القائمة الرئيسية

الصفحات



وقف السندات والصكوك والحقوق المعنوية والمنافع

وقف السندات والصكوك والحقوق المعنوية والمنافع

وقف السندات والصكوك
والحقوق المعنوية والمنافع


الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة




وقف السندات والصكوك
والحقوق المعنوية والمنافع





إعداد
الشيخ حسن الجواهري
الأستاذ بالحوزة العلمية بقم
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
نشكر الامانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي لدعوتنا للمشاركة في الدورة التاسعة عشر لمؤتمر المجمع وتخصيص موضوع «وقف الاسهم والصكوك والحقوق المعنوية والمنافع» للكتابة فيه.
وقبل البدء في هذا الموضوع نوّد الاشارة إلى تعريف الوقف وتعريف الحبس استناداً إلى دليليهما وبيان الفرق بينهما. كما نحب أن نعرض بحث وقف النقود للاقراض والمضاربة في العصر الحاضر تمهيداً للوصول إلى نظرية وقف المالية وصحة ذلك.
وبعد هذا ننتقل إلى وقف الاسهم والصكوك استناداً إلى صحة وقف المشاع أو وقف المالية لنتمكن من الحكم بجواز تبديل السهم الموقوف بشيء آخر ثم نصل إلى وقف الحقوق المعنوية باعتبارها حقاً مالياً يمكن وقف ماليته المستندة إلى عين توجب هذا الحق وبعدها نبحث عن وقف المنافع الذي اختلف في جواز وقفها بالمعنى الاصطلاحي إلاّ أنه يجوز تحبيسها عند الكل على وجه من وجوه البرِّ لمدة محددة. فنقول :
تعريف الوقف: 
عرّفه الإمامية وجمهور الحنفية والحنابلة والشافعية والزيديد: بانه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود، أو يصرف ريعه على جهة برٍّ وخير.
ومفهوم من هذا التعريف: امتناع الواقف من التصرف فيه ببيع أو صدقة أو هبة، وهو الذي دلّت عليه النصوص حبس الأصل وسبل الثمرة أو المنفعة أو بإنه لايُباع ولايوهب ولا يورث ومعنى ذلك خروج الموقوف عن مالك الوارث ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف.
تعريف الحبس: 
وهو عبارة عن جعل المالك حق الانتفاع بملكه لآخر من دون تعيين مدة من دون أن يخرج بذلك عن ملكه. ويسمى هذا العقد بالحبس المطلق يجوز للمالك الرجوع فيه.
والدليل عليه الآية القرآنية (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)( ) وحديث «المؤمنون عند شروطهم» وبعض النصوص كخبر محمد بن مسلم قال سألت الإمام الباقر (عليه السلام) عن رجل جعل لذات محرم جاريتها حياتها؟ قال: هي لها على النحو الذي قال( ).
وقد يكون الحبس لمدة معينة أو مدة حياة المحبِّس أو مدة حياة المحبَّس أو مدة حياة شخص آخر، فبعد انتهاء المدة يرجع الملك إلى الحابس أو ورثته، ويسمى هذا العقد بالحبس المقيّد ولايجوز للمحبِّس الرجوع فيه.
ويلحق بالحبس: السكنى والعمرى والرقبى. فالسكنى تختصّ بالمسكن، والعمرى والرقبى تجريان بالمسكن وفي غيره من العقار والحيوان والاثاث ونحوها مما لايتحقق فيه الاسكان، فان كان المجعول الاسكان قيل له سكنى، فان قيد بعمر المالك أو الساكن قيل له عمرى، وأن قيد بمدة معينة قيل له رقبى، وإذا كان المجعول غير الاسكان كما في الاثاث ونحوه مما لايتحقق فيه السكنى لايقال له سكنى بل قيل عمرى ان قيد بعمر أحدهما ورقبى أن قيد بمدة معينة.
وفي كل من الحبس بالسكنى أو العمرى والرقبى تبقى العين على مالك مالكها. ويلزم الحبس بالقبض، وعليه يجوز للمالك التصرف في ملكه بجميع أنواع التصرفات التي لاتنافي استيفاء المنفعة بالنسبة للمحبّس عليه.
وعلى ما تقدم من تعريف الوقف والحبس وما الحق بالحبس من السكنى والعمرى والرقبى يلزم الفصل بين لفظي الوقف والحبس كما تقدم من الاختلاف في أحكام كل منهما. فان الوقف تخرج العين به عن ملك المالك حسب النصّ الكامل لاتباع ولاتورث ولاتوهب، أما الحبس فتبقى العين على ملك مالكها مع كون المنفعة لآخر ويكون الحبس غير لازم كما إذا لم تكن المدة معينة، فإن عينت كان الحبس لازماً.
وعلى هذا فاعتبار الترادف بين لفظ الوقف والحبس كما عن بعض غير صحيح، واتفاق الأحكام للوقف والحبس غير صحيح وإن كان كل واحد منهما يراد به وجه الله ويكون برّاً، فان أنواع البِّر كثيرة كالصدقة والوصية والهبة والوقف والحبس والعارية واشباهها إلاّ أن كل واحد منها له حكمه الخاص به الذي لايشمل غيره، فلا يمكن أن نُسمِّي الوقف حبساً وان عُرِّف الوقف بالحبس إلاّ أنه قيد بقطع تصرف الواقف في الرقبة بخلاف الحبس الذي عُرِّف بأنه جَعلُ المالك حقّ الانتفاع بملكه لآخر مع تمكنه من التصرف بالرقبة تصرفاً لاينافي استيفاء المنفعة بالنسبة للحبس عليه.
فما ذكره البعض( ) تحت عنوان وقف الاعيان المتكررة إذ قال: «وثمة صور أخرى لوقف الاعيان ساعد على ابتكارها تطور مفهوم المؤسسة، فالمؤسسة تعيش عمراً يتجاوز عمر مالكها والقائمين عليها معاً، وهي كثيراً ما تكون دائمة مؤبدة فإذا قامت مؤسسة ـ هذه طبيعتها ـ بتحبيس جزء عيني من منتجاتها على وجوه البر، إما على اساس منتجات يوم بعينه أو شهر معين متكررين، أو على أساس نسبة محددة من مجموع منتجاتها، فان ذلك ـ ولاشك ـ وجه من وجوه البر الذي يتخذ نموذج الصدقة الجارية، ولا يخرج عن كونه صورة مستجدة من صور الوقف....
ومثل هذا الوقف يمكن أن يكون مؤبداً لأن المؤسسة نفسها مؤبدة، فيمكن من انتاجها تحقيق معنى التأييد. ويمكن أيضاً أن يكون جارياً متكرراً لمدة محددة لعشر سنوات أو لخمسين سنة حسب رغبة أصحابه. ولكل من الاجر والثواب على قدر ما يعمل من البرِّ. ولا يتعلق هذا الوقف بأي جزء من أصول الشركة وموجوداتها، وانما هو وقف لجزء من انتاجها فقط فهو نوع من وقف المعدوم الممكن الوجود الذي لم يكن موجوداً عند انشاء الوقف.
وهذه الصورة الجديدة تشبه صورة وجدت في بعض البلدان الإسلامية في الماضي، في ميدان الحاصلات الزراعية حيث عرف وقف نسبة من الحاصلات الزراعية دون أن يتعلق الوقف بعين الأرض الزراعية. وقد سمي هذا النوع من الوقف باسم «العقر الموقوف» في العراق( ).
اقول: إن ما ذكر لايتم وذلك: لأن الوقف الاصطلاحي يختلف عن الحبس كما تقدم مع أن كليهما من وجوه البرِّ، فتحبيس جزء عيني من منتجات المؤسسة(أي تحبيس بعض منافع العين على جهة برٍّ) مع كون المؤسسة مملوكة لاصحابها الحقيقيين أو الحقوقتين يكون من الحبس الذي دل عليه الدليل وهو برّ بلا اشكال إلاّ أنه يختلف عن الوقف الذي تكون العين فيها قد خرجت من ملك صاحبها لاتباع ولاتورث ولاتوهب.
فالحبس قد يكون مؤقتاً بعشر سنين أو بمدة عمر المالك أو المنتفع أو بمدة عمر ثالث، ومع هذا يتمكن المالك أن يتصرف بالعين أي تصرف لايتزاحم مع منفعة المحبَّس عليه، وهذا يختلف عن الوقف الذي لايتمكن المالك أن يتصرف فيها أي تصرف ما دامت قد خرجت عن ملكه.
والخلاصة: إن الصدقة غير الجارية برٌّ والعارية برّ والهدية برّ والصدقة الجارية (الوقف) برّ والتحبيس المؤقت والمؤبد برّ إلاّ أن كل عنوان من هذه العناوين له دليله الخاص وحكمه الخاص وخصائصه المميزة له عن غيره فلا يمكن أن نتوسع في هذه العناوين بجعلها وقفاً تحت عنوان لا مشاحة في الاصطلاح.
على أن وقف المعدوم الممكن الوجود الذي لم يكن موجوداً عند انشاء الوقف، لايكون صحيحاً لأن الوقف لايمكن أن يكون معلقاً أو مضافاً إلى المستقبل كما قرر ذلك في شرائط الموقوف.
وقد ذكر الدكتور منذر قحف أيضاً فقال: «وإذا وجدت جماعة من المسلمين في مدينة سواء في بلاد المسلمين أم بلاد غيرهم واحتاجوا إلى مسجد للجُمع والصلوات، فأعار أحد المسلمين داره لمدة خمس سنوات ـ أو لنقل وقفه لهذه المدة وليكن اسم ذلك الفعل من البرِّ ما يسمى، ولو استعمل عبارة الوقف فلا مشاحة في الاصطلاح ـ ليكون مسجداً ريثما يبنى مسجد دائم لهم، أليس هذا من البرِّ؟ وهل يعقل للشريعة أن تمنعه؟ أو أن تظلم المعير أو الواقف المؤقت، فتأخذ منه الدار وقفاً مؤبداً بدعوى أن الوقف صحيح والشرط باطل؟!. ومثل ذلك يمكن أن يقال عن عقار تحتاجه مدرسة تقدم دورات تدريبية لفترة محددة ولكنها متكررة بشكل دوري مثل كل شهر أو كل سنة، فلو وقف مسلم عقاره لها لهذه المدة المتكررة وحدها، أيكون ذلك مما تحرّمه الشريعة أو تمنعه أو تسقطه من حسبانها؟ أم يكون الشرط باطلا؟ فيؤخذ منه العقار على وجه التأبيد!... وهو أمر لم يرده الواقف ولم يقصده!
وإنما قد قصد التبرع بالمنفعة لوقت محدد لوجه من وجوه البرِّ العامة... ومثل ذلك لو وقف صاحب موقف للسيارات موقفه الذي يملكه لمدة ساعتين فقط كل اسبوع فترة صلاة الجمعة يستعلمه المصلون لسياراتهم وجعل ذلك وقفاً موقوفاً بسنوات محددة أو مؤبداً دائماً حتى لايستطيع وارث أو مالك جديد للأرض أن يحرم المصلين من هذا الحقّ...
فهل يمنعه الفقيه المعاصر بحجة عدم قبول التوقيت في الوقف، فيحرم الناس من البر في حين إن الشرع الحكيم يشجع عليه. وهل يقبل عاقل أن الشريعة الإسلامية التي تبيح ـ بل تحث على ـ العارية والمنيحة وهما من اعمال البر المؤقتة التي ينتفع بها شخص بعينه تمنع مثل هذا البرِّ نفسه إذا كان لمصلحة عامة ينتفع بها ناس كثيرون؟... إن المسألة في نظرنا: أن هذا النوع من أعمال البر لم يكن مألوفاً في عصور ازدهار الفقه لبساطة الحياة وعدم تعقدها وقلة تكاليف البناء وعدم وجود ضرائب على العقار وغير ذلك من اسباب ومعاذير»( ).
ثم قال: «وبعد أن وازن الإمام أبو زهرة بين أدلة من يقول باشتراط التأبيد وأدلة من يرون جواز التوقيت في الوقف عقّب بقوله: «فرأيت أن الاكثرين عدداً قد قالوا: أن التأبيد جزء من معنى الوقف ومفهومه. وأن القلة من الفقهاء رأت أن التأبيد ليس جزء من معنى الوقف فيجوز مؤقتاً ومؤبداً معاً. وقد علمت أن القلة تستمد رأيها من معاني الشريعة ومغزاها ومرماها. وهي بهذا قد استعاضت عن قلة عددها بقوة دليلها. وكان من هذه القلة إمام جليل هو من أئمة الرأي وعلماء السنة: الإمام مالك. فجواز توقيت الوقف ـ مع قوة دليله ـ قد زاده قوة فوق قوته أنه قول من لايحيد عن السنة قيد أنملة ومن يدرك وجوه الرأي السليم»( ).

