا ([67]) .
ولا شك بأن قيام الموظف المسؤول بعدم تنفيذ الحكم
القضائي بما يتضمنه من إهدار لحجية الشيء المقضي به يعد مخالفة إدارية توجب
مساءلته تأديبياً واستحقاقه للعقوبة المناسبة.
وإن قيام المسؤولية التأديبية في حق موظف ما لا
تمنع من قيام المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية ، كما نصت على ذلك المادة
(31) من نظام تأديب الموظفين, إذ إن الفعل الواحد قد يتضمن عملاً مخلاً بواجبات
الوظيفة العامة مما يستوجب قيام المسؤولية التأديبية, وكذلك ضرراً جنائياً على
المجتمع مما يستوجب قيام المسؤولية الجنائية, وكذلك ضرراً مدنياً بالغير مما يوجب
قيام المسؤولية المدنية([68]) .
وأما بالنسبة للعقوبة التأديبية فلا يمكن إيقاعها
بالموظف عند ارتكابه للمخالفة التأديبية والمتمثلة ـ هنا ـ بالامتناع عن تنفيذ
الحكم القضائي إلا في حال توافر ركني المسؤولية التأديبية وهما ([69]) : أ ـ الركن المادي: ويتمثل في ارتكاب الموظف
للفعل المحظور تأديبياً, وهو ـ هنا ـ الامتناع عن تنفيذ الحكم القضائي. ب ـ الركن
المعنوي: ويتمثل في وجوب صدور الفعل المحظور عن إرادة متعمدة, فيكون متعمداً
الامتناع عن التنفيذ رغم معرفته وعلمه بأن هذا الامتناع يعد مخالفة إدارية.
أما المسؤولية الجنائية فإنها تعد من أقوى
الوسائل في مجال العمل على احترام تنفيذ الأحكام القضائية للموظف الممتنع عن
التنفيذ, حيث يترتب على انعقاد هذه المسؤولية فقدانه حريته وعزلـه من وظيفته ـ حسب
بعض أنظمة العقوبات في البلاد العربية ـ ولا شك أن ذلك يحمل الموظف على الاحترام
الكامل للأحكام القضائية, والمسارعة إلى تنفيذها ([70]) .
وقد نصت بعض أنظمة الدول على اعتبار الامتناع عن
تنفيذ الأحكام القضائية يشكل جريمة جنائية متى ما توافرت أركان الجريمة.
أ ـ استعمال الموظف سلطته الوظيفية في وقف تنفيذ
الحكم.
ب ـ امتناع الموظف المختص بالتنفيذ عمداً عن
تنفيذ الحكم.
ولكي تقوم الجريمة ـ هنا ـ لا بد من توافر
أركانها:
1 ـ الركن المادي للجريمة: هو استعمال سلطة الوظيفة في وقف تنفيذ
الحكم, وإن لم يكن الموظف مختصاً بالتنفيذ, بل يكفي في ذلك تدخله بسلطة وظيفته
لوقف التنفيذ, ولا تتم الجريمة إلا بوقف تنفيذ الحكم نتيجة لهذا التدخل.
وقد سن النظام المصري عقوبة لهذه الجريمة وذلك
بعد إنذار الموظف بأن فعله يشكل جريمة جنائية, فإن أصر قامت المسؤولية الجنائية في
حقه وعوقب بالحبس والعزل, مع ترك التحديد في ذلك للقاضي ([74]) .
ولا شك أن هذه المسؤولية الجنائية من أقوى
الجزاءات على الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية, وهي وسيلة ناجعة عند إصرار
الموظف على امتناعه وتماديه في الاستهتار بالأحكام القضائية.
وفي المملكة صدر مؤخراً نظام جديد للتنفيذ بموجب
المرسوم الملكي رقم (53) وتاريخ 12/8/1433هـ ، وجاء في نص المادة (89) منه على أن:
( يعاقب الموظف العام ومن في حكمه بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا منع
التنفيذ أو أعاقه ، ويعد ذلك جريمة من الجرائم المخلة بالأمانة ).
وهذا
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*****************
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم