القائمة الرئيسية

الصفحات



التنازل عن القصاص بشــــــــــرط مغادرة البلاد


التنازل عن القصاص بشــــــــــرط مغادرة البلاد







إعداد:
نايف بن علي بن عبدالله القفاري



  

الحمد لله وحده، وبعد:
فيحصل في بعض دعاوى القصاص أن يتنازل أولياء الدم عن المطالبة بالقود؛ لكن بشرط ألا يدخل القاتل بلدة بعينها، وأحياناً بشرط أن يغادر دولة أو دول بأكملها!
وقد كان الدافع لتحريره قضية قصاص تنازل فيها الأولياء عن القتل بشرط دفع عوض مالي (ثلاثة ملايين) وألا يسكن الجاني المملكة ودولة قطر، وانتهى فصل القضاء بذلك صلحاً بين الجاني وأولياء الدم.
فجرت مكاتبات حول صحة هذا الشرط، وهل يعد تعسفاً مع تنازل الأولياء مقابل مبلغ مالي كبير، وأن تنفيذ هذا الشرط أمامه عراقيل منها أنه لا يمكن فرض قبول الجاني على دولة أخرى، ويصعب منعه من دخول الدولة التي اشترط الأولياء عليه ألا يدخلها.
هذا البحث حاول معالجة هذه المسألة بأبعادها..
وهو من تركة المحكمة العليا، شاركني في إعداده شيخان فاضلان رغبا ألا يذكر اسمهما.
وقد انتظم البحث في أربعة مباحث ونتيجة.
أسأل الله تعالى أن ينفع به ويتقبله بقبول حسن، وأن يجعله من الباقيات الصالحات، وأن يمن على الجميع بالهداية والسداد.

المبحث  الأول : حكم الصلح  في جنايات العمد


تكاثرت النصوص الدالة على مشروعية الصلح في الجنايات سواء من الكتاب أو السنة أو فعل الصحابة .
فمن الكتاب : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ([1]).
ومن السنة : ما جاء عن أنس t أنه قال : ( ما رُفع إلى رسول الله r شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) ([2]).
ومنها أيضاً : ما جاء عن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي r بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً فَلاّجه رجل فى صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي r فقالوا : القود يا رسول الله. فقال النبي r : " لكم كذا وكذا " ، فلم يرضوا ، فقال : " لكم كذا وكذا ". فلم يرضوا ، فقال : " لكم كذا وكذا " فرضوا.، فقال النبي r: " إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم " فقالوا : نعم.، فخطب رسول الله r فقال : " إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود ، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا ، أرضيتم ؟ ".قالوا : لا . فهمَّ المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله r أن يكفوا عنهم فكفوا ، ثم دعاهم فزادهم فقال : " أرضيتم ".فقالوا : نعم.، قال : " إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم ". قالوا : نعم.،  فخطب النبي r فقال : " أرضيتم ؟ ".قالوا نعم.) ([3])
قال ابن قدامة : ( مسألة : قال : ( وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به , فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد , فللأولياء قبول ذلك ) وجملته أن من له القصاص , له أن يصالح عنه بأكثر من الدية , وبقدرها وأقل منها , لا أعلم فيه خلافاً ; لما روى عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن جده , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول ; فإن شاءوا قتلوا , وإن شاءوا أخذوا الدية , ثلاثين حقة , وثلاثين جذعة , وأربعين خلفة , وما صولحوا عليه فهو لهم ([4])، وذلك لتشديد القتل " رواه الترمذي , وقال : حديث حسن غريب ؛ وروينا أن هدبة بن خشرم قتل قتيلاً , فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات , ليعفو عنه , فأبى ذلك , وقتله([5])؛ ولأنه عوض عن غير مال , فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه , كالصداق , وعوض الخلع ؛ ولأنه صلح عما لا يجري فيه الربا , فأشبه الصلح عن العروض )([6])أهـ.



المبحث الثاني : حكم شرط مغادرة البلاد في التنازل عن القصاص .


بعد بحث لم ينص على عين هذا الشرط -فيما وقفنا عليه- سوى المالكية وبعض الحنابلة([7]).

أما المالكية : فاختلفوا في هذا الشرط على رأيين :
الأول : أن الصلح بشرط مغادرة البلاد غير صحيح ، ولصاحب الدم أن يقوم بالقصاص ولو ارتحل الجاني . وهذا رأي ابن القاسم .
الثاني : أن الصلح بشرط مغادرة البلاد صحيح ، فإذا لم يرتحل الجاني أو ارتحل ثم عاد فلأولياء الدم القود – إن ثبت لهم القود ، وإن لم يثبت فلهم العود للخصومة ولا يكون الصلح قاطعاً لدعواهم - . وهذا رأي أصبغ والمغيرة واستحسنه سحنون ، وهو المشهور المعمول به عندهم ([8]) .

جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : (( فرع ) لو وقع الصلح على أن يرتحل القاتل من بلد الأولياء : فقال ابن القاسم : الصلح منتقض ولصاحب الدم أن يقوم بالقصاص ولو ارتحل الجاني ، وقال المغيرة : يجوز ويحكم على القاتل أن لا يساكنهم أبداً كما شرطوه ، وهذا هو المشهور المعمول به واستحسنه سحنون ، وعليه : فإن لم يرتحل القاتل أو عاد وكان الدم قد ثبت كان لهم القود في العمد والدية في الخطأ ، وإن لم يثبت كان لورثة المقتول العود للخصام ولا يكون الصلح قاطعاً لخصامهم لانتقاضه .

وأما الحنابلة الذين نصوا على هذا الشرط : فهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم .
سئل ابن تيمية رحمه الله : عن رجل قتل قتيلاً ، وله أب وأم ، وقد وهبا للقاتل دم ولدهما ، وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم، ولا يسكن فيها ، ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل ، فإذا سكن ، فهل يجوز لهم المطالبة بالدم، أم لا ؟ .
فأجاب :
( الحمد لله ، إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا ؛ بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء ([9])، وبالدم في قول آخر ([10]). وسواء قيل : هذا الشرط صحيح أم فاسد ([11])، وسواء قيل : يفسد العقد بفساده أو لا يفسد ، فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول ) ([12]) .
ونقل رأي ابن تيمية من الحنابلة : الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم في حاشيته على الروض([13])، والشيخ فيصل آل مبارك في كتابه الموسوم بــــــــــــــ: كلمات السداد على متن الزاد ([14]).

