القائمة الرئيسية

الصفحات



المدخل للفقه الإسلامي

المدخل للفقه الإسلامي

المدخل للفقه الإسلامي




          جامعة الملك سعود
كلية الحقوق والعلوم السياسية
        قسم القانون الخاص




المدخل للفقه الإسلامي


الفصل الدراسي الأول
(1433 – 1434 هـ)



الفقه في اللغة: الفهم والعلم، قال تعالى : ) فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ  ([من آية 122 من سورة التوبة]: أي: ليكونوا علماء به.
وفي الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية.
والإنسان لم يخلق لأجل الدنيا، وإنما لعبادة الله، ولأن العبادة توقيفية؛ لذا من المستحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل.
والشريعة جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله.
أما ما ينتجه العقل البشري بغياب الوحي الإلهي فهو أسير الشهوات ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( [آية 18 من سورة الجاثية].

الباب الأولالتشريع في عهد الرسول r من البعثة إلى سنة 11 هـ

 خصائص التشريع في هذا العهد:
أولاً: أن مصدر التشريع في هذا العصر واحد ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ( [آية 3، 4 من سورة النجم]، ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  ([من آية 7 من سورة الحشر]  . أن مصدر التشريع في هذا العصر هو القرآن والسنة ولا شيء سواهما.
ثانيًا: أن مصدر تلقي التشريع هو الرسول r: ) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( [من آية 67 من سورة المائدة].
إذن الشريعة معصومة وصاحبها معصوم فيما يبلغ عن ربه.
ثالثًا: واقعية التشريع:
لم يقم التشريع على تخيل وقائع، بل سار مع الحوادث والنوازل.
رابعًا: أنه لم يكن هناك مجال للاختلاف في الأحكام؛ ذلك لأن مصدر التشريع رسول الله r، فهو المرجع.
خامسًا: سهولة الفهم:
فتجد أوقات الصلاة مثلاً رُبطت بالأمور المشاهدة كطلوع الفجر والشمس وغروبها، وغروب الشفق الأحمر وهكذا.
سادسًا: اكتمال التشريع بوفاة النبي r؛ قال سبحانه: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا( [من آية 3 من سورة المائدة]، ومن يرتضي غير ما ارتضاه الله لنا فليس بمؤمن. وقال سبحانه: ) مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ( [من آية 38 من سورة الأنعام]  

الأسس العامة للتشريع الإسلامي
أولاً: التيسير وعدم الحرج:
التيسير بمعنى التسهيل. وعدم الحرج يعني نفي المشقة. قول الله تعالى: ) مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [من آية 6 من سورة المائدة]، وقوله سبحانه: ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ( [من آية 78 من سورة الحج]، وقوله سبحانه وتعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( [من آية 185 من سورة البقرة]، وقال r لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: « يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفرا ».
ومن الأمثلة على التيسير ورفع الحرج:
صوم شهر واحد من اثني عشر شهرا، فقد كان قوم نوح يصومون الدهر كله.
وفي مجال التطهر شرع المسح على الخفين، والتيمم عند فقد الماء أو تعذر استعماله.
ثانيا: مسايرة التشريع لمصالح الناس:
التشريع الإسلامي قائم على رعاية المصالح في العاجل والآجل معًا. فالشريعة جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله؛ يقول سبحانه: ) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ( [من آية 71 من سورة المؤمنون].
ولا يستلزم أن التشريع جاء لرعاية المصالح أن تكون معلومة لدى الجميع فقد تكون ظاهرة، كما في قوله سبحانه: ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( [من آية 179 من سورة البقرة]. لكن البعض الآخر لا يفهمه إلا العلماء أو تستلزم الطاعة والعبودية لله تعالى، وإن لم نعلم ظاهرًا المصلحة منها، ككون صلاة المغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع.
من الأمثلة على مسايرة التشريع لمصالح الناس ما يلي:
1.       النسخ لبعض الأحكام، فلو خوطبوا بالأحكام دفعة واحدة ما أطاقوها، فلما خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، خوطبوا بأحكام أنهت الأحكام السابقة وبقيت مُحكَمة إلى يوم القيامة.
2.                 الأحكام الشرعية المبنية على عُرف.
3.                 الأحكام الشرعية المعللة بعلة.  
4.                 الأحكام المرتبطة بمصلحة.
5.                 الأحكام المقيدة بحال من الأحوال.
ثالثًا: التدرج في تشريع الأحكام:
         يُحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق» قال له عمر: «لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، ...»
إن التشريع الإسلامي لما نزل حسب الوقائع متدرجًا في المسائل والجزئيات كان له وقع أبلغ في النفوس.
والتدرج في التشريع شمل الكليات والجزئيات، ومن ذلك ما يلي:
1.   إلغاء بعض العادات المستأصلة على مراحل؛ كتحريم الخمر، فقرر الإثم في شربه أول الأمر، ثم جاءت المرحلة الثانية بمنع شربه قبل الصلاة، ثم بعد أن تهيأت الأنفس للتحريم واشتاقت إليه ورغبت الخلاص منه، أنزل سبحانه: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( [آية 90، 91 من سورة المائدة].
ومن ذلك: كان الجاهليون يحبسون المرأة ويمنعونها من الزواج مدة طويلة.
2.   التدرج في تقرير بعض العقوبات من الأسهل إلى الأشد؛ ومن ذلك ما جاء في عقوبة الزناة، ففي أول عهد التشريع لها كانت العقوبة الإيذاء والحبس في البيوت، حتى تظهر منهم التوبة والصلاح. وبعد فترة من التشريع استبدل الجلد والتغريب لغير المحصن والرجم للمحصن بهذه العقوبة.
ومما ينبغي بيانه أن هذا التدرج إنما هو في عصر التشريع، أما في يومنا هذا فالأحكام ثابتة.

