القائمة الرئيسية

الصفحات



النظام السياسي في الإسلام

النظام السياسي في الإسلام

النظام السياسي في الإسلام



النظام السياسي في الإسلام


إعداد
د.مازن بن صلاح مطبقاني
أستاذ مشارك
الدراسات الإسلامية-كلية التربية
جامعة الملك سعود


فهرس  المحتويات

مقدمة                                                                            

التمهيد ويشمل ما يأتي
        ·تعريف النظم
        ·أساسا النظم الإسلامية، التوحيد والإيمان بما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
        ·خصائص النظم الإسلامية.

الفصل  الأول : النظام السياسي

        ·مقدمة للنظام السياسي.                                          
        ·مصادر التشريع الإسلامي.                                      

الفصل الثاني:  الحكم                                                                    

·        الخليفة - وجوب الإمامة والدليل عليه.                              
·        الحكومة الإسلامية :تعريفها وخصائصها.      
الخاتمة:  اللهم قد بلّغت.        
ملاحق
مقالات حول الفساد وأنواعه وطرق مكافحته

المقدمة

         الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فتهدف هذه المادة إلى إعطاء الطالب الأدوات الأساسية لمعرفة النظام السياسي في الإسلام؛ من حيث مصادر المادة وبعض التفصيلات فيها. وتأتي أهمية دراسة النظام السياسي أننا نمر في مرحلة فتن سياسية واضطرابات، وأول المتهمين في ما يحدث من فتن وقلاقل هو الإسلام، ويضيفون للإسلام عبارة السياسي، وكأن الإسلام إسلامات كثيرة. ولماذا يتهم الإسلام في المجال السياسي كما يتهم في مجالات أخرى؟ ولا بد أن يكون السبب أن الصراع الفكري في العالم يتركز على المبادئ والمعتقدات قبل الصراع على المادة والأرض والممتلكات، وهذه المبادئ والمعتقدات هي التي تنتج النظم، فلا بد للمسلم أن حقيقة الإسلام ونظامه السياسي، وبخاصة أن البلاد الإسلامية قد مرت بمراحل انجذبت فيها إلى النظم الاشتراكية، والشيوعية الملحدة، وأصبح من المسلمين من يقدّم أقوال منظري هذه النظم وفلاسفتها على ما جاء في الكتاب والسنة، كما حكمت من قبل القوميين والعلمانيين. وما تزال بلاد عربية إسلامية يحكمها من يحارب الله ورسوله، ومن يسعى-كما يزعم- لتجفيف منابع التدين.
         كما ظهر في العالم الإسلامي قوم من العلمانيين لا يرون أن الإسلام صالح لحكم حياة الأمة الإسلامية في جميع شؤون الحياة، فقد ظهر في مصر بعد انهيار الخلافة الإسلامية أو القضاء عليها كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم  الذي يزعم فيه أنه ليس في الإسلام نظام للحكم، فالإسلام في نظره مجرد شعائر تعبدية ودعوة إلى الأخلاق، أما الحكم فلا شأن للإسلام به. وما زالت هذه المقولة تتكرر على ألسنة وأقلام العلمانيين في أنحاء العالم الإسلامي حتى اليوم، ومن بينهم على سبيل المثال محمد سعيد العشماوي، وصادق جلال العظم وتركي الحمد وغيرهم كثير. وعلينا أن ندرك أن مسألة الحكم والإسلام مسألة مهمة فقد جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحكم من آخر ما ينقض من عرى الإسلام.
ويرى الشيخ محمد المبارك في كتابه نظام الإسلام ـ العقيدة والعبادة، أن دراسة النظم تهتم بـ "تجميع عناصر الإسلام العقلية والعملية والنفسية، وجوانبه الإيمانية، والعبادية والأخلاقية والتشريعية في وحدة مركبة كاملة ."ويضيف أن كلمة نظام "تفيد أن لكل دين أو مذهب طريقة أو نظاماً ينظم به أجزاءه وأقسامه ومبادئه النظرية والعملية. ففي العالم أنظمة متباينة، فنظام للبوذية، ونظام للشيوعية، ونظام للديموقراطية ،ونظام للمسيحية وهكذا."
تأتي السياسة في مقدمة الأمور التي اهتم بها العلماء المسلمون حتى جعلوا باب الإمامة من أبواب العقيدة. وما كانت هذه السطور ضرورية في الحديث عن الإسلام والسياسة، لولا أن الغزو الفكري الذي ابتليت به الأمة في القرون الأخيرة قد أدخل في فكر المسلمين الانفصال بين الدين والسياسة حتى أصبحت السياسة حكراً على طبقة من السياسيين المحترفين، وفهمت السياسة على أنها فن الخداع والمكر، وأن العلماء لا يصلحون للحديث في السياسة بله العمل فيها. وللتأكد من أن الإسلام لم يفرق بين السياسة والدين فليرجع إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليرى كيف أنه عليه الصلاة والسلام قد مارس جميع الأعمال السياسية، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون. وأما الفصل بين العلماء والعمل السياسي فقد كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أجمعين علماء بالإسلام -بل أعلم الناس به- وعرف التاريخ الإسلامي كثيراً من الحكام الذين كانوا على درجة عالية من العلم بالإسلام.
وإن كانت الإدارة جزء من السياسة، لكن بينهما فصل مهم حيث إن الإدارة أخص من السياسة، وتأتي أهمية الإدارة في أن الأمم تتسابق في تعداد منجزاتها الإدارية حتى أصبحت اليابان تفخر على الغرب بتفوقها الإداري، وعلينا لكي نستعيد مكانتها في العالم أن ندرك أن الأمة الإسلامية عرفت الإدارة في أرقى صورها وأكثرها تطوراً، ويجب أن نعرف أن الإدارة جزء من معرفة الإسلام أو النظام الإسلامي. ولو لم يكن النظام الإداري الإسلامي فعّالا لما استطاع المسلمون حكم البلاد الواسعة التي أصبحت جزءاً من دولتهم. ولما استطاعوا أن ينشئوا المصانع والمعامل ويبنوا حضارة جعلت الأمة الإسلامية هي العالم الأول لعدة قرون. وبالنسبة لاتساع دولة الإسلام فقد بلغت رقعتها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، وازدادت رقعتها حتى ضمت شمال أفريقيا كله وبلاد فارس والهند وغيرها في عهود لاحقة.
ولكننا حينما بُلينا في القرون الماضية بعقدة النقص وهي "ولع المغلوب بتقليد الغالب"، استوردنا الأنظمة الإدارية من الغرب ظنّا منّا أننا بذلك سوف نلحق بركب الحضارة. والإسلام لا يمنع أبدأ من الاقتباس من الآخرين ما لم يتعارض ذلك مع ثوابت الأمة. ومظاهر التقليد نجدها في الدورات الإدارية التي تعقدها الشركات الكبرى والمؤسسات، كذلك نجد الشهادات العليا في الإدارة يتم الحصول عليها غالباً من أوروبا وأمريكا.
والدليل على ارتباط الإدارة بفهم الإسلام ذلك أن الإدارة هي القدرة على إنجاز عمل ما عن طريق الآخرين؛ وهي بالتالي تتضمن العلاقة بين الأفراد والقدرة على توجيه هؤلاء الأفراد لأداء عمل ما أو قيادتهم لإنجاز عمل ما في زمن محدد. فأما أداء العمل والإخلاص فيه فهو من أداء الأمانات والوفاء بالعهود التي أمر الإسلام بأدائها. وأما القيادة ومعرفة طبائع البشر فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل القيادي فكان يقسم الأعمال بين الصحابة حسب قدراتهم وإمكاناتهم ومعرفتهم. فقد اتخذ الكتّاب لشتى الأعمال الكتابية، وكان أعلاها كتابة الوحي بالإضافة إلى كتابة الأموال وكتابة الرسائل وعين على جباية الأموال من يقوم بها، كما اختار من صحابته رضوان الله عليهم من يقود السرايا والغزوات.
كما أن الإدارة الإسلامية اهتمت بالشفافية والبعد عن المحسوبية والواسطة والرشوة. فبدءاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأمر بالكسب الحلال والابتعاد عن الكسب الحرام حيث وضح في حديث (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، ونهي الحاكم أن تطيش يديه في مال الأمة، وأعطى المسؤول الأجرة المناسبة حتى إنه لما ولّى عتاب بن أسيد رضي الله عنه مكة جعل راتبه درهماً كل يوم، مما دعا عتّاب أن يقول:" لقد أغناني رسول الله صلى الله عليه وسلم"

التمهيد                 
    تعريف النظم

     لغة : مفردها نظام وهي من نَظَمَ أي ألّفَ ومنها نظَمتُ اللؤلؤ في السلك أي جمعته في السلك، والجمع أنظمة وأناظيم ونُظُم، ويقال ليس لأمره نظام أي لا تستقيم طريقته.
اصطلاحاً هي مجموعة التشريعات والقوانين والتنظيمات التي تنظم جميع شؤون الحياة عقدياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً وغير ذلك. أو هي المبادئ والتعاليم التي تسير عليها أمة من الأمم في السياسة وفي الاقتصاد وفي الإدارة والتعليم ...الخ.
المراد بدراسة النظم: تهتم دراسة النظم كما يقول الشيخ محمد المبارك ب " تجميع عناصر الإسلام العقلية والعملية والنفسية وجوانبه الإيمانية والتعبدية والأخلاقية والتشريعية في وحدة مركبة كاملة. وكلمة نظام تفيد بأن لكل دين أو مذهب طريقة أو نظاماً ينظم به أجزاءه وأقسامه ومبادئه النظرية والعملية ففي العالم أنظمة متباينة فنظام للبوذية ونظام للشيوعية ونظام للديموقراطية ونظام للمسيحية، وهكذا." (نظام الإسلام- العقيدة والعبادة)
         وتأتي أهمية دراسة النظم الإسلامية للتأكيد على أن الإسلام لم يترك جانباً من جوانب الحياة دون أن يهتم به وأن يشرع له، فكما كان للأمم التي عاصرت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم نظمها الخاصة وكما ظهرت أنظمة جديدة فيما بعد كالنظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي والنظام الشيوعي والنظام الاشتراكي وغيرها .فالإسلام أيضاً له نظامه الخاص به. لكنه يختلف عن الأنظمة الأخرى في أنه مستمد أساساً من الوحي. ولا بد أن ندرك أن نظام الإسلام متميز عن النظم الأخرى وإن وجدت بعض أوجه الشبه، فهذا التشابه إنما هو في أمور جزئية.
         ومما يؤكد على أهمية دراسة النظم أن الحضارة الغربية هي الحضارة المسيطرة في العصر الحاضر وهي حريصة على فرض نظمها المختلفة على جميع شعوب الأرض بحكم عنصريتها المتأصلة فيها ورغبتها في استمرار هيمنتها وسيطرتها على العالم

 أساسا النظم الإسلامية
     للنظم الإسلامية أساسان هما :1- التوحيد   2- الإيمان بما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
أولاً التوحيد: وينضوي تحت هذا الأساس الأمور الآتية:
1- تحديد الحلال والحرام والمباح وغير المباح والحسن والقبيح والطيب والخبيث. وفي ذلك يقول الأستاذ محمد قطب (مذاهب فكرية معاصرة ص20) "من الذي يرسم للبشرية منهج الحياة؟ من الذي يقول هذا حلال وهذا حرام، هذا مباح وهذا غير مباح ، وهذا حسن وهذا قبيح ، هذا طيب وهذا خبيث؟" ويقول الحق سبحانه وتعالى{ألا له الخلق والأمر} (الأعراف54) ويقول سبحانه {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى 21)
2- حماية الكرامة البشرية وتحرير البشر من كل أنواع العبودية لغير الله والاستعلاء على الطواغيت. ويدل على هذا ما قاله ربعي بن عامر لقائد الفرس:  " الله جاء بنا و ابتعثنا لنُخرجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها."
3- تحقيق العدل والرشد الذي لا يتحقق تماماً إلاّ بتحكم شرع الله ، يقول محمد قطب (مذاهب فكرية معاصرة ص22): "وأما من ناحية الواقع البشري فالعدل والرشد هو طابع الحياة في ظل عقيدة التوحيد التي تجعل الحاكمية لله، والظلم والتخبط هو طابع الحياة في ظل عقائد الشرك والكفر التي تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله."
ثانيا: الإيمان بما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .وفي هذا يجب أن ندرك أموراً ثلاث:
1- مهمة الرسل صلوات الله عليهم هي تعريف البشر بالله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله وإخبارهم عن بداية العالم ومصير البشر في هذا الكون، فإن العقل البشري لن يصل إلى نتيجة إن هو شغل نفسه بهذه الأمور. وعندها يتفرغ البشر للبحث فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة.
2- الإيمان بما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هو ركن من أركان الأيمان {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}
3- خصوصية الرسالات السابقة وعموم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.(أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ... وبعثت إلى الناس كافة)
   ويقول محمد المبارك: "كان بين الديانات قدر مشترك من العقائد والمبادئ تلتقي عليها وتتعاون ضمن حدودها، وقد فرّق الإسلام في تعاليمه وتشريعاته بين المشركين والملحدين من جهة وأهل الكتاب بل من لهم شبهة كتاب من جهة أخرى." (ص 111)وثمة قاعدة شرعية تقول: "شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص مخالف."                 
        

خصائص النظم الإسلامية

أولاً: الربّانية:
         والربّاني الحَبْر وربُّ العلم، وقيل الربّاني الذي يعبد الرب ، والربّاني هو العالم العامل المعلِّم.
          وتنقسم الربانية إلى قسمين:1- ربانية المصدر والمنهج.
                                              2- ربانية الوجهة والغاية والقصد.
1-ربّانية المصدر والمنهج : يقول الحق سبحانه وتعالى{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} ويتناول القرضاوي الربانية في كتابه القيم (الخصائص العامة للإسلام) بقوله:" إن الإسلام هو المنهج أو المذهب أو النظام الوحيد في العالم الذي مصدره كلمات الله وحدها غير محرفة ولا مبدله ولا مخلوطة بأوهام البشر وأغلاط البشر وانحرافات البشر." (ص38) ويقابل الربانية ما حدث في الأمم الأخرى من قبول التشريعات الوضعية كما فعل اليهود والنصارى حيث وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} وجاء في تفسيرها أنه أحلوا الحرام وحرّموا الحلال.
     2- أما ربانية الغاية والوجهة والقصد فمعناها أن الإسلام يجعل غاية الإنسان الأخيرة وهدفه البعيد هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى والحصول على مرضاته {قل إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم ديناً قِيَماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء}
وللربّانية ثمرات تجعل النظم الإسلامية تتصف بما يأتي:
أ- العصمة من التناقض والاختلاف الذي تعانيه المناهج والأنظمة البشرية.
ب- البراءة من التحيز والهوى{يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}
جـ- التحرر من عبودية الإنسان للإنسان. كان ملوك الفرس يزعمون أنه تجري في عروقهم دماء زرقاء تستلزم استعباد الآخرين. وكان الرومان يرون أن جميع سكان الإمبراطورية عبيد لسكان روما. وكانت مدينة أثينا تتكون من خمسة آلاف من الأحرار يخدمهم جيش من العبيد يزيد على ثلاثين ألف.
ثانياً: الشمول والعموم
يصف القرضاوي هذا بقوله إنه " شمول يستوعب الإنسان كلَّه، ويستوعب الحياة كلها ، ويستوعب كيان الإنسان كله " والنظم الإسلامية تصلح لكل الأمم ولكل الأجناس ولكل الشعوب ولكل الطبقات.ومن الأمثلة على الشمول أنها تشمل الإنسان من قبل ولادته بالاهتمام  باختيار الأم ثم بعد الولادة يهتم الإسلام باختيار الاسم الحسن والعقيقة والرضاعة، ويهتم بحسن التربية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لغلام (يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك) وعلّم عبد الله ابن العباس رضي الله عنهما (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ...) وجاء في القرآن الكريم حول مرحلة الرضاعة {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلاّ وسعها، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوالدات مثل ذلك} وفي ذلك يقول القرضاوي: "يجعل الإسلام الكون كلَّه والخلقَ كلهم ملكاً لله، وليس لقيصر فيه ذرة واحدة فقيصر وما لقيصر لله الواحد القهار" (ص112)
ثالثاً : التوازن والوسطية:
         التوازن هو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، كما تتعادل كفتا الميزان فلا ترجح إحداهما بالأخرى. ويقول القرضاوي:" إن التوازن أمر أكبر من أن يقدر عليه الإنسان بعقله المحدود وعلمه القاصر فضلاً عن تأثير ميوله ونزعاته الشخصية والأسرية والحزبية والإقليمية والعنصرية وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر."
         وقد تحقق التوازن في النظام الإسلامي في الأمور الآتية: الروحية والمادية والواقعية والمثالية والفردية والجماعية والثبات والتغير. ففي التوازن بين المادية والروحية ما عرف عن اليهود من الإغراق في المادية وحب الدنيا حتى وصفهم الله تعالى بقوله {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، أما النصارى فقد مالوا إلى الرهبانية وكبت الفطرة ومن ذلك قوله تعالى {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}
         أما في الإسلام فقد ورد في حديث الثلاثة الذين نظروا في عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكأنهم تقالّوها فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الثاني أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثالث وأنا لا أتزوج النساء فعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أما والله إني لأتقاكم لله وإني لأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منّي) وجاء في حديث آخر (إن لبدنك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً وإن لزورك (زائرك) عليك حقاً فأعط لكل ذي حق حقه)
     رابعاً:الفردية والجماعية:
         إذا كانت الفردية قد طغت على الغرب فقطعت الأواصر في المجتمعات الغربية وتحلل الفرد من كل القيود، وانتشرت الأنانية المفرطة؛ فقد قامت الشيوعية على كبت الفرد وجعله مجرد ترس في العجلة وتحكمت الدولة في شؤونه كلها، بينما وقف الإسلام موقفاً وازن فيه بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة أو بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية.
         فمن الاهتمام بالفرد جاءت الكليات الخمس أو الضروريات الخمس لتحمي الدم والدين والعرض والعقل والمال ، ثم أتاح للفرد الفرصة ليعمل وينتج دون قيود سوى ما يمكن أن يتضمن إضراراً بالآخرين.
خامساً:التطور والثبات
         يتمثل الثبات في الأهداف والغايات والمرونة في الوسائل والأساليب. فالثبات في الكليات والقيم الدينية والأخلاقية والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية. كما يتمثل الثبات في العقائد الأساسية (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه من الله تعالى. ومن الثوابت أيضاً الأركان الخمس والمحرمات مثل السحر وقتل النفس والزنا وأكل الربا وشرائع الإسلام القطعية مثل الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص.


سادساً: الجزاء والعقوبة

         أمر الإسلام أتباعه بأوامر وأوجب عليهم واجبات ونهاهم عن أفعال معينة،  وجعل لعمل الخير جزاءً في الدنيا بالإضافة إلى ما عند الله سبحانه وتعالى من الرضوان. كما حدد العقوبات للمقصرين في الدنيا وفي الآخرة.
         وقد تبنى النظام الإسلامي تقديم الحوافز للمتفوقين، ولعل أعظم الجوائز هي تلك الأحاديث التي ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة فيها مما يفوق شأناً أوسمة الدنيا كلها وجوائزها. والعقوبة في الإسلام مقررة لكل ذنب فإذا بلغت حداً من حدود الله ووصل أمر ذلك إلى الإمام فلا بد من تنفيذ العقوبة وهي أرحم بالمجتمع الإنساني من العقوبات التي قررتها الأنظمة الوضعية التي ظاهرها الرحمة وباطنها تشجيع الإجرام والمجرمين على جرائمهم. والدليل على ذلك انتشار الجريمة في البلاد التي تأخذ بالتشريعات الوضعية في مجالات الحياة المختلفة وبخاصة في مجال العقوبة والجزاء.
         وقد انتشرت أمراض جديدة في الغرب مثل الإيدز ثم جرثومة الأبيولا وقد نشر معهد موسكو للزهري والمناعة أن الروس سينقرضون في المستقبل ليس نتيجة لحرب مدمّرة ولكن نتيجة انتشار الأمراض الجنسية. وقد أكد هذا أحد الإخوة الذين زاروا روسيا مؤخراً نقلاً عن طبيب روسي.
    وقد قدّمت إذاعة الهيئة البريطانية باللغة الإنجليزية يوم الاثنين 30 رجب 1417هـ تقريراً عن النساء اللاتي يتعرضن للاغتصاب بأنهن يعانين من تكرار تحرش المُغتصِب ومضايقته لهن، كما تحدثن عن الصعوبات والمشكلات والإهانات اللاتي يلاقينها في المحاكم، حتى إن إحداهن صرحت بأن الاغتصاب على مرارته وإيلامه أهون من الوقوف في المحكمة والتعرض للاستجواب من قبل القضاة وأحياناً التعرض للعبارات الجارحة من أقارب المتهم ثم الأحكام الخفيفة التي يتخذها القضاة ضد المغتصبين. وإن كان من كلمة حول هذا الأمر فإن هذا هو الضلال فإن المحاكم والعقوبات لن توقف الاغتصاب في الغرب بل يوقفه أن يعرفوا منهج الله عز وجل الذي أمر النساء والرجال على حد سواء بغض البصر ، وحرّم الاختلاط والخلوة بين النساء والرجال، كما أمر بالحشمة والعفة والعفاف . ولكن من يقول هذا للغربيين؟ 

 النظام السياسي الإسلامي         تمهيد

        ابتليت الأمة الإسلامية منذ قرون بالاحتلال الأوروبي الذي حاول أن يبعد المسلمين عن دينهم بنشر الجهل والمرض والفقر. وتمثل الجهل في غياب معرفة المسلمين المعرفة الصحيحة بدينهم حتى لو وصلت معرفة بعضهم إلى القمة في العلوم أو حتى لو كانوا من أبرز العلماء في مجال الذرة. وليس هذا فحسب فإن الاحتلال الأجنبي مكّن لأصحاب الاتجاهات الفكرية المنحرفة لقيادة الرأي العام في العالم الإسلامي فصار الحديث عن الإسلام واتخاذه منهجاً للحياة في شتى المجالات من الأمور المحرمة في كثير من ديار المسلمين.
     وقد أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه أنه ستنقض عرى الإسلام عروة عروة أولها نقضاً الحكم وآخرها الصلاة. وقد خضعت بعض البلاد العربية الإسلامية لحكومات علمانية لادينية وحكومات اشتراكية وشيوعية.
    ولمّا كان من الصعب العيش في عزلة تامة عن هذه التيارات وكانت هذه التيارات تجد دعماً قوياً من بعض الحكّام المسلمين ومن الحكومات الغربية فإن من الضروري معرفة هذا الشر كما أوضح عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بأن " من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام " فأخذت هذه الأصوات تنادي بأن على علماء الدين الإسلامي الابتعاد عن مجال السياسة أو لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة زاعمين أن السياسة تتطلب الخداع والمراوغة والدين لا يسمح بذلك.
وهذه الحجة واهية جداً فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة في المدينة المنورة كان هو رئيسها وقائدها؛ فقد كان يجهز الجيوش، ويعيّن الولاة والأمراء، ويجبي الزكاة والصدقات ويبعث إلى مختلف البلاد من يعلمهم الإسلام، وكان يقيم الحدود ويرسل الرسل والمكاتبات إلى الملوك والأمراء.
     وكان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم علماء بالشريعة الإسلامية وحكموا بلاداً مترامية الأطراف، وكان العلماء شركاء في الحكم على مر العصور حتى إن صلاح الدين الأيوبي خاطب جمعاً من قادته العسكريين قائلاً:" لا تظنوا أني بسيوفكم وحدّت البلاد، إنما وحدتها بقلم القاضي الفاضل."
    وهكذا ندرك أن الإسلام قد أرسى دعائم نظام سياسي متكامل كما سنرى في الفقرات القادمة، ولذلك على المسلمين إدراك أن ما مرت به الشعوب الإسلامية من تجارب قلّدت فيها الشرق والغرب عليها أن تتوقف وكما يقول الشيخ محمد المبارك:" لابد لهذه الشعوب من الانتقال إلى مرحلة التجربة الذاتية التي تستفيد من التجارب السابقة، وتهدف إلى إحياء (المبادئ) الإسلامية في الحكم المستندة إلى عقائدية (أيديولوجية) إسلامية مبدئية وتكييفها تكييفاً زمنياً تراعي فيه الأوضاع الاجتماعية القائمة." عن (الثقافة الإسلامية المستوى الثالث بجامعة الملك عبد العزيز ً 226-227).               