وأما الشيخ محمد ابن إبراهيم فله في مسألتنا أكثر من فتوى ، ننقلها هنا كما هي بلا تصرف :
v   من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العالي. الموقر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد:
فقد جرى الإطلاع على المعاملة المحالة إلينا بخطاب الديوان العالي رقم 7/14/2220 وتاريخ 8/9/1376هـ الخاص بتنازل ورثة القتيل علي بن محمد بن هادي عن قاتل مورثهم محمد بن محمد بن هادي تنازلاً كلياً من القصاص والدية، بشرط مغادرة القاتل بلاد (قنا والبحر) مدى حياته.
ونفيدكم أن هذا التنازل صحيح ما دام ملتزماً شرطه. والله يحفظكم .([15])

v   من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا رفق خطاب سموكم برقم 12529 وتاريخ 614/1380هـ المتعلقة بقتل معايل بن جابر الحليجي واعتراف محمد بن سلطان الحليجي بقتله، المشتملة على الحكم الشرعي الصادر من قاضي رفيده المدرج بخطابه الموجه إلى أمير رفيده بعدد 354 وتاريخ 15/11/79هـ حول الإفادة عن القضية.
وبتتبع المعاملة ومرفقاتها ودراسة الحكم المشار إليه أعلاه المتضمن اعتراف محمد بن سلطان بقتل معايل بن جابر الحليجي وانحصار إرث القتيل في والدته شريفة بنت غرامة والدة يحيى بن جابر الحليجي، والحكم بأن القتل عمد محض، وتنازل والدة القتيل من القصاص إلى الدية بشرط أن تكون الدية على عوائدهم، وألا يحل القاتل في الأرض التي هي فيها ولا تراه بعينها، كما تضمن الحكم بسقوط القصاص عن القاتل، وأرجأ حاكم القضية ما يتعلق بشرط أم القتيل إلى ولي الأمر.
ونفيد سموكم أن ما أجراه حاكم القضية نحو قرار سقوط القصاص عن القاتل ظاهره الصحة، أما ما يتعلق بالشروط التي اشترطتها أم القتيل وهي أن تكون الدية على عوائدهم ومقدارها ثمانمائة وخمسة وأربعون رأساً من الغنم وبعير وألا يحل القاتل في الأرض التي هي فيها ولا تراه بعينها فهي شروط صحيحة ولا بأس من اعتماد تنازلها على تحقيقها لها، وبالله التوفيق، والله يحفظكم ([16]).

فيؤخذ من كلام الشيخ :
·        صحة الشرط ، بل الشيخ توسع فيه حتى نص على صحة الشرط رغم أنه معلق بفعل المرأة  ( وألا تراه بعينها) ! .
·        يؤخذ من قوله : (هذا التنازل صحيح ما دام ملتزماً شرطه) أنه إذا لم يلتزم بشرطه حق لهم المطالبة بحقهم .

هذا مجمل ما وقفنا عليه .

وإذا تأملنا هذا الشرط وعرضناه على قواعد الشريعة لم نجد فيه ما يوجب رده أو منعه ، وبيان ذلك فيما يلي :
أولاً : أن الأصل في الشروط الإباحة ؛ لما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة t أن النبي r قال: " المسلمون على شروطهم "([17]) ؛ وقد قرر الفقهاء أن الشرط هو : ( إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ) متعلق بإلزام ( ما ) ; أي : شيء ( له ) ; أي : الملزم ( فيه منفعة ); أي : غرض صحيح ) ([18])، والمنفعة في شرط مغادرة البلاد ظاهرة وهي غرض صحيح، فإن الأولياء قد يتضرروا برؤية قاتل مورثهم ؛ بل ولو لم يروه فإن بقائه مساكناً لهم أو قريباً منهم يلزم منه غالباً علمهم بخبره ودوران اسمه على أسماعهم وهو أيضاً مضر بهم ويجدد حزنهم.
كما أنه قد يضر بالجاني ، فإن بعض الأولياء حتى وإن تنازل أو عفى لا يأمن حين يلقى الجاني أن ينزغ الشيطان بينهما فيقتله ، ولهذا حذر الله منه في آية القصاص ، فقال : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ، والاعتداء هنا – كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما – هو القتل بعد قبول الدية ([19]) .

ثانياً : أن هذا الشرط داخل في باب الصلح ، والأصل في الصلح أن مرده لطرفي النزاع فكيفما اتفقا على شيء لا يعارض أمر الشارع أو نهيه فهما على اصطلحا عليه .
يدل لذلك عموم قوله r : " الصلح جائز بين المسلمين " ([20]) .وليس في نفي القاتل عن بلد الجناية ما يعارض أمر الشريعة أو نهيها ، فليس خروج المرء من بلدة لغرض مقصود أو لزومه أخرى محظور في الشرع - ما لم تكن البلدة دار كفر أو دار قوم عذبوا - .
ثالثاً : أن الصلح على خروج الجاني من بلد معين له أصلٌ من العقوبات المقررة شرعاً ، فنظيره في الحدود : تغريب الزاني إذا لم يحصن ، وعقوبة المحارب في بعض الحالات { أو ينفوا من الأرض } .
ونظيره من التعازير : ما أخرجه أبو داود عن أبى هريرة أن النبي r أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال النبي r : " ما بال هذا ". فقيل : يا رسول الله يتشبه بالنساء.! فأمر به فنُفي إلى النقيع فقالوا يا رسول الله ألا نقتله فقال :" إني نهيت عن قتل المصلين ". قال أبو أسامة : والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع ([21]).
ومنه أيضاً : نفي عمر بن الخطاب t لنصر بن حجاج إلى البصرة لما تشبب به نساء المدينة ، كما ألحق به أيضاً : أبا ذئب من بني سليم لذات الأمر ([22]) .
ومنه أيضاً : نفيه t لصبيغ لما جعل يسأل عن متشابه القرآن ([23]) .

رابعاً : أن الأولياء إذا ملكوا بالقود حق نفيه من ظاهر الأرض إلى باطنها ، فلأن يملكوا حق نفيه من بعض ظاهر الأرض أولى .

خامساً : أن القول بمنع هذا الشرط قد يفضي إلى المطالبة بالقصاص ، ومما لا شك فيه أن القبول بهذا الشرط إذا أراده أولياء الدم ألطف بالجاني من القود وأحب إليه ، فجنس البشر يكره الموت ([24]) ، وفي المنع من هذا الشرط إلجاء للأولياء – في بعض الأحيان – إلى طلب القصاص ، ولا يسوغ شرعاً أن يلزم الأولياء بقصر التنازل على عوض مالي ، فالأمر في الصلح مرده إلى الطرفين – الأولياء والجاني -. فإذا لجأ الأولياء للقود بسبب ما ذُكر ترتب عليه :
مخالفة الأمر المستحب في كل قود ([25])وهو العفو عن القصاص ، فقد كان من منهجه r في باب القصاص عرض العفو ، جاء عن أنس t أنه قال : ( ما رُفع إلى رسول الله r شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) ([26]). والعفو كما فسره ابن عباس t : هو قبول الدية ، أخرج البخاري في صحيحه عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : ( كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء } فالعفو أن يقبل الدية في العمد { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } مما كتب على من كان قبلكم { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قتل بعد قبول الدية ) ([27]) . وهذا هو السادس وهو تمام العقد .

ثم إن في عقوبة التغريب بالنسبة للجاني من المحاسن ما يجعلها أولى من تعزيره  بالحبس أو غيره، يقول الدكتور عبد العزيز عامر – في أثناء حديثه عن عقوبة النفي عموماً - : ( يحسن الأخذ بعقوبة التغريب لأسباب منها :
1.     أنها تحقق الأغراض المتوخاة من فرض العقاب ، ففيها الإيحاش للجاني ، مما يكفي لزجره وإصلاحه .
2.     وهي في نفس الوقت لا تكلف الدولة نفقات معيشة المحكوم عليه ولا النفقات الكثيرة التي تتكبدها في السجون .
3.     وفضلاً عن ذلك فإن المحكوم عليه لا يكون فيها عالة على المجتمع معدوم الإنتاج تقريباً كما في الحبس .
4.     وهي كذلك لا تتعدى الجاني إلى غيره من أهله ومن يعولهم ، فإن لهم الانتقال معه ، وعليه نفقتهم ، كما لو لم يكن محكوماً عليه بالتغريب ) أهــ ([28]) .