الأسس العامة للتشريع الإسلامي

مصدر التشريع في عهد النبي r هو الوحي بنوعيه ولا مصدر غيرهما.
أولاً: القرآن الكريم:
1.                 تعريفه: مصدر لقرأ.
أما في اصطلاح علماء أصول الفقه: كلام الله المنزل على رسوله r باللفظ العربي المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، بدءًا من سورة الفاتحة ونهاية بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر.
2.                 حجية القرآن:
القرآن حجة يجب العمل بما ورد فيه.
3.                 دلالة القرآن على الأحكام:
القرآن جميعه قطعي الثبوت، أما دلالة القرآن الكريم على الأحكام فهي على نوعين:
النوع الأول: ما كانت دلالته على الأحكام قطعية، وهو كل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا، وذلك مثل قوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ( [من آية 183 من سورة البقرة]، وكقوله تعالى: ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ( [من آية 90 من سورة النحل]  
النوع الثاني: ما كانت دلالته على الأحكام ظنية، وهو كل لفظ لا يخلو من احتمال في دلالته.
4.                 بيان القرآن للأحكام:
على نوعين:
النوع الأول: البيان الإجمالي للأحكام؛ كأحكام الصلاة والزكاة والحج.
النوع الثاني: البيان التفصيلي للأحكام؛ كأحكام المواريث.
5.                 كيفية معرفة بيان القرآن للأحكام:
(أ‌)       الرجوع سنة رسول الله r؛ فمثلاً عدد الصلوات، وأوقاتها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها، وسننها فهي في سنة رسول الله r.
(ب‌)           الرجوع إلى تفسير السلف الصالح.
(ت‌)           الرجوع إلى أسباب النزول.
خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة. فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل؟ فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه فأرسل إليه، فقال: أعد عليّ ما قلت! فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه.
6.                 أسلوب القرآن الكريم في بيان الأحكام:
من هذه الأساليب:
(أ‌)                الأمر الصريح بلفظ الأمر.
(ب‌)           الإخبار بأن الفعل على الناس عامة.
(ت‌)           الإخبار بأن الفعل على طائفة خاصة.
أولاً: السنة النبوية:
1.                 تعريفها: ما أُثر عن النبي r من قول أو فعل أو تقرير.
2.                 حجية السنة:
وحي غير متلو؛ يقول الله تعالى:  : ) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ( [من آية 44 من سورة النحل].
ولقد ثبتت حجية السنة بالأدلة التالية:
(أ‌)                قوله تعالى: ) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( [من آية 65 من سورة النساء].
(ب‌)     قوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( [من آية 59 من سورة النساء].
ففي هذه الآية أمر الله بوجوب الرد إلى رسول الله r، والرد إليه r بعد موته إنما هو الرد إلى سنته.
(ت‌)           قوله تعالى: ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ( [من آية 7 من سورة الحشر].
3.                 دلالة السنة على الأحكام:
1.                 أن تكون السنة قطعية الثبوت (تمت بالنقل المتواتر)، قطعية الدلالة.
2.                 أن تكون السنة قطعية الثبوت، ظنية الدلالة.
3.                 أن تكون السنة ظنية الثبوت قطعية الدلالة.
4.                 أن تكون السنة ظنية الثبوت.
اجتهاد الرسول r
الحالة الأولى:
         اجتهاد الرسول r فيما يبلغ عن ربه، فهذا تشريع يلزم العمل به، فهو بمنزلة الثابت بالوحي؛ قال تعالى: ) لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ( [من آية 105 من سورة النساء].
         والنبي r إذا اجتهد فأخطأ فإن الوحي لا يقره على ذلك.
الحالة الثانية:
         ما تختلف به الأحوال والظروف مما يتطلبه الحزم والعزم أو التنظيم والترتيب كاجتهاده r بوصفه رئيسًا للدولة، فهذه لا تعد تشريعًا.
الحالة الثالثة:
         أمور تكتسب معرفتها بالخبرة والتجارب والتعلم، كأن يصف r دواء لمرض أو يعطي رأيًا في مجال الزراعة، فالرأي منه r في هذا ليس تشريعًا؛ كقولهr: « إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر».  وقوله: « أنتم أعلم بأمر دنياكم».
الحالة الرابعة:
         ما ثبت خصوصيته r؛ وكنهيه عن الوصال، وكقيامه الليل، وأيضا زواجه بأكثر من أربع.
إذن الرسول r لأصحابه بالاجتهاد والحكمة من ذلك:
         أذن الرسول r بالاجتهاد، إما عن طريق الأمر، وإما عن طريق الإقرار، وهي إما أن تكون في حضرته، أو في غيبته.
كما قال لعمرو بن العاص حينما جاءه خصمان: «اقض بينهما»، وكما وكل الحكم إلى سعد بن معاذ في يهود بني قريظة.

مسألة: الحكمة من اجتهاد الصحابة في حياة الرسول r.

1.                 تعليم الصحابة.
2.       تمكن أهل الفقه والمعرفة من بعده بقوة مداركهم أن ينزلوا ما يجدّ من الحوادث على عمومات الكتاب والسنة.
3.                 أن بعض الصحابة قد لا يلازمون الرسول r على الدوام مما يحتاجون إلى فقه الأحكام الشرعية لما يستجد من مسائل في حياتهم اليومية.

الفقه في عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11 – 40 من الهجرة
تميز الصحابة عن غيرهم
أحدها: كانوا أبرّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا.
ثانيهما: أن العربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم، وعقولهم.
ثالثها: لا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة.
خامسها: عايشوا فترة الوحي، وأدركوا أسباب النزول وتلقوا العلم من الرسول r مباشرة.
سادسها: ثناء الله عليهم ومدحهم بالعدالة.
سابعها: الأمر باتباعهم، وأن سنتهم كسنة النبي r .
ثامنها: دقة متابعتهم للرسول r.
وكما يقول القاضي عياض عن الصحابة: "... كانوا أعلم الأمة بلا مرية وأولاهم بالتقليد".
الأسباب الباعثة لتولي الصحابة بيان الأحكام الشرعية
الأول: انقطاع الوحي بوفاة الرسول r.
الثاني: أن التشريع في عهد النبي r لم يقرر لكل جزئية أحكامها.
الثالث: جدت مسائل وقضايا لم تكن موجودة في عهد التشريع بسبب توسع الحياة الاجتماعية وانتشار الفتح الإسلامي.
الرابع: حفظ دين الله من الضياع، وتبليغه للناس بعد وفاة الرسول r.
الخامس: التزام الصحابة بدين الله عملا وسلوكًا، ورغبتهم في التفقه بأحكامه؛ لتطبيقه على حياتهم العامة والخاصة.
أهمية تشريع الصحابة
أهمية الصحابة
أهمية هذا العصر

الاجتهاد في عهد الصحابة
وأخذهم بالشورى في تنمية الاجتهاد
بعد وفاة الرسول r واجه الخلفاء الراشدون، وكبار الصحابة أحداثًا لم تكن في عصر النبوة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية بفتح الشام والعراق، ومصر، وفارس، فلم يكن لهم منفذٌ لهم إلا الجهاد.
روي عن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله r، فإن وجد ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله r قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي r جمع رؤساء الناس فاستشارهم.
ومما يدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد –أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال ابن عباس: قال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله r، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع الناس ولا تقدّمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديًا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله.
فقال: فجاء عبد الرحمن بن عوف –وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله r يقول: « إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه» قال: فحمد اللهَ عمرُ وانصرف.
والشورى لها آثارها العظيمة في استنباط الأحكام الشرعية وفي فهمها.
وعن عمر -رضي الله عنه- أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت؟ فقال: قضى علي وزيد بكذا، فقال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، فقال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسوله –عليه الصلاة والسلام- لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال علي وزيد.
نرى كيف كان الصحابة يحترمون آراء الغير.
فعمر ابن الخطاب –رضي الله عنه- مع إلهامه وصدق ظنه كانت استشارته للناس كثيرة. ولقد أوصى عمر –رضي الله عنه- شريحًا القاضي بقوله: «استشر أهل العلم والصلاح».
ويكفي أن عمر –رضي الله عنه- كان أعلم الصحابة، في الوقت نفسه كان أكثر الأئمة استشارة للناس.

