القائمة الرئيسية

الصفحات



القصاص دراسة في الفقه الجنائي المقارن

القصاص دراسة في الفقه الجنائي المقارن

القصاص
دراسة في الفقه الجنائي المقارن


القصاص
دراسة في الفقه الجنائي المقارن
تأليف
د. هاني السباعي
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(
(البقرة:178)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
لندن
1425هـ 2004م
مركز المقريزي للدراسات التاريخية
hanisibu@hotmail.com
http://almaqreze.net/index.html


تقدمة
بقلم/ العلامة الدكتور عباس مهاجراني
يعتبر القصاص في الشريعة الإسلامية من أكبر وأهم العوامل لاستقرار العدل في المجتمع والأمن في نفوس الناس، وفيه أيضاً الاحتفاظ بكرامة الإنسان وحريته.

(1/1)

لقد أراد الإسلام للإنسان أن يحيا حياة طيبة كريمة؛ يمتاز بها الإنسان عن الأحياء التي تعيش الحياة النباتية والحياة الحسية الحيوانية، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) دعاهم وهم أحياء بالحياة الحيوانية إلى الحياة العقلية الطيبة التي تناسب الكرامة التي خص الله الإنسان بها في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70) ولا تحصل هذه الكرامة للإنسان إلا بالعدل والقيام بالقسط والعيش الآمن. وبهذا الصدد شرع الله العزيز الحكيم القصاص لصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، وحقنا لدمائهم، وقال سبحانه وتعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (البقرة 179). وفي هذه الآية عرف القصاص ونكر الحياة، للإشعار بأن الحياة المترتبة على القصاص نوع خاص من الحياة عظيم، لا يقف على أهميتها ومدى منافعها وغاياتها إلا أولو الألباب وأصحاب البصائر والعقول الذين خاطبهم الله في نهاية الآية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). لقد شدد الله تعالى في مواضع من الذكر الحكيم في دم المؤمن واعتبر قتل واحد من البشر وإراقة دمه كقتل الناس جميعاً وقال سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
(1/2)

الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32)
وكان من آخر وصايا النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته في حجة الوداع قوله: (أيها الناس فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) (البخاري: كتاب الحج الحديث 1739).
وقال سبحانه في محكم التنزيل: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(الاسراء:33). وقال صلى الله عليه وسلم: - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا ). (النسائي: باب تحريم الدم حديث رقم 4003).
وقال صلى الله عليه وسلم : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (صحيح مسلم: باب البر والصلة حديث رقم 6706). وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: (إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بين الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا، الفرائضَ الفرائضَ، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة، إنّ الله حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالاً غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه إلا بالحق) (نهج البلاغة: خطبة 165).
ومع الأسف البالغ فإن مباحث الحدود والقصاص بالرغم من أهميتها قد بقيت مهجورة منذ ترسب القوانين الوضعية الأوربية إلى البلدان الإسلامية وانهيار سرح سلطان الإسلام، وضعف الملوك والحكام في العالم الإسلامي، وتركيز قدرتهم على الاستبداد وقهر الشعوب.
(1/3)

والفقهاء بذلوا جهودهم في بسط فقه العبادات من الطهارة والصلاة والصيام وغيرها واتفق أن فقيهاً كبيراً أطال البحث في منزوحات البئر إذا ماتت فيه فأرة مثلاً لمدة ستة أشهر أو سنة كاملة!! ولم يتعرض لدراسة أحكام الدماء والقصاص!! ولم يكن هذا الإعراض عن الدخول في مبحث القصاص إلا لليأس عن إمكان تطبيقها في المجتمعات الإسلامية ذات حكومات علمانية.
وتمخض من عدم العناية بالقصاص وترك دراستها في الحوزات العلمية السنية والشيعية فراغ وخلاءٌ في المكتبات من تأليفات وتصنيفات في الحدود والقصاص ليرجع إليها الباحث إلى أن رافق التوفيق الباحث هاني السيد السباعي يوسف الذي قدم إلى الجامعة العالمية الإسلامية منذ بضع سنين رسالة موضوعها (نظرية القصاص في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة) ثم حصل بجدارة بعد مناقشتها على درجة الإجازة العلمية
M.PHIL (ماجستير فلسفة القانون) طبقاً لقانون الدراسات العليا في الجامعات البريطانية.
فشكر الله سعيه حيث بذل جهداً واسعاً في تحقيق هذا الموضوع ودرس الجوانب المختلفة من فقه القصاص وراجع كثيراً من المصادر من فقه المذاهب الإسلامية المختلفة ، وناقش البحث نقاشاً منصفاً شاملاً وتعرّض لآراء وسنن الأقوام والملل في القصاص، كما أنه بسط القول في القصاص في العهدين: التوراة والإنجيل، واستند في البحث إلى أمهات الكتب الفقهية والتفسير. ورد على شبهات المعارضين لعقوبة الإعدام، ومن أهم تلكم الشبهات ما قاله الشاعر والروائي الفرنسي الشهير في يوم الخامس عشر من سبتمبر عام 1848م أمام المجلس التأسيسي لقانوني الجمهورية الثانية لفرنسا، "بأن الحياة منحة من الخالق إلى عباده وهي حق لله يعطيها من يشاء ويأخذها ممن يشاء فعليكم التكريم والاحترام لحق الله".
(1/4)

وقد نسي هؤلاء المعارضون أن قاتل العمر هو الذي لم يحرم ما حرم الله وبادر إلى إفناء وإزهاق حياة ودم المقتول، ولم يرض بما وهبه ربّه من نعمة الحياة، والقصاص يمنح الآخرين من الاعتداء على حياة الباقين من البشر.
وقام المؤلف بمقارنة القصاص في الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية لا سيما قانون العقوبات المصري مستفيداً من تأليفات عدد من العلماء والباحثين المعاصرين. فأصبح الكتاب مرجعاً وسنداً مفيداً للباحثين الذين يصعب عليهم المراجعة إلى المطولات وخصوصاً طلبة الجامعات.
نسأل الله له التوفيق والمزيد من الإنتاج العلمي، وخير الدنيا والآخرة.
دكتور عباس مهاجراني
لندن في غرة ربيع الثاني 1425هـ

مقدمة الكتاب

بقلم/ المؤلف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران/102.
(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إنّ الله كان عليكم رقيباً) النساء/1.(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما) الأحزاب/69 : 71.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بادئ ذي بدء:

(1/5)