بهذا يتبين أن شرط مغادرة البلاد على الجاني مقابل التنازل عن القود حق مشروع للأولياء؛ ولكن هل استعمالهم لهذا الحق بوقف تنازلهم عن القصاص إلا به يُعد من المُضَارَّة ؟
هذا ما سنبينه في المبحث الثالث.


المبحث الثالث :
شرط مغادرة البلاد للتنازل عن القصاص وصلته بالمضارة (التعسف في استعمال الحق)


وصفت البرقية –المذكورة-اشتراط أولياء الدم على الجاني مغادرة بلاد معينة بأنه ( يُعد تعسفاً في الشرط ) . فما معنى التعسف ؟ وهل يعد هذا الشرط تعسفاً أم لا ؟ . هذا ما سنحاول الكشف عنه في هذا المبحث .

أولاً : معنى التعسف ([29]):
التَّعسُّف في استعمال الحقِّ تعبيرٌ واردٌ إلينا عن الحقوقِيِّين الغربيين، فيجمل بنا أن نعرفه بما أرادوا منه، ثم نتكلَّم عمَّا يقابله في الفقه الإسلامي.
فالتَّعسف في استعمال الحق عندهم هو: استعمال الحق على وجه غير مشروع، فالمفروض أن الحق أمر مشروع ومباح الاستخدام؛ ولكن الذي استعمله نحا في ذلك نحوًا غير مشروع .
وفرق بين التَّعسف وبين الفعل الضار أو الامتناع الضار؛ لأن الأخيرين أمر غير مشروع، أي ممنوع ومحرم من أول الأمر.
أما التعسف فهو استعمال الحق المشروع على وجه غير مشروع .
والتَّقنينات الحديثة تقسم التعسف في استعمال الحق إلى ثلاثة أحوال ، هي:
الأول: أن يأتي الإنسان بعمل مشروع، ويقصد به الإضرار بالغير من غير أن تكون له مصلحة فيه.
الثاني: أن يأتي بعمل مشروع للحصول على مصلحة ضئيلة له، لا تتناسب مع الضرر العظيم الذي لحق الغير من جراء هذا العمل.
الثالث أن يأتي بعمل مشروع يقصد به تحقيق مصلحة غير مشروعة، وقد نص على هذا القانون المصري في المادة 4، 5؛ والقانون السوري 5، 6.

هذا هو معناه عندهم ، والذي يقابله في الفقه الإسلامي ، هو :
تصرفٌ كل شخصٍ في حقِّه تصرُّفًا غيرَ مُعتاد شرعًا. أو يقال([30]): تصرف الشخص في حقه تصرفاً يضر بغيره ضرراً خارجاً عن المعتاد .
ويمكن حصر أصول مسائل التعسف في استعمال الحق عند فقهائنا في أربعة أصول بالاستقراء :
الأصل الأول:
ما إذا استعمل حقَّهُ لا يقصد من ذلك إلا الإضرار بغيره، وليست له مصلحة فيه، ومثاله : ما جاء في فقه المالكية - كما في "التبصرة" - : لو ادعى الصعاليك على أهل الفضل دعاوى باطلة، وليس غرضهم من هذا إلا أن يشهروا بهم ويوقفوهم أمام القضاء للإيلام والامتهان لا تسمع الدعوى ويؤدَّب المدعي أهـ.
ومنه أيضاً : الزوج يريد أن يسافر بزوجه إلى بلد بعيد، وهو غير مأمون عليها، لا يريد بذلك إلا الإضرار بها وإيذاءها أو سلب مالها، فيُقضى بمنعه من السفر بها للإضرار، وقد قال تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} يعنِي: لا تضاروا المعتدَّات في السكنى؛ فالزوجات أولى ألا تضاروهن.
والأصل في مسائل هذا الباب تحريم إمساك المعتدة بقصد الإضرار بها، وتحريم وصية الضرار وبطلانها، وتحريم طلاق المريض ليفر به من ميراث زوجته؛ فتقاس سائر مسائله عليهما لاتحاد العلة، وهي قصد الإضرار .

الأصل الثاني:
أن يستعمل الإنسان حقًّا يقصد به تحقيق مصلحة له فتترتب عليه مفاسد وأضرار لاحقة بالغير، وهي أعظم من هذه المصلحة أو مساوية لها، وذلك كاحتكار ما يحتاج إليه الناس في أوقات الغلاء أو القحط يقصد به البيع بثمن مرتفع، فإن المحتكر يريد من ذلك مصلحة الربح الكبير؛ لكن يترتب على هذا ضرر عظيم يلحق الجماعة ، ومن هنا يمنع من الاحتكار ويباع عليه ما احتكره بثمن المثل إن امتنع من البيع.
ومنه تلقي التاجر للوافدين إلى السوق من أهل الريف والبادية، وشراء ما جلبوه بالثمن الرخيص لبيعه لأهل المدينة غاليًا؛ حيث يضر ذلك بأهل المدينة وبالوافدين، وقد نهى عنه النبي r- قال: "ولا تلقوا الركبان للبيع".
ومنه بيع السلاح في أيام الفتنة، أو لقطاع الطريق، وبيع العصير ممن يتخذه خمرًا، وبيع الحاضر للبادي، حيث قال الإمام أحمد ببطلان هذه العقود لرجحان المفسدة.
والمسائل المنصوص على حكمها مِمَّا قدمنا أصل في هذا النوع، فيثبت الحكم لنظائرها بالقياس، وإن شئت أثبته بالمصلحة إن تعذر القياس.

الأصل الثالث :
أن يستعمل حقه المشروع عقدًا أو غيره يقصد به تحقيق غرض غير مشروع مغاير للغرض الذي وضعه له الشارع.
وهذا كالبيع الذي يقصد به الربا، ومن هنا نهى النبي r عن بيع وسلف؛ لأنه يؤدي إلى الربا .
ومنه زواج التحليل فإن الزواج موضوع للعشرة الدائمة وتكوين الأسرة، وقصد به عمل مؤقت مذموم عند الله .
ومنه البيع الذي قصد به إسقاط الشفعة، وهبة المال التي قصد بها الواهب إسقاط فريضة الزكاة أو الحج، فما ثبت بالنَّصِّ في هذا الباب يعتبر أصلاً وغيره يقاس عليه[3].

هذه الأصول الثلاثة للتعسف في استعمال الحق مبنية على أصل عظيم من أصول الشريعة، وهو سد ذرائع الفساد .
وضابطُها أنَّ الشَّارع إذا حرم شيئًا حرَّم وسائِلَهُ المُفْضِية إليه، وهذا يتحقَّق فيما إذا أفضَت الوسيلة إلى ضرَرٍ مَقصودٍ أو إلى مَصلَحةٍ معها مفسدةٌ تُساوِيها، أو تترجَّحُ عليْها، أو إلى غرض حرَّمه الشارع كالربا والزنا، وبالجملة: إذا أفضت إلى إسقاط الواجبات وإحلال المحرمات.
وهذا الأصل تثبته أدلة كثير في الشريعة؛ منها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فإنَّ مفسدةَ سبِّهم للإله الحقِّ أعظم من مصلحة سبِّ الأصنام المباح، فمنع السب المباح لذلك، ومنها قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، حيثُ حرَّم الضرب المباح لما فيه من إثارة الميول الخسيسة ، ومنها امتناعُه r من قتل المنافقين حيث علل ذلك بقوله: " لا يتحدث الناس أنَّ مُحمَّدًا يقتل أصحابه"؛ لأن مفسدة تنفير الناس من الإسلام ونبي الإسلام أعظم من مصلحة القتل.
وقد أطلنا بعض الشيء في ذكر الأدلة؛ ليظهر ظهور النهار أنَّ ما يخاله الناس قواعد قانونية مبتكرة لأهل الغرب هو من ضروريات الشريعة المحكمة .
وهذه الأنواع كذلك مبنيَّة على أصل آخر ، وهو : أن الحيل التي تؤدي إلى إسقاط واجب؛ أو إحلال محرم تقع باطلة .
تدل عليه كثرة من الأدلَّة منها قول النبي r " لعن الله اليهود: إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها - أي أذابوها - فباعوها وأكلوا ثمنها "