مصادر التشريع الإسلامي
   مصادر التشريع الإسلامي الأساس أربعة هي:
1- القرآن الكريم
2- السنّة النبوية الشريفة .
3-الإجماع .
4- القياس. وثمة مصادر فرعية كالاستحسان والاصطحاب والمصالح المرسلة .
أولاً: القرآن الكريم :
  كتاب الله الكريم نُقِل متواتراً كتابة وحفظاً وترتيلاً منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن، جزم فقهاء الإسلام في كل زمان ومكان بأنه يفيد القطع من ناحية ثبوته ووجوب العمل به، وحكموا بكفر من أنكره كلَّه أو بعضه. فهو عند جميع الفرق والمذاهب - المصدر النقلي الأساسي الأول الذي لا  يعدل عنه إلى سواه .
   وقد يكون لفظه نصاً لا يحتمل إلاّ معنى واحداً فهو حينئذ قطعي في إفادة العلم بالشيء، وقد يكون لفظه محتملاً عدة معانٍ فالمعنى الذي يفيده في تلك الحالة ظني غير مقطوع به.
ثانياً : السنّة النبوية المطهرة.
يقول الحق سبحانه وتعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ويقول تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليما} ويقول الحق سبحانه وتعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}
    والسنّة موضحة ومفسّرة للقرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون}، وهي إما مفسرة لمجملات القرآن وإما مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، ولكن الرد إليها -حتى في حال الاستقلال- إنما هو رد إلى كتاب الله .
     ولا يشترط للعمل بالحديث أن يكون متواتراً يرويه جمع عن جمع يُؤْمن تواطؤهم على الكذب في العرف والعادة، "فإنه يبدو عسيراً بل شبه مستحيل أن تروى أخبار العلوم الوضعية فضلاً عن الدينية السماوية بطرق أدق إسناداً وأصدق ورعاً وأكمل أمانة وأشد حذراً وأبلغ احتياطاً وأوسع شهرة واستفاضة وانتشاراً من أحاديث هذا الرسول العربي العظيم صلوات الله وسلامه عليه." ولو لم يبلغ معظمها درجة التواتر ، ولم تورث أجيال الأمة كلهاّ شعوراً واحداً- أو متماثلاً- في العلم القطعي اليقيني." وقد احتج الصحابة بخبر الآحاد وعملوا بمضمونه.
ثالثاً الإجماع:
         مصدر نقلي تبعي يتحقق باتفاق المجتهدين وفكرته كما يقول د. صبحي الصالح مستمدة من نظام الشورى الذي فرض به الإسلام على أولي الأمر أن يتشاوروا فيما بينهم، وألاّ يستبدوا بتدبير شؤون المسلمين سواءً أكانت تشريعية أم سياسية أم اقتصادية أم إدارية مصداقاً لقوله تعالى{وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر}
   وثمة أحاديث تدل على الإجماع منها (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وحديث (لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة) وحديث (سألت ربي ألاّ يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها)
رابعاً: القياس  
         هو مصدر عقلي تبعي يلحق به أمر لا نص فيه ولا إجماع بآخر منصوص عليه منصوص على حكمه أو مجمع عليه. وتعريفه: تعدية حكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تعرف بمجرد فهم اللغة.
 ومن أدلة  القياس قوله تعالى{فاعتبروا يا أولي الأبصار}،  فالله يأمرنا بالاعتبار بما أصيب به بنو النضير من خراب ودمار لأنهم بشر مثلنا فلو صنعنا ما صنعوا لأصابنا ما أصابهم، ومن ذلك أيضاً قياس إعادة المخلوقات بعد فنائها على نشأتها الأولى كما قال تعالى لمنكري البعث والنشور {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}.
   ومن القياس: قياس خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه على إمامته في الصلاة وقاسوا قتال مانعي الزكاة على تاركي الصلاة.

الحكم
       يكاد الحكم والسياسة  يكونان مترادفين فلذلك نبدأ بتعريف السياسة فيقول لسان العرب بأن سياسة من الفعل سَوَسَ يقال ساسوهم سَوْساً وإذا رأّسوه قيل سَوّسُوه وأساسوه، وساس الأمر سياسة قام به. وجاء في الحديث الشريف (كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم) أي تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية .
    والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه ، والوالي يسوس رعيته، ويقول ابن قيم الجوزية: "ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به الوحي ." وجاء في المعجم الوسيط أن السياسة هي رياسة الناس وقيادتهم.
         ويعرّف أحد الباحثين المعاصرين السياسة بقوله: "والسياسة في رأيي المتواضع هي الإدارة العالمة  
الإسلام والحكم : يقول الشيخ محمد المبارك:" إن الإسلام بنصوص الكتاب والسنة وفي واقع أمره يستلزم إقامة الحكم بل الحكم جزء منه "(الثقافة الإسلامية 3 ص275) وفيما يأتي بعض مسوغات قيام الحكم كما ذكرها الشيخ محمد المبارك في هذا الكتاب:
أولاً : " يتضمن القرآن الكريم أحكاماً لا يمكن تنفيذها إلاّ بوجود دولة وحكم وهذه الأحكام مالية كالزكاة وتوزيعها، والميراث، والنفقة الواجبة على الأقارب، ويتضمن أحكاماً تتعلق بـ الجهاد وإعلانه والإعداد له، كما تضمن القرآن الكريم إقامة الحدود على أولئك المنحرفين عن جادة الصواب كالقصاص وحد الحرابة وغيرها. ومن الآيات التي يستشهد بها هنا ما يأتي:
-{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}(النساء 58)
-{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(النساء 59)
ثانيا: الحديث الشريف تناول مسائل الحكم والسياسة في عدد من الأحاديث وفي ذلك يقول محمد المبارك:" في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم دلالة صريحة واضحة على أن الحكم أو الدولة جزء من تعاليم الإسلام التي بلغها للناس." ومن هذه الأحاديث:
-(لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلاّ أمّروا عليهم أحدهم)
-(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته)
-(سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله ..ومنهم إمام عادل)
- (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)
ثالثاً: فِعلُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الشيخ محمد المبارك : " فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم كأقواله مصدر أساسي من مصادر الإسلام ، وهو سنته الفعلية وخطته العملية ، وهو قد أقام دولة فعلاً ، وكان هو بالإضافة إلى صفة النبوة والرسالة إمام المسلمين في عهده وأميرهم ورئيس دولتهم يولي الولاة ويعين القضاة ويعقد الألوية ..."(الثقافة 3 ص273)، ولمن شاء المزيد الرجوع إلى كتاب الشيخ عبد الحي الكتاني الموسوم (التراتيب الإدارية أو الحكومة النبوية) ففيه تفاصيل عن هذه الحكومة.

الخليفة -وجوب الإمامة والدليل عليه

     الخلافة لغة: مأخوذة من خَلَفَ يخلف أي جاء بعده، وناب عنه ومن ذلك قوله تعالى{إني جاعل في الأرض خليفة} أي جنساً يخلف الجنس الموجود فيها.
تعريف الخلافة اصطلاحاً:" نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به"، وقد جاء في مقدمة ابن خلدون:"حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها". وتحليل هذا التعريف كما يأتي:
نيابة  بمعنى خليفة، وصاحب الشرع هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
حفظ الدين: كل الدين من عقائد، وشرائع، ومعاملات، وأخلاق. وسياسة الدنيا به: فلو سيست الدنيا  بغير الدين يضيع العدل ولا يجب أن تكون الدنيا تبعاً للدين. ولا بد من التوضيح أن الدين في نظر الإسلام هو الحياة كلها كما جاء في قوله تعالى{قل إن صلاتي و نسكي و محياي ومماتي لله رب العالمين}، فالدعوات التي ظهرت في أوروبا وتلقفها بعض المقلّدة من أبناء المسلمين من أمثال علي عبد الرازق ومن على شاكلته من أمثال تركي الحمد ومحمد عابد الجابري (مقالاتهما في جريدة الشرق الأوسط)،  ليس لها أصل في الإسلام فالإسلام يتضمن السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق وكل أمور الحياة.
       والخلافة الإسلامية نظام جديد في جوهره وغاياته ويختلف عن أنظمة الحكم التي كانت معروفة وسائدة في العالم في ذلك الوقت، وهما الكسروية والقيصرية ويقال لكل منهما ملك. ويراد بالملك هو هذا النوع من الحكم الاستبدادي المطلق الذي يمكن فيه لفرد أن يتحكم في مصائر أمة ويحكمها وفق هواه دون أن يكون خاضعاً لقانون يعلو إرادته .
       وقد فكّر المسلمون في اتخاذ نظام للحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدوا أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الفعلية والعملية هي النموذج الذي عليهم أن يحتذوه كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)
      وقد ارتعد رجل في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له (ما أنا بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وقد خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون ملكاً فسأل ذات مرة: "أملك أنا أم خليفة؟" فأجاب سلمان الفارسي رضي الله عنه:" إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك" وفي رواية أخرى أن عمر قال ذات مرة:" والله ما أدري أملك أنا أم خليفة فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم ." فقال أحد الصحابة:"يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً ، فقال عمر وما هو؟ قال: "الخليفة لا يأخذ إلاّ حقاً ولا يضعه إلاّ في حق فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا."               
      ولكن ليس كل مُلكٍ كذلك فقد جعل الله عز وجل سليمان نبياً ملِكاً، ويقول ابن خلدون عن المُلْك: "وحين  يكون المُلك مهتدياً بالدين " يتحرى الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق فيندرج تحت الخلافة ويكون من توابعها(المقدمة م1ص262) وقد أشار قبل ذلك (ص260) إلى أن "سليمان صلوات الله عليه وأبوه داود انفردا بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به، وكانوا ما علمت من النبوة والحق.                 


الأدلة على وجوب الإمامة:
          تناول الدكتور ضياء الدين الريس هذا الموضوع في كتابه القيم (النظريات السياسية الإسلامية)، فذكر أربعة براهين (أدلة) على وجوب الإمامة وهي:
1- الإجماع: "فالإمامة ثابتة بالإجماع: أي بإجماع الصحابة أولاً ثم إجماع الأمة. "فالصحابة الكرام بمجرد أن علموا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتداول في هذا الأمر، وقيل كرهوا أن يبيتوا ليلة وليس عليهم أمير. ويقول ابن خلدون في المقدمة: "ثم إن نصب الإمام واجب عقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وهكذا في كل عصر من بعد ذلك.
   وأضاف الريس بأن الذين قالوا بالإجماع قد يؤيدون هذا الدليل بذكر بعض الآيات والأحاديث على أنها بعض ما استند غليه الإجماع."
2-  دفع أضرار الفوضى:  الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي ولا بد أن يحدث في هذا الاجتماع ما يعكر صفو الأمن والاستقرار ولذلك فلا بد للناس من حكومة تدير شؤونهم . ونقل الريّس عن كتاب المواقف قوله :" فإنهم (أي الخلق) مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء ، قلما ينقاد بعضهم لبعض،  فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب، بل ربما أدى إلى هلاكهم جميعاً وتشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش، وصار كل واحد مشغولاً بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه، وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين". ويقول الماوردي: " ...ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجاً مضاعين، وقد قال الأفوه الأزدي - وهو شاعر جاهلي:
         لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم      ولا سراة إذا جهالهم سادوا.
3-تنفيذ الواجبات الدينية:  والواجبات الدينية إما فردية أو جماعية فالفردية هي المعرفة والعبادة .أما الواجبات الجماعية أو العامة " فهي تلك الواجبات التي فرضها الدين على الأمة كوحدة متضامنة وهي تكون القسم الأعظم من المقاصد الدينية وهي ما أسماها الفقهاء " فروض الكفاية" ومنها الجهاد مثلاً، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ومنها إقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش وغير ذلك.
4-تحقيق العدل الكامل: يقول الريس:" لا يتحقق العدل الكامل، ولا تكفل للناس سعادتهم في دنياهم وأخراهم ، ولا تتم وحدتهم ، ولا تنتظم الأمور إلاّ بوجود هذا النوع من نظم الحكم ، وهو "الإمامة" : أي الحكومة الإسلامية القائمة على أساس من الدين، إذ أن العدل المطلق إنما هو العدل الإلهي الذي تشتمل عليه الشرائع السماوية ، دون القوانين الوضعية. وما الإمامة إلاّ تكملة " للنبوة":ما هي إلاّ استمرار لقيادة الأنبياء وهدايتهم للناس، وما هي إلاّ احتفاظ بالمبادئ والعقائد التي دعوا إليها وجاهدوا من أجلها."