نماذج لبعض المسائل التي اتفق عليها الصحابة
الأولى: تقديم الصحابةُ الصِّدِّيق في الخلافة.
الثانية: إجماع الصحابة على أن الجدة الواحدة أو الجدات يرثن السدس.
الثالثة: إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة.
الرابعة: إجماع الصحابة –رضي الله عنهم- على أن دية الخطأ على العاقلة.
الخامسة: اجتماعهم على الأربع قبل الظهر.
السادسة: اتفاقهم على أربع تكبيرات في الجنائز.

نماذج لبعض المسائل التي اختلف عليها الصحابة
مع بيان أسباب الاختلاف
الأولى: اختلفوا في مدة التربص الواردة في قوله تعالى:)   وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ( [من آية 228 من سورة البقرة].
فذهب ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، إلى أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، فتحل للأزواج إذا دخلت في الحيضة الثالثة. وذهب عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، إلى أن عدة المطلقة ثلاث حيض، فلا تحل للأزواج إلا بعد أن تنقضي الحيضة الثالثة.
وسبب الخلاف أن لفظ "قرء" يطلق في كلام العرب ويراد به الحيض، ويطلق ويراد به الطهر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
الثانية: زكاة الحلي مما تلبسه المرأة أو تعيره.
ذهب ابن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء –رضي الله عنهم-، إلى أن ليس في حلي المرأة زكاة ممما تلبسه أو تعيره، واستدلوا بما روي عن جابر –رضي الله عنه- عن النبي r أنه قال: «ليس في الحلي زكاة»
وذهب عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو إلى وجوب زكاتها، واستدلوا بما روي من حديث أنس –رضي الله عنه-: «وفي الرقة ربع العشر». وسبب الخلاف أن الأحاديث العامة والموجبة للزكاة يحتمل أنها في غير محل النزاع؛ لأن الرقة هي الدراهم المضروبة.
الثالثة: عدة الحامل المتوفَّى عنها زوجها.
ذهب ابن مسعود –رضي الله عنه- إلى أن عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: ) وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( [من آية 4 من سورة الطلاق].
وللجماعة إلا الترمذي معناه من رواية سبيعة، وقالت فيه: «فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي».
وذهب علي بن أبي طالب، وابن عباس، إلى أن تمام عدتها آخر الأجلين؛ وذلك للجمع بين قوله تعالى: ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( [من آية 234 من سورة البقرة]. وبين قوله تعالى: ) وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( [من آية 4 من سورة الطلاق].
الرابعة: اختلاف الصحابة في مدى وقوع الطلاق على زوجة المولى بانقضاء الأربعة أشهر.
وسبب الخلاف قوله تعالى: ) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( [آية 226 من سورة البقرة]. أي: فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة أشهر أو بعده.
فمن الصحابة من فهم أن المراد قبل انقضائها، فقال: يقع الطلاق، ومعنى العزم عندهم في قوله تعالى: ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( [آية 227 من سورة البقرة]. أي: أنه لم يرجع حتى انقضت المدة، فتركه الجوع عزم على الطلاق. ومن قال: إن الطلاق لا يقع إلا بالفيئة أو بإيقاعه بلفظه، فيرى أن معنى قوله سبحانه: ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أي: لابد من وقوع الطلاق بلفظه بعد انقطاع المدة.


مصادر التشريع في هذا العهد

أولا: القرآن الكريم.
ثانيا: السنة النبوية.
ثالثا: الإجماع.
رابعًا: الرأي.


الإجماع
1. تعريفه
بمعنى: الاتفاق، يقال: أجمع القوم: اتفقوا.
 وفي الاصطلاح: اتفاق مجتهدي أمة محمد r بعد وفاته في أي عصر من العصر على حكم شرعي اجتهادي.
2. حجية الإجماع:
الإجماع حجة يجب الأخذ به، يأتي في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة.
وثبت حجيته بأدلة كثيرة، منها:
(أ‌)       قوله تعالى:  )وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ( [من آية 59 من سورة النساء] يدل على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصومًا عن الخطأ، والمعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها، فعلى هذا فالمعصوم هم أهل الحل والعقد من علماء الأمة.
(ب‌)     قوله تعالى: قوله تعالى:  )وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( [آية 115 من سورة النساء] ففي هذه الآية توعد الله المنحرف عن طريق المؤمنين بدخول جهنم، والوعيد لا يكون إلا على ارتكاب أمر محرم، مما يدل على عدم جواز مخالفة ما اتفق عليه العلماء المجتهدون من المؤمنين، مما يدل على حجية الإجماع.
(ت‌)           عن أبي ذر –رضي الله عنه- مرفوعًا: «من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
(ث‌)     عن ثوبان –رضي الله عنه- مرفوعًا: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهو كذلك».

الرأي
العرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب حالها، فتقول: رأى كذا –لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين- رأيًا، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب بما تتعارض فيه الأمارات.
والصحابة y في آرائهم الاجتهادية يقدرون الآراء الأخرى حق قدرها، ولا يتعصبون لرأي، بل يتدافعون الفتيا.
قال عمر t لعلي وزيد: لولا رأيكما لاجتمع رأي ورأي أبي بكر، كيف يكون ابني ولا يكون ولا أكون أباه؟ يعني الجد.
ومن ذلك قول عمر للرجل: "ولكني أردّك إلى رأي والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد".
وعن مسروق قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب: "هذا ما رأى الله ورأى عمر"، فقال: بئس ما قلت، قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر.