الأصل الرابع :
أن يستعمل الإنسان حقه لكن دون احتراس وتثبت فيما يمكن فيه الاحتراس، فيفضي هذا إلى الإضرار بالغير .
وذلك كما إذا أراد أن يصيد طيرًا فطاش سهمه وأصاب إنسانًا أو حيوانًا بضرر، فإن الصيد حق مباح، ولكنه لم يحترس في استعماله له، ولم يتثبت فأدى إلى ضرر الغير، وهو المعروف بالخطأ في الفعل، وكما إذا ضرب دابة غيره يظن أنها دابته فأعطبها، أو قطف ثمر غيره يظن أنها ثمره، وهو المعروف بالخطأ في القصد، وهذا تعسف في استعمال الحق لانطباق تعريفه عليه.
وحكمه: ضمان هذا الضرر إنسانًا أو حيوانًا ؛ لأن القرآن يدل على تضمين المخطئ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
لكن محل ضمان الضرر في هذا الأصل إذا أمكن الاحتراس عنه عادة، أما إذا لم يمكن فلا ضمان كالطبيب إذا أجرى جراحة على النحو المعتاد بين الأطباء فتلف بها إنسان، وذلك لاختلاف طبائع الناس واحتمالهم للجراحات.
أما إذا أمكن الاحتراس فإنه يكون مقصرًا؛ كالحمال إذا زلقت رجله فأتلف ما يحمله، والكواء إذا أحرق الثوب الذي يكويه
وقاعدة الحنفية في هذه المسألة أن الإنسان إذا أتى بمباح فترتب عليه ضرر بالغير ضمن؛ لأن استعمال المباح مشروط بالسلامة، والضرر دليل عدم الاحتراس، وذلك كالمرور في الطريق وضرب الزوجة لترك الطاعة، وإن فعل واجبًا عليه فترتب عليه ضرر لا يضمن كمنفذ الأحكام والفصاد الذي يعمل بالأجرة؛ لأنه مسلط على ذلك إلا إذا تجاوز ما أمر به أو أمكن الاحتراس عن الضرر فحينئذ يضمن، وقال الشافعي: يضمن في تنفيذ الأحكام
وقد يبدو غريبًا ذكر الأصل الرابع في أنواع التعسف، ولكننا رأينا هذا لأنه ينطبق عليه تعريفه، وإلا فالكل في نظر الفقه من باب التعدي على سبيل التسبب .
إذا عرفنا هذه الأصول تبيَّن أنَّ التَّعسُّفَ في استعمال الحقِّ في حكم الفِقْهِ ، هو : من الفعل الضارِّ أو الامتناع الضَّارِّ أو العقد المحرم .
ويترتب على التعسف شرعاً :
·        إما التعويض : إذا أدى إلى إتلاف مال أو نفس ؛ كمن حفر في ملكه بجوار حائط جاره فانهدمت .
·        وإما الإبطال : إذا كان في التعاقد ؛ كوصية الضرار ؛ وكالجمع بين بيع وسلف .
·        وإما رفع الضرر : كبناء المالك ملاصقًا لجاره فسدَّ عليه نوافذ الضوء والهواء، وكجباية ضرائب ظالمة ومنع المحتكر.
·        وإما التعزير : كما في دعاوى التشهير .
·        وإما المنع من ممارسة الحق المتعسف في استعماله : كما في منع الزوج من السفر بزوجه إذا قصد به إيذاءها، والحجر على المديان، والمفتي المحتال على المحرمات، والطبيب الجاهل.

لعلنا تبيَّنا من العرض الموجز أن هذه النظرية غدت مستوعبة لجميع حالات التعسف، واضحة المعالم لبنائها على أصول مضبوطة لا اضطراب فيها، فإن مبنى الأصل الأول وهو قصد الضرر، وإن كان أمرًا شخصيًّا لكن يمكن كشفه بالقرائن الظاهرة، والأصل الثاني مبني على مقياس مادي، وهو الموازنة بين المصلحة والمفسدة، والأصل الثالث معياره معرفة النظم الإسلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكل عمل مأذون فيه يراد به تحقيق غرض يخالف هذه الأنظمة يعتبر من التعسف كمن أهدى ويريد الرشوة أو اشترى ويريد الربا أو تطوع للجندية ويريد التجسس على أنظمة الجيش، والأصل الرابع مبني على عدم الاحتراس من الضرر وهو واضح يكاد يدل على نفسه.
أما القوانين الأجنبية التي يقال عنها: إنها تقدمية وافية، فإنها لم تعرف هذه النظرية إلا في هذا العصر، ومع هذا فهي فيها ناقصة وغامضة، فالقانون السويسري يبنيها على سوء النية وكفى، والقانون الروسي يبنيها على مخالفة الأغراض الاجتماعية والاقتصادية لا غير.
ولهذا أحسن واضعو القانونين: المصري، والسوري في استمدادها من الفقه الإسلامي ؛ لأنهم وجدوها فيه تَجمع بين الوضوح والوفاء بخلاف القانون اللبناني؛ فإن جسران الفرنسي - واضع هذا القانون - استمدَّها من القوانين الغربية ؛ ولهذا جاءت فيه ناقصة .
لكن يلاحظ على القانونين المصري والسوري أنهما قصرا أحوال التعسف على الثلاثة الأولى، وتركا حالة التعسف بسبب عدم الاحتراس مع أنَّ معنى التعسف فيها أوضح.

هذا معنى التعسف عند القانونين ونظيره عند الشرعيين ؛ لكن بقي بيان هل شرط مغادرة البلاد على الجاني مقابل التنازل عن القود يُعد من قبيل التعسف في استعمال الحق أم لا ؟ .




ثانياً : التنازل عن القود بشرط مغادرة البلاد هل يُعد تعسفاً ؟ .


