سياسةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز في سنِّ الأنْظمَةِ
سياسةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز في سنِّ الأنْظمَةِ
بناءً على قوله: " تُحْدَثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"
إعداد
د.عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز آل سعود
الأستاذ المساعد في قسم السياسة الشرعية
بالمعهد العالي للقضاء
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
1432هـ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
ملخص البحث:
تعد مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - "تُحدَث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور" من مفاتيح السياسة الشرعية في سنّ أنظمة تيسر ولا تعسر ،وترفع الحرج عن الناس، ويأتي هذا البحث محاولةً لتأصيل هذه المقولة وتقعيدها ،بالإضافة إلى تطبيقاتها في دَرءِ التعارض بين إطلاق المصالح ،وتقييدات النظام، وعلاقة ذلك بتصرفات الإمام وتقييد المباح، كما يستعرض البحث كيف يكون إعمال هذه المقولة في توجيه نمط الأنظمة وكميتها ؛للاحتياط للمصالح ورعايتها، مع ضرب بعض الأمثلة والتطبيقات ، وتنزيلها على الواقع المعاصر.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدِ اللهُ فلا مضلّ له ، ومن يضللْ فلا هاديَ له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن من الخصائص التي خصَّ الله بها الشريعة الإسلامية, أن جعلها سمحاء حنيفية تقوم على السهولة والرفق, وتدعو إلى التيسير والتخفيف, ورفع الحرج, والمشقة عن المكلفين, ومن ثم فاضت بأحكام الرحمة للعالمين جميعاً, فقال سبحانه وتعالى بطريق الحصر, مبيّنًا الهدف من بعثة رسول الإسلام وتهدف الشريعة إلى تحقيق مصالح المكلفين في العاجل والآجل , حيث راعت أحوالهم المختلفة والمتفاوتة قوةً وضعفًا, وما يطرأ عليها من أعذار, ومن ثَمَّ جاءت التكاليف الشرعية مناسبة لكل هذه الحالات, بما يتفق مع المصالح الشرعية, ويحافظ على المصالح الدنيوية والأخروية لهم , ومن تلك الأمور التي راعت سنَّة الله في دوام تغير الأحوال, تشريع أدواتٍ ووسائلَ وضوابطَ لرفع الحرج والتوسعة والتيسير ،وهي من أهم مقاصد العمل الحكومي بعامة وسنّ الأنظمة والتنظيمات بخاصة، وقبل ذلك وبعده يأتي طلب التوفيق من الله عزَّ وجلَّ ،وعدم الاعتماد باستقلال على الأسباب أو الاغترار بها، فتوفيق الله هو عامل النجاح الأساس والصحيح الذي يهمله كثيرون اليوم ،ولا يعرف قيمته الحقيقية إلاَّ القليل .
إن مسألة رفع الحرج والتيسير على الناس على مستوى تصرفات الدولة المعاصرة هي أحد جوانب مشكلة السلطة السياسية المتمثلة في معضلة إيجاد التوازن بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية في المجتمع ، الذي تجسد الدولة رغباته، فالدولة تتصرف باستخدام السلطة التي تستطيع بها فرض أوامرها على أفراد المجتمع، بحجة قصد الصالح العام، وباعتبارها قوة قادرة على تجسيد طموحات الرعية ، وأنها خادمة للفكرة التي قامت عليها الدولة والتي تمثل مستند شرعيتها، ، ويعني هذا أن مصالح الفرد ومصالح المجموع في الدولة تشكلان طرفيْ نزاع في مشكلة تحصيل التوازن السليم بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية، ويتوقف على حل هذه المعضلة مدى قدرة أنظمة الدولة في المجتمع على إيجاد هذا التوازن والانسجام المطلوب بينهما، وهو نفسه يمثل التوازن بين السلطة والحرية.
ومن هذا المنطلق يأتي الاهتمام بالسياسة الشرعية للخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – يرحمه الله - من جهة أنه حاكم عالم نجح على أرض الواقع في تجديد أمر هذا الدين ،والتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم ،وتحقيق التوازن المنشود بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية في الدولة ،بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية العالية. وعلى وجه الخصوص في منهج عمر بن عبد العزيز - يرحمه الله - في سنّ الأقضية والأنظمة وما يدخل في حكمها وهو محور هذا البحث.
مسألة البحث: دراسة مدى إمكانية استثمار أسس ومعالم الفكر السياسي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز – يرحمه الله – والمتمثل في مقولته "تُحدَث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور" في صياغة أساس يصلح ليكون أصلاً لسياسة شرعية في سنّ الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة من جهة النطاق والمدى وكمية الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة.
منهج البحث: يعتمد البحث على الاستقراء الناقص والمنهج التحليلي والاستنباطي وذلك بعرض الموضوع على منظور السياسة الشرعية ودراسته دراسة أصولية لاستنباط أسس ومعالم منهج عمر بن عبدالعزيز في سنّ الأنظمة وممارسة الحكم، ثم مقارنته مقابل الأمثلة المعاصرة والتطبيقات الماثلة، وذلك بعد استقراء القدر الكافي من المصادر العلمية في موضوع البحث.
خطة البحث: يتكون البحث من مقدمة وأربعة مباحث، المبحث الأول في تأصيل المقولة العمرية وتقعيدها في سنّ الأنظمة، والمبحث الثاني في ضوابط المصلحة في سنّ الأنظمة، والمبحث الثالث تقييد المباح وتحرير مشروعية الأنظمة ، والمبحث الرابع السياسة الشرعية في سنّ الأنظمة ، ، ثم نتائج ومحصلة وخاتمة.
المبحث الأول: تأصيل المقولة العمرية في سنّ الأنظمة و تقعيدها
التمهيد
في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه صعد عمر بن عبد العزيز المنبر، وحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة ، فقال: " أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أُنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ ولكني منفّذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكن متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يُطاع في معصية الله"، ثم حدد سياسته في التعامل مع عامة الناس وبيّن أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم فقال:" أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلاّ فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ،ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا على الخير وإلى ما نهتدي إليه، ولا يغتابنّ عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه." ثم بين سياسته المالية والاقتصادية لرفاهية الرعية والناس فقال :"وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطى أحدا باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً". ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: "يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له " .
وتظهر هذه الخطبة بعض جوانب السياسة الشرعية التي قرر عمر بن عبد العزيز – يرحمه الله - اتباعها في الحكم وهي:
أولاً: الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين على أساس أنه حاكم منفذ، وأن الشرع بَيِّنٌ من حيثُ تحليلُ ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
ثانياً: حدد لمن يريد أن يجالسه من رعيته أن يكون لاتصاله معه شروط هي:
1. أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس وينظر فيها.
2. أن يعينه على الخير ما استطاع.
3. وأن لا يغتاب عنده أحداً .
4. ألاّ يتدخل أحد في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه .
كانت سياسة عمر بن عبد العزيز – يرحمه الله - التي ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد بعد بيعته، تسير على كتاب الله وسنة رسوله ، وكان بذل الوسع والاجتهاد في التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم بكل ما ليس فيه ما يخالف شرع الله، أمراً سهلاً وغير معقد نسبياً، فالمصالح والمفاسد واضحة والتداخل بينهما قليل بسبب بطء وتيرة التغير والتطور في واقع الناس، بينما الإشكال اليوم هو التداخل غير المسبوق بين المصالح والمفاسد ، فيكاد أن لا توجد مصلحة إلاَّ ومعها مفسدة مصاحبة، ويكاد أن لا توجد مفسدة إلاَّ ومعها مصلحة مصاحبة، وبالجملة فليس هناك مصلحة محضة إلا الجنة؛ وليس هناك مفسدة محضة إلا النار، وما سواها تَعْتَوِره المصالح والمفاسد زيادة ونقصا، كما أن سرعة التغيرات المادية والفكرية في هذا العصر تفوق قدرة الحكومات في استحداث ما يناسب من أنظمة وسياسات وإلغاء غير المناسب منها بالسرعة المطلوبة، بالإضافة إلى ضعف قدرة المجتمعات على تطوير عادات وتقاليد جديدة تحفظ للمجتمع عقيدته وأخلاقه وهويته ومصالحه إزاء تلك الأمور الحادثة وبنفس وتيرتها المتسارعة، فالوقت المتاح لجلب المصلحة في الأعمال قبل أن يتغير محلها فيتغير حكمها أقل بكثير عمَّا كان الأمر عليه قبل مئة سنة على سبيل المثال، فيترتب على ذلك نقص في العمل وزيادة في الحرج والمشقة وكثرة الاختلافات على أمور كانت في السابق محل وفاق، جاء فيما رواه ِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ " يَتَقَارَبُ اَلزَّمَانُ وَيَنْقُصُ اَلْعَمَلُ، وَيُلْقَى اَلشُّحُّ وَتَظْهَرُ اَلْفِتَنُ " .
فالدولة تجد اليوم صعوبة ومشقه في تحصيل التوازن السليم بين المصالح، فمن جهة إذا منع ولي الأمر كل مصلحة لأجل درء المفسدة المصاحبة ضيَّق على الناس، وفي المقابل إذا سمح بكل مفسدة لأجل جلب المصلحة المصاحبة أفسد الناس؛ الأمر الذي جعل الموازنة بين المصالح والمفاسد أكثر تعقيداً ،ويتطلب درجة أعلى من العلم وعدداً أكبر من التخصصات بالإضافة إلى مستوى أعلى من التجربة، ولا يزال وضع الأولويات الحكومية حسب مصالح الرعية محل اختلاف وجهات النظر بين المؤثرين والمتأثرين.
وترتب على ذلك توسيع وتطويل النظر إلى ما تؤول إليه تصرفات الدولة من مصالح ومفاسد إلى مجالات متداخلة أوسع وإلى مدد زمنية أطول لضبط عدم اختلاف المآلات عن المقدمات، وقد نبه الشاطبي إلى اختلاف مآل المصالح والمفاسد عن مقدماتها، فقال: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل المشروع لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تُدْفَع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى دفع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد عذب المذاق ،محمود الغب ، جارٍ على مقاصد الشريعة" .
لذا فالأنظمة التي تُسنّ وفق تقدير المصالح والمفاسد، و لما فيها من عمق التأثير على غالبية الناس وسعته وطول أمده ، لا مناص من النظر الدقيق في مآلها، ، فلا بدَّ من الاحتياط من التضييق على الناس بمنع وصولهم لمصالح مشروعة أو إفساد الناس بتيسير السبل للوصول إلى مفاسد ممنوعة.
و لأجل ذلك ومن هذا المنطلق، يأتي الاهتمام بالسياسة الشرعية للخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - وعلى وجه الخصوص في منهجه في سنّ الأقضية والأنظمة وما يدخل في حكمها وهو محور هذا البحث.
تأصيل المقولة العُمَرية لسنّ الأنظمة:
ولعل من أهم الضوابط الشرعية التي تجدر الإفادة منها للحفاظ على أن يكون في سنّ الأنظمة رفع للحرج عن الناس وتوسعة تكون سبباً لتوفيق الله ،هي ما اشتهر وانتشر عند الناس من أثر ينسب للخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله وهو قوله :
"تُحدَث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور".( )
وغالب من نقل هذا الأثر" تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" نسبه للخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله -، ونسبه آخرون لغيره ومنهم على سبيل المثال ابن قيم الجوزية، وقد نسبه إلى الإمام مالك بن أنس ، قال: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُقْضَى فِي دَهْرِنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا ضُرُوبًا مِنْ الْفُجُورِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي النَّاسِ: تَحْدُثُ لَهُمْ أَقْضِيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ"( ).
ونسبها ابن فرحون إلى عمر بن عبد العزيز، كما جعلها من قول ربيعة الرأي: " وَقَالَ رَبِيعَةُ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ لِمَا يُحْدِثُونَ"( ) ، كم نسبها له أبو الأصبغ عيسى بن سهل، في كتابه الإعلام بنوازل الأحكام
ونسبها أبو الوليد بن رشد لعمر بن عبد العزيز قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور . ا هـ . ( )
وقال: " كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور ". ( )
ونسبها الشاطبي إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: فكذلك نقول: "كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم بل هو محمود ،وصاحبه الذي سنه ممدوح فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟ وقد قال عمر بن عبد العزيز : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور ،وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل.( )
وقد طعن ابن حزم بهذا الأثر، اعتقادا منه أن في هذه المقولة تغييراً لأحكام الشرع لا يمكن أن يصدر عن محيي السنة ومميت البدعة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز فقال: " وأتى بعضهم بعظيمة فقال إن عمر بن عبد العزيز قال: "يحدث للناس أحكام بمقدار ما أحدثوا من الفجور". وتعقبه العلامة أحمد شاكر منكراً عدم القول بتغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال ،ومذكراً بأن استحداث الأقضية مقيد باستحداث الفجور بقوله: " هذه كلمة حكيمة جليلة، لا كما فهم ابن حزم، فإن معناها أن الناس إذا اخترعوا ألواناً من الإثم والفجور والعدوان استحدث لهم حكامهم أنواعاً من العقوبات والأقضية والتعزير – مما جعل الله من سلطان للإمام - بقدر ما ابتدعوا من المفاسد، ليكون زجراً لهم ونكالاً"( ).
وليس المقصود بتغير الزمان الانتقال من سنة إلى أخرى، أو من عقد إلى آخر، أو من قرن إلى آخر، فليس هذا هو المؤثر، وإنما المقصود تغيُّر الإنسان بتغير الزمان، فالمقصود هنا فساد الناس وتغير أخلاق الناس من الصلاح إلى الفساد، ومن الاستقامة إلى الانحراف، ومن الأخوة إلى الأنانية، ومن الرحمة إلى القسوة، فالناس إذا تغيرت أخلاقهم ينبغي أن تتغير الفتوى والأحكام لتتماشى مع هذا التغير.
فتغير الزمان أمر مهم، وهو ما جعل علماء الحنفية يقولون عن الخلاف بين أبي يوسف ومحمد صاحبيْ أبي حنيفة وبين الإمام مؤسس المذهب، وقد خالفاه في نحو ثلث المذهب أو ثلثيْ المذهب كما قيل، قالوا: الاختلاف هنا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان( ).
ولا شك أن الشريعة الإسلامية فيها سعة ومجال للحكام وولاة الأمر لاستحداث أنظمة وقوانين شرعية و إجراءات ومعايير وقرارات وتعليمات لأجل دفع المفاسد ورفعها أو تصحيح المعاملات وتصويبها أو الاحتراز والاحتياط للمآلات والغايات.
قال ابن الأزرق : " إِن التَّوسعَة بهَا على الْحُكَّام لَا تخْتَلف دَلِيل مشروعيتها بل هُوَ شَاهد لَهَا بِالِاعْتِبَارِ على أوضح دلَالَة وَبَينهَا الْقَرَافِيّ من وُجُوه يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان، أَحدهمَا: أَن الْفساد الْمُنْتَشِر بعد الْعَصْر الأول مُوجب لاخْتِلَاف الحكم لَكِن بِحَيْثُ لَا يخرج عَن الشَّرْع بِالْكُلِّيَّةِ دفعا للضَّرَر وَالْفساد. قلت وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز : تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور، زَاد الشَّيْخ عز الدّين: وَأَحْكَام بِقدر مَا يحدثُونَ من السَّيِّئَات والمعاملات والاحتياطات. قَالَ وَهِي على القوانين الأول غير أَن الْأَسْبَاب تَجَدَّدَتْ وَلم تكن فِيمَا سلف قَالَ الْمقري: فَإِذا وجدت وَجب اعْتِبَارهَا.( )
و إننا في هذا العصر نعيش في مجتمعات مكونة من مجموعة منشآت إدارية دائمة التطور والتغير وتسارع في تغير المصالح والمفاسد الأمر الذي يتطلب تغييرا مستمراً للأنظمة والإجراءات والقرارات والتعليمات؛ احتياطا للمصالح ودفعاً أو رفعاً للمفاسد. قال الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله :"قد يكون (تغير الزمان) الموجب لتبديل الأحكام الفقهية الاجتهادية ناشئًا عن فساد الأخلاق، وفقدان الورع، وضعف الوازع، كما يسمونه (فساد الزمان)"."وقد يكون ناشئًا عن حدوث أوضاع تنظيمية، ووسائل مرفقية جديدة، من أوامر قانونية مصلحية، وترتيبات إدارية، وأساليب اقتصادية ونحو ذلك".( )
وكل ذلك داخل في تغير الأحوال الذي يؤدي إلى تغير الأقضية والأنظمة، قال محمد العلوي في معرض كلامة عن الريسوني : إن الريسوني جعل المقولة المشهورة عن عمر بن عبدالعزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور" قاعدة في باب المقاصد، حيث وضح من خلال كتابه أن الفراغ التنظيمي والفقهي في مسألة إدارة الشورى وإدارة الاختلافات السياسية شكّل على الدوام سببا لتحكم منطق القوة والغلبة، بكل ما يعنيه ذلك من فتن وصراعات وتصفيات دموية"، مقدما أربع قواعد لإدارة الشورى، وهي: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور، سد الذرائع، المصالح المرسلة، الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير". ( )
هذا الفراغ التنظيمي والفقهي في مسألة إدارة الشورى وإدارة الاختلافات السياسية جعل الحاجة داعية إلى سنّ أنظمة وفق فقه الدولة والحكم، ويسميها الشيخ محمد رشيد رضا (ت:1354هـ ) - رحمه الله - بالاشتراع الإسلامي والخلافة وحل سياسي يبنى على مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، فقال: "نُرِيد بالاشتراع مَا يعبر عَنهُ عندنَا بالاستنباط وَالِاجْتِهَاد، وَفِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع وَهُوَ وضع الْأَحْكَام الَّتِي تحْتَاج إِلَيْهَا الْحُكُومَة لإِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس وَحفظ الْأَمْن والنظام، وصيانة الْبِلَاد، ومصالح الْأمة وسد ذرائع الْفساد فِيهَا. وَهَذِه الْأَحْكَام تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والمدنية كَمَا قَالَ الإِمَام الْعَادِل عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور. أَي وَغَيره من الْمَفَاسِد والمصالح والمضار وَ الْمَنَافِع. . فالأحكام تخْتَلف وَإِن كَانَ الْغَرَض مِنْهَا وَاحِدًا وَهُوَ مَا ذكرنَا آنِفا من إِقَامَة الْعدْل. . الخ ".( )
و حاصل الأمر أن ثبوت نسبة هذه المقولة للخليفة الْعَادِل عمر بن عبد الْعَزِيز - يرحمه الله – وإن كان فيها نظر، إلا أن اشتهار نسبتها إليه و تلقيها بالقبول والعمل بها من علماء الأمه مما يرجح صواب نسبة هذه المقولة لعمر بن عبدالعزيز ، وليس في قول الإمام مالك - يرحمه الله - :" كان يقال : تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور" وقوله: "قد جاء الحديث: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" إلا ما يثبت أنها قيلت قبل الإمام مالك وأنه عمل بها وجعلها أصلاً كما نقل ذلك الطاهر بن عاشور، قال: " فقد تبعه على جعله أصلاً كثير من العلماء منهم مالك بن أنس، وكذلك ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته" ، و مع ذلك ولأغراض هذا البحث؛ الأهم هو استخدام الخليفة الْعَادِل عمر بن عبد الْعَزِيز - يرحمه الله - لهذه المقولة وبهذا المعنى في سياسته للأمة وإدارته للدولة، وهو ما ظهر ثبوته عنه فيما نقله الفقهاء والمؤرخون وتلقاه علماء الأمة بالقبول .
تقعيد المقولة العمرية في سنّ الأنظمة
هل يمكن لمقولة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" أن تكون قاعدة فقهية أو ضابطًا لسنّ الأقضية - وتقاس عليها الأنظمة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من اختبار مدى انطباق شروط القاعدة الفقهية أو الضابط على هذه المقولة ،وذلك وفق توظيف معيار فضيلة الشيخ يعقوب عبد الوهاب الباحسين في تعريفه للقاعدة الفقهية وبيان أركانها .
تعريف القاعدة الفقهية: تعرف القاعدة الفقهية بأنها " قضية فقهية كلية جزئياتها قضايا كلية " وبالنظر إلى عبارة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور نجد أنها قضية فقهية كلية؛ لكونها قضية مطلقة لعدم بيان كمية الأفراد فيها، وليست جزئية فلم يقل أحد بأن بعض الفجور المستحدث يحدث له أقضية بقدره، وكذلك جزئياتها كلية فالفجور تندرج تحته أنواع شتى تعد من جزئياته، منها على سبيل المثال لا الحصر :الفتن والجرائم والمخالفات، وكل منها قضية كلية يندرج تحتها أصناف كثيرة ومتنوعة غير محصورة ومتجددة، وأيضاً الأقضية يندرج تحتها أنواع شتى تعد من جزئياتها ،ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الأحكام و المراسيم والأنظمة واللوائح والتعليمات، كل منها قضية كلية يندرج تحتها أصناف كثيرة ومتنوعة غير محصورة ومتجددة.
وبناءً على ما تقدم تكون عبارة :"تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" قضية فقهية كلية جزئياتها قضايا كلية.
أركان القاعدة الفقهية: للقاعدة الفقهية ركنان هما الموضوع والمحمول وبالنظر إلى عبارة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور نجد أنها جملة شرطية بدلالة السياق ،فإذا قلنا : إن أحدث الناس فجوراً أُحدثت لهم أقضية بقدره، صارت الجملة شرطية بدلالة الأداة، وبذلك يكون المقدم في هذه الجملة الشرطية هو استحداث الفجور، والتالي هو حدوث الأقضية، ولكي تكون هذه الجملة الشرطية قاعدة فقهية أو ضابطًا لا بد من مطابقة المقدم والتالي لركني القاعدة الفقهية، الموضوع والمحمول، أي أن المعيار يطبق على القضية من جهتين، من جهة كونها شرطية، ومن جهة كونها قضية حملية بالتأويل ، فإذا تطابقت النتيجة كان ذلك المعتمد في الحكم على الجملة الشرطية أنها قاعدة فقهية أو ضابط، وهذا يتطلب صياغة الجملة الشرطية على صورة قضية حملية مثل جملة كل حدوث لفجور يستلزم إحداث أقضية على قدره، بحيث يكون الموضوع هو حدوث الفجور والمحمول هو إحداث الأقضية بقدره.
الركن الأول: الموضوع: وهو المحكوم عليه وهو الفجور كما ورد في عبارة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله ، والفجور هو الذي يحمل عليه الحكم، وشرط التجريد في الموضوع متحقق في هذه العبارة لكون الفجور مجردًا، وذلك لربطه بذوات الصفات المعينة، لا لذواتها وأشخاصها ،بل للمعنى القائم بها مهما اختلف زماناً ومكاناً، وكذلك شرط العموم في الموضوع متحقق في هذه العبارة لكون الفجور شاملاً لجميع أفراد الموضوع الذي ينطبق عليهم معناه، وهذا يفهم من كون موضوع الفجور ومعالجته قضية فقهية كلية جميع جزئياتها قضايا فقهية كلية كما سبق بيانه.
الركن الثاني: المحمول: وهو الحكم المحكوم به على الموضوع ،ويعبر عنه بالمحمول كونه يحمل على الموضوع، وهي الأقضية في عبارة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله، وبواسطتها نثبت أو ننفي وصفاً أو صفاتٍ عن الموضوع.
ويشترط في المحمول أن يكون حكماً شرعياً؛ لذا لا بد أن يكون ذلك الوصف بياناً لحكم شرعي، مثل الأقضية و العقوبات المحدثة، أو لما له صلة بالحكم الشرعي مما تبنى عليه الأحكام الشرعية العملية، مثل الأنظمة واللوائح والمراسيم والتعليمات ، ويدخل في ذلك كل ما يعتمد على قرائن أو أمور خارجية في تعيين الحكم الشرعي بشقيه التكليفي والوضعي مثيل السياسات الإدارية، ويدخل فيها أكثر من نوع متدرج من الأحكام ،ومن أمثلة ذلك تدرج الأنظمة من حيث القوة والإلزام، وهذا نابع من كون القاعدة الفقهية قضية كلية شرعية عملية.
كما يشترط في المحمول أن يكون حكماً باتاً غير متردد فيه، والمراسيم والأنظمة واللوائح والأوامر والتعليمات التي تقاس على مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله ، جميع تلك من الأمور الخارجية في تعيين الحكم الشرعي بشقيه التكليفي والوضعي، وجميعها يراعى فيها بأن تكون صيغتها محكمة جامعة لأفراد المطلوب تناولها في القاعدة، ومانعة من دخول ما لا تتناوله القاعدة، فتكون غير مترددة في الحكم - سواء أكانت آمرة أم مفسرة - بحيث يجزم بالمراد منها فيقع تطبيقها على صورة منتظمة ومتسقه قدر الإمكان.
شروط طبيعة القاعدة وصفتها: ويشترط في طبيعة القاعدة وصفتها أن تكون كلية حمليه موجبة، وسبق بيان وصف وطبيعة مقولة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يرحمه الله "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" أنها قضية فقهية كلية و حملية وبقي أن نبين وصفها بالموجبة.
بالنظر إلى الصياغة الحملية لمقولة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يرحمه الله ، نجد أن حدوث الفجور يستلزم إحداث أقضية بقدره في المقابل؛ لذا فالمحكوم عليه الذي يمثل الموضوع وهو الفجور الحادث يوجب الحكم أو ما يتعين به الحكم، و يمثل المحمول، وهي الأقضية المحدثة، وبذلك يتحقق وصف هذه الصياغة بأنها قضية فقهية كلية حملية موجبة ولكن هل يتحقق هذا الوصف للصياغة الشرطية بدلالة السياق كما هي مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" ؟
الجواب الصحيح هو: نعم ، يتحقق وصف هذه الصياغة الشرطية بدلالة السياق بأنها قضية فقهية كلية حملية موجبة؛ وذلك لمطابقة نتيجة المقدم الذي هو حدوث الفجور في الجملة الشرطية، لنتيجة الموضوع في الجملة الحملية، ويضاف إلى ذلك مطابقة نتيجة التالي الذي هو إحداث الأقضية في الجملة الشرطية بدلالة السياق لنتيجة المحمول في الجملة الحملية، وباجتماع مطابقة نتائج المقدم للموضوع والتالي للمحمول ولكون الربط بين كل منهما واقعاً عقلاً وشرعاً على جميع الأوضاع والأحوال الممكنة الاجتماع بصيغة موجبة، تكون الجملة الشرطية بدلالة السياق التي نقلت عن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - قضية فقهية كلية حملية موجبة.
وبناءً على ما تقدم نخلص إلى أن مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - مكتملة الشروط لأن تكون قاعدة فقهية أو ضابطًا، فإيهما هي ؟
الجواب: بالنظر إلى تعريف الباحسين للضابط بأنه: "كل ما يحصر جزئيات أمر معين" وفي هذا حمل للضابط على معناه اللغوي الدال على الحصر والحبس، فالضابط هو كل ما يحصر ويحبس، سواء أكان بالقضية الكلية – كما هو الحال في مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" – أم بالتعريف ، أو بذكر أقسام الشيء، أو بيان أقسامه أو شروطه أو أسبابه، أو وقته، أو مقداره، وحصرها .
وبالنظر إلى أن مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" نرى أن الأقضية وإن كانت عامة تدخل في جميع أبواب الفقه، إلا إنها خاصة في سنّ الأقضية منه، ونرى أنها وإن كانت عامة تطبق في جميع الأوقات، إلا إنها تبين وقت إحداث الأقضية وتحمله على وقت حدوث الفجور، كما نرى أنها وإن كانت عامة في مقدار وكمية الأقضية، إلا إنها تبين مقدار وكمية الأقضية بحيث تكون حسب مقدار وكمية الفجور، وجميع تلك الصفات ولأجل هذا قد يظن أن مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - ضابطًا أقرب منها لأن تكون قاعدة، بالنظر إليها على أنها قاعدة في باب القضاء، ولكن عند التحقيق نرى أن هذه المقولة وإن كانت تستخدم كقاعدة في باب مخصوص وهو القضاء، أنها زيادة على ذلك صارت قاعدة عامة في تصرفات الولاة على الرعية سواء في سنّ الأنظمة والتنظيمات أو وضع السياسات والإجراءات أو إصدار القرارات ولأوامر، ولا تعارض بين الاعتبارين، فالذي يستخدم هذه المقولة في باب واحد فقط من أبواب الفقه يرجح لديه أنها ضابط وليست قاعدة، والذي يستخدم هذه المقولة في أبواب متعددة من أبواب الفقه يرجح لديه أنها قاعدة وليست ضابطاً، و الذي ترجح لدى البحث حسب استخدام الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – وحسب اتخاذ الفقهاء هذه المقولة أصلاً في شمول الشريعة؛ هو اعتبار هذه المقولة قاعدة فقهية عامة في تصرفات الولاة على الرعية، والله أعلم وبه التوفيق.
وبناءً عليه تكون الوظيفة الأساس لهذه القاعدة الفقهية في سنّ المراسيم والأنظمة واللوائح والأوامر والتعليمات مستمدة من الوظيفة الأساس للقواعد الشرعية، وهي المحافظة على العدل والاعتدال، فأما العدل فهو في أن يكون النظام نفسه ومحل النظام ليس فيه مخالفة لشرع الله عز وجل، والاعتدال هو في أن تكون كمية الأنظمة على قدر الحد اللازم دون زيادة أو نقصان، وفي أن يكون مجال تطبيق الأنظمة بالتساوي بين الناس وحسب الحاجة فقط، وهذا هو معنى وظيفة هذه القاعدة الفقهية في سنّ الأنظمة. يقول الطاهر بن عاشور:" المراد بالانضباط أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه بحيث يكون القدر الصالح منه لأن يعد مقصداً شرعياً قدراً غير مشكك" .
فالقواعد الفقهية تظهر حدود المقاصد الشرعية التي لا تتجاوزها ولا تقصر عنها، وهذه الخاصية سمة بارزة في الشريعة في جميع نواحيها ،ويعبر عنها بعض الباحثين (بالوسطية) أو (التوازن) ، وفي ذلك قال الشاطبي: "الشريعة جارية في التكليف ومقتضاها على الطريق الأوسط الأعدل" .
يجري موضوع المقولة العمرية في كل أبواب الفقه: وإن كانت هذه المقولة العمرية يدرجها بعض العلماء في باب الأقضية إلا أن الأقضية تشمل جميع ما يسنّ من قبل ولاة الأمر سواء المراسيم والأنظمة واللوائح والأوامر والتعليمات والسياسات أو القرارات الإدارية والتنظيمات الصادرة عن الدولة، و هذه التصرفات من ولاة الأمور لها مواضيع تدخل في جميع أبواب الفقه كما سيأتي بيانه؛ لذا فمجال إعمال هذا المقولة أشمل من أن يقيد باب الأقضية كما قد يظن من لفظة (الفجور) و أنها لا تجري في كل أبواب الفقه. فقد يفهم البعض من مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - أنها خاصة بقضايا العرض، أو جرائم الاعتداء على النفس، أو النسب أو نحو ذلك؛ لذكر الفجور فيها، وأنها لا تجري على المراسيم والأنظمة والتنظيمات واللوائح والأوامر والتعليمات التي تصدر عن الإمام. بينما السياق والواقع يمنعان أن يكون الخليفة العادل قد قصد بلفظة (الفجور) باباً معينا من أبواب الفقه ، فالذي يترجح عند الباحث أن الخليفة العادل أراد إرساء قاعدة عامة ،بحيث تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الشرور، وسواءً أكانت هذه الشرور أو الفجور على الأبدان أم الأعراض أو الأموال لتشمل كل مخالفة شرعية حصل احتيال في نوعها ،أو تفنن في طرائقها ووسائلها ،في أي زمان أو مكان، ومن الأدلة على ذلك الآتي:
• أن لفظة (الفجور) في المقولة العمرية لا تزيد عن أن تكون قيداً أغلبياً أو حكاية واقع ، أو قيداً من القيود التي لا مفهوم لها. والقيد الأغلبي، وحكاية الواقع ،والقيد الذي لا مفهوم له، كلها ألفاظ تدل على معنى واحد وهو حكاية الواقع والحال .وبهذا تصبح هذه الجملة العمرية شاملة لكل أبواب الفقه دون استثناء ،وهو أسلوب معروف في لغة العرب والقرآن والسنة ، ومن ذلك قوله :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:130) فأكل الربا أضعافاً مضاعفة قيد أغلبي ؛لأن المرابين كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة وليس معنى ذلك أنه يجوز أكل الربا إذا كان أقل من الضعف، ومثل هذا كثير، وكله من قبيل التعبير عن الشيء بالغالب، أو بحكاية واقعه أو بأهم خصائصه، وعلى هذا تصبح الجملة العمرية قاعدة تشمل جميع ما يمكن أن يُحْدَث من أقضية توازي وتناسب جميع ما يمكن أن يَحْدُث من مخالفات وشرور وفجور.
• أن كلمة (فجور) تدل في اللغة على مطلق العصيان والميل عن الحق. و القضاء أيضاً يطلق في اللغة على الحكم، سواء أكان حكماً قضائياً، أم فتيا، أم غير ذلك. وعمر بن عبدالعزيز – يرحمه الله- لم يكن يستخدم الاصطلاح الفقهي الذي يحصر القضاء في عملية الفصل في الخصومات، بل كان يستخدم إطلاقاً لغوياً واسعاً.
• إن استخدام القضاة لقاعدة فقهية في مجال عملهم القضائي لا يحول القاعدة الفقهية إلى ضابط ولا يجعلها حكراً عليهم ، بل العكس هو الصحيح وهذا من المعاني التي حملت عليها هذه المقولة في الموسوعة الفقهية: " قال ابن عبد الحكم : كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة , وكان يكتفي باليسير إذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه , ولم يكلفه تحقيق البينة , لما يعرف من غشم ( ظلم ) الولاة قبله على الناس , ولقد أنفذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام. وفي ذلك إطلاق ليد صاحب المظالم وتوسعة عليه؛ لمواجهة حالات الضرورات والنوازل والحوادث, وهو ما قصده الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بقوله" : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" وهو ما يقوم به القاضي بالاجتهاد والتحري "، وهذا دليل على توسيع استخدام الخليفة لهذا المقولة خارج استعمال القضاء، إلى أمور الحكم والولاية العامة.
• إن هذا المقولة تندرج تحت مجال تغير الأحكام واستنباط أحكام جديدة على غير سابق مثال، وكلاهما يجريان في جميع أبواب الفقه وفق ضوابط وقواعد شرعية جرى عليها العمل، فهي مرعية وهذه واحدة منها فتجري كمثيلاتها في جميع أبواب الفقه. نقل الزركشي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال : "يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم". وقال أيضاً: " وقال العبادي في فتاويه " : الصدقة أفضل من حج التطوع في قول أبي حنيفة , وهي تحتمل في هذا الزمان . وأفتى الشيخ عز الدين بالقيام للناس , وقال : لو قيل بوجوبه في هذه الأزمنة لما كان بعيدا , وكل ذلك فإنما هو استنباط من قواعد الشرع لا أنه خارج عن الأحكام المشروعة . فاعلم ذلك فإنه عجيب" . وقال النفراوي المالكي : " المجتهد يجوز له إن يجدد أحكاما لم تكن معهودة في زمن النبي ولا في زمن الصحابة بقدر ما يحدثه الناس من الأمور الخارجة عن الشرع, ولكن لو وقعت في زمن النبي أو في زمن الصحابة لحكموا فيها" . ولا يبعد في زمننا هذا أن يقال: أن الصدقة على فقراء المسلمين خير من حج التطوع وعمرة التطوع، وأن مداومة أئمة المساجد في رمضان واستمرارهم في إمامة الناس بصلاة التراويح والاعتكاف في مساجدهم، خيرٌ من تركها والانشغال بعمرة التطوع وترك الناس دون أئمة. وهذا مما يندرج في مجال تغير الأحكام و يجري في جميع أبواب الفقه.
• إن هذه المقولة تندرج تحت قواعد جلب المصالح ودرء المفاسد أو رفعها وهي أمور تجري في جميع أبواب الفقه؛ فتجري هذا المقولة فيما جرى فيه جلب المصالح ودرء المفاسد أو رفعها وهي في جميع أبواب الفقه. قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي : "قال القرافي : واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع , بل تشهد له الأدلة المتقدمة , وتشهد له أيضا القواعد الشرعية من وجوه. أحدها: أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول , ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله :{لا ضرر ولا ضرار} , وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر , ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج . وثانيها : أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء" .
• كما أن مقولة عمر بن عبدالعزيز ترجع إلى فقه الموازنات وهذا الفقه له مدخله في كل الأبواب الفقهية، ذلك أنه قد يقع تزاحم المصالح التي تحتاط لها الأنظمة فيما بينها أو المفاسد التي تدرؤها وترفعها الأنظمة فيما بينها، أو بين المصالح والمفاسد، فيحتاج المنظم إلى تغليب جهة منها، ذلك أنه متى علم المنظم كيف يراعي مصلحة عموم الناس، وكيف يحفظ لهم تَوافقَ مقاصدهم مع مقصد الشارع، وكيف يدفعه عن مناقضة قصد الشارع، وكيف يحفظ مقصدَ الشارع حالَ مخالفةِ مقصدِ المكلفين له، فإنه بذلك يكون قد راعى مآلات الأحكام التي يراد تنزيل – الأنظمة - على وقائعها، وفي ذات الوقت يكون قد حقق الغايات والمقاصد والمرامي التي أرادها الشارع من وضع الشريعة على الجملة.
• إن المقصود بالأقضية في المقولة العمرية هي الأحكام الشرعية ، قال النفراوي: " وقد قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - لأنه من الأئمة الراشدين المقتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم , ففعله وقوله كل منهما حجة، وقوله " تحدث للناس أقضية " جمع قضاء أي أحكام يستنبطها كل مجتهد بحسب اجتهاده" ، والأحكام الشرعية تجري في جميع أبواب الفقه، والأنظمة والتنظيمات و السياسات والإجراءات والقرارات الصحيحة التي تصدر عن ولي الأمر في أمور الدولة والحكم والولاية العامة؛ فتجري هذا المقولة في جميع أبواب الفقه.
• إن القضاء ينظر في جميع الأمور التي يكون فيها خصومة وهي شاملة لجميع أبواب الفقه، ويصدر فيه أقضية تشمل جميع أبواب الفقه؛ وبناءً عليه فالأنظمة والسياسات العامة والقرارات مشمولة في القضاء والأقضية وقد يوضع لها محاكم خاصة على مثال القضاء الإداري الذي ينظر في القرارات الصادرة بموجب أنظمة ولوائح تنفيذية، والمحاكم الدستورية التي تنظر في دستورية الأنظمة والسياسات العامة؛ وجميع ذلك دليل على أن تطبيقات هذه المقولة أوسع من أن يحصر في مجال واحد من مجالات القضاء.
• إن صاحب هذه المقولة التي جعلها على الألسن مشهورة ليس قاضياً، فهو الخليفة الفقيه والحاكم العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - وقد عمل بها،وبها أمر في جميع مجالات الحكم والدولة والولاية العامة، في إلغاء أنظمة وتنظيمات و سياسات وقرارات وإجراءات ،وفي استحداث غيرها أفضل منها وفق ما يقتضيه الحال والزمان والمكان ،وحسب ما يكون الناس فيه أقرب للصلاح والفلاح، وتبعه في ذلك القضاة والفقهاء والأئمة من بعده، قال الطاهر بن عاشور في مقولة عمر بن عبدالعزيز:" فقد تبعه على جعلها – يقصد مقولة عمر بن عبدالعزيز - أصلاً كثير من العلماء منهم مالك بن أنس، وكذلك ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته" .
يرى الباحث أنه لكي يتسنى لولي الأمر المحافظة على رفع الحرج عن الناس والتيسير والتوسعة عليهم بإطلاق المصالح المعتبرة وتقييد المفاسد؛ أنه لا مناص من إعمال هذه المقولة كتصور معرفي موجه لضبط حدّ ومقدار المراسيم والأنظمة واللوائح والأوامر والتعليمات والسياسات أو القرارات الإدارية والتنظيمات الصادرة عن الدولة، وفق ضابط شرعي يعالج المضمون والمحل والاتجاه والنمط .
ومن أهم التصورات المعرفية لهذا المقولة ثلاثة، الأول: جريانه في جميع أبواب الفقه كما سبق بيانه. الثاني: شمول معنى الأقضية المستخدم لجميع القرارات التي تصدر عن الولاة في ولايتهم، فتتدرج من القرار الإداري إلى قرارات التعاميم والإجراءات والسياسات واللوائح والأنظمة والمراسيم. الثالث: شمول معنى الفجور المستخدم لكل ما جاوز الحد المشروع من شرور ومفاسد ؛بحيث لا يستطيع المجتمع معالجتها دون تدخل من سلطان الدولة، والشرور والمفاسد تتدرج ابتداءً من المخالفات الصغيرة، وهي شرور ومفاسد تجاوزت الحد في أمور تحسينية إلى المخالفات المتوسطة وهي شرور ومفاسد تجاوزت الحد في أمور حاجية، وانتهاء بالمخالفات الكبيرة وهي شرور ومفاسد تجاوزت الحد في أمور ضرورية. وجميع ذلك له أحكام فرعية ولوازم واعتبارات مرعية تؤثر وتضبط ما يتحصل به التوسعة على الحاكم والمحكوم ، وهو ما سيأتي بيان بعضه حسب موضوع البحث فيما بعد.
المبحث الثاني: ضوابط المصلحة في سنّ الأنظمة
الأصل في سنّ الأنظمة أنه تصرف على الرعية مبـيّـن لأحكام تقتضيها شريعة قائمة ،والقاعدة المقررة عند العلماء أن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، يراعى فيه حال من تسنّ لهم الأنظمة، وبحسب رفع الحرج عنهم والتيسير عليهم بما يتفق مع عاداتهم ومعاملاتهم وقت سنّ الأنظمة ؛ لذا فضوابط المصلحة لها اعتبار خاص في سنّ الأنظمة، باعتباره من أهم تصرفات ولاة الأمر وفق المصلحة ومن أكثرها تشعباً وأصعبها تقديرا، وتأتي المصلحة في سنّ الأنظمة من جهة أن جميع الأنظمة الأصل فيها أن لا تسنّ إلا للاحتياط للمصالح بإبقائها دون تقييد مع الحرص على تكثيرها رفعاً للحرج وتوسعة على الناس بدرء المفاسد أو رفعها عنهم أو تقليلها، وبناءً على ذلك فحكم سنّ نظام معين وضوابطه يمكن أن تؤخذ من أحكام المصالح في الشريعة وضوابطها وبخاصة أن مقصود المقولة العُمَرية في سنّ الأنظمة هو درء المفسدة ورفعها أو تخفيفها وتقليلها بأعلى قدر من الاحتياط للمصلحة ،أي أن يتم سنّ الأنظمة دون أو بأقل قدر من التقييد للمصالح المعتبرة.
الضابط الأول: عدم مخالفة موضوع النظام ومواده لأحكام الشريعة:
ويقصد بالضابط الأول التأكد من أن سنّ نظام معين ليس فيه مخالفة للشريعة ، وذلك بأن يكون سنّ النظام في النطاق المشروع الذي جعلت الشريعة للإمام حق التصرف فيه بسياسته واجتهاده، كأن يكون متعلقا بشؤون الدولة الخاصة بها كالشؤون الإدارية والمالية والأمنية والوظيفية، أو كتحديد أساليب ووسائل معيّنة لتنفيذ ما أنيط بالدولة ﴾(الإسراء) قال:" اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يحل محل النظام الشرعي، وهو الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض ، وبين النظام الإداري الذي يقصد فيه رفع المفاسد والاحتياط للمصالح المعتبرة. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم . وقد عمل عمر من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي . ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر ... وكاشترائه أعني عمر دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به . كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع . فهذا النوع من الأنظمة الاجتهادية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة" .
ويفهم من قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أن مقصوده بالنظام الإداري الأنظمة أو التنظيمات الاجتهادية التي محلها صالح لدخول النظام عليه من جهة والتي لا يترتب على العمل بها مخالفة لشرع الله، ويأتي هذا في مقابل الأنظمة الوضعية التي تزيل شرع الله وتحل محله، قال - رحمه الله -: "وأما النظام الوضعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض . كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك. فتحكيم هذا النوع من النظام – الذي يزيل شرع الله ويحل محله - في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها - سبحانه وتعالى - عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً " .
والطريق الوقائي لسنّ الأنظمة وفق الشريعة: وهو أن تعرض مشروعات القوانين الجديدة على لجنة شرعية لإبداء الرأي في مطابقتها للشريعة.والطريق العلاجي للأنظمة المخالفة للشريعة:وهو الطعن في الأنظمة النافذة متى كانت مخالفة للشريعة . وعلى هذا فالذي يتولى عملية التدقيق الفقهي للأنظمة في الدولة الإسلامية حسب التخصص والمعايير المهنية هم المجتهدون وأهل الفتيا ،وهم مجموعة يرجع إليهم في فهم نصوص القانون الأساس الإلهي وتطبيقه ،وفي تشريع الأحكام لما يحدث من الأقضية والحوادث وما يطرأ من المصالح والحاجات .
الضابط الثاني: عدم تفويت النظام لمصلحة أفضل من التي يحتاط لها:
التفريق بين الأكثر والأقل يقصد به تحصيل الأكثر و ترك الأقل، لذا فطلب عدم التفويت يقصد به التكثير. ووظيفة هذا الضابط : منع تقليل المنافع وطلب تكثيرها بما يكفل التيسير على الناس بالاحتياط لمصالحهم المشروعة ؛بأن تبقى مطلقة دون تقييد قدر الإمكان ،وهذا يقتضي أن يكون تحصيل المنافع على وجه يؤدي إلى تكثيرها قال العز بن عبدالسلام: "يتصرف الولاة ونوابهم بما هو أصلح للمولّى عليه درءًا للضرر والفساد وجلباً للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم"( ).
وتصرف الوالي على الرعية كتصرف الولي على اليتيم ، ذكر الزركشي في معرض شرحه قاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، قال: "قد نص عليها الإمام الشافعي - رحمه الله -: ونقل عنه قوله: منزلة الوالي من الرعية : منزلة الولي من اليتيم" .وقال السيوطي تتمة لقول الشافعي - رحمه الله -:: وأصل ذلك : ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه ،قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق , عن البراء بن عازب قال : قال عمر :" إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم , إن احتجت أخذت منه- يعني قدر الحاجة- فإذا أيسرت رددته فإن استغنيت استعففت " . وذكر الجمل في حاشيته: أنه يصح وقف الإمام أراضي ببيت المال على جهة ومعين على المنقول المعمول له بشرط ظهور المصلحة في ذلك إذ تصرفه منوط بالمصلحة كولي اليتيم" ، فالذي يصار إليه في كل ما يصدر عن الإمام هو الاحتياط للمصالح بإطلاقها وتكثيرها قال التفتازاني( ): "تكثير الفائدة مما يرجح المصير إليه"( ).
ومن تكثير الفائدة التي يرجح المصير إليه استحداث المرغبات في الخير بقدر ما يحدث للناس من الفتور ،وعلى سبيل المثال لا الحصر جميع الأنظمة الصادرة للاحتياط للعبادات من جهة الترغيب في أدائها وعدم الإخلال بها فتسنّ للناس أنظمة لِتُحْدِث لهم مرغبات في العبادات ومحفزات بقدر ما حدث لهم من الفتور( )، ومن الأمثلة على ذلك إقفال المحلات التجارية في أوقات الصلاة، وما في ذلك من معاونة على الخير والتشجيع عليه وتوفير البيئة والوقت المحفز له، وصرف مكافأة مالية لمن يدل على وقف مجهول، وسقوط العقوبة لمن دل على جريمة قبل وقوعها وتعاون مع السلطة التنفيذية، وجميع تلك تعد من المرغِّبَات التي تساعد على الطاعة والامتثال، وقال الشاطبي: " كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور "( ).
الضابط الثالث: عدم إحداث النظام مفسدة مساوية للمصلحة التي يحتاط لها أو أكبر منها:
وظيفة هذا الضابط هو اختبار جدوى مآل سنّ النظام المعين هل يحقق مصلحة أو لا ؟ والمراد في المآل: هو أن يأخذ سنّ النظام حكماً يتفق مع ما يؤول إليه سواء أكان القائم على سنّ النظام يقصد ذلك الذي آل إليه أثر النظام أم لا يقصده، فإذا كان النظام يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو منهي عنه ( ).
فلا يحكم على سنّ نظام معين بالصحة أو الفساد إلا بعد النظر إلى ما يؤول إليه العمل بالنظام فقد يكون مشروعاً لمصلحة يحتاط لأجلها أو لمفسدة تدرأ أو ترفع أو تخـفَّف ، ولكن له مآل ونتائج على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، وتزيد أهمية تقدير مآل سنّ الأنظمة عمَّا سواها من سياسات أو قرارات إدارية ، حيث إن النظام أوسع انتشارا وأدوم تأثيرا وأعمق أثرا، لذا فنتائجه غير المقصودة أكثر وأكبر ،الأمر الذي يوجب النظر في تقدير المآل الأبعد والأعم لكل نظام يسنّ قبل الحكم عليه بالصحة والفساد.
والواقع أن نتائج سنّ أي نظام تنقسم إلى مقصودة وغير مقصودة، وهما ينقسمان إلى نتائج مباشرة وغير مباشرة، فما كان منها مندرجاً تحت النتائج المقصودة فينتهي إلى نتائج وفق التوقع، وهي دائماً مؤكدة للمقصود أو نتائج على خلاف التوقع تأتي تارةً مؤكدة للمقصود وتارةً أخرى معارضة للمقصود، أما ما كان مندرجاً تحت النتائج غير المقصودة فإما أن يكون مؤكداً للقصد أو معارضاً له، ولا بد قبل سنّ النظام النظر في جميع الاحتمالات المذكورة السابقة ثم تقدير ما كان منها معارضاً لتحقيق المقصود وطرحه مما كان وفق المقصود، فإما أن يتساويا فتكون النتيجة صفراً، وهذا يعني أن تحصيل المنفعة يؤدي إلى مفسدة مساوية للمنفعة ،فيكون حكم سنّ النظام أن يُدرأ وتُسد الذريعة له ؛عملاً بالقاعدة الفقهية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"( ) أو تزيد المنفعة عن المفسدة فتكون النتيجة موجبة، وهذا يعني أن في سنّ النظام مصلحة راجحة، أو تزيد المفسدة عن المصلحة فتكون النتيجة سالبة، وهذا يعني أن سنّ النظام يؤدي إلى إحداث مفسدة تزيد عن المنفعة فيكون حكمها أن تسد ذريعتها.
ولا يمكن أن يحكم على نظام معين بمجرد النظر في مواده وموضوعه ومحله دون النظر إلى أثره ونتائجه المتوقعة ، والنظر إلى محصلة العمل به، على سبيل التقدير قبل صدوره والتقويم بعد العمل به.
ولا يعني ذلك أن تقدير النتائج المقصودة والنتائج غير المقصودة يحدث دائماً في وقت واحد، فالغالب أن تقدير النتائج المقصودة يحدث أثناء البدء بسنّ الأنظمة وتحصيلها ، أما تقدير النتائج غير المقصودة فيحدث غالباً بعد سنّ النظام وبعد العمل به وأحياناً يحدث أثناءه؛ لذا فالغالب تعلقه بحكم استمرار تحصيل لمنفعة العمل بالنظام، وليس حكم إنشائها لفوات وقته.
وعند النظر إلى مجموعة العوامل التي وردت في هذه الفقرة وهي كل من: المآل المتوقع وغير المتوقع، وجلب المصالح، وسد الذرائع، وفتح الذرائع نجد أن للجميع نسقاً معيناً لا يدرك بالنظرة الأولى، وهي أن حركة العمل والواقع يغيران في المآل مع استمرار الزمن، حتى تتحول المصلحة إلى غيرها، سواء بالجلب المباشر، أو بفتح ذريعة لمصلحة، أو بسد ذريعة لمفسدة، ويمكن اعتبار كل واحدة منهما سياسة لجلب المصالح.
فلا يمكن أن تأتي النتائج مطابقة للتوقعات؛ لذا فكل عملية سنّ أنظمة لا بد أن يستمر تقويمها حتى بعد إصدار النظام وتطبيقه والاستمرار في التقويم إلى أن يستقر النظام وتعرف آثاره المجهولة ،ويعرف متى تضعف وتنخفض مصلحته إلى أن تنتهي أو تتحول إلى مفسدة مع تغير الزمان والحال ليتم تعديله أو إلغاؤه، وتلك سمة أن تقدر الأنظمة بقدرها فتمنع الجمود والتحجر. والحاصل نتيجة لذلك هو أنه لا توجد سياسة متعمدة صرفة أو سياسة ناشئة صرفة، فالغالب أن السياسات مركبة( ) .
ولـمَّا كان الكثير من النوازل المعاصرة تبنى أحكامها على أصل الإباحة مع عدم وجود المعارض، و الضابط الثاني من ضوابط المصلحة "عدم تفويت النظام لمصلحة أفضل من المصلحة يحتاط لها" والضابط الثالث" عدم إحداث جلب المصلحة لمفسدة مساوية لها أو أكبر منها " هما من ضوابط اعتبار عدم وجود المعارض بعد ثبوت الأصل وهو الإباحة ، ويلاحظ أن أكثر من تجرأ على الفتوى في الأمور العامة وميَّع تطبيق الشريعة كان بناءً على ما توهم أنه مصلحة معتبرة من جهة أن الأصل الإباحة مع عدم العلم بالمعارض، فوضعوا لأنفسهم قواعد لعدم العلم بالمعارض تفضي إلى انتقائية في استحداث أحكام مبنية على شهوات أو شبهات وليست مبنية على مصالح و ضوابط.
ولا يجوز ترك الاجتهاد أو التقصير في إعمال ضوابط المصلحة لرفع الحرج عن الرعية والتيسير عليهم وبخاصة متى تعلق الأمر باستحداث الأنظمة والتنظيمات؛ لكون ذلك من تصرفات ولي الأمر المنوطة بالمصلحة، والتي يجيء الاحتياط لها سبباً لسنّ الأنظمة والتنظيمات، فلا بد من بذل الوسع، والاجتهاد في جعل الأنظمة مُطلِقة للمصالح مُقيِّدة للمفاسد بما لا يخالف الشريعة، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه للقادر عليه المكلف به يعد إعراضاً وتقصيراً منه في الاجتهاد عمَّا قام به سبب وجوبه عليه وتعين، بناءً على القاعدة الفقهية " الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود" فدون ذلك تتعطل الأحكام وتتهم الشريعة، قال السرخسي (ت438هـ) في القاضي لا يجتهد:" فإن لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن إني أرى ، وإني أخاف، وفيه دليل على أن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه ، وأنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ؛ فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص، ينبغي له أن لا يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه ، ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله: "فإن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى مالا يريبك" ، وهذا اللفظ المروي عنه فيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدٍ لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده ، أو أخطأ وهو ما نقل عن أبي حنيفة - رحمه الله - كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء ، وقد يخطئ انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ، ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه " .
الأنظمة التي تعتبر صحيحة في الشريعة هي الأنظمة التي توفرت أركانها وشروطها وانتفت موانعها، وهو عمل ضوابط المصلحة في سنّ الأنظمة، فالضابط الأول يختبر توفر الأركان والضابط الثاني يختبر توفر الشروط، والضابط الثالث يختبر إنتفاء الموانع، ومتى تحقق للنظام جميع ذلك يكون تصرف الوالي في تقدير المصلحة التي يحتاط لها النظام صحيحاً ومشروعاً.
المبحث الثالث : تقييد المباح وتحرير مشروعية الأنظمة
تقييد المباح
الأصل في الأنظمة التي تأتي على وفق الاحتياط للمصلحة أن تكون داخل دائرة المباح فعله، فالمصالح المعتبرة كدليل مشروعية ذات حدَّين، حدّ متعلق بتصرفات الإمام و حدّ متعلق في المتصرَّفِ فيه، فهي من جهةٍ أساسٌ يستند إليه ولي الأمر في تقييد المباح، وهي من الجهة الأخرى ضابط يستند إليه ولي الأمر في عدم تجاوز ما يباح له فعله .
وقد عبر بعض الكتاب المعاصرين عن تقييد المباح باصطلاحات متعددة منها: " إيقاف العمل المباح " و " منع المباح " و " تقييد المباح " و " تعطيل المباح " و " الامتناع عن المباح " وجميعها تتفق في المعنى الذي هو ترجيح أحد طرفي الإباحة؛ حيث إن المباح ليس مباحاً بإطلاق؛ لأن تناوله أو الإحجام عنه تتعلق به حقوق الآخرين، ولا بد من مراعاتها، مما يستوجب منع المباح تارة والأمر به تارة أخرى بحسب ما يؤول إليه التناول أو الإحجام بحسب الحال والمكان والزمان. وهذا المنع أو الأمر، ليس على سبيل الدوام فهو مؤقت باستمرار الحاجة أو الضرورة الداعية لترجيح أحد طرفي الإباحة، وهكذا فإن تقييد المباح هو ترجيح بعض الخيارات لأسباب معقولة ومؤقتة على سبيل الأمر أو الحث ما لم يوجد مانع شرعي من نص خاص أو قاعدة كلية أو ضابط.
و بذلك يدخل في دائرة المباح تغير الأحكام بتغير الحال والمكان والزمان وفق ضوابط التغير الشرعية، فعندما يتخلف مقصود الحكم الشرعي عنه، سواء المندوب أو الواجب أو المكروه أو المحرم، لزم ولي الأمر وهو المنوط به بحكم الولاية العامة صيانة تحقيق المقاصد الشرعية الخمسة ورعايتها وأعلاها حفظ الدين، بأن يتدخل بتصرف يعيد تحقيق المقصود الشرعي من الحكم.
وهذا التصرف من قِبل ولي الأمر يعد من أمور السياسة الشرعية؛ فولي الأمر وهو يقيد الإباحة لا يقيدها بالهوى والتشهي، بل بالنظر والاحتياط المشروع والسبيل الأجود لمصلحة الرعية؛ ولذا لا بد أن يلاحظ مدى مشروعية تناولها، من خلال موافقة قصد المكلف في التناول لقصد الشارع في التشريع، فإذا وافقها كان استعماله مشروعاً بل ربما مطلوباً فعله، وإن كان على خلاف ذلك كان مطلوب الترك . وليس في ذلك أي تغيير للأحكام الشرعية، فهما خارج نطاق التخيير، ولا بد من الامتثال للشرع ، فتسن الأنظمة للأمر باللازم في الواجبات والحث عليها واستحداث المرغبات لها، وعقوبة تاركها وللأمر باللازم في ترك المحرمات والتحذير منها وعقوبة فاعلها؛ قال الشاطبي: " ومن كلامه – يقصد عمر بن عبدالعزيز - الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا ، وهو أن قال : " سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه ، من عمل بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا "،وبحق ما كان يعجبهم; فإنه كلام مختصر ، جمع أصولا حسنة من السنة " . وبناءً عليه يكون حمل مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، على مقتضى الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز : أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله وسلم ، لقوله : " الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله "، وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع ، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أصولا حسنة وفوائد مهمة، وهو قول الشاطبي .
إلا أنّ هذا المباح ليس مطلقا في كل مباح ،بل هو فقط فيما جعل للإمام حقّ التصرّف فيه بالمصلحة المعتبرة، وفي كل أمر هو من اختصاصه ،وضمن مسؤوليته، بحيث يباح له فعله ، فيخرج بذلك جميع المباحات التي ليست من اختصاصه ،ومنها على سبيل المثال خصوصيات الناس ، فلا يحقّ للإمام أن يلزم الناس بشرب القهوة دون الشاي، أو شخصاً بزواج فلانة دون علانة أو مثل ذلك.
والدليل على تقييد المباح لمصلحة معتبرة من فعله حيث نهى عن ادخار لحوم الأضاحي وعلل ذلك؛ لأجل الدَّافة وهم الأعراب يفدون المدينة ثم أذن في ذلك فقال :"ألا فكلوا وتصدقوا وادخروا" ، ومن فعل الصحابة منع سيدنا عمر بن الخطاب بعض الصحابة من السفر خارج المدينة فقد كان يرى جواز منع بعض الأشخاص من السفر؛ لحاجته إلى استشارتهم في الملمات والنوازل، وذلك لاحتياج الأمة لهم وحرصه عليهم حيث يخشى بذهابهم فقدان البديل لهم وخاصة بعد مقتلة القراء، وكذلك لدرء بعض المفاسد التي تنتج من انتشارهم في البلاد، كظهور التعصب بين الناس للصحابي المقيم في مدينته في مقابل باقي الصحابة مما يبث الأحزاب والفرق بين المسلمين ، و للمكلف أن يمنع نفسه من بعض أفراد المباح متى دعت الحاجة إليه، وليس له أن يمنع نفسه من جنس المباح ، فإذا لم يجز ذلك للمكلف فهو من باب أولى غير جائز للإمام؛ فليس له أن يسنّ نظاماً أو أمراً أو غير ذلك مما من شأنه أن يمنع جنس مصلحة على عموم المكلفين، بل له فقط أن يمنع الفرد من أفراد المصالح ، ذلك أن جنس المصلحة متى ثبت بالدليل الشرعي لم يصح منع جنسه بأي حال، فقدْ أخرجَ الإمامُ البخاريُّ في :"صحيحه" بسندهِ عنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ): أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (فلا يصح أن يأتي تقييد المباح على سبيل النسخ بإبطال حكم سابق بحكم لاحق؛ فذلك من اختصاصه وانقطع النسخ بانقطاع الوحي بوفاته ، و أما منع الفرد من أفراد المباح في حالة معيّنة، ولوقت معيّن، فجائز.
ولما أن من طبيعة الأنظمة تقييد ما تدخل عليه؛ فكل نظام يسنّ لا بد أن يقيِّد شيئاً من المباحات ، ثم إن تقييد المباح بالأنظمة والسياسات والقرارات يعد من أعمال السياسية الشرعية التي يقوم بها ولاة الأمر، فهي إجراء مؤقت تدعو له الضرورات أو الحاجات، من أجل المحافظة على قصد المباح إذا تعرض للنسيان أو التناسي، أو عارضتها عادات أو ممارسات تعود على المباح بالنقض، ولا سيما متى تعلق المباح بحق الآخرين؛ إذ الأصل في مشروعيتها اعتبار حقوق الآخرين؛ وبزوال سبب المشروعية ترفع الإباحة ، وهو من أنواع العمل بمبدأ أن للإمام تقييد المباح عند من يقرره من أهل العلم لمصلحة عامة لا خاصة، ويقصد بها اختيار الإمام أحد أفراد المباح الذي جاز فعله أو تركه أصلا مع إلزام الناس بهذا الاختيار سواء بمنعهم من الفعل أو بإلزامهم به، وهذه المباحات وإن كانت مساحة تقبل التوجيه نحو الخير أو نحو الشر حسب إرادة المتناول لها، فإن الله لم يقصد بها إلا الخير؛ ولهذا فإن كل تصرف في المباح بما يحقق المقاصد الشرعية من جعلها مباحة يعد من مظاهر النهوض بمسؤولية خلافة الإنسان في الأرض ومن باب أولى خلافة الحكَّام على الناس.
وعلى الجملة فالمباح – كغيره من الأفعال – له أركان وشروط وموانع ولواحق تراعى؛ والترك في هذا كله كالفعل، فترك الفعل فعل. فكما أنه إذا تسبب الفرد للفعل كان مسؤولاً عن تسببه ، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسؤولاً عنه، فالمسؤولية تنفي الإطلاق في التصرف، وتقيد الحرية بما يؤول إليه التناول ، وعلى هذا يجوز لولي الأمر – وقد يجب – التدخل لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المباح ومنع الضرر أو الحرج المترتب على تناوله. إما بمنع الناس مما يرى أن في عدم تقييد إباحته ضرراً بالمجتمع، أو إيجاب ما يرى أن في الأمر به دفعا لمفسدة أو جلبا لمصلحة لعموم الناس، أو وضع طريقة مفصلة لتناول المباح، تذهب مفاسد التناول وتحول دون إساءة الاستخدام، وما يتخذه ولي الأمر من إجراءات في سبيل ذلك يكون ملزماً واجب الطاعة ، فكل تقييد لمباح يحقق مصلحة عامة معتبرة، اختاره الإمام والتزمه في سنّ الأنظمة أو إصدار الأوامر والتعليمات وغيرها من الوسائل الإدارية وجب على الأمة أن تطيعه فيه.
ومن الأمثلة على ذلك إعادة تنظيم الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - للجانب الإجرائي في رد المظالم إلى أهلها، فرفع جميع القيود والشروط التي أضافها من سبقوه من الولاة لإثبات المظلوم لمظلمته، ثم خفف ما تبقى منها، بحيث يكون جانب الاحتياط باتجاه عدم تفويت مصلحة المتظلم، وذلك بالتيسير وعدم التشدد في طلب البينة القاطعة من المتظلمين في زمن كثر فيه غشم الولاة، فكان يكتفي بأيسر من ذلك إذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة ، عملا بقاعدة إذا "ضاق الأمر اتسع" ، فمتى كان الخصم أحد الجهات الحكومية أو المسؤولين فيها؛ فقد تكون بينة المتظلم من المتعذر تحصيلها وذلك لوجودها لدى خصمه كما هو الحال في غالب التظلمات من تصرفات أو إجراءات الجهات الحكومية والعامة أو المتعلقة بعقود الإذعان، فيتعسر على المتظلمين الحصول على البينة فيضيق بهم الحال ويقع بهم الحرج الكثير، فبعض التراتيب الإدارية قد تؤدي إلى تعثر العمل الحكومي وامتناع المحاسبة على التقصير؛ لذا ينبغي ألا يقام نظام الحكومة على ضوابط ملتوية يعز على القائمين بالأمر أن يقوموا به وعلى المحاسبين أن يحاسبوا ويعيّنوا من جاء منه الخلل والفساد .
ولأجل ذلك ، أوسع عمر على الناس بتخفيف شروط البينة الكافية لإصدار قراره في المظلمة لرفع مفسدة قطع البينة عن صاحبها و الاحتياط لحقوق الناس ومراعاة فارق الحال بين الخصمين وتعظيم فرص ومصلحة رد الحقوق إلى أهلها.
فولي الأمر الإمام الأكبر هو المخول بسنّ الأنظمة التي تقيد المباح، وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة السمحة. و لكن مع ذلك يبقى موقف تحديد المساحة الحرة وتقييدها موقفاً صعباً وحرجاً ودقيقاً على الإنسان غير المعصوم،والتريث في هذا الأمر وعدم الاستعجال فيه من الإحسان؛ لأن ما زاد عمَّا يقتضيه الحال من درء أو رفع لمفسدة أو تخفيفها، أو من جلب لمصلحة وتكثيرها يعد تجاوزاً للحد المشروع وتجاوز الحد غير مشروع، وبخاصة أن تلك الأمور يصعب على عامة الناس في أكثر أحوالهم إدراك كامل الأمر ولا يرون سوى الجزء اليسير المتعلق بمصالحهم الشخصية، قال الخليفة الفاروق لما حمى الربذة : " وأيم الله إنهم – أهل الربذة – ليرون أني ظلمتهم، أنها بلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عنهم من بلادهم شبراً "، فتأكيده الكلام بالقسم مؤذن بأن لهم شبهة قوية ناتجة عن نظرة جزئية في أن الخليفة ظلمهم وحاشاه من ذلك والحاصل أنه قد يترتب على الحاكم تكلفة سياسية حتى في احتياطه للتوسعة على عموم المسلمين .
والحريات تتسع بمقدار اتساع الأنظمة كيفاً، والإقلال منها كماً، وتتسع الأنظمة وتقل كميتها بمقدار ما يجعل الناس في تناولهم للمصالح التي يحتاط لها النظام والمفاسد التي يقيدها؛ موافقة لمقاصد الشارع من التشريع ثم بحسب نمو أسباب التمدن والشعور بالمسؤولية، وبذلك يتأكد أن تقييد المباح بالأنظمة وما يدخل في حكمها ليس إلا تدبيراً سياسياً شرعياً مؤقتا يحفظ المجتمع والدولة من أسباب الفرقة و الضعف و الانحلال .
والأصل التأقيت في تقييد المباح؛ لأن التقييد السلبي والإيجابي الذي يترتب على سنّ الأنظمة عمل اجتهادي يهدف إلى جلب مصلحة ودفع مضرة؛ لذا فهو أمر عارض أصل الإباحة فيزول بزوال مبرراته، أضف إلى ذلك أن كثرة تقييد المباح بتبني الإمام لأحكام اجتهادية لتصدر الأنظمة على وفقها سيؤدي إلى تقييد الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي صدر فيها النظام، وفي ذلك إضعاف لفكر ونظر المعنيين بتطبيق النظام .وقد ناقش ابن القيم هذه المسألة وبين أن التقييدات تصرفات سياسية صادرة عن الخلفاء ساسوا بها الأمة ثم تساءل في سبيل إثبات تعلقها بالمصالح المتغيرة فقال:" هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً " ، وقد أجاب ابن عاشور عن هذ التساؤل فبين أن ذلك موكول لنظر المجتهد سداً وفتحا، بأن يراقبوا مدة اشتمال الفعل على عارض فساد فيمنعوه، فإذا ارتفع عارض الفساد أرجعوا الفعل إلى حكمه الأصلي ، ويأتي كلام ابن القيم وابن عاشور مقتضياً التوسعة و الموافقة لمقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، فأما التوسيع فمن جهة دخول السياسات التي يحدثها الخلفاء في قول عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - " تحدث للناس أقضية "، ودخول الفساد في قوله " ما أحدثوا من الفجور "، و إشارة ابن القيم إلى سياسة تقييد المباح أنها من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً، وتصريح ابن عاشور بمراقبة مدة اشتمال الفعل للفساد العارض يأتي على سبيل الموافقة لقول عمر: "بقدر".
و الأصل في الأنظمة أن تكون مؤقته وجواز تدخل الدولة بالمنع والإلزام مشروط بأن يكون مؤقتاً في الأفعال التي الأصل فيها عدم إيجابها على الرعية أو عدم منعهم من إتيانها، وعلى أن يكون التدخل في أحوال مخصوصة فقط" ، والتأقيت المقصود هنا لا يحدد بزمن معين، وإنما بقاء العمل بالنظام ببقاء ما يبرره وبقاء أمر ولي الأمر به، وذلك – بحساب الزمن – قد يطول وقد يقصر والمحدد لذلك طبيعة العارض، ومن ثم يكون من المهم تحديد مدى العارض زمناً ووقتا، وهذا صراط دقيق لا غنى عنه لمن تصدى لمهمة الإفتاء، ومن باب أولى يتأكد لمن تصدَّر مسؤولية الحكم وما يقتضيه ذلك من اجتهاد في سياسة أمر الناس.
فتقييد المباح بسنّ الأنظمة ليس أمراً يكثر استخدامه في إطار السنة المالية الواحدة التي تعمل بها الدول اليوم وليس من الأمور الاعتيادية؛ لذا فسن الأنظمة يعد تدبيراً سياسياً استثنائياً، استدعاه الواقع المتغير بتغير الضرورات والحاجات، وهذا يكشف عن لزوم حضور الواقع في فكر ولاة الأمر، ولزوم متابعة مدى التزام الناس في إتيان مصالحهم وفق الأنظمة على الوجه المشروع للتصرف في المباحات، كما يكشف عن المرونة التي تتجلى في الشريعة من خلال مراعاة إلغاء النظام و العودة إلى أصل الإباحة بزوال مصلحة تقييدها ، لكي لا تتراكم الأنظمة فتشق على الناس وتوقعهم في حرج، دون مصلحة تعود لهم أو للدولة جراء ذلك.
وبناءً على ما تقدم، يكون تقييد المباح احتياطا للمصالح المعتبرة بإطلاقها وتكثيرها ومنع دخول المفاسد عليها، وهذا عند التحقيق أحد أدوات وإجراءات مراعاة تغير وسائل وطرق المصالح المعتبرة بتغير وسائلها وطرقها المعاصرة بحيث تؤول المصالح والأنظمة المرعية إلى صيانة الشريعة وتجديد العمل بثوابت هذا الدين الحنيف وحمايتها بكل وسيلة مشروعة. مع التأكيد على أن تدخل الدولة إنما أبيح لإقرار الشرع له وليس نابعاً عن مجرد تصور الدولة للمصلحة العامة أو مسايرة للرأي العام أو غير ذلك .
و من الأمثلة على تغير الطريق إلى مصلحة التعليم الشرعي، ما نقل عن تغير موقف علماء الأمة من كراهية تدوين العلم الشرعي في كتب؛ لأجل سد الذريعة إلى مفسدة، وهي كما نقل الشاطبي في كتابه الاعتصام " الخوف من الاتكال على الكتب استغناء بها عن الحفظ والتحصيل ، وإما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة" إلى أن قرر الشاطبي: "اتفاق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر ، وقل المجتهدون في التحصيل ، فخافوا على الدين الدروس جملة" ، ويمثل الخوف على انقطاع العلم جملة انقطاع الطريق إلى المصلحة والذي ترتب عليه حدوث مفسدة واقعة وكانت تلك مقابل سد الذريعة لأجل مفسدة متوقعة.
ويؤكد هذا المعنى قول اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه ، وخرَّج عليه الإجارة على كتبه ، وحكى الخلاف ، وقال : " لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز؛ لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت ، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب، قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب ، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ، ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا ، فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال: لا .فهذا كان شأن الناس ، فلو سار الناس لسيرتهم ، لضاع العلم ، ولم يكن بيننا منه إلا رسمه ، وهكذا الناس اليوم يقرءون كتبهم ، ثم هم في التقصير على ما هم عليه."
انتهى الشاطبي إلى ما قاله اللخمي وفرّق بين المحدثات التي لها وجه صحيح وهي ليست مذمومة لتحدث لها أقضية أو أنظمة وبين المحدثات التي ليس لها وجه صحيح فتكون مذمومة تستدعي إحداث أقضية أو أنظمة ،واستدل على ذلك بمقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله -.
قال الشاطبي: "وفيه – يقصد كلام اللخمي - إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم ; لأن له وجها صحيحا ، فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح; فليس بمذموم ، بل هو محمود ، وصاحبه الذي سنه ممدوح ، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟ وقد قال عمر بن عبد العزيز : " تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور " ، فأجاز كما ترى إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور ، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل " .
تحرير مشروعية الأنظمة
معضلة الأنظمة
المشكلة الأساس لكثير من الدول الإسلامية اليوم تكمن في التنافس الواضح بين مصدريْن متناقضيْن للسلطة النظامية والقانونية، التالي منها يصدر عن الدولة وغيرها من الجهات السياسية الأخرى،والأول منها يصدر عن الشريعة الإسلامية، التي كانت هي المصدر الوحيد للسلطة المهيمنة لأكثر من ألف عام ولا مثيل لها ، في حين لم يظهر تقديم وإظهار الدولة كمصدر رسمي للسلطة إلا خلال القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الهجرييْن ، ومنذ أن تردد مصدر السلطة بين الاثنين حدث شرخ قانوني وسياسي أنتج موجة غير مسبوقة من الأزمات في المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء العالم،وبخاصة تلك التي كانت مرتبطةً ارتباطا وثيقا بالدولة القومية ؛ فقد صيغ هذا القانون من قبل موظفي الدولة- البيروقراطية الرسمية -، وعلى أيدي الصفوة في المجتمع من القانونيين المهنيين، وبذلك أصبح القانون وجميع توابعه إحدى المؤسسات الحكومية، وكانت آثار هذه القفزة المفاجئة والهائلة عديدة ، وواحد منها فقط هي أزمة الشرعية السياسية ، والتي نتجت عن الهدم المنهجي للسلطة التنظيمية والقضائية المستندة إلى تحكيم الشريعة ، الأمر الذى يعد من مظاهر فشل الحكومات في استحداث الأقضية والأنظمة والتنظيمات، بما يتفق مع مصالح الرعية وفق المقاصد الشرعية للحكومة الإسلامية وتعطيلِ تطويرها على الوجه المشروع.
ويعد حل هذه المعضلة في علم الدستور الوضعي غايةً وهدف دولة القانون. بينما هذه المشكلة غير موجودة في دولة الشريعة، فطبيعة السلطة السياسية من المنظور الإسلامي تنفرد وتتميز عن السلطة السياسية الوضعية من زاويتين:
من حيث الهدف الذي وضعت لتحقيقه، وهو: سياسة الدُّنيا بالدِّين. بأن تدار جميع شؤون الحياة وفقاً لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوصة أو المستنبطة باجتهاد سليم ، محققاً لقاعدة الحكم الأساسية قال الله : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾(الأحزاب:36) ، وذلك بتنفيذ الأحكام ، وإقامة الشرائع والحدود وسنّ النظم المشروعة ، وحمل الناس على ذلك . ومن حيث إن السلطة السياسية ليست مصدر التشريع، فقد تطلق كلمة التشريع ويراد بها أحد معنيين أحدهما إيجاد شرع مبتدأ وثانيهما بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة.
لذا فوظيفة السلطة السياسية في الإسلام هي تطبيق الأحكام الشرعية وحمايتها، فلا تنشئ الدولة لنفسها نظاماً قانونياً ، لتسمح لنفسها بما تشاء ثم تدعي أنها تقيد نفسها وتحترم قوانينها من تلقاء ذاتها ،وهو ما يعرف بنظرية التحديد الذاتي. فالسلطة السياسية للدولة في الإسلام غير مخولة ولا تملك إزاء أحكام الشريعة تعديلاً أو تفسيراً بالهوى، قال مفتي والوكيل:" لا يجوز للدولة مطلقاً الرجوع إلى مصادر لم تثبت شرعيتها عند إصدارها لتشريعاتها أو قوانينها كما لا يجوز لها الاستشهاد بالمصادر غير الشرعية كالقوانين الجرمانية أو الفرنسية أو غيرها مثلاً، أو العادات والتقاليد والأعراف المخالفة للشرع. كما يلزم الدولة الإشارة إلى المصدر الشرعي عند سن القوانين والتنظيمات، وذلك لأن الشرع الإسلامي ربط بين شرعية الحكم والتزام أحكام الإسلام، ورتب على ظهور قوانين الكفر فقدان شرعية الدولة" ، وبذلك يكون النظام الإسلامي قد قضى وبشكل نهائي على معضلة السلطة السياسية الوضعية، وقوام ذلك أن الشريعة هي الحاكمة لا يعلوها قانون أو قواعد أخرى وينتفي بذلك الصراع بين الدولة وعموم الناس فيما يتعلق بالتوازنات القائمة بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع بين الحرية والسلطة ، ويتحقق ذلك بتوجيه الأنظمة لتكون وفق الشريعة من حيث عدم المخالفة والتيسير على الناس، فأحكام الشريعة مبنية على التيسير نظراً لغالب الأحوال؛ وكذلك يجب أن تكون الأنظمة. و الشريعة تعمد إلى تغيير الحكم الشرعي من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمة أو الأفراد فتيسر ما عرض له العسر؛ وكذلك الأنظمة يجب أن تكون ميسرة لكل عسر أو حرج عارض .
الوازع السلطاني
وتعد الأنظمة من الوازع السلطاني الخادم والمتمم للوازع الديني، فمتى ضعف الوازع الديني في زمن أو قوم أو في أحوال يظن أن الدافع إلى مخالفة الشرع في مثلها أقوى على أكثر النفوس من الوازع الديني؛ هنالك يصار إلى الوازع السلطاني سواء من أنظمة أو تنظيمات أو سياسات وأوامر وقرارات، فيناط التنفيذ بالوازع السلطاني كما قال عثمان بن عفان :"يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ، والمقصود أن السلطانَ لو أجرى حدودَ اللهِ -كما أنزلها الله- بلا هوادة ؛ لَكَفَّ كثير من الناس عن الباطل. ولكن الناس في هذه الحالة لم يرعووا عن غيهم طاعة لله ورسوله؛ بل خوفًا من السلطان!. فكثير من الناس ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾(النساء:77)؛ فلذلك فهم مخالفون؛ لا يرتدعون بكلام الله ورسوله ، وإنما يرتدعون خوفًا من عقوبة الحكام؛ لأن سوطهم مرفوع، وسيفهم مشهور .
وينحصر الوازع السلطاني في تنفيذ الوازع الديني؛ لذا فالأنظمة تأتي بعد الوازع الديني، تابعة وخادمه له، فالمهم في نظر الشريعة هو الوازع الديني اختيارياً جبلياً كان أو جبرياً بقوة السلطان ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال، فإن خيف إهماله أو سوء استعماله وجب عليهم تنفيذه بالوازع السلطاني ، وقد أوضح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – هذه المهمة في أول خطاب للأمة ، جاء فيه قوله : " ألا إني لست بقاضٍ ولكني منفّذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكن متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يُطاع في معصية الله" ، وهو بذلك يبين أن وظيفة ولي الأمر الأساسية هي تسخير الوازع السلطاني لخدمة الوازع الديني.