يعتبر فقه الجنايات الإسلامي العمود الفقري للمنظومة الإسلامية.. فإذا ضعف ضعفت.. وإذا استقام قويت.. بل إن المؤامرات التي تحاك قديماً وحديثاً ضد الإسلام هدفها القضاء على هذه المنظومة الجنائية التي هي جنة الراعي والرعية.. والتي هي عنوان الشريعة الغراء التي تجذب الناس ليدخلوا في دين الله أفواجاً..
وقد رأيتني وأنا أعيش في كتب المذاهب الإسلامية على اختلاف مشاربها وجدت رابطاً يربطهم جميعاً ألا وهو الذود عن الإسلام والرد على شبه المبطلين وانتحال الغالين المتربصين بالإسلام سوءاً.. فكل هؤلاء الفقهاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس..
بل إني أزعم أن كتاباً واحداً من كتبهم كاف لمشروع بقانون متكامل بمذكرته التوضيحية والتفسيرية.. ليحكم مجتمعاً بشرياً لأية دولة في هذا العالم.. لكنهم يا للحسرة.. استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!!
وقد قدمت أنموذجاً لمجموعة من فقهاء المذاهب كانوا بمثابة هيئة دفاع في قضية واحدة وذلك عند استعراضي لحكمة مشروعية القصاص والرد على شبه المعارضين لتطبيق أحكام القصاص في النفس والأطراف.
وقد كان مسلكي في هذا البحث الذي أعددته ليكون كتاباً مبسطاً في متناول طلبة العلم والباحثين في قضايا الفقه الجنائي المقارن على النحو التالي:
هدف الكتاب:
إن الشريعة الإسلامية منظومة فريدة من لدن حكيم خبير.. وقد اتخذت هذه الشريعة الغراء كافة التدابير الاحترازية لمعالجة تفشي الجريمة في المجتمع الإسلامي، وتصدت بحزم للقضاء على الانحراف الإجرامي.. وكان للشريعة الإسلامية الدور الريادي في علاج ظاهرة الإجرام والتقليل من ارتفاع مؤشر الجريمة في المجتمع الإسلامي عندما كانت في سدة الحكم.
(1/6)

ولقد أراد الله بشريعته تكريم هذه الأمة، فختم بها شرائعه، وجعلها عامة للناس، وسماها رحمة، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. لاشتمال أحكامها على حفظ المقاصد الشرعية، الضرورية منها والحاجية والتحسينية. وفي مقدمة المقاصد الضرورية: حفظ النفس البشرية، وهي أعظم ما جاء به التشريع لمصالحها، ففتح كل باب يعود عليها بالحياة، وجعلها موطن التكليف، ومحل التنفيذ، ووسيلة العمل، وأداء ما ينفع البشر، وشرّع القصاص على من يعتدي عليها، إن لم يكن الإعتداء مشوباً بالخطأ، أو بأي قرينة تدفع القصد، وتبعد نية الإعتداء.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية ليست نظاماً واحداً، بل أنظمة متعددة بغية ردع المجرم والحفاظ على لحمة ووحدة المجتمع.
وأنظمة العقوبات في الشريعة الإسلامية أربعة: عقوبات الحدود/ عقوبات القصاص/ عقوبات الدية/ عقوبات التعزير.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية عقوبات هادفة للردع العام وأيضاً للردع الخاص.. فهي هادفة لتأديب المجرم وتهذيبه وإصلاحه في نفس الوقت..
والشريعة الإسلامية لها منظورها الخاص في مجال الجريمة.. فهناك جرائم لم يعط المشرع الإسلامي أية سلطة تقديرية للقاضي ولا لولي الأمر وهي جرائم الحدود لأنها جرائم تهدد بنية المجتمع وتقوض أركانه ويقابلها في التشريعات الحديثة الجرائم المخلة بأمن الدولة.
وعقوبات القصاص من هذا القبيل فهي عقوبات مقدرة بنص شرعي ثابت مثل جرائم الحدود.. لكن المشرع جوز عفو المجني عليه أو ولي الدم في أية حالة من مراحل الدعوى, ومع ذلك يجوز لولي الأمر أن يوقع عقوبات تعزيرية كي لا يجترئ ضعاف النفوس على اقتراف الجريمة..
(1/7)

ومجال عقوبات القصاص - الذي هو موضوع البحث- هو جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني.. وحيث إن القصاص نظام من أنظمة العقوبات في الشريعة الإسلامية فقد يبدو فيه الصرامة والشدة.. لكنه بعيد كل البعد عن أن يكون تعذيباً للجاني أو تنكيلاً به.. فالقصاص من أنجع وسائل الردع العام وهو رحمة حازمة تحافظ على كيان المجتمع وتماسكه..
وفي المقابل نجد التشريعات الوضعية الحديثة التي استبعدت القصاص من تشريعاتها ورغم المجالس النيابية والنخب الفكرية وأساطين القانون وعلماء البحث الجنائي والاجتماعي والسياسي وكافة مؤسسات الدولة العصرية لم تستطع أن توقف تزايد الجريمة وخاصة في مجال جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني.. بل إن معدل الجريمة في ارتفاع مخيف، وصارت لعالم الإجرام رجالاته وقوانينه الخاصة، فهناك الجريمة المنظمة والجريمة غير المنظمة.. وهناك نظريات عن المجرم بالوراثة والمجرم السيكوباتي و جرائم السوقة وجرائم ذوي الياقات البيضاء..إلخ
والهدف من هذا البحث إبراز محاسن ا لشريعة الإسلامية في مجال التصدي للانحراف الإجرامي، وكيف عالج الإسلام جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني من خلال تطبيق عقوبة القصاص على الجاني. كما أحب أن أشير أن تطبيق عقوبة القصاص أو حتى تطبيق الحدود ليس معناه تطبيق الإسلام!! فالإسلام أكبر من ذلك الفهم القاصر.. فالإسلام منظومة كبرى تعنى بحياة المسلم من مهده إلى لحده.. وإذا كانت هناك بعض التجارب المعاصرة التي رفعت شعار تطبيق الحدود ذراً للرماد في العيون! وتغافلت عن بقية المنظومة الشرعية.. فإنها تجربة مبتسرة بل ومشوهة للمشروع الإسلامي المتكامل..
منهج البحث:
(1/8)