أقول: ويرد على الدكتور منذر قحف:

1 ـ إن اعارة أحد المسلمين داره لمدة خمس سنوات هو اعارة وهو عقد جائز يجوز له الرجوع فيه وهذا امر صحيح كما ذكر الدكتور، إلاّ أنه بعد ذلك قال ولنقل أنه وقف وقف لمدة خمس سنين ولا مشاحة في الاصطلاح. ولكننا نعلم أن الوقف أمر لازم لايجوز الرجوع فيه. فكيف يكون عارية ويكون وقفاً مع اختلاف احكامهما وتصريحه بالعارية ونحن نقول أنه وقف؟!! مع أننا نتفق معه على أنه إن أجاز للمسلمين أن تكون داره خمس سنوات لاقامة الصلوات والجمع هو من البرِّ والخير ولايختلف معه أحد، ولاتمنعه الشريعة من ذلك، ولانحكم بأن ما ذكره هو وقف إذ ذكر أنه عارية.
2 ـ لو ذكر صيغة الوقف وقال وقفت داري خمسة سنين لاقامة الصلوات والجمع فيها، وكان قصده هو الانتفاع بالدار لا اخراج الدار عن ملكه، فهو تحبيس كما تقدم ويجب الوفاء به، وفرق بين الوقف والتحبيس، فان الوقف هو اخراج العين عن ملكه (كما عليه الأكثر) بحيث لايتمكن أن يتصرف فيها هو أو غيره ببيع أو هبة ولا تورث، فإذا كان قصده من لفظة الوقف هو التبرع بالمنفعة لوقت محدد وعدم اخراج العين عن ملكه فلا ينعقد وقفاً بل يكون تحبيساً كما تقدم ذلك ويجب الوفاء بما حبَّس، ولايؤخذ منه العقار ويحكم بوقفيته على التأبيد إذا لم يقصد معنى الوقف من كلمة الوقف، ولايقول به أحد.
3 ـ إن الشريعة الإسلامية تحث على المنيحة والعارية وهما من أعمال البرِّ المؤقتة لشخص معين ويمكن أن تكون المنيحة والعارية للمصلحة العامة بحيث ينتفع بها ناس كثيرون ولايمنع أحد عن الثاني مع اجازة الأول كما ادعى ذلك الدكتور منذر قحف، إلاّ أن الكلام في كون هذا العمل من الوقف اللازم الذي لايمكن الرجوع فيه، فلاحظ.
4 ـ إن الإمام أبو زهرة الذي وازن بين أدلة من يقول باشتراط التأبيد وبين أدلة من يرون جواز التوقيت في الوقف وعقب بقوله بترجيح قول من يرى أن التأبيد ليس جزءً من مفهوم الوقف فيجوز الوقف مؤبداً ومؤقتاً وهم القلة الذين فهموا مغزى ومرمى الشريعة فكان دليلها قويّاً خصوصاً مع ذهاب الإمام مالك إلى جواز التوقيت في الوقف.
أقول: إن الإمام مالك الذي رجحّ صحة كون الوقف مؤقتاً لايختلف عن قول الأكثر الذين قالوا: بان الوقف لايكون إلاّ مؤبداً وأن التأبيد مأخوذ في مفهوم الوقف إلاّ في اطلاق لفظ الوقف على التحبيس، وهو قد أخذ بالمعنى اللغوي للوقف الذي هو تحبيس، أما إذا عرفنا أن اصطلاح الوقف يختلف عن اصطلاح التحيبس (كما تقدم ذلك) حيث يكون الوقف عبارة عن اخراج العين الموقوفة عن ملكه، والتحبيس هو عبارة عن اخراج المنفعة عن ملكه فقط دون العين لمدة محدودة، وهذا الاختلاف في الاصطلاح قد أخذ من أدلة كلّ من الوقف والحبس، فلا يكون قول الأكثر باطلا ولا معارضاً لما قاله الإمام مالك إلاّ في الاصطلاح الذي يكون الإمام مالك متسامحاً في اطلاق الوقف الاصطلاحي على التحبيس الاصطلاحي. فلاحظ.
وبهذا نفهم أن ما قاله الدكتور منذر قحف: «إنما نعذر فقهائنا الغابرين ممن كتبوا لنا هذا التراث الفقهي العظيم أن هذه المصالح والحاجات لم تنشأ في مجتمعاتهم (ويقصد التبرع بالمنفعة دون الملك لمدة معينة) فلم يتحدثوا عنها. ولكننا لانعذر كاتباً معاصراً يتسائل مستنكراً «فهل يصح أن يقف إنسان مدرسة لتكون وقفاً على طلبة العلم الشريف لمدة شهر مثلا، ثم تعود بعد ذلك لواقفها؟ أو أن يقف شجرة بستانه على اليتامى والمساكين لمدة يوم واحد؟» ثم يعقّب: «... اعتقد أن مثل هذا النوع من الوقوف هو ضرب من العبث يجب أن لايقول به قائل» لأن مثل هذه الأعمال من البرِّ معقولة في عالمنا المعاصر، بل معقولة جداً أو يمارسها فعلا الكثير من الناس من مسلمين وغير مسلمين فهي تصح نعم! وليست هي من ا لعبث كما ظنّ الكاتب. ولايصح الاحتجاج بأنه «لابدّ من أن يكون هذا البرِّ والاحسان قائماً ودائماً ليستمر الانتفاع به ويحصل الثواب منه» لأن الثواب يحصل باذن الله بقليل البرِّ وكثيره وبما يدوم منه طويلا ربما يدوم منه زمناً قصيراً، فلكل من الأجر والثواب بقدر ما قدّم وكل فاعل خير له ثوابه (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ)( )( ).
أقول: إن ما ذكره الدكتور منذر قحف لايصح لأن المتكلم إذا قصد معنى الوقف الذي هو اخراج العين من ملكه مع قصده الانتفاع بالمنفعة فقط من دون اخراج العين عن ملكه فهو قد قصد امرين متنافيين وهو من العبث واقعاً، وإذا قصد من كلمة الوقف الانتفاع بالعين لمدة محددة دون اخراج العين عن ملكه (كما هو الظاهر من فهم الدكتور منذر قحف من كلام من نقل عنه الكلام) فهو تحبيس وقد ذكره فقهائنا القدماء ولحق به العمرى والرقبى والسكنى فيكون المتكلم قد قصد من لفظ الوقف معناه اللغوي الذي هو  التحبيس دون معناه الاصطلاحي الذي يعني اخراج العين عن ملكه بحيث لايتمكن الواقف ولا غيره من التصرف به ببيع أو هبة ولاتكون ارثاً بعد موته.
وحصول الثواب من الوقف ومن التحبيس لايجعل الوقف حبساً ولا الحبس وقفاً بمعناهما الاصطلاحيين.

وقف النقود: 