ومن المعلوم أنه ليس للإمام إن لم يكن مجتهداً أن يستنبط الأحكام الشرعية بنفسه، وليس لأحد أن يمنع الإمام من مزاولة حقه الشرعي في سنَّ قانون يلزم الناس بأحكام شرعية استنبطها المجتهدون في الشريعة ، ومن المعلوم أن الأحكام تختلف، فمنها ما لا تخيير فيها ولا يمكن سنّ نظام في محل حكم شرعي دون إزالة أو إزاحة الحكم الشرعي الأمر الذي متى غلب على الظن حرم معه سنّ الأنظمة ؛ لذا فالأنظمة تسنُّ فقط كخادمة ومنفذة ومبينه لمحل الحكم الشرعي. ومن المعلوم أن المهمة الحقيقية التي يعهد بها الإمام إلى الجهة التنفيذية في الدولة الإسلامية هي تنفيذ الأحكام الإلاهية وتهيئة الظروف في البلاد والمجتمع لتنفيذها. وما الهيئة التنفيذية إلا ما عبر عنه "بأولي الأمر" في القرآن الكريم و "بالأمراء" في السنة النبوية، وقد تأكد الأمر بطاعتهم وتكرر في القرآن والسنة . وكما هو ظاهر ومعلوم أن الذي يدرس مشاريع الأنظمة ويصوغها والذي يصدر الأنظمة ويسنَّها والذي يطبق الأنظمة ويعمل بها، إنسان غير معصوم، لهذا جاءت أحكام الشريعة لتحول دون إساءة الاستخدام الأنظمة، وتوجيه الوازع السلطاني لخدمة الوازع الديني لتضمن مسير الدولة والأمة ضمن الإطار الشرعي.
ومن أمثلة الوازع السلطاني في الدولة السعودية وبفضل من الله وتوفيقه نرى منذ بداية العمل بسنّ الأنظمة، الوعي بأهمية جعل الوازع السلطاني في خدمة الوازع الديني، فقد جاء في ثنايا الكلمة التي وجهها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن – رحمه الله – إلى مجلس الشورى في جلسته الافتتاحية العام 1349هـ متحدثاً عن الأساس الذي يُرجع إليه في سنّ الأنظمة التي بنيت عليها الدولة السعودية، قوله: " وإنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونُظُمِنا هو الشرع الإسلامي، وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سنّ كل نظام ،وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط أن لا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية لأن العمل الذي يخالف الشرع لن يكون مفيداً لأحد، الضرر كل الضرر هو في السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد " ، وجاء الوازع السلطاني في النظام الأساسي للحكم ليخدم الوازع الديني في الكثير من مواده، من أهمها المادة السابعة منه: "يستمد الحكمُ في المملكة العربية السعودية سلطتَه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله . و هما الحاكمانِ على هذا النظامِ وعلى جميع أنظمة الدولة "، فالأنظمة تعد مجرد وسيلةٍ تُعْرَفُ الأحكام عندها، وأنها محكومة بالقرآن والسنة، ، وجاء في المادة الخامسة والخمسين، أن: "يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقاً لأحكام الإسلام ". وهنا نجد أن الوازع السلطاني جعل الإدارة الرسمية لولاة الأمر مستمدة من السياسة الشرعية، لتكون خادمة للوازع الديني.
تنقيح مناط الأنظمة
الاختلاف على تحرير المحل المناسب لسنّ الأنظمة والقوانين يعود إلى الاختلاف في حقيقة الأنظمة والعلة التي تعطي الأنظمة قوتها الإلزامية في دولة الشريعة ، والتساؤلات المختلفة التي يدرسها الباحثون في هذا المجال وهي على سبيل المثال: هل تسنّ الأنظمة في المنصوص عليه أو يقتصر على المسكوت عنه ؟ وهل تسنّ الأنظمة للأمور الموضوعية – التشريعية - أو يقتصر على الإجرائية ؟ وهل تسنّ الأنظمة تأسيساً و ابتداءً و إنشاءً من ولي الأمر أو الدولة أو تسن الأنظمة ابتناءً و اتباعاً وتنفيذاً لأحكام شرعية سابقة للنظام ؟ وهذه التساؤلات وإن اختلفت ألفاظها، فالمقصود بها معنى واحد.
سنّ الأنظمة تأسيساً وابتداءً وإنشاءً من ولي الأمر أو الدولة مقابل سن الأنظمة ابتناءً واتباعاً وتنفيذاً لأحكام سابقة للنظام :
سنّ الأنظمة بالمعنى الأول – تأسيساً أو ابتداءً أو إنشاءً - في الإسلام ليس إلا لله فهو ابتدأ شرعاً بما أنزله في قرآنه، وما أقر عليه رسوله، وما نصبه من دلائله، وبهذا المعنى لا تشريع إلا لله وحده ، ولا تملك الأمة إلا الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها على ما يجد من الحوادث، وليس للفقهاء ولو اجتمعوا على صعيد واحد أن يتجاوزوا الإطار الذي تحدده هذه النصوص.
وإنما جاز للسلطة السياسية سنّ الأنظمة ابتناءً على أحكام الشريعة، وهو سنّ الأنظمة بالمعنى الثاني – ابتناءً واتباعاً وتنفيذاً - هو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ، فهذا هو ما تولاه بعد رسول الله خلفاؤه ومن علماء صحابته ثم خلفاؤهم من فقهاء التابعين وتابعيهم من الأئمة، فهؤلاء لم يشرعوا أحكاماً مبتدأة وإنما استمدوا الأحكام من نصوص القرآن والسنة وما نصبه الشارع من الأدلة وما قرره من القواعد العامة، ووفق ضوابط واعتبارات شرعية، فهذا هو المعني في الإسلام، وهو نفس المعنى المقصود في التساؤل: هل تسنّ الأنظمة في المنصوص عليه أو يقتصر على المسكوت عنه ؟
فالعمل الذي قصد المنظِّم أداءه بسنّ الأنظمة متى كان محرماً في الشريعة أو مكروهاً أو مندوباً أو واجباً، يأتي النظام مؤكداً للحكم الشرعي وموضحاً لمحل الحكم في الوقائع والنوازل. ومتى كان مباحاً يأتي النظام إما مؤكداً لحكم الإباحة وموضحاً لمحل الحكم في الوقائع والنوازل، أو يأتي النظام مُعْلِمَاً بتغير حكم الإباحة إلى حكم آخر اقتضته المصلحة كما قدَّرها ولي الأمر، وليعرف محل المصلحة الحادثة والمحدثة التي وضع النظام للاحتياط لها فتؤتى، ومحل المفاسد الحادثة التي وضع النظام لدرئها أو رفعها أو تخفيفها فتجتنب .
سنّ الأنظمة الموضوعية مقابل الاقتصار على سنّ الأنظمة الإجرائية:
ويقصد بالأنظمة الموضوعية – التشريعية - التي تعالج أفعال العباد وتدل على حكم الفعل الإنساني من حيث الأحكام التكليفية، ولما أن الإمام ملزم بتسيير أعماله وفق أحكام الشرع ، وهذا يقتضي ترجيح أحكام اجتهادية على أخرى، صار للإمام الحق في أن يتبنى أحكاماً اجتهادية تسن الأنظمة التشريعية على وفقها يباشر بها الحكم ورعاية شؤون الدولة.
و يقصد بالأنظمة الإجرائية كل ما له علاقة بالوسائل والأساليب المطلوبة لتنفيذ الحكم الشرعي وهي الإلزام والمنع من مباح معين يعد وسيلة أو أسلوب متعلقا بالحكم الشرعي، وليس للدولة التدخل بالمنع والإلزام بإصدار قوانين إجرائية للأساليب والوسائل غير إقامة فروض الكفاية المنوطة بالدولة وتنظيم المباحات المتعلقة برعاية شؤون العامة .
وبتوظيف مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"؛ ينظر ولي الأمر إلى تخلف مقصود الحكم الشرعي عنه باعتباره من الشرور أو الفجور الحادث والذي يتطلب منه إحداث أقضية أو أنظمة أو سياسة أو إجراء أو قرار بحسب القدر المناسب كماً وكيفاً وزمنا، لمنع أو رفع تخلف مقصود الحكم الشرعي عنه. و يأتي ذلك في الأحكام التكليفية والوضعية على سبيل أن الأنظمة أداة توضيح وبيان لمحل التخصيص أو تحقيق المناط الخاص أو تقييد المطلق أو تفصيل المجمل أو المصلحة أو الاستحسان، أو لرفع الخلاف، فتكون الأنظمة علامة على الأداء الصحيح وخادمة للحكم الشرعي. وجميع تلك تتطلب استنباطاً للحكم حسب شروطه التي قررها العلماء العاملون، ومن تطبيقاتها في هذا العصر، ما يحيله ولاة الأمر للعلماء المجتهدين من مسائل يترتب على الفتوى فيها تصرف على الرعية بمصالح معتبرة؛ فيجوز للحاكم بل قد يجب ويتعين عليه والأمر كذلك أن يسنَّ نظاماً أو ينشئ تنظيماً أو يضع سياسة أو إجراء أو يصدر قراراً يدخل على الواجب والمندوب والمكروه والمحرم ما يترتب عليه إعادة مقصود الحكم له وعدم تخلفه عنه.
لذا فحقيقة الأنظمة أنها أحكام، وقد تكون موضوعية أو إجرائية وهو الغالب لذا يجب أن يتوافر فيها ما يتوافر في الحكم. وهي في الأنظمة الموضوعية تكون أحكاماً تكليفية صيغت في مواد نظامية وذلك لقصور اعترى التطبيق فاحتاج إلى وازع سلطاني يخدم الوازع الدين في موضع التكليف الذي ورد في النظام. وفي الأنظمة الإجرائية هي معرفات للحكم الشرعي ومظهرات للمناط الخاص فيه؛ لذا فهي من توابع الأحكام الوضعية ، و الأحكام الوضعية تعد مدخلات للأحكام التكليفية ، و بصفة عامة، تندرج جميع الأنظمة على وفق السياسة الشرعية، في الأمور التي تبنى عليها الأحكام الشرعية، وهي إما مُنَفِّذَات أو معرفات للحكم الشرعي، وحكم الالتزام بها هو حكم الالتزام بالحكم المعرَّف به أو المـُـنَـفَّذ.
خلاصة الأمر
من المسلم به أنه لا يوجد أي تصرف للإنسان إلاَّ وله حكم في الشريعة الإسلامية يدور بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم؛ وعليه فإن الشريعة الإسلامية قبل سنّ الأنظمة ودونها تشمل في أحكامها جميع تصرفات الإنسان، ومن المستحيل أن يوجد تصرف بشري ليس له حكم في الشريعة، ولا يوجد نظام ليس متعلقاً بتصرفات الإنسان.
لأجل ذلك فإنه يستحيل وجود محل يسنّ فيه نظام إلا كان فيه حكم شرعي لله ابتداءً محكوم به ليس معه مثله وليس فوقه غيره، فشريعة الله حاكمة تشمل كل تصرف ولا تقبل التجزئة. و إذاً في دولة الشريعة، يكون من المسلم به أن ينظر إلى جميع الأنظمة بمختلف مسمياتها ودرجاتها على أنها لا محالة ستنزل في محال مشغولة بأحكام شرعية لله ابتداءً وأنها – الأنظمة – لا تجوز إلا ابتناءً على تلك الأحكام، وأنها – الأنظمة – لا تكون ابتناءً إلا إذا كانت خادمة ومنفذة لتلك الأحكام.
وبناءً على ما تقدم فالباحث يرى أن جميع الأنظمة وكل ما يتعلق بها من أمور في دولة الشريعة، عند تحقيق مناطها نصل إلى أن العلة في كونها مشروعة أنها جاءت ابتناءً على حكم لله ابتداءً محكوم به عليها ليست الأنظمة مثله وليست فوقه، فشريعة الله حاكمة على كل شيء وتشمل كل تصرف ولا تقبل التجزئة؛ لذا عند التحقيق نخلص إلى أن: الأصل في جميع الأنظمة في دولة الشريعة أحكام شرعية مستأنفة بقوة الوازع السلطاني المتمثل في الأقضية التي يحدثها ولي الأمر لخدمة وتجديد العمل بأحكام الشريعة وتقوية الوازع الديني في الأداء فجميع الأنظمة وتصرفات ولاة الأمر في ولاياتهم بالمصالح المعتبرة شرعاً حسب الأصل أن تكون أحكاماً وضعية وتكليفية مستأنفة بأقضية أحدثت بوازع سلطاني لخدمة وتجديد العمل بأحكام الشريعة بوازع ديني ، فالعلة في مشروعية الأنظمة وتصرفات الولاة أن تكون ابتناءً على حكم الله ابتداءً، وعلى سبيل استئناف أحكام سابقة في وجودها للتصرف بحيث يؤدي سنّ النظام وكل ما يتعلق به إلى تجديد العمل بالحكم الشرعي.
المبحث الرابع: السياسة الشرعية في سنّ الأنظمة
عند استعراض لوازم مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - ندرك أن الفقه الإسلامي ليس مجرد قواعد تنظيمية تُعنى بتنسيق العلاقات بين الأفراد والمجتمع أو بين الحاكم والمحكوم وما إلى ذلك من أمور كما هو الحال في القانون، بل إن السياسة الشرعية التي تأتي الأنظمة على وفقها هي قبل ذلك فقه تقويمي للاحتياط للمصالح بإطلاقها والمحافظة عليها من أي نقص وتكثيرها و المفاسد بتقييدها بالدرء أو رفعها أو تقليلها،وذلك فق منظومة قواعد وضوابط تم تلقيها من مصدر مُوحَى وواقعٍ مجرَّب بحيث يسير العقل وفق النقل ، فالشريعة الإسلامية قد انتظمت حقوقاً لا وجود لها في القانون .
جلب المصالح وسنّ الأنظمة:
يؤخذ في الحسبان - بالإضافة إلى ما تقدم - أن الأصل في المصالح الجلب وإبقاؤها على إطلاقها ، والأصل في الأنظمة تقييد ما تدخل عليه ؛لذا فالأنظمة تقيد المصالح وتضيق نطاق الاستفادة منها وبناءً على ذلك يكون إدخال الأنظمة على المصالح مناقضًا لها والأصل عدمه.
فالأنظمة أحد أهم وسائل الضبط الاجتماعي، وجميعها يؤدي إلى تقييد الحريات، ولا يصح تقييد حريات الناس إذا تعلقت بالمصالح المعتبرة شرعاً إلاَّ إذا قابل ذلك تحصيل مصلحة معتبرة أكبر بعد امتناع إمكان الجمع بينهما، فالأصل أن لا يرجح بين المصالح إلا عند امتناع إمكانية الجمع بينهما ،ثم بعد ذلك كله يشترط أن يحقق إدخال النظام على المصالح مزيداً من الإفادة منها وبكفاءة وفاعلية أكبر، فالأصل أن لا يزاد في تقييد الحريات عن القدر اللازم؛ لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها وتلاحظ عند حلول دواعيها.
وبناءً على ما تقدم: فإن رفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم يتطلب تقليل الأنظمة. و تقليل الأنظمة يتطلب أن تكون ذات كفاءة وفاعلية مرتفعة. والكفاءة والفاعلية المرتفعة للنظام تتطلب وضع إجراءات إدارية سليمة لتنفيذ النظام. والإجراءات السليمة تتطلب سنّ النظام وفق ضوابط واعتبارات تكفل تحقيق المقصود منه بأقل قدر من الحرج وأعلى كفاءة وفاعلية ممكنة.
ولما كان الأصل في مصالح الناس أن تحصل دون سنّ نظام خاص بها، فالأفضل تركها على سعتها دون تقييد. قال المستشار عمر شريف: "إن الحكمة من التقليل من القوانين تكمن في أن التشريع موضوع لسد حاجات الناس،وتحقيق مصالحهم فينبغي أن يكون في حدود هذه الحاجات والمصالح،ويترك ما عداه للأصل العام وهو الإباحة" ؛ فأي مصلحة معتبرة يأتي بها الناس بطريق مشروع هي لهم، وليس للمنظِّم أن يتدخل فيها إلاَّ في حالتين:
الحالة الأولى: في حالة الفراغ النظامي: وهي أن تكون مصلحة ولا يمكن تحصيلها إلاَّ بنظام أو تنظيم، فهذه يوضع لها نظام لتحصيلها وضبطها. والاحتياط للمصلحة العامة التي هي قطب الرحى لأحكام السياسة الشرعية، قد تقتضي من ولي الأمر التدخل في شؤون العامة في كل ظرف يغلب على الظن فوات المصلحة بعدم التدخل .
ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك الاستثمار في التعدين في منطقة نائية غنية بالمعادن وبعيدة عن مناطق الجدوى الاقتصادية هو حسب التجربة أمر ممتنع، لبعد نقاط التصدير وانعدام وسائل النقل ونقص في المياه اللازمة وغياب للخدمات الحكومية وخروجها عن نطاق التسهيلات النظامية والحوافز الاستثمارية. ويعد التعدين في تلك المنطقة من المصالح التي انقطع السبيل إليها، وانقطاع سبيل المصلحة مفسدة لا ترفع إلا بتدخل ولي الأمر بإصدار المراسيم والأوامر التي تنشئ المرافق العامة في المنطقة والبنية التحتية ووسائل المواصلات لنقاط الاستثمار الصناعي والتصدير واعتماد تقنية لا تحتاج إلى المياه و إصدار حوافز استثمارية وتعديل الأنظمة لتتفق مع جميع ذلك، وهذا يتطلب سد الفراغ بسنّ الأنظمة والتنظيمات والسياسات لرفع مفسدة انقطاع مصلحة استثمار المعادن في تلك المنطقة.
و ترك الدولة التهيئة اللازمة للمناطق التي يتعثر فيها الاستثمار مع قدرتها عليه، يعد من التقصير في الرعاية ولا يحق لها ذلك، فليس للدولة أن تعطل مصالح الناس دون منفعة ظاهرة من هذا الامتناع، فانتفاء المصلحة المشروعة قرينة لقصد الإضرار فعلى سبيل المثال: أن يمنع مالك غيره من الارتفاق بأرضه، إذا ترتب على هذا الارتفاق نفع لكليهما، كما جاء في قضاء عمر في قضية محمد بن مسلمة
لكون ذلك قرينة على تمحض قصد الإضرار، وقصد الإضرار ممنوع ولا يشرع، فإن صح ذلك في الإضرار بشخص واحد فمن باب أولى إذا استعملت الدولة حقها على وجه سلبي دون أن يكون لها منفعة فيه، وترتب على هذا الامتناع ضرر وحرج بعامة الناس، فيمنع من باب أولى .
و يعد امتناع الرسول من التسعير، من الأمثلة على ترك سنّ نظام احتياطاً لمصلحة إطلاق الحريات المشروعة، قال الإمام الشوكاني: وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: "جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر، فقال: "بل أدعو الله "، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: "الله يخفض ويرفع". قال الحافظ: وإسناده حسن" . والنص النبوي المذكور يدل على أن الشريعة الإسلامية تحرص في مجال التجارة أن تطلق الحرية للسوق، وتدع السلع فيها للقوانين الطبيعية تؤدي فيها دورها، وفقاً للعرض والطلب. والرسول الكريم يعلن بهذا الحديث أن التدخل في حرية الأفراد: منتجين وتجاراً ومستهلكين – بغير ضرورة - مظلمة، يحب أن يلقى ربه بريئاً من تبعتها ، لأجل ذلك حاسب الفاروق عمر بن الخطاب نفسه في منع حاطب البيع في السوق بالسعر الذي يراه، فعاد فقال له:" إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئتَ فبعْ، وكيف شئتَ فبعْ " قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك :" لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم، وهذا ليس منها" .
وفي المقابل يتحول الحكم من المنع إلى الوجوب متى ظهر الظلم والاحتكار، وتحكم الأقوياء في الضعفاء، وسيطرة قلة من الأفراد الجشعين على الأسواق والسلع، فهنا يجوز التسعير وقد يجب على وليّ الأمر سنّ نظام تسعير حماية للضعيف من القوي، قد جاء في كتب الحنفية – "الهداية" و"الاختيار" وغيرهما: أن أرباب السلع إذا تحكموا وتعدوا عن القيمة تعدياً فاحشاً وجب على الحاكم أن يُسعر عليهم بمشورة أهل الرأي والبصيرة، منعاً للضرر عن عامة الناس ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" ولهذا كان على الوالي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه" .