الفقه في عهد صغار السن من الصحابة
وكبار التابعين من سنة 40 هـ إلى أوائل القرن الثاني الهجري سنة 100 هـ تقريبا
تفرق العلماء في الأمصار ونتائج ذلك
تحتاج المدن الإسلامية إلى علماء يفتون الناس في أمر دينهم، ويقضون بينهم.
وبعد وفاة الرسول r، احتاج الناس إلى علماء يفسرون لهم النصوص، ويستنبطون الأحكام الشرعية.
ومع إبقاء عمر لكبار العلماء من المهاجرين والأنصار في المدينة، فإنه قد بعث بعضهم إلى بعض المدن الإسلامية، كبعثة عبد الله بن مسعود إلى الكوفة.
ففي الأثر، لما كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة، مما قاله: "... وقد بعثت إليكم بعبد الله، وخِرت لكم، وآثرتكم به على نفسي". وفي رواية: "وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي".
وبعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج بعض من كان في المدينة من العلماء الكبار إلى مختلف المدن الإسلامية؛ لغرض الجهاد أولا ثم تبع ذلك الاستيطان، فنزل الكوفة جمع غفير من العلماء منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري،...
والتفرق هذا أوجد حركة علمية واسعة الانتشار في سائر المدن التي استقروا بها.
وفي الكوفة كان لتأثير عبد الله بن مسعود أثر بارز في إعداد جيل من المفتين، ففاق عدد تلاميذه علي بن أبي طالب لانشغاله بالولاية، وتفرغ ابن مسعود للتعليم والإفتاء.
ولهذا الانتشار الواسع للعلماء في كافة المدن الإسلامية، جعل العلماء يتفاوتون في كيفية استنباط الأحكام الشرعية مما لم ينص على حكمه، فكل عالم أضحى يفتي بما صح عنده من الحديث.
نخلص إلى أن تفرق العلماء في الأمصار أوجد ما يلي:
1.     حركة علمية واسعة.
2.     تفاوت في كيفية استنباط الأحكام الشرعية.
3.     تفاوت في نتائج استنباط الأحكام الشرعية.
4.     ظهور مدرستين فقهيتين متميزتين، هما مدرسة الحديث بالحجاز، ومدرسة الرأي بالعراق.
أولا: مدرسة الحديث بالحجاز:
الحياة في الحجاز سهلة ميسرة، والوازع الديني قوي في النفوس، واللغة العربية متمكنة من الألسنة، وسنة الرسول r ظاهرة معلومة، وفتاوى الصاحبين كذلك، وأقوال الصحابة مشتهرة.
فتمكن أهلها من الفقه، والتزموا بالنصوص الشرعية المأخوذة من أقوال الرسول r، وبما ورد عن الصحابة من آثار.
بعض سماتها:
1.     شهرتها.
بقيت هي مدينة العلم.
قال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيب، وكان أفقه الناس، وعروة بن الزبير وكان بحرًا.
وفي عهد الفقهاء السبعة زادت مدرسة المدينة قوة وشهرة علمية عظيمة، وقيل عنها: "عصر الفقهاء السبعة".
وفي عهدهم وضعت الأسس العلمية في مدرسة المدينة لعلم الفقه، وسارت عليها بعد ذلك المذاهب الفقهية، فإليهم يرجع الفضل في تأسيس علم الفقه.
فمدرسة المدينة هذه هي تلك الذخيرة العلمية من الأثر، والفقه والفتاوى التي خلفها سادة الأمة وأئمتها وقادتها وعلماؤها ومفتوها أصحاب النبي r، الذين عنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، وضعوا أصول الاستنباط، فهم في العلم كالنجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر.
ثم انتهى علم المدرسة كاملا إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى.
روي عن رسول الله r ما يدل على شهرة المدينة بين الناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة".
2. السبب في انتشارها:
·        انصراف بني أمية إلى السياسية والحكم.
انصرفوا إلى حماية الدين بطريقة مختلفة تكون بتفقيه الناس بأمور دينهم ونشره بينهم وتبصيرهم بالحلال والحرام.
·        أن المدينة هي منهل العلم ومعدنه.
ولذلك ذهب بعض العلماء إلى أن عمل أهل المدينة حجة شرعية يتعين الأخذ بها.
قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء، فاعلم أنه السنة.
·        أن المدينة المنورة طريق أهل الشام ومن حولهم إلى بيت الله الحرام.
يقصدها العلماء والمتعلمون لحضور مجالس العلماء فيها.
·        أن من رحل إلى المدينة وطلب العلم منها استبان فضله وزادت ملكته العلمية على من لم يرحل.
قال أبو نعيم: سألت مالكًا عن شيء، فقال لي: إن أردت العلم فأقم –يعني بالمدينة- فإن القرآن لم ينزل على الفرات.
·        خروج بعض علماء المدينة إلى مدينة أخرى ونقل علمها بين الناس.
·        أن سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة، كأهل الشام، ومصر.
وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فهم على مذهب مالك.
وبالاستقراء والتتبع لأصول المذهب نجد أن مذهب الشافعي ومالك وأحمد والظاهرية سارت على الأصول التي قصدها علماء أهل المدينة من الأخذ بالرواية والأثر والوقوف عند النصوص الشرعية مع تفاوت بينهم في ذلك، وكل هذا ساعد على انتشار مذهب أهل المدينة.

3. مميزاتها:
·        نشأت في موطن التشريع ونزول الوحي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل المدينة –دار السنة ودار الهجرة، ودار النصرة، إذ فيها سن الله لرسوله محمد r سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الأنصار الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن شرقًا وغربًا في الأصول والفروع.
وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة، التي قال فيها النبي r في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
·        كراهة السؤال عما لا يقع.
·        لم يكن في المدينة في العصور المفضلة بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج فيها بدعة في أصول الدين البتة.
فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد، والجهمية ظهرت في ناحية خراسان.
والمدينة لم يظهر فيها أهل البدع إلا بعد المائة السادسة على وجه التقريب.
·        مدرسة أهل المدينة خلفوا للناس علمًا ظهرت آثاره في تأصيل الفقه، وتقعيد قواعده، ورسم مناهجه.
فأصح الأحاديث أحاديث المدينة. بخلاف الكوفة ففيها بعض أهل الكذب وهم خلق كثير كأهل التشيع.
ولذلك كان المنصور والمهدي والرشيد –وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجحون قول علماء الحجاز على قول علماء أهل العراق، كما كان خلفاء بني أمية يرجحون قول أهل الحجاز على قول علماء أهل الشام.
أما بعد موت مالك وأمثاله من علماء الحجاز، فقلّت أهمية علماء أهل الحجاز، وفاق عليهم علماء المشرق والعراق والمغرب، خاصة بعد أن سكن الإمام أحمد بن حنببل وأبي عبيدة وأمثالهما العراق.