قد اعتمدت منهج الدراسة المقارنة.. ومن أجل هذا قمت بالإطلاع على آيات القصاص في القرآن الكريم والسنة النبوية، والمراجع اللغوية، والإطلاع على كتب التفسير الشارحة لآيات القصاص... واطلعت على آراء كثير من علماء الإسلام وأصحاب المذاهب الإسلامية (الأحناف /الإمامية/ الشافعية / المالكية / الحنابلة / الظاهرية /الزيدية /الإباضية) في كتبهم ومراجعهم الأصلية؛ أو كتب الفقه المقارن القديم منها والحديث.. وقد أثبتها في الهوامش وفي ثبت المراجع في آخر البحث بعد الخاتمة.. وفي المقابل قمت بالإطلاع على شروح قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وكتب فقهاء القانون الوضعي في مجال جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني وخاصة قانون العقوبات المصري وشروحه.. وغيرها من كتب حديثة أثبتها في الهوامش وثبت المراجع.. وقد اطلعت بفضل الله على كثير من المراجع التي لها صلةـ وإن لم أنقل عنهاـ بموضوع القصاص حتى تكونت لدي خلفية متكاملة تتناسب وموضوع البحث.

وقد قسمت البحث على النحو التالي:

الفصل الأول:
القصاص لدى الأمم القديمة والأديان السماوية.
المبحث الأول: أول جريمة قتل في تاريخ بشرية.
المبحث الثاني: القصاص لدى الأمم القديمة: بابل/اليونان/الرومان/اليابان.
المبحث الثالث: القصاص في الأديان السماوي: عند اليهود/النصارى.
المبحث الرابع: القصاص عند العرب.
الفصل الثاني:
تعريف القصاص والحكمة من مشروعيته.
المبحث الأول: تعريف القصاص.
المبحث الثاني: مشروعية القصاص.
المبحث الثالث: حكمة مشروعية القصاص.
المبحث الرابع: شبهات حول تطبيق عقوبة القصاص.
الفصل الثالث:
استيفاء القصاص
المبحث الأول: مستحق القصاص ومستوفيه.
المبحث الثاني: شروط استيفاء القصاص.
المبحث الثالث: كيفية استيفاء القصاص.
الفصل الرابع:
شروط القصاص
المبحث الأول: أن يكون القاتل مكلفاً.
المبحث الثاني: ألا يكون القاتل والداً للمقتول.
المبحث الثالث: أن يكون القاتل مختاراً.

(1/9)

المبحث الرابع: أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل.
الفصل الخامس:
سقوط القصاص
المبحث الأول: فوات محل القصاص.
المبحث الثاني: العفو.
المبحث الثالث: الصلح.
المبحث الرابع: إرث حق القصاص.
خاتمة البحث:
وهي نهاية تطواف الدراسة المقارنة بين المنظومة الإسلامية والمنظومة الوضعية الحديثة وفيه خلاصة ما وصل إليه البحث من نتائج.
وأخيرا/ هذا مسلكي في إعداد هذا الكتاب، فإن وفقت فيه إلى الصواب، فهذا ما أصبو إليه، وهو من توفيق الله لي، وفضله علي، وإن أخطأت فهو مني ومن الشيطان وحسبي أني كنت أبغي الحقيقة.
وأسأل الله التوفيق والسداد..
الفصل الأول
الفصل الأول
تاريخ القصاص لدى الأمم القديمة والأديان السماوية
ويتكون هذا الفصل من عدة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول:
أول جريمة قتل في تاريخ البشرية.
المبحث الثاني:
القصاص لدى الأمم القديمة/بابل/اليونان/ الرومان/ اليابان.
المبحث الثالث:
القصاص عند اليهود وعند النصارى.
المبحث الرابع:
القصاص عند العرب.
ونشرع الآن بإلقاء الضوء على كل مبحث من المباحث السابقة:

المبحث الأول أول جريمة قتل في تاريخ البشرية


(1/10)

لقد قص القرآن الكريم علينا أول جريمة قتل حدثت في تاريخ البشرية إذ نزغ الشيطان بين قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام فحسد قابيل أخاه هابيل فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله حيث يقول الله تعالى في محكم التنزيل عن هذين الأخوين: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين لأن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار. وذلك جزاك الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه. قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين. من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)(1)
وقد اختلف المفسرون حول كون القاتل والمقتول هل هما من أبناء آدم لصلبه أم من بني إسرائيل:
الأول: أنهما ابنا آدم لصلبه وهما هابيل وقابيل. وهذا رأي جمهور فقهاء الإسلام.
الثاني: أنهما كانا رجلين من بني إسرائيل وهو قول الحسن البصري والضحاك بن مزاحم.
ويطرح ابن العربي القولين في تفسيره على النحو التالي:
__________
(1) المائدة/آية 27 : 32.
(1/11)

"اختلف في المجني عليه على قولين : أحدهما : أنه من بني إسرائيل . الثاني : أنه ولد آدم لصلبه، وهما قابيل وهابيل؛ وهو الأصح ؛ وقاله ابن عباس والأكثر من الناس، جرى من أمرهما ما قص الله سبحانه في كتابه. والدليل على أنه الأصح ما روي في الحديث الثابت الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من قتيل يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل)"(1)
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن/ج2/ص589
(1/12)

ويرد ابن العربي على من استند إلى قوله تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس.. الآية) .. بأن القاتل والمقتول من بني إسرائيل: "تعلق بهذا من قال إن ابني آدم كانا من بني إسرائيل، ولم يكن قبلهم. وهذا لا يصح لأن القتل قد جرى قبل ذلك، ولم يخل زمان آدم ولا زمان من بعده من شرع. وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفاً وردعاً للظالمين الجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع، والأصول التي لا تختلف فيها الملل؛ وإنما خص الله بني إسرائيل بالذكر للكتاب فيه عليهم؛ لأنه ما كان ينزل قبل ذلك من الملل والشرائع كان قولاً مطلقاً غير مكتوب، بعث الله إبراهيم فكتب له الصحف، وشرع له دين الإسلام، وقسم ولديه بين الحجاز والشام، فوضع الله إسماعيل بالحجاز مقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخلاها عن الجبابرة تمهيداً له، وأقرّ إسحاق بالشام، وجاء منه يعقوب وكثرت الإسرائيلية، فامتلأت الأرض بالباطل في كل فج. وبغوا فبعث الله سبحانه موسى ولكمه وأيده بالآيات الباهرة، وخط له التوراة بيده، وأمره بالقتال ووعده النصر، ووفى له بما وعده، وتفرقت بنو إسرائيل بعقائدها، وكتب الله جل جلاله في التوراة القصاص محدداً مؤكداً مشروعاً في سائر أنواع الحدود، إلى سائر الشرائع من العبادات وأحكام المعاملات، وقد أخبر الله في كتابنا بكثير من ذلك"(1)
الرأي الثاني: قول الحسن والضحاك:
"فقال الحسن البصري: ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل ضرب الله بها إبانة حسد اليهود ـ وكان بينهما خصومة ـ فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل"(2)
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن/ج2/ص591.
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ج6/ص132
(1/13)