اختلف الفقهاء في وقف النقود فمنهم من اجازه ومنهم من منعه، ومدار الخلاف في امكان استعمالها من دون استهلاك العين، فمن الفقهاء من اجاز وقف النقود لاتخاذها زينة كما يجوز كاجيرها للزينة أيضاً أو تزيل عنه الذل أو يكون وجودها معه عند السفر إلى دولة أوربية أو غيرها يوجب له السماح بالدخول أو اعطاء الويزة.
ومن الفقهاء من منع من وقفها حيث لايكون المراد من النقود إلاّ الاستهلاك والصرف فلاينطبق معنى الوقف الذي هو تحبيس العين وتسبيل المنفعة كما لايصح وقف الرزّ للأكل. هذ كله مما بحث فيه الفقهاء ولا حاجة للبحث فيه الآن: انما الكلام في وقف النقود للاقراض والمضاربة.
وقف النقود للاقراض أو المضاربة (وقف الماليّة):
إن المراد من وقف النقود في الحال الحاضر هو أن تكون المالية هي الموقوفة مع تبدّل تجسيدها من عين إلى عين أخرى، فهل يجوز مثل هذا الوقف، مع أن فتاوى الفقهاء صرَّحت بأن الوقف إنما يصح في الاعيان المملوكة التي ينتفع بها مع بقاء عينها؟
وبعبارة أخرى: إنّ مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة تجعلنا نفكر في بديل لوقف العين بحيث يمكننا أن نوقف المالية، ونجعل المتولي على وقف المالية قادراً على التبديل والبيع بما يراه صالحاً في أي وقت أراد، وهذا ما يجعل الوقف مواكباً للمناشط العصرية التي تقوم بها السوق المالية، فيدخل المال الموقوف في المعاملات حسب ما يراه المتولي، أو يستفيد من مالية المال الموقوف المحتاجون لقضاء حاجاتهم من المال بشرط إرجاعها لتقرض ثانياً.
وهذا الأمر جيد إن قام عليه دليل يصحح هذا الموقف فهل من دليل على ذلك؟
قد يقال: أولا: إننا نتمسك باطلاق روايات الصدقة الجارية( )، الوارد في روايات صحيحة متعددة بمعنى أن الجريان ليس مصداقه الوحيد هو انحباس العين وتوقيفها عن البيع (حيث كان هو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ) بل هناك مصداق آخر للصدقة الجارية، وهو مالية الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن اعيان مختلفة متعاقبة، وحينئذ يكون قوام الجريان بالتحبيس ولكن المحبوس قد يكون عيناً وقد يكون مالية.
وهذا البيان لوقف المالية لايعارضه ما ورد من تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (الثمرة)، حيث إنّ وقف المالية أيضاً تحبيس لها، وقرضها أو المضاربة بها مع كون النفع للمحتاجين هو نوع تسبيل للمنفعة المرتجاة من المالية( ).
وثانياً: إن صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج( ) صرّحت بجواز شرط الواقف حقّ البيع والتبديل للموقوف عليه، وحينئذ يرجع واقع هذا الشرط إلى التصدّق بالمالية القابلة للتجسيد في الاعيان المختلفة.
ويرد على الدليل الأول: أننا نحتمل أنّ الصدقة الجارية الواردة في الروايات منحصر مصداقها في مرتكز المتشرعة في الوقف الذي لايباع ولايوهب ولايبدّل، وهذا الارتكاز يكون صالحاً للقرينيّة الموجبة لانصراف اطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى وقف العين.
ويرد على الدليل الثاني: أنّ في الصحيحة جواز بيع الوقف لوفاء الدين وجواز بيع الوقف وتقسيم الثمن على آل بني المطلّب وآل أبي طالب والهاشمين، وهذا معناه إبطال الوقف لا أن الوقف يكون للمالية التي تبقى ثابتة ويكون النفع منها بالقرض والمضاربة، فهي اجنبية عن محل كلامنا.
يبقى أننا نتمكن أن نصل إلى نتيجة وقف المال لأجل القرض والمضاربة مع صرف الربح في جماعة الفقراء من المسلمين بالوصية التي تنفذ بعد الموت في خصوص الثلث إن لم يرضَ الورثة بالزائد عليه، فيوصي الانسان بصرف مقدار معيّن من أمواله في اقراض المحتاجين أو المضاربة به على أن يكون الربح لجماعة معينة، أما نفس الوقف بالنقود المالية فلم يتمّ عليه أي دليل( ).
ولكن قال صاحب العروة الوثقى: بصحة وقف مالية العين، فهو وإن لم يكن من الوقف المصطلح إلاّ أنه عقد يشمله (أوفوا بالعقود) «والمؤمنون عند شروطهم» فقال: «إذا وقف مالية عين أبداً، يمكن أن يقال: أنّه وإن لم يكن من الوقف المصطلح إلاّ أن مقتضى العمومات العامة صحته، ونمنع حصر المعاملات في المتداولات، بل الأقوى صحة كل معاملة عقلائية لم يمنع عنها الشارع، فكما تصح الوصية بابقاء مقدار من ماله أبداً، وصرف منافعه في مصارف معيّنة مع الرخصة في تبديله بما هو أصلح، فكذا لا مانع في المنجّز بمثل الوقف على النحو المذكور وإن لم يكن من الوقف المصطلح» ثم قال: «فوقف مالية المال وإن لم يكن صحيحاً للاجماع على الظاهر، لكن لا مانع من وقف العين بلحاظ ماليتها»( ).
فالنقود الورقية وكذا الذهبية والفضية يمكن للمالك أن يوقف ماليتها، وحينئذ يكون عقداً صحيحاً إذا قبل ذلك الحاكم الشرعي، فيتمكن أن يقرضها ثم ترجع ويقرضها مرة أخرى، كما يمكن أن يجعلها مضاربة لينتفع من ربحها من وقفها المالك عليه.
ومما قاله السيد الحائري في فقه العقود بالنسبة إلى وقف المالية إذ قال: «يمكن التعدّي من  الوقف الذي هو تحبيس لعين خاصة إلى تمليك الماليّة التي يمكن تبديل تجسّدها من عين إلى عين أخرى فراراً من مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة، فيجوز للمتولي البيع والتبديل بما يراه صالحاً في أيّ وقت أراد، وذلك تمسّكاً باطلاق روايات الصدقة الجارية( )، بدعوى أن (الجريان) ليس مصداقه الوحيد عبارة عن انحباس العين وتوقيفها عن البيع وهو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ، بل له مصداق آخر أيضاً وهو أن يكون المحبوس على المشروع الخيري ماليّة الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة متعاقبة، لا فرداً معيناً كي يصبح وقفاً لايجوز تبديله، فقوام الجريان إنما هو بالتحبيس وليس بكون المحبوس فرداً معيناً من العين»( ).
ثم إن «صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج الصريحة في جواز شرط الواقف حقّ البيع والتبديل، فيرجع واقع المطلب إلى التصدّق بالمالية، أو قل وقف الماليّة القابلة للتجسيد في الاعيان المختلفة»( ).
وصحيحة عبدالرحمن بن الحجاج ورد فيها «... وإن كان دار الحسن غير دار الصدقة، فبداله أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن باع فإنه يقسّمها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثاً في سبيل الله ويجعل ثلثاً في بني هاشم وبني المطلب ويجعل ثلثاً في آل المطلب...» قال السيد الحائري: «فإن استظهرنا من هذا الكلام تبديل العين الموقوفة بعين أخرى بأن يشتري بثمن الاولى  الثانية، فهذا يكون ما أسميناه بوقف الماليّة أو تمليكها لما وقف عليه، وإن استظهرنا من هذا الكلام بيع الوقف وصرف ثمنه على الموقوف عليهم، قلنا: إذن فصحة شرط جواز البيع للتبديل أولى من شرط جواز البيع للصرف والاستهلاك، فإذا جاز هذا جاز ذاك، وذلك راجع إلى وقف وتمليك المالية القابلة للتبدل في تجسيدها من عين إلى عين»( ).
ولكن يرد على وقف المالية بالاصطلاح الفقهي المعروف ما تقدم من أن حبّس الاصل ناظر إلى الاصل الحقيقي لا الاعتباري والمالية اصل اعتباري لا حقيقي، والاصل الحقيقي هو النقد العيني.
ومع هذا نكون مؤيدين لما قرّره مجمع الفقه الإسلامي في قراره 140/6/15 لاجازة وقف النقود بشأن الاستثمار في الوقف وفي غلاته وريعه، باعتبار ان وقف المالية عقد جديد يشمله أوفوا بالعقود.

هل يمكن أن نوقف ايراداً نقدياً يحصل في المستقبل دون وقف أصله؟

ذكر البعض( ) جواز ذلك، وقال بوجود صور متعددة لهذا الوقف تدور حول محورين:
المحور الأول: وقف ايراد عين معمرة لفترة زمنية محددة، ومثاله أن يحبّس شخص الايراد الاجمالي أو الصافي الذي ينشأ عن استثمار عقار للايام العشرة الأولى من ذي الحجة من كل عام، أو أن يقف محسن (يملك موقفاً للسيارات) ايراد موقفه مما يدفعه أصحاب السيارات التي تقف فيه كل يوم جمعة، أو أن يقف صاحب حديقة حيوانات ايرادها لمدة شهر كل ثلاثة أعوام مثلا.
المحور الثاني: وقف حصة محسوبة بنسبة مسؤولة من الايرادات النقدية الاجمالية أو الصافية لهيئة أو مؤسسة استثمارية قائمة، إضافة إلى الزكاة المفروضة التي لابدّ أن توزّع في مصارفها الشرعية.
ثم قال: والحقيقة أن حساب احتياطي مخاطر الاستثمار في البنوك الإسلامية هو قريب جداً من هذا النوع من الوقف. وهو لايختلف عن الوقف الذي نتحدث عنه إذا اعتبرنا الوقف مؤقتاً بانتهاء وجود البنك نفسه، وذلك لأن النصوص المألوفة في عقد تأسيس البنك في أمر هذا الحساب أن يُجعل رصيده المتبقي في مثل مصارف الزكاة عند انعدام البنك الإسلامي... لأن جميع المال في هذا الاحتياطي موقوف (مخصص) بنصّ النظام الإسلامي لسداد أية خسارة ناشئة عن عجز في أعمال البنك بما يعود على أصحاب الودائع الاستثمارية (المضاربات) بالنقص في رؤوس أموالهم. وإن اعتبرناه وقفاً فان ناظره هو ادارة البنك، وهو مؤقت بمدة بقاء البنك الاسلامي نفسه لأنه موقوف على أصحاب الودائع ا لاستثمارية لديه، فإذا انعدم البنك لم تعد هنالك ودائع استثمارية لدية.
أما إذا أردنا أن يكون وقف الأموال المتجمعة في حساب بخاطر الاستثمار مؤبداً فينبغي أن نضيف إليه موقوفاً عليه لاينقطع كأن ينصّ أنه عند انعدام البنك يبقى أصل المال المتراكم في هذا الحساب ليستثمر في عقار أو مضاربة أو غير ذلك وتكون غلاته أو أرباحه في الفقراء والمساكين مثلا( ).
أقول:
1 ـ إننا قد قبلنا سابقاً وقف مالية النقود للأقراض أو المضاربة وإن لم تكن وقفاً اصطلاحياً، إلاّ أن وقف الايراد النقدي دون أصله إنما يصح وقفه بعد تحققه ووجوده في الخارج وقبضه( ) من قبل الموقوف عليهم أو الولي لهم، وما لم يتحقق في الخارج ل ايصح وقفه لأنه معدوم ولا يصح وقف المعدوم.
وكذا نقول في وقف الحصة المحسوبة بنسبة مؤوية من الايرادات النقدية الاجمالية أو الصافية إنما يصح إذا وجدت هذه الحصة المحسوبة بنسبة مؤوية فيصح وقف ماليتها للأقراض أو المضاربة، أما إذا نوى شخص أن يقف ما يربحه أو أن يقف حصة مما يربحه فهو نية للوقف لا وقف حقيقي وفعلي لعدم وجود الربح في الخارج حتى يصح وقفه.
2 ـ إن حساب احتياطي مخاطر الاستثمار في البنوك الإسلامية ليس من الوقف إذ هو وثيقة لسداد أية خسارة ناشئة عن عجز في أعمال البنك بما يعود على أصحاب الودائع الاستثمارية (المضاربات) بالنقص في رؤوس أموالهم، وفرق كبير بين الوقف والوثيقة لرؤوس الأموال عند نقصانها.
وعند انعدام البنك فان النصوص المألوفة (كما يقول الاستاذ الدكتور منذر قحف) هو أن يجعل هذا الرصيد المتبقي في مثل مصارف الزكاة، وهذا أيضاً أمر قد قررته ادارة البنك يمكن العمل به عند انعدام البنك ويصرف في مصارف الزكاة كصدقة مستحبة.
3 ـ نعم إذا أراد البنك أن تكون هذه الأموال المتجمعة في حساب احتياطي مخاطر الاستثمار في البنوك الإسلامية وقفاً لاينقطع فينبغي أن يضاف إلى قوانين البنك جملة: «موقوفاً عليه لاينقطع» أي أن يكون المال المتبقي في هذا الحساب مستثمراً في عقار أو مضاربة وتكون ارباحه وغلاته في الفقراء والمساكين.
أقول: إن هذا إنما يتم إذا بقيت هذه الارادة لوقت انعدام البنك وجعل هذا المال وقفاً بماليته لتكون أرباحه في الفقراء والمساكين، أما جعل الصيغة للوقف حين انشاء البنك وحين وجود الاحتياطي على أن يكون وقفاً عند انعدام البنك مستقبلا فهو من الوقف المعلّق على انعدام النبك أو من الوقف المضاف إلى المستقبل وهو أمر لم تقرّه كثير من المذاهب فقال الحنفية والشافعية والحنابلة مع الإمامية: إن انشاء الوقف معلقاً على شرط أو صفة مستقبلة باطل، أي لم تترتب آثار الوقف عند صدور الصيغة المعلّقة أو المضافة إلى المستقبل.
وذلك لأن الوقف هو نقل الملك والتمليك لايقبل التعليق على أمر في المستقبل، وعلل الشافعية عدم صحة التعليق على شرط مستقبل، بأنه عقد التزام ويبطل بالجهالة فلم يصح تعليقة على شرط مستقبل كالبيع. نعم إذا علّق الوقف على موت الواقف كان وصية( )
وقف الأسهم:
هل يصحّ وقف الأسهم؟ والجواب عن هذا السؤال يتوقف على معنى السهم الذي يوجد في الأسواق وتبيعه الشركات للأفراد، والسهم قد يفترض له أحد معاني ثلاثة:
الأول: إن صاحب السهم قد يكون دائناً للشركة، أما الشركة فلها شخصية حقوقية مقابل أصحاب السهام، فهي تملك وتبيع وتشتري وتقرض وتهب وما إلى ذلك، وهي خارجة عن ملك الشركاء بالمرّة.
الثاني: إن صاحب السهم يعتبر شريكاً مع بقيّة ملاك الأسهم، فالشركة ملك للشركاء وفق حصصهم، ولكن توجد للشركة شخصية معنوية أكبر قيمة من الأموال الحقيقية التي جعلت من قبل الشركاء في الشركة.
الثالث: إن الأموال الحقيقة الموجوة في داخل الشركة هي ملك للشركاء كباقي أموالهم الشخصية إلاّ أنه على نحو الاشتراك، سواء كانت الشركة قهرية كما لو كان الشركاء إخوة قد ورثوا المال المشترك من أبيهم، أو عمدية واختيارية كما لو اشتركوا عمداً في المال، فالبيع والشراء يقع على أموال حقيقية وليست حقوقية ولا معنوية.
وحينئذ نقول: هل توجد ذمّة ماليّة للشركة بحيث يملك صاحب السهم مبلغاً من المال في ذمّتها قد حصل بواسطة القرض لها؟
والجواب: قد يقال: إن الأصل الأوّلي يقتضي نفي وجود شخصية حقوقية من هذا القبيل، وليس الاشكال في عدم تعقّل ذلك، فان ذلك شيء معقول إلاّ أن الاشكال يكمن في عدم الدليل( ) على أن تكون الشركة مالكة ويملك شخص شيئاً في ذمّتها رغم وجود ما يشبه ذلك في فقهنا كملكية منصب الدولة.
وعلى هذا: فإن المعنى الأول للسهم وكذا الثاني الذي تقمصت الشركة فيه شخصية معنوية أكبر قيمة من الأموال الحقيقية، لا دليل على حقانيتها بحيث يكون لها ذمة قد ملك شخص فيها مقداراً من المال، وعلى هذا فلايمكن وقف الشخص هذا المقدار من المال الذي هو في ذمة الشركة، إذ لا ذمة لهذه الشركة.
ثم على فرض الاعتراف بوجود الشخصية الحقوقية من هذا القبيل، ووجود الدليل على أن تكون الشركة مالكة ويملك شخص شيئاً في ذمّتها ولو بما قاله الاستاذ مصطفى الرزقاء حيث قال: «إنه بالرجوع إلى القواعد الفقهيّة في الشريعة الإسلامية (وما أسلفناه) يتضح أن النظريات الحقوقية الحديثة والأحكام القانونية المعتبرة اليوم في الشخصية الحكميّة تتفق كلّها مع قواعد الفقه الشرعي، ولو أن هذه المؤسسات ذات الشخصية الحكميّة القانونية اليوم وجدت في العصور الفقهية الماضية لأقرّ لها الفقهاء هذه الأحكام التي جاء الشرع بأمثالها في شخصية الدولة وبيت المال والوقف (كما تقدم)، فالاحكام القانونية المتعلّقة بالاشخاص الحكميّة العامّة والخاصّة كالجمعيات والمؤسسات يمكن إدخالها في صلب الفقة وكتبه( ). أو بناء على مباني القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، فاننا حتى لو قبلنا ذلك إلاّ أنه لايصح وقف السهم المشاع بناء على المعنى الأول حتى لو قبلنا وقف المالية وذلك:
لأن وقف المالية الذي قُبل هو عبارة عن وقف مالية العين الذي يمكن أن تبدّل إلى شيء آخر أو يمكن أن تُقرض ويُرجع بدلها ليقرض مرّة ثانية، أما وقف ما في ذمة فلان فهو أمر مرفوض( ) لعدم صحة وقف ما في الذمة الذي هو أمر كلّي وليس عيناً خارجية حيث دلّ الدليل على صحة وقف الاعيان الخارجية لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حبّس العين وسبّل الثمرة. فلاحظ.
أما المعنى الثاني للسهم: فيصح أن يوقف السهم مالكه وإن كان السهم يحتوي على قيمة مالية أكبر( ) من قيمته الحقيقية في الشركة بشرط أن تتعامل بالحلال.
لأن وقف السهم من قبل صاحبه يكون عبارة عن وقف الحصة المشاعة المملوكة لصاحب السهم. وقيدُ التعامل بالحلال يقتضيه كون الوقف قربة لله تعالى، فيجب أن يكون ريع الوقف من مصدر يجوز التربّح منه وهو الكسب الحلال.
أمّا المعنى الثالث للسهم: فنقول: إذا كانت الشركة التي عليها الشركاء الحقيقيون تعمل في الأمور المحللة وتبتعد عن الأمور المحرّمة، فيمكن لصاحب السهم أن يوقف سهمه على جهة خيرية، لأنه عبارة عن وقف المشاع الذي يصح وقفه في فقه كثير من المذاهب الاسلامية ومنهم الإمامية، أو أنه يكون عبارة عن وقف المالية للاعيان التي صححها بعض الفقهاء.
وعلى هذا: فإن سهام البنك «إذا كان البنك لاشخاص حقيقيين لايعمل إلاّ بالاعمال المحلّلة» يمكن وقفها على الجهات الخيرية أو غيرها.
والخلاصة: إن السهم إذا كان بمعنى الورقة المالية القابلة للتداول حسب حكم الشريعة الاسلامية حيث إنها تمثّل وثيقة لملك حقيقي للموجودات المادية والحقوق المتمولة في شركة معينة فيصح وقفها «وإن كان هناك نقود للشركة وديون عليها إلاّ أن هذه النقود والديون تكون مغلوبة للموجودات الحقيقية والحقوق المتمولة». حتى وإن كانت هذه الورقة المالية يختلف قيمتها الاسمية عن قيمتها السوقية نتيجة وجود الشخصية المعنوية للشركة.
وقف الصكوك والسندات:

وهل يصح وقف الصكوك والسندات؟

والجواب: إن الصكوك (الأوراق المالية) والسندات حكمها حكم السهم إذا كانت تمثّل حصة في الشركة التي ترجع أموالها للاشخاص الحقيقيين على نحو الاشتراك، فيصح وقف الصكّ أو السند، لأنه إما راجع إلى وقف المشاع أو وقف المالية وكلاهما قد صححا (كما تقدم).
أما إذا كان السند أو الصك (الورقة المالية) بمعنى أنه قرض بفائدة يباع في البورصة أو البنوك الربوية. فهذه الخصوصية تجعل التعامل به محرّماً مطلقاً، لأنه يوجب الدخول في الربا المحرّم، ولكن هل يصحّ وقفها؟
الجواب: عدم صحة هذا الوقف حتى لو آمنّا بصحة وقف المالية، إذ كما تقدم أن صحة وقف المالية يرجع إلى وقف مالية العين، أما هنا، فإن لم توجد عين يمثلّها السهم بل يكون السهم اشارة إلى قرض في ذمة الآخرين، فلايصح وقف ما في الذمم كما تقدم لأنه وقف للكلي ولم يصح وقف الكلي في الشريعة الاسلامية حسب دليل الوقف المتوقف على وقف الاعيان.
تصريحات بصحة وقف السهام:
وذكر البعض «من أهل السنّة» صحة وقف الأسهم وتبعهم على ذلك قانون الوقف الليبي بحجة أن الأسهم من الأمور المنقولة وقد اجاز المالكية وقف المنقول فقال: «وبعض التشريعات توسّعت في وقف المنقول: فقد نصّت المادة السابعة من قانون الوقف الليبي في فقرتها الثانية على جواز وقف الحصص من الاسهم والشركات التي تستغل اموالها استغلالا جائزاً. والاسهم والحصص من المنقول الجائز وقفه، والقيد الذي وضع على نوع الاستغلال يقتضيه أنّ الوقف قربة لله تعالى في الغالب فيجب أن يكون ريع الوقف من مصدر يجوز التربّح منه، والقاعدة العامّة في الشريعة الاسلامية أن يكون الكسب حلالا.
وهذا التوسعة نجد سندها في المذهب المالكي الذي يجيز وقف المنقول استقلالا»( ).
أقول: إن الإمامية أيضاً اجازوا وقف المنقول إذا كان عيناً ينتفع بها مع بقائها، إلاّ أن السند لايكون من المنقول إذا كان كاشفاً عن أعيان في الشركة كما تقدم في المعنى الثالث والثاني من السهم. حيث يكون السند كاشفاً عن أعيان قد تكون منقولة وقد تكون غير منقولة كالعقار والأرض.
وأما بناء على المعنى الاول للسهم فيكون الوقف من قبيل وقف ما في الذمة فلا يصح.
وقد نسب البعض من أهل السنة أيضاً إلى القانون المصري جواز وقف السهم في الشركة المالية كاستثناء من عدم وقف الحصة الشائعة عند المالكية فيما لايقبل القسمة، فقال: الثالثة (من موارد الاستثناء) أن تكون الحصة الشائعة حصة أو أسهماً في شركات مالية، بشرط أن تكون طرق استغلال أموال الشركة جائزة شرعاً من صناعة أو زراعة أو تجارة، فإن كانت محرّمة شرعاً كالطرق الربوية فلايصح وقف اسهمها( ).
أقول: وهذا الاستثناء إنما يصح لمن قال بأن الوقف لابدّ أن يكون في عين خارجية، أما إذا كان السند قرضاً فلايمكن أن يوقف كما تقدم ذلك منّاً لأن الوقف إنما في الاعيان الخارجية. ولايشمل ما في الذمم الذي هو أمر كلي.
ملاحظة: هل يجوز وقف الاسهم والصكوك التي يحرم الاشتراك والمساهمة «في الشركة التي تعمل في الحرام» حال ارادة تخلّي مالكها عن ملكيتها والتبرع بها لجهة برٍّ لاتنقطع؟
والجواب: إن الاسهم التي اشتركت في الحرام فبالاضافة إلى الحرمة التكليفية قد اصبح جزء منها محرماً بمعنى أن قسماً منها لم يستحقه صاحب السهم المشترك في الشركة بل هو للغير يجب ارجاعه له، فإن عرفه بعينه يجب ارجاعه إليه وإن كان ميتاً فيجب ارجاعه إلى ورثته إن عرفهم وإن لم يعرفه أو لم يعرف ورثته عند موته فيكون المال الذي أضيف إلى ماله من مجهول المالك الذي يجب فيه التصدق عن المالك فان في التصدق عن المالك نوع من وصول الحق إلى صاحبه.
وعلى هذا فيمكن لصاحب السهم الذي يكون سهمه «مختلِطاً من مال صاحب السهم قبل العمل في العملية المحرمة ومن مال الآخرين ولايمكن ايصال المال المحرم إلى صاحبه» أن يوقف السهم الذي تعامل بالحرام لأن قسماً منه يمثل حِصة شائعة في الشركة والقسم الآخر الذي يكون للآخرين يتصدق به عن صاحبه ووقفه على وجوه البرِّ نوع من الصدقة يصل ثوابها لصاحب المال، إذ لا فرق بين التصدق باصل المال الذي للآخرين مباشرة أو بوقفه والانتفاع من وارده كالوقف. ولكن ليس معنى وقفه هو ابقائه في الشركة التي تتعامل بالحرام، بل ببيعه ووقف ما حصل منه من أعيان في قبال بيع السهم أو تبديله بسهام تعمل في شركة عملا محللا.
التصرف في الاسهم والصكوك الموقوفة بأنواعها بالابدال والاستبدال:
أقول: إذا آمنا بوقف المالية (للسهم القابل للتداول) «كما تقدم في وقف النقود عن صاحب العروة وإن لم يكن من الوقف المصطلح» ووقف شخص مالية السهم لجهة برٍّ معيّن فيجوز الابدال والاستبدال بما يراه المتولي صالحاً في أي وقت أراد، لأنه إذا كان المحبوس هو مالية الشيء فيمكن أن نجسد هذه المالية ضمن أعيان مختلفة; خصوصاً إذا استمرت الخسارة للسهام، أو في حال تصفية الشركة.
وإذا وقف صاحب السهم سهمه وأجاز تبديله بالبيع وغيره «كما تقدم جواز ذلك» فمعنى ذلك إن صاحب السهم قد أوقف المالية القابلة للتجسيد في الاعيان المختلفة وصرح بذلك.
وقف الحقوق المعنوية:
هناك حقوق للإنسان يمكن نقلها للآخرين، فهي حقوق قابلة للتداول، وبهذا الاعتبار تكون حقوقاً مالية حيث تقابل بالمال. وهناك حقوق ليس للإنسان نقلها إلى الآخرين، فلا تكون حقوقاً مالية. ومثال الأول هو حقّ استغلال المؤلف والمبتكر نشر مؤلفه أو ابتكاره وتقديمه للآخرين، وهذا الحقّ قابل للتداول واعطاءه للآخرين في قبال مال، فهو حقّ مالي، ومثال الثاني حقّ التأليف نفسه وحقّ الابتكار فهما حقّان غير قابلين للتحويل من شخص لآخر لأنه يكون كذباً وافتراءً.
والمراد من وقف الحقوق هنا هو الحق الأول من هذين الحقين، فالمؤلف عندما يؤلف كتاباً يكون من حقه نشره، والمبتكر عندما يبتكر آلة يكون من حقه تكثيرها، وكذا الشركة التجارية عندما تُحدث اسماً تجاريّاً أو علامة تجارية فلها الحقّ في تكثير فروعها في أماكن ودول أخرى بهذه العلامة والاسم التجاري. وهذا قد يعبّر عنه بـ (الملك المعنوي) الذي يقابل بالمال.
وكمثال على ذلك أيضاً: ما يوجد في مقدمات بعض الكتب التي يصرِّح فيها المؤلف فيقول: «حقّ الطبع والنشر محفوظ للمؤلف» وهذا يعني عدم السماح بالتصرف في هذا الملك المعنوي أو الحق الذي حصل عليه المؤلف لغيره. وقد يكتب المؤلف على كتابه فيقول: «حق الطبع والنشر صدقة لله تعالى» وهذا يعني أن كل شخص مباح له طبع الكتاب ونشره بشرط أن يكون ربحه «أو جزء منه» صدقة لله تعالى عن مؤلف الكتاب، وحينئذ يكون الربح سائغاً لناشر الكتاب بشرط أن يتصدق به أو بجزء منه، وهذا يعني أنه أوقف حقّه كمؤلف، وهذا الحقّ يحدد في السوق لطبعة واحدة أو لجميع الطبعات.
كما أنه قد ينصّ المؤلف فيقول: «سمحت لأي ناشر أن يطبع الكتاب وينشره» وبهذا سيكون المؤلف قد سمح لأي شخص أن يتكسّب بحقه هذا، ولكن هذه الصيغة الأخيرة لم تكن مألوفة عادة في الكتب المؤلفة.
ولابدّ من التنبيه: إلى أن الكتب التي كتب عليها مؤلفوها: أن حقّ الطبع والنشر يكون صدقة لله تعالى كله أو جزء منه حيث تكون هذه الصيغة عبارة عن وقف حقّ الاستغلال بالصورة المألوفة سابقاً تشمل صور الاستغلال الأخرى مثل تحويل الكتاب إلى فيلم سينمائي أو إلى ديسك كمبيوتر أو أي استغلال آخر، لأن هذه الصور الأخرى للاستغلال مراده ملاكاً( ) للمؤلف وإن لم تكن مذكورة باللفظ، فهي مقصودة غير مذكورة لعدم كون هذه الاستغلالات معروفة في ذلك الوقت.
كما يصح لنا أن نقول: إن كلمة النشر مطلقة تشمل كل أنواع النشر سواء كان على الورق أو في فيلم سينمائي أو ديسك كمبيوتر، ولكن المؤلف لم يكن في عصره إلاّ مصداق واحد للنشر، وهو النشر على الورق، وقد ظهرت الآن المصاديق الأخرى للنشر فتشملها كلمة «حقّ النشر صدقة لله تعالى» فيكون حق لنشر موقوفاً لله تعالى سواء نشر الكتاب على الورق أو بصورة أخرى حسب اطلاق الكلمة.
هذا وقد تعرّض الاستاذ مصطفى الزرقاء لهذه الحقوق تحت عنوان حقوق الابتكار تعرض فيه لاثبات أن هذه الحقوق هي حقوق مالية «تقابل بالمال» ولايجوز للاخرين التعدّي عليها وذكر دليلا على ذلك ونحن لابدّ لنا من اثبات ماليتها أولا بدليل ينسجم مع مباني الفقه الإمامي ثم نبحث عن وقفيتها بعد ذلك وإليك الآن نصّ كلام الاستاذ مصطفى الزرقاء فقال: «هناك نوع من الحقوق المالية أوجدته أوضاع الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية الحديثة، ونظمته القوانين العصرية والاتفاقات الدولية ويسميه بعض القانونيين: (الحقوق الأدبية) كحقّ المخترع والمؤلف وكل منتج لأثر مبتكر فنّي أو صناعي، فان لهؤلاء حقّاً في الاحتفاظ بنسبة ما اخترعوه أو أنتجوه إليهم، وفي احتكار المنفعة المالية التي يمكن استغلالها من نشره وتعميمه. ومثله العلامات الفارقة الصناعية والعناوين التجارية وامتيازات إصدار الصحف الدورية، كلّ ذلك بشرائط وحدود تقرّرها القوانين المحلية والاتفاقات الدولية».
ثم قال: «والقصد من اقرار هذه الحقوق إنما هو تشجيع الاختراع والابداع كي يعلم من يبذل جهده فيهما أنه سيختصّ باستثمارهما، وسيكون محميّاً من الذين يحاولون أن يأخذوا ثمرة ابتكاره وتفكيره ويزاحموه في استغلالها».
ثم قال: «وفي الشرع الاسلامي متسّع لهذا التدبير تخريجاً على قاعدة المصالح المرسلة في ميدان الحقوق الخاصة».
أقول: بما إننا لانؤمن بمبدأ المصالح المرسلة التي يؤمن بها الاستاذ مصطفى الزرقاء فلنا الحق في البحث عن التبرير الشرعي لهذا الحق على مباني الامامية الذين لايؤمنون بمبدأ المصالح المرسلة بحرفيتها فنقول:
1 ـ لقد ذكر الاستاذ السيد كاظم الحائري امكان أن يكون التبرير الشرعي هو الايمان بمبدأ ولاية الفقيه فقال: «فالولي الفقيه متى ما يرى المصلحة الاجتماعية بالمستوى المبرّر لالزام المجتمع بامثال هذه الحقوق يُعمل ولايته في تثبيت ذلك، فإذا حرّم مثلا على الناس «منع الناس» أن يطبعوا تأليف شخص مّا بلا إذنه صحّ للمؤلف أن يأخذ مبلغاً من المال ممّن يريد الطبع لقاء إذنه له بذلك، ولو طبع بلا إذنه فرض عليه بمبدأ ولاية الفقيه دفع ثمن حقّ الطبع إلى المؤلف كما تُفرَض الضرائب على الناس بمبدأ الولاية( ).