الحالة الثانية: في حالة أن جلب المصلحة يفضي إلى مفسدة مساوية أو أكبر: فلا بد أن يتدخل النظام ويوقف العمل بهذه المصلحة إذا أفضت غالباً إلى مفسدة مساوية أو أكبر لا لأنها مصلحة، وإنما لرفع المفسدة المترتبة على جلبها.
ومن الأمثلة على ذلك منع عمر بن عبدالعزيز المسؤولين في الحكومة من الأعمال التجارية في نطاق سلطانهم، جاء في كتاب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – إلى عماله قوله:" ونرى أن لا يتَّجر إمام في سلطانه الذي هو عليه فإن الأمير متى يتَّجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت وإن حرص على أن لا يفعل" . وبذلك يكون عمر بن عبدالعزيز قد جعل لتجارة المسؤولين في الحكومة ضابطاً يعرف به متى يحق له العمل في التجارة ومتى لا يحق له ذلك، والضابط هو قوله :"لا يتَّجر إمام في سلطانه الذي هو عليه"، وما ذاك إلا أن الموظف الحكومي في سلطانه مظنة أن يحابى في تطبيق الأنظمة أو تسيير الأعمال، فلو خالف الأنظمة فسيجتهد له في مخرج نظامي ليصير الممنوع مسموحاً وإن بغير طلب منه، وقس على ذلك، ومفهوم المخالفة أن تجارة الأمير أو الموظف الحكومي في غير سلطانه مشروعة غير ممنوعة، فهو والحال كذلك كغيره من الناس لا يحابى في تطبيق الأنظمة أو تسير الأعمال.
ويلاحظ بالمقارنة مع العصر الحاضر أن سياسة "لا يتَّجر إمام في سلطانه الذي هو عليه"، أنها من جهة أيسر وأوسع على الناس من النظام المطبق اليوم، فالأنظمة السعودية تمنع الموظف الحكومي من العمل في التجارة دون تمييز بين العامل في سلطانه والعامل في غير سلطانه، الأمر الذي أدى إلى حدوث مفاسد مساوية أو تزيد وخلل أدى إلى الغش والتدليس بتسجيل ملكية الكثير من الأعمال التجارية بغير اسم أصحابها، مما أربك العمل التجاري لموظف الحكومة وكلفه مزيداً من الوقت والجهد وشغله عن الأداء الجيد في وظيفته، بالإضافة إلى أن هذا الأمر لو توسع فيه وفق سياسة عمر بن عبدالعزيز لتوسعت مداخيل موظفي الحكومة في غير مخالفة ولأدى ذلك إلى تحسين الأداء و تقليل الفساد، ومن الجهة الأخرى لا تكفي هذه السياسة في هذا العصر فبسبب التقدم التقني في الاتصالات يمكن لموظفي الحكومة التنسيق فيما بينهم لتبادل المنافع خارج دائرة سلطان كل منهم الأمر الذي يتطلب إحداث سياسة جديدة لتحديد واكتشاف التنسيق غير المشروع في تبادل سلطان موظفي الحكومة لنفع بعضهم بعض وكيف يمكن أن تراقب وتضبط، ويأتي جميع ذلك لمنع تفويت المصالح التي يحتاط لها النظام أو أن تفضي إلى مفاسد مساوية أو أكبر.
وعند تدبر الأمر في الحالتين نجد أن الأنظمة لم تدخل على المصالح نفسها، وإنما دخلت على مفسدتين: الأولى: تفويت المصالح و تعطيلها. الثانية: التذرع بالمصلحة المؤدي إلى مفسدة. وهذا يعني أن الأصل في الأنظمة عدم الدخول على المصالح لا يزال مطرداً، وأن ما يعتقده بعض الناس أن الأنظمة تدخل لإنشاء المصالح ابتداءً هو في الحقيقة يعود إلى رفع إحدى هاتين المفسدتين أو كلتيهما معاً.
درء المفاسد وسنّ الأنظمة:
الأصل في المفاسد الدرء والأصل في الأنظمة أنها تقييد ما تدخل عليه ،وهذا يتفق مع أن الأصل تقييد المفاسد؛ لذا فدرء المفاسد وسنّ الأنظمة متكاملان ،فيكون الأصل في سنّ الأنظمة أن تكون لدرء المفاسد.
طرق درء المفاسد باستخدام النظام مختلفة من حيث السعة والضيق، (من الأمثلة الافتراضية) على ذلك الآتي:
• إذا افترضنا أن لدينا عشرة أبواب كلها مصالح، ولا يؤول أي منها إلى مفسدة، فالمفروض أن تترك بلا تنظيم، فالناس يتركون يدخلون ويخرجون من أي باب يريدون، لكن إذا كان من بين هذه الأبواب العشرة باب مفسدة. عندها يمكن اتباع عدة طرق لدرء المفسدة وهي:
• الطريقة الأولى: فتح جميع الأبواب: واعتبار أن المفسدة مرجوحة في كل الأحوال فلا تسد، وفي ذلك إفساد للناس.
• الطريقة الثانية: سد جميع الأبواب: يتحقق درء المفسدة بسد الأبواب كلها، لكن يرتب على هذا تضييق بلغت تكلفته سد تسعة أبواب في كل منها مصالح مشروعة.
• الطريقة الثالثة: سد بعض الأبواب: تتمثل في أن يأتي المنظِّم ويقول أعرف أربعة أبواب لمصالح يسهل عليَّ مراقبتها فأفتحها، أما الأبواب الأخرى أو التي يصعب عليَّ مراقبتها من الأفضل سدّها، وفي ذلك سدّ لبعض أبواب المصالح، ويعد هذا من التضييقِ على الناس ،وغير مبرر، وحسب المثال بلغ مقدار التضييق سدَّ الخمسة الأبواب المتبقية، وفي كل منها مصالح مشروعة.
• الطريقة الرابعة: سد باب المفسدة فقط : وفي ذلك تقدير لاستحداث الأقضية بقدر استحداث المفاسد، فلا يسدّ سوى باب المفسدة فقط ،وهو طريق الاعتدال ؛ لذا فهذه الطريقة هي الموافقة للقاعدة العُمَرية في سنّ الأنظمة والأكثر موافقة للشرع الحنيف.
ويؤخذ مما تقدم ثلاث سياسات متعلقة بمحل سنّ الأنظمة وبتوقيتها ومقدارها وهي كما يلي:
1. السياسة المتعلقة بمحل النظام : وهي سياسة تقييد إحداث الأنظمة بإحداث المفاسد: الأصل عدم سنّ الأنظمة في المصالح، فلا تدخل الأنظمة على المصلحة إلا لرفع مفسدة، وليس لأجل أنها مصلحة، وإنما لأجل تعلقها بمفسدة، فالأنظمة لا تدخل في المصالح إلا لدرء المفسدة المتعلقة بها أو رفعها؛ لذا فالأصل مطرد في أن المصالح ليست محلاً مناسباً لسنّ الأنظمة، فلا يصح أن تقيد المصالح بالأنظمة دون ضرورة أو حاجة. و قد أشار الطاهر بن عاشور إلى جميع تلك المعاني من ثلاث جهات وجعلها في المقام الأول للتشريع ، من جهة أن القصد الأول هو دخول التشريع على المفاسد بقصد تغيرها، ومن جهة أن تقييد الناس والشدة عليهم في التشريع تأتي بالقصد الثاني التابع وعلى خلاف الأصل لمصلحة راجحة، ومن جهة أن التشريع يأتي للتخفيف عن الناس و رفع الحرج عنهم، فقال:" والتحقيق أن للتشريع مقامين: الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها وهذا هو المقام المشار إليه بقوله ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (البقرة:257) وبقوله ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (المائدة:16) ، والتغيير قد يكون إلى شدة على الناس رعياً لصلاحهم، وقد يكون إلى تخفيف إبطالاً لغلوهم" .
2. السياسة المتعلقة بتوقيت سنّ الأنظمة: وهي سياسة تربط توقيت إحداث الأنظمة بتوقيت حدوث المفاسد: الأصل بيان الحكم عند أول الحاجة إليه ،ويقاس على ذلك إحداث الأقضية يكون عند أول الحاجة إليها، وكذلك الأنظمة تسنّ عند أول الحاجة إليها، وأول الحاجة تعرف بحدوث الفجور أو بمقدماته ،فعندها فقط تسنّ الأنظمة لدرء المفاسد ورفعها وذلك احتياطاً لسعة الشريعة ورفعًا للحرج على الناس ،فلا يزاد في وقت تقييد المباحات أو الحريات المشروعة للناس عن الوقت اللازم لذلك، فالأصل توسيع النطاق الموضوعي للمباحات والزمني للحريات المشروعة قدر الإمكان.
3. السياسة المتعلقة بمقدار الأنظمة التي تسنّ: وهي سياسة الاقتصار في مقدار الأنظمة المحدثة على الحد الأدنى الصالح لدرء المفاسد أو رفعها أو تخفيفها الحادثة: تقييد استحداث الأقضية على قدر حدوث الفجور يضبط مقدار الأقضية ويقاس عليها الأنظمة بمقدار المفاسد الحادثة، فلا يزاد عن المقدار الكافي لدرء ورفع المفسدة التي سنّ النظام لأجلها.
وبمراعاة مقتضى هذه المقولة يكون قد تحقق مقصدٌ إداريٌ يتعلق بكفاءة الأنظمة ،وهو تدبير الأمور بأقل قدر من الأنظمة ،الأمر الذي يكفل أعلى قدر من الحريات، و التيسير على الناس؛ ويعد هذا الحد الأمثل لكمية الأنظمة ، أي ليس بالحد الأدنى الذي يقع دونه فراغ نظامي وليس بالحد الأعلى الذي يقع فوقه تضييق على الناس.
ومحصلة ما تقدم بيانه هو: أن الإصلاح بأقل قدر من الأنظمة هو من مقاصد السياسة الشرعية في سنّ الأنظمة، فباستقراء الواقع والوقائع نجد أن نسبة الأنظمة للحريات المشروعة هي نسبة الكبير القوي للضعيف الصغير؛ والأصل في القوي أن لا يقوَّى والضعيف أن لا يضعَّف قياساً على قاعدة: أن "المــُكَـبَّـرَ لا يٌكَبَّــرَ"، بمعنى أن الأنظمة أمر كبير في أصله فلا نزيد في تكبيرها. و قياساً على قاعدة: أن " المــُصَغَّـر لا يُـصَغَّـر " بمعنى أن حريات الناس في هذا الزمن ضاقت وصغرت فلا نزيد من صغارها ولا نبالغ في تضييقها وتقييدها بالأنظمة الكثيرة، وهاتان القاعدتان لغويتان استفاد منهما الفقهاء وأجرياها في استنباط الأحكام و مقتضى هاتين القاعدتين اللغويتين، المــُكَـبَّـرَ لا يٌكَبَّــرَ و المــُصَغَّـر لا يُـصَغَّـر، يدور مع حقيقةً و معنى تقدير الأمر بقدره المناسب ، و هو المعنى المقصود بقول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : " بقدر ما ".
وقد حرص الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – على إطلاق الحريات المشروعة في عهده، ومنها على سبيل المثال لا الحصر حرية الفكر من حيث الرأي والتعبير فقد أتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية أن يقول كلٌّ ما يريد وقد عبر عن هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقوله: " اليوم ينطق كل من كان لا ينطق "إذ لم يخالف الشرع .
وفي مجال الحرية الشخصية، أطلق عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – للناس حرية التنقل وفتح باب الهجرة لمن يريد ومن انتقل من البادية للحاضرة دار هجرته ومن سافر لقتال العدو فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم .
وفي مجال حرية التجارة و الكسب ، أطلق عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – للناس أن يبتغوا بأموالهم في البر والبحر لا يمنعون ولا يحبسون، فأذن أن يتجر فيه من يشاء، ورأى أن لا يحال بين أحد من الناس وبين البر والبحر فالله سخرهما جميعاً لعباده يبتغون فيهما من فضله، وكان عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – يتعجب كيف يحال بين عباد الله وبين معايشهم .
ولقد أثمرت هذه السياسة في رد الحقوق و رفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم فتوفرت لديهم حوافز العمل والإنتاج، وزالت العوائق التي تحول دون ذلك، فارتفع الدخل واضمحل الفقر وازدهرت التجارة واتسعت الطبقة المتوسطة الدخل فازدهر الاقتصاد واستقر المجتمع وطمأنت الدولة.
وقد كانت السمة الغالبة ،وجلُّ إصلاحات الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في تقليل وتخفيف الأنظمة والتنظيمات والسياسات والإجراءات والقرارات قدر الإمكان، وذلك بإلغاء كل التصرفات الحكومية إذا ترتب عليها مخالفة شرعية أو مشقة أو حرج على الناس. فألغى جميع الأنظمة والسياسات التي تقيد وتمنع من التجارة والتنقل، وألغى جميع الأنظمة والسياسات التي تؤخذ بها الأموال من الرعية دون ضرورة أو حاجة أو كانت تؤخذ منهم بغير حق, فقال - يرحمه الله -:" إن الله جلَّ ثناؤه بعث محمداً داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابيا" ، وكان معياره في الإنفاق المنفعة المتحققة لأفراد الناس، فقال - رحمه الله - :" إني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالا ينتفعون به" ، ووسع على الناس في تعاملاتهم مع الولاة و عمال الدولة برد المظالم دون إخلال في قدرة الولاة وعمال الدولة بالقيام بمهامهم المنوطة بهم، فكتب إلى والي المدينة أبي بكر :" أن استبرئ الدواوين فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فرده عليه فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم" ، وجعل رد المظالم و توزيع المنح والعطاءات على المحتاجين الشغل الشاغل للولاة و جعل مقياس الأداء فيها السرعة وعدم المركزية فكتب لوالي اليمن وقد كان يكثر الكتابة إلى عمر بن عبدالعزيز في رد المظالم وكأنه يخاف من تحمل المسؤولية، فأرسل له عمر:" فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف بعد المسافة ما بيني وبينك .. فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني" ، أراد الخليفة العادل أن يكون رد المظالم لامركزية فيه للتيسير على الناس وتسريع رد المظالم، وأن يتحمل كل وال مسئوليته كاملة في ذلك، وكان يحاسب الولاة على إلجاء الناس للسفر للخليفة لرد مظالمهم، كما يحاسب الواقفين على بابه دون مظلمة لكي لا ينشغل الخليفة والعاملون معه بما ليس فيه نفع للعامة، فقد كان فيما سبق كثرة الواقفين على بابه من مختلف الأمصار يسألون رد مظالمهم لهم، فخطبهم يوماً فقال:" يا أيها الناس الحقوا ببلادكم فإني أنساكم عندي وأذكركم ببلادكم .. ألا فمن ظلمه إمامه مظلمة؛ فلا إذن له عليَّ – أي يدخل على الخليفة دون استئذان - ، ومن لا فلا أرينَّه" ، ويأتي هذا التدبير بعد أن أعلن براءته من ظلم الولاة وإعلان سياسته في استقبال كل مظلمة دون حاجب، كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الموسم: "أما بعد فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحج الأكبر أني بريء من ظلم من ظلمكم، وعدوان من اعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته، إلا أن يكون وهماً مني، أو أمراً خفي علي لم أتعمده، وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي إذا علم مني الحرص والاجتهاد. ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معول كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم "، كما احتاط لرعاية مصالح الفقراء بمنع استئثار الأغنياء بما تقدمة الدولة من خدمات اقتصادية ومالية لمواطنيها فقال:" ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم ولا أثرة على فقرائكم في شيء من فيئكم". ولم يكتف بذلك بل حرص على تحمل الدولة عن المواطن تكاليف السفر بالإضافة إلى تخصيص مكافئة لكل من تكلف وسعى في سبيل إحياء الحقوق ورفع المظالم، فقال:" ألا وأيما وارِدٍ وَرَدَ في أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من هذا الدين فله بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار على قدر ما نوى من الحسنة وتجشم من المشقة0رحم الله امرأ لم يتعاظم سفراً يحيي الله به حقاً لمن وراءه" ، هذا بالإضافة إلى أمره عماله ببناء استراحات على طرق السفر فمن مر بهم من الرعية فلهم ضيافة يوم وليلة دون مقابل مع تعهد دوابهم، ومن كان به علة فضيافة يوميين وليلتين، ومن كان منقطعاً فيقوَّى بما يصل به إلى بلده 0
و كان يأمر عمَّاله بإصلاح الناس بالسنَّـة وعدم تجاوزها إلى غيرها؛ جاء في رده على عامله في الموصل يستأذنه بضرب الناس على التهمة وقد كثرت فيها السرقات، ، قال عمر:" خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق، فلا صلاح لهم" ، و في رده على عامله في الموصل قال عمر:" فلعمري أن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم" , لقد كانت سياسة عمر بن عبدالعزيز واضحة وهي السير مع السنَّة فمن لم تصلحه السنَّة لن تصلحه البدعة ومن لم يصلحه الحق لن يصلحه الظلم.
وكذلك سياسة الدولة الإعلامية تحولت إلى مدح من يستحق المدح بعد إلغاء سياسة ذم الخصوم ومن تعاديهم الدولة.
وفيما تقدم يلاحظ أن جلَّ إصلاحات الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - كانت إطلاق المصالح وإلغاء كل تقييد زاد عن الحد المقابل لما هو حادث من فجور أو شرور ومخالفات؛ بقصد رفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم، وكان عمر يصرح بقصده في أقضيته أحياناً، جاء في جوابه لواليه على ديوان دمشق، قال عمر:" إذا أتاك هذا فلا تعنِّت الناس ولا تشق عليهم فإني لا أحب ذلك" ، الأمر الذي ترتب عليه طرح وإلغاء وإيقاف العمل بالكثير من الأنظمة والتنظيمات والسياسات والإجراءات والقرارات السابقة لعهده الميمون.
محددات نطاق سنّ الأنظمة
ثلاثة محددات رئيسة وردت في مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، أولاها :أن الاستحداث يأتي مقابل الحادثات, وثانيها: أن الأقضية تأتي مقابل الفجور، وثالثها: أن الأقضية تأتي على قدر الفجور. وفيما يلي شرح لهذه المحددات.
تُحدث مقابل حدوث:
لا يجوز أن يُحدث الفجور لأجل أن تحدث له الأقضية، ولا يجوز أن يترك الفجور بعد ظهور مقدماته حتي ينتشر فيتخذ ذريعة لإحداث أقضية وأنظمة؛ لأجل ذلك فلا بد من التفريق بين إحداث الأقضية والأنظمة وبين إحداث سبب الأقضية والأنظمة، فمنه ما يكون منالاً قريبا لإحداث الفجور، مثل ما قرره البعض عن كيفية معرفة توبة الزانية بمغازلتها والتعرض لها، فإن تبسطت ولانت، دل ذلك على ضعف توبتها أو انعدامها، وإن هي منعت وقاومت، دل ذلك على صحة توبتها وصدقها ؛ إذ لا حاجة لتعريض مسلمة للفتنة اختياراً لها، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عن معرفة توبة الزانية : "تفسير الأصحاب – رحمهم الله – توبة الزانية بأن تراود فتمتنع ، أنكره الموفق وغيره ، ويحق لهم إنكاره فإن المراودة من أعظم المنكرات ولو كان الغرض منها التجربة والامتحان وهي داخلة في قوله تعالى : ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ (الإسراء : 32) فإن المراودة أقرب الوسائل لوقوع المختبر والمختبرة في الفاحشة فإن راودها فاجر وقع الفجور أو كاد وإن راودها تقي خشي عليه وعليها من وقوع المنكر ، فإن أحست أن تلك المراودة لأجل الاختبار لم يحصل بها المقصود ،وليست هذه المسألة نظير من أراد معاملة شخص أو صداقته وهو يجهل حاله أن يختبره و يحصل المقصود به من غير حصول فتنة، وهذه المسألة على قولهم ليس لها نظير في الشرع فهي مضرة محضة " ، ولا يقاس اختبار الزلل على اختبار الفطنة، فقد جاء اختبار فطنة اليتامى بحيل التجار وحذقهم لكي لا يخدعوا في قول الله :﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ (النساء:4) وهو اختبار للفطنة، والفطنة مصلحة وتعريض اليتامى للمصلحة واجب، فلا يقاس عليه اختبار الزلل الذي قد يوشك أن يفتن التائبة من الزنا، فالزلل مفسدة وتعريض التائبين لمفسدة العودة عن التوبة يحرم ،ولا تأتي بمثله الشريعة، وهذا المعنى الذي يمنع من إحداث مقدمات و أسباب الشرور هو مما تقتضيه اللغة في مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور".
