القائمة الرئيسية

الصفحات



تقادم الدعوى الجنائية في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي

تقادم الدعوى الجنائية  في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي

تقادم الدعوى الجنائية
في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي




العنوان : تقادم الدعوى الجنائية في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي
المؤلف : سَامح السَّيد جَاد




تقادم الدعوى الجنائية 
في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي



أ.د. سَامح السَّيد جَاد
أستاذ القانون الجنائي
بكلية الشريعة والقانون 
جامعة الأزهر



بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
أن الجرائم في الفقه الإسلامي لا تعدو أن تكون مندرجة تحت أحد الأنواع الثلاثة المعروفة وهي: جرائم القصاص والدية، وجرائم الحدود، وجرائم التعارير.
والقصاص أصله في اللغة القطع، وقد أخذ من هذا كلمة القصاص في الجراح إذا اقتص للمجني عليه من الجاني بجرحه إياه أو قتله به ( ).
والقصاص عقوبة مقدرة من قبل اشرع الإسلامي، يجتمع فيها حق الله وحق العبد، بيد أن حق العبد غالب، ومن أجل ذلك أضيفت إلى حقوق العبد . ويشترك القصاص مع الحدود في كون كلاهما عقوبة مقدرة ليست لها حد أعلى ولا حد أدنى، ويختلفان في كون الحدود من الحقوق الخالصة لله سبحانه وتعالى، أما القصاص فهو من الحقوق المشتركة بين الله والعبد ولكن حق العبد غالب ولذا فإن حكمه حكم كافة حقوق العبد ( )، ومنها أن الشهادة على القصاص أو الاعتراف به لا تتقادم بمرور الزمان عليه، وذلك لتوقفه على دعوة من أولياء الدم في جرائم الاعتداء على الحق في الحياة (القتل) أو دعوى من المجني عليه في جرائم الاعتداء على ما دون النفس، ولكنه يسقط بالعفو سواء أكان عفوا عاما (أي عفوا عن القصاص والدية ويسمى أيضا العفو مجانا) أو عفوا إلى الدية أو البراءة ( ).
أما التعزير: فهو لغة: مصدر عزر، ويقصد به الردع والمنع، كما يقصد به التقوية والنصرة ( ). من ذلك قوله تعالى: (وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ). ويقصد به التأديب، وقد عرفه الفقهاء بأنه عقوبة غير مقدرة شرعا تجب حقا لله تعالى أو للعبد من كل معصية لأحد فيها ولا كفارة ( ). والتعزير قد يكون حقا خالصا للعبد أو حقا خالصا لله سبحانه وتعالى أو حقا مشتركا بين الله وبين العبد وحق الله غالب أو حق العبد غالب ( ). ومن المتفق عليه في شأن التعازير الواجبة حقا لله تعالى، أن سقوط الدعوى الجنائية بشأنها بالتقدم هو من الأمور المتروكة لولي الأمر حسبما تتضح مصلحة المجتمع فإن كانت مصلحة المجتمع، في أقرار التقدم بشأنها كان لولى الأمر أن يضرب لها فترة زمنية يلزم أن تحرك الدعوى في خلالها وتثبت أمام القضاء بأحدي طرق الإثبات المختلفة، وأن رأي أن مصلحة المجتمع تتحقق بعدم سقوط هذه الجرائم بالتقادم مهما طال الزمن كان له ذلك، فمناط اعتبار التقادم في هذه الجرائم أو عدم اعتباره، هو المصلحة التي تترتب للمجتمع من جراء ذلك، وهذا –كما ذكرنا- محل اتفاق بين الفقهاء فيما عدا ابن عابدين ( ) والاستروشيني ( ) حيث ذهبا إلى القول بأن التعازير لا تتقادم.
وسوف نبين ذلك إن شاء الله بعد أن نبين التقادم في جرائم الحدود.
وأما الحدود. فالحد لغة المنع وتأديب المذنب بما يمنعه نغيره من الذنب ( ).
وفقها: عقوبة مقدرة تجب حقا لله سبحانه وتعالى. فالحد عقوبة مقدره مقدما من الشارع، وأنها تجب حقا لله، لما في الجرائم المقررة فيها الحدود من خطورة على المجتمع ( ). فالحدود حقوق لله سبحانه وتعالى وأنها قد ثبتت بالكتاب والسنة وذلك لحماية مصالح المجتمع.
وقد ثار الخلاف بين فقهاء المسلمين في شأن تقادم الحدود، بين مؤيد ومعارض لأعمال التقادم بشأنها.
ولذا فأننا سوف نتناول بالحديث بيان تقادم الدعوى الجنائية في الفقه الإسلامي، في فصل نقسمه إلى مباحث أربعة:
المبحث الأول. لبيان تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود. 
وفي الثاني: نتحدث عن مدة تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود. 
وفي الثالث: نتكلم عن وفق تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود.
أما الرابع: فنعقده للحديث عن تقادم الدعوى الجنائية في جرائم التعزير.
ثم نفرد فصلا ثانيا لبيان تقادم الدعوى الجنائية في القانون الوضعي وسوف نقسمه هو الآخر إلى أربع مباحث :
المبحث الأول: ماهية تقادم الدعوى الجنائية وأساسه وتكييفه القانوني.
وفي الثاني: نتحدث عن مدد تقادم الدعوى الجنائية.
وفي الثالث: نتكلم عن وقف تقادم الدعوى الجنائية وانقطاعه.
وفي الرابع: نتناول بيان الآثار المترتبة على تقادم الدعوى الجنائية.
ثم نعقب ذلك بخاتمة نجمل فيها أهم النتائج.
والله نسأل التوفيق والسداد والهداية والرشاد فهو نعم المولى ونعم النصير.. 