أقول: إن هذا الدليل يختص بما إذا كانت مصلحة اجتماعية توجب الزام ولي الفقيه الناس فيعمل ولايته بمنع طبع كتاب شخص من دون اذنه وحينئذ سيكون له الحق في الاذن بطبع كتابه مقابل مال معين، ولايشمل ما إذا كانت المصلحة الاجتماعية لاتوجب الالزام وعلى هذا سوف لايكون للحق بما هو حق موضوعية في عدم جواز الاستفادة منه من دون اذن صاحبه. أي ان الحكم هنا هو حكم حكومي لا دائمي مستفاد من أدلة شرعية تثبت الحكم إلى يوم القيامة.
2 ـ يمكن أن يكون المبرر الشرعي هو التمسك بالارتكاز العقلائي الدال على امتلاك هذه الحقوق بعد عدم ورود الردع. وندعي إن هذا الحق ليس هو حقاً جديداً حتى يكون الارتكاز حديثاً لم يكن في زمن المعصوم كي يدل عدم الردع على امضائه، بل هو مصداق جديد للارتكاز الموجود في زمن المعصوم وذلك: بان نقول: أن المنشأ الأولى للملكية الاعتبارية هو الحيازة والعلاج، فالعلاج أو الصنع كما في احياء الأرض أو تعميرها أو حفر عين ماء مثلا، وكذا في تأليف الكتاب فالمؤلف قد صنع الكتاب وقد يكون قد تعب عليه أكثر مما تعب محيي الأرض أو معمرّها أو حافر العين إذ قد تكون له ابداعات حديثه وابتكارات جديدة خلقها بعبقريته وضمنّها الكتاب.
اذن الارتكاز لملكية الصنع والعلاج موجود في تأليف الكتاب وكان لايجوز لأي أحد التصرف في هذا الكتاب والنقل منه إلاّ بواسطة الاجازة والاذن أو بواسطة الالقاء من قبل صاحب الكتاب.
غاية الامر أوجد العلم الحديث مصاديق أخرى لاستغلال ملكية المؤلف للكتاب وهو طبعه ونشره وحصره في شريط مسجّل أو ديسك كمبيوتر وأمثال ذلك فالمؤلف يملك طبع هذا الكتاب ونشره وتكثيره على شكل شريط مسجل أو ديسك كمبيوتر وما إلى ذلك من مصاديق للاستفادة من استغلال ملكية الكتاب.
وكذا بالنسبة إلى الاختراع وايجاد الفن أو العلامة التجارية فانه مصداق جديد للعلاج أو الصنع فالارتكاز على أن أتعاب الانسان في صنعه لشيء مادي كالإحياء والتعمير والتأليف مملوكة له ولم يردع الشارع عنها فيكون استغلالها في منفعة ولايجوز لاحد مزاحمته في الانتفاع بها أمر لاريب فيه، نعم وجدت مصاديق أخرى للعلاج أو الصنع مثل الابتكار والعلامة التجارية والأثر الفني أو الصناعي، فالارتكاز يقول أن من حق أصحاب هذه الأمور الاحتفاظ بنسبة ما أوجدوه وصنعوه والاحتفاظ بالمنفعة المالية التي يمكن استغلالها من تصحيحه أو نشره.
3 ـ كما يمكن أن يقال أن الانسان يملك عمله ملكية تكوينية «لا اعتبارية» كملكيته لاعضائه وجوارحه، وهذه الملكية التكوينية مع نتائجها هي موضوع حقّ الاختصاص، فلايجوز لاحد أن يتصرف فيها بغير اذن مالكها، ولايحل مال امرئ مسلم، إلاّ بطيب نفسه( ).
فحقّ الابتكار والأثر الفني والصناعي والعلامة التجارية وامتيازات الصحف وحق الطبع والنشر والتكثير التي تكون انتفاعات لنفس الحق تكون من ممتلكات صاحب الحق، فإذا تصرف شخص بالطبع والنشر والتكثير وبقية الانتفاعات الراجعة إلى حق غيره، فيكون قد تصرف في مال غيره، وهو منهي عنه إلا مع الاذن.
ثم نقول: فإذا اراد صاحب الحق أن يعطي الاذن لغيره في الانتفاع في عمله في مقابل مال معين فتشمله ادلة المعاملات التي لاتشترط فيها العينية.
4 ـ حكم العقل العملي القائل إن الإنسان أولى من غيره في الانتفاع بعمله واستغلال نتائج عمله، وإذا استغل شخص نتيجة عمل غيره (من حقوق الابتكار) فهو غير جائز لحكم العقل بأولوية الانسان على الاستفادة من عمله ونتائج عمله من الاخرين.
إلاّ أن هذا الوجه إنما يتم إذا اراد صاحب الابتكار أن يستفيد من عمله ونتائج عمله، وإما إذا لم يرد ذلك أو مات وأراد انسان آخر أن يستفيد من العمل أو نتائج العمل فلايكون مخالفاً لحكم العقل بالاولوية.
وقف الحق المعنوي التراثي:
هناك الكتب التراثية التي صرح مؤلفوها بأنهم ألّفوها لتوضع بين يدي طلاب العلم والمعرفة ابتغاء وجه الله تعالى، وبعض من هذه الكتب قد صرح صاحبها أو ناسخها بكونها وقفاً لله تعالى أو على طلبة العلوم الدينية أو على أولاده العلماء، وقد يكون المؤلف أو الناسخ قد قصد وقف النسخة المخطوطة فقط.
ولكن لنا أن نقول: أن المؤلف أو الناسخ قد ملك حقّاً معنوياً (أو قل ملكاً معنوياً) قابلا للتداول، وهو حقّ نشر وطبع هذا الكتاب الذي بين الدفتين، فعند وقفه لهذه النسخة فهو قد وقف الحقّ في النشر لكل أحد بشرط أن ينتفع من هذا النشر طلبة العلوم الدينية أو أولاده العلماء أو يكون الربح صدقة لله تعالى عنه.
وعلى هذا: فمن أراد أن ينشر كتاباً تراثياً موقوفاً أو يحقق كتاباً تراثياً وينشره لابدّ أن يلحظ حقّ المؤلف الأصلي (أو الناسخ إذا كانت النسخة لغير المؤلف) من كل كميّة تطبع من الكتاب وتنشر، ويوجّه إلى حيث انصرفت ارادته الوقفية أو غيرها، فان كانت ارادته وقفاً لله تعالى فيُصرف حقه في الصدقة عنه، وإن كانت ارادته وقفاً على طلاب العلوم الدينية، فيصرف حقه في منفعتهم، وإن كانت ارادته وقفاً على أولاده العلماء فيصرف حقه في منفعتهم، وإن لم يذكر الوقف على النسخة الاصلية، فيكون حقه ملكاً لورثته فيعطى لهم إن عرفوا وإلاّ فيتصدق به عنهم، حيث تكون الصدقة عنهم نحواً من وصول الحق اليهم على نحو التصدّق بمجهول المالك.
وقدر حقّ المالك في طبع الكتاب ونشره، وكذا قدر حقّ المحقق الذي حقق الكتاب ونشره يمكن تقديرهما من قبل أهل الخبرة في هذه الأمور.
دليل صحة وقف الحق:
هذا وقد يشكل علينا: باننا أخذنا صحة وقف الحق أمراً مفروغاً عنه، فقد يقال ويتساءل عن دليل صحة وقف الحق مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: حبّس الأصل وسبل المنفعة مشيراً إلى عين ومزرعة موجودة في الخارج، فلا يشمل قوله الحق الذي هو حقّ الاختصاص الذي لايكون عيناً وإن نشأ هذا الحقّ من العين.
ونقول: لا دليل على اشتراط أن يكون الموقوف مملوكاً، إذ يمكن أن نقول بصحة وقف الحقّ «حقّ الاختصاص» إلاّ إذا ثبت اجماع على أن يكون الموقوف مملوكاً «والملك درجة أقوى من الحقّ»( ) ولم يثبت هذا الاجماع، فالحق يمكن أن يطلق عليه أنه أصل يمكن وقفه والاستفادة من منفعته، فلو كان لانسان حقّ العبور من هذا المكان إلى منزله ولم يكن هذا الحق له بصورة خاصة فيمكنه أن يوقف هذا الحق للآخرين إذ يصدق عليه حبّس الأصل وسبّل المنفعة وكما لو كان لانسان الحقّ في كمية من الماء كل سبعة أيام لسقي مزرعته فيمكنه أن يوقف هذا الحق للنفع العام والشرب فيصدق عليه أنه حبّس الأصل وسبّل المنفعة.
ولهذا ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) في مبحث وقف الكلب (كلب الزرع والحائط والماشية) بناء على ملكيته فقال: «وإن قلنا بعدم ملكها وإن لصاحبها حقّ الاختصاص، ولكن له الانتفاع بها، اتجه حينئذ عدم صحة وقفها بناء على اعتبار مالك الاصل، ولكن قد يشكل أصل اشتراط ذلك إن لم يكن اجماعاً على وجه يخرج عنه الفرض، بل لعلّ قوله حبّس الاصل وسبّل الثمرة يشمله، إذ لا دلالة في الاصل على اعتبار كونه مملوكاً وهو واضح»( ).
وبهذا يتضح أن مَنْ له الحق يمكنه وقفه، فالكتاب الذي ألّفه مؤلفه واعطى حقّ الانتفاع به إلى جهة معينة يصح لهذه الجهة أن توقف هذا الحق وإن لم تكن مالكة للأصل، كما يتضح بالاولوية أن الجهة إذا ملكت الاصل وملكت هذا الحق الناشيء من ملكية الاصل يجوز لها أن توقف حقّ الانتفاع على جهة برٍّ معينة دون وقف اصل الكتاب، حيث لايشترط في الموقوف أن يكون مملوكاً إن لم يكن اجماع على ذلك، بل يشترط أن يكون الموقوف شيئاً مختصاً بالواقف سواء كان ملكاً أو حقّاً، فإذا حصل لانسان حقّ الاختصاص فيمكنه أن يوقف هذا الحق إذ يشمله حبّس الاصل وسبّل المنفعة.
ثم إن لنا أن نقول: إن الحق هل يكون مالا كي يمكن نقله والمعاملة عليه أوْ لا؟
والجواب: هو أن الحقّ ليس مالا لأن حاله حال الملك، فالملك لايعتبر مالا وإنما يتعلّق بالمال كذلك الحق ليس مالا ولكنه يتعلّق بالمال، ومالية المتعلّق كافية في نقل الحق وجواز المعاملات عليه التي تحتاج إلى مالية العوضين فيها.
فالمعاوضة تكون بين ما لَين مملوكين أو بين حقين كذلك أو بين مال مملوك وحقّ فما اشتهر من عدم كون الحق قابلا للبيع غير صحيح لأن الحق يتعلق بالمال وهو كاف في جواز المعاملة عليه. وإذا جازت المعاملة على الحق لأنه متعلق بالمال فيصح وقفه أيضاً لأن الوقف لايشترط أن يكون مملوكاً «إلاّ إذا دلّ اجماع على ذلك ولم يتم»، وقد تقدم من صاحب العروة صحة وقف المالية وإن لم تسمى وقفاً اصطلاحياً إلاّ إنه عقد يجب الوفاء به.
وقف حقوق جديدة:
ظهرت حقوق تسمى بحقوق الارتفاق مثل حقّ الطريق أو حق عبور جسر معيّن، وهذه الحقوق بما أنها تقابل بالمال فهي حقوق مالية قابلة للتداول والمعاوضة. فقد يُنشئ مالك الأرض حقّ طريق في أرضه إلى المسجد لم يكن موجوداً قبل ذلك، كما إذا وجد مسجد في منطقة وله طريق واحد خاصّ به، ولكن جار المسجد الذي يملك أرضاً إلى جنبه قد يوجد طريقاً في أرضه لهذا المسجد يكون أقرب للناس من الطريق الآخر وهو لايريد أن يوقف الأرض التي يملكها ولايلزم الورثة يوقف الأرض إلاّ أنه يريد أن يوجد حقّ الطريق للناس ويلزم ورثته ونفسه بهذا الحقّ بحيث لايمكن أن يلغى بعد موته، فيجعل حقّ المرور إلى المسجد في ارضه فقط.
وواضح أن حقّ الطريق هذا لايمنع المالك من التصرف بملكه على أن يحافظ على هذا الحقّ الذي هو حقّ العبور إلى المسجد، فيتمكن أن يبني في أرضه بناء فخماً ذو طبقات متعددة على أن يوجد طريقاً إلى المسجد في أحد طوابق هذا البناء الفخم.
وكما يمكن أيضاً أن يجعل المالك حقّ المرور في أرضه إلى المسجد دائماً يمكنه أن يجعله لفترة معينة. وهذا واضح فقهياً إلاّ أنه هل يسمى وقفاً أو يسمى تحبيساً للمنفعة دائماً أو لمدة معينة؟