يحسن بنا قبل أن نجيب على هذا السؤال أن نورد هنا خبراً رواه البخاري في صحيحه :
عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال : ( خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار ، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي : هل لك في وحشي نسأله عن قتله حمزة ؟ قلت : نعم ، ... ثم قال ألا تخبرنا بقتل حمزة ؟ قال : نعم ، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر ، فقال لي مولاي جبير بن مطعم : إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر . قال : فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال ، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال : هل من مبارز ؟ قال : فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال : يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ اللَّهَ ورسوله r ؟ قال : ثم أشد عليه ، فكان كأمس الذاهب ، قال : وكمنت لحمزة تحت صخرة فلما دنا مني رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ ، قال : فكان ذاك العهد به ، فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام ، ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله r رسولاً ، فقيل لي : إنه لا يهيج الرسل ، قال : فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله r فلما رآني قال : " آنت وحشي ؟" قلت : نعم ، قال : " أنت قتلت حمزة ؟ " قلت : قد كان من الأمر ما بلغك ، قال : " فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني " قال : فخرجت فلما قبض رسول الله r فخرج مسيلمة الكذاب ، قلت : لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة ، قال : فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان ، قال : فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس ، قال : فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه ، قال : ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته ) ([31])
قال ابن حجر في الفتح : ( زاد الطيالسي " فكنت أتقي أن يراني " . ولابن عائذ " فما رآني حتى مات " . وعند الطبراني " فقال : يا وحشي ، اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تصد عن سبيل الله " ) ([32]) .
إن من جبلة الإنسان كراهة من ظلمه أو ظلم حميمه ، ولا يلزم من الكره الهجران أو إلحاق الأذى بمن يبغضه . وخبر وحشي t أصلٌ في أن كراهة الأولياء رؤية قاتل مورثهم أمر فطري ؛ لم تأت الشريعة بدفعه .
قال ابن حجر في الفتح ضمن الفوائد المستفادة من خبر وحشي t : ( وفيه : أن المرء يكره أن يرى من أوصل إلى قريبه أو صديقه أذى ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهجرة المنهية بينهما) ([33]) .
وقال ابن الجوزي : ( وقوله : " هل تستطيع أن تغيب وجهك عني " في هذا إشكال على من قل علمه ، فإنه يقول : إذا كان الإسلام يجب ما قبله فما وجه هذا القول من رسول الله r وهو قول يشبه موافقة الطبع ! وأين الحلم ؟ .
والجواب : أن الشرع لا يكلف نقل الطبع ، إنما يكلف ترك العمل بمقتضاه ، وكان النبي r كلما رأى وحشياً ذكر فعله فتغيظ عليه بالطبع ، وهذا يضر وحشياً في دينه ، فلعله أراد اللطف في إبعاده ) أهـ.([34])

إذا تقرر هذا فإنا نقول :
لا يصح وصف شرط مغادرة البلاد على الجاني مقابل التنازل عن الدم ، بأنه من قبيل التعسف في استعمال الحق ، لما يلي :
أولاً : لخبر وحشي t ، فقد أمره r أن يغيب وجهه عنه ، والتغييب يحتمل : أن المقصود به خروجه من البلدة التي يسكنها النبي r . وهذا الاحتمال يقويه : ما جاء عند الطبراني أنه r قال :"  يا وحشي ، اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تصد عن سبيل الله " .
ويحتمل : أن المقصود به ألا يريه وجهه من غير أن يخرج من البلد . ويقال هنا : إذا ثبت صحة قيد ألا يراه ، فإن تنفيذ هذا القيد بشرط مغادرة البلاد وسيلة لقصد صحيح ، والوسائل لها حكم المقاصد .
وما نحن فيه – أعني شرط مغادرة البلاد في القصاص – مقيس على خبر وحشي قياس أولى ، ووجه : إذا ثبت أن النبي r أمر به وحشياً t مع أنه لا قود عليه في قتله لحمزة t ، فمن باب أولى أن يثبت جنسه فيما فيه قود .

ثانياً : أن المقصود من القصاص التشفي ، وهو لا يكون إلا بإلحاق الضرر بالجاني : إما بالقود وهو مماثل للضرر الذي ألحقه الجاني بأولياء الدم (قتل الجاني = قتل المورث ) .
وإما بالدية ، وهي ضرر أيضاً يلحق مال الجاني .
وإما بالصلح : سواء على مال أكثر من الدية أو على منفعة أو غيره مما لا يحل حراماً أو يحرم حلالاً ، وهذا الصلح أيضاً حقيقة إلحاق ضرر بالجاني يعود على ماله أو منفعته ، وشرط مغادرة البلاد داخل فيه .

ثالثاً : أن شرط مغادرة البلاد مقابل التنازل عن القصاص لا يكون إلا برضا الطرفين – أولياء الدم والجاني - ، وقد كان الجاني يملك رفضه ولا زال يملك نقضه ؛ لكنه إن نقضه عاد عليه بالضرر ، فيحق للأولياء حينئذٍ أن يعيدوا الخصومة جذعةً . قال ابن حزم : ( ومن صالح عن دم , أو كسر سن , أو جراحة , أو عن شيء معين بشيء معين , فذلك جائز , فإن استحق بعضه , أو كله بطلت المصالحة وعاد على حقه في القود وغيره ; لأنه إنما ترك حقه بشيء لم يصح له وإلا فهو على حقه , فإذا لم يصح له ذلك الشيء فلم يترك حقه ) أهـ. ([35]) .

الحاصل أن قصد إلحاق الضرر بالجاني هنا هو الحق الثابت للأولياء أصلاً لا تبعاً ، وهو تصرف في الحق معتاد شرعاً ، بخلاف التعسف : الذي هو تصرف في الحق غير معتاد شرعاً .
أو إن شئت فقل : قصد إلحاق الضرر بالجاني – ومنه: شرط مغادرة البلاد - تصرف في الحق يضر بالجاني ضرراً معتاداً في الشرع ، بخلاف التعسف : الذي هو تصرف في الحق يضر بغيره ضرراً خارجاً عن المعتاد .

إذا تقرر أن التنازل عن القصاص مقابل مغادرة البلاد شرط صحيح ، وأنه ليس من باب التعسف في استعمال الحق ، فما هي حدود البلاد التي يصح اشترط مغادرتها خاصة مع التقسيم الحاصل في بلاد المسلمين ؟ . هذا ما سيأتي بيانه في المبحث التالي .



المبحث الرابع : حدود البلاد التي يصح اشتراط مغادرتها


لا يخفى واقع بلاد المسلمين -جمعهم الله على الهدى-، فالحال أن كل قطعة من أرض المسلمين دولة مستقلة، لها كيانها وسلطانها ، لا دخول إليها إلا بإذن ، ولا خروج منها إلا به، والبقاء الطويل يحتاج إلى إذن أيضاً !
وقد يشترط بعض الأولياء على الجاني ألا يسكن الدولة التي وقعت الجناية فيها ، أو يشترط ألا يسكنها هي مع دولة أخرى كما هو حال المعاملة منشأ البحث ، فقد اشترط الأولياء ألا يسكن السعودية وقطر .
والحال أنه وإن كان منع الجاني من دخول البلدة التي وقعت الجناية فيها ممكناً على الجهات التنفيذية ، إلا أنه قد يصعب في كثير من الأحيان منع دخوله من دولة أخرى بسبب استقلال كل دولة بسلطانها .
فهل يقال : إنه لا بد في عقوبة النفي أن تكون داخلة حدود الدولة الواحدة، أم لا؟ .
يذهب الدكتور عبد العزيز عامر في كتابه ( التعزير ) إلى أنه لا بد في عقوبة النفي أن تكون داخل حدود الدولة الواحد مراعاة لواقع بلدان المسلمين في العصر الحاضر ، حيث يقول: ( ونظراً لأن الأمة الإسلامية الآن ليست دولة واحدة كما كانت قبل ذلك ، بل قسمت إلى دول ودويلات عدة ، كل منها مستقل عن الآخر ، فإن التغريب يجب أن يكون لأي مكان داخل البلاد المصرية بالنسبة لمصر ، وألا يكون خارجاً عنها ، سواء في ذلك إلى دولة إسلامية أم غير إسلامية ، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه العمل في سائر الدول الإسلامية . إذ لا يمكن عملاً أن يكون النفي من دولة إلى أخرى ؛ لأنه ليس هناك ما يُلزم الدولة المراد النفي إليها بقبول المجرم المنفي ، وعلى فرض قبولها له فإن نفيه إليها يخرجه عن سلطة الدولة التي أجرم فيها ) .
ثم استثنى من ذلك حالة الإمكان ، فقال : ( فإذا أمكن تذليل العقبات فإن النفي من دولة إلى أخرى في بلاد الإسلام مشروع ، إذ إن المسلمين أمة واحدة ) ([36])
هذا ما قرره الدكتور - وقد كان حديثه عن عقوبة النفي عموماً لا النفي الذي بناءً على شرط - .