الفصل الأولتقادم الدعوى الجنائية في الفقه الإسلامي

وسوف نقسم هذا الفصل على أربعة مباحث
المبحث الأول
تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود.
لقد اختلف فقهاء المسلمين في شأن تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود، بين مؤيد لتقادم هذه الدعاوي ومعارض للتقادم فيها، ولكن منهما أدلة على النحو التالي:
الرأي الأول: وهو رأي المالكية والشافعية والرواية الصحيحة في مذهب الحنابلة والظاهرية. حيث ذهبوا إلى القول: بأن التقادم لا أثر له على جرائم الحدود سواء أكان الدليل عليها هو الشهادة أو الإقرار.
فقد قال المالكية: أن الحدود لا تسقط بالشهادة المتقادمة ولا بالإقرار المتقادم، فالشهادة على السرقة بعد حين من الزمان يقطع بها وكذا الحدود كلها فلا يبطل حد وإن تقادم ذلك وطال زمانه ( )، وكذلك الإقرار وهو أخبار يتعلق بالمقر وحكمه اللزوم وهو أبلغ من الشهادة، فقول الشخص على نفسه أبلغ وأوجب من قوله على غيره (شهادته على غيره) ( ) فإن أقر بحد بعد طول زمان أخذ بإقراره، فقد روى عن سحنون أنه قال: لو شرب الخمر في شبابه ثم تاب وحسن حاله وصار فقيها من الفقهاء وعابدا فشهدوا عليه أيحد أم لا في رأي مالك قال: نعم يحد ( ).
وقال سحنون. لو سرق فأخذه أصحاب المسروق فرد عليهم سرقتهم فتركوه، ثم رفعه إلى الإمام أشخاص آخرون أو ذهب هو إلى الإمام فأعترف بعد ذلك بزمان، قال عبد الرحمن بن القاسم: أنه يطبق عليه أحد (القطع)، وهذا ما قاله الإمام مالك في شان السارق الذي يعفو عنه أصحاب الشيء المسروق أمام القاضي ثم يأتي آخرون ويرفوا الأمر إلى القاضي فإنه يقطع فهذا مثل ذلك، قال سحنون: لم يذكر عن مالك أن العفو عنه رد الشيء المسروق والذي نحن بصدده رد الشيء المسروق، فهل يقطع رغم رده ذلك الشيء المسروق؟، قال عبد الرحمن بن القاسم: نعم يقطع رد الشيء المسروق أو لم يرده فهو سواء من حيث وجوب تطبيق الحد عليه (القطع) ( ). ولذا فإن المذهب المالكي يقبل الشهادة والإقرار بالحدود مهما طال الزمن، وأن كانوا يقولون: أنه من المستحب الستر إلا في المشتهر عنه ارتكاب الحدود فيلزم الشهادة عليه ( ) ولذا فالحدود كلها عندهم لا تسقط بالتقادم ( ).
وقال الحنابلة: وإن شهدوا بزنا قديم أو أقربه وجب الحد وبهذا قال مالك والأوزاعي والثوري وإسحاق وأبو ثور ( )، ولمن عنده شهادة بحد كالزنا وشرب الخمر الشهادة أو الستر لأن حقوق الله مبينة على المسامحة ولا ضرر في تركها على أحد والستر مأمور به، وقد استحب القاضي وأصحابه وأبو الفرج وابن قدامة ترك الشهادة على الحدود ترغيبا في الستر ( ) لقول رسول الله (): "من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة" كما تجوز إقامتها أي أداء الشهادة لقوله تعالى: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ) ( ).ولأن من شهدوا في عقد الرسول () لم تنكر عليهم شهادتهم ( ). وعند الظاهرية أيضا تقبل الشهادة بالحد المتقادم ( ) كما يقبل الإقرار أيضا بالحد بعد مدة، وأن لم يعترف ولكن الأفضل هو الاعتراف لقول رسول الله () "لا أفضل من وجود المعترف بنفسه لله تعالى" ( ).
وعند الشافعية أيضا يقام الحد بالشهادة وإن طال الزمن.
وعلى ذلك نخلص على القول: بأن المالكية والشافعية المعتمدة في المذهب الحنبلي والظاهرية والأوزاعي والثوري وأبو ثور، قد ذهبوا إلى القول: بأن الدعوى الجنائية في جرائم الحدود لا تسقط بالتقادم سواء أكان دليلها هو الشهادة أو لا فتصح الشهادة على الحدود مهما طالت المدة وبذلك تقام الحدود متى نبتت بأيهما، وذلك عندهم لعموم الآية في قوله تعالى: (واللاتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ) ( ) ولأن الشهادة والإقرار في الحدود منها في حقوق الأفراد كالقصاص فإنه لا يسقط بالقادم لاتفاق العلماء على أن حقوق الأفراد لا تسقط بالتقادم، كما أن الاتفاق بين العلماء في شان الإقرار بالحدود أنه لا يسقط بالتقادم (فيما عدا عن ابن أبي ليلى وزفر واللذان يقرران أن الإقرار يسقط بالتقادم شأنه شأن الشهادة ( ) فكذا الشهادة على الحدود لا تسقط بالتقادم فهما حجتان شرعيتان يثبت بكل منهما الحد. هذا بالإضافة إلى أن أساس قبول الشهادة إنما هو صدق الشهود، وما دامت الشهادة صادقة فلا يؤثر في قبولها وإقامة الحد بناءا عليها تأخير أو تقادم العهد، وما دامت العدالة قد تحققت في الشهود فلا يصح برد هذا الشهادة لفرض الضغن أو التهمة، لأن الافتراضات المجردة لا يجوز أن تكون أساسا لبناء الأحكام عليها وإلا لتعطلت إقامة الحدود. هذا بالإضافة إلى أنه قد يعرض للشاهد ما يمتنع الشهادة حينها ثم يتمكن بعد ذلك من أدائها ( ).
ويرد على أدلة هذا الفريق. بأن قياس الحدود على حقوق الأفراد إنما هو قياس مع الفارق، وذلك لأن الدعوى إنما هي شرط في حقوق الأفراد، أما الحدود فليست الدعوى شرط لإقامتها فهي حقوق لله سبحانه وتعالى والشهادة فيها إنما تؤدي حسبة لله سبحانه وتعالى ومن أجل ذلك فلا عذر للشاهد في أن يؤخر الشهادة التي أديه، إما التأخير في أداء الشهادة على حقوق الأفراد فإن مرجعه –كما قلنا- هو توقف أداء الشهادة على تقديم الدعوى ممن يملكها من الأفراد، ولذا فإن سبب تأخير الشهادة هو تأخير تحريك الدعوى، ولو قيل: أن بعض الحدود يحتاج إلى دعوى كالقذف والسرقة، فإنه يرد عليهم بأن القذف باتفاق الفقهاء لا يجرى عليه حكم التقادم سواء عند من يذهبون إلى عدم تقادم الحدود مطلقا أو بالنسبة للفريق الآخر وهم الأحناف ورواية في المذهب الحنبلي وهي ليست المعتمدة في المذهب الحنبلي وهي رواية ابن حامد وذكرها ابن أبي موسى مذهبا لأحمد ( ) فالقذف يحتاج إلى دعوى من المقذوف وطلبه الحد ( ) ولذا فإن تأخير الشهادة كان لتأخير رفع الدعوى من المقذوف, ولأن القذف فيه بعض حق العباد وهو رفع العار عن المقذوف فمتى أقام الحج عليه وجب الحكم به لرفع الضرر عنه. وأما بالنسبة للسرقة.
فإن الشهادة عليها لا تقبل إقامة الدعوى من المسروق منه ومتى رفعها المسروق منه فالشهادة على السرقة إذا كانت متقادمة فإنها تقبل في حق المال فقط وليس في شأن القطع فإذا تقادمت الشهادة فلا يصح القطع بها لتقادمها وأما المال فهو حق العبد ولا يسقط بالتقادم فالدعوى في حد السرقة شرط للحكم بالمال ولكنها (الدعوى) شرط في الحد (القطع) ولهذا لو شهد شاهدان على السارق بحد السرقة بدون دعوى فإن شهادتهما تكون مقبولة ويحبس السارق حتى يجيء المسروق منه ولا يقطع لاحتمال أن يكون المال المسروق مال الجاني وهو لا يعرف ذاك ( ) أو غير ذلك بأن يكون المالك أباحه له أو أذن له في دخول حرزه أو دفعه على طائفة السارق منهم وهذا يكون شبهة يدرأ بها الحد دون المال، وتأخير الشهادة في هذه الحالة لتأخير الدعوى لا يجعل الشهود فاسقين لأن التأخير كان لتأخير الدعوى. هذا بالإضافة إلى أن الشاهد إذا دعي لأداء الشهادة في حقوق الأفراد فتخلف عن أدائها بدون عذر فإنه يكون فاسقا ولا تقبل شهادته، علاوة على أن الحدود تدرأ بالشبهات بعكس غيرها، ولذلك فإن إعطاء الشهادة حكم الإقرار إنما هو قياس مع الفارق ومن ثم فإنه لا يعول عليه ولا يعتد به لأن التهمة متمكنة في الشهادة التي تقادمت أما الإقرار فمنزه عن التهمة فالشخص لا يعادي نفسه في العادة. وأما القول: بأن صدق الشهود وكونهم عدول في شهادتهم إنما هو من الأمور الثابتة والتي لا يؤثر عليها افتراض الضغن أو التهمة لأنها افتراضات مجردة ومن ثم لا يصح بناء الأحكام عليها وإلا لتعطلت إقامة الحدود، فيرد على ذلك بأن الحدود يلزم لإقامتها عدم وجود أية تهمة والتهمة في الشهادة بعد زمن أنما هي أمر نفسي خفي وهذه الأمور النفسية الخفية لها اعتبارها في مجال الحدود، ويكفي لكي ندلل على هذه الأمور النفسية الخفية أن يضع لها أمورا ظاهرة ومحسوسة تكفي لكي تكون دليلا على هذا الأمور النفسية، ومن الأمور الظاهرة التي تدل على الأمور النفسية تحديد المدة التي تتقادم بها الحدود كي يكون مرور هذه المدة دليلا على الأمور النفسية الخفية ( ). ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي لم يبنوا حكمهم في رفض التقادم على البواعث النفسية وإنما بنوه على مظاهر واقعية مستمدة من وقائع الشهادة ووصف الشهود وحماية المجتمع وكان الأولى أن يبحثوا أيضا في الدوافع النفسية التي أدت بالشهود إلى السكوت ثم الإدلاء بالشهادة بعد زمن ( ). فالحكم يدار على كونه حقا لله سبحانه وتعالى فلا يعتد بالتهمة في كل فرد من أفراده لأن التهمة أمر خفي أو أمر باطن لا يوفق عليه. ولذلك فيكتفي بالصورة لأن الحد يسقط بصورة الشبهة كما يسقط بمعناه، فإن النكاح الفاسد يسقط بمعناه ودعواه تسقط بصورته ( ).
وأما قولهم: بأنه قد يكون تأخير الشهادة لمانع منعه من الأداء حينها ثم نمكن من الأداء بعد ذلك، فيرد على ذلك بأن العذر يترتب عليه قبول الشهادة حيث ننفي التهمة لهذا العذر وهذا لا يحول دون قبول الشهادة لعدم وجود الضغن والتهمة التي يترتب عليها رد الشهادة وعدم قبولها، وهذا ما يقول به أصحاب الرأي الآخر (الأحناف ورواية عن أحمد ( )) كما سيأتي. وأما عن الاستدلال بعموم الآية في قوله تعالى: (واللاتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ) بأن هذه الآية الكريمة وإن كانت لم تبين وقتا يجب فيه أداء الشهادة على حد الزنا الأمر الذي يترتب عليه قبول الشهادة في حينها وأيضا بعد ذلك بزمن، فإنها أيضا ليس فيها ما يمنع من أن يحدد وقت لأداء الشهادة بحيث إذا لم تؤد الشهادة في خلال هذه الفترة الزمنية وأديت بعدها ردت ولا يعول عليها ولا يحكم بناء عليها بالحد، لأن أداءها بعد مرور هذه الفترة دون أدائها في حينها إنما يبين أن الشهود قد آثروا الستر وهو مستحب فإجماع الفقهاء، فإذا رجعوا وتركوا الستر والسكون وأدوا الشهادة بعد حين فإن هذا يجعلهم متهمين وليسوا صادقين في شهادتهم وهذه التهمة تورث شبهة تدرأ الحد، وقد قال الرسول: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" وقال عمر بن الحطاب "إيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا على ضغن ولا شهادة لهم" فهذه الأحاديث يمكن القول بأنها قد خصصت عموم الآية وتطلبت أداء الشهادة في حينها وعدم التأخير. والتأخير يؤدي إلى التهمة في حق الشهود مما يترتب عليه رد شهادتهم، والقاعدة أن العام والخاص إذا تعارضا يحمل على التخصيص. ولذا فليس مما يتعارض مع الآية الكريمة أن يوقت لأداء الشهادة حسبة لله سبحانه وتعالى حتى تصان محارمه ويدفع الفساد عن المجتمع وهذا يتطلب أداء الشهادة على الفور وليس تأخيرها.
الرأي الثاني: وهو رأي الأحناف ورواية عند أحمد وهي رواية ابن حامد ذكرها ابن أبي ذكرها ابن أبي موسى وهي ليست معتمدة في المذهب الحنبلي ( )، ويذهب هذا الفريق من الفقهاء إلى القول: بأن الحدود تتقادم متى مضى عليها فترة زمنية معينة وكأن دليل إثباتها هو الشهادة، أما إذا كان دليل الإثبات فيها هو الإقرار فإنها لا تتقادم ومن ثم فمن يعترف بارتكابه لحد من الحدود فإنه يقام عليه الحد مهما طال الزمن بين ارتكابه للحد وبين اعترافه.
والحدود التي قام الأحناف بتقادمها هي: حدود السرقة والزنا والشرب، وذلك على التفصيل الآتي:
أولا: إذا كان دليل الإثبات هو الشهادة:
فقد ذهب الحنفية إلى القول: بأن الشهادة على حد الزنا وحد السرقة تتقادم بعد حين ومن ثم فلا تقبل الشهادة. بعد فترة الحين ولا يقام بناء عليها الحد، ولكن يكون هناك الضمان فقط أي رد المال المسروق إن كان بعينه أو بدله أو قيمته إن كان قد تلف أو استهلك وقد استدلوا على تقادم الشهادة في الحدود بقول الرسول (): "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" وبقول عمر بن الخطاب (): "إيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا على ضغن فلا شهادة لهم" بالإضافة إلى أن الشهادة مخير بين أمرين كلاهما حسبة الله سبحانه وتعالى، وهما الستر وهو أفضل لقول الرسول (): "من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة" وقول الرسول للذي شهد عنده وهو رجل يقال له هزال الأسلمي "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وما روى عن الرسول من تلقينه الدرء هو وأصحابه، ففيه دلالة ظاهرة على أفضلية الستر ( ) وقوله تعالى: (إنَّ الَذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقد ذهب ابن رشد إلى القول: بأن الستر يكون أفضل في حق من يندر منه ارتكاب حدود الله، أما من أشتهر عنه كثرة ارتكاب حدود الله فيجب أن يشهد عليه وأن يعلم الإمام بهذا ( )، والثاني: هو أداء الشهادة لإخلاء العالم من الفساد للانزجار بالحد، وقوله تعالى (وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وكلا الأمرين واجب مخير على الفور كحصول الكفارة ولأن كليهما لا يتصور طلبه على التراخي بل واجب على الفور. ول1لك فإن الشهادة بعد التقادم يترتب عليها الحكم على الشاهد بأحد أمرين: أما الفسق وأما التهمة والعدوان والضغن: لأن إذا اختار الستر ثم شهد بعد ذلك فإنه يكون متهما بأن تكون هناك عداوة هي التي حركته للإدلاء بالشهادة بعد أن آثر الستر والسكوت، وأن اختار من البداية أداء الشهادة وعدم الستر ثم أخر الشهادة فهو فاسق. وهذا بخلاف حقوق العباد لأن الدعوى شرط فيها فتأخير الشاهد كان لتأخير الدعوى ولذا فلا يعد فاسقا ولا تلحقه تهمة إذا أخر الشهادة ( ). ويذهب الأحناف إلى القول: بأن حد القذف لا يتقادم لوجود حق العبد فيه فهو يتوقف على الدعوى وبذا يأخذ حكم حقوق العباد والتي لا تخضع للتقادم، ولا يجوز أن يقاس على ذلك حد السرقة لأن الدعوى شرط فيها هي الأخرى ولذا تقبل فيها الشهادة المتقادمة ولكن الحقيقة أنه لا تقبل الشهادة متى تقادمت في حد السرقة: وذلك مرجعه إلى أن السرقة فيها أمران: الحد (القطع) والمال، فبالنسبة إلى إقامة الحد (القطع) لا تشترط فيه الدعوى لأنه خالص حق الله سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة للمال فيشترط فيه الدعوى من صاحب المال، ولما كانت الشهادة بالسرقة لا تخلص لأحدهما بل لا يمكن الفصل بين الأمرين (الحد والمال) فاشترطت الدعوى لأجل رد المال وليس لإقامة الحد (القطع) ولهذا يثبت المال بالشهادة بعد التقادم لأن التقادم لا يحول دون المطالبة به فهو من حقوق العباد، ولكن السارق لا يقطع لتقادم الشهادة وعدم قبولها، والذي يدل على تحقق الأمرين في الشهادة أنه إذا شهد الشهود بالسرقة على إنسان وصاحب المال غائب فإن السارق يحبس حتى يحضر صاحب المال ولا يقطع لاحتمال أن يكون قد سرق ملكه لأذى كان عند المسروق منه أو أن صاحب المال ملكه أياه أو أباحه له فلابد من تضمن الشهادة بالسرقة الشهادة بملك المسروق منه والشهادة بملك الشيء لإنسان بتوقف قبولها على حضور المشهود له بالملك ورفعه دعوى فإذا حدث تأخير فإن الشهادة لا تقبل بالنسبة للحد (القطع) وتقبل بالنسبة للمال فيرد لصاحبه بناء على الشهادة المتقادمة، هذا بالإضافة إلى أن بطلان الشهادة للتقادم لما كان للتهمة، حقوق الله سبحانه وتعالى فأقيم لتقادم في حقوق الله مقامها فلا ينظر بعد ذلك إلى وجود التهمة أو عدم وجودها، مثل الرخصة لما كانت للمشقة وهي غير منضبطة أدير على السفر: فلم يلاحظ بعد ذلك وجودها ولا عدمها، فترد بالتقادم وليس يخالف أن رد الشهادة بالتقادم إنما يرجع للتهمة ومحل هذه التهمة ظاهر يمكن إدراكه فليست هنا كحاجة لإناطته بمجرد كونه حقا لله سبحانه وتعالى، ولا يصح أن يشبه بالمشقة في السفر لأن المشقة أمر خفي غير منضبط فلا تمكن الإناطة به فنيط بما هو منضبط، فالعدول للحاجة للانضباط ولا حاجة فيما نحن بصدده. وقد يقال: أن التهمة تكون منتفية في حق الشهود في حد السرقة التي علم بها صاحب المال فأخر دعواه ولم يقدمها إلا بعد حين فأدى الشهود الشهادة فهم ليسوا متهمين في شهادتهم وبالرغم من ذلك فإن السارق يضمن المال ولكن لا يقام عليه الحد (القطع)؟ ويرد على ذلك بأن التهمة وإن كانت منتفية في حق الشهود في هذه الحالة فإن رد الشهادة بالنسبة لإقامة الحد (القطع) إنما يرد هنا إلى صاحب المال (المدعي) وقد قال قاضيان في هذه الحالة: أن الشهادة لا تقبل بعد التقادم ليس للتهمة في حق الشهود لأن الدعوى شرط في السرقة، بل يرجع عدم قبولها للتقادم للخلل الذي أصاب الدعوى فصاحب المال (المدعى) كان مخيرا من البداية بإقامة الدعوى أو الستر، فلما أخر رفع الدعوى فقد اتضح أنه أراد الستر فسقط حق دعوى السرقة (القطع) ولم يبق سوى دعوى حقه في المال فقط فيقضي له به كما لو شهد رجل وامرأتان على السرقة فإن يلزم بهذه الشهادة المال فقط ( ).
وما سبق هو محل اتفاق بين الأحناف الإمام وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في شأن حدي السرقة الزنا، أما حد الشرب فقد اختلف الأحناف بشأن قبول الشهادة المتقادمة بشأنه فقال الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف: أن الشهادة المتقادمة في حد الشرب لا تقبل لأن الشرب عندهما لا يثبت إلا بوجود رائحة الخمر، أما محمد فقد قال: بأن الشرب يسقط بتقادم الشهادة عليه شأنه شأن حدي السرقة والزنا تماما ( ) فالإمام وصاحبه أبو يوسف يتطلبان للشهادة على الشرب أن تكون الشهادة مع وجود الرائحة أما إذا زالت رائحة الخمر فلا تقبل الشهادة بالشرب فتقادم حد الشرب عندهما هو زوال الرائحة وأما محمد فقد وقت للشهادة بالشرب تقادما مثل تقادم الزنا والسرقة لأن هذا حد ظهر سبقه عند الإمام فلا يشترط لإقامته بقاء أثر الفعل، وهذا لأن وجود الرائحة لا يمكن أن تجعل دليلا فقد يتكلف لزوال الرائحة مع بقاء أثر الخمر في بطن الشارب، وقد توجد رائحة الخمر من غير خمر، فإن من استكثر من أكل التفاح أو السفرجل فإنه يوجد منه رائحة كرائحة الخمر. وقد احتج أبو حنيفة وأبو يوسف بحديث ابن مسعود أنه أتى بشارب الخمر فقال: "مزمزوه وترتروه واستنكهوه فإن وجدتم رائحة الخمر فحدوه" فقد شرط لإقامة الحد وجود الرائحة ( )، وما روى عن عمر بن الخطاب () أنه جيء برجل شرب الخمر بعد ما ذهبت رائحتها واعترف به فعزره ولم يحده، كما احتجا بأن حد الشرب قد ثبت بالإجماع ولا إجماع بدون ابن مسعود وقد ثبت الحد بإجماع الصحابة وكان إجماعهم برأي عمر وابن مسعود وقد شرطا الرائحة ولا إجماع عند عدم الرائحة، ويكون قول الرسول ()" "من شرب الخمر فاجلدوه" مخصصا بالمضطر والمكره فجاز تخصيصه أيضا بإجماعهم، ولأن قيام الأثر من أقوى دلائله على القرب فيقدر به بخلاف غيره من الحدود لعدم الأثر فيه فيتعذر اعتباره، والتمييز ممكن لمن يعرف وإنما يشتبه على الجهال، ولو أخذ وريحها موجودة ثم انقطعت الرائحة قبل الوصول إلى الإمام لبعد المسافة فإنه يجب الحد ( ).ويرد على رأي أبي حنيفة وأبي يوسف باستدلالهم بحديث ابن مسعود والذي رواه عبد الرازق قال: حدثنا سفيان الثوري عن يحي بن عبد الله التميمي عن جابر عن أبي ماجد الحنفي، قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه ففعلوا فرفعه إلى السجن ثم عاد في الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: أجلده وارجع يدك وأعط كل عضو حقه، ومن طريق عبد الرازق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن رهويه. فمحل النزاع الذي نحن بصدده هل الشهادة ترد ولا تقبل في إقامة حد الشرب عند وجود الرائحة أم لا يعتد بالشهادة ويعود على الرائحة فقط؟
حديث عبد الله بن مسعود يدل على أنه حد بظهور رائحة الخمر من المعدة التي كانت قد خفيت (الرائحة) وقد كان مذهب ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل وقال: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله ابن مسعود: والله لقد قرأتها على رسول الله ()، فقال: أحسنت، بينما هو يكلمه إذا وجد منه رائحة الخمر، فقال: أتشرب الخمر وتكذب الكتاب فضربه الحد، وأخرج الدار قطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه رائحة الخمر وفيه لفظ ريح شراب. وهذا يدل على أن شرب الخمر يحد له عند ابن مسعود حتى ظهرت الرائحة، وذلك عند عدم وجود شهادة أو إقرار، فمتى وجدت شهادة أوجد أقرار بالشرب فلا يشترط أن توجد رائحة للخمر ( ) وهذا ما يأخذ به بعض الفقهاء كالشافعية ( ) والحنابلة ( ) حيث لا يحد بالرائحة ولا بالسكر ولا بالقيء لاحتمال الغلط أو الإكراه والحد يدرأ بالشبهة. وعلى العكس من ذلك فبعض الفقهاء كالمالكية ( ) ورواية عن أحمد ( )، يقيمون حد الشرب لظهور الرائحة وقال البعض أن حديث ابن مسعود يقول أنه جار في رجل مولع بالشرب مدمن فأجاز ابن مسعود الحد بالرائحة لذلك، وبعض أهل العلم أنكر الحديث ( ) ونحن نرى أن حد شرب الخمر إنما يثبت بالشهادة أو الإقرار ولا يثبت بظهور رائحة الخمر لاحتمال الاضطرار أو الإكراه أو المضمضة أو بها فلما علم أنها خمرا لفظها، أو ظنها لا تسكر أو أنها كانت من شراب التفاح أو كثرة أكله أو أكل السفرجل فإن له رائحة كرائحة الخمر، وهذه الاحتمالات كلها تورث شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، كما أن حديث عمر بن الخطاب والذي ذكره أبو حنيفة وصاحبه إنما هو دليل على عكس ما أرادوا إثباته لأن عمر لم يحده رغم وجود الرائحة وإنما عزره ولو كان الحد يجب بالرائحة لما قصر عمر في تطبيقه. ولهذا يترجح عندنا أن حد الشرب كغيره من الحدود كالسرقة والزنا بتقادم الشهادة بعد حين كما هو مذهب محمد بن الحسن.