ذهب البعض( ) إلى تسميته وقفاً لأنه لم يميّز بين الوقف والتحبيس «كما ميّز بذلك علماء الإمامية» فقال: إن الوقف تحبيس، فأما أن يحبّس العين وأما أن يحبس الحقّ الذي هو الانتفاع في الأرض انتفاعاً معيناً، أما علماء الإمامية فقد خصّوا الوقف بالاعيان التي تخرج عن ملكية الواقف وتعدّى بعضهم إلى وقف المالية كما تقدم ذلك.
وأما الحق والانتفاع بالعين فقد عبّروا عنه بالحبس بحيث تكون العين مملوكة للمالك ولاتخرج عن ملكه وتورث وتباع مع وجود الحقّ للآخرين في المرور والاستطراق لمدة معينة أو دائماً.
ولكن لنا أن نقول: استناداً إلى ما تقدّم من امكان وقف الحقّ فيمكن لمالك الحقّ «إن لم يكن حقّاً خاصاً لشخص أو جماعة معيّنة» أن يوقف هذا الحقّ استناداً إلى شمول حبّس الاصل (وهو الحقّ) وسبّل المنفعة لجهة معيّنة.
وعلى كل حال: فالجواز هو المتفق عليه وإن اختلفت التسمية.
ومثل هذا الذي تقدّم أن يؤجر صاحب الدار داره ويشترط على المستأجر أن لايمنع أحد افراد المنطقة من الاستفادة في حديقته الكبيرة من اجراء حفلة الزواج فيها، فيكون قد حبّس منفعة الحديقة على حفلات الزواج لأهل منطقته من دون أن تكون الحديقة مملوكة لهم، وهذا حبس لبعض المنافع من الحديقة على جهة معينة أو هو وقف للحق على جهة معينة.
تقديم الخَدَمات:
هل يمكن للخدمات أن توقف أو تحبّس دائماً أو لمدة معيّنة؟
فمثلا قد تقدم شركة الطيران أو شركة السكك الحديدية أو الخطوط البحرية ومؤسسات البريد على ابداء خدمة شحن المصاحف والكتب العلمية مجاناً إلى المساجد أو المكتبات لمدة معينة أو دائماً.
وقد تقدم خدمات لنقل اشخاص محددة أوصافهم مجاناً كنقل الشيوخ والمرضى والمعاقين والحوامل إلى المستشفيات أو مكان استراحتهم أو الأماكن العامة الترفيهية.
وقد تقوم بعض الأماكن الترفيهية بتقديم خدماتها مجاناً إلى صنف معيّن من الناس كالعلماء والأُدباء والأطباء، أو إلى المرضى أو المعاقين والأطفال.
وقد تقوم بعض المؤسسات بارسال اشتراك سنوي أو دائمي مجاناً لجرائدها أو مجلاتها أو نواديها الرياضية لبعض الشخصيات المعيّنة أو الموصوفة «كمدير عام مؤسسة أو وزير أو غير ذلك من الاوصاف».
ومن الخدمات التي تقدّم للناس: خدمة الهاتف، فيشترك شخص للحصول على خدمة هاتف في بيته من شركة الهاتف التي تملك الآلات والمكائن والاسلاك والخطوط، فهي تقدم خدمة للشخص المشترك بالاستفادة من هذه الادوات والآلات والاسلاك، فقد يكون تقديم الخدمة لمدة معينة أو دائماً، وقد تكون المكالمات محليّة أو دولية، أو هما معاً، فهي خدمة يمكن تحديدها مقابل عوض محدد. وكذا يعدّ من الخدمات خدمة توصيل الماء إلى مكان معين من خلال الأنابيب والمضخات والآلات المملوكة لمنتج الخدمة، فيشترك الشخص مع شركة الماء لتوصيل المياه المحددة إلى مكان معيّن لمدة معينة أو دائماً. وكذا يعدّ من الخدمات جمع القمامة والتخلّص منها مقابل أجور معيّنة. وكذا يعدّ من الخدمات خدمة تصريف المياه الوسخة التي تقدمها شركات المجاري والبلديات.
والخلاصة: كل ما يكون فيه الخدمة هي موضوع العقد والاشتراك، والسؤال المطروح هنا هو: هل يمكن أن توقف هذه الخدمة بعد الاشتراك فيها والتعاقد عليها على وجوه البرِّ والخير؟
كأن توقف هذه الخدمة للمرضى في مستشفى معيّن أو لدار الايتام أو لمكتبة عامة أو للفقراء والمساكين وأمثال هذه الأمور التي تكون من اعمال البرِّ.
والجواب: إن الوقف لا معنى له لهذه الأمور (الخدمات) فانها أمور لايمكن وقفها قبل وجودها ولا بعد وجودها إذ قبل وجودها معدومة ولايصح وقف المعدوم، وبعد وجودها انتهت الخدمة وتصرّمت فلا معنى لوقف الخدمة التي تمّت وتصرّمت.
وقد يقال: ما هو الفرق بينها وبين الحقّ الذي تصورنا حبّسه ووقفه؟
والجواب: إن الحق يعتبر موجوداً ما دام متعلقة موجوداً وهو من تعلّق به الحقّ وهو العين فحق استغلال التأليف وحق استغلال الاختراع والعلامة التجارية يعتبر موجوداً ما دام التأليف والاختراع والشركة التجارية موجودة، تماماً كالمنفعة التي تعدّ موجودة ما دامت العين موجودة فيصح عقد الاجارة على الاستفادة من المنفعة المتعلقة بالعين. أما الخدمة فهي ليست كذلك، بل هي عمل تقوم به الشركة فقبل وجوده لامعنى لوقفه أو حبسه وبعد وجوده فقد انقضى وتصرّم فلا معنى لوقفه أو حبسه أيضاً.
نعم هذه الخدمات تعدّ من النيات الحسنة التي تقوم بها بعض الجهات، فان تحققت في الخارج فهي من البرِّ أو الهدية أو الصدقة لوجه الله تعالى أو المساعدة للآخرين كمن يلتزم من الاطباء بتقديم الخدمة للمرضى في يوم الجمعة مجاناً أو باسعار مخفضة، وإن لم تتحقق في الخارج فلا ملزم لمن ينوي القيام بها مع عدم تحققها. نعم قد تكون هذه الخدمة ملزمة لمقدِّمها إذا التزم بتقديمها للآخرين في عقد أو عهد أو حلف أو نذر، ولكن هذه الخدمة التي لزمت على مقدمها لايصح أن توقف كما تقدم.
وقف المنافع:
ذكر الفقهاء أن المنفعة يجوز الوصية بها دون العين بلا اشكال وتحسب من الثلث، وكذا ذكروا صحة هبة المنفعة وتكون المنفعة الموهوبة المحددة بمدة بعد موت الواهب وصيّة تخرج من الثلث لأن الهبة لاتصح بدون القبض، وبما أن المنفعة تدريجية فيصح ما قبض ويبطل ما لم يقبض فيكون وصيّة بعد موت الواهب.
أما بالنسبة لوقف المنفعة لوحدها، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز وقفها لوحدها وذهب بعض علماء المالكية إلى جواز وقفها. وإليك التوضيح:
ذكر من شروط الموقوف أن يكون الموقوف عيناً، ولهذا ذكر الفقهاء ومنهم صاحب الجواهر فقال: «فلا يصح وقف ما ليس بعين كالدَين معجّلة ومؤجّلة على المؤسر والمعسر وكذا الكلي «المراد منه الكلي في الذمة لأنه سوف يأتي من صاحب الجواهر صحة وقف المشاع وهو عبارة عن وقف الكلي في المعيّن» كما لو قال: وقفت فرساً أو ناضحاً أو داراً ولم يعيّن وإن وصفها باوصاف معلومة، وكذا لايصح وقف المنفعة، لأن العين تطلق في مقابل الثلاثة (الدَين والكلي والمنفعة) التي لايصحّ وقف شيء منها، للشك في تناول أدلة الوقف لذلك، ولاتفاق الاصحاب ظاهراً، ولان المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله) حبّس الاصل وسبّل الثمرة، وما وقع من وقوفهم اعتبار فعلية التهيؤ للمنفعة في الأصل الذي يراد حبسه، ولاريب في انعدام التهيؤ فعلا للكليّ المسلَم فيه مثلا، ولذا لاتصح اجارته ولا غير الاجارة مما يقع على المنفعة، لعدم ملكها (المنفعة) لمن يملكه (الكلي)... وتهيئة (الكلي) بعد القبض لايقتضي ذلك (التهيئة) قبله (القبض) الذي هو مورد العقد في الفرض»( ).
وقال صاحب العروة: «لايصح وقف المنافع، مثلا إذا استأجر داراً مدة عشرين سنة وأراد أن يجعل منفعتها وهي السكنى فيها وقفاً مع بقاء العين على ملك مالكها طلقاً لم يصح لأن الانتفاع بها إنما هو باتلافها فلا يتصور فيها تحبيس الأصل إذ الأصل حينئذ هي المنفعة»( ).
وقال صاحب الجواهر: «ودعوى ـ عدم اعتبار أصل التحبيس في الوقف بل يكفي فيه تسبيل المنفعة كما عن أبي الصلاح ـ يدفعها ظهور النص والفتوى بخلافه، بل دعوى ضرورة المذهب أو الدين على ذلك، نعم نحو ذلك يشرع في السكنى والرقبى والعمرى وهو غير الوقف كما هو واضح»( ).
ولايصح عند الحنفية وقف غير المال كالمنافع وحدها وكالحقوق المالية مثل حقوق الارتفاق لأن الحق ليس بمال( ).
أما عند الحنابلة والشافعية: فقد اتفقوا مع الإمامية في كون الموقوف عيناً (سواء كانت عقاراً أو منقولا) معينة معلومة «فلايصح وقف ما في الذمة» كما لايصح وقف المنفعة وحدها دون الرقبة، ولايصح وقف ما لا فائدة فيه أو ما لا منفعة منه كوقف الخنزيز وسباع البهائم وجوارح الطير التي لاتصلح للصيد.
كما لايصح وقف ما لايدوم الانتفاع به كالطعام والشراب غير الماء.
قال الحنابلة في شرح منتهى الارادات: من شروط الموقوف: مصادفته عيناً يصح بيعها وينتفع بها مع بقاء العين ، وقال أيضاً: ولايصح وقف منفعة( )
وقال الشافعية في الحاوي الكبير: إن الموقوف لابدّ أن يكون عيناً يجوز بيعها ويمكن الانتفاع بها مع بقائها المتصل فلايجوز وقف ما ليس بعين( ).
أقول: ولكن هذا كله يشير إلى عدم صحة وقف ا لمنفعة بالمعنى الاصطلاحي للوقف.
أما الوقف بالمعنى اللغوي الذي هو تحبيس العين على أن ينتفع منها الغير مع بقاء العين على ملك مالكها فهو أمر قد ورد فيه النصّ المتمثل بعنوان الحبس الاصطلاحي الذي الحق به العمرى والرقبى والسكنى وهو أمر جائز، فليكن وقف المنفعة غير جائز إلاّ أن تحبيسها للغير من أجل الانتفاع لها أو الاستفادة منها لمدة معينة أو مدة عمر مالك العين أو المستفيد من العين فهو أمر جائز ورد فيه النص كما تقدم.
ويتفرع على صحة تحبيس العين للاستفادة من المنفعة من دون خروج العين عن ملك مالكها وجود حقّ للمالك أن يتصرف ويستفيد من هذه العين المحبّسة من دون مزاحمة المحبَّس عليه فيبني على الأرض بناء «ناطحاً للسحاب» ويجعل للمحبّس عليه الانتفاع بسكناه في هذه الأرض بطابق من تلك الطوابق العديدة كما يمكنه أن يرهن هذه الأرض على قرض قد استقرضه من البنك أو يبيعها مسلوبة المنفعة مدة التحبيس وامثال هذه التصرفات التي لاتنافي استفادة المحبّس من العين التي حبّست منفعتها عليه.
وهذا كله غير الوقف الذي هو عبارة عن اخراج العين عن ملك الواقف بحيث لاتباع ولاتوهب ولاتورث.
علاقة وقف المنافع بالتصرف في الرقبة والفائدة منه:
ما دامت المنفعة مملوكة لغير المالك (كالمستأجر) فلايجوز لمن يملك المنفعة أن يتصرف في العين أي تصرف غير تصرف الاستفادة المتعارفة من العين، التي تستوجب تغييراً أو تبديلا أو زيادة على العين أو نقصانها فهو أمر غير جائز بدون اذن المالك.
وهذا بخلاف المالك للعين الذي هو مالك للمنفعة تبعاً فإذا أخرج المنفعة من ملكه بايجار أو هبة، فهو يتمكن من التصرف في العين تصرفاً لايضرّ بالمستفيد من المنفعة كان يبيع العين مسلوبة المنفعة مدة استحقاق الغير للمنفعة، أو يرهن العين الذي استحق منفعتها غير المالك أو يغيّر في العين بحيث لايزاحم حقّ المستفيد من المنفعة.