ثانيا: مدرسة الرأي في العراق:
العراق بلد دخل فيه الإسلام بعد فترة من وفاة الرسول r، وفيه عادات وأعراف تختلف عن مجتمع المدينة، فالحياة فيه جديدة والمدنيات مختلفة والحوادث كثيرة، وانتشار الزنادقة والفساق بيّن ظاهر.
فالفتن وجدت في العراق، وإلى ذلك أشار النبي r من حديث سالم عن أبيه t، أن النبي r قام إلى جنب المنبر، فقال: «الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان. أو قال: قرن الشمس».
ومن العراق بدأ المسلمون بالتفرق سياسيًّا وفقهيًّا.
1. شهرتها:
كان ابن مسعود ينهج نهج عمر بن الخطاب t في كيفية استنباط الأحكام والأخذ بالنصوص.
وكان جهد ابن مسعود في التعليم بارزًا، وأثره ظاهرًا ملحوظًا. وكان تلاميذه يقدرونه أجل تقدير ويثقون بعلمه؛ فتلميذه إبراهيم النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس بالفقه.
واشتهر بالإفتاء من علماء الكوفة علقمة النخعي، وعمه الأسود بن يزيد.
مما زاد مدرسة الكوفة شهرة انتقال عاصمة الخلافة إليها بعد مقتل عثمان وانتقال علي إليها، وانتقل معه عدد من الصحابة مما قوى أمرها.
ولئن كان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة،فإن إبراهيم النخعي لسان فقهاء الكوفة.
وكان أبو حنيفة t ألزم الناس بمذهب إبراهيم النخعي وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله.
هذا التأثير وذاك التأثر جعل مدرسة الكوفة تنال شهرة علمية امتدت بها إلى يومنا هذا، سيما مع أتباع مذهب أبي حنيفة t، كما هو الشأن في مدرسة أهل المدينة التي سار على منهجها المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وإن كان الشافعي قد مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق.
2. السبب في انتشارها:
·   تتلمذ أصحاب مدرسة أهل الرأي على عبد الله بن مسعود وتأثروا بمنهجه العلمي في استنباط الأحكام القائمة على الاجتهاد.
·        كان الحديث قليلا في العراق؛ لعدم كثرة الصحابة بالعراق، فكثر لذلك القياس ومهروا فيه.
·   أن مجتمع العراق له عادات وتقاليد مختلفة عن مجتمع المدينة لاتصاله بالفرس, مما يستلزم إعمال الرأي وكثرة القياس.
روي عن إبراهيم النخعي: إني لأسمع الحديث الواحد فأقيس عليه مائة شيء، مما ساعد على القول بالرأي وانتشار هذه المدرسة.
·   تقليد أهل العراق ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر وبلاد العجم لمذهب أبي حنيفة، وكان تلاميذه أصحاب الخلفاء من بني العباس.
ومما ساعد على ذلك تولي أبو يوسف القضاء أيام هارون الرشيد، فكان سببًا لظهور مذهب أبي حنيفة الذي يمثل مدرسة أهل الرأي.
3. مميزاتها:
·   الفقه الافتراضي أو التقديري لحوادث لم تقع، وجعلوا لها من الأحكام ما يناسبها، يقول أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله.
·        تعوّد التلاميذ البحث والاستنباط عن طريق الأسئلة.
·        قلة رواية الحديث والتشدد في شروط روايته.
·        عدم التورع عن الفتوى وحبهم للسؤال عن العلم.
4. أمثلة لبعض المسائل التي اختلفت عليها مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي:
·        جزاء المُحرم إذا أتلف صيدا.
·   يرى أهل المدينة أن للحاج  -سواء كان من أهل مكة أو غيرهم-  الجمع والقصر بعرفة ومزدلفة، والقصر بمنى.
أما أهل العراق فيرون أن أهل مكة يتمون.
·        مشروعية صلاة الاستسقاء.
يرى أهل المدينة أنه يصلى لصلاة الاستسقاء، وأنكر هذه السنة من خفيت عليه من أهل العراق.
·        يرى أهل المدينة عدم التلفظ بالنية في الوضوء والاغتسال والصلاة والصيام، ويرون أن التلفظ بها بدعة.

كبار المفتين في هذا العصر
1.     سعيد بن المسيب.
2.     عطاء بن أبي رباح.
3.     إبراهيم النخعي.
4.     الحسن البصري.
5.     طاووس.
6.     يحيى بن أبي كثير.
7.     مكحول.
8.     عطاء الخراساني.
9.     يزيد بن أبي حبيب.

الفقه من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع
من سنة 100 هـ تقريبا إلى سنة 320 هـ

مكانة العلماء في هذا العصر:
         يعد هذا العصر امتدادًا للعصر السابق، عصر الاجتهاد المطلق في الفقه، فقد كان عصر التابعين مزدهرًا بالاجتهاد.
         وكان لهؤلاء العلماء أثر بارز في جعل الفترة التي عاشوها امتدادًا لفترة تأسيس الفقه على يد فقهاء أهل المدينة والعراق.
         مما يدل على رفعهم لمكانة العلماء، ما روي عن هشام بن عيسى: لما قدم هارون المدينة دعا مالكا، فقال مالك: منكم خرج هذا العلم، وأنتم أولى الناس بإعظامه، ومن إعظامكم له، ألا تدعوا حملته إلى أبوابكم. قال: قد فعلت يا أبا عبد الله.
         ولما حج المهدي دخل المدينة، فسار إليه مالك، فأظهره من بِرِّه وإعظامه وأمر بنيه موسى وهارون أن يسمعا منه.
         فأهل الفقه هم المرجع للولاة، وكان خلفاء بني العباس يجلون القضاة ويعظمون منزلتهم.
والرشيد لما بلغه موت ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء، فعزاه الأكابر، وقرّب العلماء؛ فجعل القاضي أبو يوسف قاضيه، وولاه شؤون القضاء.

البحث العلمي والعناية به
         البحث العلمي والعناية به هدف سعى إليه العلماء وشجعهم عليه بعض الخلفاء. فالإمام مالك رضي الله عنه فتح مجلسه للعلم ليس فيه شيء من المراء واللغط، ولا رفع الصوت، وكان مجلسه مهابة وإجلالا، وجلساء مالك كأنما على رؤوسهم الطير.
         وأبو حنيفة قام بنشر العلم، يقول عنه عبد الله بن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس.
         قال شريك: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير التفكر، دقيق النظر في الفقه، لطيف الاستخراج في العلم والعمل والبحث.
         والشافعي نشر العلم بين الناس، فعن الإمام أحمد قال: ما أحد مسّ محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة.
         وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي -والله- لسانه أكبر من كتبه، لو رأيتموه لقلتم: إن هذه ليست كتبه.
قال أحمد بن سلمة النيسابوري: تزوج إسحاق بن راهويه بامرأة رجل –كان عنده كتب الشافعي- مات ولم يتزوج بها إلا للكتب، قال: فوضع "جامع الكبير" على كتاب الشافعي، ونضع "جامع الصغير" على "جامع سفيان"، فقدم أبو إسماعيل الترمذي ينسابور، وكان عنده كتب الشافعي عن البويطي، فقال إسحاق: لا تحدث بكتب الشافعي ما دمت هنا، فأجابه.
عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون.
وللإمام أحمد مصنفات هي: المسند، والتفسير، والناسخ والمنسوخ، والتاريخ، وحديث شعبة، والمقدم والمؤخر في القرآن، وجوابات القرآن، والمناسك الكبير والصغير، وكتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، ونفي التشبيه، والإمامة، وكتاب الرد على الزنادقة، وكتاب الزهد، وكتاب فضائل الصحابة.
ومجالس سفيان الثور مجالس علم، فهو ممن يغوص في الفقه، ويعد حجة في العلم يستفاد من علمه.
والإمام الأوزاعي طلب العلم ونشره، فصار فقيه الشام.
وفي مصر نجد الليث بن سعد فقيهها ومحدثها يرجع إليه في أمر الولاية لعظم منزلته وعلمه الذي فاق علم مالك.
وعبد الله بن المبارك عالم زمانه، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة.
قيل لابن المبارك: إذا أنت صلّيت لم لا تجلس معنا؟ أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم، أنتم تغتابون الناس.
وروي عنه أنه قال: أول العلم النية، ثم الاستماع ثم العمل، ثم الحفظ والنشر.
وكان الشافعي من فرسانها في الحق، إذ يقول: ما ناظرت أحدًا إلى على النصيحة.