ثانيا: إذا كان دليل الإثبات هو الإقرار:

إذا كان دليل الإثبات على حد الزنا وحد السرقة هو الإقرار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن يذهبون إلى قبول الإقرار مهما تطاول الزمان، وذلك لأن المقر على نفسه لا تلحقه تهمة لأن الإنسان لا يتهم نفسه لاسيما وأنه سوف يخضع لعقاب شديد وهو العقاب الذي يلحقه من جراء اعترافه بحد السرقة أو حد زنا، فالشخص يتهم في شهادته على غيره ولا يتهم في إقراره على نفسه ( )، وبالنسبة لحد الشرب فقد اشترط أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف أن يكون الإقرار مصاحبا بوجود رائحة الخمر فإذا كانت الرائحة قد زالت فإنه لا يعتد بالإقرار ولا يقام بناء عليه حد الشرب على المقر، لأن تقادم الحد عندهما هو بزوال الرائحة، وقال محمد بن الحسن: أن الإقرار يقبل مهما تطاول الزمان فالرائحة ليست بشرط لإقامة الحد، وقد ذكر في نوادر ابن سماعة عن محمد بن الحسن أنه قال: أنا أقيم الحد بالإقرار وأن جاء بعد أربعين عاما وأقر أنه كان قد شرب النبيذ وسكر ( ) وأدلة أبي حنيفة وأبي يوسف هي نفس الأدلة التي سبق وأن سقناها في شأن الشهادة، ويرد عليه بما سبق أن سقناه من رد في شان الشهادة، ولذا فنحن نرجح رأي محمد بن الحسن في شأن عدم الاعتداد بالرائحة وأن الإقرار بالشرب يقبل مهما طال الزمان ويقام به الحد على المقر لانتفاء التهمة التي تؤدي إلى عدم قبول الشهادة المتقادمة. 
ويذهب ابن أبي ليلى وزفر من الحنفية إلى القول: بأن الإقرار بالحد بعد فترة يتقادم أي أنه لا يقبل كما لا تقبل الشهادة المتقادمة على الحد ( ) فإن الشهود كما ندبوا إلى الستر بالمرتكب للفاحشة أيضا مندوب إلى الستر على نفسه، وقد قال رسول الله (): "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ( )" وأيضا لأن هذه العقوبات للزجر والردع وترويع المجرمين. وهذا لا يتحقق إلا فور وقوعها وتأخيرها يؤدي إلى عدم تحقق الردع، ولأن المجرم يظن أنه قد تاب، وإقراره على نفسه لكي يظهرها مظنة توبته ومظنة التوبة تجعل العقاب قد صادف نفسا ظهرت من الذنوب وتابت إلى الله توبة نصوحة ( ) ويرد على ذلك: أن الحديث قد جاء بآخره "ومن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد" وإن المقر قد أبدى صفحته بإقراره وإن كان تقادم العهد، ولذا فإن التهمة منتفية في حقه ولذا يقام عليه الحد لأن الإنسان لا يعادي نفسه، وإن الذي حمله على الإقرار هو الندم وإيثار عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة، فصلاح الحال وتوبة الجاني لا تسقط الحد مهما تقادم الزمان ( ) ولشهادة الرسول () أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى ( ). لذا كان الأول هو قبول الإقرار وإقامة الحد وليس كما قال ابن أبي ليلى وزفر رد الإقرار وعدم قبوله للتقادم. هذا بالإضافة إلى أن الزجر يتحقق بإقامة الحد بالإقرار بعد الحين كما يتحقق بإقامته فور ارتكاب الحد، ومرجع ذلك أن أساس القول بالتقادم في الحدود هو التهمة التي تلحق الشهود إذا تأخروا في أداء شهادتهم بعد أن كانوا قد آثروا للستر على الجاني، وهذا التهمة غير متوفرة في حق المقر، ولذا فإن الردع والزجر متحقق في حالة إقامة الحد بالإقرار بعد طول زمان، وإقامة الحد بالإقرار به بعد طول الزمان (التقادم) مذهب لأئمة الثلاثة أيضا بالإضافة إلى الإمام أبي حنيفة وصاحبه أبو يوسف ومحمد ( ).
وعلى ذلك نخلص إلى أن الشهادة المتقادمة على الحدود لا تقبل ولا يقام بها الحد وإنما تصح فقط في تضمين المال فقط (في حد السرقة) سواء في ذلك حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب خلافا للإمام أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف حيث اعتبرا تقادم حد الشرب هو بزوال الرائحة على عكس محمد بن الحسن الذي جعل تقادم حد الشرب بالشهادة مثله مثل حد السرقة والزنا وقد رجحنا ذلك، كما أن الإقرار بارتكاب حد السرقة والزنا والشرب يقبل أيضا مهما طال الزمن وذلك لعدم التهمة التي هي أساس رفض الشهادة لأن الإنسان لا يعادي نفسه، وهذا عند محمد بن الحسن وهو ما رجحناه أما عند الإمام وصاحبه فالشرب يلزم لإثباته بالإقرار أن توجد الرائحة معه وقد رددنا عليه في حينه.
المبحث الثاني
مدة تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود.
لقد أختلف فقهاء الحنفية والقائلون بتقادم الشهادة على الحدود في المدة التي تقادم بها الشهادة على دعاوي الحدود التي قالوا فيها بالتقادم وهي حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب على النحو التالي:
1- مدة تقادم الشهادة على حدي السرقة والزنا:
لقد وجد في مذهب الأحناف عدة آراء في شأن المدة وهي كما يلي:
(أ) عند الإمام أبي حنفية، لم يحدد الإمام المدة التي يترتب على فواتها عدم سماع الشهادة على حد الزنا والسرقة وتركه لسلسلة القاضي في كل عصر وذلك لاختلاف أحوال الناس في كل عصر واختلاف الأعراف من مكان لمكان ومن زمان لآخر. وقد قال أبو يوسف تلميذ وصاحب الإمام أبي حنيفة في هذا الشأن جهدنا بأبي حنيفة أن يقدر لنا فلم يفعل وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر فيما يراه بعد مجانية الهوى تفريطا فاقه يتقادم، وما لا يعد تفريطا فلا يتقادم وأحوال الشهود والناس والعرف تختلف في ذلك وأيضا في البعد عن القاضي والقرب منه وباختلاف عادة القاضي في الجلوس. فإنما يوقف عليه بنظر، نظر في كل واقعة فيها تأخير، فتحديد ميعاد بالرأي متعذر، وإنما يكون التحديد بالنص فلما لم يوجد نص فإنه يكون موكلا للقاضي ( ).
(ب) وعن أبي حنيفة أيضا أنه قدر مدة التقادم بسنة، فقد روى عنه أنه قال: لو شهد الشهود بالزنا بعد سنة لم أقبل شهادتهم، وهذا يدل على أن الشهادة لو كانت بعد سنة فأقل فإنها تكون مقبولة ويقام الحد بناءا عليها ( ) وهي رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ( ).
(ج) رأي محمد بن الحسن في إحدى الروايتين عنه أنه قدر مدة التقادم بستة أشهر وهذا ما جاء في الجامع الصغير، وما أشار إليه الطحاوي ( )،وتحديد الستة أشهر مبني على أنها فترة الدين عند عدم وجود النية في الحلف بأداء الدين فلو حلف المدين أن يؤدي الدين بعد حين، ففترة الحين هذه تكون ستة أشهر عند عدم النية. وقد ذهب البعض على القول: بأن كلمة الحين كلمة مبهمة والذي يحددها هو غرض الحالف فإن كان غرضه واضحا فإن الفترة تكون ستة أشهر، أما إذا كان غرضه غير واضح فإن الفترة تكون شهرا ( ).
(د) رأي محمد بن الحسن في الرواية الصحيحة عنده ورواية عن أبي حنيفة ورواية عن أبي يوسف، أن مدة التقادم شهرا فقط على أساس تفسيرهم لكلمة الحين، بأنها شهر، وذلك لأن الحالف لو حلف أن يؤدي الدين عاجلا فإن أداه في خلال الشهر فقد بر بيمينه ففترة الشهر هي الفرق هي بين العاجل والآجل، لأن ما دون الشهر عاجل وما فوقه آجل ( ) وقد روى عن أبي حنيفة أنه قال: لو سأل القاضي الشهود متى زنى فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: منذ أكثر من شهر درئ الحد ( ).
2- مدة تقادم الشهادة في حد الشرب:
أن مدة تقادم الشهادة في حد الشرب عند الإمام أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف هي بزوال الرائحة وأما عند الإمام محمد بن الحسن فإن مدة تقادم الشهادة في حد الشرب هي نفس المدة المقررة لتقادم الشهادة في حد السرقة وحد الزنا وهي مدة الشهر ( ). وتقدير مدة التقادم في حد الشرب بزوال الرائحة هو المعتمد في المذهب ولكن أي محمد هو الراجح فقد جاء في البحر: والحاصل أن المذهب قولهما، إلا أن قول محمد أرجح من جهة المعنى ( ).
ويتحقق التقادم في الشرب بزوال الرائحة إذا كان الدليل هو الشهادة أو الإقرار، فالشهادة أو الإقرار بالشرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا تقبل في حد الشرب ما لم يكن معها رائحة الخمر، ولذا فلو أقر بالشرب بعد زوال الرائحة لا يقبل إقراره ولا يحد بناءا عليه، أما عند محمد فإن الإقرار بالشرب يقبل حتى ولو لم توجد الرائحة، وذلك لأن التقادم في الشرب بالإقرار مثله مثل حد الزنا والسرقة وذلك لأن قبول الإقرار في السرقة والزنا هو عدم التهمة والضغن التي هي أساس رفض قبول الشهادة بعد حين (التقادم)، ولذا فعند محمد ما يسري على الزنا والسرقة يسري على الشرب أيضا. لأن وجود الرائحة لا يمكن أن تكون دليلا، فقد يتكلف لزوال الرائحة مع بقاء أثر الخمر في بطن الشارب، وقد توجد الرائحة من غير الخمر فإن من استكثر من أكل التفاح أو السفرجل فإنه يوجد منه رائحة كرائحة الخمر، وقد قال القائل: يقولون لي إنك شربت قدامه.. فقلت لهم لا بل أكلت السفرجل فرائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على أهل المعرفة فلا موجب لاستلزام قبول الشهادة أن توجد الرائحة معها لأن المعقول استلزم قبول الشهادة متى كانت خالية من التهمة والضغن، والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب زوال رائحة الخمر، بل التهمة تلحق الشهادة إذا تأخر الأداء لأن تأخير أدائها يعد تفريطا يورث التهمة، وهذا غير متوافر في تقدير يوم أو أكثر يترتب عليه زوال الرائحة ( ) وقد استدل أبو حنيفة وأبو يوسف بما روى عن ابن مسعود انه حد في الشرب بوجود الرائحة فقد قال عندما أتى له بشارب خمر "مزمزوه وترتروه واستنكهوه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه". وإن حد الشرب ثبت بالإجماع وليس بالنص ولا إجماع بدون ابن مسعود وقد كان الإجماع على الحد بالرائحة، ولذا فليس هناك إجماع على الحد عند زوال الرائحة، كما أن وجود الرائحة أقوى في الدلالة على الشرب وأن تمييز الخمر عن غيره ممكن لمن يعرفه ولكنه يشتبه على الجهال، ولما روى عن عمر بن الخطاب أنه أتى برجل شرب الخمر بعد ما ذهبت رائحتها واعترف به فعزره ولم يحده. وقد سبق أن رددنا حجج أبي حنيفة وأبي يوسف عند الحد عن تقادم الشهادة في المبحث الأول، ونوجز مجملها فإن شرب الخمر يحد له عند ابن مسعود بظهور الرائحة في حالة عدم وجود شهادة ولا إقرار فمتى وجدت الشهادة أو كان الإقرار فلا يشترط وجود رائحة الخمر أو عدم وجودها، وهذا ما يأخذ به الشافعية ( ) والحنابلة ( ) فهم لا يحكمون بالحد لظهور الرائحة أو السكر أو القيء لاحتمال الغلط أو الإكراه والحد بدرأ بالشبهة. أما المالكية ( ) ورأى عند أحمد ( ) فإنهم يقيمون حد الشرب بالرائحة.
وقد قال بعض العلماء: أن حديث ابن مسعود مؤول في أنه جاء في رجل مولع بالشرب مدمن. له فأجاز ابن مسعود الحد بالرائحة لهذا السبب، كما أن بعض أهل العلم أنكر الحديث ( ).
وعلى ذلك فإننا نخلص إلى تأييد رأي محمد بن الحسن وهو أن شرب الخمر يتقادم بنفس مدة الشهر التي هي مقررة لحد السرقة وحد الزنا، ولا يصح اعتبار تقادمه هو زوال الرائحة، وذلك لاحتمال الاضطرار أو الإكراه أو أنه تمضمض بها فما صارت في فمه علم أنها خمر فلفظها أو أنه ظنها مادة لا تسكر، أو أن الرائحة كانت من شراب التفاح أو الإكثار من أكله للتفاح أو أكله للسفرجل فلهما رائحة كرائحة الخمر، وهذه الاحتمالات كلها تورث شبهة والحد يدرأ بالشبهة لقول رسول الله (): "ادرأوا الحدود بالشبهات" أما حديث عمر فإنه دليل على عدم إقامة الحد بالرائحة فالثابت من الحديث أن عمر عزر الرجل، ولو كان الحد يجب بالرائحة لإقامة عمر ولم يعطله.
بعد العرض السابق لمدد التقادم للشهادة في جرائم الحدود والتي أوضحنا فيها الخلاف بين فقهاء المذهب الحنفي في شأن حدود الزنا والسرقة والشر، فإنه يترجح لدينا عدم تحديد مدة التقادم وترك هذه المدة لولى الأمر يقدرها حسب ظروف الزمان والمكان والأحوال حسبما تتضح له مصلحة المجتمع الإسلامي والفائدة التي تعود عليه من جراء هذا التحديد، على إلا يحدد مدد طويلة وذلك لأنه كما كانت المدة أقصر كلما كان ذلك أبلغ في الزجر والردع وقطع دابر الرذيلة وتطهير المجتمع من الفاسد، هذا من جانب، ومن جانب آخر حتى لا يبقى المتهم تحت تهديد مستمر لفترة طويلة خوفا من إقدام الشهود على الشهادة عليه. وقد يقول قائل: إذا ما أراد الجاني النجاة من هذا التهديد وذلك الخوف فإن عليه أن يقر بذنبه، ولكن يرد على ذلك بأنه لا يجب أن تلزمه بضرورة الإقرار على نفسه، وذلك لأن المتهم هو الآخر مثله الشهود مخير بين حسبتين، فكما أن الشهود مخبرون بين الأداء بالشهادة أو الستر والستر أفضل، فإن الجاني مخير بين حسبة الإقرار على نفسه لتطيرها بإقامة العقوبة عليه، وحسبه الستر على نفسه والستر أفضل، بدليل قول الرسول (): "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ومن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد".