ويرد القرطبي على رأي الحسن البصري مستئنساً بقول ابن عطية: "قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل يقتدي بالغراب؟! والصحيح أنهما ابنا آدم لصلبه؛ وهذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وهما قابيل وهابيل)(1)
ويرجح الطبري القول الأول في تفسيره: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب أن الذين قربا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذا كان معلوماً ذلك عندهم فمعقول أنه لو لم يكن معنياً با بني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطاباً لا يفيدهم به معنى فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه، لا ابني بنيه الذين بعد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهداً"(2)

المبحث الثاني القصاص لدى الأمم القديمة

لقد ظهرت قوانين في التاريخ القديم لمعاقبة الجاني وكانت في بدايتها أشبه بأعراف وعادات ثم تطورت إلى قوانين مكتوبة من أمثلتها:
في بابل:
__________
(1) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن/ج6/ص132.
(2) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن/ج6/ص189 ، 190

(1/14)

"وقام العقاب في أول الأمر على مبدأ قانون القصاص " النفس بالنفس والعين بالعين ". فإذا كسر إنسان لرجل شريف سنا أو فقأ له عينا أو هشم له طرفا من أطرافه حل به نفس الأذى الذي سببه لغيره. وإذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني وإذا ضرب إنسان بنتاً وماتت لم يحكم بالموت على الضارب بل حكم به على ابنته. ثم استبدل بهذه العقوبات النوعية شيئا فشيئا غرامات مالية وبدأ ذلك بأن أجيز دفع فدية مالية بدل العقوبة البدنية ثم أصبحت الفدية بعدئذ العقوبة الوحيدة التي يجيزها القانون. فكانت جزاء فقئ عين السوقى ستين شاقلا من الفضة فإذا فقئت عين عبد كان جزاء فقئها ثلاثين. ذلك أن العقوبة لم تكن تختلف باختلاف خطورة الجريمة وحسب بل كانت تختلف أيضا باختلاف مركز الجاني والمجنى عليه. فإذا ارتكب أحد السراة جريمة كانت عاقبه اشد من عقاب السوقى إذا ارتكب الجريمة نفسها أما الجريمة التي ترتكب ضد أحد الأشراف فقد كانت غالية الثمن"(1) أما إذا اقترف الجريمة عوام الناس مع بعضهم أو ضد من هم أعلى منهم طبقة فيقول ول ديورانت: "واذا ضرب أحد السوقة آخر من طبقته غرم عشرة شواقل أو ما يقرب من خمسين ريالا فإذا ما ضرب شخصا ذا لقب أو ذا مال غرم سبعة أضعاف هذا المبلغ. والى هذه العقوبات الرادعة كانت هناك عقوبات همجية هي بتر الأعضاء والإعدام. فإذا ضرب رجل أباه جوزى بقطع يده. وإذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت المريض أو في فقد عين من عينيه قطعت أصابع الطبيب. وإذا استبدلت قابلة طفلا بآخر عن علم بفعلتها قطع ثدياها. وكانت جرائم كثيرة يعاقب عليها بالموت منها هتك العرض وخطف الأطفال وقطع الطرق والسطو والفسق بالأهل وتسبب المرأة في قتل زوجها لتتزوج بغيره ودخول كاهنة خمارة أو فتحها إياها
__________
(1) ول ديورانت: قصة الحضارة/ ص258 من موقع
www.culture.net
(1/15)

وإيواء عبد آبق والجبن في ميدان القتال وسوء استعمال الوظيفة وإهمال الزوجة شئون بيتها أو سوء تدبيرها إياها وغش الخمور. بهذه الوسائل التي دامت آلاف السنين استقرت التقاليد والعادات التي أدت إلى حفظ النظام وضبط النفس والتي أضحت فيما بعد عن غير قصد جزءا من الأسس التي قامت عليها الحضارة"(1)
أقول: القانون الذي ذكره "ول ديورانت" هو القانون الذي شرعه حمورابي 1792-1750 قبل الميلاد وهو سادس ملوك السلالة البابلية الأولى 1894-1594 قبل الميلاد ،ويحتوي هذا القانون 282 مادة على مسلة من حجر )الديورايت) الأسود وقياس المسلة 225 سم طولا و60سم القطر وهي أسطوانية الشكل "وهذا القانون عبارة عن تدوين للعادات الشائعة في عصره وهو يتطرق إلى العقوبات ويبينها على قاعدة القصاص أي العين بالعين والسن بالسن وهكذا. وكان هذا القانون يتصف بالقسوة في معاملة المجرمين والمديونين والأرقاء. فمثلاً يعاقب بالإعدام على من ارتكب جرم الرق، وجرم الزنا أو الاغتصاب بالقوة أو افتعال الحريق أو الخطف... وقد تطرق هذا القانون إلى امتيازات الموظفين وعقود التجارة والدين والحجر... كما ورد في قانون حمورابي احترام بعض الحقوق الأساسية منها حرية الملكية الفردية واعتمد قاعدة الأصل براءة الذمة"(2)
__________
(1) ول ديورانت: قصة الحضارة/ ص285 من الموقع السابق.
(2) الحقيل: سليمان بن عبد الرحمن: حقوق الإنسان في الإسلام/ص20 ومابعدها.
(1/16)