الرحلات العلمية
         الليث بن سعد تنقل في طلب العلم، وأبو حنيفة t عنيَ بطلب العلم وارتحل في ذلك، وعبد الله بن المبارك ارتحل في طلب العلم للأخذ عن بقايا التابعين، ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، ولقي مالكًا وروى عنه كتاب الموطأ، وسحنون ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه. ومعمر بن راشد البصري طلب العلم وهو حدث ورحل إلى المدينة، وهو أول من رحل إلى اليمن.
         وحقًّا كانت الرحلات العلمية رافدا من روافد الحركة العلمية.
         يقول ابن خلدون: إن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا، والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم.

تدوين الفقه
في عهد عمر بن عبد العزيز بدأ الاهتمام بتدوين السنة بعد أن زال الخوف من اختلاطها بالقرآن. وهكذا استمر هذا التوجه إلى أوائل القرن الثاني الهجري، ولا يعني هذا أن الكتابة كانت معدومة، بل كانت قائمة؛ فيحيى القطان مثلا كان من أكتب الناس للعلم، وكان يبذل كتبه للإمام أحمد.
وفي عهد الأئمة بدأ التدوين في مراحله الأولى؛ فالإمام مالك دوّن كتابه الموطأ، والشافعي دوّن رسالته وكتابه الأم.
وفي منتصف القرن الثاني بدأ الاتجاه العلمي للفقه يسير سيرًا حثيثًا نحو التدوين؛ فأبو يوسف –صاحب أبي حنيفة- ألّف عدة كتب منها: الخراج، وكتاب المبسوط في فروع الحنفية، والأمالي في الفقه.
ومحمد بن الحسن صنّف كتاب الاحتجاج على مالك، والاكتساب في الرزق المستطاب، والجامع الصغير في الفروع، والجامع في الكبير، والرقيات في المسائل، والزيادات في الفروع، والسير الصغير، والسير الكبير، وكتاب الآثار في الفقه والحديث، وكتاب الأصل، وكتاب في الإكراه والحج ونحو ذلك.
وفي مذهب مال دوّن عبد الملك بن حبيب مسائل الإمام مالك في كتاب الواضحة.
وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، صنّف العديد من الكتب في الفقه والتفسير وعلوم القرآن والتأريخ.
ومحمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة 348 هـ له تصانيف عدة، منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري.

ترتيب أئمة الفقه من أهل السنة والجماعة
         أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه، وهم: علي وزيد وابن عباس وابن مسعود.
         كل مسألة انفرد فيها ابن عباس بقول تبعه فيها عكرمة وطاووس وسعيد بن جبير.
         وكل مسألة انفرد فيها ابن مسعود بقول تبعه فيها علقمة الأسود وأبو ثور.
         يلي الصحابة في الدرجة الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهم:
1.                 سعيد بن المسيب.
2.                 عروة بن الزبير.
3.                 خارجة بن زيد.
4.                 القاسم بن محمد بن أبي بكر.
5.                 سليمان بن يسار.
6.                 عبيد الله بن عتبة بن مسعود.
7.                 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرب بن هشام.
ثم يلي هؤلاء أئمة في الفقه مثل:
1.                 الأوزاعي.
2.                 مالك.
3.                 الثوري.
4.                 الشافعي.
5.                 أبي ثور.
6.                 أحمد بن حنبل.
7.                 إسحاق بن راهويه.
8.                 داود صاحب الظاهر.
ولا ينبغي أن ينسى إبراهيم النخعي فقيه العراق، وكان أبو حنيفة ملتزمًا بمذهب إبراهيم لا يجاوزه إلا ما شاء الله.

أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين وتكوين المذاهب
أولا: أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين:
علماء الإسلام هم خيار الناس؛ لأنهم خلفاء الرسول في أمته.
وليُعلم أنه لا يوجد إمام من الأئمة ممن اتصفوا بالتقى والورع، يتعمد مخالفة رسول الله r في شيء من سنته.
كما يكون الخلاف في أمور أخرى كدلالة الحديث أو اعتقاد نسخه وما شابه ذلك.
قال الإمام الشافعي: فإني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟
وأجاب الشافعي عن ذلك بأن الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، وهو ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصًا بيّنًا، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
أما ما يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل أنه يُضيَّقُ عليه ضيقَ الخلاف في المنصوص.
    
إذن ما هي الأسباب الداعية إلى خلاف العلماء؟
الأول: الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات.
1.     اشتراك في موضوع اللفظ المفرد كالقرء.
2.     اشتراك في أحواله العارضة في التعريف، نحو قوله تعالى: )وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ( [البقرة: 282].
فهل المعنى: لا يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته. وقيل معنى المضارة: عدم دعوة الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد أثناء انشغالهما.
3.     اشتراك من قِبل التركيب، نحو قوله تعالى: ) وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( [فاطر: 10].
فضمير يرفعه هل يعود إلى الكلم أم إلى العمل؟
4.     دوران اللفظ بين العموم والخصوص.
5.     اختلاف الرواية في الحديث.
6.     الاختلاف في أصل القياس وشروطه.
7.     دعوى النسخ وعدمه.
8.     اختلافهم في بعض المبادئ اللغوية؛ فكلمة "من" للتبعيض عند الشافعي، ولابتداء الغاية عند أبي حنيفة.
ويعلم أن اختلافهم لم يكن ناشئًا عن هوى في نفوسهم، وليس الاختلاف في ذاته معيبًا، فقد اختلف أصحاب رسول الله r في اجتهاداتهم مع قربهم من زمن النبوة وتلقيهم الهدي عن صاحب الرسالة.
أما علماء الإسلام وأئمته فخلافهم نابع من أصل الفهم والاستنباط، وقائم على أسس شرعية، أو قواعد معتبرة، ولا يوجد منهم من يجنح لباطل، أو يميل لهوى، أو يترك أثرًا صحيحًا.
قال ابن وهب: كان مالك يقول في أكثر ما يُسأل عنه: لا أدري.
قال عمر بن يزيد: فقلت لمالك في ذلك. فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلّي أرجع عمّا أفتيتهم به. قال: فأخبرت الليث بذلك فبكى، وقال: مالك والله أقوى من الليث.
ويقول الشافعي: كل حديث عن النبي r فهو قولي وإن لم تسمعوه مني. ويروى عنه أن قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط.
وسأل رجل الشافعي عن حديث النبي r وقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله r وقلت بغيره.
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، ويقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكًا، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا. ويقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.