المبحث الثالثوقف تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الحدود

لقد اتفق فقهاء مذهب الأحناف على أن التقادم يوقف للعذر متى كان الدليل هو الشهادة على الحدود التي قالوا بأن الشهادة عليها تتقادم بمرور الزمن وهي حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب، وذلك بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، مع ملاحظة الخلاف بين الإمام وأبي يوسف من جانب ومحمد من جانب آخر في شأن حد الشرب فهو كما سبق أن أوضحنا بتقادم الشرب عندهما بزوال الرائحة، أما عند محمد فهو بالمدة التي يتقادم بها حد الزنا وحد السرقة وهو الشهر في الرواية الصحيحة عنده، ومن الأعذار التي ذكرت باعتبارها توقف مدة التقادم ومعنى أنها توقفها أن المدة السابقة على وجود العذر تحسب والمدة اللاحقة على انتهاء العذر تحسب ضمن المدة المقررة للتقادم ( ). وأهم الأعذار التي ذكرت في هذا الصدد المرض، أو بعد المسافة، أو الخوف أو خوف الطريق، وقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف في شأن شرب الخمر: لو أخذ الشهود الشارب وريحها موجودة في فمه ثم زالت الرائحة قبل وصولهم إلى الإمام لبعد المسافة فإنه يجب الحد على الشارب ( ) ومرجع ذلك هو أن بعد المسافة وغيرها من الأعذار ينفي وجود التهمة في حق الشهود والتي هي أساس رد الشهادة التي تقادم عليها الزمن المحدد لردها وعدم قبولها بعد مروره. وعلى ذلك فإن العذر يترتب عليه وقف مدة التقادم، وذلك لحديث المغيرة بن شعبه ()، فإنه كان وليا بالبصرة حين أتى الشهود إلى المدينة فشهدوا عليه بالزنا فكتب إليه عمر بن الخطاب ()، أن سلم عملك إلى أبي موسى الأشعري والحق بي، ثم لما حضر قبل الشهادة عليه، حتى قال بعد شهادة الواحد أوه لقد أودي ربع المغيرة. ولذا فإن تقادم الشهادة إذا كان لعذر ظاهر فإنه لا يقدح في الشهادة ( )،وأيضا لقصة الوليد بن عقبة أخ سيدنا عثمان بن عفان لأمه، عندما كان وليا على الكوفة، فقد روى حصين بن المنذر الرقاشي ، قال شهدت عثمان أتى بالوليد بن عقبة من الكوفة فشهد عليه حمران ورجل آخر كانوا قد جاءوا من الكوفة إلى المدينة للخليفة عثمان، فاستقدم الخليفة الوليد من الكوفة إلى المدينة، فشهد أحد الشهود أنه رأى الوليد يشرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها، فقبل عثمان شهادتهما، وقال: أنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي بن أبي طالب: أقم عليه الحد، فأمر علي بن أبي طالب عبد الله بن جعفر فضربه الحد ( )، فهذه أمثلة على أنه قد مرت فترة طويلة بين ارتكاب الحد وأداء الشهادة ولكن بالرغم من ذلك قبلت الشهادة لأن تأخيرها كان لعذر وهو بعد المسافة بين الشهود وبين القاضي أو الحاكم وأن هذا البعد إنما هو عذر يوقف مدة التقادم ويؤدي إلى نفي التهمة في حق الشهود.
ولذلك نخلص إلى أن التقادم يوقف متى توافر عذر يبرره كمرض أو بعد المسافة أو خوف من صاحب جاه أو سلطان أو غير ذلك من الموانع الحسية والمعنوية، وأن تقدير مدى جدية العذر الذي يبرره وقف مدة التقادم منوط بمحض السلطة التقديرية للقاضي ( ) من حيث اقتناعه به ومن ثم ترتيب الأثر عليه وهو إيقاف مدة التقادم أو عدم الاقتناع به ومن ثم عدم الاعتداد بوجوده فإن كانت مدة التقادم قد انتهت فإنه يكون من حقه رفض قبول شهادة للتقادم وعدم التعويل عليها في إثبات الدعوى المطروحة أمامه.
المبحث الرابع
تقادم الدعوى الجنائية في جرائم التعازير
التعزير لغة: مصدر عزر، ويقصد به الردع والمنع، كما يقصد به التقوية والنصرة ( )، ومن ذلك قوله تعالى: (وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ) ويقصد به أيضا التأديب. وقد عرفه الفقهاء بأنه عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله سبحانه وتعالى أو حقا للعبد في كل معصية لأحد فيها ولا كفارة ( ). والتعزير قد يكون حقا لله أو حقا للعبد أو حقا مشتركا بين الله والعبد وحق العبد غالب أو حق الله غالب. ومن أمثلة التعزير حقا لله، الأكل في نهار رمضان بدون عذر، وتأخير الصلاة وإلقاء النجاسة ونحوها في طريق الناس ( )، وأيضا حالة سقوط الحد بالشبهة، كالسرقة من بيت المال، لما روى أن عاملا لعمر بن الخطاب () كتب إليه يسأله عمن سرق من بيت المال، فقال عمر: لا تقطعه عما من أحد إلا وله فيه حق، وما روى عن الشعبي أن رجلا سرق من بيت المال، فبلغ عليا كرم الله وجه، قال: أن له فيه سهما ولم يقطعه ( ). فهذه شبهة أسقطت الحد لقوله رسول الله (): "ادروأوا الحدود بالشبهات"، ومنها أيضا حالة عدم تكامل أركان الحد كالسرقة من غير حرز أو سرقة ما دون النصاب، أو الشروع في السرقة، لما روى عن ابن عباس، أنه لما خرج من البصرة استخلف أبا الأسود الديلي، فأتى بلص نقب حرزا على قوم، فوجدوه في النقب، فقال، مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى عنه ( ). ويعد من التعازير الواجبة حقا لله تعالى كافة الجرائم الاعتداء على العرض كالفعل الفاضح وإفساد الأخلاق وإتيان المرأة المرأة وإتيان البهيمة والاستمناء ( ) والتلميح بالقذف أو قذف مجهول أو القذف المعلق على شرط، كأن يقول القاذف: أن دخلت هذا المنزل فأنت زان، فدخله المقذوف، فهنا لا يلزم إقامة الحد على القاذف، ولكن يجب تعزيره، لأن فعله هذا معصية، وأيضا يدخل في هذا النوع جرائم خيانة الأمانة والنصب وشهادة الزور والبلاغ الكاذب، وجرائم التجسس، والرشوة، وأكل الربا وجرائم التموين، وجرائم التزوير والتزييف وانتهاك حرمة ملك المغير ( ). وأيضا يعد من الجرائم التعزيرية الواجبة حقا لله تعالى حالة العفو عن القصاص في جرائم القتل، ففي حالة العفو عن القاتل فإن لولي الأمر أن يعزر القاتل، ولذلك ذهب الإمام مالك والليث إلى القول: بأن الإمام يجلد القاتل مائة جلدة ويغربه عام، وهو قول أهل المدينة، وروى عن عمر بن الخطاب، أما الشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور فقد ذهبوا إلى القول بعدم وجوب شيء على القاتل بعد العفو عنه من قبل أولياء الدم، إلا أن أبا ثور قال: فإن الجاني أن كان معروفا بالشر فإن للإمام حق تأديبه ( )، ونحن نرى أن رأي الإمام مالك ومن معه هو الأولى بالترجيح، وذلك لأن القصاص وأن كان حقا للعبد، إلا أن لله فيه حقا، ولكن غلب حق العبد، ولذلك فإن علو العبد عن القصاص لا يسقط حق الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن لولي الأمر أن يعزر الجاني بالرغم من عفو أولياء المقتول.
ومن أمثلة التعزير التي تجب حقا للعبد، حالة ما إذا شتم الصبي رجلا فالصبي غير مكلف بحقوق الله تعالى، فيبقى حق تعزيره للمشتوم ( ).
ومن أمثلة التعزير المشترك بين الله والعبد وحق العبد هو الغالب، والإيذاء والجراح التي لا يمكن القصاص فيها.
ومن أمثلة التعزير المشترك بين الله والعبد وحق الله غالب، تقبيل زوجة الأجنبي أو الخلوة بها.
بعد بيان أنواع التعازير يثور التساؤل عن مدى جواز سقوط الجرائم التعزيرية بالتقادم؟
وفي شأن الإجابة على هذا التساؤل نجد خلافا في الفقه، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول: بأن الجرائم التعزيرية لا تسقط بالتقادم، سواء في ذلك أكانت تلك الجرائم من قبيل الجرائم التي تعد اعتداءا على حق الله سبحانه وتعالى أم كان من قبيل الجرائم التي تعد اعتداءا على حق للإفراد ( ).
ويؤخذ على هذا الرأي، عدم وجود دليل يستند إليه فيما ذهب له، الإضافة أن هذا الرأي يتعارض مع ما ذهب إليه جمهور فقهاء المسلمين بالنسبة للعفو عن الجرائم التعزيرية وعن عقوباتها الواجبة حقا لله تعالى، وذلك استنادا لقول رسول الله (): "تعافوا عن عقوبة ذوي الهيئات" وقوله: "واقبلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" وقوله: "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ولما روى: أن رجلا جاء إلى رسول الله () وقال له: إني لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها، فأعرض عنه رسول الله () ثم أقيمت الصلاة، فصلى مع الرسول، وبعد أن انتهت الصلاة قال الرجل: يا رسول الله، لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها، فقال الرسول: أصليت معنا؟ قال الرجل: نعم، فقال () قوله تعالى (وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقال الرجل: إلي هذه؟ فقال رسول الله (): بل لمن عمل بها من أمتي ( ).
ولهذا فالحنابلة قد أجازوا للإمام أن يعفو عن الجرائم التعزيرية وعقوباتها حتى رأي المصلحة في العفو (سواء أكان التعزير حقا لله أو حقا للعبد) ( )، في حين ذهب الشافعية إلى إجازة العفو عن الجرائم التعزيرية في حق الله، للإمام، أما الجرائم التعزيرية لحق العبد فليس للإمام حق العفو عنها، وفي رواية أخرى عندهم أجازة العفو عن جرائم التعازير للإمام سواء أكانت حقا لله أو حقا للعبد ( ). في حين ذهب الحنفية إلى القول: بأن التعازير الواجبة حقا لله منوطة بالإمام ولا يجوز له تركها (العفو عنها) إلا إذا علم أن الجاني قد أنزجر قبل تنفيذ العقوبة التعزيرية فيه أما التعازير الواجبة حقا للإفراد فأمر العفو عنها موكول للأفراد أنفسهم ( ). وعند المالكية فالتعازير الواجبة حقا لله لا يجوز إسقاطها ولكن إذا جاء الجاني تائبا سقط الحق في إقامة العقوبة التعزيرية، أما التعازير الواجبة حقا للأفراد فإنها متروكة لهم فلهم حق العفو أو طلب توقيع العقاب ( ). فمما سبق يتضح أن جمهور الفقهاء تجيز لولي الأمر العفو عن التعازير الواجبة حقا لله، متى رأى المصلحة في العفو. أو جاء الجاني تائبا أو علم ولي الأمر انزحاره قبل إقامة العقوبة عليه أما حقوق الأفراد المالكية والحنفية متروكة لهم إن شاءوا عفوا وإن شاءوا طلبوا إقامة العقوبة على الجاني، وعند الشافعية فحقوق الأفراد في رأي متروكة للإمام حق العفو عنها أو تطبق العقاب على الجاني، وفي رأي آخر أنه متروك للأفراد أنفسهم وهو الرأي الصحيح والموافق لمقصد الشريعة ( )، أما الحنابلة فإن التعازير لحقوق الأفراد عندهم متروكة للإمام شأنها شأن التعازير لحقوق الله تعالى، وهذا هو ظاهر كلامهم لأنهم لم يفرقوا بين التعازير الواجبة حقا لله أو للأفراد ( ) ولهذا فإننا نرى أن التعازير الواجبة حقا لله تعالى يكون من حق ولي الأمر العفو عنها إذا رأي المصلحة في ذلك، أما التعازير الواجبة حقا للأفراد فمتروكة للأفراد.
وترتيبا على منح ولي الأمر حق العفو عن جرائم التعازير الواجبة حقا لله تعالى فإنه يكون له أيضا سلطة إسقاط الجريمة التعزيرية بالتقادم من باب أولى وذلك متى رأى المصلحة العامة للمجتمع في ذلك، هذا بالإضافة إلى أن مضي فترة زمنية على ارتكاب الجريمة يترتب من جرائه نسيان المجتمع لما أحدثته الجريمة من انتهاك واعتداء على حقوق الله ومحارمه، أو قد يؤذي مرور فترة زمنية إلى حمل أفراد المجتمع على تناسي ما كانت من شأن تلك الجريمة، الأمر الذي يستتبع بالضرورة عدم نبش الماضي وطي الصحائف على تلك الجريمة وعدم تجديد ذكراها. ولهذا ننتهي إلى أن من حق ولي الأمر أن يحدد فترة زمنية بحيث إذا ما انقضت تلك الفترة دون تحريك للدعوى عن الجريمة التعزيرية المرتكبة في حق من حقوق الله سبحانه وتعالى (حق المجتمع) فإنها تصبح والعدم سواء، ولذا فلا تكون مقبولة أمام القضاء بعد تلك الفترة، وذلك شريطة أن يكون تقدير ولي الأمر لهذه الفترة الزمنية مبنيا على المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي، تلك المصلحة التي يعتد بها الشارع الإسلامي والتي يعدها مصدرا من مصادر التشريع ( ) وإلا تكون هذه الفترة طويلة للأسباب التي بيناها بشأن تحديد مدة تقادم دعوى جرائم الحدود.