ويختلف إحداث الأقضية والأنظمة عن حدوث الفجور والمخالفات في كون الفجور و المخالفات تأتي بما ينقض ويخالف القديم، قال الزبيديُّ : " ومحدثاتُ الأمورِ : ما ابتدعه أهلُ الأهواءِ من الأشياءِ التي كانَ السلفُ الصَّالحُ على غيرِها ، وفي الحديثِ : " إيَّاكم ومحدثاتِ الأمورِ( ) ، جمعُ مُحدَثةٍ – بالفتح - : هو ما لم يكن معروفاً في كتابٍ ولا سنَّةٍ ولا إجماعٍ "( ).
بينما إحداث الإمام أقضية وأنظمة وتنظيمات وسياسات إنما تأتي لتجديد العمل بما يُصْلِح الناس وليس فيه ما يخالف كتاباً أو سنّة، وهي كما قال الزمخشري :" وأحدثَ الشيءَ واستحدثَه .... واستحدثَ الأميرُ قريةً وقناةً "( ) .
و يختلف إحداث الأقضية والأنظمة عن إحداث الفجور والمخالفات في كون الفجور والمخالفات الأصل فيها أن الناس يحدثونها دون علم أو فعل من الإمام أو جهد منه فهي بالنسبة للإمام تحصل دون علمه أو قصده. أما إحداث - الأقضية والأنظمة فيدل على عمل الإمام والأصل أن فعل الإمام في سنّ الأقضية والأنظمة أن يأتي لدرء ورفع ما حدث من فجور وفساد، وبذل الوسع واستشراف الأمور قبل وقوع الفساد ودرئها، فلا يصح من الإمام أن يحدث الفجور سواء مباشرة أو باستحداث أسبابه ومقدماته أو أن تترك الأنظمة والأقضية تحدث كردود أفعال لفجور ومخالفات تركت عمداً لتتبع بأقضية وأنظمة تسنّ.
أقضية وأنظمة مقابل فجور وشرور ومخالفات:
الأقضية المحدثة تتنوع بتنوع الفجور الحادث ويقاس على ذلك القول بأن الأنظمة المحدثة تتنوع بتنوع المخالفات الحادثة وهذا بدوره يحدد نمط الأنظمة التي تسنّ .
وتطبق الأقضية والأنظمة المحدثة في المجتمع بصور مختلفة باختلاف الفجور والمخالفات الحادثة وباختلاف مقصود النظام وطبيعة النظر إلى المخالف للنظام، ومن أشهرها عند علماء اجتماع القانون أربعة أنماط هي: العقابي، و التعويضي، و الإرضائي أو التوفيقي، والعلاجي.
فعندما ينظر للفجور ومخالفة النظام الحادثة على أنها تعدي على القانون والمجتمعِ في الدرجة الأولى، وضدَّ الطرف المجني عليه في الدرجة الثانية، ومن ثمَّ تصوَّر وكأنها تجريح لمشاعر وحقوق العامة، وأنها تستدعي وتستلزم العقاب والتعذيب للخارج عن القانون؛ تكون طبيعة الأقضية والأنظمة المحدثة في المجتمع في هذه الحالة من النمط العقابي( ). ومن الأمثلة على ذلك أنظمة العقوبات وأنظمة مكافحة الإرهاب وأنظمة الطوارئ بصفة عامة.
وعندما ينظر للفجور ومخالفة النظام الحادثة على أنها تعدٍّ على متضرر يستحق بموجبه أن يعوَّض عن الضرر الناشئ عن مخالفة النظام؛ تكون طبيعة الأقضية والأنظمة المحدثة في المجتمع في هذه الحالة من النمط التعويضي( ). ومن الأمثلة على ذلك المواد النظامية التي تنص على غرامة تعويضية مقابل المخالفة أو أيَّة عقوبة يستفيد منها المتضرر.
وعندما ينظر للفجور ومخالفة النظام الحادثة على أنهما مجرد خلل في التوازن القائم بين المصيب والمخطئ؛ ووفق هذا المنظور تكون وظيفة النظام إعادة التوازن إلى سابق حاله قبل المخالفة ( )، ولكن غالباً ما تضطر الأطراف المعنية حسب الواقع إلى حل وسط؛ لذلك تكون طبيعة الأقضية والأنظمة المحدثة في المجتمع في هذه الحالة هو النمط الاسترضائي والتوفيقي لاستعادة التوازن. ومن الأمثلة على ذلك الأنظمة المتعلقة بالتوفيق والمصالحة.
وعندما ينظر للفجور ومخالفة النظام الحادثة على أنهما مرض يجب علاجه ، وأن المخطئ مريض وقع ضحية مرضه، ويعاني من قصور أدى إلى وقوعه في المخالفة ، وأن النظام لابد أن تكون غايته هي علاج أسباب الخلل؛ تكون طبيعة الأقضية والأنظمة المحدثة في المجتمع في هذه الحالة هي النمط العلاجي( ). ومن أمثلة ذلك بعض مواد الأنظمة التي تعالج قضايا الجاني الحدث صغير السن.
قد يرى بعض الباحثين أن المجتمع المعاصر في دولة الشريعة يمر بالمرحلة الانتقالية نفسها من مجتمع آلي إلى مجتمع عضوي، ومن مجتمع السمة السائدة للأقضية و الأنظمة المحدثة فيه هي الزجر والعقاب، إلى مجتمعٍ السمةُ السائدةُ للأقضية والأنظمة المحدثة فيه هي الإرضاء والعلاج، وأن هذا يقتضي استحداث المزيد من الأقضية والأنظمة على النمط العلاجي والتوفيقي مجاراة لمراحل تطور المجتمع.
ويمكن مناقشة هذا القول من جهتين، أولاهما: جهة تحول المجتمع الآلي إلى مجتمع عضوي: صحيح أن المجتمع المسلم المعاصر يمر بمرحلة انتقالية من مجتمع آلي إلى مجتمع عضوي، ولكن أي مجتمع يحتكم إلى شرع الله سيجد ثوابت شرعية لا يملك المجتمع ولا الحكومة أو ولاة الأمر تغييرها،بل إن مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" هي في الحقيقة قاعدة في مراعاة العصر والمرحلة المجتمعية التي يعيشها المسلمون؛ فهي تفسر: متى؟ ولماذا؟ و بأي مقدار؟ تتطور وتتغير الأنظمة والأقضية في المجتمع الإسلامي الذي يعيش في كنف دولة الشريعة.
وثانيهما: جهة نمط الأنظمة في دولة الشريعة: إن من رحمة الله عز وجل بنا أن هدانا لهذا الدين الذي جاءت شريعته الكاملة لتحقق مصالح العباد، وتدرأ عنهم المفاسد وتحميهم منها، لقد قامت هذه الشريعة على رفع الحرج والمشقة، وعلى اليسر في الأمور كلها قال ابن القيّم : "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل"( ).
إن هذه السياسة الشرعية تفرض على المنظم والمجتهد والمفتي نسقا اجتهاديا محددا، يتمثل في اعتماد قواعد أصولية و مقاصدية خاصة بسنّ الأنظمة، منها مقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، وتطبيق منظورها بذاتها ليخدم طبيعة الأنظمة ونمطها إجرائياً وإعمالها لإصلاح الناس وفق النسق التشريعي العام الذي يتسم بسمتين رئيسيتين :
السمة الوقائية: وتعني منع المكلف من أي فعل تترتب عليه آثار تخالف المقاصد الكلية أو الجزئية أو الخاصة التي تغيّاها الشارع، وذلك من خلال صورتين:
أولاهما: قواعد أصولية استقرئت من ثنايا نصوص الشرع وصارت في حكم القطعيات، والمقصود بها قواعد سد الذرائع والحيل الشرعية، والاستحسان بمجمل صوره، وما بناه الأصوليون والفقهاء من قواعد فقهية تحكم جزئيات متعددة لها مناط واحد، وإن اختلفت صورها ووقائعها، كقواعد الضرر وقواعد القصود والنيات، وقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد .
أما الصورة الثانية:فهي نظريات فقهية جمع العلماء القدامى فروعها دون نظمها تحت مسمى معين، وقام المعاصرون من الدارسين والباحثين بإعطائها مسميات تتناسب ومضامينَها ذات الصبغة الوقائية، والمقصود هنا نظريات الباعث والاحتياط، والتعسف في استعمال الحق، وهي كلها نظريات جاءت من نصوص الشريعة.
والسمة العلاجية: والصبغة العلاجية للأنظمة والسياسات هنا، لا يُتصور أنهما تقتصران فقط على المنع من الفعل عملا بالذرائع أو الحيل أو الاحتياط، بل تشمل كل تدخل من الإمام أو بمعرفته سواء للمجتهد أو للمفتي لرفع المشقة عن المكلف إذا كانت تكاليف الشرع المعرَّفة بموجب النظام حين تطبيقها في صورة معينة توقع المكلف في الحرج، وهذا يعني تقديم بقية الأنماط على النمط العقابي في الأنظمة، وقد يأتي ذلك ضمن إطار العمل بالاستحسان فباعتبار أن كليات الشريعة وجزئياتها معللة بمصالحها ، و مثال ذلك نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي التي تنهض بدور وقائي و علاجي يهدف إلى إعادة التوازن إلى المصالح وحفظها من أي خلل .
فإنه تبعا لذلك يتعين على المستفتَى في مسألة نظامية متى استبصر استبصاراً قطعيا أو ظنيا أن تطبيقَ الحكم الشرعي المعرَّف بموجب النظام على المكلف أو إعمالَ القياس، من شأنه أن تكون له نتائج على غير المعهود من سُنَنِ الشرع ومقاصده، أن يَعْدِلَ إلى التكييف الاستثنائي الذي به يتحقق المقصد الشرعي من التخفيف والتيسير على الناس فيما ليس فيه مخالفة لشرع الله، وهو معنى الاستحسان: "العدول عن حكم مسألة عن مثل نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي التخفيف، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم" .
إن هذه الأنظمة تزداد حجماً وكمّاً كلما ازداد المجتمع تقدماً وتعقيداً وتصنيعاً، وكلما ازداد تدخل الجهات الحكومية في حياة المواطنين، وكلما ازداد لجوء المواطنين إلى القضاء واستخدموا المحامين لطرح شكاواهم، واستيفاء حقوقهم، والعكس أيضاً صحيح، بمعنى أن حجم القوانين تقل كلما قلت العوامل والمتغيرات التي ذُكرت.
والأنظمة بجميع أنماطها، سواء العقابي، و التعويضي، و الإرضائي أو التوفيقي، و العلاجي، جميعها متى تسنّ على وفق الشريعة تكون كلها مبنية على التيسير ورفع المشقة والحرج و الاحتياط للمصالح ودرء المفاسد أو رفعها أو تقليلها ، ويقدم أي منها على الآخر حسب إفضائه إلى مقصود الشريعة.
غير أن الغالب في سنّ الأنظمة في دولة الشريعة، أنه يقصد به النمط الإرضائي والتوفيقي بالنظر إلى إعادة التوازن إلى علاقة الناس بالناس والعلاجي بالنظر إلى رفع حرج والتيسير على من يطبق عليهم النظام و التعويضي بالنظر إلى المتضرر من عدم سنّ النظام، وكلٌ على قدر الإمكان وحسب الحاجة ولا يتحول إلى النمط العقابي إلا عند الضرورة.
ومن الشواهد على ذلك من سياسة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - أمره عماله، قال:" ادرؤوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى بالعقوبة" ، وكان - رحمه الله - لا ينصاع لاقتراحات عماله بالنظر إلى كل شبهة مخالفة بمنظور عقابي، جاء في رده على عامله على الكوفة عندما اقترح نوعًا من تعذيب موظفي الخراج المتهمين باختلاسات، قوله: "جاءني كتابك، تذكر أن قِبَلك قوما من العمال اختانوا مالاً فهي عندهم، وتستأذنني في أن أبسط يدك عليهم، فالعجب منك استـئمارك إياي في عذاب البشر كأنني جُنةٌ لك، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله" ، وكان - رحمه الله - يوبخ عماله من اعتقاد أن النمط العقابي هو الأصل في إصلاح الناس، قال لوالى خرسان:" فقد بلغني كتابك ،تذكر أن أهل خرسان قد ساءت رعيَّــتــُهم وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط؛ فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق فابسط ذلك فيهم والسلام" ، وأصل ذلك أن الشريعة لا تشتمل على نكاية بالأمة أو الأفراد، وإنما الغاية هي تحصيل مقصود الشريعة في إصلاح عموم الأمة وخويصة الأفراد .
أقضية وأنظمة بمقدار وقدر الفجور والشرور والمخالفات:
سبق بيان أن الشريعة الإسلامية أغنى الشرائع السماوية إطلاقاً من جهة حجم الأحكام (القوانين) وكميتها، وبيان أن جميع المحل الصالح لسنّ القوانين مشغول بأحكام شرعية، فمن الطبيعي والحال كذلك أن يُقتصر في سنّ الأنظمة على الحد الضروري منها، قال محمد مفتي وسامي الوكيل بلزوم الاقتصار في سنّ الأنظمة على رعاية شؤون وأعمال الحكم الضرورية للدولة دون غيرها، و على تنظيم المباحات وإقامة فروض الكفاية في مجالات مخصوصة فقط . و يتفق هذا مع أن الأصل في الأنظمة أن تكون بمقدار الحاجة لا تتجاوزه كما هو المعنى المقصود بحصر الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – يرحمه الله - مقدار الأقضية على قدر الفجور في قولة: " بقدر ما " ويقصد به عدم التعسف الكمي أو النوعي في سنّ الأقضية وما تشمله من أنظمة وسياسات وقرارات ، والتعسف الذي يراد الاحتراز منه حسب مقتضي هذه المقولة أنواع هي:
التعسف في كمّية الأنظمة: الأصل عدم سنّ الأنظمة إلا لضرورة أو حاجة ؛ لذا فالأصل أن كمية الأقضية والأنظمة أن تكون بمقدار كمية الضرورة و الحاجة لدرء أو رفع الفجور والشرور والمخالفات، وكما أن الضرورة تقدر بقدرها فكذلك الأنظمة التي تباح للضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها ، وهو منهج القرآن الكريم في التشريع، فقد كانت الأحكام تنزّل منجَّمة تدبيراً لحوادث وقعت على قدر حاجات من شرع لهم وما تقتضيه مصالحهم. والله يشرع للناس أحكامهم على قدر حاجاتهم و على قدر ما اقتضته مصالحهم ، فثبت بذلك أن من سنن الله وحكمته في التشريع أن يكون على قدر حاجات من شرع لهم ، بحيث لا يكون فيه تشريع لحوادث فرضية أو صور ذهنية، وكذلك كان التشريع عند فقهاء الصحابة للحاجة و على قدرها .
وفي تنزيل تقدير الحاجات التي تقوم مقام الضرورة بقدرها من شرح قوله :"لا ضرر ولا ضرار " على مقدار الأنظمة وكميتها، بيان لميزان الاعتدال في مقابلة مقدار الأنظمة بمقدار المخالفات.
فقوله لا ضرر :نكرة في سياق النفي، وهي عامة لكل ضرر ،لكن هذا الضرر من جهة الابتداء، و الضرر في الكلمة الأولى هو فجور ومخالفة حادثة، وأقول حادثة لعدم جواز إحداثها أو استحداثها، بمعنى أن الشخص لا يضر ابتداءً، والدولة كذلك لا تسنّ الأنظمة ابتداءً ، فالأصل أن أي شخص أو جماعة أو دولة لا تضر نفسها ولا تضر غيرها بتضييق أو تعسير - كما يفعل التعسف في الأنظمة فيما تدخل عليه - ، وهذه الكلمة (لا ضرر) شاملة لجميع أنواع الضرر الابتدائي قلّ أو كثر.
والكلمة الثانية: ولا ضرار :أيضًا نكرة في سياق النفي ،ومعنى هذا :أن الدولة عندما تريد أن تأخذ حقك أو حقها ممن صدر منه عليك أو عليها ضرر، أو أن تقيم عليه عقوبة من العقوبات، هذه الكلمة شاملة لجميع الفروع التي يكون فيها فجور أو اعتداء على الحق بصرف النظر عن كون الاعتداء على الحق كائناً من فرد أو بتطبيق عقوبة من العقوبات ولهذا يضم إلى ذلك قول الله سبحانه وتعالى:﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴾(سورة النحل:126)، وقال عزّ وجل: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـه إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(سورة الشورى:40)، فلا يزيد الفرد أو الدولة عن الحق الذي لهما ، فإذا زاد الفرد أو الدولة عن الحق الذي لهما فهذه الزيادة هي المنفية في قوله : ولا ضرار. فكما نفى الضرر ابتداءً بقوله "لا ضرر" فقد نفاه مقابلة بقولة "ولا ضرار" أي مقابلة الضرر بمثله.
والأقضية والأنظمة التي تحدث في مقابل حدوث الفجور والمخالفات وعلى قدرها تعد من الضرر أو الحرج الذي يحدث في مقابل و على قدر الضرر أو الحرج الحادث، ويعد سنّ الأنظمة التي توافرت فيها تلك الصفة أمراً مشروعاً و متوافقاً مع المقولة العمرية.
التعسف في سنّ الأنظمة على سبيل الضرار: عندما تسنّ أنظمة ابتداءً دون أن تكون في مقابل ضرر أو حرج حادث؛ فإن ذلك يعد من الضرر ابتداءً، ومن أمثلة ذلك جميع الأنظمة التي تحد من التنافس المشروع، ومنها الإجراءات الوقائية أو الانتقائية في المجال الاقتصادي والمالي، فلا يصح سنّ نظام يمنع نوعاً من أنوع الأعمال التجارية ليسمح أو ليمنح ميزة لنوع آخر دون موجب من فتح طريق المصلحة بعد أن سد مفسدة، أو درأها أو رفعها أو قلل منها.
ومن الضرار السلبي في سنّ الأنظمة ترك إلغاء نظام انتهى فيه الضرر أو الحرج الذي سُنّ النظام في مقابِلهِ، ومن أمثلته الإيجابية أن صدور نظام القضاء السعودي الجديد في العام 1428ه، والذي ألغى جميع اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي ويأتي ذلك من جهة تقدير الأقضية والسياسات بقدر الضرورة والاضطرار، فبسبب انتهاء الضرورة و الحرج الذي استدعى في السابق استحداث سياسة إنشاء تلك اللجان - ويأتي هذا المثال على قول من يقول إن الضرورة ألجأت إلى هذه اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، على سبيل التنزّلْ، و إلا فالأصل عدمها ، ولكن بقي بعضها على سبيل أن الحاجة والضرورة الداعية إلى وجودها تتناقص ولم تنته بعد، وهذا يقتضي التدرج في إلغاء العمل بهذه اللجان ومن ثم التحول إلى المحكمة المختصة في مقابل وقدر التدرج في تناقص الضرورة والحرج الداعي إلى وجودها، ودون ذلك يعد من التعسف السلبي بترك تقليل عمل تلك اللجان، و يعد من الضرر المحدث ابتداء أن يُرى ضرر حادث ثم يترك دون رفع أو درء أو تخفيف من قبل من تعين عليه وهو قادر على ذلك وهي الدولة ، فيتدخل المنظم بإلغاء نظام أو سياسة كونها صارت مفضيه إلى مفسدة تتزايد مع الوقت، و يحدث هذا بالتدرج المقابل لدرجة تزايد أو تناقص المحدثات قصداً للاحتياط للمصالح التي تتعطل ورفعا للمفاسد التي تتزايد.
ومن أمثلة الضرار السلبي المتعلق بممارسة الأنظمة ما جرى في زمن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – الاستمرار في أخذ الجزية والخراج حتى بعد دخول الذمي في الإسلام؛ وذلك خشية أن تنقص موارد خزينة الدولة، كتب عمر إلى واليه على الكوفة، فقال: "كتبت إليَّ تسألني عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة، وتستأذني في أخذ الجزية منهم، وإنَّ الله بعث محمداً داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابيا، فمن أسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه"، وكتب عدي بن أرطاة والي البصرة لعمر فقال:" فإن الناس كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج"، فجاء جواب الخليفة حازماً، قال:" فهمت كتابك ووالله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا" ، ويأتي الضرار السلبي في هذا المثال من جهتين، أولاهما من جهة عدم التوقف عن تطبيق النظام بعد انتفاء سببه، وهو صفة الذمِّية التي بموجبها تؤخذ الجزية والخراج ،و ضرار ذلك في الزيادة عن المال المقابل لأداء الحق المشروع على الأشخاص والأفراد. وثانيهما من جهة عدم التحول إلى تطبيق نظام انعقد سببه، وهو صفة الإسلام التي بموجبها طرح عنهم الجزية والخراج ، وضرار ذلك على الفقراء و المعوزين في المجتمع أنهم بعد أن حرموا حقوقهم فالزكاة توزع عليهم، والصدقات تعطى لهم، بعد أن دخلت في أموال أخذت من مسلمين على سبيل الجزية والخراج بغير حق، فلم تصرف في مصارف الزكاة ،ولم يبقَ لهم فضل مال يتصدقون به، هذا بالإضافة إلى تحول تلك الجهات الحكومية من الهدف الأصلي للدولة وهو إصلاح الدنيا بالدين إلى هدف مبتدع وهو التحيُّل للدنيا بالدين، وذلك بتنفيذ الأحكام على عكس مقصودها، وفي ذلك إبطال لها، وإجراءات عمر بن عبدالعزيز تلك تأتي لتعيد الأمور إلى القدر المناسب للفجور الحادث.