والذي يظهر لنا: أنه ينبغي أن يفرق بين نفي للحق العام وبين نفي للحق الخاص.
فما كان للحق العام أو الخاص من غير صلح: فقد يقال في بعض الحالات بتقييده داخل حدود الدولة الواحد؛ ليكون تنفيذها تحت سلطانها، ويمكن لها متابعته.

أما ما كان للحق الخاص مع صلح – ومنه ما نحن فيه -: فلا يجوز إلزام المتصالحين على تقييده بمكان دون آخر ؛ لأن مبناه على الصلح ، والصلح مرده إليهما.
وعجز الجهات التنفيذية عن متابعته خارج نطاقها - كمثل منعه من دخول قطر- لا يلزم منه إبطاله، كما لا يلزم منه تكليف الجهات التنفيذية ما لا تطيق.
بل يُجرى على ما اتفقا عليه ويبقى عبء الإثبات على الأولياء، فمتى أثبت الأولياء أن الجاني حلَّ بالدولة التي اتفقا على ألا يحلَّ بها حق لهم المطالبة بحقهم.
وشرط مغادرة البلاد لا يعني أن تفرض الدولة قبوله على دولة أخرى، فلا زال بعض الناس يمكث السنوات ذوات العدد خارج دولته من غير أن تفرض دولته قبوله على الدولة التي هو فيها، فإن جملة الدول لا تمانع من إقامة الأجانب فيها متى كانت إقامته نظامية ( جواز، وتأشيرة لبعض الدول، وسفارة بلده تخدمه في تجديد الجواز وهو عندهم..).

وهذا له نظائر:
فإن الأصل في إثبات ملاءة المدين ملقى على عاتق الدائن.
كما أن الأصل في تبعة استخراج الدائن حقه من المدين أن تبعتها عليه، ولهذا يتكلم الفقهاء عن ملازمة الغريم، وحكمها، ومتى تمنع من الجمعة والجماعة.

الحاصل: أن الجهات التنفيذية -الدولة- لا يقع عليها عبء في تنفيذ هذا الصلح، فلا يجب عليها إبعاد الجاني ولا إدراجه على قائمة الممنوعين من دخول الدولة، بل يعامل كما يعامل غيره ومتى دخل الجاني وأثبت الأولياء دخوله حق لهم المطالبة بالقود.

إن المسألة مفروضة في ولي دم أبى إلا هذا الشرط أو القود !
فلا يمكن إجباره على تحديد بلدة النفي؛ لأنه لم يرض بالتنازل إلا بالنفي الذي اشترطه، ومرد تحديد الشرط إليه.
كما لا يمكن إجباره على الصلح على مال أو بلدة معينة ينفى إليها الجاني؛ لأن الشارع جعل له الخيرة بين القود وغيره.
فإذا منعناهما مما اصطلحا عليه (نفيه للخارج أو ألا يدخل دولاً معينه) لم يبق للأولياء إلا القود، فوقعنا في شرِّ الشرين، وخالفنا مراد الشارع في استحباب إبقاء النفس من حيث الأصل.

أما الأولياء الذين يمكن أن يتنازلوا عن شرطهم -نفي الجاني- كله أو بعضه بأن يكون داخل حدود الدولة الواحدة فليسوا مرادنا هنا([37]).



النتيجة

1.     نصوص الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح دالة على مشروعية الصلح في الجنايات في الجملة.

2.     شرط مغادرة البلاد على الجاني مقابل التنازل عن القود حق مشروع للأولياء ، والصلح عليه صلح صحيح.

3.     الضرر الذي يلحق الجاني بموافقته على مغادرة البلاد مقابل التنازل عن القصاص ضررٌ نتجَ عن تصرف في الحق معتاد شرعاً ، لا يدخل في التعسف الذي هو تصرف في الحق غير معتاد شرعاً.

4.     لا يجوز إلزام المتصالحين في القصاص على تقييد النفي بمكان دون آخر، وعجز الدولة أو الجهات التنفيذية عن تنفيذه لا يعني إبطاله، فيُجْرى على ما اتفقا عليه ويُلقى عبء إثبات حلول الجاني بالدولة التي اتفقا على ألا يحل بها على الأولياء، ومتى أثبتوه حق لهم المطالبة بحقهم.


وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1])  البقرة 178
([2])  أخرجه أبو داود ح: 4499 ، وابن ماجة ح : 2692 ، والإمام أحمد في مسنده ح : 13220 ، والبزار ح : 7372 ، والحديث صححه الألباني .
([3])  أخرجه أبو داود ح : 4536 ، والنسائي ح : 4778 ، وابن حبان ح : 4487 ، وأحمد ح : 25958 ،
([4])  قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/310 : ( ...، " وما صالحوا عليه فهو لهم " فإنه يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية ) أهـــ.
([5])  قال عنه الألباني في إرواء الغليل ( لم أره ) .
([6])  المغني 8/287 . وانظر : المبسوط 21/12 ، العناية شرح الهداية 10/239 ، المدونة 4/651 ، التاج والإكليل 7/12، تحفة المحتاج 8/445 ، كشاف القناع 3/399 .
([7])  وجهة نظر أخرى : أظن هناك فرق بين شرط مغادرة بلد سكن أولياء الدم سواء قرية أو مدينة أو منطقة وبين شرط مغادرة كامل البلاد والدولة فالأول صلح جائز وهو ما عناه الفقهاء المجيزون وأما الثاني فصلح غير جائز, ولا يفهم من نصوص الفقهاء الآتي ذكرها , ولذا أرى التفريق بين الأمرين. 
([8])  ينظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/317 ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3/418 ، منح الجليل 6/155 ، تبصرة الحكام 2/51
.
([9])  بناءً على قاعدتهم : أن الدم إذا سقط لا يعود . ينظر : بدائع الصنائع 6/54 ، الفروق للقرافي 2/252 .
([10])  قال ابن حزم في المحلى 4/474: ( مسألة : ومن صالح عن دم , أو كسر سن , أو جراحة , أو عن شيء معين بشيء معين , فذلك جائز , فإن استحق بعضه , أو كله بطلت المصالحة وعاد على حقه في القود وغيره ; لأنه إنما ترك حقه بشيء لم يصح له وإلا فهو على حقه , فإذا لم يصح له ذلك الشيء فلم يترك حقه . وكذلك لو صالح من سلعة بعينها بسكنى دار , أو خدمة عبد فمات العبد , وانهدمت الدار , أو استحقا بطل الصلح وعاد على حقه ) أهـ.
([11])  لعل هذا مبناه : الأصل في الشروط الحل أم الحظر ؟ .
([12])  مجموع الفتاوى 34/157 . وانظر : الفتاوى الكبرى 3/398 ، مختصر الفتاوى المصرية 1/466 .
([13])  وهذا نص كلامه : (وإن عفا أولياء المقتول عن القاتل، بشرط أن لا يقيم في هذا البلد، ولم يف بهذا الشرط، فقال الشيخ: لم يكن العفو لازماً ، بل لهم أن يطالبوه بالدية، في قول أكثر العلماء، وقال: ولاية القصاص ) أهـ. حاشية الروض المربع لابن قاسم 7/208-209 .
([14])  وقد نقل فيه نص كلام ابن تيمية من اختيارات البعلي .
([15])  فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم 11/267 .
([16])  فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ 11/268 .
([17])  أخرجه أبو داود ح : 3596 ، قال السخاوي في المقاصد الحسنة 1/607 : ( حديث : "المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " أبو داود وأحمد والدارقطني من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعاً ولفظه : " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالاً أو أحل حراماً " وفي الباب عن أنس عند الحاكم وعن رافع بن خديج عند الطبراني وعن ابن عمر عند البزار وعن عطاء قال بلغنا أن رسول الله قال : " المؤمنون عند شروطهم " أخرجه ابن أبي شيبة وكلها في مقال وأمثلها أولها وقد علقه البخاري جازماً به فقال في الإجازة وقال النبي r :" المسلمون عند شروطهم " فهو صحيح على ما تقرر في علوم الحديث ) أهـ.
([18])  مطالب أولي النهى 3/66 .
([19])  البخاري ح : 4228 .
([20])  أخرجه أبو داود ح : 3596 ، وابن ماجة 2353 ، والإمام أحمد في مسنده ح: 8784 ، قال ابن دقيق بعد أن ساق الحديث بسند أبي داود : ( وهذا إسناد حسن وله طريق جيدة عند الإمام أحمد ) الإلمام بأحاديث الأحكام - (1 / 220) والحديث صححه الألباني .
([21])  أبو داود ح : 4930 وصححه الألباني . وأصله في البخاري ح : 6445 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن النبي r المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال : " أخرجوهم من بيوتكم ". وأخرج فلاناً وأخرج عمر فلاناً . وبوب عليه البخاري بقوله : ( باب نفي أهل المعاصي والمخنثين ) .
([22])  ينظر : الطبقات الكبرى لابن سعد 3/285 ، حلية الأولياء 4/322-323 ، اعتلال القلوب للخرائطي ح 802-803 .
([23])  ينظر : مسند البزار ح : 299 ،  والدارمي ح : 144 ، ومصنف عبد الرزاق ح : 20906 .