ثانيا: تكوين المذاهب:
         مدرسة أهل الحديث في الحجاز ومدرسة أهل الرأي في العراق؛ فأبو حنيفة أخذ بمدرسة أهل العراق، ومالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر أخذوا بمدرسة أهل الحجاز، وإن كان للشافعي في القليل اتجاه في بعض المسائل لمدرسة أهل الرأي.
         وإذا كان لكل مدرسة منهجها فعلماء الإسلام اتخذوا مناهج معينة في استنباط الأحكام الشرعية خالفهم فيها البعض إما على الإطلاق أو وافقوهم بشروط، ومن هنا نشأ الخلاف في تبيان الأحكام في ضوء ما اعتمد أي منهم.
ولكل عالم من العلماء حلقات تدريس وعلم ينقل العلم والفقه إلى طلابه ويدربهم على كيفية استنباط الأحكام الشرعية، ومصادر الأدلة التي ينبغي العمل بها.
عن أحمد بن الصباح، سمعت الشافعي قال: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.
ومن الطبقة الثانية أبو يوسف، وزفر. وكان أبو يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة.
والإمام مالك جلس للفتيا وهو ابن سبع عشرة سنة.
وقال سعيد بن منصور: رأيت مالكًا يطوف وخلفه سفيان الثوري يتعلم منه كما يتعلم الصبي من معلمه، كلما فعل مالك شيئًا فعله سفيان؛ اقتداءً به.
وكان له حلقة للفقهاء يجالس فيها فقهاء المدينة.
وقال الإمام أحمد عن الإمام الشافعي: "ما مسّ أحد محبرة ولا قلمًا إلا للشافعي في عنقه منة".
قال عبد الله بن ناجية الحافظ: سمعت ابن وارة يقول: قدمت من مصر، فأتيت أحمد بن حنبل، فقال لي: كتبت كتب الشافعي؟ قلت: لا. قال: فرطت، ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي. قال: فحملني ذلك على الرجوع إلى مصر فكتبتها.
وجلس الشافعي في مكة للإفتاء والتدريس، وكانت مدة إقامته هذه سبع عشرة سنة.
والإمام أحمد بن حنبل كان يجتمع في مجلسه زهاء خمسة آلاف أو يزيدون.
يقول ابن خلدون: "فالعلم أن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا منهم، ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم ... فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الدين".
ويقول في موضع آخر: فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت.
وجاء من بعدهم أحمد بن حنبل، وكان من عِلية المحدثين.
وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها.


مشاهير علماء هذا العصر
1.     الحسن البصري
2.     سفيان الثوري
3.     أبو حنيفة النعمان
4.     الأوزاعي
5.     زفر بن هذيل
6.     الليث بن سعد
7.     مالك بن أنس
8.     عبد الله بن المبارك
9.     القاضي أبو يوسف يعقوب
10.                       محمد بن الحسن الشيباني
11.                       سفيان بن عيينة
12.                       إسحاق بن راهويه
13.                       عبد السلام المالكي الملقب بسحنون
14.                       أحمد بن حنبل
15.                       داود الظاهري
16.                       إبراهيم بن إسحاق الحربي
17.                       أبو جعفر الطبري
18.                       أبو بكر الخلال

الأئمة الأربعة وأصول مذهب كل منهم
وأثره في الفقه الإسلامي
الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشتهرة هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد y.
أولا: أبو حنيفة (80 – 150 هـ):
التعريف به: هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت. وُلِدَ سنة ثمانين من الهجرة. واشتهر بكثرة العبادة والخشوع وقراءة القرآن.
أصول مذهبه:
·        القرآن الكريم.
·        السنة النبوية الثابتة، وفق شروط معينة في رواة الحديث.
·        أقوال الصحابة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن أو السنة، ولم يخرج عنهم.
·        الإجماع.
·        القياس.
وهذا قد توسع فيه الحنفية، وبالغ بعضهم فقدّم القياس على قول الصحابي. قال محمد بن الحسن في أدب القاضي: لا يستقيم العمل بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث.
·        الاستحسان.
هو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به.
مثال: لو دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم، فأخرجه وخرجوا معه: في القياس القطع على الحمّال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعاً.
·         الحِيَل الشرعية:
هي ما يكون مخلّصًا شرعيا لمن ابتُلي بحادثة دينية.
فقد سُئل الإمام أبو حنيفة عمّن قال لزوجته على سُلّم: إن صعدت فأنت طالق، وإن نزلت فأنت طالق، ما الحيلة فيها؟ قال: يحمل السلّم وهي عليه فيوضع بالأرض، أو تحمل بغير إرادتها فتوضع بالأرض.
·        العُرف.
يقول السرخسي: والمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص. فالمعروف عُرفًا كالمشروط شرعًا، فمن نصّب نفسه للعمل بالأجرة فإن السكوت على عدم تحديد الأجرة كاشتراطها.
3. أثره في الفقه الإسلامي
الإمام أبو حنيفة مدرسة فقهية متميزة تأثرت بها جماعة من العلماء من أبرزهم: عبد الله بن المبارك، والشافعي، ويحيى بن سعيد، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد بن الحسن، وسفيان الثوري.
قال رجل عند وكيع: أخطأ أبو حنيفة فزجره وكيع، وقال: من يقول هذا كالأنعام بل هو أضل سبيلا، كيف يخطئ وعنده أئمة كأبي يوسف، ومحمد، وأئمة الحديث وعددهم، وأئمة اللغة العربية وعددهم، وأئمة الزهد والورع كالفضيل، وداود الطائي، ومن كان أصحابه هؤلاء لم يكن ليخطئ؛ لأنه إن أخطأ ردوه للحق.
وانتشر مذهبه في أقاليم ليس فيها غيره، كالهند والسند والروم وما وراء النهر، ساعد على ذلك تولي أبي يوسف القضاء أيام هارون الرشيد، وعيّن هنالك قضاة من أتباع أبي حنيفة.