الفصل الثانيتقادم الدعوى الجنائية في القانون الوضعي

وسوف نقسم هذا الفصل بدوره إلى أربعة مباحث على النحو التالي: 
المبحث الأول: ماهية تقادم الدعوى الجنائية وأساسه وتكييفه القانوني. 
المبحث الثاني: مدد تقادم الدعوى الجنائية.
المبحث الثالث: وقف تقادم الدعوى الجنائية وانقطاعه.
المبحث الرابع: الآثار المترتبة على تقادم الدعوى الجنائية.
المبحث الأول
ماهية تقادم الدعوى الحنائية وأساسه وتكييفه القانوني
وسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في الأول بين ماهية تقادم الدعوى الجنائية وأساسه، وفي الثاني نتحدث عن التكييف القانوني لتقادم الدعوى الجنائية.
المطلب الأول
ماهية تقادم الدعوى الجنائية وأساسه
ماهية تقادم الدعوى الجنائية: 
أن تقادم الدعوى الجنائية هو انقضاؤها بمرور مدة من الزمن محدودة قانونا دون أن يتخذ في شأنها أي أجراء من الإجراءات التي حددها المشرع محسوبة من تاريخ اقتراف الفعل الإجرامي ( ).
تمييز تقادم الدعوى عن تقادم العقوبة: 
يختلف نظام تقادم الدعوى الجنائية عن نظام تقادم العقوبة الجنائية من عدة زوايا نجملها فيما يلي:
1- أن نطاق تقادم العقوبة هو المدة اللاحقة والتي تمر دون تنفيذ للحكم البات الذي صدر لعقوبة، فمرور فترة زمنية بعد صدور الحكم البات دون تنفيذ العقوبة في المحكوم عليه، يؤدي إلى سقوط العقوبة بالتقادم، وذلك لأن صدور الحكم البات يترتب عليه نشوء التزام بتنفيذ العقوبة التي صدر بها الحكم، ولذا فإن تأثير تقادم العقوبة يعزى على هذا الالتزام، في حين أن نطاق تقادم الدعوى الجنائية هو المدة السابقة والتي تمر دون صدور حكم بات فيها، فتقادم الدعوى يعني أنها مازالت قائمة، حتى يرد عليها التأثير الذي يؤذي على انتهائها بالتقادم ( ).
2- أن مدة اللازمة للسقوط بالتقادم تختلف من الدعوى إلى العقوبة فمدد سقوط الدعوى في الجنايات عشر سنين من يوم وقوع الجريمة وفي الجنح ثلاث سنين، وفي المخلفات سنة ما لم ينص القانون على غير ذلك (م15 إجراءات)، في حين أن مدد سقوط العقوبة أطول فهي في الجنايات عشرين سنة وإذا كان الحكم صادرا بالإعدام فإن مد التقادم، ثلاثين سنة، وتقادم عقوبة الجنح هو خمس سنوات والمخالفة سنتين (م528 إجراءات)، ويعلل طول مدة تقادم العقوبة عن مدة تقادم الدعوى، بأن الحكم البات إنما هو عنوان الحقيقة، فهو بمثابة تأكيد لنسبة الجريمة إلى الجاني وتقرير مسئولية عنها، وعلى العكس من ذلك فإن عدم صدور حكم بات في الدعوى إنما يعني عدم التأكيد من نسبة الجريمة للمتهم، أي أن في نسبتها له ومسئوليته عنها شك، وهذا الشك لا يزول إلا بصدور الحكم البات.
3- إن تقادم العقوبة، قرر المشروع بشأنه نظام إيقاف سريان المدة كلما وجد مانع يحول دون مباشرة التنفيذ، سواء في ذلك أكان المانع قانونيا أو ماديا (م 532 إجراءات) في حين منع المشرع إيقاف سريان مدة تقادم الدعوى الجنائية لأي سبب كان (م 16 إجراءات).
أساس تقادم الدعوى الجنائية:
لقد وجدت عدة أسس يقوم عليها نظام تقادم الدعوى الجنائية نجملها فيما يلي:
1- ضياع معالم الجريمة وأدلة إثباتها. فمرور فترة من الزمن على ارتكاب الجريمة يؤدي إلى ضياع معالم الجريمة، وبالتالي صعوبة إثباتها، نظرا لموت بعض الشهود، أو اختلاط ذاكرتهم، وهذا يؤدي بدوره إلى حدوث أخطاء قضائية، ومن ثم فإنه يكون من المصلحة وتحقيقا للعدالة عدم مباشرة الدعوى الجنائية ( ). وقد أخذ على هذا التعليل للتقادم أنه لا يتوافر بالنسبة لكافة الجرائم بل أن عددا كبيرا منها لا يتحقق بشأنه هذا السبب، حيث يمكن أن تجمع أدلة إثباتها بطريقة سهلة وميسرة، ولكن بالرغم من ذلك فإنها تسقط بالتقادم ( ).
2- إهمال النيابة العامة في اتحاد إجراءات الدعوى حيال الجاني والذي يعد فرنية على تنازلها عن تحريك الدعوى، ولكن يرد على ذلك أن الدعوى الجنائية إنما هي ملك للمجتمع وما النيابة العامة إلا ممثلا له في السير في إجراءاتها حتى يصدر الحكم البات في مواجهة الجاني، ومن ثم فإن تقاعس النيابة العامة عن القيام بالواجب المنفي على عاتقها بشأن الدعوى الجنائية، لا يكون مسوغا لإسقاط حتى المجتمع في عقاب الجاني، فهو حق ليس ملكا للنيابة حتى يترتب على عدم مباشرتها إياه خلال فترة محددة، سقوطه ( ).
بالإضافة لذلك ومما يؤكد أن التقادم ليس جزاء تقاعس النيابة العامة عن مباشرة إجراءات الدعوى، أن المشرع قد جعل بداية مدة التقادم هو يوم وقوع الجريمة وليس يوم علم السلطات العامة بها ( )، علاوة على عدم اعتراف المشرع بإيقاف مدة التقادم لأي سبب كان، ولو كان التقادم نوعا من الجراء على التراخي في مباشرة النيابة العامة لإجراءات الدعوى لتطلب ذلك من المشرع أن يقر إيقاف مدة التقادم ( ) كما أن الدعوى الجنائية تتقادم سواء علمت بها النيابة العامة وكانت قادرة على تحريك الدعوى، أو كانت عالمة بها ولكنها لا تستطيع تحريكها لوجود قيد إجرائي، أو كانت غير عالمة بوقوع الجريمة ( ).
3- المعاناة النفسية للمجرم: فالمجرم الذي يقترف الفعل الإجرامي ويهرب من السلطة العامة يظل شبح الجريمة يلاحقه ويقض مضجعه ويؤرقه النوم ويقلقه الخوف من أن تناله يد العادلة، وهذا يكدر عليه صفو حياته، فهذه المعانة النفسية تكفي ألما وعقابا له على ما اقترفت يداه من جرم، لأنها تبقى ماثلة للمجرم طوال مدة التقادم ( ).
ويمكن الرد على ذلك بأن هذه المعانة النفسية ليست بكافية لإسقاط حق المجتمع في عقاب المجرم الذي ارتكب جريمته ولاذ بالفرار من قبضة العدالة، وإلا كان إفلاته من العقاب في هذه الحالة نوعا من المكافأة على براعته في الاختفاء والتواري عن أعين رجال السلطة العامة والذين يلاحقونه ومن ثم الابتعاد عن إجراءات الدعوى الجنائية، والاختفاء والتواري في ذاته إنما هو سلوك غير سوي الأمر الذي لا يصح معه أن يعتبر نوعا من المكافأة، علاوة على أن ما قد يقال عن الآلام النفسية التي يعانيها المجرم، لا يجب أن يعقد بها بالمقارنة لما أحدثه من آلام نفسية ومادية في المجتمع بارتكابه لجريمته، بالإضافة إلى أن بعض المجرمين وإن كانت تلاحقهم الآلام النفسية فإن بعضهم لا يحس بها لاسيما المعتادين على الإجرام ومن على شاكلتهم حيث ينعدم لديهم الإحساس بالألم ووخز الضمير. 
4- الاستقرار أو الثبات القانوني. فاعتبارات الاستقرار أو الثبات القانوني في داخل المجتمع هي التي تبرر الأخذ بنظام التقادم الجنائي حتى لا تظل مصالح الإفراد مهددة بالدعوى الجنائية وهو يؤثر بدوره على عدم تأدية الأفراد لدورهم في المجتمع، ومرد ذلك إلى أن مرور فترة من الزمن بدون اتخاذ أي إجراء ضد الجاني، يترتب من جرائه هدم مبدأ البراءة (والذي يقضي باعتبار الشخص بريئا حتى تثبت أدانته بحكم بات) وقد نعامل الجاني في خلال هذه الفترة مع أفراد المجتمع وتعاملوا معه على أساس براءته، الأمر الذي أدى إلى نشوء مركز واقعي للجاني يلزم احترامه بغية تحقيق وكفالة الأوضاع والمراكز القانونية ( ). وقد أخذ على ذلك أن مبدأ الثبات القانوني أو الاستقرار القانوني، لا يصلح أن يكون أساسا يقوم عليه ويرتكن إليه نظام التقادم للدعوى الجنائية، فالثبات القانوني أو الاستقرار القانوني إنما يصح لتبرير التقادم في نطاق القانون الخاص. ولذا فإن الاعتماد على هذا الأساس لتبرير تقادم الدعوى الجنائية قد يقضي إلى نبذ فكرة التقادم في ذاتها ( ).
5- الدفاع الاجتماعي: ويبرر نظام التقادم بالنظر إلى الأهداف المرجوة من السياسة العقابية، فالعقوبة تستهدف بالدرجة الأولى إصلاح المجرم وإعادته إلى حظيرة المجتمع مبرأ من الخطورة الإجرامية التي توافرت في حقه والتي كشف عنها ارتكابه للجريمة، وأن مرور فترة من الزمن دون اتخاذ أي إجراء بشأن الجريمة التي ارتكبت، حدا بالمشرع إلى الموازنة بين مصلحتين هما: مصلحة الهيئة الاجتماعية في عقاب مرتكب الجريمة، والآثار التي تنجم عن عقابه. وقد رجح المشرع المصلحة الثانية على المصلحة الأولى، حيث وجد أن محاكمة الجاني بعد مرور الفترة الزمنية المحددة لن يؤتي ثماره المرجوة والمتمثلة في إصلاح الجاني بتطبيق العقوبة عليه، ولذا قرر انقضاء الدعوى بالتقادم لأن مصلحة المجتمع والتي تهدف لإصلاح الجاني هي بعينها التي دعت إلى أن يسدل الستائر عن الجريمة بعد مرور فترة محددة من الزمن ( ) وقد أخذ على ذلك أن تأسيس تقادم الدعوى الجنائية على الدفاع الاجتماعي مرفوض، ومرد ذلك أن جوهر نظام الدفاع الاجتماعي يقوم على إصلاح الجاني وتأهيله كي لا ينزلق مرة أخرى في مهاوي الجريمة، ومن ثم فإنه لا يفهم في ضوء هذه الفكرة كيف يمكن أن يتحقق إصلاح المتهم وتأهيله نتيجة مرور مدة من الزمن حددها الشرع تحديدا تحكميا، ويكون من جرائها إضعاف المصلحة الاجتماعية التي تهدف الدعوى الجنائية إلى تحقيقها ( ).
6- نسيان الجريمة: فمرور فترة زمنية على وقت ارتكاب الجريمة دون اتخاذ أي إجراء بشأنها من قبل السلطات المختصة، يعني أن الجريمة قد محيت من ذاكرة الناس أو كادت، ومن ثم لم يعد محققا لمصلحة المجتمع ملاحقة الجاني بغية إخضاعه للعقاب، وأن مرور الزمن أدى إلى تلاشي الحاجة إلى الموعظة والعبرة، ولذا فلا يجوز إعادة ذكرى الجريمة إلى أذهان الرأي العام، بإزاحة الستار عنها ونقض التراب الذي تراكم عليها، ونبشها تجنبا لنبش الماضي وإحياء ما اندثر، فمن مصلحة المجتمع عدم اهاجة أحقاده واستثارة حفائظه بنشر ما طوي من صحف فضل مرور الزمن ( ).
وقد اعترض على هذا التبرير بأنه وإن كان يتضمن جانبا من الحقيقة إلا أنه لا يضمن الحقيقة كلها، حيث توجد بعض الجرائم التي لا تنسى آثارها الاجتماعية ويظل صداها يتردد في ذاكرة الناس. ولكن يرد على ذلك بأن المسرع قد فظن إلى هذه الجريمة أو بعضها وأخرجها من ثم من عداد الجرائم التي يسري عليها التقادم، كما سنبين فيما بعد.
وعلى ذلك نخلص إلى أن العلة في تقرير نظام تقادم الدعوى الجنائية يكمن أساسا في نسيان أفراد المجتمع للجريمة ومحوها من ذاكرتهم الأمر الذي يترتب عليه أن العقوبة والتي تبنني أساسا على العدالة والمصلحة، قد فقدت أحد الأركان التي تستند إليها إلا وهو المصلحة الاجتماعية (المصلحة العامة)، فإذا كانت العدالة المطلقة تأبى سقوط حق المجتمع في توقيع العقاب على الجاني جزاء ما اقترفت يداه بمرور الزمن، فإن المصلحة الاجتماعية تدعو إلى سقوط هذا الحق بعد مرور الفترة الزمنية المحددة، وذلك لأنه بمرور تلك الفترة الزمنية على ارتكاب الجريمة دون اتخاذ أي إجراء بشأنها فإن النسيان يتسارع إليها ويمحوها أو يكاد من ذاكرة الناس، ومن ثم يتلاشى بنسيانها الحاجة إلى العبرة والموعظة. كما أن استقرار الأوضاع القانونية في المجتمع يساهم هو الآخر بالإضافة إلى الأساس السابق في تبرير علة التقادم.