الحكومة الإسلامية:تعريفها وخصائصها

   الحكومة الإسلامية: هي الإدارة السياسية التي تتكون متى توفرت شروط قيام الدولة من أمة وأرض ونظام تخضع له(دستور)، واستقلال سياسي. وإسلامية لأنها تخضع للشريعة الإسلامية في جميع المجالات من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
 خصائص الحكومة الإسلامية
         للدولة الإسلامية خصائص لا تتوفر في الحكومات الأخرى وإن اتفقت الحكومة الإسلامية مع غيرها في بعض الخصائص ولكن استناد الحكومة الإسلامية إلى الشريعة الإسلامية يجعلها تتميز عن غيرها .وإليك هذه الخصائص.
بنى الشيخ محمد المبارك خصائص الحكومة الإسلامية على قوله تعالى{الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} وهذه الخصائص هي:
1- دولة عقدية ويتمثل ذلك فيما يأتي:
         أ- بنيت الدول الإسلامية وفق تصور كامل للوجود يحدد مكانة الإنسان في هذا الكون وعلاقته بالمخلوقات الأخرى، وإيمانه بخالق الكون بصفاته وأفعاله التي أوضحها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
         ب- تدعو إلى هذه العقيدة وتنشئ أبناءها عليها{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}.
         جـ - الانتماء إلى الدولة الإسلامية يكون بتبني مبادئها والقبول بحكمها بالنسبة للمعاهدين من أهل الكتاب، أما الجنسيات الحالية فهي أمر مؤقت يزول بإذن الله بزوال سبب الفرقة والتشتت.والدولة الإسلامية بالتالي مفتوحة على جميع القوميات والشعوب.
2- الدولة الإسلامية ليست دولة دينية Theocratic فالحكام (الإمبراطور أو الملك) في الدولة الدينية يستمد سلطته من الله ويقوم البابا أو أعلى سلطة دينية بتتويجه، أما في الإسلام فالخليفة يستمد سلطته من الأمة بحكم البيعة وهو خاضع للنقد والمراقبة.
3- الدولة الإسلامية أخلاقية إنسانية : هدفها تحرير الإنسان من العبوديات جميعاً (لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الواحد الأحد) فالهدف الأخلاقي مقدم على الاقتصاد والسياسة وغيرها. فلا تسمح الدولة بالممارسات غير الأخلاقية أو التي لا تتفق مع الشرع كإنتاج الخمور أو الغناء أو السينما الفاسدة أو القمار. (كتب الدكتور تركي الحمد في جريدة" الشرق الأوسط" ينكر ارتباط السياسة بالأخلاق فردّ عليه الدكتور مصطفى عبد الواحد في جريدة "المدينة المنورة" مؤكداً ضرورة ارتباط السياسة بالأخلاق وأشار إلى معاناة الغرب حالياً من الانفصال بين السياسة والأخلاق.)
4- الدولة الإسلامية دولة حضارية تسعى إلى بناء حضارة مزدهرة في جميع المجالات. وقد بلغ المسلمون في أوج رقيهم وازدهارهم مرحلة رفيعة من التقدم في شتى المجالات العمرانية والحضارية.ولم يبن هذا الرقي والازدهار على سرقة ثروات الأمم الأخرى وخيراتها أو التسابق بالتسلح وتحقيق المكاسب بإشعال الحروب الإقليمية هنا وهناك كما تفعل الحضارة الغربية. وليست الدولة الإسلامية دولة عدائية تسعى إلى السيطرة والهيمنة على الشعوب الأخرى بطمس شخصيتها وهويتها الذاتية.  
5- اختيار الحاكم في الدولة الإسلامية يخضع لشروط لم تعرفها أمة من الأمم وإن ظهر حرصها على أن يكون الحاكم بعيداً عن الشبهات. ولكن في الدولة الإسلامية ينبغي أن يخضع الحاكم لشروط العدالة. وبإمكانكم متابعة الأخبار عن بعض حكام الغرب ولتذكروا فضيحة وايت ووتر أو قبلها واتر جيت وقضايا التحرش الجنسي المرفوعة على زعيم أكبر دولة في العالم.
6- لا كسروية ولا قيصرية في الإسلام: عانت الأمم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من ألوان الاستبداد والطغيان من حكامها وتتمثل صفات الحاكم المسلم في ما يأتي:
         أ- لا رهبة من الحاكم، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (هوّن عليك يا أخي فما أنا إلاّ ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)، وثمة مثال آخر عندما جاء رسول من ملك الفرس فوجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نائماً في المسجد.فقال: "عدلت فأمنت فنمت"، وهو ما عناه  حافظ إبراهيم في قصيدته العمرية:
    أمنت لمّا أقمت العدل بينهمو           فنمت نوم قرير العين هانيها.
     وقد جاءت أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم للحكام بالابتعاد عن مظاهر التكبر والخيلاء فكان قوله: (من أحب أن يمثل الرحال قياماً له فليتبوأ مقعده من النار) وكان الصديق رضي الله عنه يحلب بعض شياه الحي، وكان الصديق وعمر رضي الله عنهما يتسابقان لخدمة امرأة عجوز من المسلمين. وهناك قصة المرأة العجوز في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت تقم المسجد فلما ماتت وعلم النبي بذلك فقال لما لم تخبروني وذهب وصلى عليها في قبرها.
         ب- مشاركة الشعب مشكلاته، فلا ينبغي للحاكم أن يعيش في برج عاجي بل يشاركهم أفراحهم وأتراحهم لأنه واحد منهم وقد شارك الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في بناء مسجد قباء وفي بناء مسجده وفي حفر الخندق . وقد قال الشاعر :
                   وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة        وحولك أكباد تحن إلى القَرِّ
             جـ- من أخطر مظاهر الكسروية أو القيصرية أن تكون يد رئيس الدولة وأهل السلطة والحكم مطلقة تطيش في أموال الأمة. ومن ذلك أن القرآن الكريم أنكر على فرعون مزاعمه في قوله تعالى {ونادى فرعون في قومه يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من حولي} وقد جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)، وقد شرحه ابن حجر العسقلاني بقوله: "وفي هذا الحديث ردع للولاة أن يأخذوا من المال شيئاً بغير حقه أو يمنعونه عن أهله" ولذلك لمّا جاء جندي من المسلمين بكنوز كسرى إلى المدينة المنورة قال عمر رضي الله عنه:" إن قوماً أدوا هذا لأمناء" فقال له علي ابن أبي طالب رضي الله عنه :" يا أمير المؤمنين عففت فعفت الرعية ولو رتعت لرتعوا."
المراجع
·        أبو الأعلى المودودي. الحكومة الإسلامية. (جدة: الدار السعودية للنشر، 1404)
·        محمد المبارك .نظام الإسلام :الحكم والدولة.(بيروت: دار الفكر ،1395)
·   محمد المبارك. " النظام السياسي في الإسلام" في الثقافة الإسلامية المستوى الثالث.(جدة: جامعة الملك عبد العزيز، بدون تاريخ)
·        ضياء الدين الريس.النظريات السياسية الإسلامية.(القاهرة: دار التراث، 1979م) الطبعة السابعة.

                                                   

الديموقراطية

         هذا الموجز الذي بين أيديكم ليس هو كل المطلوب منكم معرفته، ولكنه بمنزلة رؤوس الأقلام أو الخطوط العريضة التي يجب أن تقودكم إلى معرفة أوسع بهذا النظام السياسي التي يريدون أن يفرضوه علينا أو أن نبحث عن وسيلة نقربه من الإسلام أو نقرب الإسلام منه.، فأنتم تتخرجون قريباً بإذن الله ومن المتوقع منكم أن تدركوا هذه النظريات السياسية وموقف الإسلام منها.وكذلك أنتم في سنّ التحصيل الآن فإذا فاتتكم الفرصة الآن فقد يصعب توفرها مستقبلاً حينما تنشغلون في الحياة العملية (والزوجة والأبناء: مجهلة، مبخلة، مكسلة، مجبنة). كما لا بد أن تدركوا أن هذه أمانة تسألون عنها يوم القيامة كيف حصلتم على الشهادة وتوظفتم بها وكنتم لا تستحقونها.
         تستخدم كلمة الديموقراطية بمعنيين متميزين ولكن بينهما علاقة ببعضهما فلها معنى سياسي محدد وآخر عام واجتماعي.
         والكلمة في أصلها اليوناني مشتقة من كلمتين هما ديموس وكراتيس .وديموس معناها الشعب ، وكراتيس معناها الحكم أو السلطة. وبهذا يكون معنى الديموقراطية هو شكل الحكومة التي تكون فيها القوة السياسية في يد المواطنين، وهنا يقصد بالديموقراطية تميزها عن الحكم الاستبدادي أو الفوضوي،بمعنى غياب الحكومة أو حكم كل فرد بنفسه.
         ولفهم وجهة نظر الفلاسفة اليونانيين فمن الضروري أن نعرف شيئا عن التطبيق الفعلي للديموقراطية اليونانية. فثمة حقيقتان مهمتان: الأولى انتشار الرق الذي لم يكن مسموحاً به فحسب بل كان أساسياً للديموقراطية اليونانية. فقد كان عدد سكان أثينا يقدر بثلاثين ألفاً ويقوم بخدمتهم مئة ألف من الرقيق.والحقيقة الثانية اشتراك جميع المواطنين الأثينيين في الحكم ، حيث كانت القوانين تسن في اجتماعات جماهيرية حاشدة، ويتم اختيار المسؤولين بالقرعة على أساس دوري، وحتى الأحكام القضائية يتم التوصل إليها بتصويت مباشر بعد محاكمة صورية. وهذا يعني أن ينفق كل مواطن أثيني وقتاً كبيراً في القضايا العامة.
         وكان رأي بعض الفلاسفة أن لا يزيد عدد المواطنين على خمسة آلاف شخص ، ولا يزيد حجم المدينة عن تلك التي يمكن أن يقطعها الإنسان مشياً على الأقدام من الصباح حتى المساء. ولما كانت هذه الصورة غير ممكنة دائماً فقد نادى بعض الفلاسفة بحكم طبقة من العقلاء والفضلاء. ورأى بعضهم أن الديمقراطية هي التي تسود فيها مصالح الطبقة الفقيرة على مصالح الطبقة الغنية.
         ورغم النقد للممارسة الديموقراطية لكنهم رأوها طريقة حياة مبنية على مجتمع يتكون من مواطنين أحرار ومتساوين، إنه المجتمع الذي  يعترف بقيمة كل فرد وأهميته ، وهو مجتمع لا يؤمن بأي امتيازات يحصل عليها الفرد من الولادة بسبب نسبه أو ثروته أو مكانته الاجتماعية.
   
 خصائص النظام الديمقراطي الأساسية:
 1- سيادة الشعب: ومعناها السلطة العليا التي لها حق التشريع وهي فوق الجميع والسلطات هي:
      أ- التشريعية وعملها وضع الأحكام وتعديلها وإلغاؤها ومراقبة تنفيذها.
     ب- السلطة التنفيذية ومهمتها تنفيذ القانون أو الإرادة الشعبية.
     ج- السلطة القضائية: ومهمتها القضاء فيما يعرض عليها وفقاً للأحكام والقوانين.
2- مبدأ الشرعية: ويعني سيادة القانون الذي يخضع له الجميع من حكام ومحكومين
3- الحقوق والحريات العامة: ويمكن تقسيمها كما يرى الدكتور علي جريشة إلى قسمين:
     أ- المساواة أمام القانون وأمام القضاء وأمام الوظائف والضرائب
    ب- الحرية ويندرج تحتها الحرية الشخصية والحرية السياسية والحرية الاقتصادية.
   ويمكن تفصيل هذه الحريات أكثر ولكننا نتوقف عند الحرية الشخصية التي يقسمها الدكتور علي جريشة إلى ما يأتي:
   -- حق الحياة ، وحق التنقل ، وحق الأمن، وحق عدم جواز الاسترقاق، حرمة السكن، سرية المراسلات. أما الحريات المعنوية فمنها حرية التفكير العلمي ، وحرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي، وحرية الشكوى وأخيراً حرية التعليم.
          ويقول الأستاذ محمد قطب:"لم يكن الأمر سهلاً مع ذلك ولا ميسراً للراغبين، فقد احتاج إلى صراع طويل ومرير حتى استوى على صورته الحالية ، وكانت "المكاسب الديموقراطية" تأتي متقطعة ومتجزئة ولا تأتي إلاّ بعد معارضة طويلة من الذين بأيديهم السلطان ولا يرغبون في التنازل عنه ، وبعد قيام الشعب بالإضراب والعصيان والتمرد .وتتعرض دعاة الحرية إلى السجن والاعتقال والتشريد بتهمة إثارة الشعب والتحريض على الإخلال بالنظام."



الديمقراطية في العصر الحديث:
     ظلت الديموقراطية كلمة لا تعني كثيراً في السياسة حتى الثورة الأمريكية (من وجهة نظر موسوعة (جرويلر الأمريكية) وظهرت ثلاث قوى يمكن أن يرجع إليها الفضل في ظهور الديموقراطية الحديثة وهي:
1- مثاليات عصر النهضة.
2- نظرية الكنيسة البروتستانتية وممارساتها.
3- نشأة الطبقة الوسطى وازدياد قوتها بسرعة( نتيجة الثورة الصناعية)
   وبالرغم من أن النهضة والكنيسة لم تتسببا مباشرة في ظهور الديموقراطية لكنهما كانتا سببا في هدم النظام القديم ، والتركيز على أهمية الفرد . ويرجع البعض ظهور الديموقراطية إلى بداية القرن السابع عشر.

من أقوال بعض مفكري الغرب في الديموقراطية:
    يقول المفكر الأمريكي جون ملتون :" أعطني الحرية لأعرف ،ولأتكلم وأناقش بحرية وفقا للضمير."
ينسب لبعض مفكري الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية القول: " كل الرجال أحرار ، ولهم حقوق لا يمكن التنازل عنها ، ومن هذه الحقوق الحياة والحرية والسعي نحو السعادة."
من عيوب الديموقراطية في نظر أهلها:
         كتب المفكر الفرنسي الكسيس دي توكفيل كتاباً بعنوان  الديموقراطية في أمريكا) في مجلدين سنة 1850م. ويعد هذا الكتاب أفضل تحليل للمجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية(موسوعة جرويلر)، وكذلك كتب باحث آخر هو جون ستيوارت ميل (1806-1873)م) وقد تخوف الاثنان من أن تصبح الديموقراطية كغيرها من الحكومات في الاستبداد وتدمير الحقوق الإنسانية والإبداع. وأشارا إلى أن مؤيدي هذا النظام لم يثبتوا بنجاح أن إنشاء النظم الديموقراطية سينهي كل التهديد للحرية ،بل على العكس أحس الاثنان بأن هذه الأنظمة قد تتكور إلى استبداد  الغالبية. وقد أشار ميل في مقالة له عن الحرية عام 1859م بأن الحكم الذاتي الذي يتحدث عنه الديمقراطيون لم يتضمن حكم كل فرد بنفسه بل الحكم على كل فرد من قبل بقية المجتمع أو الغالبية وفي هذه الحالة ما الذي يضمن حرية الفرد.
         ولقد قيل إن الديموقراطية كانت حلم القرن الثامن عشر، وإنجاز القرن التاسع عشر، ومشكلة القرن العشرين. ومن المشكلات التي نشأت الميل لتطوير الفساد في الآليات السياسية واستبداد الغالبية واللامبالاة الشعبية وسياسة جماعات الضغط، وعدم الاستقرار الحكومي. وقد هزت هذه المشكلات أولئك الأكثر تفاؤلاً من مؤيدي الديموقراطية.
   وقد أورد الدكتور فوزي طايل في كتابه (ثقافتنا في ظل النظام الدولي الجديد)  إلى رأي عالم الاجتماع الايطالي روبرت ميشلز الذي يقول فيه: "إن الديموقراطية وهم وزيف، وأنها حكم القلة كأي نظام آخر. أما وهم المشاركة الشعبية فقد قدم الدكتور فوزي مثالاً على نسبة الناخبين الذين يستخدمون حقهم في الاقتراع وأنه مهما ارتفعت نسبة المشاركة الشعبية فلن يكون حظ أي رئيس أن يزيد عدد الذين يرتضون رئاسته تزيد على عشرين بالمائة من أفراد الشعب.


الديموقراطية في ميزان الإسلام
         وقبل أن نزن الديموقراطية بميزان الإسلام  لابد من كلمة عما يتردد من أن في الإسلام ديموقراطية جاءت امتداداً للديموقراطية العربية زاعمين أن العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا بدواً أحراراً لا يعرفون طغيان الملوك ، ولا يخضعون لسطوة الحاكمين من الأكاسرة والقياصرة. ولكن الواقع التاريخي يؤكد عكس ذلك بأن العرب خضعوا لملوك طغاة مستبدين فمن ملوكهم الطغاة كليب بن وائل بن ربيعة الذي ضرب فيه المثل " أعز من كليب" والذي بلغ من عزه أو قل طغيانه وجبروته انه كان يحمي الكلأ ، وكان يجير الصيد فلا يهاج.
         ومن ملوك العرب أيضاً عمرو بن هند وله قصة طريفة وهي انه كان لا يرى في نساء العرب من يحق لها أن تأنف من خدمة أم الملك (أمه)وكان ما كان من قصة الشاعر عمرو بن كلثوم الذي قربّه إليه حتى كان من أقرب الناس إليه ، ولكن لمّا علم أن للشاعر أمّا يحبها أراد أن تأتي وتخدم أمه . وقتل الشاعر الملك وقال فيه تلك القصيدة المشهورة التي من أبياتها:
                  بأي مشيئة عمرو بن هند            نكون لخلفكم فينا قطينا
                   تهددنا وتوعدنا رويداً               متى كنّا لأمك مقتوينا (خدماً)
    وإذا كان الغرب يرى أن ديمقراطيته هي أفضل نظام ابتدعه البشر فإن الإسلام بأعظم نظام جاء من عند رب البشر . وما صرّح به الرئيس الأمريكي الحالي (بيل كلنتون) عن أن النظام الأمريكي هو أفضل نظام ويجب على العالم أجمع أن يأخذ به، يجب أن نستطيع الرد عليه بما لدينا من تشريعات سماوية هادينا في ذلك قول الحق تبارك وتعالى{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، فالشهادة لنا وليست لأمريكا أو غيرها ، ولكن لما ضعف تمسكنا بالإسلام حُقَّ للرئيس الأمريكي أو غيره أن يقول ما يشاء.
   يقول محمد شاكر الشريف في كتاب له بعنوان (حقيقة الديموقراطية) بأن هذا النظام يستحق أن نطلق عليه (حكم الطاغوت) ومعنى ذلك أن يكون الأمر والنهي كله لغير الله سبحانه وتعالى أو يكون بعض الأمر والنهي والتشريع لله والبعض الآخر لغير الله جل وعلا. ولذلك لا يستقيم إيمان عبد ولا يصح له إسلام حتى يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله لأنهما ضدان لا يجتمعان أبداً. قال تعالى{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}
   أما تفصيل ذلك فكما يأتي :
   أولاً : حرية الاعتقاد يحق للمواطن في ظل النظام الديمقراطي أن يؤمن بأي دين شاء، وله أن يغير دينه متى شاء، فليس في هذا النظام جريمة الردّة لأن العقيدة والإيمان مسألة شخصية بين العبد وربه.
ثانيا: في مجال الأخلاق: فما دام البشر هم المشرعون فقد انطلق الناس يمارسون ماشاؤوا من الرذائل والموبقات. وها هي أمريكا في العصر الحاضر وغيرها من دول أوروبا تنتشر فيها أنواع الجرائم ويصبح للشواذ حقوقاً يحميها الدستور. بل إن هؤلاء الشواذ أصبحوا مميزين في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون لأنهم فيما يبدو قدموا له أصواتهم. وقد بلغ من الشواذ أن يكون لهم أحياء خاصة وكنائس ومتاجر وملاهي وغير ذلك.
ثالثا:الاقتصاد :لقد عبدت المادة من دون الله سبحانه وتعالى فأصبح للأفراد الحرية المطلقة في نشاطهم الاقتصادي فأصبح الربا والاحتكار والغش والاستغلال أموراً مباحة.
         ويرى الأستاذ محمد قطب أن الحكم والتشريع في النظم الديموقراطية قد انتقل من الشعب إلى الطبقة الرأسمالية التي تملك وتحكم، ولا معقب من البشر لحكمها، وإن كان التشريع -نظريا- من حق الشعب، والتعقيب-نظريا- في يد الشعب. وأما الحرية في النقد ووسائل الإعلام فهذه يملكها أيضا الرأسماليون. وانظروا اليوم من يملك القنوات الفضائية في العالم العربي على سبيل المثالّ فهل اجتمع الفقراء أو أصحاب الفكر والإصلاح وأسسوا قنوات فضائية عدا واحدة أو اثنتين أما القنوات الأكثر شعبية فأصحابها هم من يملكون المال والسلطة؟ّ!!


الخاتمة
       كانت هذه صفحات قليلة في مادة النظام السياسي الإسلامي، وأود أن أؤكد أنني لم أقصد من هذه المذكرات أن تكون هي المطلوب فقط، ولكن أردت أن أقرب المادة إلى أذهان الطلاب وأحببهم فيها رائدي في ذلك ما كان يفعله علماؤنا من كتابة ورقات مختصرة للمادة كمتن يحتاج إلى شرح. ومن الأمثلة على ذلك بعض المتون في أصول الفقه أو في الوصايا أو في اللغة العربية. وأعرف من الأمثلة على ذلك كتاب ( قطر الندى وبل الصدى) و(الورقات) في أصول الفقه وغير ذلك من الكتب.
      ولذلك فالطالب الكسول الخامل الذي يعتقد أن هذه الورقات هي كل المطلوب فقد ظلم نفسَهُ أولاً، وظلم أستاذه ثانياً، وظلم أمته ثالثاً. ظلم نفسه لأنه قصّر في تهذيبها وتعليمها، وظلم أستاذه لأنه نسب إليه أمراً لم يقله ولم يؤمن به. فهذه المذكرات الموجزة هي خلاصة قراءات تساوي مئات الصفحات وجهد عشرات الساعات. أما ظلمه لأمته فإن هذه الأمة التي وثقت به وعلقت عليه آمالها إذ به يخون الأمانة ويخدع أمته، فهو الذي ينتظر منه أن يقرأ كتاباً أو أكثر لفهم هذه الأوراق إذ به يخلد إلى الراحة والدعة والخمول؛ فيقبل من الهزيمة بالإياب فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
     ولا بد من كلمة أن النظام السياسي في الإسلام ليس مادة تحفظ لأداء الامتحان فقط فهذا يقوم به الطالب أي طالب بحكم انتمائه لكلية من الكليات، ولكن المقصود أن ندرك أننا نتعلم علما سنسأل عنه يوم القيامة كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع مسائل: ومنها علمه ماذا عمل به) فقد تعلمنا الكثير عن النظام السياسي وعلينا أن نسعى إلى أن نجعله واقعاً في حياتنا. كما إننا مسؤولون أمام الله عن هذه الأمة التي تكالب عليها الأعداء فقد غزتنا الرأسمالية والليبرالية الديموقراطية تغرينا بأن النظام الأمثل هو نظامها ، وكانت الشيوعية قبل أن يقضي عليها ربنا بالانهيار قد سيطرت في بعض البلاد الإسلامية فتحول كل شيء إلى الشيوعية والاشتراكية . فما ذا عملنا لنحافظ على إسلامنا ونظمه . ألا تذكرون قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حينما انتفضت الجزيرة العربية ضد الدولة الإسلامية فقال تلك القولة القوية:" الله الله أن يؤتى الإسلام وأنا حي" أليس الصديق رضي الله عنه قدوة لنا كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)
     فهل الديموقراطية التي تبيح الردة وتشرع لنفسها كما تشاء وتسمح بالشذوذ وتبيح الخمر والقمار والميسر أهدى من إسلامنا؟ إن هذه الديموقراطية تريد أن تفرض وجودها على كل دول العالم بكل ما أوتيت من قوة وإن لهم من القوى المادية ما يعينهم على تنفيذ ما يريدون فما ذا نحن فاعلون؟  اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.