القواعد الفقهية
القواعد في اللغة: 
‎‎ جمع قاعدة وهي أساس البناء.‏
في الاصطلاح :‏
 هي أصول فقهية كلية في نصوص موجزة.
فوائد دراسة القواعد الفقهية :‏
 1.  تسهل على غير المختصين الاطلاع على الفقه الإسلامي ، ومدى استيعابه للأحكام .‏
2. تكوّن لدى الباحث ملكة فقهية قوية ، واستنباط الحلول للوقائع المتجددة.
3. تساعد الفقيه على ربط الفقه بأبوابه المتعددة يجمعها قياس واحد ، يساعد على حفظ الفقه وضبطه .‏
4. القواعد الفقهية موضع اتفاق بين الأئمة المجتهدين ، ودراستها تنمي عند الباحث ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة .‏
أشهر الكتب في القواعد الفقهية :‏
1.     كتاب : تأسيس النظر للإمام الدبوسي (ت: 430هـ). وقد  على خمسة وثمانين أصلا.‏
2.     كتاب للإمام العز بن عبد السلام (ت: 616) وهو المسمى بالقواعد الكبرى، وكتاب القواعد الصغرى.‏
3.     كتاب الفروق، للإمام القرافي (ت: 684هـ)
4.     كتاب (الأشباه والنظائر ) للإمام ابن الوكيل (ت: 716 هـ).
5.     كتاب (القواعد) للمقري المالكي (ت: 758 هـ).
6.     كتاب (الأشباه والنظائر ) للسبكي الشافعي (ت: 771هـ).
7.     (المنثور في ترتيب القواعد الفقهية )، للإمام الزركشي (ت: 794 هـ).
8.     (تقرير القواعد وتحرير الفوائد ) لابن رجب الحنبلي(ت: 795هـ).
9.     كتاب (الأشباه والنظائر ) للإمام السيوطي(ت: 911هـ).
10.                       كتاب إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك لأحمد بن يحيى الونشريسي المالكي (ت: 914هـ).
11.                       كتاب (الأشباه والنظائر )، للإمام ابن نجيم الحنفي (ت: 970هـ).
12.                       مجلة الأحكام العدلية العثمانية الصادرة سنة 1286هـ، صدرت بتسع وتسعين قاعدة فقهية مختارة.
13.                       كتاب (القواعد الفقهية نشأتها وتطورها ) للشيخ على بن أحمد الندوي، وهو أطروحة ماجستير جامعة أم القرى.

القواعد الكلية:‏
القاعدة الأولى: "قاعدة الأمور بمقاصدها":‏
‎‎ دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه. ‏
معناها إن أعمال المكلف وتصرفاته من قولية أو فعلية تختلف آثارها، وأحكامها الشرعية باختلاف مقصود العبد من تلك التصرفات.‏
أمثلة على القاعدة : ‏
1. ‏ من قتل غيره عامدًا فلفعله حكم وإذا كان مخطئًا فلفعله حكم آخر.‏
2. ومن قال لغيره : خذ هذا المال ، فإن نوى التبرع كان هبة ، وإلا كان قرضًا واجب الإعادة ، أو أمانة وجب عليه حفظها وإلا كان ضامنًا. فصورة الإعطاء واحدة ، ولكن المقاصد من وراء ذلك مختلفة، فتترتب الأحكام تبعًا لتلك المقاصد والأهداف .‏
القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة :‏
1. ‏العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني .‏
2. النية تعمم الخاص ، وتخصص العام .‏
3. اليمين على نية الحالف .‏
القاعدة الثانية : "اليقين لا يزول بالشك ":‏
ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟. فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) رواه مسلم .‏
معنى القاعدة :‏
أن الأمرَ المتيقَنَ ثبوتُه لا يرتفع إلا بدليل قاطع ، ولا يحكم بزواله لمجرد الشك ، كذلك الأمر الذي تيقنا عدم ثبوته لا يحكم بثبوته بمجرد الشك .‏
‎‎ أمثلة للقاعدة: ‏
‎‎ - المستيقن للطهارة إذا شك في الحدث فهو متطهر. ‏
‎‎ وإذا ثبت دين على شخص وشككنا في وفائه، فالدين باق. ‏


القواعد الفرعية المندرجة تحت هذه القاعدة:‏
1. ‏ الأصل بقاء ما كان على ما كان.‏
2. الأصل براءة الذمة.‏
3. ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.‏
4. الأصل في الصفات والأمور العارضة عدمها.‏
5. الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.‏
6. الأصل في الأشياء الإباحة عند الجمهور.‏
7. الأصل في الأبضاع التحريم.‏
8. لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح.‏
‎‎9. لا ينسب إلى ساكت قول.‏
10. لا عبرة بالتوهم.‏
‎‎11. لا عبرة بالظن البين خطؤه.‏

القاعدة الثالثة: "المشقة تجلب التيسير": ‏
دليلها قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185].‏
معنى القاعدة:‏
أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه، أو ماله، فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر أو إحراج.‏
‎‎ ومن أمثلة هذه القاعدة: قصر الصلاة والفطر للمسافر، وقوله صلى الله عليه وسلم في حق المريض: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا .........الحديث ) رواه البخاري.‏
القواعد الفرعية المندرجة تحت هذه القاعدة:‏
1. ‏إذا ضاق الأمر اتسع.‏
2. الضرورات تبيح المحظورات.‏
3. ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.‏
4. ما جاز لعذر بطل بزواله.‏
5. الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة.‏
6. الاضطرار لا يبطل حق الغير.‏
7. إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل.‏

القاعدة الكلية الرابعة: "لا ضر ولا ضرار":‏
دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار ) رواه بن ماجه، وصححه الألباني.‏
معنى القاعدة:‏
أن الفعل الضار محرم، وتترتب عليه نتائجه في التعويض المالي أو العقوبة.‏
وتلغي فكرة الثأر والانتقام.‏
القواعد الفرعية المندرجة تحتها:‏
1. ‏الضرر يدفع بقدر الإمكان.‏
2. الضرر يزال.‏
3. الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.‏
4. يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.‏
5. درء المفاسد أولى من جلب المصالح.‏
القاعدة الكلية الخامسة: "العادة محكمة": ‏
ودليلها قول الله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف ِ} [البقرة: 228].‏
‎‎ وقوله صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) متفق عليه.‏
معنى القاعدة:‏
ومعناها أن العادة مرجع في الأمور الشرعية المطلقة التي لم تحدد، مثل ضابط نفقة الزوجة والأولاد ونحو ذلك.

أمثلة للقاعدة:‏
1. ‏ نفقة الزوجة واجبة، لكن تحديد مقدارها يرد إلى عرف الناس، فما جرى به العرف في العادة عمل به.‏
2. نفقة الأبناء.‏
القواعد الفرعية المندرجة تحتها:‏
1. إنما تعتبر (تحكم) العادة إذا اضطردت وغلبت .‏
2. العبرة للغالب الشائع لا النادر.‏
3. الإشارة المعهودة للآخرين كالبيان باللسان.‏
4. المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.‏
5. التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.‏
6. المعروف بين التجار كالمشروط بينهم. ‏

تعليقات