نقد نظام التقادم: 

لقد تعرض نظام التقادم للنقد وقد حمل لواء هذا النقد كل من كرارا وبنتام، وتابعهما في ذلك أنصار المدرسة الوضعية، الذين رفضوا سريان التقادم بالنسبة للمجرمين بالفكرة (وقد ثبت عدم صلاحية فكرة المجرم بالفطرة) أو المجرمين بالعادة في حين أيدت نظام التقادم بالنسبة للمجرمين بالصدفة والمجرمين بالعاطفة على أساس أن النوع الأخير من المجرمين (بالصفة أو بالعاطفة) يتألمون من الجريمة ويخشون من شبح الدعوى والعقاب أما غيرهم فليس محل لإفلاتهم من قبضة العدالة ( ).
وقد أسس الناقدون للتقادم نقدهم على أساس أن التقادم مبني على فروض وهمية، فمن الممكن أن تقع الجريمة وتظل في طي الكتمان حتى تنتهي مدة التقادم المقررة للدعوى الجنائية، ولذا فلا يكون ثمة محل للحديث عن نسيان المجتمع لها، بالرغم من أنه لم يعلم عنها شيئا ( )، علاوة على أن التقادم يؤدي إلى تشجيع الأفراد على الأقدام على اقتراف الأفعال الإجرامية، لأن إفلاتهم من قبضة العدالة يساهم في تشجيعهم على معاودة سلوك الطريق الإجرامي، بالإضافة إلا أن مرور فترة من الزمن لن يساهم مطلقا في تحقيق القضاء على الخطورة الإجرامية الكامنة في نفس المجرم ولا حتى التقليل منها، ومن ثم تظل الخطورة على المجتمع ماثلة ( ).
ولقد وجدت هذه الانتقادات صدى لها لدى بعض التشريعات في العالم، الأمر الذي أدى إلى إنكار نظام التقادم لدى بعضها كالقانون الإنجليزي الذي يلفظ فكرة التقادم، وأيضا التشريعات التي سارت على نهج التشريع الإنجليزي كالتشريع السوداني والعراقي، كما أن بعض التشريعات أخذت به بالنسبة لبعض الجرائم دون البعض الآخر كالتشريع السوفيتي لسنة 1960 (حيث أجازت المادة 48 منه، للمحكمة في الجرائم التي تعاقب عليها بالإعدام، عدم تطبيق قواعد التقادم وإنما يقتصر أثر مضي المدة على تخفيف العقوبة إلى عقوبة سالبة للحرية) ( ).
ولكن بالرغم من الانتقادات السابقة لنظام التقادم إلا أن أغلب التشريعات تأخذ به استنادا إلى الأساس المبني على نسيان أفراد المجتمع للجريمة مما يستأهل عدم نبش الماضي ورفع ستائر النسيان عنها، وتأكيدا لاستقرار الأوضاع القانونية في المجتمع وهو ما أخذ به المشرع المصري في المواد 15- 18 إجراءات.
المطلب الثاني