الملحق الأول: الفساد
حصاد الفساد والدكتاتورية وحكم الفرد
في محاضرة ألقاها الأسبوع الماضي بالقاهرة كشف الدكتور أحمد جويلي الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية أن الفجوة الغذائية في العالم العربي بلغت 15 مليار دولار سنوياً، وأن حجم البطالة يتراوح بين 50 و60مليون نسمة وأن نسبة 60% من تعداد هذه البطالة هم من الشباب، الأمر الذي يمثل قنبلة خطيرة لأنها تتزايد بنسبة 3% كل عام.
         هذه البيانات المهمة التي جاءت على لسان مسؤول عربي تجسد الوضع المتردي الذي وصل إليه العالم العربي فيما يتعلق بعصب الحياة وهو الغذاء ومجالات العمل، فالأمم التي تعاني من أزمة في غذائها مهددة بالسقوط والتسليم لكل عوامل الابتزاز والإغراء الاستعماري. والأمة التي تصيبها البطالة، خاصة في أعز ما تملك وهم الشباب، أمة مهددة بالانتحار على مذبح المشكلات الاجتماعية والجرائم اللاأخلاقية والعنف والسرقات.
      وإذا كان العالم العربي قد أصيب بالداءين معاً.. أزمة الغذاء وأزمة البطالة.. فلا نبالغ إذا كررنا القول إن الوضع خطير والمستقبل سيكون أكثر خطورة إذا لم يتم تدارك الموقف بحلول جذرية وجدية.
         لكن أول مقومات العلاج تكمن دائماً في التعرف على مسببات الأزمة لمحاولة تلافيها.. ومن يتأمل في جذور أزمة الغذاء والبطالة التي تعصف بالعالم يجدها تتمثل فيما يلي:
      أولاً: غياب الرؤية العربية الإستراتيجية التي تضع حلولاً عملية لمعالجة الأزمات بصفة عامة. ولاشك أن إقامة السوق العربية المشتركة كان يمثل أحد تلك الحلول التي لو تمت لتحركت عجلة الاقتصاد ولأسهمت بنصيب كبير في حل أزمة الغذاء والبطالة، ولكن الدول العربية وفقاً لما قال الدكتور جويلي: "لم تحقق أي نجاح في هذا الصدد منذ تأسيس الجامعة العربية عام 1945".
         وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نشير إلى غياب الرؤية العربية الجامعة في التعامل مع معظم القضايا العربية المصيرية، فليس هناك رؤية عربية للتعامل مثلاً مع مشكلة الصراع على المياه في المنطقة أو الصراع العربي الصهيوني أو الأمن القومي العربي.. أو غيرها من القضايا .. لقد غاب الفكر الجماعي وغابت الرؤية الموحدة فتبعثرت الأفكار والجهود وعجزت الحلول الفردية عن التصدي للقضايا الكبرى.
          ثانياً: غياب الحريات وتفشي ظاهرة الكبت وسيطرة الحزب الواحد والحاكم الفرد على مقاليد السلطة في العديد من البلدان العربية عبر الأنظمة الثورية العسكرية، أفرز حالة من الجدب الفكري والسلبية الشعبية في التعامل مع القضايا التي تواجه المجتمع، بعد أن انفرد بالحكم طبقة من الدكتاتوريين الذين أمموا كل شيء في البلاد لحسابهم.
       ومن ناحية أخرى فإن أنظمة الحكم هذه ورطت بلادها وشعوبها في نزاعات وحروب ومغامرات عسكرية خارج الحدود لا لشيء إلا لإرضاء نزواتها الشيطانية، كما ورطت البلاد في معاهدات سلمية فاشلة مع العدو الصهيوني.. الأمر الذي تسبب في نزح خزانات البلاد وإهلاك أبنائها وضرب اقتصاداتها في مقتل، فسقطت في مستنقع الفقر والجوع والبطالة.. وإن المثال الأوضح أمامنا اليوم هو ما حل بالعراق على أيدي نظام البعث البائد وما جرى لمصر في ظل نظام عبد الناصر ومن بعده وما جرى ويجري في ليبيا وسورية.. وغيرها.
     ثالثاً: لقد تكونت في العديد من البلاد العربية في الآونة الأخيرة طبقة من الطفيليين من المفسدين ولصوص المال والمتاجرين بأقوات الشعب وأمواله. وقد عقدت تلك الطبقة حلفاً مع المتنفذين في السلطة، وحدث تحت مظلة هذا الحلف تخريب لخزائن الشعوب تحت أسماء ومبررات خادعة، فلم يعد هناك مجال لسد الفجوة الغذائية ولا مجال لإقامة مشروعات تستوعب ملايين العاطلين عن العمل، ووضعت البلاد أمام أخطر القنابل الموقوتة من الجوع والبطالة وهي كفيلة إن انفجرت بالعصف بالمجتمعات والإتيان عليها.
      ومن هنا تظل الأزمة قائمة.. أزمة الغذاء والبطالة .. في العالم العربي طالما بقيت مسبباتها.. ولن تجد طريقها إلى الحل الجذري الناجع إلا بزوال حكم الفرد وانتهاء الحكم الدكتاتوري واسترداد الشعوب حريتها وإفساح الطريق أمامها للمشاركة في صنع القرار ببلادها، وانتقال الحكومات العربية من حالة الفكر الأحادي إلى التفكير المشترك البنّاء الذي ينطلق من عقيدة الإسلام وقيمه لمواجهة القضايا والأزمات الكبرى.
       وقبل ذلك وبعده فإن العودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى وتطبيق شرعه والنزول على أحكامه، لا شك أنها كفيلة بتحقيق الأمن والرخاء والقوة والمنعة. وصدق الله العظيم إذ يقول: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)(الأعراف) وصدق الله: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا  يرسل السماء عليكم مدرارا  ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا 12(نوح).

قراءة في كتاب الفساد الإداري
                                                          عبد الله صادق دحلان

       في كل إجازة سنوية أو أي إجازة خلال العام أصطحب معي مجموعة من الكتب الاقتصادية، ولكنني وللأسف لا أستطيع أن أقرأ منها سوى كتاب واحد أو كتابين على الأكثر والأعظم وقد يعود السبب لأنني موجه قراءتي للجانب الاقتصادي وما يتعلق به فقط وهي قراءة متخصصة تقابلها الكتابة المتخصصة والتي أؤمن بها وألتزم بها حتى وإن كانت مهمة أو غير مهمة للآخرين أو غير جذابة لقراءاتهم رغم أن الاقتصاد هو الأساس لأي تكوين سياسي أو اجتماعي إلا أنني هذا العام قررت أن أنوع قراءتي في هذا الصيف وفضلت أن يكون اختياري لمواضيع لها علاقة قوية بالاقتصاد فوقع اختياري وأنا أزور إحدى المكتبات المتخصصة في جنيف على كتاب اسمه (الفساد. الأسباب والعواقب والإصلاح) مؤلفته الدكتورة سوزان روز أكرمان، وهي أستاذة في القانون والعلوم السياسية في مركز (هنري. ر. لوس ) بجامعة ييل في الولايات المتحدة الأمريكية وهي المدير المشارك بكلية الحقوق والاقتصاد والسياسة العامة في الجامعة. وقد عملت سابقاً خبيرة في البنك الدولي وحللت فيه موضوع الفساد الإداري وأعدت فيه دراسة متكاملة بداية من تعريف الفساد إلى أنواعه وأشكاله وفئاته وتوزيعه الجغرافي والسياسي وإجراء مقارنة للفساد بين الأنظمة الاشتراكية السابقة والأنظمة الرأسمالية وأوضحت أشكال الفساد في الدول الصناعية والدول النامية والدول الأقل نمواً، ثم تطرقت إلى أثر الفساد الإداري والمالي على استمرار الدول والحكومات وأوضحت كم من دول انتهت بل كانت نهايتها الزوال من خارطة العالم الجغرافية وتسبب في نهاية أنظمة اقتصادية وسياسية بالكامل. وفي بعض الدول أدى الفساد الإداري إلى سقوط رؤساء حكومات ونهاية بعض الوزراء واقتادهم فسادهم إلى السجون وفي الحقيقة لقد انجذبت لقراءة هذا الكتاب للتعرف على أنواع الفساد الإداري في العالم ثم تشخيص الفساد في بلادنا للتعرف على نوعية الفساد الذي أخذ يظهر في الجهاز الإداري الحكومي والخاص. وقبل أن أخوض في بعض التفاصيل أود أن أوضح حقيقة أساسية وهي أن جميع الأديان السماوية وعلى وجه الخصوص ديننا الإسلامي حاربت الفساد بجميع أنواعه وأن جميع القيادات والحكومات تركز أساساً على محاربة الفساد بوضع الأنظمة والقوانين التي تحارب أنواع الفساد وإن اختلفت قوتها وفعاليتها ودرجة تطبيق هذه الأنظمة إلا أن هناك توجها صادقا من قبل حكومات الدول. ونحن في المملكة العربية السعودية يحكم محاربة الفساد ديننا الإسلامي وشريعتنا السمحة أولا وأخيراً ثم الأنظمة والقوانين التي وضعت لمتابعة ومحاربة ومعاقبة الفساد الإداري والمالي. لكن ضعف تطبيق الأنظمة نتيجة ضعف الأجهزة الرقابية أدى إلى تطور أنواع الفساد الإداري.
       ولا تعتقد أخي القارئ بأننا فقط الذين نعاني من الفساد الإداري في العالم فدول العالم أجمع تعاني أكبر معاناة من الفساد الإداري والمالي وكما تقول زميلتنا الباحثة إن من أكبر الدول التي انتشر فيها الفساد الإداري والمالي هي الدول الاشتراكية التي كانت تنادي بالمساواة والمشاركة وتوزيع الثروات بالتساوي على الشعب واقتصرت الملكية على الدولة فقط، وكانت حكومات الدول هي محور الفساد الذي أدى بالاتحاد السوفيتي إلى الانحلال وظهرت التماسيح التي كانت تقود حملة الفساد في بلادهم، أما في الدول الصناعية الكبرى فالشركات متعددة الجنسيات والشركات الكبرى هي أساس الفساد لأنها بقوتها الاقتصادية استطاعت أن تدخل أسواق الدول النامية المستشري فيها الفساد بنفس الأسلوب بل هي التي نظمت وقننت الفساد المالي في تلك الدول وجعلته جزءاً من صفقاتها، ويذكرني هذا بأحد المشاريع الضخمة في إحدى الدول الخليجية (غير المملكة) والتي خصصت إحدى الشركات العالمية ثلث قيمة المشروع المعلن عنه عمولة لشخصية واحدة. وغيرها من قصص في دول العالم الثالث واستطاعت الشركات العالمية أن تقنع حكومات دولها بتقنين مبدأ العمولات وحسمه من الضرائب. ونعود إلى الكتاب المعني بالمقالة والذي يوضح أن من أهم أسباب الفساد الإداري هو بقاء المسؤولين التنفيذيين فترات طويلة على كراسيهم وتؤكد العديد من الدراسات أن بقاء المسؤولين لفترة طويلة في موقع واحد يؤدي إلى تغيير سلوكياتهم (إلا البعض النادر منهم). . فيتحولون من أشخاص منتجين إلى أشخاص يتكلون على أجهزتهم وعلى المتعاملين معها.
      ولهذا فإن من أهم السياسات الإدارية المتبعة في الأجهزة العسكرية في العالم هي تنويع المسؤوليات للقادة العسكريين وتغيير مواقعهم كل سنتين وبحد أعلى إلى ثلاث في بعض الدول وكذلك في السلك الدبلوماسي فحركة التغييرات والتنقلات أساسية في الإنتاج والتعليم والتدريب والترقي والتي تحددها العديد من الدول بالأربع السنوات.
     ونحن في المملكة يلتزم النظام العسكري والدبلوماسي بهذه الأنظمة ولكن وللأسف في الأجهزة الإدارية الأخرى نرى مسؤولين على كراسيهم لعشرات السنين حتى فقدوا الإبداع والإنتاج وتحول البعض إلى عقبات أمام التطوير والتقدم.
     ولقد شكوت هذا إلى أحد وكلاء الوزارات في وزارة تعاني من تعقيدات مسؤوليها في إحدى المناطق الرئيسية فكان جوابه أن أكبر معاناة يعانونها. هي إيجاد البدائل المؤهلة. هذا بالإضافة إلى امتناع بعض من المديرين الإقليميين في المناطق من قبول حركة النقل والتغيير ولاسيما إذا كانوا من أهل المنطقة أو مقيمين فيها إقامة طويلة، وإذا صدر قرار نقلهم توسط المسؤول المعني بالنقل بجميع من يعرفهم أو تعرف عليهم خلال فترة إدارته لدى الوزير المعني لإرجاء قرار النقل على حساب المواطنين، وفي بعض الأحيان يرجئ المسؤول الأول التغيير في وزارته نتيجة الضغوطات التي تمارس عليه أو لارتباطاته الشخصية مع المسؤول المعني بالتغيير.
     تقول الدراسة إن من أكبر مظاهر الفساد الإداري هو عندما يكون المسؤول الأول مشغولاً لدرجة أن يترك أمر وزارته أو جهازه الإداري في تصرف أحد موظفيه وكم من موظف أصبح في الأهمية قبل رئيسه. وهنا يبدأ الفساد الإداري في غياب المراقبة والمتابعة حتى إن العديد من القضايا المهمة التي تحتاج إلى أن يحاط المسؤول الأول بها علماً تحجب عنه ولا يعلم عنها إلا بعد وقوع كارثة أو نتيجة مساءلة للمسؤول من أعلى منه. أما عن الفساد الإداري المرتبط بالمحسوبيات تقول الدراسة إن الدول العربية أكثر دول العالم التي ينتشر فيها هذا النوع من الفساد الإداري والذي تلعب المحسوبية من القرابة أو الرحم أو الانتماء إلى قبيلة أو منطقة دوراً كبيراً فيه مما يؤدي إلى إعطائهم الأولوية في التعيين أو الترقية أو الابتعاث أو تسهيل الإجراءات وحرمان الآخرين بدون سبب غير ذلك.
         وتؤكد الدراسة أن أساس الفساد الإداري هو الاختيار غير الموفق للقيادات الإدارية أو كبار المسؤولين من وزراء ونوابهم على مبدأ التزكية أو المعرفة الظاهرية أو على مبدأ القرابة أو الانتماء دون التركيز على مبدأ التقييم العلمي المبني على الكفاءة والخبرة والإنتاجية وهذا مما يؤثر مستقبلاً على أداء وإنتاجية الأجهزة الإدارية وينعكس سلباً على رضاء الناس في إنجاز معاملاتهم. وهذه قد تكون في وجهة نظري هي بداية الفساد الإداري.
    وتوضح الدراسة أن غياب أجهزة المتابعة والتقييم وغياب المواطنين الصادقين والمخلصين في نقل الصورة الحقيقية لولي الأمر عن المسؤولين الفاسدين إدارياً تجعل الأمر أكثر تعقيداً. ويتحول في النهاية الفساد الإداري إلى فساد مالي يدفع قيمته المواطنون المحتاجون حيث إن الفساد المالي ينقسم إلى قسمين الأول ويسمى (سرقة المال العام) والثاني (سرقة أموال المواطنين) والثاني هو الأخطر والأسوأ حيث تصعب مراقبته وينتشر سريعاً حتى يصبح وكأنه رسم متعارف عليه وتختلف أنواعه.. فمنها النقدي ومنها العيني ومنها تسهيلات أخرى. ويتحاشى الناس المحتاجون الرافضون لهذه الأتاوى من الإعلان أو الشكوى خوفاً على مصالحهم الحالية والمستقبلية. وتؤكد الدراسة أنه وإن كانت بعض الدول النامية قد وضعت أنظمة وقوانين تمنع الوزراء من ممارسة العمل الخاص أو أبناءهم أو زوجاتهم خوفاً من استغلال النفوذ إلا أنه على أرض الواقع لا يوجد تطبيق صارم لهذا النظام لعدم وجود أجهزة متابعة على الوزراء وكبار الموظفين ولهذا فإن النظام غير مفعل ولا يجرؤ أحد أن يتحدث عن مخالفة بعض الوزراء الذين يعمل أبناؤهم في أعمال خاصة مرتبطة بأعمال وزاراتهم.
         أخي القارئ هذه قراءة بسيطة في كتاب الفساد الإداري والذي يحتاج إلى مقالات عديدة لكنني أؤكد أن قيادتنا حريصة كل الحرص على معالجة الفساد الإداري والذي استعدت له بالأنظمة والقوانين والأجهزة المعنية بالمراقبة والمتابعة في بلادنا ويتطلب منا كمواطنين أن نكون صادقين أولاً مع أنفسنا وقيادتنا وتكون لدينا الجرأة في إعلام الأجهزة المعنية وولي الأمر عن أي فساد إداري نواجهه دون خوف أو قلق.
* كاتب اقتصادي سعودي