([24])  ودليل كراهية المؤمن للموت : ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي r قال فيما يرويه عن ربه : " وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته " ، وأخرج أحمد في مسنده – وأصله في مسلم – عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : " قال الله عز وجل إذا أحب العبد لقائي أحببت لقاءه وإذا كره العبد لقائي كرهت لقاءه " فقيل لأبي هريرة : ما منا من أحد إلا وهو يكره الموت ويفظع به ! قال أبو هريرة : إنه إذا كان ذلك كشف به .
ودليل كراهية الكافر له : قوله تعالى : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون }.
([25])  ومن نافلة القول الإشارة إلى أنه يستثنى من هذا من كان في بقائه ضرر على الناس ، كالمعروف بالإجرام . قال ابن تيمية : ( استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل به ضرر كان ظلما من العافي إما لنفسه وإما لغيره فلا يشرع ) قال المرداوي في الإنصاف 10/3 بعد نقله عبارة ابن تيمية : (قلت : وهذا عين الصواب ) .
([26])  أخرجه أبو داود ح: 4499 ، وابن ماجة ح : 2692 ، والإمام أحمد في مسنده ح : 13220 ، والبزار ح : 7372 ، والحديث صححه الألباني .
([27])  البخاري ح : 4228 .
([28])   التعزير في الشريعة الإسلامية لعبد العزيز عامر 329-330 .
([29])  كل ما ذكر هنا عن التعسف منقول بتصرف واختصار من نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي لأحمد فهمي أبو سنة (http://www.alukah.net/Sharia/1051/2551/ موقع الألوكة )
([30])  هذا زيادة لم يذكرها أبو سنة .
([31])  رواه البخاري في صحيحه ح : 3844 .
([32])  فتح الباري 11/405 . وانظر : مجمع الزوائد 6/106 .
وعند الطبراني (16 / 12) : المعجم الكبير للطبراني - (16 / 12) ح : 17825 قال وحشي t : لما أتيت رسول الله r بعد قتل حمزة تفل في وجهي ثلاث تفلات ، ثم قال : " لا ترني وجهك " ، لكن قال الهيثمي في المجمع : فيه المسيب بن واضح وثقه أبو حاتم وقال : يخطئ .
وجاء عند الطبراني ح : 17826 من طريق آخر : فقالت له قريش: أنحبه وهو قاتل حمزة، فقلت: يا رسول الله، فاستغفر لي، فتفل في الأرض ثلاثة ودفع في صدري ثلاثة ، وقال: " يا وحشي، اخرج فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله " قال الهيثمي : إسناده حسن . وقال الألباني : هذا إسناد ضعيف ؛ لجهالة بن وحشي ، ...، فقول الهيثمي : ( إسناده حسن ) غير حسن . أهـ السلسلة الضعيفة 12/871 .
([33])  فتح الباري 11/405 .
([34])  كشف مشكل الصحيحين 1/1126.
([35])  المحلى4/474 .
([36])  التعزير في الشريعة الإسلامية لعبد العزيز عامر 327-328  .
([37])  وجهة نظر أخرى : لا يُمكَّن أولياء الدم من هذا الشرط, ولو ألتزم أو رضي به الجاني,1- لكون هذا الصلح لا يمكن للحاكم الإلزام به خاصة ما يتعلق بالدولة الأخرى, ولا يمكن متابعته أو تنفيذه من الدولة الصادر منها الحكم, ولا يكفي التزام الجاني به فقط, إذ من أهم شروط الصلح الجائز قضاءً أنه يُمْكِن للحاكم إلزام الطرفين به, ودرء ما يمنع تنفيذه منهما, أومن متابعته من الجهات التنفيذية, وما كان التزاماً من الجاني بدون حكم بالإلزام به فهو مجرد إثبات صلح بين طرفين لا يمكن للجهات التنفيذية الالتزام به أو إلزام الجاني به, لذا فلا فائدة لصلح لا إلزام فيه.
2-ولما يُفضي إليه من كثرة الخلاف والشقاق, في إدعاء دخول الجاني لتلك الدولة بدون بينة كاملة أو موصلة, مما يُثير أولياء الدم, وقد يقع ما لا تحمد عقباه, أو قد ينفق أولياء الدم مبلغ العوض المقدر بالملايين الذي قد يُشترط بأنه مقابل إطلاق سراحه وتمتعه بالحرية فترة تقيد الجاني بالشرط, وضمن الشرط أنه ليس له الحق بالمطالبة بالعوض في حال المخالفة وجانب الجاني هو الضعيف الذي لا مناص له من القبول والرضوخ لطلب أولياء الدم ابتداء. ثم قد يقوم الأولياء ولو بعد سنوات بدافع الانتقام أو ما لحقهم من التصغير والتحقير والمهانة لعدم القصاص - وهو كثير لدى أهل البادية- فيدعون بدعوى باطلة بمخالفة الجاني للشرط ويُحضرون عليها بينة زور ليقتص من الجاني ظلماً خلافاً للصلح المتفق عليه بينهم بدعوى لا يستطيع الحاكم ولا الدولة كشفها لوقوعها في بلد أخر قد لا يتعاون في إظهار الحقيقة, فالإشكال هنا أن الدولة الأخرى لا تستطيع إلزامها بمنع دخول الجاني ابتداء, ولا بالتعاون مع المحكمة في بيان زيف هذه الدعوى مما يؤدي لهذه الآثار المذكورة أعلاه.
3-ولما يفضي من إشكالات ومحاذير في نظر مخالفة الجاني لهذا الشرط من حيث الاختصاص الدولي والمكاني والنوعي, وحري عند تقرير أي مبدأ جديد أنه لا يترتب عليه أي إشكال في الأنظمة المعمول بها ومعالج جوانبه من خلالها لأن هذه الأنظمة سابقة على هذا المبدأ, فلا تقرر ما يخالفها أو ما كانت خالية من علاج الحال الجديد الناتج عن تقرير ذلك المبدأ. وإن قيل بنظرها في المحكمة التي أصدرت الحكم الأول, فقد يوهم الجاني أولياء الدم بالمخالفة بين فترة وأخرى ليستغل الجاني هذه الدعوى لزيارة أهله والبقاء بينهم شهوراً عديدة لحين الفصل في صحة المخالفة من عدمها, وهذا ما قد يدفع بعض أولياء الدم أو أقاربهم لقتل الجاني عند حضوره ورجوعه لبلد المحكمة التي أصدرت الحكم الأول .