لكن صاحب كتاب تاريخ الشرق الأدنى له مآخذ على تشريعات حمورابي بعد سرده للجوانب الإيجابية إذ يقول: "كانت هذه أهم النواحي الطيبة في تشريعات حمورابي، أما ما يعاب عليها، فهو اعترافها بالتفاوت في الحقوق والعقوبات بين الطبقات، فهي وإن استحدثت مبدأ العين بالعين والسن بالسن (م196) والولد بالولد، إلا أنها قصرت تطبيقه وأمثاله على أفراد الطبقة الواحدة ولمصلحة الطبقة العليا بخاصة، بينما قضت بالتعويض المادي وحده جزاء لاعتداء أحد أفراد الطبقة العليا على فرد من طبقة أخرى أقل منزلة من طبقته. فجعلت فقأ عين العامي أو كسر عظمه نصف مينه من الفضة، وجزاؤهما بالنسبة للعبد نصف ثمنه. وإذا صفع رجل أرقى منزلة منه جلد ستين جلدة علناً، وإذا صفع رجلاً من طبقته دفع مينه من الفضة، وإذا صفع عامي عامياً آخر دفع عشرة شواقل من الفضة. وجعلت غرامة إجهاض المرأة من الخاصة عشرة شواقل فإذا ماتت قتلت ابنة قاتلها، وغرامة إجهاض المرأة من العامة خمسة شواقل، فإذا ماتت ففديتها نصف مينه من الفضة، وغرامة إجهاض الأمة شاقلين، فإذا ماتت ففديتها ثلث مينه من الفضة (169م ـ 214). وتضمنت التشريعات أنه إذا اتهم مواطن مواطناً آخر بالاشتغال بالسحر، كان على المدعى عليه أن يلقي بنفسه في النهر فإذا ابتلعه الماء ورثه الآخر، وإذا نجا أعدم من اتهمه وآلت أملاكه إليه. وقضت بأنه إذا أدت العملية الجراحية إلى وفاة مريض حر أو ذهاب نور عينه قطعت يد الطبيب"(1)
التشريعات الآشورية:
__________
(1) عبد العزيز صالح (الدكتور): الشرق الأدنى القديم ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ ط2 ـ 1976م ـ الجزء الأول مصر والعراق ـ ص 464 ، ص465.
(1/17)

"عالجت هذه التشريعات كثيراً مما عالجته التشريعات العراقية السابقة لها من شئون الأسرة وأمور البيع والشراء والقروض والرهون والاعتداءات على الغير اعتداء أدبياً أو مادياً، ولكن لوحظ من تجديداتها أنها استفادت من العقوبات العامة والخاصة لصالح الدولة، فضمنتها تسخير المذنبين في أعمال الملك (أي مشاريع الدولة) لفترات تتراوح بين عشرين يوماً وبين أربعين يوماً، وهددت بالخصي والإعدام على الخازوق في بعض عقوباتها، واشتدت في اشتراط التسجيل والإعلان وإشهاد الشهود في كثير من موضوعاتها، وأجازت رهن أفراد الأسرة ضماناً للديون، وحرمت الاشتغال بالسحر وجعلت عقوبته الإعدام. ولأمر ما جعلت أمور النساء محوراً لعدد كبير من بنودها، واشتدت على سيئات السلوك منهن. فقضت على سارقة المعبد بتنفيذ قضاء ربه فيها (م1)، وكفلت لزوجها حق تشويه أذنيها إذا سرقته وهو مريض، أو العفو عنها إذا شاء (م3 ـ4). وحرية افتدائها إذا سرقت شيئاً ذا قيمة من جاره، أو التخلي عنها ليشوه المسروق أنفها بنفسه (م5). وقضت على من تضع يديها على مواطن بتغريمها 30 مينه من الرصاص وجلدها عشرين عصا (م7). فإذا أصابت خصيته قطعوا إصبعها، وإذا أضرت الخصيتين فقأوا عينيها (م8)، وتعني بذلك سيئات السلوك. وقضت على من تجهض نفسها بإعدامها على الخازوق، وتوعدت من يتستر عليها (م53). وجعلت التشريعات للزروج ولاية كاملة على زوجته، وسمحت له بأن يعفو عنها إن أخطأت أو يطبق عليها بنقسه العقوبات البدنية التي فرضها القانون على مثل حالتها، فإذا كانت هذه العقوبات مما يسبب عاهات دائمة مثل فقأ العين أو صلم الأذنين أو الجلد المبرح تفذها أمام القضاة وبحضور موظف مسئول، فإذا أتت أمراً لم يتناوله القانون جاز له أن يحلق شعرها أو يعرك أذنيها دون عقاب عليه (م57ـ59). فإذا شردت عنه وآوت إلى بيت آخر وبقيت به ثلاثة أيام كان له أن يشوه أذنيها أو يعفو عنها، ويجوز له أن يطالب بصلم أذني من
(1/18)

آوتها وتغريم زوجها إن كان شريكاً لها بغرامة كبيرة"(1)
أما في اليونان:
"فكانت تشريعات "صولون" الإغريقي، الذي عاش بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد(640 ــ 560 ق.م) وقد قام بإصلاحات تشريعية وإدارية عديدة منها الإفراج عن المسجونين بسبب الدين، ثم منع استرقاق المديونين... وأعطى المرأة بعض الحقوق الأدبية. وقد أسس مجلس نواب مكون من أربعمائة عضواً تنتخبه قبائل أثينا الأربع إلا أنه كان يؤمن بالطبقات حيث قسم أفراد الشعب إلى أربع طبقات حصر الحكم في طبقة الأغنياء"(2)
أما في روما:
جاء في روح الشرائع:
"أثار دجال، كان يدعى أنه قسطنطين دوكاس، فتنة كبيرة في القسطنطينية، فقبض عليه وحكم بجلده، ولكن بما أنه اتهم أناساً من ذوي الوجاهة فإنه حكم عليه بالحرق كمفتر. ومن الغرابة أن تقدر العقوبات هكذا بين جرم الاعتداء على ولي الأمر وجرم الافتراء. ويذكر هذا بكلمة لملك انكلترا شارل الثاني، فقد رأى وهو مار رجلاً مشهراً على عمود فسأل عن سبب وجوده هنالك، فقيل له: ذلك لأنه هجا وزراءك يا مولاي. فقال الملك: يا له من أحمق كبير! لماذا لم يكتب هجاءه ضدي؟ كان لا يصنع به شئ لو فعل هذا!"(3)
"فقد صدر قانون الألواح الإثنى عشر من أوائل عصر الجمهورية على أثر ثورة عارمة على طبقة الأعيان في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حيث جمعت العادات الرومانية السائدة في ذلك الوقت، ثم نقشت على اثني عشر لوحاً نحاسياً وتعتبر هذه الألواح نواة لكل تشريع روماني لاحق، حيث ألغيت الفوارق بين الشعب الروماني فقيره وغنيه ووضعت أصول المحاكمات والعقوبات التي امتازت بالقسوة فمثلاً نص:
__________
(1) عبد العزيز صالح (الدكتور): الشرق الأدنى القديم ـ ج1 ص 504 ، ص505.
(2) ا الحقيل: حقوق الإنسان في الإسلام/ص21.
(3) مونتسكيو: روح الشرائع ـ ترجمة عادل زعيتر ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ ط 1953م ـ ص136.
(1/19)