الدول المتقدمة تُغذِّيه أم تطارده؟!!
الفساد مارد يهدد التنمية
                                                        بقلم/ مغاوري شلبي
         أراد أحد رجال الأعمال أن يقدِّم رشوة إلى موظف حكومي كبير ليحصل على تسهيل معيَّن، وعندما دخل إلى مكتب الموظف غافله وألقى تحت الكرسي الذي يجلس عليه الموظف مبلغ 50 ألف دولار، ثم قال له: سيدي، لقد سقط منك على الأرض مبلغ 50 ألف دولار، فردّ عليه الموظف الحكومي الكبير قائلاً: لا، لم يسقط مني 50 ألف دولار، ولكن سقط مني 100 ألف دولار!!، وذلك في إشارة إلى أنه يريد رفع مبلغ الرشوة إلى 100 ألف دولار!.
        والذي يهمنا هنا من الزاوية الاقتصادية السؤال عمَّا هي تكاليف أعمال الفساد، وتأثيرها على اتخاذ القرارات الاقتصادية ومعدلات النمو، وهل يتوقَّف أثر هذه الرشوة على أن رجل الأعمال يتحمّل دفعها إلى الموظف الحكومي، أم أن هذه النوعية من الفساد سوف تؤثر على الاقتصاد القومي ككل، وعلى نوعية الحياة الاقتصادية التي يعيشها أفراد المجتمع؟!
الفساد قطاع عام وخاص أيضًا
         إن مفهوم كلمة "الفساد" يرتبط في الأذهان بمفهوم  "الشر"، ويعتبر أوضح وأقصر تعريف للفساد هو التعريف الذي ورد في موسوعة العلوم الاجتماعية، حيث يعرف الفساد بأنه: "إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص"، ورغم أن هذا التعريف يشمل الفساد الذي يقوم به المسؤولون الوطنيون العاملون بالحكومة، إلا أن هناك فسادًا يتمّ بالكامل في نطاق القطاع الخاص، وأيضًا.. هناك فساد متعدد الجنسيات يتم بين طرفين من دولتين أو أكثر، والملاحظ أن حوافز الفساد تزيد عندما يكون للمسؤولين الحكوميين من رجال السياسة والاقتصاد والقضاء مساحة واسعة للتقدير الشخصي، ولا توجد درجة مناسبة من الرقابة أو المساءلة، وكذلك عندما لا يمكن الاطمئنان لتفسيرات القانون أو لضمان تنفيذ أحكام القضاء، وكذلك فإن الفساد لا يتمثَّل فقط في المبالغ التي يدفعها رجال الأعمال في الخفاء للمسؤولين الحكوميين، ولكن له تكاليف أخرى؛ حيث إنه يجعل رجال الأعمال والشركات تضيع وقتًا طويلاً في التفاوض حول اللوائح والقوانين، وقد أوضح مسح قام به البنك الدولي أن حوالي 38% من المؤسسات الخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تضيع 15% من وقت كبار المديرين فيها في التفاوض مع المسؤولين الحكوميين، وهذه النسبة تصل إلى 52% في الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وذلك مقابل 10% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
الفساد الكبير والفساد الصغير
         يمكن أيضًا أن نميِّز بين "الفساد الكبير" الذي يقوم به كبار الموظفين والوزراء ورؤساء الدول أو "الفساد الصغير" الذي يشمل صغار الموظفين، والتفرقة هنا ليس مرجعها تفرقة في الحجم، فالفساد الصغير يتعلَّق بإتمام إجراءات روتينية على وجه السرعة أو عدم إجرائها أصلاً، مثل الإجراءات التي يقوم بها موظفو الهجرة والجمارك وأمثالهم، ولكن الفساد الكبير يتعلَّق بالتأثير على اتخاذ القرارات، مثل قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وترسية المناقصات والعطاءات، وليس معنى ذلك أن نركِّز على الفساد الكبير، ونتسامح مع الفساد الصغير؛ وذلك لأن كليهما ضارّ بالاقتصاد، حيث يؤدِّي الفساد الصغير إلى إلحاق ضرر بالغ بجودة الحياة للمواطن، وخاصة الأفراد العاديين، أما الفساد الكبير فمن الممكن أن يدمِّر الدولة بكاملها اقتصاديًا، كما أنه في حالة انتشار الفساد الكبير لا يكون هناك أمل في القضاء على الفساد الصغير، وتفيد التجارب الدولية أن هناك معايير معيَّنة للصفقات التي تجتذب الفساد الكبير وهي:
* حجم الصفقة: فلا بد أن يكون حجم الصفقة كبيرًا؛ ليغري هؤلاء الكبار من الموظفين والوزراء ورؤساء الدول، وإلا فلا داعي للمغامرة.
* التعمية: أي أنه كلما كانت الصفقة معقدة، وغير مباشرة يقبل عليها الفساد الكبير؛ لأن احتمالات الشكوك والتساؤل بشأنها ستكون ضعيفة.
* سرعة الحصول على العائد: لأن هؤلاء الكبار يفضلون تقديم التسهيل المطلوب والحصول على المقابل فورًا، ولن نجد وزيرًا أو رئيس دولة يفضل تقديم تسهيل معيَّن مقابل الحصول على رشوة خلال سنتين أو أكثر.
* وجود وكيل: ففي حالة الفساد الكبير لا يتمّ التعامل مباشرة بين مقدم الرشوة مثلاً والمسؤول الحكومي الكبير، ولكن يكون هناك وكيل عن المؤسسة مقدمة الرشوة، وآخر عن المسؤول الحكومي الكبير، وبذلك لا تكون المؤسسة قد أقامت علاقة مباشرة مع متخذي القرارات، ولذلك يُعتبر استخدام الوكيل في عمليات الفساد من أكثر العوامل التي تغذي آلة الفساد الكبير في العالم.
الفساد يضُرُّ الاقتصاد والمستهلك
         إن أهم الآثار الاقتصادية المترتبة على الفساد هي الزيادة المباشرة في التكاليف، فإن مبلغ الـ 100 ألف دولار التي دفعها رجل الأعمال إلى الموظف الحكومي الكبير مقابل الحصول على تسهيل معين، مثل الحصول على إذن باستيراد سلع معينة من الخارج أو الحصول على مناقصة أو عطاء معين لن يتحملها رجل الأعمال في النهاية، ولكن في الغالب يتم نقل عبئها إلى طرف ثالث قد يكون المستهلك أو الاقتصاد القومي ككل أو كليهما معًا، حيث يقوم رجل الأعمال بكل بساطة برفع سعر السلعة التي استوردها من الخارج أو رفع تكلفة المناقصة أو العطاء؛ ليعوِّض ما دفعه من رشوة، وذلك يعني أن المستهلك الذي يشتري هذه السلعة هو الذي يتحمل عبء الرشوة، وقد تتحملها ميزانية الدولة إذا كانت الحكومة هي التي تشتري السلعة، إلى جانب ذلك.. قد يؤدِّي استيراد هذه السلعة إلى زيادة الطلب على العملة الأجنبية لإتمام الصفقة، وهو ما يمثِّل ضغطًا على العملة المحلية، ويخفض قيمتها، وهذا يعني أن الاقتصاد القومي ككل هو الذي يتحمَّل عبء هذه الرشوة.
      والأمر الخطير في الفساد أنه يغير المعايير التي تحكم إبرام العقود، حيث إن التكلفة والجودة وموعد التسليم وغيرها من المعايير المشروعة هي التي تحكم إبرام العقود في الظروف العادية، ولكن في ظل الفساد يصبح المكسب الشخصي لكبار المسؤولين عاملاً هامًا في إبرام العقود، ويقلل من أهمية المعايير الأخرى كالتكلفة والجودة وموعد التسليم، وهذا يؤدي إلى اختيار موردين أو مقاولين أقل كفاءة وشراء سلع أقل جودة، وكذلك يؤدي الفساد إلى اتخاذ قرارات حكومية بإنشاء مشاريع أو شراء سلع غير ضرورية وتأجيل مشاريع أخرى ذات أهمية قومية، وهو ما نلاحظه بالنسبة لإعطاء تسهيلات مصرفية كالقروض، وتسهيلات استيراد؛ سواء في الرسوم الجمركية أو شهادات المنشأ، وشروط الإخراج وغيرها من التسهيلات لمشاريع بناء المدن الترفيهية والسياحية والملاهي وملاعب الجولف في دول نامية تعاني الفقر وأزمة إسكان، وفي نفس الوقت لا يتم تقديم هذه التسهيلات لصغار المقترضين أو المستوردين من الشباب، أيضًا يلاحظ ذلك في قيام بعض الدول بشراء معدات عسكرية تفوق القدرة الاستيعابية لجيوشها، ورغم عدم وجود ضرورة لشراء تلك الأسلحة؛ وذلك لأن هذه النوعية من المشروعات والمشتريات تمكن من يتخذون القرارات الحكومية من الحصول على رشوات كبيرة، وهو ما يعني أن الفساد يؤدِّي إلى تشويه القرارات الاقتصادية، ويجعل هناك عدم موضوعية في الإنفاق العام؛ ولذلك يعتبر الفساد أحد أهم العقبات أمام النشاط الاقتصادي، ويؤثِّر سلبًا على دوائر الأعمال والاستثمار والنمو الاقتصادي.