الفرق بين وقف الاعيان وتحبيس المنافع:
نقول: إن العين الذي حبِّست منفعتها على جهة برٍّ خاصة أو عامة يتمكن مالكها من التصرف فيها أي تصرف لايزاحم المستفيد من منفعة العين لأنها لم تخرج عن ملكه فيتمكن أن يبيعها أو يهبها أو يرهنها وإذا مات يملكها الوارث بعد اداء الدين وتنفيذ الوصية. وبعبارة أخرى يمكن الجمع بين استفادة المحبَّس عليه من العين وبين تصرف المالك بالعين تصرفاً لايزاحم حق المحبَّس عليه، فلو كانت الأرض كبيرة كألف متر وفيها من الاعيان مائة متر يستفيد منها المحبَّس عليه فيتمكن المالك أن يعمّر ثمانمائة متر على شكل طوابق متعددة، ثم يجعل طبقة منها تحت يد المحبَّس عليه بعد اكمال بنائه فالمالك لم يزعج المستفيد من التحبيس بالسكنى في البناء المحدَّد له وهو مائة متر وقد تصرف في ملكه بالتعمير، فاستفاد من الملك المالك بتعميره واستفاد المحبَّس عليه بالملك من السكنى فجمعنا بين حقيهما( ).
وهذا بخلاف وقف العين على جهة برٍّ فان الواقف لايتمكن أن يتصرف في العين أي تصرف لأنها قد خرجت عن ملكه بالوقف.
وكذا إذا مات الواقف للعين فلاتكون العين ارثاً لورثته، كما لايجوز للواقف بيع العين الموقوفة والتصرف في ثمنها ولايجوز له اهدائها أو التبرع بها أو التصدق بها بحيث تُملك للمتصدّق عليه، وهذه الأحكام هي التي تمثل حقيقة الوقف الذي خرج عن ملك الواقف بالوقف .
 