4-ولما أورده الدكتور عبد العزيز عامر في كتابه ( التعزير ) من تعليل إذ لا يمكن عملاً أن يكون النفي من دولة إلى أخرى ؛ لأنه ليس هناك ما يُلزم الدولة المراد النفي إليها بقبول المجرم المنفي ، وعلى فرض قبولها له فإن نفيه إليها يخرجه عن سلطة الدولة التي أجرم فيها. ولما يحكم العلاقات الدولية من قواعد وأحكام يتعذر على الدولة مخالفتها أو حمل دولة أخرى على مخالفتها .
5-ولذا حقيقة هذا الشرط أشبه ما يكون بالشروط التعجيزية كأن يكون العفو مقابل حمل ورفع الجاني بنفسه سيارة بكاملها أو أن يسافر السعودي ويستقر بدولة أوروبية أو أفريقية عن طريق الجو بلا جواز سفر ولا وثائق بديلة
6- ومما يدعم وجهة النظر هذه أيضاً أن حق الإقامة في الوطن مكفول لكل مواطن وقد جرت على هذا التنظيمات والدساتير العربية ومنها :
·        المادة 24 من دستور العراق : لا يجوز منع المواطن من السفر خارج البلاد، أومن العودة إليها، ولا تقييد تنقله وإقامته داخل البلاد، إلا في الحالات التي يحددها القانون.
·        الفصل10 من دستور تونس : لكل مواطن حرية التنقل داخل البلاد والى خارجها واختيار مقر إقامته في حدود القانون..
·        المادة 33 من دستور سوريا : 1ـ لا يجوز إبعاد المواطن عن ارض الوطن .2ـ لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة إلا إذا منع من ذلك بحكم قضائي أو تنفيذا لقوانين الصحة والسلامة العامة.
·        مادة 11 من دستور الصومال لكل مواطن الحق في الإقامة والتنقل بحرية في جميع أنحاء الإقليم الوطني كما لا يجوز إبعاده .
والجواب عما سبق :
يجاب عن الفقرة الأولى بما يلي : ( الصلح غير ملزم ، لا يمكن تنفيذه ، لا فائدة فيه )
1-لا يسلم أنه غير ملزم ، بل هو ملزم ووجه الإلزام به أن الأولياء متى ما أثبتوا دخول الجاني البلدة التي تم الصلح على ألا يدخلها حق لهم إذا أرادوا المطالبة بالقود . 2-سلمنا أنه غير ملزم ، لكن لا يسلم أن من شرط صحة الصلح الإلزم ، والعمل على هذا . مثاله : صلح الزوجين على عودة الزوجة مع معاشرة الزوج لها ، فهذا صلح صحيح ولا يقدر القاضي على الإلزام به ولا تقدر الجهات التنفيذية تنفيذه .3-لا  يسلم أنه لا فائدة في  صلح لا إلزام فيه : ففائدته هنا مراعاة قصد الشارع في الإبقاء على النفس ، كما أن من فائدته أن الجاني لو دخل البلدة التي تم الصلح على ألا يدخلها فقتله أحد الأولياء لم يقتص منه – بعد إثباتهم دخوله البلدة -.
ويجاب عن الفقرة الثانية بما يلي : ( يترتب عليه كثرة الخلاف ، احتمال انفاق المال ..)
1- أن كثرة الخلاف والشقاق في ادعاء دخوله ما اتفقا على ألا يدخله ثم ترتب الانتقام : متصور الوقوع حتى لو اشترطوا عليه مغادرة الحي فقط ! وليس ذلك بمانع للصلح .2-أما إذا تضمن الصلح مالاً ومغادرة البلاد فدخل الجاني بلدة اصطلحا على ألا يدخلها ثم طالب الأولياء بالقود ، فهو فسخ للصلح فيراجعان إلى الحال التي كانا عليها قبل الصلح فيعيد الأولياء المال ثم يحق لهم القود . والمسألة أيضاً يمكن فرضها في صلح انفرد بشرط مغادرة البلاد من غير مالٍ .3- وأما شهادة الزور أو العجز عن كشف الدعوى لوقوعها في دولة أخرى فهي واردة على كل دعوى " وإنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع "  ، وطرده يلزم منه منع جميع العقود والتعاملات بين الناس بهذه الحجة ، لأن هذا الاعتراض يمكن الاعتراض به على جميع المعاملات والعقود .
ويجاب عن الفقرة الثالثة بما يلي : ( الإشكال في الاختصاص ، وتلاعب الجاني بقصد زيارة أهله )
1-عدم وضوح النظام مشكلة المنظم لا المتصالحين . 2- أن هذه المشكلة متصورة الوقوع فيما لو اشترطوا عليه مغادرة الرياض وأبها وجدة والدمام فيمكنه الرهان على تدافع الاختصاص للبقاء في جدة إذا كان الحكم صادراً من الرياض .
ويجاب عن الفقرة الرابعة: ( العلاقات الدولية وفرض قبوله ) .
بأن هناك فرق واضح بين العقوبات التي تتحمل الدولة تنفيذها ، والأمور التي يلتزم بها الجاني ، وقد ذكرنا في الصلب الجواب على فرض قبوله .
ويجاب عن الفقرة الخامسة: ( شبيه بالشرط التعجيزي )
 بأن ما ذكر غير مسلم .
ويجاب عن الفقرة السادسة بما يلي:( حق الإقامة في الوطن مكفول في الدساتير العربية )
1- اختيار المواطن للمكان الذي يسكن فيه داخل حدود الدولة حق مكفول لجميع المواطنين ومنعه من السكن في الرياض مثلاً مصادرة لهذا الحق وقد اتفقنا على جواز منعه من سكن مدينة معينة داخل حدود الدولة الواحدة  2-وأيضاً حق الحياة مكفول لكل أحد ، فإذا جنى سقط حقه في الحياة واستحق القود ، ومثله الإقامة سقط حقه منها بسبب جنايته . 3-مسألتنا : أسقط الجاني حقه في سكنى الوطن بناءً على صلح ، وقد كان يملك رفض الصلح ولا زال .
إن المسألة كما قلنا مفروضة في وليّ أبى إلا هذا الشرط أو القود ، أما الولي الذي يمكن أن يقنع بجعل النفي داخل حدود الدولة الواحد فيقتنع فهذا غير مراد هنا ، ومتى منعنا الطرفين من إجراء هذا الصلح لم يبق للأولياء إلا القود ، فوقعنا في شرِّ الشرين ، وخالفنا مراد الشارع في استحباب إبقاء النفس من حيث الأصل . وبالله التوفيق .

تعليقات