الدول المتقدمة تغذِّي الفساد في الدول النامية
         على الرغم من أن رشوة المسؤولين تعتبر جريمة داخل كل دول العالم.. إلا أن الدول المتقدمة لا تعتبر رشوة مسؤول أجنبي خارج الدولة جريمة، وأصبحت هناك مقولة شائعة في الدول المتقدمة مفادها: "أن علينا عند التعامل مع الدول النامية أن نتبع طريقها في إتمام الصفقات والرشوة جزء من ثقافة هذه الدول"، وهذه الحجة غير المنطقية يرفضها المهتمون بقضايا الفساد في العالم، وكذلك يرفضها رجال الأعمال والمسؤولون الحكوميون الأمناء في الدول النامية؛ وذلك لأنه قد يكون الفساد أكثر انتشارًا في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة، ولكن المؤكد أن الفساد ليس جزءاً من ثقافة الدول النامية، وخاصة الدول الإسلامية؛ لأن ثقافتها الدينية والتاريخية تحرِّم الفساد بكافة أشكاله وتحرم الرشوة؛ سواء تمت داخل الدولة أو خارجها، على العكس من ذلك.. نجد أن الدول الأوروبية تعتبر الرشوة التي تدفع لمسؤولين خارج البلد بمثابة مصروفات، وتقوم بخصمها من الضرائب التي تدفعها الشركات والأفراد للحكومة، وهو ما يعني أن الحكومات الأوروبية تدعم الرشوة وتغذي الفساد في الدول النامية، ويعني ذلك أيضًا أن الرشوة والفساد جزء من ثقافة وقوانين الدول المتقدمة وليس النامية؛ ولذلك قامت بعض الدول المتقدمة بتصحيح هذا الوضع عندما قامت دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بتوقيع اتفاقية تجرم تقديم رشوة للمسؤولين في الدول النامية لإبرام الصفقات.
المؤسسات الدولية وجزر النَّزاهة
         لقد اهتمت المؤسسات الدولية بالفساد، وفي مقدمتها البنك الدولي الذي وضع تدابير مكافحة الفساد على قمة جدول أعماله، وقد نشأ لهذا الغرض هيئة دولية، وهي "مؤسسة الشفافية الدولية"، وهي مؤسسة لا تسعى إلى الربح ومقرها برلين، وتعمل على مكافحة الفساد في مجال أنشطة الأعمال، ولها فروع في العديد من دول العالم، وقد وضعت هذه المؤسسة مفهومًا جديدًا يطلق عليه "جزر النزاهة"، وهو عبارة عن ميثاق لمكافحة الرشوة في عقود الصفقات العامة الكبيرة، وبناءً على هذا الميثاق يلتزم كل الأطراف في عقد الصفقة؛ سواء رجال الأعمال أو المسؤولون الحكوميون بعدم الحصول على أي شكل من أشكال التسهيلات أو الرشوة أو عرضها في مجال العقد، وإذا خالف أي طرف هذا الميثاق يتمّ وضعه على القائمة السوداء للأنشطة التي تتسم بالفساد، ويتم استبعاده من الحصول على أي عقود مستقبلية، وفي السنوات الأخيرة.. أصبح هناك دور متنامٍ للمؤسسات المالية الدولية التي تقوم بتمويل المشروعات الكبرى في العالم، أو التي تقوم بتقديم مساعدات للدول النامية؛ حيث بدأت في وضع معايير تضمن استخدام ما تقدمه من أموال ومعونات في الأغراض المحددة لها، وألا تستخدم في إبرام صفقات بين موردين أو مقاولين يتسمون بالفساد ومسؤولين حكوميين، كذلك قامت بعض الحكومات ومنها الولايات المتحدة الأمريكية بوضع تشريع لتشجيع ومكافأة من يقومون بالإبلاغ عن رؤسائهم عندما يحققون أرباحًا غير مشروعة باستغلال مناصبهم الحكومية، ويسمونهم "من يطلقون الصفارة".
موقع الدول العربية على خريطة الفساد
         لقد أنشأت هيئة الشفافية الدولية مؤشرًا دوليًّا لقياس الفساد -تعده كل 5سنوات- وهو يغطي أكثر من 54 دولة في العالم، وتنحصر قيمة هذا المؤشر بين صفر و10 درجات؛ بمعنى أن الدولة إذا حصلت على تقدير 10 درجات فهذا يعني أن هذه الدولة نظيفة تمامًا من عمليات الفساد، أما الدولة التي تحصل على تقدير صفر فهذا يعني أن جميع الأعمال والصفقات في هذه الدولة خاضعة للفساد والرشوة، وحتى الآن لم تحصل دولة في العالم على تقدير 10 أو تقدير صفر، ولكن هناك دول اقتربت منهما؛ فعلى المستوى العالمي.. تعتبر نيوزيلندة أفضل دولة في العالم من حيث هذا المؤشر، بينما تأتي نيجيريا في المؤخرة وبينهما الدانمارك وبريطانيا وإسرائيل وأمريكا واليابان وفرنسا وتركيا والهند.
         أما على مستوى الدول العربية.. فإن هذا المؤشر يوضِّح أن الفساد الإداري لا يزال يمثل مشكلة كبيرة في غالبية الدول العربية، وأن الوضع لم يتحسن في كثير منها منذ عام 1985، بل على العكس قد حدث تراجع في بعض الدول العربية.

الإصلاح العربي.. بالثورة على الفساد
                                                        بقلم صلاح عبد المتعال                                  13/4/2004 من موقع إسلام أون لاين
         إصلاح الشيء (لغة) هو إزالة التلف أو الضرر عنه وجلب المنفعة والسلامة إليه. وإذا كان الفساد هو التلف والعطب في الأمور والخلل والضرر والانحلال في المجتمع؛ فإن الصلاح هو الاستقامة والسلامة من العيوب وزوال العداوة والخصومة والشقاق، والتخفيف من حدة الصراع فيه. لقد ورد المصطلحان (الفساد والإصلاح) في القرآن الكريم في عشرات المواضع من الآيات القرآنية؛ إذ ورد الفعل فسد ومشتقاته الفعلية والاسمية في 44 موضعا، وورد الفعل صلح بمشتقاته الفعلية والاسمية أيضا في 182 موضعا. وهناك من الآيات التي تشير إلى سنن الله في خلقه، بمعنى أنها قوانين اجتماعية حتمية الحدوث فإذا "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس..." (الروم: 41) أي استشرى، فإن عاقبة ذلك وخيمة بسقوط المجتمع وانهيار أركانه واستهواء المستعمر للتسلط عليه ْ{إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة..} (النمل: 34)؛ كذلك الإشارة إلى أن الصلاح والإصلاح يدرأ الضرر والهلاك عن الأمة "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود: 117)، ويجلب الخير والرخاء إليها{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96).
الإصلاح أنواع
         ويتشكل الإصلاح بمقصد أصحابه فإما أن يكون إصلاحا حقيقيا فتتلاشى التناقضات وتصحح الأوضاع وتستقيم الأمور، أو أن يكون إصلاحا مزعوما هدفه تجميل الصورة أمام الرأي العام فتوضع الرتوش واللمسات الزخرفية ببعض الإجراءات والتغييرات السطحية لأي نقص أو عور في النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، بينما حدة التناقضات البالغة السوء هي التي تبقى على استمرار أصحاب ورعاة هذه النظم المتهالكة بحيث يصيبهم العجز لمواجهة التحديات الراهنة التي ينوء بحملها الوطن العربي.
         ورقة الإصلاح العربي التي قدمتها تونس في مشروع عقد القمة العربية هي من قبيل ذلك النوع المزعوم للإصلاح؛ إذ أثارت أزمة مصطنعة لفرض الرأي الأمريكي لأولويات الإصلاح وربطه بالإرادة الأوربية الأمريكية في مشروع شرق أوسطي كبير بما يتيح لإسرائيل التلاعب بمقدرات العرب وإرادتهم السياسية، خاصة بعد تهميش القضية الفلسطينية والغزو الأمريكي للعراق وإبراز قضية الإرهاب في المقدمة ابتغاء إدانة المقاومة المشروعة للطغيان الإسرائيلي في فلسطين وللاحتلال الأمريكي للعراق.
تكريس التبعية
         لوحة من ألوان الطيف السياسي بالغة التنافر بين ألوان العمالة السياسية لأمريكا التي تقارب نجمة داود، والعجز العربي والتناقض بين أنظمة الحكم ومصالح شعوبها، والتظاهر بالرغبة في الإصلاح لذر الرماد في عيون الشعوب المقهورة التي استيئست من مطالب الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي، وتمكين الإنسان العربي من حقوقه في العدالة والحرية والمساواة التي سلبت منذ أن تمكنت هذه الأنظمة على مر عقود من القرن العشرين، خاصة بعد أن نالت استقلالها من الاستعمار الأوربي من الخليج إلى المحيط.
ثم تفرط هذه النظم في استقلال شعوبها بتكريس التبعية الاقتصادية والسياسية واستمراء السلطة المستبدة، حيث حرمت مواطنيها من حق المشاركة في صناعة قرارات التنمية الاقتصادية والحرية السياسية في التعبير وتشكيل الأحزاب وتقييد مؤسسات المجتمع المدني وفتح الأبواب لاستشراء الفساد وصناعته بطرق مستحدثة تواكب العصر تعلو على أساليب الجرائم التقليدية ضد النفس والمال، بل تصل بجرائمها إلى حد إفراغ الخزائن من المصارف والبنوك وسلب الأوطان من عصبه الاقتصادي بقروض ومنح مردوده لأصحابها الأمريكان والأوربيين مرة أخرى، مما يغرق الأمة بديون من المليارات التي تربطهم بعجلة الدائن المقرض فتتفاقم التبعية الاقتصادية والسياسية، وتفرض السياسات الإنتاجية وتتضاءل مساحة زراعات المحاصيل الإستراتيجية كالقمح والذرة بالتحديد، وتفرض مشروعات الصناعة الاستهلاكية المعتمدة على الآلات المستوردة بقروضها الربوية المستغلة. وغير ذلك الكثير الذي يفتح الثغرات الكثير لانتشار الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
         وتفوح رائحة الفساد بما يزكم الأنوف وذلك على أعلى المستويات السياسية والاجتماعية بين وزراء ووكلائهم وتصدر ضدهم الأحكام. ولا تقف تراكمات الفساد عند حد معين، بل تتكرر دون ضابط أو وازع أو حسم يقطع دابر المفسدين؛ مما يشير إلى أن الظاهر هو قمة الجبل الجليدي من الفساد الذي يخفي تحت مياهه إفسادا لن تنتهي توابعه إلا بإصلاح شامل يبدأ بثورة على الفساد والإفساد.
منظمات الشفافية
         لقد قامت منظمة الشفافية الدولية TI) - Transparency International) بالإعلان عن مؤشر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index - CPI) للمنظمة للعام 2003 ويدل مؤشر الفساد في 133 بلدا من البلاد النامية -ومنها الدول العربية- أن 9 من أصل كل 10 دول نامية بحاجة ماسة لدعم عملي لكبح الفساد، وحسب المؤشر الجديد الذي يصنف 133 دولة حسب المستوى المقدر لقبول الرشاوى لدى السياسيين وموظفي القطاع العام فيها.. إنه مؤشر مركب اعتمد على 17 عملية استقصاء أجرتها 13 مؤسسة مستقلة شملت رجال أعمال ومحللي مخاطر من تلك الدول ويركز المؤشر على الفساد في القطاع العام، إذ يعرف بأنه سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
         لقد قامت منظمة الشفافية الدولية المشار إليها بإعداد تقرير علمي عن مدى استشراء الفساد في الدول 133 موضوع الدراسة الميدانية. وتم تحديد مستوى الشفافية الأعلى أي النقاء من الفساد بعشر درجات؛ بمعنى أن دولة كفنلندا حصلت بالفعل على 9.7 من 10 درجات وبذلك هي أقرب إلى الشفافية والنقاء والبعد عن الفساد. أما دولة بنجلاديش فقد حصلت على 1.3 درجة، ومن ثَم فهي بعيدة كل البعد عن الشفافية والأقرب إلى بؤر وانتشار الفساد. وقد بينت هذه الدراسة أن 7 من كل 10 بلدان تحصل على أقل من 5 نقاط على 10 نقاط، بينما تحصل 5 من 10 بلدان نامية على أقل من 3 نقاط على 10.
         وإذا بحثنا عن موقع البلدان العربية من الشفافية والنقاء بالبعد عن بؤر وانتشار الفساد كما ورد في التقرير فإن 5 دول فقط من 17 دولة عربية كانت متوسطة في درجة الشفافية (عمان 6.6، البحرين 6.1، قطر 5.6، الكويت 5.3، الإمارات 5.2) من 10 درجات، أما الـ12 دولة عربية الأخرى فكانت أقل من 5 درجات وهي على التوالي تنازليا ( تونس 4.9 ـ الأردن 4.6 ـ السعودية 4.5 ـ سوريا 3.4 ـ مصر 3.3 ـ المغرب 3.3 ـ لبنان 3.0 ـ فلسطين 3.0 ـ الجزائر 2.6 ـ اليمن 2.6 ـ السودان 2.3 ـ العراق 2.2...) من 10 درجات. منها 9 دول يتراوح مستواها المتدني بين (2 - 3) من 10 درجات، مما يضيف إلى جبين أمتنا العربية خجلا فوق خجل، بما يؤشر إلى مزيد من احتمالية الارتباط الإيجابي للعلاقة بين النظم التسلطية وانتشار الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
         هذا فضلا عن إفشال الفساد للنمو الاقتصادي وقطع أوصال التنمية المستدامة، والهبوط بالمواطنين إلى مستوى ما تحت خط الفقر ومعاناة الملايين من البؤس، مما يؤدي إلى حالات من اليأس وانتحاء شرائح من الشباب إلى الإرهاب أو الاستغراق في مستنقع التيه والمخدرات، وما يتبع ذلك من جرائم أخرى ضد النفس والمال. ومن يرد المزيد من التفاصيل فليرجع إلى تقرير الشفافية الدولية المشار إليه سلفا لدراسة الفساد على مستوى العالم في تقرير 2003 لهذه المنظمة غير الحكومية ومركزها الرئيسي في برلين ولها 90 فرعا في العالم.
         ونستخلص مما سبق أن هذه المؤشرات المشار إليها عن الفساد في الدول النامية عامة والدول العربية، خاصة ما هي إلا الشواهد السطحية إنما الحجم الأكبر هو في الأرقام المجهولة التي تفنن المفسدون من أصحاب المكانة والنفوذ في القيام بها أو ارتكابها بمكر ينفذون به من ثغرات القانون وسوء استخدام السلطة واستغلالها لمصلحة فسادهم والإضرار بأهلهم وشعوبهم.
لن يبدأ أي إصلاح عربي إلا بثورة على الفساد والإفساد الذي يأكل حصاد التنمية أولا فأولا. فهل سيظل الشعب العربي صامتا إلى الأبد وقد أغرقه القهر منتظرا الكاوبوي الأمريكي لينتشله من مستنقع الفساد، ويدله على طريق الإصلاح؟!! كلا إنه زعم يراد به باطل والإرادة العربية الحرة كفيلة بأن تتخلص من فساد القهر الداخلي ودفع الطغيان الأمريكي الصهيوني.

أستاذ علم الاجتماع بالجامعات المصرية - بريد إلكتروني:

تعليقات