خلاصة البحث
يمكن اعطاء خلاصة للبحث تتمثل في هذه النقاط :
أولا: تعريف الوقف: عند جمهور الفقهاء بانه حبس مال يمكن أن ينتفع به مع بقاء اصله مع قطع التصرف في رقبته من الواقف أو غيره فيقتضي إلاّ يباع ولايوهب ولايورث.
ثانياً: تعريف الحبس: أن يجعل المالك حقّ الانتفاع بملكه لاخر من دون تعيين مدة أو مع تعيين مدة، ويجوز للمالك التصرف في ملكه تصرفاً لايزاحم حقّ المحبَّس عليه.
ثالثاً: لايمكن التسامح في اطلاق العناوين على غير معنوناتها لما في تلك العناوين من أحكام خاصة تتعلق بها ولاتتعلق بغيرها وإن شملهما عنوان واحد وهو البرِّ والخير.
رابعاً: وقف النقود للمضاربة وللقرض جائز إذا قصد الواقف وقف مالية النقود، فهو عقد يشمله أوفوا بالعقود وإن لم يكن وقفاً اصطلاحياً. كما يمكن التعدي من الوقف الذي هو تحبيس العين فقط إلى تحبيس المالية التي يمكن تبديل تجسيدها من عين إلى أخرى فِراراً من مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة وذلك تمسكاً باطلاق روايات الصدقة الجارية بدعوى أن الجريان ليس مصداقه الوحيد عبارة عن انحباس العين وتوقيفها عن البيع وهو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ، بل له مصداق آخر أيضاً وهو أن يكون المحبوس على المشروع الخيري مالية الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن اعيان مختلفة متعاقبة «على تأمل في هذا الوجه الثاني».
خامساً: وقف  الايراد النقدي المستقبلي من دون وقف اصله لايجوز وإن قبلنا وقف مالية النقود للاقراض والمضاربة وذلك لأن الايراد النقدي لم يوجد بعدُ فكيف يصح وقفه؟ نعم هذه نية للوقف إذا وجد الايراد النقدي مستقبلا وهذا غير الوقف الذي يكون لمال موجود خارجاً ولايجوز فيه التعليق، ويشترط في صحته أو لزومه القبض.
سادساً: المال المتجمع في حساب احتياطي مخاطر الاستثتمار في البنوك الاسلامية لايكون وقفاً حتى وإن صرح بعوده للفقراء عند انتهاء وجود البنك، لأن هذا الحساب هو وثيقة لودائع المستثمرين إذا حصلت خسارة ناشئة عن عجز البنك في ارجاع ودائع المستثمرين من دون نقص، والوثيقة عند حصول نقيصه في ودائع المستثمرين تختلف عن الوقف اختلافاً ظاهراً. وحتى لو صرح بانه وقف عند انعدام البنك يصرف حاصله في الفقراء والمساكين فلايكون وقفاً لأنه وقف اضيف الى المستقبل ولم يكن منجزاً، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يكون الوقف منجزاً غير مضاف إلى المستقبل ولا معلقاً على امر مستقبلي.
سابعاً: وقف الاسهم لايصح إذا كانت الاسهم تعبر عن كون صاحبها مقرضاً للشركة والشركة هي المالكة، حيث يكون هذا وقفاً لما في ذمة الشركة والوقف في الذمة لايصح عند الكل.
وأما إذا كان صاحب السهم شريكاً مع بقية ملاّك الاسهم سواء كان للشركة شخصية معنوية أكبر قيمة من الاموال الحقيقية أم لا، فيصح وقف السهم لأنه أما أن يرجع الى وقف الحصة المشاعة أو يرجع إلى وقف المالية التي صححها بعض الفقهاء بحيث يجوز تبديل السهم الموقوف إلى شيء آخر يكون وقفاً. ولكن قد اشترطنا هنا شرطاً وهو أن تكون الشركة تعمل بالحلال لأن الوقف الذي هو برٌّ لابدّ أن يكون من مصدر يجوز التربّح منه وهو الكسب الحلال.
ثامناً: كذلك يصح وقف الصكوك والسندات التي هي عبارة عن الأوراق المالية إذا كانت تمثل حصة في الشركة التي ترجع اموالها للاشخاص الحقيقيين على نحو الاشتراك لنفس السبب الذي قلناه في وقف السهام. وأما إذا كان الصك والسند يمثل قرضاً بفائدة يباع في البورصات أو البنوك الربوية فلا يصح وقفه حتى لو آمنا بوقف المالية لأن الوقف مال في ذمة الآخرين، والمال في الذمة لايصح وقفه، بل لابدّ من وقف الشيء الخارجي حسب أدلة الوقف.
تاسعاً: إذا كان السهم يمثل حصة مشاعة من الشركة وكانت الشركة تتعامل بالحرام فيكون السهم مختلِطاً من الحلال والحرام، فإذا كان لايمكن ايصال المال الحرام إلى صاحبه أو إلى ورثته فيتمكن صاحب السهم الذي اختلط سهمه مع الحرام أن يوقف سهمه هذا حيث تكون حصته وحصة غيره المختلِطة مع ماله صدقة موقوفة، فان في هذا العمل نوع من وصول حصة الآخرين إليهم، فان صدقة مجهول المالك لا فرق فيها بين التصدق على الفقراء باتلاف المتصدَّق به وبين جعل المال صدقة جارية ينتفع بنمائه فان هذا أيضاً نوع من وصول المال إلى صاحبه. ولكن اشترطنا هنا اخراج هذا السهم من الشركة التي تتعامل بالحرام والاستفادة منه في عمل محلل إذا كان الوقف لمالية السهم.
عاشراً: يصح وقف الحقوق التي يمكن نقلها للآخرين بحيث تكون قابلة للتداول فتكون حقوقاً مالية لأنها تقابل بالمال كحقّ استغلال المؤلِّف والمبتكر والفنان وصاحب الامتياز والعلامة التجارية والاسم التجاري لنشر المؤلَف أو المبتكر والاستفادة منه. وكذا يصح وقف الحقّ المعنوي التراثي، فمن يطبع كتاباً تراثياً موقوفاً أو كتب صاحب عليه أنه يوضع في خدمة طلبة العلم يجب أن يصرف قسماً من أرباحه حسب وقفية الواقف أو يكون في خدمة طلبة العلم.
ودليلنا على ذلك هو شمول حبّس الاصل وسبل الثمرة لهذا الحق الذي يسمى بحقّ الاختصاص.
ثم إن هذا الحقّ وإن لم يكن مالا إلاّ انه يتعلّق بالمال وهذا يكفي في جواز المعاملة عليه ووقفه لأنه أصل باق يستفاد من منفعته فيشمله حبّس الاصل وسبل المنفعة.
وهذا الحقّ إذا تعلّق بجهة معينة فيمكن وقفه وإن لم يكن مملوكاً كملكية العين إذ لا دليل على وقف الاصل بأن يكون مملوكاً كما ذكر ذلك صاحب الجواهر (قدس سره).
الحادي عشر: يمكن أن يوقف حق الطريق أو حق عبور جسر معيّن، فهي حقوق تقابل بالمال فهي حقوق مالية قابلة للتداول والمعاوضة، كل هذا استناداً إلى امكان وقف الحق الذي يشمله حبّس الاصل وسبّل المنفعة. وعلى قول المشهور عند الامامية من كون المالك للأرض يمكنه من التصرف بالارض تصرفاً لايمنع من مزاحمة حقّ المرور للآخرين، يمكن أن يسمى تحبيساً للارض بالاستفادة من المرور عليها لمدة محددة أو دائماً.
الثاني عشر: لايصح وقف الخدمات كخدمة شركة الطيران لشحن المصاحف الى المساجد أو المكتبات العامة، لأن هذه الخدمة عمل لايصح وقفه قبل وجوده إذ لايصح وقف المعدوم كما لايصح وقفه بعد وجوده، إذ تصرّم العمل وانعدم فلا معنى لوقفه. نعم هو نية حسنة لتقديم الخدمة للآخرين كما لو أعلن طبيب بتقديم خدماته مجاناً في يوم الجمعة، فلايكون هذا الاعلان ملزِماً له، فان تحققت هذه الخدمة في الخارج فهي من البرِّ أو الصدقة أو المساعدة قربة الى الله تعالى. ولكن يمكن الزام الطبيب بذلك بشرط هذه الخدمة في ضمن عقد لازم أو بنذره أو حلفه أو عهده، وهذا أمر آخر غير وقف الخدمات.
الثالث عشر: لايصح وقف المنفعة لوحدها كما ذهب إلى ذلك كل المذاهب الاسلامية باستثناء المالكية. ولكن يصح تحبيس المنفعة على جهة برٍّ بحيث تكون العين مملوكة لصاحبها مع استفادة الجهة العامة أو الخاصة باستيفاء المنفعة لمدة محددة أو دائماً أو لمدة عمر المحبَّس عليه أو مدة عمر المحبِّس أو لمدة عمر شخص آخر إلاّ أن هذا لايسمى وقفاً اصطلاحياً للفرق بين الوقف الاصطلاحي والتحبيس الاصطلاحي وإن كان الوقف هو تحبيس لغة.
الرابع عشر: وقف المنفعة عند من قال بها وتحبيس المنفعة على جهة خاصة أو عامة عند الكل يوجب على المنتفع عدم التصرف في العين أي تصرف غير متعارف من الانتفاع بالعين، وأما مالك العين فهو يتمكن أن يتصرف بالمنفعة تصرفاً لايضرّ بالاستفادة من المنافع من قبل غيره فيتمكن أن يبيع العين أو يرهنها أو يعمِّرها بحيث لايزاحم حقّ المنتفع بها.
الخامس عشر: تبين الفرق بين وقف العين وتحبيس منافعها، أو بالوقف تخرج العين من ملكية الواقف فلا يتمكن أن يبيعها أو يرهنها أو يعمِّرها بما أنها ملك له، بينما في التحبيس يتمكن من ذلك لأنها ملك له يتصرف فيها أي تصرف لا يزاحم استفادة المحبَّس عليه من العين.
هذا آخر ما اردنا بيانه في وقف السندات والصكوك والحقوق المعنوية والمنافع والحمد لله ربِّ العالمين.
حسن الجواهري
قم المقدسة
 في 3/رجب/1429هـ ق

 
الفهرس
تعريف الوقف: …3
تعريف الحبس: …3
وقف النقود: …12
وقف النقود للاقراض أو المضاربة (وقف الماليّة): …12
هل يمكن أن نوقف ايراداً نقدياً يحصل في المستقبل دون وقف أصله؟ …17
وقف الأسهم: …20
وقف الصكوك والسندات: …23
تصريحات بصحة وقف السهام: …24
التصرف في الاسهم والصكوك الموقوفة بأنواعها بالابدال والاستبدال: …26
وقف الحقوق المعنوية: …27
وقف الحق المعنوي التراثي: …33
دليل صحة وقف الحق: …34
وقف حقوق جديدة: …36
تقديم الخَدَمات: …38
وقف المنافع: …41
علاقة وقف المنافع بالتصرف في الرقبة والفائدة منه: …44
الفرق بين وقف الاعيان وتحبيس المنافع: …44
خلاصة البحث: …45
الفهرس …51


تعليقات