التكييف القانوني للتقادم الدعوى الجنائية

لقد ثار خلاف في الفقه بصدد التكييف القانوني لتقادم الدعوى الجنائية، فيما إذا كان تقادم الدعوى، ذا طبيعة موضوعية أم أنه ذو طبيعة إجرائية أم ذو طبيعة مختلطة تجمع بين الموضوعية والإجرائية. فقد ذهب البعض إلى القول. بأن تقادم الدعوى الجنائية ذو طبيعة إجرائية بحتة ( )، وقد استند في ذلك إلى القول: بأن الدور القانوني لتقادم الدعوى الجنائية إنما يتمثل في كونه سببا لانقضاء الدعوى الجنائية، وحيث أن الدعوى الجنائية هي في ذاتها ظاهرة إجرائية لذا كان من المتعين أن يوصف سبب انقضائها بأنه إجرائي. ويمكن الرد على ذلك بالقول: بأن تقادم الدعوى الجنائية ليس له الطابع الإجرائي، وإنما هو ذو طابع موضوعي، وذلك مرده لأن القادم إنما هو أثر قانوني منشؤه هو سريان المدة المقررة من قبل المشرع دون أن تقدم الجهات المختصة على استخدام حقها في تحريك الدعوى الجنائية في مواجهة المتهم، والتي هي وسيلتها لاقتضاء حقها في عقابه ( ). كما ساندوا أيضا إلى القول: بالطابع الإجرائي لقادم الدعوى الجنائية، بأن التقادم يفترض بداءه اقتراف فعل إجرامي متكامل الأركان ومن ثم نشوء المسئولية الجنائية عنه، ومما يلفظه المنطق القانوني ولا يقره أن يكون لمرور فترة من الزمن أثر على أركان الفعل الإجرامي أو على تكييفه القانوني، بحيث يحيل الفعل الإجرامي غير المشروع إلى فعل مشروع أو يفقد ذلك الفعل الإجرامي أحد أركانه التي ثبت توافرها. 
ويمكن الرد على ذلك بالقول: بأن مسئولية المتهم عن الفعل غير المشروع والمنسوب إليه لا ينشأ إلا بالحكم الذي يثبت ارتكاب الفعل غير المشروع في المتهم أما قبل صدور الحكم بالإدانة فلا يمكن القول:
بأن مسئولية المتهم ثابتة أو أنها قد نشأت، لأن الذي يعاصر الفعل غير المشروع هو الإرادة وهي موضوع التقييم للقول بالمسئولية أو بعدمها ( ).
هذا بالإضافة إلى أن انقضاء مدة تقادم الدعوى الجنائية إنما يؤدي إلى انقضاء حق الدولة في استعمال دعوى الجنائية وهو الحق الذي يقرر لها حقها في العقاب من يوم اقتراف الفعل الإجرامي، فالدعوى الجنائية إنما هي الوسيلة التي عن طريقها تتحرك الخصومة الجنائية، وانقضاؤها يترتب عليه انقضاء الخصومة الجنائية بقوة القانون ( ).
وعلاوة على ذلك فإن تقادم الدعوى الجنائية لا يحيل الفعل الإجرامي غير الشروع إلى فعل مشروع، وذلك لأن تقادم الدعوى الجنائية يمس بطريق مباشر حق الدولة في الدعوى الجنائية، ويمس بطريق غير مباشر حق الدولة في العقاب، وهذا مرجعه إلى أنه لا عقاب بدون وجود خصومة، ومن ثم فإن تلك النتيجة لا يؤدي مطلقا إلى القول بأن: الفعل غير المشروع أصبح فعلا مشروعا بل أن كل ما هنالك هو أن تقادم الدعوى الجنائية أدى إلى انقضاء مسئولية المتهم عن الجريمة.
كما قيل أيضا: أن من أهم الأسس التي يستند إليها نظام تقادم الدعوى الجنائية يكمن في ضعف الإدالة والخوف من الأخطاء القضائية التي تترتب من جراء الاعتماد على هذه الأدلة الضعيفة، وهذا علة إجرائية (أو أساس إجرائي).
ويمكن الرد على ذلك بالقول: بأن استناد نظام التقادم على ضعف الأدلة والخشية من الأخطاء التي يقع فيها الحكم، يؤخذ عليه بأن هذا الأساس (أو تلك العلة) ليس متوافرا بالنسبة لكافة أنواع الجرائم، بل أن هناك جرائم كثيرة لا يتحقق بصددها هذا الأساس، حيث أنه من الممكن جميع كافة الأدلة المنبتة لها بكل يسر وسهولة، حيث أنه لا يصلح لتبرير نظام الدعوى الجنائية، فإنه لا يجوز الاعتماد وبالرغم من ذلك فـأنها تسقط بالتقادم ( )، ولذا فإن هذا الأساس عليه للقول بالطبيعة الإجرائية لتقادم الدعوى.
وقد انتهى هذا الفريق الفقهي إلى ترتيب نتيجة على قولهم بالطابع الإجرائي لقادم الدعوى الجنائية، وهي أن الحكم الصادر من المحكمة إنما هو حكم بعدم قبول الدعوى، وليس حكما بالبراءة، وعللوا ذلك بأن القاضي لم يفحص موضوع الدعوى ومن ثم لم يفصل فيه ولكن اكتفي فحسب بإثبات وجود العقبة الإجرائية (المدة الزمنية) والتي تكون بينه وبين النظر في موضوع الدعوى، ويرد على ذلك: بأن قواعد التقادم للدعوى الجنائية إنما هي قواعد موضوعية وهذا هو ما يقرره الرأي الفقهي السائد ( ).
ولذا فإن القاضي عند حكمه تتقادم الدعوى الجنائية إنما يفصل في موضوع الدعوى، وإذا فلا يمكن القول: بأن الحكم الذي يصدره يعد حكما بعدم قبول الدعوى، ونذلك لأنه يلزم التفرقة بين عدم القبول الموضوعي وعدم القبول الإجرائي، فالنوع الأول: وهو عدم القبول الموضوعي إنما يستند إلى انقضاء أو سقوط الحق في العقاب في حين أن عدم القبول الإجرائي فإنه لا يعدو أن يكون جزاءا على رفع الدعوى دون استيفاء الشروط التي تطلبها المشرع، وبالتالي فهو جزاء سببه ما لحق إجراءات رفع الدعوى من بطلان ( ).
فعدم القبول الموضوعي إنما هو فصل في موضوع الدعوى المعروضة وذلك لتلاقي الحكم بعدم القبول مع الحكم الصادر في الموضوع في سقوط أو انقضاء الحق الموضوعي (أي سلطة الدولة في العقاب) ولا يختلفان إلا في حيث بيان الأساس الذي يستند إليه كل منهما، فعدم القبول الموضوعي يرتكن على أساس قانوني كالتقادم ويترتب من جرائه سقوط أو انقضاء حق الدولة في العقاب، في حين أن الحكم الصادر في الموضوع في غير هذه الأحوال يؤسس على سبب موضوعي يكون من شأنه عدم وجود حق للدولة في العقاب، ويتمثل في عدم ثبوت الفعل الإجرامي أو عدم نسبته إلى المتهم، وترتيبا على ما سبق فإن الحكم الصادر بتقادم الدعوى الجنائية إنما هو حكم في الموضوع من حيث استناده إلى سقوط أو انقضاء حق الدولة في العقاب، وهو أمر مبني على تطبيق إحدى القواعد المقررة بقانون العقوبات ( ). ولهذا ننتهي إلى أن الحكم الصادر إنما يكون حكما بالبراءة وليس حكمة بعدم القبول، كما أنه لا يكون حكما بانقضاء سلطة الدولة في العقاب كما ذهب البعض ( ) وذلك لأن سقوط أو انقضاء سلطة الدولة في العقاب إنما هو السبب القانوني الذي تعتمد عليه المحكمة في حكمها ولذا فلا يصلح أن يكون السبب الذي يعول عليه في الحكم منطوقا له في نفس الوقت، بالإضافة إلى أن الشرع في المادة 304 إجراءات لم ينص إلا على نوعين من الأحكام فحسب هما الحكم بالبراءة أو الحكم بالعقوبة، كما أن المادة 454 إجراءات والخاصة بقوة الأحكام الجنائية اباتة وحجيتها لم تنص إلا على الحكم بالبراءة والحكم بالإدانة فحسب، ولذا فإن الحكم الصادر في شأن تقادم الدعوى الجنائية إنما هو حكم بالبراءة وهذا ما أكده القضاء في العديد من الأحكام حيث قضى بأن الحكم بسقوط الدعوى الجنائية بمضي المدة هو في الواقع وحقيقة الأمر حكم صادر في موضوع الدعوى وأن معناه براءة المتهم لعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية عليه، ولا يجوز بحال للمحكمة الاستئنافية أن تتخلى عن نظر الموضوع ونرد القضية إلى محكمة الدرجة الأولى بعد أن استنفذت هذه كل ما لها من سلطة فيها ( ).
المبحث الثاني
مدد تقادم الدعوى الجنائية
وسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين: تخصص الأول لبيان القاعدة العامة في تحديد مدد التقادم، وفي المطلب الثاني نتحدث عن بدء سريان مدة التقادم.
المطلب الأول
القاعدة العامة في تحديد مدد تقادم الدعوى الجنائية
لقد حدد المشرع مدد تقادم الدعوى الجنائية في المادة 15 إجراءات بقوله: "نتقصى الدعوى الجنائية في مواد الجنايات بمضي عشر سنين من يوم وقوع الجريمة وفي مواد الجنح بمضي ثلاث سنين وفي مواد المخالفات بمضي سنة، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك" ( ).
فهذه المادة قد بينت أن مدة انقضاء الدعوى الجنائية في الجنايات بمضي عشر سنوات من يوم وقوع الجريمة، وفي الجنح تنقضي الدعوى الجنائية بمضي ثلاث سنوات من يوم وقوع الجريمة، وفي المخالفات تنقضي الدعوى الجنائية بمضي سنة واحدة من يوم وقوع الجريمة، فالمدد السابقة هي القاعدة العامة في سقوط الدعوى الجنائية بيد أن هذه القاعدة العامة في شأن مدد قد خرج عليها المشرع في بعض الحالات باستثناء حيث نص على انقضاء الدعوى الجنائية في بعض الجرائم بعد مرور فترة زمنية أقل، من ذلك على سبيل المثال: ما قرره المشرع في المادة 50 من القانون رقم 73 لسنة 1956 بشأن مباشرة الحقوق السياسية فقد نصت هذه المادة على أن "تسقط الدعوى العمومية والمدنية في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون بمضي ستة أشهر من يوم إعلان نتيجة الانتخاب أو الاستفتاء أو من تاريخ آخر عمل متعلق بالتحقيق" ( ). ولذا فإن المشرع قد يحدد لبعض الجرائم مدد أقل من المدد المقررة أو أكثر منها وذلك وفقا للاعتبارات التي يرد أنها محققة للعلة التشريعية التي أملت عليه الاعتداء بنظام تقادم الدعوى ( ).
كما خرج المشرع أيضا على القاعدة العامة في شأن اعتداده بتقادم الدعوى حتى مضت المدد التي حددها باستثناء آخر، حيث قرر عدم التعويل على مضي المدة لإسقاط الدعوى الجنائية في بعض الجرائم، وهذا ما قررته المادة 15/2 إجراءات والمضافة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 ( ) "أما في الجرائم المنصوص عليها في المواد 117، 126، 127، 282، 309 مكررا (أ) من قانون العقوبات والتي تقع بعد تاريخ العمل بهذا القانون فلا تنقضي الدعوى الجنائية الناشئة عنها بمضي المدة" ولقد كان هذا الخروج تحقيقا لما كفله دستور سنة 1971 بخصوص الحقوق والحريات العامة في المادة 57 والتي نصت على أن "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء". فالجرائم المنصوص عليها في المادة 15/2 إجراءات هي، م117 ع "يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل موظف عمومي استخدم عمالا في عمل للدولة أو لإحدى الهيئات العامة سخرة أو احتجز بغير مبرر أجورهم كلها أو بعضها"، المادة 126 ع "كل موظف أو مستخدم أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر، وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمدا" والمادة 127ع "كل موظف عمومي وكل شخص كلف بخدمة عمومية أمر بعقاب المحكوم عليه أو عاقبه بنفسه بأشد من العقوبة المحكوم بها عليه قانونا أو بعقوبة لم يحكم بها عليه يجازي بالحبس أو بغرامة لا تزيد على خمسين جنيها مصريا، ويجوز أن يحكم عليه أيضا مع هذه العقوبة بالعزل" والمادة 282 ع "إذا حصل القبض في الحالة المبينة بالمادة 280 من شخص بدون حق بزي مستخدمي الحكومة أو اتصف بصفة كاذبة أو أبرز أمرا مزورا مدعيا صدوره من طرف الحكومة يعاقب بالسجن. ويحكم في جميع الأحوال بالأشغال الشاقة المؤقتة على من قبض على شخص بدون وجه حق وهدده بالقتل أو عذبه بالتعذيبات البدنية" وأيضا الجرائم المقررة في المادتين 309 مكررا، 309 مكررا ( ) والمضافتان بالقانون رقم 37 لسنة 1972، وهي الخاصة بالعقاب على الاعتداء على الحياة الخاصة للمواطن سواء باستراق السمع أو التسجيل أو نقل الأحاديث التي تجري في مكان خاص أو بالتقاط أو نقل صورة شخص في مكان خاص، والعقاب على حيازة أو إذاعة أو تسهيل إذاعة أو استعمال مثل هذه التسجيلات. وتشدد العقوبة إذا وقعت من موظف عام اعتمادا على سلطة وظيفته. فالجرائم السابقة بيانها استثناها المشرع من أحكام تقادم الدعوى الجنائية المنصوص عليها في المادة 15/1 إجراءات (1)، وقد ترتب على عدم خضوع هذه الجرائم لنظام تقادم الدعوى الجنائية أن تعدل المادة 259 إجراءات بالقانون 37 لسنة 1972 حيث نصت على أن تنقضي الدعوى المدنية بمضي المدة المقررة في القانون المدني، ومع ذلك لا تنقضي بالتقادم الدعوى المدنية الناشئة عن الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 15 من هذا القانون والتي تقع بعد تاريخ العمل به" فهذه المادة نص المشرع فيها على استثناء الجرائم الواردة في المادة 15/2 من نظام انقضاء الدعوى المدنية بمضي المدة، وذلك أعمالا لما نص عليه الدستور في المادة 57 منه، ويلاحظ أن استثناء الجرائم الواردة في المادة 15/2 إجراءات من نظام تقادم الدعوى لا يسري بأثر رجعي وإنما يسري بأثر فوري ومباشر من تاريخ العمل بالقانون رقم 37 لسنة 1972 وهذا هو ما قرره المشرع في المادة 15/2 ، 259 إجراءات.
ومدد انقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة وفقا لما قررته المادة 15/1 إجراءات تعتريه بعض الصعوبات منشأها توافر بعض الظروف والأعذار التي يحول المشرع بمقتضاها للقاضي الحكم بعقوبة أشد أو أخف من العقوبة المقررة في القانون أو أن يلزمه لذلك مدى أثر ذلك على نوع الجريمة، هل يتحدد نوعها طبقا للعقوبة التي حكم بها القاضي أم أن نوعها يتحدد وفقا للعقوبة التي قررها المشرع أصلا للجريمة؟ لقد ثار خلاف في هذا الصدد نجمله فيما يلي: 
أولا: إذا توافر عذر مخفف: 
فإذا كانت الجريمة بحسب الأصل جناية ولكن توافر لها عذر قانوني مخفف وجوبي أدى إلى أن يحكم القاضي بعقوبة الجنحة، فهل تسري مدد تقادم الدعوى الجنائية الخاصة بالجناية أم مدد التقادم الخاصة بالجنحة؟ ومثال ذلك: عذر الاستقرار المقرر في المادة 237ع والخاص بمعاقبة الزوج الذي يفاجأ بزوجته متلبسة بالزنا فيقتلها هي وشريكها أو أحدهما أو يحدث بهما أو بأحدهما عاهة مستديمة فإن المشرع قد ألزم القاضي بالحكم على الزوج بعقوبة الحبس بدلا من العقوبات المقررة للجنايات والمنصوص عليها في المواد 234، 236ع وأيضا ما قرره المشرع في المادة 15 من قانون الأحداث رقم 31 لسنة 1974م والتي بنيت أن الحدث الذي لم يتجاوز سن الرشد الجنائي (18 سنة) إذا ارتكب جناية عقوبتها الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن فأنه يحكم عليه بعقوبة الحبس الذي لا تقل مدته عن ستة أشهر، ففي الأمثلة سالفة الذكر يلزم المشرع القاضي بأن يحكم بعقوبة جنحة لجريمة هي بحسب الأصل جناية، فهل يعني ذلك أن الفعل ينقلب إلى جنحة أم يظل جناية، وما يترتب على ذلك من نتائج متعلقة بمدد تقادم الدعوى وبمعنى آخر: هل يسري الزمن المقرر لسقوط الدعوى الخاص بالجناية أم بالجنحة؟ لقد ذهبت بعض الآراء الفقهية إلى القول: بأن الفعل يظل جناية كما هو بالرغم من أن القاضي قد حكم بعقوبة الجنحة حسبما تطلبا لقانون منه ذلك، وذلك لان التخفيف للعقوبة كان لسبب شخصي لا يؤثر على طبيعة الجريمة المرتكبة، والمشرع عندما قسم الجرائم إلى أنواعها الثلاثة قسمها بالنظر إلى مقدار الجسامة المادية للأفعال ومدى خطورتها على المجتمع، ولم يلق بالا إلى أشخاص مرتكبي الجرائم ( ).
وذهب البعض ( ) إلى القول. بأن الفعل ينقلب إلى جنحة. وذلك لأن مقياس الجريمة هو العقوبة المحكوم بها، وذلك لأن المشرع قد ترك الأعذار المخففة للقاضي وأنابه عنه في تقديرها بعد أن حدد له كيفية تخفيفه للعقوبة بناء عليها، ولذا فالقاضي بقدر هذه الأعذار ويخفف العقوبة بناء على تفويض من القانون وليس لأسباب من عنده، لأن الأعذار كثيرة ومختلفة من قضية لأخرى ولو أمكن للمشرع أن يحيط بها كلها لذكرها في القانون وصارت من قبيل الأعذار القانونية، ولكن لتعذر ذلك على المشرع تركها للقاضي. 
وذهب رأي ثالث إلى القول: بأن توافر عذر قانوني مخفف كعذر الاستفزاز (م 237ع) وصغر السن (م 15 من القانون 31 لسنة 1974 الخاص بالأحداث) فإن هذه الأعذار المخففة وجوبيه لا يملك القاضي حيال توافرها سوى الحكم بعقوبة الجنحة وهذا يؤدي إلى القول بأن العقوبة هي وحدها التي قررها المشرع للجريمة، وهذا يستتبع الاعتراف بأن الجريمة جنحة ولذا يسرى بشأنها مدد التقادم المقررة للجنح، وهذا هو الرأي الراجح فقها ( ) وما أخذت به محكمة النقض ( ). وهذا ما نرجحه لأن طبيعة الجريمة لا تقاس فحسب بنوع الفعل، لكنها تنشأ من مجموع عنصريها المادي والشخصي، والمشرع عند تقديره لخطورة الفعل (باعتباره جناية أو جنحة أو مخالفة) إنما ينظر إلى الفعل المادي وإلى مرتكبه، وليس إلى الفعل المادي وحده، وهذا يتضح في نطاق الظروف القانونية المشددة بجلاء، فتلك العرض لمن يزيد سنة على سبع سنوات ولا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره يعد جنحة متى كان واقعا بدون إكراه. 
أما إذا وقع من ولي المجني عليه (القاصر) أو ممن في حكم الوالي فإنه يعد جناية (م269ع) وأيضا الإجهاض يعد جنحة إذا كان واقعا من شخص عادي (دون قصد منه الإسقاط بالضرب أو غيره من أنواع الإيذاء) يعد جنحة (م261، 262ع) ولكن إذا كان المتسبب فيه طبيبا أو جراحا أو صيدليا أو قابلة فإنه يعد جناية (م263 ع)، فالفعل في الأحوال السابقة واحد ولكن الخطورة المتمثلة في الجريمة والتي أدت لاعتبارها جناية تكمن في العنصر الشخصي ( ). 
أما إذا كان العذر القانوني المخفف جوازيا للقاضي، مثل عذر المادة 251 ع وهو عذر نجاوز حدود حق الدفاع الشرعي بحسن نية "لا يعفى من العقاب بالكلية من تعدى بنيه سليمة حدود حق الدفاع الشرعي أثناء استعماله إياه دون أن يكن قاصدا إحداث ضرر اشد مما يستلزمه هذا الدفاع. ومع ذلك يجوز للقاضي إذا كان الفعل جناية أن يعده معذورا إذا رأى لذلك محلا وأن يحكم عليه بالحبس بدلا من العقوبة المقررة في القانون" ففي شأن هذا العذر قضت محكمة النقض بأن الواقعة حتى كانت جناية فإنها تظل جناية كما هي، ومرجع ذلك أن المشرع لم يلزم القاضي بالحكم بعقوبة الحبس المقررة في النص القانوني وإنما نص على هذه العقوبة بصفة اختيارية ( ) في حين قضت في أحكام أخرى باعتبار أن عقوبة الحبس ملزمة القاضي متى توافرت الأركان المتطلبة للعذر، الأمر الذي يترتب عليه عدم إمكانية الحكم بعقوبة الجناية، وغاية الأمر أن خيار المحكمة إنما ينحصر في الحكم بالحبس طبقا للمادة 251ع أو استخدام المادة 17ع وهي الخاصة بالظروف الفضائية المخففة ( ) وهذا يقود إلى القول: بأن الواقعة تظل جناية ولو حكم فيها بعقوبة جنحة ( ).