وأيضاً من الأمثلة على الضرر السلبي في ترك سنّ أنظمة ترك إنشاء سوق للسلع متوافقة مع المعايير المالية الإسلامية ، مع وجود الحاجة أو الضرر من عدم سنِّها، والتي يتحقق بوجودها مصالح عديدة، منها الحيلولة دون هجرة أموال المسلمين للمصارف الغربية والعالمية كما أن عدمها قد أدى إلى تفويت فرصة استثمار أموال في سوق المسلمين من مناطق مختلفة في العالم ؛لأجل إجراء بعض معاملات التورق والمرابحة والمتاجرة، ولا يمكن إنشاء سوق للسلع والمعادن متوافقة مع المعايير الإسلامية إذا لم يصدر فيها نظام؛ فلا توجد إلاَّ بنظام لما أنها من أعمال الحكومة وليست من أعمال الناس ،فالحكومة هي المسؤولة عن استحداث التنظيمات والأنظمة ؛ لذا فهذه من المصالح التي سدّ الطريق إليها بسبب الفراغ النظامي والتنظيمي ؛فيدخلها النظام والتنظيم لرفع مفسدة سدّ الطريق إلى المصلحة ، لأجل ذلك يعد سنّ النظام في هذا المثال لم يدخل على المصلحة وإنما دخل على المفسدة التي أدت إلى فواتها، فهو عند التحقيق داخل لرفع مفسدة تعطيل المصلحة ليس بالإمكان تحصيلها دون نظام وتنظيم فالأصل هنا أن تُدْخَل الأنظمة لرفع مفسدة قطع طريق المصلحة ثم بعد تحقق ذلك تُدْخَل الأنظمة لدرء مفسدة قطع طريق المصلحة؛ وترك أي من ذلك يعد من التعسف السلبي في سنّ الأنظمة ومن الضرر المحدث ابتداء ، فهو من الشرور لما فيه من ترك لضرر حادث دون رفع أو تخفيف وتقليل.
والذي يظهر أن أغلب التجاوزات النظامية للحكومات اليوم هي من التعسف السلبي غير مقصود ، وهي من الفجور أو الشرور الخفية لما فيها من امتناع عن تقديم خدمة نافعة يحتاج إليها عموم للناس و ليس فيها مخالفة للشرع ولا ضرر على الدولة؛ فانتفاء المصلحة المشروعة قرينة لقصد الإضرار، ومن ذلك أن لا يكون للدولة منفعة في استعمال حقها في سنّ الأنظمة ، مع ما يترتب عليه من ضرر بعامة الناس، فالأصل أن تمتنع الدولة عن استخدام حقها في سنّ الأنظمة دون منفعة لها راجحة ،كما أن الأصل أن تمتنع الدولة عن ترك سنّ أنظمة ينتفع بها الناس وليس على الدولة في ذلك ضرر راجح ، فترك الفعل النافع هو في الحقيقة فعل ضار؛ وهو قرينة على تمحض قصد الإضرار، وتمتنع الدولة من باب أولى إذا استعملت حقها على وجه سلبي، بأن تمنع الناس من الارتفاق بأراضيها أو تمنع الناس من المتاجرة في مجال معين – على سبيل المثال لا الحصر - وبخاصة اذا ترتب على هذا الارتفاق أو المتاجرة نفع لكليهما، أو نفع للناس دون الإضرار بالدولة، فقد جاء في قضاء عمر في قضية محمد بن مسلمة ، احتياطٌ لمصلحة شخصين، فمن باب أولى الاحتياط لمصلحة عموم الناس.
ومن أمثلة الضرار، عندما يسمح النظام أو تطبيق النظام للجهة الحكومية حجز مستحقات مالية تفوق القيمة المختلف عليها مع المقاول، مثلاً يحجز مبلغ مائة مليون ريال بينما المختلف عليه في المشروع لا يتجاوز عشرين مليون ريال، هذه الزيادة عن العشرين مليون ريال وتساوي ثمانين مليون ريال هي المنفية في قوله : "ولا ضرار". وهي المخالفة لقول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "بقدر".
وأيضاً من أمثلة الضرار، إيقاف عمل لشركة قيمته تفوق قيمة المبلغ المستحق بموجب حكم قضائي، فهذه الزيادة عن المبلغ المستحق بموجب الحكم القضائي هي المنفية في قوله : ولا ضرار. وهي المخالفة لقول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "بقدر" أي بقدر ما أحدثوا.
و من الأمثلة على الضِرار، جزاء عدم تسديد العقوبة المالية في بعض المخالفات، فلو استحق شخص عقوبات قيمتها عشرة آلاف ريال ولم يسدد، فما مقدار العقوبة التي يصح للدولة أن توقعها عليه مقابل سيئة عدم تسديد قيمة المخالفات ؟ وهل من الإضرار إغلاق ملف المخالف في الحاسب الآلي الحكومي فلا يستطيع السفر أو الاستفادة من الخدمات الحكومية كلها أو أغلبها! أليس في ذلك زيادة على الحق الذي للدولة عليه ؟وأن هذه الزيادة هي المنفية في قوله : "ولا ضرار"، ويشير ذلك إلى أن العقوبة المالية ابتداء عندما وقعت على المخالف، وقعت على سبيل النمط التعويضي، ثم عندما لم يتم التسديد، تحولت العقوبة إلى النمط العقابي، و هذه الزيادة التي في النمط العقابي على النمط التعويضي هي التي من السهل أن تتحول إلى ضرار إذا لم تضبط بمقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - ، ومن أمثلة ذلك نظر المحاكم العسكرية في قضية سبق أن صدر فيها حكم من محكمة مدنية على موظف عسكري، فإذا كان الحكم الأول الصادر من المحكمة الشرعية المختصة مقابل الجنحة أو الجناية، ألا يكون الحكم الثاني الصادر في نفس القضية وعلى نفس الشخص من باب الزيادة عن المقابل فيدخل في الضرار المنفي في قوله " ولا ضرار"، فهذا الضرر الزائد بموجب أنظمة عمَّا يقابل السيئة هو ضرار من جهة أنه زيادة في المقدار الذي يحق للدولة سنّه من الأقضية عن مقدار ما أحدث الناس من فجور، وهذا يستدعي إلغاء الزيادة في الأنظمة أو السياسات أو التعليمات، أو تعديلها لترفع ما وقع من ضرار و تداركه من أن يعود.
ويأتي الضرر والضرار أيضاً من جهة استبدال النمط المناسب للأنظمة بنمط آخر غير مناسب ، فعلى سبيل المثال: فالأصل أن لا تأتي الأنظمة على النمط العقابي، وإنما تأتي على النمط العلاجي؛ فإذا كان طريق المصلحة قد قطع، تأتي الأنظمة العلاجية بفتح الطريق إلى المصلحة وتيسير الوصول إليها، و على النمط الإرضائي؛ فإذا تعارضت مصالح الجهات المعنية فيما يتعلق بموضوع النظام والعمل به، تأتي الأنظمة الإرضائية للتوفيق والتنسيق والتكامل بين تلك الجهات بما يكفل عدم تطارح المصالح وصيانتها، وعلى النمط التعويضي؛ فإذا قطعت الأنظمة الطريق إلى مصلحة مشروعة تأتي الأنظمة التعويضية لتفتح الطريق إلى مصلحة بديلة تقوم مقام المصلحة التي منعها النظام أو تفوقها، فلا يلجأ إلى النمط العقابي إلا بعد استنفاذ جميع الأنماط الأخرى وعندما لا يصلحه إلا ذلك.
لذا فالنمط العقابي للأنظمة هو خلاف الأصل الذي تصاغ الأنظمة وفقه لكونه الأكثر تقييداً للمصالح والحريات والأحرى في تجاوز الحد المقابل في العقوبات بأكثر مما يلزم.
ومنذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة حرص الملك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل – رحمه الله- على مبدأ طلب التوفيق من الله بالتوسعة على الناس، ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم بكل ما ليس فيه مخالفة لشرع الله، ومن ذلك ما ورد في خطابه الموجه إلى أمير القصيم عبد العزيز بن مساعد بن جلوي ،وكافة جماعة أهل بريدة بتاريخ 28/محرم/1342هـ - 1923م يحثهم فيه على شراء أسهم في شركة نفطية تحت الإنشاء فقال: "والقصد أن تكون مصالحها للرعية أحسن ،ونحن نحب أنها تكون لمصلحة الرعية ؛ حيث إن مصالحها مع توفيق الله ما هي هيِّنة ، ولا أحد يقيسها" .
و مما يستفاد من سياسة الملك عبدالعزيز – يرحمه الله - هو: تقرير أن سياسة ولاة الأمر لتحصيل توفيق الله مترتبة على قصد التوسعة على الناس، و الاحتياط لمصالحهم ، ورفع الحرج عنهم بتطبيق شرع الله، ولو سُخِّرَت الأنظمةُ لخدمة كل مصلحة مباحة من جهة إطلاقها وإبقائها على سعتها دون تقييد، أو من جهة فتح الطريق إليها إذا كان مسدوداً فستخرج الأنظمة وفيها نفع كبير في الدنيا والآخرة، ويتضح مما سبق أن هذ المقولة العمرية في سنّ الأنظمة تشمل جميع مناحي الأعمال الحكومية وأن فيها توسعة على الحاكم والمحكوم بما لا يخالف الشريعة الإسلامية السمحة، ويقدم تصوراً قِيَمِيّاً لسنّ الأنظمة.
نتائج البحث:
نستعرض نتائج البحث على شكل تقريرات فرعية تستخرج من دراسة لوازم المقولة المأثورة عن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" وهي باختصار كما يلي:
• أولاً: شمول مقولة عمر بن عبدالعزيز لسائر أمور الدولة والحكم ودخولها في جميع أبوب الفقه؛ فالأصل سياسة الدنيا بالدين.
• ثانياً: أن جل إصلاحات الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - كانت في تقليل وتخفيف الأنظمة والتنظيمات والسياسات والإجراءات والقرارات قدر الإمكان و ذلك بإلغاء كل التصرفات الحكومية إذا ترتب عليها مخالفة شرعية أو مشقه على الناس؛ فالأصل رفع الحرج.
• ثالثاً: أن السياسة الشرعية تقتضي إدارة الدولة بأقل قدر من الأنظمة والتنظيمات والسياسات والتعليمات والقرارات التي من شأنها التدخل في حياة الناس أو تقييدهم بأي شكل من الأشكال؛ فالمــُكَـبَّـرَ لا يُكَبَّــرَ.
• رابعاً: أن الأصل في الأنظمة والتنظيمات تقييد وضبط ما دخلت عليه، وهذا يتعارض مع الأصل في المصالح المعتبرة و الحريات المشروعة، وهو أن تبقى على إطلاقها دون تقييد وأن يسمح بها دون ضبط؛ فالمــُصَغَّـرَ لا يُـصَغَّـر.
• خامساً: أن الاحتياط للمصالح بإطلاقها والسماح بها هو مقصود سنّ الأنظمة الأساسي، و أن درء و رفع وتقليل المفاسد تابع وخادم لإطلاق المصالح والسماح بها؛ فتكثير الفائدة مما يرجح المصير إليه.
• سادساً: لما كان الأصل في الأنظمة والتنظيمات أن تقيد وتضبط ما تدخل عليه يتفق مع الأصل في المفاسد والشرور أن تقيد وتضبط؛ صار الأصل في الأنظمة والتنظيمات الدخول على المفاسد والشرور بما يكفل الدرء والرفع أو التخفيف؛ فالأصل في المفاسد التقييد.
• سابعاً: الأصل في الأنظمة أن تأتي على النمط التوفيقي و العلاجي والتعويضي ولا يتحول إلى النمط العقابي إلا لضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة؛ فلا نكاية في الشريعة.
• ثامناً: أن كمية الأنظمة والتنظيمات تضبط بحسب المقدار الكافي لرفع المفاسد والشرور الحادثة، وتقدر بقدرها؛ فما جاز للحاجة يقدر بقدرها.
• تاسعاً: لما كان الأصل في الأنظمة والتنظيمات عدمها؛ صار الأصل أن تؤقت الأنظمة والتنظيمات لتلغى وتنتهي بانتهاء الحاجة أو الضرورة الداعية لها، فمتى رفع المانع عاد الممنوع.
• عاشراً: أن جميع الأنظمة في دولة الشريعة أحكام مستأنفة بالوازع السلطاني لخدمة الوازع الديني و تنفيذ أحكامه.
الخاتمة
إن المتدبر للسياسة الشرعية التي عمل بها الخلفاء الراشدون و من تبعهم بعدل وإحسان من الخلفاء والأئمة الملوك والأمراء والولاة، و المتدبر لسيرة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - سيجد صدق فراسته في تحديد سبب فساد الحكومة والدولة حين قال: "وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطى أحدا باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً" ، و سيجد أن عمر قد شخص الداء إجرائياً بقوله:" إنما هلك من كان قبلنا بحبسهم الحق حتى يشترى منهم، وبسطهم الظلم حتى يفتدى منهم" ، وهو بذلك يشير إلى السياسات والتعيينات التي أحالت الانتماء لدولة الشريعة إلى ولاءات شخصية، فقد كان بعض من سبقوه من أقرانه في سياستهم المالية وتعييناتهم الوظيفية، قد حولوا الانتماء إلى دولة الشريعة إلى ولاءات لشخص الحاكم، ثم جاء عمر فنقض كل تلك الولاءات الشخصية بسياسته المالية وتعييناته الوظيفية و رده للمظالم واستحدثه في سبيل ذلك نظم وتنظيمات، فعاد الناس إلى الأصل وهو الانتماء إلى دولة الشريعة.
وبذلك يكون الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - يرحمه الله - قد فاق أقرانه في الفهم الدقيق والإدراك العميق للوظيفة الأساس التي يختص بها الخليفة والإمام الأكبر دون بقية أعضاء دولته وحكومته وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الشرعية للدولة، و هي: حماية الرعية من تجاوزات الحكومة ومسؤوليها؛ فتراه قد بدأ عهده بمثال عملي على سياسته في التعيينات الوظيفية ، وهي تعيين القوي الأمين، فكان يعيين الموظفين لله ويعزلهم في الله دون هوى أو تشفي، حتى انقطع غشم مسؤولي الدولة على الناس، وزال الحرج عن الرعية في معاشها وأعمالها. فكان من أوائل قراراته تلك، عزل خالد الريان قائد حرس الخليفة الوليد بن عبد الملك، فقال له :"يا خالد ضع السيف عنك، اللهم إني قد وضعت لك خالد الريان، اللهم لا ترفعه أبداً "- فلم يُـرَ شريفاً خمد ذكره حتى لا يذكر، حتى إن كل الناس ليقولون، ما فعل خالد، أحي هو أم قد مات - ثم نظر عمر في وجوه الحرس، فدعا عمرو بن مهاجر الأنصاري، فقال:" والله إنك لتعلم يا عمرو أنه ما بيني وبينك قرابة إلا قرابة الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظنّ أن لا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة؛ خذ هذا السيف قد وليتك حرسي" .
و ما ذاك من عمر إلا لحماية مصالح الرعية المعتبرة وحرياتهم المشروعة من أن تنتقص أو تقيد أو يعتدى عليها، فلم يكن همه مجرد حماية المؤسسات الحكومية أو المحظية من سخط وانتقادات الرعية المبررة بالبراهين والأدلة الشرعية، وتفطن عمر بحاذق فكره وفراسة المؤمن أن أخطر الاعتداءات على حريات وحقوق الرعية ليس آتٍ من قِبَلِ أفراد الناس والمسؤولين، وإنما من قِبَلِ السياسات و القوانين الوضعية التي يصيغونها، فوضع عمر سياسة شرعية وأنظمة وتنظيمات اجتهادية لعلاج تجاوزات الأفراد والجهات، والقوانين والسياسات، قَـعَّــدَ لذلك وأحكم صياغتها في مقولته المشهورة "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" و الحق أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - نجح وتميز في جميع ذلك جهداً وقصدا، وأداءً وعملا.
وكان تميز الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - في إلغاء أقضية فاسدة وتجديد أمر هذا الدين وليس في مجرد استحداث أقضية جديدة.
وكان تميز الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - في تقوية العدل وأهل الصلاح بين الناس وفي الدولة وليس مجرد منع حدوث فساد جديد أثناء ولايته.
ولكن تميز الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - الذي تفرد فيه كان في رد الأقضية لتكون بقدر الفجور الحادث فجاءت التوسعة و تقوية العدل على قدر تقوية أهل الصلاح و تجديد أمر هذا الدين جراء ذلك، ولعل هذا ما دعا الإمام أحمد بن حنبل أن يقول :" إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله" .
إن تحكيم شرع الله بالنسبة لدولة الشريعة وبخاصة في مراحل التغيرات السريعة و العميقة بمثابة المرساة لمركب في بحر تلاطم موجه واشتدت رياحهُ، فستجده ثابتًا لا تذهب به الرياح ولا يزحزحه الموج ، وتصوير ذلك على الواقع السياسي سهل ولا يحتاج إلى نظريات سياسية وتحليلات علمية ولتقريب الصورة للأذهان ، أنبه فقط إلى حقيقة هي:
لا يوجد أمر يتعلق بالإنسان ليس له حكم في الشريعة؛ لأجل ذلك لا يتصور عقلاً وشرعاً وجود أمر مشكل في دولة الشريعة مهما كبر وعظم؛ لا يمكن الفصل فيه بعدل، إما بفتوى ترفع النزاع وتحل الوئام أو بحكم قضائي؛ وحكم القاضي يرفع الخلاف. فالشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان ولم تضق خلال أربعة عشر قرناً في الجواب عن أمرٍ من الأمور.
وسبب ذلك أن المسلمين في دولة الشريعة يرضون بحكم الله ويسلمون تسليما، عملاً بقول الله تعالي: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ (النساء:65) فتختفي حينها الأزمات لتكون مجرد مسائل فقهية يختلف الناس حولها ومتى ظهر الحكم الشرعي رفع الاشكال.
وفي عصر المؤسسات تكون أهم أدوات حل المشاكل السياسية والاضطرابات هي الأنظمة الدستورية والأساسية التي تعكس هوية المجتمع و الدولة، و جميعها يعتريه النقص ،ويكون محل اختلاف في بعض جوانبه ،وهذا أمر طبيعي يعترض مسيرة الدول والمجتمعات ولا يمكن التحرز منه، وأي سياسة لا تتعظ بهذا في مسيرة الأمة تعد سياسة غير واقعية، ولأجل ذلك فمن السياسة الشرعية الحرص على تقوية قدرة دولة الشريعة على مجابهة المشاكل والاضطرابات، وهذا يتطلب أن يحكم في كل نازلة بحكم شرعي صحيح، وهذا بعد يتطلب بيان الأحكام عند أول مقدمات المشاكل والملمات وظهور العمل بهذه الأحكام قبل استفحال النوازل والأزمات، ويعد ذلك من أهم تطبيقات قول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله - : "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، ولنا أن نتخيل لو أن كل نظام يسنّ ،وكل تنظيم ينشأ يطلق المصالح ولا يقيدها إلا بالحد الأدنى اللازم، ويستبدل ما قُيد بمصالح تساويه أو تفوقه، بل قل :لو أن كل مصلحة تخطر على البال فتح لها طريقٌ مشروعٌ ثم تُوسِع فيه، فكيف يكون حالنا حينئذٍ ؟ هذا ما يحققة تطبيق الشريعة السمحة بصورة صحيحة وهذا ما نخسره كل يوم بتقصيرنا.
هذا ما لزم بيانه و تيسر ذكره وإيراده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم