القائمة الرئيسية

الصفحات



رجوع المقر مختاراً فيما يوجب حداً

رجوع  المقر مختاراً فيما يوجب حداً

رجوع  المقر مختاراً فيما يوجب حداً






بحث في: 
رجوع 
المقر مختاراً فيما يوجب حداً


إعداد: 
نايف بن علي بن عبدالله القفاري

شعبان 1432هــ






 
الحمد لله وحده، وبعد: 

فمسألة رجوع المقر مختاراً عن إقراره من المسائل المهمة قضائياً، وقد أثيرت قديماً ثم أثيرت حديثاً في السنوات القريبة، وعدلت المحكمة العليا عملياً عمّا جرى عليه العمل قبل أن تتوج ذلك بإصدار مبدأ قضائي في هذا الشأن..
على كلٍ هذا بحث في هذا المسألة شاركني في إعداده شيخان فاضلان رغبا ألا يذكر اسمهما.
وأنوه بأن هذا البحث ينصب على شأن المقر مختاراً إذا رجع عن إقراره، وأما المقر المكره أو من دلت دلالة حاله على الإكراه فليس مراداً [رابط: بحث الرجوع عن الإقرار فيما موجبه التعزير[رابط بحث: إِقْرَارُ السَجِينِ في كِيرِ العَدل
أسأل الله تعالى أن ينفع به وأن يلهمني وقارئه الكريم الرشد والصواب.. آمين، وبالله التوفيق. 

أولاً: تحرير محل النزاع :


اتفقوا على أنَّه لا يقبل رجوع المقر عن إقراره في حقوق المخلوقين( )؛ لأنه حق ثبت لغيره، وحقوق المخلوقين مبنية على المشاحة ؛ فلم يملك إسقاطه بغير رضاه( )؛ ولأنَّ الإقرار إخبار يحتمل الصدق والكذب ، لكنا غلبنا جانب الصدق لما فيه من تحمل الالتزام ، فإذا رجع عنه بعد ذلك كان رجوعه إقراراً معاكساً يحتمل الصدق والكذب على السواء ، فكان رجوعه أضعف من الإقرار الأول فلم يلغه( ). قال السرخسي في المبسوط : (الرجوع بعد الإقرار إنما لا يصح في حقوق العباد لوجود خصم يصدقه في الإقرار ويكذبه في الرجوع )( ). 
ومن حقوق المخلوقين في أحد القولين: حد القذف؛ ولهذا نص بعضهم على أنه لا يقبل رجوع المقر في حد القذف( ) ؛ لأنَّ للعبد فيه حقاً، فيكون متهماً في رجوعه، فلا يصح كالرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للمخلوقين( ).

كما اتفقوا على أن رجوع المقرّ في حقوق الله تعالى لا أثر له في حقوق المخلوقين المتعلقة به– إلا في أحد قولي الخرسانيين من أصحاب الشافعي( )، فلو رجع الزاني عن إقراره فلا أثر له في لزوم مهر المغصوبة التي أقر بوطئها، وكذا لو رجع السارق عن إقراره بالسرقة فلا أثر لرجوعه في المال الذي أقر بسرقته؛ لأنها حقوق مخلوقين لا يصح الرجوع فيها( )، وقياساً: على ما لو أقر أنه غصب من غيره عيناً ثم رجع عن إقراره( ).

واتفقوا أيضاً على أنه لا يقبل رجوع المقر عن إقراره في حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالشبهة؛ كالزكاة والكفارات؛ لما فيها من شائبة حق الآدمي( )؛ ولأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه قياساً على ما لو ثبت ببينة( )، ومن حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالشبهة : التعازير( ).
[للاستزادة ينظر: بحث ضابط "التعزير يثبت مع الشبهة" -شبهة الإثبات- http://twitmail.com/1FW2 ]

واتفقوا على أنَّ الحد إذا ثبت بالبينة مع إقراره ثم رجع عن إقراره فلا أثر لرجوعه إلا في وجه للشافعية على خلاف المذهب عندهم( ) قال الزركشي: (وقول الخرقي: ولو رجم بإقراره، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو هرب لم يسمع منه، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن، والله أعلم)( ).

واختلفوا في رجوع المقرِّ عن إقراره فيما يوجب حداً على ثلاثة أقوال-سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى-

ثانياً: حكم رجوع المقر عمَّا يوجب حداً :


اختلفوا في حكم رجوع المقر عن إقراره فيما يوجب حداً على ثلاثة أقوال: 
القول الأول : يقبل رجوع المقر عن إقراره فيما يوجب الحد مطلقاً ، سواء كان رجوعه قبل الحكم أو بعده ، وقبل تنفيذ الحكم أو في أثنائه .
وهذا رأي الحنفية( )، ومالك في أحد قوليه وهو المشهور عنه( )، والشافعية ( )، والحنابلة( ). وقال به عطاء ويحي بن يعمر والزهري وحماد والثوري ( ) وإسحاق بن راهويه ( )، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم( ). 
وبعض الشافعية أخرج الزنا، فقال لا يقبل فيه الرجوع دون بقية حقوق الله تعالى( )
وبعض الحنابلة قصر قبول رجوعه على الزنا دون بقية حقوق الله تعالى ( ) ، ومن الحنابلة من رأى: أن سارق بارية المسجد ونحوها لا يقبل رجوعه( ).

القول الثاني : لا يقبل رجوع المقر عن إقراره في الحدود مطلقاً . نُسب إلى أبي حنيفة ( )، وقال به مالك في إحدى الروايتين عنه ( )، وبعض الشافعية ( ) واختاره ابن المنذر منهم ( )، وهو قول الظاهرية ( )، وقال به الحسن البصري وسعيد بن جبير ( )، وابن أبي ليلى ( )وعثمان التيمي ( ) ، وأبو ثور ( )ابن تيمية ( ) وقال به الشوكاني( ) ، واختاره الشيخ ابن عثيمين ( ).

القول الثالث : التفصيل : وهؤلاء الذين فصلوا لهم أنظار : 
النظر الأول : إن كان رجوعه لشبهة قبل، وإن كان رجوعه لغير شبهة فلا يقبل. وهذا قول لمالك ( ) ومثّلوا للشبهة : بأن يقول : أصبت امرأتي حائضاً ، أو جاريتي وهي التي من الرضاعة فظننت أن ذلك زنا ( ) .
وهذا النظر في حقيقته يرجع إلى القول الثاني، فإن القائلين بالقول الثاني يتفقون على أن الحد لا يقام مع الشبهة القوية التي تدرأ الحد ، ولهذا مثلاً نصوا على أن المكره لا يُعتد بإقراره( )،يقول ابن حزم رحمه الله : (الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ، ولا أن تقام بشبهة ..، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة ، لقول رسول الله  : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام " وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] ) ( ) ، ويقول الشوكاني : ( الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك ، أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة ؛ بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود )( ).
النظر الثاني : إن كان رجوعه بعد حكم الحاكم بإقراره عنده ، أو بعد شهادة الشهود عند الحاكم بناءً على إقراره : فلا يقبل ، وإلا قبل . صححه النووي( ) ، وهو رواية عن أحمد فيما إذا كان رجوعه بعد الشهادة على إقراره( ).

النظر الثالث : التفريق بين التائب الذي جاء بنفسه مقراً وبين غيره ، فمن جاء بنفسه تائباً فلا يجب أنْ يقام عليه الحد ؛ بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد. وهذا ظاهر مذهب أحمد نص عليه في غير موضع ( )،وجوده ابن تيمية ( ) ،واختاره الشيخ ابن القيم ( )، وابن باز ( ) ، والألباني ( ).
وننوه هنا إلى أن سبب تفرد أحمد بهذا النظر هو النزاع في أصل آخر ، وهو هل تقبل توبة مرتكب موجب الحد قبل القدرة عليه ؟ . 
الجمهور يجنحون إلى أنه لا تقبل إلا من المحارب دون سواه ، فالمحارب لنص الآية { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ، وأما من عداه فلا تقبل لعموم أدلة إقامة الحدود . 
وأحمد في رواية وهو مذهب الشافعية تقبل من غير المحارب كالمحارب؛ لعمومات أدلة قبول التوبة( ). 

الأدلــــــــــــــــــــــــــة :

أدلة القول الأول : 
الدليل الأول : ما أخرجه أبو داود من حديث نُعيم بن هزال  في قصة رجم ماعز  وفيه أنه  : أمر به أن يرجم ، فأُخرج به إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد ، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه ، فنزع له بوظيف بعير ( )فرماه به فقتله ، ثم أتى النبي  فذكر ذلك له، فقال: " هلا تركتموه لعله أن يتوب ، فيتوب الله عليه"( ) .
قالوا : وهذا نص جلي في قبول الرجوع عن الإقرار ( ) ،وإذا قبل الرجوع بالهرب ، فلأن يقبل الرجوع بصريح القول أولى ( ). 
نوقش بما يلي : 
1. بأن قصة ماعز  لا حجة فيها أصلاً ؛ لأنه  إنما قال  : ( يا قوم ردوني إلى رسول الله  ، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله  غير قاتلي ) ( )، فليس في الخبر أنه  رجع عن إقراره ، وليس فيه أنه  علق إقامة الحد على رجوعه ( ).
2. وأيضاً : فإن قوله  : " هلا تركتموه " المقصود منه النظر في أمره وتثبت المعنى الذي هرب من أجله ، لا ترك الحد ؛ كما أخبر به جابر  ، قال الشوكاني : (النبي  إنما قال ذلك لأجل الاستثبات والاستفصال ، فإن وجد شبهة يسقط بها الحد أسقطه لأجلها ، وإن لم يجد شبهة كذلك أقام عليه الحد ، وليس المراد أن النبي  أمرهم أن يدعوه ، وأن هرب المحدود من الحد من جملة المسقطات ولهذا قال : " فهلا تركتموه وجئتموني به "( )) ( ).
3. يؤيد أن المقصد الاستثبات لا ترك إقامة الحد ما جاء في بعض طرق مسلم أنه  قال لماعز بن مالك : " أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟" قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ؟" ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ( ) . 
4. كما أنَّ قوله  : " لعله أن يتوب ، فيتوب الله عليه " دليل على أنَّ حكم الإقرار باقٍ ؛ لأنه لا توبة إلا من ذنب – وهو هنا الزنى - ، ولو كان الرجوع يرفع مقتضى الإقرار لارتفع عنه حكم الذنب ( ) .
5. أو يقال : إن ماعزاً  رجع عن طلب إقامة الحد عليه لا عن الإقرار ، والرجوع عن طلب إقامة الحد يجوز في ظاهر رواية أحمد إذا كان المقر جاء بنفسه تائباً ( ) 
6. ثم لو صح قبول رجوع المقر ، لوجب أن يكون الحد ساقطًا عن ماعز  بهربه ، مما يعني أنَّ قتله من الصحابة بعد رجوعه كان قتلاً يوجب الضمان ، وفي ترك النبي  إيجاب الدية على عواقل القاتلين له بعد هربه دليل على أنهم قاتلوا من عليه القتل ، إذ لو كان دمه محقونًا بهربه لأوجب على عواقل قاتليه ديته ( ) .
7. ولو صح أيضاً – نعني : قبول الرجوع عن الإقرار - لحُمل على التائب الذي قام عليه موجب الحد بإقراره ، قال ابن تيمية : (التائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد ؛ للعموم والمفهوم والتعليل . هذا إذا كان قد ثبت بالبينة . فأما إذا كان بإقرار وجاء مقراً بالذنب تائباً : فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع . وظاهر مذهب أحمد : أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة ؛ بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد ، وعلى هذا حُمل حديث ماعز بن مالك لما قال: " فهلا تركتموه" وحديث الذي قال " أصبت حداً فأقمه " مع آثار أخر ) ( ) ، ويؤكد هذا المعنى أنه  قال : " هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه " فأشار إلى أن الترك لأجل التوبة ؛ لا لأجل الرجوع عن الإقرار( ). 
8. بل جاء في بعض طرق مسلم أنَّ ماعزاً  إنما فرَّ لأجل أنَّ المحل الأول كانت أحجاره أكثر تعذيباً ، ففرّ إلى محل تقتل أحجاره مباشرةً ، وهذا نصّ الشاهد من الخبر : " قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، قال: فما أوثقناه، ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم، والمدر، والخزف، قال: فاشتد، واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة، فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة - يعني الحجارة - حتى سكت" ( )( ) .
9. أن زيادة : " هلا تركتموه " ضعيفة كما مرَّ .


الدليل الثاني : ما أخرجه أبو داود عن بريدة  قال : كنا أصحاب رسول الله ، نتحدث : " أن الغامدية، وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما - أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما - لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة "( ) 
نوقش بما يلي : 
1. بأن هذا ظن من المتحدثين  ، والظن لا يجوز القطع به ؛ لأنه مجرد حدس (وقول القائل : لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله  أمرا كذا - : ليس بشيء ، إذ لم يفعل ذلك الفلان ، ولا غيره ذلك الفعل قط ولا فعله عليه السلام قط )( ). 
2. وأيضاً : فإن هذا الظن من المتحدثين  خالفه غيرهم من الصحابة ، فجابر  الذي وصف نفسه بأنه من أعلم الناس بحديث ماعز ، علل بأن مقصود رسول الله  من قوله :" هلا تركتموه وجئتموني به " التثبت لا ترك إقامة الحد ( ).
3. ثم على فرض صحة الحديث فهو محمول على التائب المقر ، والغامدية وماعز  كل منهما إنما ثبت الحد عليه بإقراره مع كونه جاء تائباً( ). 

الدليل الثالث : استدلوا بالأحاديث التي فيها تلقين المقر بالرجوع ، وهي : 
ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي  قال له: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت" قال: لا يا رسول الله، قال: "أنكتها". لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه( )
وما جاء عن أبي هريرة  قال: أتى رجل رسول الله  وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي  فقال: "أبك جنون" قال: لا، قال: "فهل أحصنت" قال: نعم، فقال النبي  :" اذهبوا به فارجموه"( )
ما جاء عن أبي أمية المخزومي ، أن النبي  أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله  : "ما إخالك سرقت" ، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً ، فأمر به فقطع ، وجيء به، فقال: "استغفر الله وتب إليه" فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: "اللهم تب عليه" ثلاثاً ( )  
وجه الاستدلال من الأحاديث : أن النبي  لقن المقرين فيها بالرجوع عمَّا أقروا به .
ففي الأول : عرّض له في قوله  : " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت" . 
وفي الثاني عرّض له في قوله  : "أبك جنون" إضافة إلى الإعراض عنه حتى ردد عليه أربع مرات ! 
وفي الثالث عرّض له في قوله  : "ما إخالك سرقت" ، ولو لم يكن الرجوع عن الإقرار محتملاً الرجوع لم يكن للتلقين معنى وفائدة ، فكان التلقين من النبي  احتيالاً لدرء الحد ( )، قال النووي في فوائده على خبر ماعز  : ( ففيه استحباب تلقين المقر بحد الزنى والسرقة وغيرهما من حدود الله تعالى وأنه يقبل رجوعه عن ذلك ...، وقد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي  وعن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم واتفق العلماء عليه ) ( )
نوقش : بأن هذه الأخبار المقر فيها جاء تائباً ، فيحمل ما فيها من أحكام على من كان كحال المقرين ، فإذا جاء مقر تائب شُرع في حقه ما فعله النبي  مع هؤلاء من الإعراض والترديد وكذا التلقين بالرجوع . قال ابن تيمية : ( أما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائباً فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد نص عليه في غير موضع ،...، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه وإلا فلا. كما في حديث ماعز: "فهلا تركتموه؟" والغامدية ردها مرة بعد مرة. فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا ؛ ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه )أهـ( ).
ويمكن أن يناقش الأول والثاني أيضاً : بأن المقصود التثبت من سلامة حال المقر ، يدل لذلك ما جاء في بعض طرق مسلم من أنه  قال لماعز بن مالك : " أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟" قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ؟" ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ( )، ففي هذا الخبر أنه  سأله سؤالاً صريحاً من غير تلقين . ويؤيده أيضاً ما جاء في رواية جابر بن سمرة  قال: رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي  رجل قصير، أعضل، ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله  : " فلعلك؟" قال: لا، والله إنه قد زنى الأخر، قال: فرجمه، ثم خطب، فقال: " ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله، خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس، يمنح أحدهم الكثبة، أما والله، إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه" ( )، وفي لفظ : " إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالا" أو "نكلته"( ) فكيف يتوعد  بالتنكيل بالزاني ثم هو يعرض له بالرجوع عن الإقرار ! 
ونوقش الحديث الثالث - " ما إخالك سرقت " – إضافة لما سبق ذكره في أول المناقشة - بما يلي : 
أن المقصود الاستثبات ، قال الخطابي : (وجه هذا الحديث عندي - والله أعلم- أنّه  ظنَّ بالمعترف بالسرقة غفلة ، أو يكون قد ظن أنه لا يعرف معنى السرقة ، ولعله قد كان مالاً له أو اختلسه أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة ، والمعترف به قد يحسب أنَّ حكم ذلك حكم السرقه فوافقه رسول الله  واستثبت الحكم فيه ) ( ) . ويؤيد هذا الفهم – أن المقصود الاستثبات – ما جاء في الحديث أنه لم يوجد معه متاع ، وهذا ما جعل بعض الباحثين يقول : بأنّ حكم الحديث خاص بمن رجع عن إقراره ولم يكن ثمة قرائن تكذبه من وجود متاع ونحوه ( ). قال ابن القيم في معرض بيانه لما تضمنه الخبر من أحكام : ( التعريض للسارق بعدم الإقرار وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق ؛ بل من السرَّاق من يقر بالعقوبة والتهديد ) أهـ( ). 
قال ابن حزم : ( لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه إلا "ما إخالك سرقت" ورسول الله  لا يقول إلا الحق ، فلو صح أن رسول الله  قال للذي سيق إليه بالسرقة " ما إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه - عليه السلام - قد صدق في ذلك، وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق ، وليس في هذا تلقين له ، ولا دليل على أن الستر أفضل - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة )أهـ ( ).

الدليل الرابع : استدلوا بالأخبار التي فيها درء الحدود بالشبهة ، وهي : 
ما جاء عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  :" ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا"( ) .
ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله  : "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " ( ) . 
ما جاء عن ابن مسعود  أنه قال : " ادرءوا الحدود ما استطعتم، فإنكم إن تخطئوا في العفو خير من أن تخطئوا في العقوبة، وإذا وجدتم لمسلم مخرجا فادرءوا عنه الحد " منقطع وموقوف ( ) .
قالوا : والرجوع عن الإقرار شبهة ، ووجه : أنَّ الرجوع عن الإقرار في منزلة الإقرار الأول ، فكل من الإقرار والرجوع خبرٌ يحتمل الصدق والكذب ، والمقرُّ نفسه مصدر الخبرين – الإقرار والرجوع – ولا مرجح لأحد الخبرين ، فيورث شبهة في ظهور الحد ، والحدود لا تستوفى مع الشبهات بالإجماع  ( ) -حكاه غير واحد - ( ).
نوقش : 
1. أن الأخبار في درء الحدود بالشبهات ضعيفة ، قال ابن حزم : ( وأما "ادرءوا الحدود بالشبهات" فما جاء عن النبي  قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضا جاء عنه - عليه السلام - أيضا، لا مسندا، ولا مرسلا وإنما هو قول روي عن ابن مسعود، وعمر، فقط ) ( ) ، وقال : ( جاء من طرق ليس فيها عن النبي  نص، ولا كلمة، إنما هي عن بعض أصحاب من طرق كلها لا خير فيها ) ( ) ثم ذكر الأخبار وقال بعد أن نقدها حديثياً : ( فحصل مما ذكرنا أنْ اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلاً ، وهو " ادرءوا الحدود بالشبهات " لا عن صاحب، ولا عن تابع إلا الرواية الساقطة التي أوردنا من طريق إبراهيم بن الفضل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وإبراهيم ساقط . وإنما جاء كما ترى عن بعض الصحابة مما لم يصح " ادرءوا الحدود ما استطعتم " ) ( ) .
2. وعلى فرض ثبوتها فليس كل شبهة تدرأ ، وإنما يَدْرَأُ منها ما يُوجب الاشتباه ، قال الشوكاني : ( وليست الشبهة التي أُمرنا بدرء الحدود عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه ، موقعة في بعض اللبس ؛ وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها ) ( ) وقال : ( أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود ) ( ). (الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله)( ).
وجماعة أهل العلم يتفقون على هذا تطبيقاً، فالمالكية يقتلون بدعوى المريض أنْ فلاناً قتله، وفلانٌ منكر ولا بينة عليه ! كما أنهم والحنابلة في رواية يحدون بوجود رائحة الخمر! مع أنها قد تكون رائحة تفاح، أو أنه تمضمض بها من غير شرب ، أو حسبها ماء ، فلما صارت في فيه مجها . 
والحنفية يقطعون من دَخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة ولو لم يتول أخذ شيء ولا إخراجه ( ).
والشافعية وابن القاسم من المالكية وبعض الحنابلة يوجبون إقامة الحد على الأخرس بإقراره عبر إشارة مفهمة ، مع أن الإشارة تحتمل ما فُهم منها وتحمل غيره ، كما أنه قد يكون للأخرس شُبهة لا يمكنه التعبير عنها ولا يعرف أنها شبهة، وكل من الأمرين شبهة ومع ذلك يقيمون الحد ولا يدرؤونه لأجلها( ).

الدليل الخامس : استدلوا بآثار عن بعض الصحابة فيها تلقين المقر بالرجوع ، وترك إقامة الحد بعد رجوعه ، ولا مخالف لهم . 
نُقل تلقين المقر بالرجوع عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة  ولا مخالف لهم من الصحابة ، فكان إجماعاً منهم على قبول رجوع المقر ( ) .
عن ابن جريج , قال: سمعت عطاء , يقول: " كان من مضى يؤتى أحدهم بالسارق , فيقول: أسرقت؟ قل: لا , أسرقت؟ قل: لا . علمي أنه سمَّى أبا بكر , وعمر  . وأخبرني أن علياً  أُتي بسارقين معهما سرقتهما , فخرج فضرب الناس بالدرة , حتى تفرقوا عنهما , ولم يدع بهما ولم يسأل عنهما " ( ).
عن معمر , عن ابن طاوس , عن عكرمة بن خالد , قال : أُتي عمر بن الخطاب  برجل فسأله : " أسرقت ؟ قل :لا , فقال: لا , فتركه ولم يقطعه( ) .
عن عكرمة بن خالد، قال: أتي عمر بسارق قد اعترف، فقال عمر: إني لأرى يد رجل ما هي بيد سارق ، قال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر ولم يقطعه ( ).
عن عيسى بن يونس، عن ابن عون، قال: حدثني مسكين ، رجل من أهلي، قال: شهدت عليا  أتي برجل وامرأة وجدا في خربة، فقال له علي: أقربتها؟ فجعل أصحاب علي يقولون له: قل: لا، فقال: لا، فخلى سبيله ( )عن الثوري , عن حماد , عن إبراهيم , عن أبي مسعود الأنصاري  أنه أتي بامرأة سرقت جملاً , فقال: " أسرقت؟ قولي: لا " ( ) .
عن الثوري , عن علي بن الأقمر , عن يزيد بن أبي كبشة , عن أبي الدرداء  , أنه أتي بامرأة سرقت يقال لها: سلامة , فقال لها: " يا سلامة , أسرقت؟ قولي: لا " , قالت: لا , فدرأ عنها ( ) .
عن محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن سليمان الناجي، عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة  ، أتي بسارق وهو يومئذ أمير ، فقال:" أسرقت؟ أسرقت؟ قل: لا قل: لا مرتين أو ثلاثاً " ( )
نوقش الدليل بما يلي : 
1. بأن هذه الآثار أو بعضها لا تصح . وعلى فرض ثبوتها : فليس فيها حجة لمسألتنا ، إذ غاية ما فيها : تلقين المتهم بعدم الإقرار أصلاً . وما نحن فيه هو حكم تلقينه الرجوع عمَّا أقر به ثم إبطال الحد اتكاءً على رجوعه . 
2. ثم لو سلم أنّ فيها حجةً ، فهي خاصة بمن أقرَّ تائباً وأصر على إقراره ؛ لأن الإصرار عليه دلالة على توبته ؛ كحال ماعز والغامدية  وتوبة المقر بموجب الحد مقبولة في قولٍ . قال ابن تيمية : ( فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا: فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع. وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة؛ بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد ) ( ) .
3. أو يقال : هو خاص بمن رجع عن إقراره ولم يكن ثمة قرائن تكذب رجوعه ؛ كحديث الذي أقر عند النبي  بالسرقة ولم يوجد معه متاع( ).

الدليل السادس : القياس على إجماعهم قبول رجوع الشهود قبل إقامة الحد أو في أثنائه ، بجامع : أن كلاً من الإقرار والشهود بينة للحد ( ). 

يمكن أن يناقش : 
1. بأن هذا استدلال باستصحاب محل الإجماع في موطن النزاع وهو مختلف فيه والجمهور لا يرون حجيته ( )، و يمكن معارضته بمثله ، فيقال : لا يقبل رجوع المقر في حقوق الله تعالى استصحاباً لإجماعهم على عدم قبول رجوع المقر في حقوق الآدميين ؛ بجامع أنَّ كلا منهما حق لغيره .
2. على أن الشهادة تختلف عن الإقرار ، فالشهادة يعتريها الخطأ والعدوان ، بخلاف إقرار المرء على نفسه ، فيبعد أن يقر المرء على نفسه كاذباً بما يلطخ سمعته ، أو يكذب على نفسه بما يعلم مآله من العقوبة ( ) . 

الدليل السابع : القياس على سقوط حد الردة برجوع المرتد ، ووجه : أنَّ الإقرار في الحدود يوجب حقاً لله تعالى أوجبه قول المقرِّ ، فوجب أن يسقط إذا رجع عنه كالقتل بالردة( ). 

الدليل الثامن : أن قاعدة الشريعة في الإقرار بالحدود بناؤها على المساهلة والدرء ، ذكرها النووي في شرحه لمسلم فقال : (فيه – أي : في خبر ماعز  - استحباب تلقين المقر بحد الزنى والسرقة وغيرهما من حدود الله تعالى وأنه يقبل رجوعه عن ذلك ؛ لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء ) ( ) .
يمكن أن يناقش : بأنّ هذا استدلال بمحل النزاع. 

الدليل التاسع : ولأن الإقرار بالحد توبةٌ لم تعرف إلا من قبل المقرِّ ، فإن نزع عن إقراره كان كمن لم يأت به ( ) .
يمكن أن يناقش : بأنَّ الإقرار بحق آدمي اعتراف منه بانشغال ذمته بحق لغيره ، فإذا نزع عن إقراره لم يقبل منه بالإجماع ولم يقل أحد بسقوط أثر إقراره كأنه كمن لم يأت به. 


أدلة القول الثاني : 
الدليل الأول : قوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) } [غافر 73-76] 
وجه الدلالة : أنهم أقروا بالشرك إقراراً ضمنياً في قولهم (ضَلُّوا عَنَّا) ، ثم رجوا عما أقروا به في قولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) ، ولم يقُبل رجوعهم ؛ فأخبر سبحانه أنه يقال لهم: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) .
والتوحيد حق من حقوق الله تعالى ، فيعدى الحكم إلى غيره من حقوق الله تعالى كالحدود. قال ابن الحنبلي في كتابه استخراج الجدال من القرآن : ( والإنكار بعد الاعتراف لا يسمع، دليله قوله تعالى : - ثم ذكر الآية - ، فعاقبهم على ضلالهم الأول بضلالٍ هو الإنكار بعد الاعتراف )( ) .
يمكن أن يناقش : 
1. لا يسلم أن قولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) إنكار بعد إقرار؛ بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة، ، فهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً ؛ لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع ، وهذا قول الأكثرين( ).
2. وعلى فرض التسليم بأنه إنكار بعد إقرار، فإن العذاب هنا لم يكن بموجب الإقرار؛ وإنما بالشهادة التي أخبر الله عنها في قوله : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) [النور : 24] ، وقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) [يس : 65] ، وقوله : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [فصلت:19-21] ، وأخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، قال: كنا عند رسول الله  فضحك، فقال: "هل تدرون مم أضحك؟" قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، قال: فيختم على فيه ، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل "( ) . وقد مضى في تحرير محل النزاع أنهم اتفقوا على أنَّ الحد إذا ثبت بالبينة مع إقراره ثم رجع عن إقراره فلا أثر لرجوعه إلا في وجه للشافعية على خلاف المذهب عندهم. 
فثبت بهذا أن صورة المسألة خارجة عن محل النزاع عند الأكثر.  

الدليل الثاني : قوله تعالى : قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135] ، فإذا شهد على نفسه بالزنا فقد قام بالقسط، وصَدَقَ عليه وصف الزاني، ( وقد قال الله عزّ وجل : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فكيف نرفع هذا الحكم الذي أمر الله به مُعَلَّقاً على وصف ثبت بإقرار من اتصف به؟! هذا لا يمكن؛ لأن هذا حكم معلق على وصف ثبت بإقرار، فبمجرد ما ثبت الإقرار ثبت الحد، فما الذي يرفعه؟! ) ( )
يمكن أن يناقش : بأن الذي رفع حكم إقراره هو ما جاء في أدلة القول الأول ، في خبر ماعز  وغيره ، والسنة يجوز أن تخصص عموم القرآن ، فيحمل عموم الكتاب على خصوص السنة ( ).

الدليل الثالث : استدلوا بالأحاديث التي فيها إقامة الحدود من دون تعليق الأمر على رجوع المقر أو تلقينه ذلك ، وهي : 
عن زيد بن خالد، وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي  قال : " واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها "( ) .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله  قال بعد أنْ رجم الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى عز وجل" ( ) .
عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي  بها، فقطعت يدها) قال أبو داود: رواه جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، أو عن صفية بنت أبي عبيد، زاد فيه، وأن النبي  قام خطيباً ، فقال: " هل من امرأة تائبة إلى الله عز وجل ورسوله؟ " - ثلاث مرات - وتلك شاهدة، فلم تقم، ولم تتكلم ) ( ) ، وعند النسائي : أنه  قال : " لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله وترد ما تأخذ على القوم "  ثم قال  : " قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها " ( ) وعند عبد الرزاق : ( أن امرأة جاءت فقالت: إن فلانة تستعيرك حلياً , وهي كاذبة , فأعارتها إياه , فمكثت أياماً , لا ترى حليها , فجاءت التي كذبت عن فيها , فسألتها حليها , فقالت: ما استعرتك من شيء فرجعت إلى الأخرى فسألتها حليها فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئاً , فجاءت النبي  فدعاها , فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئاً , فقال : "اذهبوا فخذوه من تحت فراشها" فقطعت , فكره الناس أن يؤوها , فقال: " قد قضينا ما عليها , فمن شاء فليؤوها " ( ) .
عن صفوان بن أمية، قال: كنت نائماً في المسجد علي خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل، فأتي به رسول الله  ، فأمر به ليقطع ، قال: فأتيته، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال: "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به " ومن طريق آخر : فاستله من تحت رأسه فاستيقظ، فصاح به فأخذ ( ). وجاء عند النسائي التصريح بأن موجب إقامة الحد إقرار السارق ، ونصه : فأخذه فأتى به النبي  ، فقال: إن هذا سرق ردائي، فقال له النبي  : "أسرقت رداء هذا؟" قال: نعم. قال : " اذهبا به فاقطعا يده " ( )
وجه الاستدلال من هذه الأخبار : 
أن النبي  أقام حداً أو أمر بإقامته اعتماداً على إقرار من غير تلقين المقر بالرجوع أو إشارة إلى ذلك . ففي الحديث الأول قال  : " فإن اعترفت فارجمها " ولم يعلق الأمر على رجوع المقرة أو ينبه أنيساً  إلى تلقينها الرجوع في حال أقرت ، ولو كان الأمر مشروعاً بإطلاق لما أخر النبي  البيان عن وقت الحاجة . 
وفي الثاني : قال " فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى عز وجل " وقد جاء السياق بأداة الشرط (من) لتعم كل من أبدى صفحته سواء رجع عن إقراره أو لم يرجع .
وفي الثالث : أقام النبي  الحد على المخزومية ، وأرشدهم  لما يدينها بالسرقة وهو إعلامهم بمكان المسروق . ولو كان الشارع متشوفاً إلى درء الحد بإطلاق لما دلهم النبي  على مكان المسروق . 
وفي الرابع : أقام النبي  الحد على المقر بالسرقة من غير تلقينه الرجوع . 
فدلت مجموعة الأخبار على أن رجوع المقر لا يقبل ؛ إذ لو كان مقبولاً لفعله  أو أرشد إليه ( ) .
يمكن أن يناقش : 
1. بأنه ورد في نصوص أخرى تعريض النبي  لمن أقر بالرجوع ، فتحمل النصوص التي لم يرد فيها التعريض بالرجوع على تلك النصوص ، أو أُهمل التصريح به للعلم به واستقراره . 
2. أو يقال : بأن هذه النصوص محمولة على غير التائب ، والذي يلقن الرجوع هو المقر التائب كما في حديث الغامدية وماعز  ، وأما ما عداهم فلا يعرض لهم بالرجوع كما هو رواية عن أحمد ( ). 
أجيب : بأنّ زعم إهمال التصريح للعلم به واستقراره : يحتاج إلى إثبات أمور حتى يستقيم، فنحتاج إلى إثبات إنَّ قبول الرجوع عن الإقرار هو حكم الرسول  في كل موجب حد ، ثم نحتاج إلى إثبات تقدم هذا الحكم على خبر أنيس  ، ثم إثبات أن هذا الحكم مما ذاع بين الصحابة  واشتهر( ) .

الدليل الرابع : ما أخرجه أبو داود أن حسن بن محمد بن علي بن أبي جاء إلى جابر بن عبد الله ، فقال له : إن رجالاً من أسلم يحدثون، أن رسول الله  قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: " ألا تركتموه " ، وما أعرف الحديث، قال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه، فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله ، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله  غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله ، وأخبرناه قال: " فهلا تركتموه وجئتموني به " ليستثبت رسول الله  منه، فأما لترك حد فلا، قال: فعرفت وجه الحديث ( ) 
واستُدل بهذا الحديث من وجهين : 
الأول : أنّ ماعزاً  هرب ، والهرب دلالة على رجوع ، ومع ذلك قتلوه ولم يتركوه . 
الثاني : أنَّ الرجوع عن الإقرار لو كان مقبولاً لألزمهم النبي  بديته ، لكونهم قتلوا من لا يجوز قتله ( ) ، أو وداه النبي  من بيت المال – في حال عذر الصحابة في قتله – كما في خبر القسامة ، ولا يترك دمه هدراً من غير قصاص أو دية ( ). 
نوقش : بأنّه  عاتبهم لما لم يتركوه فقال : " هلا تركتموه " وهو دلالة على الرجوع ، وأما أنه  لم يضمنهم قتل ماعز : فلأن الهرب ليس بصريح في الرجوع ( ) . 

الدليل الخامس : أن المقر إذا شهد على نفسه بموجب الحد ثبت موجبه ، ومتى حصل مقتضيه بأحد طرقه المعتبرة شرعاً – والإقرار منها – لم يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة ( )، وكما أن الحد لا يقام مع الشبهة ، فإنه لا يدرأ إلا بشبهة ، ومجرد الرجوع من غير احتمال ليس شبهة موجبة لدرء الحد . ولو قبل الرجوع مطلقاً لما قام حد بإقرار مطلقاً. 
يقول ابن حزم رحمه الله : (الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ، ولا أن تقام بشبهة ..، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة ، لقول رسول الله  : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام " وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] ) ( ) ، ويقول الشوكاني : ( الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك ، أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة ؛ بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود ) ( ) ، ويقول ابن تيمية : (ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار)( ).
نوقش : بما مضى ذكره في أدلة القول الأول من درء الحدود بالشبهات. 

الدليل السادس : أنَّ احتمال كذبه في الرجوع عما أقر به أقرب من احتمال كذبه في الإقرار ابتداءً ، إذ يبعد أن يكذب الإنسان على نفسه ويشهد عليها بموجب الحد ، أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره فهذا قريب ، لا سيما إذا أزفة إقامة الحد( ).

الدليل السابع : أن العقوبة حق وجب بإقرار ، فلم يقبل رجوع المقر كسائر الحقوق( ).
نوقش : بأنه قياسه على سائر الحقوق قياس مع الفارق ، ووجه : أن حقوق الله تعالى تدرأ بالشبهة بخلاف سائر الحقوق التي لا تدرأ بالشبهات( ).
كما أن حقوق الله تعالى تفارق حقوق الآدميين من وجه آخر، وهو : أن حقوق الآدميين مبنية على الشح والضيق ، أما حقوق الله تعالى فمبنية على المسامحة ( ).

الدليل الثامن : أن الحدود تلزم بالبينة أو بالإقرار ، ومن المتفق عليه أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل قوله ، فكذلك إذا أقر ثم رجع لا يقبل رجوعه ؛ كالشهادة . وهذا استدلال باستصحاب محل الإجماع ( ). 
يمكن أن يناقش : بأن هذا استدلال باستصحاب حال الإجماع ، والجمهور لا يرون حجيته ( ) ، ويمكن معارضته بمثله ، فيقال : يقبل رجوع المقر في حقوق الله تعالى استصحاباً لإجماعهم قبول رجوع الشهود قبل إقامة الحد أو في أثنائه ، بجامع أن كلاً من الإقرار والشهود بينة الحد  ( ) . 

الدليل التاسع : قياس الأولى على عدم قبول توبة التائب بعد القدرة عليه ، وبيانه : إذا لم تقبل توبة مرتكب موجب الحد بعد القدرة عليه بالإجماع ، مع الجزم بصدقه ، فأولى ألا يقبل رجوع المقر عن إقراره الذي هو فيه كاذب ( ). 
نوقش : بأن الرجوع عن الإقرار رفع لحجة الحكم وموجبه ، فارتفع محل الاحتجاج بالإقرار برجوعه عنه .
أما التوبة بعد القدرة عليه فالإقرار باقٍ بحاله ، فموجب الحكم ما زال مستمراً ، وإظهاره التوبة غير موثوق بها ، فلا تقوى على إزالة موجب الحكم( ) . هكذا قالوا ! 

أدلة القول الثالث : 
أولاً : أدلة النظر الأول – التفريق بين رجوع لشبهة وبين غيره - 
الدليل الأول : استدلوا على قولهم بخبر ماعز  من وجهين : 
الوجه الأول : أن النبي  قال لماعز  : " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت" قال: لا يا رسول الله، قال: "أنكتها" . لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه ( )
قالوا : فالنبي  احتاط للشبهة فسأل ماعزاً عن أمور قد تُظن أنها زنى ، وهي ليس من موجبات حدِّ الزنى ، فلما لم يرجع ماعز  لشبهة أقام عليه النبي  الحد ولم يقبل رجوعه لما رجع في أثناء الحد لكونه رجع لغير شبهة ( ) .
الوجه الثاني : أن النبي  لما أُخبر بهرب ماعز قال : " فهلا تركتموه وجئتموني به " قال جابر  : ( ليستثبت رسول الله  منه، فأما لترك حد فلا ) ، ومراد جابر  أن النبي  أراد الاستفصال ، فإن وجد شبهة يسقط بها الحد أسقطه لأجلها ، وإن لم يجد شبهة تسقطه أقام عليه الحد ( ) .
نوقش : بأن ماعزاً  لم يرجع أصلاً حتى يكون سؤال النبي  لاستبيان رجوعه هل هو لشبهة أو لا ؟ . وسؤاله  محمول على أنه تعريض للمقر بالرجوع ( ).

الدليل الثاني : واستدلوا أيضاً : بالأخبار التي فيها درء الحدود بالشبهات – وقد سبق إيرادها في أدلة القول الأول - . 


ثانياً : أدلة النظر الثاني – التفريق بين رجوع بعد حكم الحاكم بإقراره عنده ، أو بعد شهادة الشهود عند الحاكم بناءً على إقراره وبين غيره - 
قالوا : لا يقبل رجوعه إذا كان الرجوع بعد حكم الحاكم ؛ لأن رجوعه في هذا الحال تكذيب للشهود والقاضي ( ) .
ويقبل رجوعه في غير هذا الحال لما سبق في أدلة القول الأول . 
ثالثاً : أدلة النظر الثالث – التفريق بين تائب جاء بنفسه مقراً وبين غيره -.
الدليل الأول : استدلوا بجملة من الأخبار ، وهي: 
خبر الغامدية رضي الله عنها . 
خبر ماعز  . 
حديث أنس بن مالك  ، قال: كنت عند النبي  فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي ، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي ، فلما قضى النبي  الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقم في كتاب الله، قال: " أليس قد صليت معنا " قال: نعم، قال: " فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك " ( ) . قال ابن حجر : ( وقد وقع في رواية أبي بكر البرزنجي عن محمد بن عبد الملك الواسطي عن عمرو بن عاصم بسند حديث الباب بلفظ أن رجلاً أتى النبي  ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فأقم علي الحد الحديث ) ( ) .
حديث وائل بن حجر  : زعم أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها ، فاستغاثت برجل مرَّ عليها ، وفرَّ صاحبها ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها، فقال لها: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر قال: فأتوا به النبي  فأخبرته أنه وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركوني هؤلاء فأخذوني قالت: كذب هو الذي وقع علي فقال رسول الله : "انطلقوا به فارجموه" فقام الرجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل فاعترف ، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله ، الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة فقال: "أما أنتِ فقد غفر لك ، وقال للذي أغاثها قولاً حسناً"، فقال عمر: أرجم الذي اعترف بالزنى؟ فأبى رسول الله  قال: "لا ، إنه قدْ تاب إلى الله "( )
قالوا : فهذه الأخبار الأربعة أعرض في بعضها النبي  عن المقر ، وعرض فيها بالرجوع ، وقال لما رجع المقر فيها " هلا جئتموني به " ، وفي رابعها ترك إقامة الحد ؛ لأنَّ المقرين فيها يشتركون فيما يلي : 
المقر جاء بنفسه إلى الحاكم ، من غير ملاحقة . 
المقر جاء تائباً يرغب التطهير . 
لا يوجد لموجب الحد بينة غير إقرار المقر . 
قال ابن تيمية : ( وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائباً فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد نص عليه في غير موضع وهي من مسائل التعليق واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث ، ... ، فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا؛ ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه كالذي يذنب سراً وليس على أحد أن يقيم عليه حداً ؛ لكن إذا اختار هو أنْ يعترف ويقام عليه الحد أقيم وإن لم يكن تائباً ؛ وهذا كقتل الذي ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبي  : " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله" ) ( ) .
قال ابن القيم معلقاً على خبر " إني أصبت حداً فأقمه عليَّ " : ( وللناس فيه ثلاث مسالك : ...، والثالث سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أصح المسالك ) . 
وقال ابن حجر فيه أيضاً : ( وقد يتمسك به من قال : إنه إذا جاء تائباً سقط عنه الحد وقد تمسك بظاهره صاحب الهدى ) ثم نقل كلام ابن القيم السابق ( ). 
ووجه التفرقة بين التائب وبين غيره : أن من مقاصد الحدود ردع فاعلها ، ومن جاء بنفسه طائعاً تائباً مقراً بذنبه ، فقد قارن فعله هذا خشية الله تعالى وهي حسنة تقاوم السيئة التي عملها ، فصنيعه دال على ارتداعه ، ولذا ناسب رفع الحد عنه . قال ابن القيم معلقاً على خبر وائل  : (وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -  - فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم، فقال: إنه قد تاب إلى الله، وأبى أن يحده، ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده، وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوة صالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء؛ فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك، فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ ) ( )أهـ.
يمكن مناقشته بما يلي : 
أما خبر ماعز والغامدية  فيمكن مناقشته بما مضى إيراده في أدلة القول الأول . 
وأما خبر " إني أصبت حداً " : فنوقش بأن الحدَّ هنا : معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر ؛ لأنها كفرتها الصلاة ، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة . وإطلاق الحدود على جنس المعاصي هو الأصل في اصطلاح الشارع يدل عليه قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ، { تلك حدود الله فلا تقربوها } ، وحصر مصطلح الحدود بمعاصٍ معينة مصطلح حادث . 
وقيل : إنِّ المراد بالحد هنا هو الحد المعروف وإنما لم يحده النبي  ؛ لأنه لم يفسر موجب الحد ، فذكره مجملاً ، ولم يستفسر النبي  عنه إيثاراً للستر ( ) ؛ لكن سبق أن نقلنا عن ابن حجر ما وقع في رواية أبي بكر البرزنجي من تصريح المقر  بأنه زنى . 
وأما خبر وائل بن حجر  : فيمكن مناقشته بما جاء في بعض طرق الحديث من أنَّ النبي  أمر برجم المقر ، وقد أخرجها أبو داود والترمذي من طريق محمد بن يوسف الفريابي ؛ لكن الألباني رجح رواية ابن الزبير – والتي ذُكر فيها أنه  لم يرجمه - ( ).

الدليل الثاني : قياس الأولى ، وبيانه : أن إسقاط العقوبة لأجل توبته قبل القدرة عليه - اعتماداً على عمومات صحة توبة التائب - ، أولى من إسقاطها لرجوعه عن إقرار يحتمل كذبه( ) .

ثالثاً: الترجيح :


مرجحات القول الأول : 
يمكن القول : بأن من مرجحاته : أنه مذهب الأكثر – هذا على التسليم بأن النظر فيما ذهب إليه الأكثر من طرق الترجيح - ( ) .



مرجحات القول الثاني :
من مرجحاته ما يلي : 
1- أن القول بقبول رجوع المقر مطلقاً : يلزم منه لوازم فاسده ، منها : 
من لوازمه تضييع ما جاءت الشريعة بحفظه ، فإن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس التي اتفقت الملل على حفظها ، وكان من طرق حفظها تشريع الحدود ، ووضع السدود في طريق إقامتها نوع من التضييع ، وبيان ذلك :  
أن لازمه – كما مضى الإشارة إليه – ألا يقام حد في الأرض ، فإذا كان الشارع ضيق في ثبوت الشهادة في الحدود وضيق في الإقرار أيضاً حتى استحب التلقين للمقر وقبل رجوع من أقر ، فيلزم منه أن الشارع ما أراد أصلاً إقامة الحدود وإنما أرد التخويف بها فحسب . وهذا لازم فاسد ! فما معنى أن يطلب الشارع إقامة الحدود من المكلفين ويتوعد من يشفع فيها بعد أن تبلغ السلطان ، ثم هو يفتح لنا سُبلاً لئلا نقيمه ، فيوجب قبول رجوع المقر عن إقراره مطلقاً سواء ظهرت قرائن صدق الإقرار أو لا ؟ ، وسواء كان المقر مأخذواً بذنبه أو لا ؟ . 
كما أن من لوازمه فشو موجبات الحدود ، فمرتكب الحد لا يعجز أن يتجاوز حدود الله فيلطخ أعراض المسلمين في بناتهم وأولادهم أو يتخوض في أموالهم ، ثم يرجع عن إقراره وغاية ما يعاقب به سجن أشهر معدودة أو سنوات وقد يعفى عنه قبل إتمامها ! . 
وإذا كانت القضية أخذت بعداً آخر فرأى الحاكم لزوم قتله تحايل لذلك فحكم بقتله تعزيراً ، مع أن الخلاف في القتل تعزيراً أقوى - إذ الخلاف فيه في أصله بينما الخلاف في مسألتنا في رفع الحد بعد ثبوته- ، وما حمله على ذلك إلا تضييق القول ، يقول ابن تيمية : ( لقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل، فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }، وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل. وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقي الله وأخذ ما أحل له، وأدي ما وجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدًا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا  بالحنيفية السمحة. فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ) ( ) .
وفساد اللازم دليل على فساد الملزوم ، وهذا من اعتبار المآلات ، يقول الشاطبي : (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً ...، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب ، جار على مقاصد الشريعة )( ) .

2- أن القول بعدم قبول الرجوع يوافق ما أمرنا به الله تعالى في إقامة الحدود ، يقول الله تعالى في إقامة الحد على الزاني : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ويقول جل وعلا في إقامة الحد على السارق : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ويقول جل شأنه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هذه آيات الحدود وكلها غلظةٌ غلظ الفعل الذي ارتكبه الجاني . كما أن القول بعدم قبول رجوعه يوافق ما توعد به النبي  مرتكب الزنى . جاء في رواية جابر بن سمرة  أنه  قال في خبر ماعز  : " ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله، خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس، يمنح أحدهم الكثبة، أما والله، إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه" ( )، وفي لفظ : " إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالا" أو "نكلته"( ) .
والسؤال : أيحذرنا الله جل شأنه من الرأفة بالزاني ويتوعد نبيه  بالتنكيل بالزاني ثم يرشدنا إلى تلقينه الرجوع ؟! أم يصف القرآن حد السرقة بأنه {نكال} وحد الحرابة بأنه { خزي} ثم يقبل رجوع المقر ؟! فإذا قبلنا رجوعه وعرضنا له بالرجوع فأين النكال والخزي ؟ وهل هذا إلا رأفة بالجاني ؟ . 

3- من مقاصد إقامة الحدود - والله أعلم - : 

الأول : عقوبة الجاني على ما ارتكبه ، يدل عليه قوله تعالى {نكالاً} وقوله {ذلك لهم خزي في الدنيا}.
الثاني : تطهير الجاني ، يدل عليه حديث عبادة بن الصامت  أنه  قَالَ: وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: "تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ" ( )
والثالث : ردع الآخرين عن تقفي أثر العاصي ، يدل عليه قوله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . 
وبهذا يتحقق مراعاة الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها . 
فمن الخطأ قصر مقصد الشارع في هذه العقوبات على تخويف الجاني فقط ، إذ التخويف حاصل بعقوبة الآخرة هذا أولاً . 
وثانياً : ما معنى التخويف إذا كان الجاني يستطيع التحايل على درء الحد عنه بأدنى سبيل ؟ .
ومن هنا يظهر أن القول بعدم قبول رجوعه يراعي مقاصد الشارع التي قصدها من تشريع الحدود . 

4- ومن مرجحاته أيضاً : أن جماعة من أهل العلم –المالكية وأحمد في رواية اختارها ابن تيمية وابن القيم - يذهبون إلى إقامة الحدود بالقرائن، ويستدلون لذلك بقول عمر  : ( أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ )( ) ، وبقوله تعالى : (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين ) ، ويؤيده أيضاً ما مضى ذكره من أنه  قطع يد المرأة التي تستعير المتاع لما وجد المتاع في حرزها . قال ابن القيم : ( والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق ألبتة على شهادة ذكرين، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود، بل قد حد الخلفاء الراشدون والصحابة - رضي الله عنهم - في الزنا بالحبل، وفي الخمر بالرائحة والقيء، وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبل والرائحة في الخمر، وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبل والرائحة، بل أولى، فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة؛ وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة، والخلفاء الراشدون والصحابة - رضي الله عنهم - لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجويز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير، فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى، فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد)( ) وقال أيضاً : (فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقيئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء ) ( ) ( ). وإقرار الجاني -وهو مختار- إقراراً يصف فيه الجناية وصفاً لا يعرفه إلا من واقعها، ثم رجوعه من غير ما عذر بينٍ كإكراه أو دلالة إكراه كالحبس قرينةٌ على كذبه. أو يقال: إذا كانت الحدود تقام بالقرائن ولو تجردت من إقرار أو شهادة، فمن باب أولى إقامتها إذا كانت بإقرارٍ ظاهره الصدق ولو رجع عنه.

مرجحات القول الثالث : 
من مرجحات النظر الثالث :
1- قياسه على المستفتي وأنه لا يعزر إذا جاء تائباً مستفتياً ، كخبر أبي هريرة  : أن رجلاً وقع بامرأته في رمضان، فاستفتى رسول الله  ، فقال: " هل تجد رقبة " قال: لا، قال: "هل تستطيع صيام شهرين " قال: لا، قال: "فأطعم ستين مسكينا"( ) ، وكخبر ابن مسعود  أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي ، فأخبره فأنزل الله عز وجل: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم"( ) ، فالنبي  لم يعاقب هؤلاء المستفتين لظهور التوبة منهم ؛ وكذلك يقال في مرتكب الحد إذا جاء بنفسه تائباً . 
2- قياسه على ما ذكروه في ستر العاصي من التفريق بين العاصي المتهتك وبين غيره . قال القاضي عياض في شرحه لحديث:" من ستر مسلما ... ": (في هذا فضل معونة المسلم للمسلم في كل خير وفعله المعروف إليه، وستره عليه، وهذا الستر في غير المستهترين، وأما المنكشفون المستهترون الذين يقدم إليهم في الستر وستروا غير مرة فلم يرعوا وتمادوا، فكشف أمرهم وقمع شرهم مما يجب؛ لأن كثرة الستر عليهم من المهادنة على معاصي الله تعالى ومصانعة أهلها، وهذا أيضا في ستر معصية انقضت وفاتت، وأما إذا عرف انفراد رجل بعمل معصية واجتماعهم لذلك فليس الستر هاهنا السكوت على ذلك وتركهم إياها؛ بل يتعين على من عرف ذلك إذا أمكنه بتغييرهم عن ذلك كل حال ( )، وتغييره وإن لم يتفق ذلك إلا بكشفه لمن يعينه أو للسلطان) ( )( ).
قال النووي في شرح مسلم: (وأما الستر المندوب إليه هنا، فالمراد به: الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه؛ بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة) ( ) .
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (واعلم أن الناس على ضربين، أحدهما: من كان مستوراً لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غيبة محرمة وهذا هو الذي وردت فيه النصوص ...، قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام و أولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبا نادما وأقر بحده لم يفسره ولم يستفسر؛ بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه، ...، ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام فإنه يشفع له لا يبلغ الإمام ...
والثاني: من كان مشتهرا بالمعاصي معلناً بها، ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة ...، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود، وصرح بذلك بعض أصحابنا …، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان؛ بل يترك حتى يقام عليه الحد ليكشف ستره ويرتدع به أمثاله) ( ) .

وإذا أردنا أن ننظر للنصوص نظرة مجردة أمكن القول : 
بأنه لا يقبل رجوع المقر من حيث الأصل ؛ لخبر ماعز  أنه  قال له " أحق ما بلغني عنك " ، ولخبر : " إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالا" ، ولخبر " فإن اعترفت فارجمها " . بل وينبغي على الإمام من حيث الأصل السعي إلى إقامة الحدود ما أمكن لخبر المرأة التي تستعير المتاع، وفيه: أنها لما قالت رضي الله عنها : والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئاً , قال  : "اذهبوا فخذوه من تحت فراشها" فقطعت. 
وإن كان ظاهر دلالة الحال عدم صحة إقرار المقر ، فيقبل الرجوع لخبر " ما إخالك سرقت " وفيه أن المقر لم يكن معه المسروق – متاع -.
وأما الذي جاء مقراً بنفسه فهو محل بحث – كما مضى - وقول من قال بقبول رجوعه قريب وفيه جمع بين النصوص . 



رابعاً: ثمرة الخلاف

ثمرة الخلاف ظاهرة من أقوالهم في المسألة ، فعلى القول الأول يقبل رجوع المقر متى أقر ويترتب عليه سقوط موجب إقراره . 
وعلى القول الثاني : لا أثر لرجوعه بعد إقراره ، ويلزم الحاكم إقامة موجب الإقرار عليه . 
وأما القول الثالث فيفرقون بين حالات وأخرى ، ففي حالات يسقط أثر الإقرار ، وفي حالات لا . 
كما أن من ثمرة الخلاف : عصمة دم المقر بموجب حد يقتضي إتلافه ، فلو قتل بعد إقراره هل يجب القصاص من قاتله أو لا ؟ - وسنورد مزيد بسط لها في المسائل المفرعة على القول الأول -.
خامساً: مســـــــــائل مُفَرّعة على القول الأول

المسألة الأولى : ألفاظ الرجوع عن الإقرار :
عَدَّدَ الشافعية جملةً من الألفاظ التي يحصُل بها الرجوع ، فقالوا : 
يحصل الرجوع عن الإقرار بقوله : ( "كذبت" ، أو "رجعت عمَّا أقررت به"، أو "ما زنيت"، أو "كنت فاخذت" ، أو "لمست فظننته زنا" ) ( ).
أما لو قال :  "لا تحدوني " ، فليس برجوع ؛ لكن يجب الكفّ عنه في الحال ، فإن رجع عن إقراره صراحة وإلا حد ( ) . 
فالشافعية يفرقون بين الرجوع الصريح والكنائي ، فالصريح يعدونه رجوعاً دون الكنائي؛ لكنهم يوجبون في الكنائي الكف عن المقر حالاً ؛ فإن صرح بالرجوع وإلا أقيمت العقوبة. 
وأما الحنابلة : فمثل ابن قدامة في معرض سياقه للمسألة ألفاظَ الرجوع ، فقال : ( وإن قال : " ردوني إلى الحاكم" وجب رده , ولم يجز إتمام الحد , فإن أتم , فلا ضمان على من أتمه...، وإن رجع عن إقراره , وقال : "كذبت في إقراري " ، أو : "رجعت عنه" ، أو : "لم أفعل ما أقررت به" وجب تركه , فإن قتله قاتل بعد ذلك , وجب ضمانه )( )
إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول : كذبت في إقراري ، أو لم أفعل ما أقررت به ، ونحو ذلك ، فإذا يجب الكف عنه ، ومتى قتل ضمن والحال هذه ، لزوال إقراره صريحا.
وفي الإنصاف نقل عن صاحب الانتصار أنه يسقط حد الزنا حتى لو رجع بلفظ كنائي ؛ كقوله : ( "مزحت" ، أو "ما عرفت ما قلت" ، أو "كنت ناعساً")( ).
أما الحنفية : فلم أقف لهم على ألفاظ ؛ إلا أن المباركفوري في شرحه لسنن الترمذي ، الموسوم بتحفة الأحوذي نقل عن بن الملك : ( فيه – يريد قصة ماعز  : أن المقر على نفسه بالزنى لو قال : " ما زنيت " ، أو "كذبت" أو "رجعت" سقط عنه الحد ) ( ) .
وأما المالكية فلم أقف لهم على شيء ، لكنهم في قولهم الآخر – التفريق بين الشبهة وغيرها - ، مثلوا للشبهة بأن يقول : "أصبت امرأتي حائضاً" ، أو "جاريتي وهي التي من الرضاعة " فظننت أن ذلك زنا ( ) . 

المسألة الثانية :رجوع المقر هل يكون مانعاً من إقامة العقوبة بطريق الإقرار مطلقاً؟.
وصورة المسألة : رجوع المقر عن إقراره هل يقطع ثبوت العقوبة بطريق الإقرار مطلقاً ، أو يقطعه مادام مكذباً لإقراره ، فإذا رجع وكذب رجوعه فأقرَّ ثانية بما أقرَّ به أولاً قبل إقراره ؟ .
نصَّ على هذه الصورة الشافعية والمرداوي من الحنابلة . 
أما الشافعية فذكروها في معرض بيانهم لحدِّ السرقة ، وهذا نص كلام إمامهم من كتابه الأم: (ولو أقر ثم رجع ثم أقر: قبل منه فالإقرار مخالف للشهادات في البدء والمتعقب)( )، وذكر الشراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج قولاً آخر نسبه للدميري ، فقال : (لو أقر بالسرقة ثم رجع ثم كذب رجوعه , قال الدميري : لا يقطع )( ). 
أما المرداوي فذكره هذه الصورة في طي شرحه لرجوع المقر في الزنا ، فقال : : ( فائدة : لو أقر ، ثم رجع ، ثم أقر : حدّ )( ). 

المسألة الثالثة : هل يكون الرجوع بالفعل – كما لو هرب - ؟ أو هو مخصوص بالقول ؟
اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال : 
القول الأول : أن هرب المقر يعد رجوعاً مطلقاً ، سواء هرب في أثناء الحد أو قبله . هذا رأي الجمهور من الحنفية ( ) ، والحنابلة وذكر المرداوي أنه المذهب وهو ما عليه جماهير الأصحاب ( ) . 
ووجهه : 
خبر هرب ماعز  .
ولأن هرب المقر نوع رجوع أو يحتمل الرجوع فيسقط عنه الحد ( )  . 
القول الثاني : التفريق بين هربه في أثناء الحد وبين هربه قبل الشروع في الحد ، فالأول : يعد رجوعاً ، والثاني : لا يعد رجوعاً . وهذا قول للمالكية ( ) .
ووجهه : أن الهروب في أثناء الحد يدل على الرجوع لإذاقته العذاب بخلافه الهرب قبل الشروع في الحد . 
القول الثالث : هرب المقر لا يعد رجوعاً مطلقاً . اختاره بعض المالكية ( )، وهو قول الشافعية في الأصح عندهم ، قالوا : لا يعد رجوعاً ؛ لكن يجب الكف عنه في الحال ، فإن رجع عن إقراره صراحة قبل وإلا حدّ ( ). وهو قول عند الحنابلة ( ) .


المسألة الرابعة : إذا قلنا : إن الرجوع يكون بالفعل ،لو قتل بعد هربه فهل يقتص من قاتله ؟
اختلفوا في ذلك على قولين : 
القول الأول : يقتص منه وهذا وجه عند الشافعية ( ). 
القول الثاني : لا يقتص منه . وهذا وجه عند الشافعية ( )، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة ( )
دليلهم : لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع ، واختلافهم شبهة دارئة للقصاص( ).
ولأن النبي  لم يوجب عليهم في قضية ماعز  شيئاً ( ).
ولأن صحة الإقرار مما يخفى ، فيكون ذلك عذراً مانعاً من وجب القصاص( ).
والذين قالوا لا يقتص منه ، اختلفوا في وجوب الدية على قولين: 
القول الأول : تجب الدية . وهذا قول عند الحنابلة ( ) ، وابن قدامة في المغني يوجب الدية إذا رجع بلفظ صريح كما لو قال : "كذبت في إقراري " ، أو : "رجعت عنه" ، أو : "لم أفعل ما أقررت به"( ).
ووجهه : أن إقرار المقرِّ زال برجوعه ، فصار معصوم الدم ؛ كمن لم يقر ( ) . 
القول الثاني : لا تجب الدية . وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة ومنصوص الإمام( ) ، وهو رأي ابن قدامة فيما لو رجع بلفظ محتمل ، كما لو قال : " ردوني إلى الحاكم"( ) .
ووجهه : 
1. أن النبي  لم يضمن الصحابة في قصة ماعز  ديته ( ) .
2. أن الهرب ليس بصريح في الرجوع ، فلم يسقط به المتيقن ( ) .
3. أن موجب العقوبة ثبت بإقراره ، فلا يزول ذلك باحتمال الرجوع ( ).
وذكر الشافعية في صورة : ما إذا رجع المقر بعدما جلد بعض الحد فأتم الإمام الحد فمات منه ، ذكروا فيها قولين : 
الأول : يجب نصف الدية . 
الثاني : توزع الدية على السياط ( ).
سادساً: ما جرى به العمل القضائي و تعاميم ذات صلة

غير خاف أن العمل القضائي في هذه البحيرة كان على قبول رجوع المقر عن إقراره فيما يوجب حداً، ولا زال العمل جارٍ عليه إلى ما قبل إعادة هيكلة المؤسسات القضائية. 
والمطالبة بإعادة النظر في ما استقر عليه عمل قضاتنا سبق أن طولب به زمن الشيخ محمد بن إبراهيم. 
جاء في فتاوي الشيخ (12 / 47-49) :
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب المكرم رئيس ديوان جلالة الملك المعظم
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد
إشارة إلى مذكرتكم رقم 13/1/9096 في 11/10/1374 فقد اطلعت على كتاب الشيخ محمد سلطان المعصومي المتضمن المطالبة بتحقيق أمرين:
الأول: البحث عما كتبه أئمة الإسلام في السياسة الشرعية من اعتبار إقرار الجاني أولاً والحكم بموجبه وعدم الإصغاء إلى إنكاره ثانياً.
الثاني: منع المحامين بتاتاً من التدخل في المحاكم والدعاوي والاكتفاء بنفس المدعي والمدعى عليه.
ونفيدكم أن الشيخ المعصومي يعد من العلماء الذين عرفوا بنشاطهم وغيرتهم وعقيدتهم السلفية كما عرف بمؤلفاته الإسلامية النافعة، ولقد دفعته غيرته إلى أن يتقدم بمعروضه هذا اداءه لما في ذمته من النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين.
والذي أره فيما أبداه من المطالبة بالأمر الأول هو أن طلبه هذا إجمال يحتاج إلى تفصيل، لأن الحقوق تنقسم إلى قسمين:
1- حقوق الله.
2- حقوق الآدميين.
فأما حقوق الله فإن من شرط إقامة حد من حدود الله بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحد، فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء ويحي ابن يعمر والزهري وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف، لأن ما عزا هرب فذكر للنبي -  - فقال: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) قال ابن عبد البر ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونضر بن داهر وغيرهم أن ماعزاً لما هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله -  - فقال: (هلأ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) وعن بريدة قال: (كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما عند الرابعة) رواه أبو داود والحديث تدرأ بالشبهات وبرجوع المقر عن إقراره شبهة تدرأ الحد.
وقد ذكر بعض العلماء أنه يستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار التعريض له بالرجوع، كما روي عن النبي -  - أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده، ثم جاء من الناحية الأخرى فأعرض عنه، حتى تم إقراره أربعاً. ثم قال: (لعلك لمست) وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة (ما أخالك فعلت) . وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن السارق لو نزع عن إقراره قبل القطع فلا تقطع يده، لتعريض النبي -  - للسارق بقوله: (ما أخالك سرقت) ولأنه حد لله تعالى ثبت بالاعتراف فقبل رجوعه عنه كحد الزنا. ولكن غرم المسروق دون القطع. وفي (المغني لابن قدامة) : قال أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره، وهذا قول عامة الفقهاء، روي عن عمر أنه أتى برجل: فسأله أسرقت؟ قل: لا. فقال: لا. فتركه. أه.
ومثل الإقرار بالزنا والسرقة الإقرار بشرب المسكر فلو رجع عن إقراره قبل، لأنه حد لله. فحقوق الله مبنية على التسامح مدروءة بالشبهات. وفي (الاختيارات من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية ص297) : وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد عليه وإلا فلا.
وأما حقوق الآدمي فهي مبنية على المشاحة والتضييق، فإذا حصل الإقرار من مكلف مختاراً ثبت عليه ما أقر به، ولا عذر لمن أقر، ولا تقبل دعواه غلطاً أو نسياناً بعد الإقرار الذي يعتبر من أقوى البينات، ولهذا تلزم غرامة المسروق من أقر بالسرقة ولو مرة واحدة. لأنها حق لآدمي.
ولعل هذا القسم الأخير هو الذي يقصده الشيخ المعصومي، وهذا هو المعمول به في المحاكم والذي يجب أن يسار عليه، ولا نعلم أن أحداً من القضاة خالفه وقبل الإنكار من المعترف بحق لآدمي. والتسامح في هذا الأمر فيه تعطيب حقوق الناس وإبطال شيء من شرع الله ودينه) أهـ نص الحاجة منه . 
وقد عُمّم ما قرره الشيخ على المحاكم ، وجاء في آخره ( صدر أمر جلالة الملك المعظم في خطاب الديوان العالي رقم 13/1/10171 في 18/12/1374هـ باعتماد ما أدلى به فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم وتبلغنا من المقام السامي برقم 1387/1 في 28/12/1374هـ صورة ذلك للإحاطة به وتعميمه للمحاكم للعمل به ـ جرى إبلاغكم ذلك لاعتماده ـ ودمتم.) أهـ. 

تعاميم ذات صلة : 
o التعميم رقم 2302/1 وتاريخ 22/6/1387 ، والمتضمن : أن الحكم ينفذ على الزاني المعترف بالزنا ولا يسأل المحكوم عليه عن شيء فإن صار منه رجوع بدون سؤال عن الاعتراف بالزنا فلا يرجم ؛ ولكن لولي الأمر أن يعزره ولو بالقتل . 
o التعميم رقم 229 في 17/6/1394 ، والمتضمن : أن أي متهم يعترف بما يوجب الحد عليه ثم يرجع عن اعترافه فإن درأ الحد عنه يستلزم إصدار قرار من المحكمة الكبرى بذلك ، ...( )
o التعميم  رقم: 13/ت/855 تاريخه: 10/10/1416 هـ (...تلقينا نسخة من تعميم صاحب السمو الملكي وزير الداخلية رقم 16/67294 في 25/8/1416هـ ونصه :
«وردنا الأمر السامي رقم 4/ب/4915 في 10/4/1416هـ المبني على خطاب فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى رقم 5/502 في 17/3/1416هـ المتضمن أن المجلس بهيئته الدائمة أصدر القرار رقم 157/5 في 12/3/1416هـ في قضية حكم فيها بحد الرجم ولم يشر في الحكم إلى اشتراط رجوع المتهم عن الاعتراف وقد تضمن القرار بأنه ليس من شروط صحة الحكم في حد من الحدود النص فيه على أنه ما لم يرجع كما أن الرجوع عن الاعتراف بموجب الحد يدرأ الحد الثابت بالاعتراف، ولذا فإن رجع المحكوم عليه عن اعترافه فلا يقام عليه الحد.
وليس هناك ما يمنع من إخبار المحكوم عليه بالحكم كما أن التعريض له ليرجع لا مانع منه شرعا على أن يتولى ذلك عند التنفيذ طالب علم.».اهـ.
للاطلاع والعمل بموجبه.) انتهى/و.

فهذه التعاميم تؤكد أن العمل الجاري في قضائنا كان على قبول رجوع المقر عن إقراره. 

ثم جرت مكاتبات بين الجهات ذات العلاقة، فأعادت المحكمة العليا دارسة الموضوع إلى أن أصدرت هيئتها العامة قرارها بالأغلبية رقم 1/م وتاريخ 29/8/1434هـ، والمتضمن: 
أولاً: قبول رجوع من جاء تائباً مقراً بجريمة حدية في الحق العام، ولو بعد صدور الحكم واكتسابه الصفة النهائية. 
ثانياً: -مع مراعاة ما جاء في أولاً- فإنه متى صدر الإقرار القضائي مفصلاً من المكلف المختار بجريمة حدية في الحق العام وأيدته القرائن فلا يقبل الرجوع عنه ما لم يظهر ما يؤيد صحة الرجوع. أهــ.
وقد استشكل بعض القضاة الفقرة الأولى من قرار المحكمة العليا، فكاتب رئيس المحكمة العليا به، فأجابه الرئيس بما نصه: (نفيدكم بأن القرار المشار إليه واضح وليس فيه ما يدعو إلى الاستشكال، وهو خاص بمن جاء إلى الجهات المختصة ابتداءً من نفسه تائباً مقراً بذنبه طالباً تطهيره، وليس هو المقبوض عليه)أهــ. 




وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


تعليقات