ثانيا: توافر ظروف قضائي مخفف: 
وهو المنصوص عليه في المادة 17ع والذي يعطي للقاضي في مواد الجنايات الحق في استعمال الرأفة وتخفيف العقوبة والهبوط بها درجة أو درجتين، فإذا كانت العقوبة هي الإعدام كان من حق القاضي أن يهبط بها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وإذا كانت العقوبة هي الأشغال الشاقة المؤبدة كان للقاضي حق الهبوط بها إلى الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، وإذا كانت العقوبة هي الأشغال الشاقة المؤقتة فللقاضي أن يثبط بها إلى السجن أو الحبس الذي لا يقل عن ستة أشهر، وإذا كانت العقوبة هي السجن كان للقاضي أن يهبط بها إلى الحبس الذي لا تقل عن ثلاثة أشهر. واستخدام هذا الحق إنما هو من الأمور المخولة للقاضي قلة حق استخدامه أو عدم اللجوء إليه، فالأمر متروك لحرية اختياره، وعلى ذلك فإذا كانت العقوبة المقررة هي الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن واستخدم القاضي حقه في الرأفة فهبط بالعقوبة إلى عقوبة الجنحة، فإن هذا لا يؤثر مطلقا على كون الجريمة من قبيل الجنايات، فلا أثر للظروف القضائية على طبيعة الجريمة. الأمر الذي يستتبع أن مدد سقوطها بمضي المدة هو مدد سقوط الجنايات، ومرجع ذلك أنه يمكن القول: بأن المشرع في هذه الحالة يقرر للجريمة عقوبتين، ولذا فتكون العبرة هي بأشد العقوبتين، مما يفضي إلى اعتبار الفعل جناية ( ) وهو ما نرجحه أعمالا للمعيار الذي وضعه المشرع في شأن التقسيم الثلاثي للجرائم القائم على أساس مقدار العقوبة.
وذهب البعض إلى القول: بأن الفعل في هذه الحالة ينقلب إلى جنحة إذ نطق القاضي بعقوبة الجنحة. كما هو الشأن في حالة توافر أعذار قانونية مخففة، حيث لا فرق بين الأعذار القانونية المخففة والظروف القضائية المخففة، لا من حيث الشكل فقط بينما يتفقان في جوهرهما، فالشارع لو تمكن من تحديد جميع حالات التخفيف لنص عليها وحدد شروطها وأصبحت كلها أعذارا قانونية، ولكنه تعذر عليه ذلك، ولذلك أناب القاضي عنه في هذا، ومن ثم فإن العقوبة التي ينطق بها القاضي تكون هي أتى أرادها الشارع أن تكون دالة على نوع الجريمة ( ).
ثالثا: توافر ظرف مشدد وجوبي: 
إذا كانت الواقعة جنحة ولكن توافر لها ظرف من الظروف القانونية التي تشدد العقوبة كظرف الإكراه في السرقة، (م314ع) أو اجتماع عدة ظروف من أنواع معينة في جريمة السرقة كظرف الليل مع التعدد وحمل السلاح (م316ع) وقتل الحيوان بغير مقتضى ليلا (م335، 356ع) وأتلاف الزراعة (م367، 368ع)، وهناك عرض صبي أو صبية لم يبلغ كل منهما سن الثامنة عشر (م268/2، 269ع) فهذا الظروف ظروف مشددة عينية تتعلق بذات الفعل الإجرامي، وإذا فمتى توافرت فإن الجريمة تنقلب على جناية ( ). ومن ثم تسري مدد التقادم الخاصة بالجنايات، وكذلك تنقلب الجريمة إل جناية متى توافر ظرف مشدد شخصي يتعلق بصفة الجاني مثل صفة الطبيب أو الجراح أو الصيدلي أو القابلة في جرائم الإجهاض (م263ع) وصفة أصل المجني عليه أو متولي التربية أو الخادم بالأجر في جرائم هتك عرض صبي أو صبية لم يبلغ سن كل منهما ثماني عشرة سنة كاملة بدون إكراه أو تهديد (م269ع) وكذا صفة الموظف العام في جرائم الاختلاس (م211ع) ( ).
ففي الحالات السابقة يكون التشديد وجوبيا على القاضي، وعليه أن ينطق بعقوبة الجناية لظرف لأن الظروف السابق بيانها تقلب الفعل إلى الجناية.
رابعا الظروف المشددة الجوازية:
لذا كنت الجريمة جنحة وتوافر لها ظرف مشدد يقول للقاضي حق النطق بعقوبة جناية تاركا ذلك لسلطته التقديرية (أي لاختياره) كظروف العود إلى الجريمة (م51، 54ع) فقد منح المشرع سلطة جوازية في الحكم على العائد عودا متكررا وفقا للمواد 51، 54ع الحكم عليه بعقوبة جناية عن فعل هو بحسب الأصل بجنحة، فهل يؤثر ذلك على الفعل فيقلبه إلى جناية أم يظل جنحة، وما قد يترتب على ذلك من حساب مدة تقادم الجناية أم الجنحة.
فقد ذهبت محكمة النقض في بعض أحكامها إلى القول. بأن الجريمة تكون قلقة النوع، تكون تارة جنحة، وتارة أخرى جناية، وذلك تبعا للعقوبة التي ينطلق بها القاضي ( ). ولا شك أن هذا القاضي محل نظر، وذلك لأن خلق من جرائم العود المتكرر نوعا رابعا من الجرائم وهي الجرائم قلقة النوع التي قد تعد جنحة أو جنايات حسب نوع العقوبة التي ينطق بها القاضي، ويترتب على ذلك أنه في فترة القلق، وبعد استقرار وضع الجريمة سوف يطبق عليها أحكام مستمدة من النوعين (الجنح والجنايات)، وتحديد نوع الجريمة لازم قبل إصدار القاضي حكمه لمعرفة المحكمة المختصة والفرض أن الدعوى لم يحكم فيها بعد ( ) وأيضا معرفة مدد التقادم التي تسري هل هي مدد تقادم الدعوى الجنائية أم مدد تقادم الجنح حتى يمكن معرفة ما إذا كانت مدة التقادم قد استكملت أم لا ( ).
وذهب بعض الفقهاء على القول ( ): بأن الجريمة تظل جنحة في جميع الحالات ولو صدر حكم فيها بعقوبة جناية، لأن التشديد راجع لشخص الفاعل، وليس لسبب في الفعل ذاته، وتقسيم الجرائم نظر فيه إلى الفعل دون الفاعل.
وذهب بعض الفقهاء إلى القول ( ): بأن الجريمة تنقلب إلى جناية ورد ذلك أن المشرع قد جعل الأمر جوازيا للقاضي في أن يحكم بعقوبة الجنحة أو بعقوبة الجناية على المجرم العائد، وبذا يكون القانون قد قرر عقوبتين ولذا فإن العبرة تكون بأشدهما إلا وهو عقوبة الجناية بصرف النظر عما يحكم به القاضي فعلا ( )، الأمر الذي يترتب عليه أن تسقط الدعوى الجنائية في هذه الجرائم بالمدة المقررة للجنايات وهو الرأي الأقرب إلى الصواب.
على أنه مما يجدر التنبيه إليه أن العبرة في تحديد نوع الجريمة هو بما تراه المحكمة وليس بما ذهبت إليه النيابة العامة حين رفعت الدعوى ( ) فإذا قدمت النيابة العامة إلى المحكمة دعوى على أنها جناية فقامت المحكمة بتغيير وصف الواقعة أو تعديل التهمة من جناية إلى جنحة، أو العكس، طبقا للقدر الذي يظهر لها ثبوته من خلال وقائع الدعوى (م308 إجراءات) فنا يكون المرجع في تحديد نوع الجريمة إلى ما رأته المحكمة التي قامت بالتغيير أو بالتعديل الذي انتهت إليه ( ).
المطلب الثاني
بدء سريان مدد التقادم للدعوى الجنائية
لقد بينت المادة 15/1 إجراءات بدء سريان مدة التقادم بيوم وقوع الجريمة ( )، ولذلك فإن بدء حساب مدة تقادم الدعوى إنما يكون من اليوم التالي لارتكاب الجريمة، ولا تكتمل مدة التقادم إلا بانقضاء اليوم الأخير، وهذا ما قررته المادة 15 مرافعات التي قررت القاعدة العامة في احتساب المدد، حيث بينت أنه إذا كان الميعاد مما يجب انقضاؤه قبل الإجراء فلا يجوز حصول إجراء إلا بعد انقضاء اليوم الأخير من الميعاد. وعلى ذلك فإن حق النيابة العامة في استعمال الدعوى الجنائية يبدأ من اليوم التالي لارتكاب الجريمة، لأن يوم ارتكاب الجريمة إنما هو يوم ناقص والمشرع في حساب المدة يحسبها بالأيام الكاملة وليس بالساعات حيث عبر عن ذلك بيوم وقوع الجريمة ولم يقل بلحظة وقوع الجريمة ( ).
ولكن بالرغم من ذلك فقد ذهب البعض ( ) إلى القول: بأن المدة يبدأ حسابها من يوم وقوع الجريمة وليس من اليوم التالي.
ويكون حساب المدة بالتقاويم الميلادي وليس بالتقويم الهجري (م560 إجراءات). وتحديد تاريخ ارتكاب الجريمة يقع على عاتق سلطة الاتهام (النيابة العامة) وهي مسألة موضوعية يفصل فيها قاضي الموضوع دون رقابة عليه من محكمة النقض، لذلك فأنه يجب على محكمة الموضوع أن تحدد تاريخ وقوع الجريمة وذلك متى دفع أماها بسقوط الدعوى الجنائية بالتقادم، وإلا كان حكمها قاصرا متعين النقض ( ). وقد ذهبت بعض الآراء إلى القول: بأن المتهم هو الذي يقع على عاتقه عبء إثبات تاريخ وقوع الجريمة، ذلك لأنه هو الذي يستفيد من التقادم ولذا فهو طريق له لكي يخلص نفسه من المحاكمة، بيد أنه يؤخذ على هذا الرأي أن سقوط الدعوى الجنائية بالتقادم، من النظام العام (وسوف نبين ذلك فيما بعد) الأمر الذي يترتب عليه أن المحكمة عليها الحكم به من تلقاء نفسها حتى ولو لم يطلبه المتهم ( ) بل حتى ولو تنازل عنه. 
وإذا كانت القاعدة أن المدة لا يبدأ حسابها إلا من اليوم التالي لارتكاب الجريمة إلا أن المشرع قد خرج على هذه القاعدة في بعض الأحوال مقررا أن مدة التقادم لا تبدأ إلا من وقت لاحق لارتكاب الجريمة وهذا ما ورد النص به في الفقرة الثالثة من المادة 15 إجراءات (مضافة بالقانون رقم 63 لسنة 1975) ونصها: "ومع عدم الإخلال بأحكام الفقرتين السابقتين لا تبدأ المدة المستقلة للدعوى الجنائية في الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات والتي تقع من موظف عام إلا من تاريخ انتهاء الخدمة أو زوال الصفة ما لم يبدأ التحقيق فيها قبل ذلك" ( ) والجرائم المشار إليها هي جرائم اختلاس المال العام والغدر والتي تقع من موظف عام، فهذه الجرائم لا يبدأ حساب مدة تقادم الدعوى الجنائية بصددها إلا من تاريخ انتهاء خدمة الموظف أو زوال صفته ما لم يبدأ التحقيق فيها قبل ذلك، وترجع حكمة هذا الاستثناء (أو الخروج على القاعدة العامة في حساب بدء مدة التقادم) إلى ما يحدث في الغالب الأعم من إخفاء الموظف بشتى الطرق وبكافة الوسائل للجرائم التي ارتكبها، لهذا فإن قصده السيئ يرد عليه، لذا فإن المصلحة العامة تقتضي إلا يبدأ حساب مدة تقادم الدعوى الجنائية في شأن تلك الجرائم إلا من تاريخ انتهاء خدمته أ زوال صفته، ما لم يبدأ التحقيق فيها قبل ذلك. 
وإذا كانت القاعدة العامة أن بدء حساب مدة تقادم الدعوى الجنائية يكون من اليوم التالي لارتكاب الجريمة إلا أن هذه القاعدة تستلزم شيئا من التفاصيل بالنسبة لبعض الجرائم المختلفة وذلك على النحو التالي: 
أولا: الجرائم الوقتية: 
وهذا النوع من الجرائم إما أن يكون ذا مظهر إيجابي أو مظهر سلبي.
(أ‌) الجرائم الوقتية الإيجابية:
السرقة فإن مدة تقادم الدعوى يبدأ من تاريخ اختفاء المال المنقول المملوك الغير، وجريمة خيانة الأمانة فتبدأ مدة تقادم الدعوى بالنسبة لها من تاريخ طلب الأمين وظهور عجز المودع لديه عن رد الشيء إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك ( ). وأيضا جريمة إعطاء شيك بدون رصيد فإن المدة المسقطة للدعوى تبدأ من اليوم التالي لإعطاء الشيك وليس من اليوم التالي لإفادة البنك بالرجوع على الساحب، لأنه إجراء ناشئ عن الجريمة ( ) وإقامة عزبة بدون ترخيص هي الأخرى جريمة وقتية تتم وتنتهي بمجرد ارتكاب الفعل وبذا يبدأ حساب مدة تقادم الجريمة من اليوم التالي لارتكابها (القانون رقم118 لسنة 1950) ( )، وأيضا جريمة العود للاشتباه فهي أيضا جريمة وقتية ويبدأ حساب مدة التقادم بشأنها من اليوم التالي للفعل المكون للعود للاشتباه والذي يقع من المشتبه فيه بعد سبق الحكم عليه بالمراقبة لذا قضى بأنه إذا كان الثابت بالحكم أن الجريمة التي ترتب عليها العود للاشتباه قد وقعت قبل يوم 18/3/1955 وهو تاريخ الحكم فيها ولم تتخذ النيابة العامة أي إجراء قاطع منذ ذلك التاريخ حتى رفعها الدعوى على المطعون ضده في 21/7/1958، فإن ما أنتهي إليه الحكم من أن هذه الجريمة قد سقطت بمضي أكثر من ثلاث سنوات من تاريخ توافرها وفقا للمادة 15 إجراءات يكون صحيحا في القانون ( ). وأيضا في الجرائم الوقتية التي تتراخى فيها النتيجة عن وقت مباشرة السلوك الإجرامي كالقتل العمد والقتل الخطأ، فإن مدة التقادم تبدأ من اليوم التالي لتحقق النتيجة وهي الوفاة، وذلك لأن الوفاة (النتيجة) عنصر لا تكتمل الجريمة إلا بتحققه، فهي أحد عناصرها أو أركانها ( ).
(ب‌) الجرائم الوقتية السلبية:
ويبدأ حساب مدة تقادم الدعوى في هذا النوع من الجرائم من اليوم التالي لانتهاء الموعد الذي ضربه المشرع للجاني لإتيان الفعل المأمور به، ومثاله: جريمة الامتناع عن الأداء بالشهادة أمام المحكمة بعد تكليف الشاهد بالحضور أمامها للإدلاء بما لديه من معلومات بخصوص الدعوى المعروضة على المحكمة، فهذه الجريمة يبدأ سريان مدة تقادمها من اليوم التالي لتاريخ الجلسة المحددة لسماع الشهادة دون أدائها. وكذلك جريمة الإخلال بواجب تقديم شهادة الجمرك القيمية في خلال الأجل المحدد، وهو ستة أشهر، ولذا فهذه الجريمة يبدأ سريان تقادمها من اليوم التالي لانتهاء الستة أشهر التي حددها القرار الوزاري رقم75 لسنة 1948 ( )، وقد اعتبر المشرع بدء ميعاد الشهور الستة هو تاريخ استعمال الاعتمادات المفتوحة لتغطية الواردات إلى مصر، أو من تاريخ دفع قيمة البضاعة المستوردة.
وهناك جرائم وقتية ذات أثر مستمر مثل، البناء خارج خط التنظيم، فهذه الجريمة وقتية وبالتالي يسري تقادمها من اليوم التالي للبناء، أما بقاء البناء فإنه ليس استمرارا للجريمة وإنما هو أثر مترتبة عليها، وأثر الفعل لا يعتد به التكييف القانوني، ولذا فإذا كان قد انقضى على تاريخ الواقعة قبل رفع الدعوى بها ثلاث سنوات فيكون الحق في رفع الدعوى قد أنقضى بمضي المدة ( ).
ثانيا: الجرائم المستمرة:
وهي بدورها قد تكون جرائم مستمرة استمرارا إيجابيا وقد تكون مستمرة استمرارا سلبيا.
(أ‌) الجرائم المستمرة استمرارا إيجابيا:
هذه الجرائم يبدأ حساب مدة تقادمها من اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار، ومثالها: جريمة استعمال محرر مرور، فالمدة المسقطة للدعوى الجنائية في هذه الجريمة تبدأ من تاريخ صيروره الحكم باتا في التزوير ( ) أو من اليوم التالي للتنازل عن التمسك بالمحرر المزور قبل الحكم في الدعوى ( )، وأيضا جريمة إحراز سلاح بدون ترخيص حيث يبدأ تقادم الدعوى عن هذه الجريمة من اليوم التالي لانتهاء الحيازة أما طوعا أو جبرا ( )، وجريمة الاتفاق الجنائي حيث يبدأ حساب مدة تقادم الدعوى الجنائية بخصوصها من اليوم التالي لانتهاء الاتفاق سواء بارتكاب الجريمة أو الجرائم محل الاتفاق أو بعدول من تنفيذ ما اتفقوا عليه ( ).
(ب‌) الجرائم المستمرة السلبية:
وهذه الجرائم لا يبدأ تقادم الدعوى الناشئة عنها إلا من اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار في الامتناع عن القيام بالواجب الذي فرضه القانون، ومثالها: عدم تقديم الإقرار عن الأرباح إلى مصلحة الضرائب، فهذه الجريمة تظل قائمة ومستمرة ما بقيت حالة الاستمرار التي تنشئها إرادة المتهم أو تتدخل في استمرارها ونجددها وما بقى حق الخزانة العامة في مطالبتها بالضريبة المستحقة قائما، ولذا فلا يبدأ حساب مدة تقادم الدعوى الناشئة عنها إلا من اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار وهو تاريخ تقديم الإقرار عن الأرباح إلى مصلحة الضرائب ( )، ومنها أيضا، جريمة عدم التقديم إلى إدارة التجنيد في الموعد المحدد لأداء الخدمة الوطنية عند بلوغ الشخص السن المحدد قانونا للتجنيد الإجباري ( ) ومنها أيضا جريمة عدم الإبلاغ عن واقعة لميلاد والوفاة في الميعاد المحدد قانونا (م230 من القانون رقم 23 لسنة 1912، القانون رقم 130 لسنة 1946) ( ).
ثالثا: الجرائم المتتابعة الأفعال:
وهي تلك الجرائم التي تتكون من مجموعة أفعال يكفي كل فعل فيها لأن يكون جريمة قائمة بذاتها ولكن نظرا لوحدة الغرض الإجرامي فإن المشرع يعتبرها كلها جريمة واحدة، ومثلها، جريمة السرقة على دفعات، فهذا النوع من الجرائم يبدأ حساب المدة المسقطة للدعوى بشأنها من اليوم التالي لتاريخ انتهاء آخر فعل من أفعال التتابع ( ).
رابعا: جرائم العادة:
ومثالها، جريمة الاعتياد على الإقراض بالربا الفاحش (المادة 339ع قبل تعديلها بالقانون 29 لسنة 1982). وهذا النوع من الجرائم ثار الخلاف الفقهي في شأن معرفة الوقت الذي يبدأ منه حساب مدة تقادم الدعوى الناشئة عن هذه الجريمة فذهب بعض ( ) إلى أن حساب مدة تقادم الدعوى عن هذه الجريمة يبدأ من تاريخ الفعل الثاني وليس الفعل الأخير.
وذهب رأي أخر وهو الراجح والسائد ( ) إلى القول: بأن مدة التقادم للدعوى في هذه الجريمة تبدأ من اليوم التالي أو التاريخ آخر فعل داخل في تكوين الجريمة حتى ولو كانت الأفعال التي اقترفها الجاني قبل ذلك كافيه لقيام الجريمة، ومرجع ذلك هو أن أفعال المتهم كلها تعتبر جريمة واحدة مهما تعددت متى كانت كلها قد اقترفها الجاني قبل الحكم البات عليه قيها كلها أو بعضها.
ومما يجدر ملاحظته أن العبرة في بدء حساب مدة التقادم هو اليوم التالي لتاريخ عقد القرض وليس تاريخ اقتضاءه الفوائد ( ).
كما يجدر القول، بأن مدد التقادم تسري من اليوم التالي لوقوع الجريمة على النحو الذي ذكر، سواء علم بها المجني عليه أو لم يعلم ( ).
هذا فضلا أن تاريخ بدأ المدة المسقطة للدعوى تكون واحدة بالنسبة لكافة المساهمين في الجريمة، فهي كما تسري في حق الفاعل من اليوم التالي لارتكاب الجريمة فهذا الوقت هو بذاته يسري في حق المساهمين. 
وذلك لأن وقت ارتكاب الفاعل للركن المادي المكون للجريمة هو الذي يحدد تاريخ ارتكابها، علاوة على مبدأ وحدة الجريمة الذي يخضع له تقادم الدعوى الجنائية، ويتحقق هذا بالنسبة لكافة المساهمين مع الفاعل الأصلي في الجريمة حتى ولو أقدم بعض المساهمين على أفعال سابقة على ارتكاب الفاعل الأصلي للجريمة، وكان هذا الفعل خاضعا للتجريم ( ).
"البقية في العدد القادم إن شاء الله"


تعليقات