"على إعدام السارق المتلبس بالسرقة، وقد أجاز للأب بيع أولاده، وعلى حصر الوارث في قرابة العصب دون قرابة الرحم.." هذا ما كان عن حقوق الإنسان في العصور القديمة"(1)
أما في اليابان:
يقول مونتسكيو: "يعاقب بالقتل تقريباً على جميع الجرائم في اليابان، لأن معصية إمبراطور عظيم كعاهل اليابان جرم عظيم، وليست المسألة إصلاح المذنب، بل انتقام للأمير، وقد استنبطت هذه الأفكار من بدأ الفدادية(2)، وقد أتت هذه الأفكار، على الخصوص، من المبدأ القائل: بما أن الإمبراطور مالك لجميع الأموال فإن جميع الجرائم تقترف ضد مصالحه رأساً. ويعاقب بالقتل على الأكاذيب التي تؤتى بها أمام الحكام، أي أن يُصنع أمرٌ مخالف للدفاع الطبيعي. وكل ما ليس ظاهر الجرم مطلقاً يعاقب عليه بشدة هنالك، ومن ذلك أن الرجل الذي يجازف بالمال في القمار يُجازى بالقتل"(3)
"كان التشريع القانوني في اليابان مكملاً عنيفاً لما كان يتم بالاغتيال وبالثأر وقد استمد ذلك التشريع بعض أصوله من تقاليد الشعب القديمة كما استمد بعضها الآخر من التشريعات الصينية في القرن السابع ذلك أن القانون قد صحب الدين في هجرة الثقافة من الصين إلى اليابان وبدأ " تنشي تبنو" صياغة مجموعة من القوانين كملت وأذيعت في عهد الإمبراطور اليافع "مومو" عام 702 لكن هذا التشريع وغيره من تشريعات العصر الإمبراطوري أهملت في العصر الإقطاعي إذ جعل كل حاكم إقطاعي يسن لنفسه ما شاء من تشريع مستقلاً عن سائر المقاطعات ولم يعترف الرجل من طبقة " السيافين " بقانون إلا ما يريده وما يأمر به مولاه"(4)
ويقول صاحب قصة الحضارة:
__________
(1) الحقيل: حقوق الإنسان في الإسلام/ص21.
(2) الفدادية: نسبة إلى الفداد، وهو ابن الأرض الذي لا يحق له أن يخرج منها.
(3) مونتسكيو: روح الشرائع ـ ترجمة عادل زعيتر ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ ط 1953م.
(4) ول ديورانت: قصة الحضارة/ المرجع السابق ص927.
(1/20)

"وكانت العادة في اليابان حتى سنة 1721 أن تكون الأسرة كلها مسئولة عن كل فرد من أفرادها فتضمن حسن سلوكه وكذلك كانت الأسرة الواحدة - في معظم الأقاليم - توضع في مجموعة من خمس أسرات تكون كل منها مسئولة عن سائر أفراد المجموعة فالرجل إذا حكم عليه بالصلب أو بالحرق قضي كذلك بالموت على أبنائه الكبار وبالنفي على أبنائه الصغار عندما يبلغون الرشد وكان نظام المحنة متبعاً في التحقيق على نحو ما كان متبعاً في العصور الوسطى ولبث التعذيب شائعاً - في صوره الخفيفة - حتى هذا العصر الحديث واصطنع اليابانيون من وسائل التعذيب إزاء المسيحيين ناسجين على منوال محاكم التفتيش نسجاً فيه انتقام لما أنزله المسيحيون أنفسهم بأنفسهم في تلك المحاكم لكنهم كثيراً ما كانوا أدق في وسائلهم التعذيبية. فيربطون الرجل بحبال في وضع وثيق. يزيد المربوط ألماً كلما مرت به لحظات الزمن لحظة بعد لحظة وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى الضرب بالسياط لأتفه الأخطاء وكان الإعدام لديهم عقوبة على كثير جداً من أنواع الجرائم وجاء الإمبراطور شومو (724 - 56) فألغى عقوبة الإعدام وجعل الرحمة أساس حكمه لكن الإجرام زادت نسبته بعد موته حتى لم يقتصر الإمبراطور " كوشين " (770 - 81) على إرجاع عقوبة الإعدام بل أضاف إلى ذلك أنه أمر بأن يضرب اللصوص بالسياط علناً حتى يلفظوا الروح وكانوا ينفذون الإعدام بالخنق وجز الرأس والصلب وقطع الجسد أربعة أرباع والحرق أو الغلي في الزيت وكان " أيياسو " قد ألغى العادة التي تقضي بأن يمزق المتهم نصفين بشده بين ثورين كما ألغى العادة التي تقضي بأن يربط المتهم في عمود وسط الملأ ثم يطلب من كل مار أن يأخذ نصيبه في تقطيع جسده بمنشار ينشره من كتفه فأسفل وكان من رأي " أيياسو " أن كثرة الالتجاء إلى العقوبات الصارمة لا تدل على إجرام الشعب بمقدار ما تدل على فساد الموظفين وعجزهم وكم ساء " يوشيموني " أن يجد سجون عصره بغير استعدادات
(1/21)

صحية وأن بين المسجونين فئة بدأت محاكماتها منذ ست عشرة سنة ولم تنته بعد حتى لقد نسيت الاتهامات الموجهة إليهم مات الشهود وأخذ هذا الحاكم العسكري الذي كان أكثر هذه الطائفة استنارة في إصلاح السجون وعمل على السرعة في الإجراءات القضائية وألغى المسئولية الأسرية وواصل العمل المضني بغية أن يصوغ أول تشريع موحد للقانون الإقطاعي في اليابان(1729)"(1)
المبحث الثالث
القصاص عند اليهود والنصارى
أولاً: القصاص عند اليهود:
جاء في سفر العدد الإصحاح 35:
__________
(1) ول ديورانت: المرجع السابق ص927.
(1/22)

"إن ضربه بأداة حديد فمات فهو قاتل. إن القاتل يقتل. وإن ضربه بحجر يد مما يقتل به فمات فهو قاتل.. إن القاتل يقتل أو ضربه بأداة يد من خشب مما يقتل به فهو قاتل.. إن القاتل يقتل.. ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه يقتله وإن دفعه ببغض أو ألقى عليه شيئاً بتعمد فمات أو ضربه بيده بعداوة فمات فإنه يقتل الضارب لأنه قاتل.. ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه ولكن إن دفعه بغتة بلا عداوة أو ألقى عليه أداة ما بلا تعمد أو حجراً ما مما يقتل به بلا رؤية أسقطه عليه فمات وهو ليس عدواً له ولا طالباً أذيته.. تقضي الجماعة بين القاتل وبين ولي الدم حسب هذه الأحكام وتنقذ الجماعة القاتل من يد ولي الدم وترده الجماعة إلى مدينة ملجأه التي هرب إليها فيقيم هناك إلى موت الكاهن العظيم الذي مسح بالدهن المقدس ولكن إذا خرج القاتل من حدود مدينة ملجأه التي هرب إليها ووجده ولي الدم خارج حدود مدينة ملجأه وقتل ولي الدم القاتل فليس له دم لأنه في مدينة ملجأه يقيم إلى موت الكاهن العظيم وأما بعد موت الكاهن العظيم فيرجع القاتل إلى أرض ملكه فتكون هذه لكم فريضة حكم إلى أجيالكم في جميع مساكنكم: كل من قتل نفساً فعلى فم شهود يقتل القاتل وشاهد واحد لا يشهد على نفس للموت.. ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذذنب للموت بل إنه يقتل ولا تأخذوا فدية ليهرب إلى مدينة ملجأه فيرجع ويسكن في الأرض بعد موت الكاهن"(1)
في سفر التثنية الإصحاح 19:
__________
(1) الكتاب المقدس: العهد القديم ـ سفر العدد/الإصحاح35/ص274 ، 275.
(1/23)

"لا يسفك دم برئ في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فيكون عليك دم. ولكن إذا كان إنسان مبغضاً لصاحبه فكمن له وقام عليه وضربه ضربة قاتلة فمات ثم هرب إلى إحدى تلك المدن.. يرسل شيوخ مدينته ويأخذونه من هناك ويدفعونه إلى يد ولي الدم فيموت.. لا تشفق عينك عليه، فتنزع دم البريء عن إسرائيل فيكون لك خير.. لا يقوم شاهد واحد على إنسان في ذنب ما أو خطية ما من جميع الخطايا التي يخطي بها. على فم شاهد أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر. إذا قام شاهد زور على إنسان ليشهد عليه بزيغ يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة والقضاة الذين يكونون في تلك الأيام.. فإن فحص القضاة جيداً وإذا الشاهد شاهد كاذب قد شهد بالكذب على أخيه.. فافعلوا به كما نوى أن يفعل بأخيه فتنزعون الشر من وسطكم.. ويسمع الباقون فيخافون ولا يعودون يفعلون مثل ذلك الأمر الخبيث في وسطك.. لا تشفق عينك: نفس بنفس.. عين بعين.. سن بسن.. يد بيد .. ر ِجل برجل"(1)
أقول: ويتضح مما سبق أن القود كان واجباً على القاتل عند اليهود، سواء كان في النفس أو في فيما دونها، حتى إن القصاص كان ثابتاً على الحيوان إذا قتل إنساناً.
وكان لولي الدم أن يقتل القاتل في غير المعبد، وفي بعض الملاجئ، بدون إذن السلطان أو الحاكم!! أما إذا كان القتل خطأ فلا قصاص، وإنما يهرب القاتل لئلا يقتله ولي الدم.
ورغم أن القصاص كان مفروضاً عليهم إلا أنهم أفرطوا في القتل فشدد الله عليهم.. ولذلك يعتبرون أول أمة نزل الوعيد في حقهم ـ كما ذكر المفسرون ـ مكتوباً عليهم في قتل الأنفس حيث كان قبل ذلك قولاً مطلقاً.. نلمح هذا الوعيد من قوله سبحانه وتعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً).
ثانياً: القصاص عند النصارى:
__________
(1) الكتاب المقدس العهد القديم ـ سفر التثنية ـ الإصحاح 19 ص 209 ، ص210.
(1/24)

يعتبر القتل جريمة بشعة عند النصارى، كما هي في جميع الملل، إلا أن ظاهر الإنجيل يفيد عدم مشروعية القصاص وسنحاول أن نثبت عكس ذلك:
جاء في إنجيل متى الإصحاح 5:
"لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني: الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل .. قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بالشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين.. سمعتم أنه قبل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحبوا مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"(1)
أقول: فظاهر النصوص السابقة أنه لا قود على القاتل عند النصارى، وهو قول جمهرة من العلماء. ولكن هل تجب الدية؟ ذهب غالبيتهم إلى وجوب الدية على القاتل وذهب بعضهم إلى أن الواجب هو العفو. قال الفخر الرازي: والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط"(2)
ويبدو أن نص إنجيل متى السابق ليس فيه نفي للقود وأن قوله (لا تقاوموا الشر بالشر) يجري مجرى العفو والتسامح الوارد في كثير من الآيات في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(3)
__________
(1) الكتاب المقدس/ العهد الجديد انجيل متى/الإصحاح 5 ص8 ، 9.
(2) الرازي : التفسير الكبير/ج5/46.
(3) فصلت/آية 34.
(1/25)

وعلى ذلك تخرج كل عبارات الأناجيل الداعية إلى العفو عمن يسئ إليك ولا يتصور أن يكون المسيح ـ عليه السلام ـ يسن نظاماً لا يقتل فيه قاتل، ولا يضرب معتد، ولا يسجن ظالم، وعلى ذلك يكون ما في الأناجيل من وصايا بالعفو في الجرائم الشخصية ليس قانوناً ينفذ ولكنه وصية لشخص المجني عليه إن أراد اتبعها وإلا فالقانون هو الذي ينفذ"(1)
أقول بعد استعراض ما سبق أميل إلى الرأي القائل بأن الشريعة المسيحية عرفت عقوبة القصاص وذلك قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة)(2)
ولما جاء على لسان عيسى عليه السلام في الإنجيل: (ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكمل).. ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص)(3)
هكذا عرفت الشريعة المسيحية عقوبة الإعدام لأن هذا ما يتفق ومقاصد الشرائع السماوية ويتفق وميزان عدل الله في عباده.
المبحث الرابع
القصاص عند العرب
قام نظام القصاص عند العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسؤولة عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة.
"ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في هذه المطالبة توسعاً ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه. وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني عليه شريفاً أو سيداً في قومه. على أن بعض القبائل كثيراً ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي بأنفس الكثير من الأبرياء"(4)
__________
(1) يوسف علي محمود : الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج1/ص33.
(2) الصف/آية 6.
(3) المائدة/ية 45.
(4) السيد سابق: فقه السنة/ج2/ص461.
(1/26)

ولقد أفرط العرب في القتل وفرطوا وكان ذلك يتبع قوة القبيلة وضعفها فإذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى فالأشراف كانوا يقولون: لنقتلن بالمرأة منا الرجل منهم وبالعبد منا الحر منهم وبالرجل منا الرجلين منهم.
كما أن "أفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون من تضامن، ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوماً، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
حتى إذا جنى أحدهم جناية حملته قبيلته.."(1)
"ونستطيع أن نضرب مثلاً بحرب البسوس التي استمرت بين قبيلتين أربعين عاماً. فقد كان كليب عزيز قومه يحمي مواقع السحاب فلا يجرؤ أحد أن يرعى حماه، وذات يوم شردت ناقة من عقالها وهي مارة بحمى كليب، وكانت لامرأة تسمى البسوس بنت منقذ وهي خالة جساس بن مرة. ووطئت الناقة حمى كليب. فعز عليه ذلك فضربها بسهم في ضرعها، فعدت ترغو إلى صاحبتها، ففزعت البسوس إلى ابن أختها جساس، فأحمته وأثارته، فخرج إلى كليب فقتله وهو في غفلة، وبدأت الحرب واعتزل هذه الحرب الحارث بن عباد فارس النعامة فلم يشارك فيها، ولكن مهلهلاً قتل ابناً للحارث اسمه بجير وقيل له ألا تدري ماذا قال مهلهل حين قتل ابنك بجيراً قال: لا. قالوا: إن مهلهلاً حين قتله قال: بؤ بشسع نعل كليب. فغضب الحارث وأدركته حمية الجاهلية وعز عليه أن يوضع ابنه في مقابل قطعة جلد في حذاء كليب واندفع للثأر قائلاً:
قربا مربط النعمة مني *** لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني *** إن قتل الكريم بالشسع غالي
قربا مربط النعامة مني *** شاب رأسي وأنكرتني عيالي
قربا مربط النعامة مني *** قرباها وقربا سربالي
__________
(1) احمد أمين : فجر الإسلام /ص10. أقول: لكن في الفقه الإسلامي تطالب العاقلة بالدية إذا كان القتل وقع خطأ أما دية العمد فتجب في مال الجاني كما هو مبين في كتب الفقه الإسلامي.
(1/27)

لم أكن من جنايتها علم الله *** وإني بحرها اليوم صالي
فالانتقام الخاص أو الثأر كان هو الجزاء على قمع الظلم عند العرب وكان من شأنه إرضاء ضمير المنتقم هو وقبيلته"(1) ويلخص لنا القرآن الكريم حالة العرب والعالم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)(2)..
صفوة القول
"من هذا العرض الوجيز، الذي بينا به نظرة الشرائع الأخرى إلى جريمة القتل ـ نرى أن معظمها يتخذ القتل عقوبة للقتل، وأنها على وجه عام تميل في شأن تنفيذها، إما إلى جانب الإفراط، أو جانب التفريط: فالتوراة: تتجه في تشريعها إلى جانب المجني عليه، فتفرض لوليه قتل الجاني، ولا تقبل هوادة فيه، وهذا تفريط في شأن الجاني، وإفراط في شأن المجني عليه.
والإنجيل: على ما يفهم كثير من الناس ـ يغض النظر عن الجناية، ويحذر دفع الشر بالشر، ويحتم العفو على ولي الدم. وهذا عكس الأول. تفريط في شأن المجني عليه، وإفراط في النظر إلى الجاني.
__________
(1) أحمد فتحي بهنسي : العقوبة في الفقه الإسلامي/ ص62 ، 63.
(2) آل عمران: 103.
(1/28)

والقانون الروماني: في قديمه ـ يعطف على الجاني إذا كان من الأشراف، ويقسو عليه إذا كان من غيرهم، وكأن غير الشريف في نظرهم لا يلتقي مع الشريف في صلب رجل واحد، ولا تنتظمها الإنسانية الواحدة، فهو مع نفسه في جانب التفريط بالنسبة إلى الشريف، وجانب الإفراط بالنسبة إلى غيره. وبينما ترى هؤلاء الثلاثة: (التوراة، والإنجيل، والقانون الروماني القديم) في هذا الوضع الذي وصفنا، وتراها تلتزم في جانب العقوبة أخذ الواحد بالواحد من غير تعد ولا إسراف ــ ترى العرب يسرفون. فيأخذون غير الجاني بالجاني، والكثير بالواحد، في الأشخاص، والجراحات، والديات. وبينما ترى الشرائع القديمة كلها تجعل الحق لولي الدم، نظراً إلى أن الجناية تقع أولاً وبالذات ترى أن الوضع الجنائي الذي صارت إليه الأمم الحديثة، واستمر العمل به إلى الآن، يعتبر أن الجريمة الواقعة على الأفراد جرائم عامة، ويجعل الحق في العقوبة والعفو عنها لولي الأمر، رضي ولي الدم أم أبى"(1)
أقول: إن جعل الحق في العفو عن الجاني لولي الأمر أو القاضي الجنائي أو النيابة العامة يعتبر افتئات على حق ولي الدم بل وتعد على نص قرآني (فقد جعلنا لوليه سلطاناً).. فلهذا القتيل أو المجني عليه أو وليه فله وحده حق العفو وليس لولي الأمر على التفصيل الذي سنذكره في مسقطات القصاص بعون الله.
الفصل الثاني
الفصل الثاني
تعريف القصاص والحكمة من مشروعيته
نتناول في هذا الفصل المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف القصاص.
المبحث الثاني: مشروعية القصاص.
المبحث الثالث: الحكمة من مشروعية القصاص.
المبحث الرابع: شبهات حول تطبيق عقوبة القصاص.
المبحث الأول
تعريف القصاص
معنى القصاص:

القصاص
موانع القصاص

شروط تنفيذ القصاص

بحث كامل عن القصاص

القصاص في الإسلام PDF

شروط القصاص

متى يسقط القصاص

القصاص بالسيف

حديث عن القصاص

تعليقات