📁 آخر الأخبار
جريمة التعذيب

جريمة التعذيب 




المقدمة:

يعد موضوع الجرائم الدولية من أهم الموضوعات التي تشغل بال الحكومات والمتخصصين كونها تؤثر على مصالح المجتمع الدولي والداخلي وتمس القيم الإنسانية العليا، ومن أخطر هذه الجرائم نجد التعذيب الذي يعد أبشع جريمة يمكن أن ترتكب في حق الإنسان بصفة عامة والموقوف بصفة خاصة، وقد كان التعذيب وسيلة هامة في المحاكمات الجنائية في الأزمنة القديمة إلى غاية تدخل التشريع لتنظيمه. وبتطور البشرية وتنامي الإتجاه نحو إحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بصفة عامة أضحت جريمة التعذيب أمرا محظورا. كما أنه وقبل ذلك نجد أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة في تجريم التعذيب والتنكيل بالأفراد ويدل على ذلك قوله تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما إكتسبوا فقد إحتملوا بهتانا وإثما مبينا} سورة الأحزاب الآية 58، كما روى إبن ماجة بسند صحيح في السنة (ان الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا)، كما لا يجوز حمل الشخص على الإعتراف بجريمة لم يرتكبها (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)(1).

كما نجد أن القانون الدولي عندما نشأ، إهتم أساسا بتنظيم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية. ولكن يبقى الإنسان المادة الأساسية للبناء القانوني بفرعيه الداخلي والدولي معا، إذ تقتضي حماية الصفة الإنسانية حماية حقوقه الأساسية، ومن أهمها حقه في الحياة وفي سلامته وفي حريته وفي عرضه وشرفه، وحمايته من الإعتداء على هذه الحقوق، كليا أو جزئيا، أو الحط من قيمتها، وعليه فقد إهتم القانون الدولي بضمان تمتع أفراد الجنس البشري بحياة كريمة ومنتظمة مبنية على الأمن والسلم وحماية القيم الجوهرية المشتركة بين الأمم جميعا (2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.الشافعي محمد بشير، قانون حقوق الإنسان، دار الفكر العربي، 1992، ص:108
2/د.عبد القادر البقيرات، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية، الديوان الوطني للأشغال التربوية، 2004، ص:93 
وكان الإهتمام في بدايته يتم من خلال الدول أي بطريقة غير مباشرة، ثم تحول بعد ذلك وبالتدرج إلى الإهتمام المباشر بالفرد وهو ما كشف عنه الفقه والعرف الدولي، ثم المواثيق والإتفاقيات الدولية إلى أن تطور الأمر وأصبح الإنسان أحد أشخاص القانون الدولي العام يقف على قدم المساواة مع الدول والمنظمات الدولية، فقد جرم القانون الدولي اللجوء إلى التعذيب بصفة تدريجية في المواثيق الدولية العامة كما توصل إلى تجريمه من خلال وثائق متخصصة في جريمة التعذيب ذاتها، كما أوجد آليات دولية للوقاية من إقتراف هذه الجريمة ولكن وبالرغم من تطور القانون الدولي وإهتمامه بالفرد، لكنه لم يصل بعد إلى درجة الإحترام المطلق لحقوق الإنسان في جميع الدول في هذه المعمورة. فقد تعددت الإعتداءات واتخذت صبغة دولية تتجاوز إقليم الدولة الواحدة.

لذلك تبرز أهمية القوانين الداخلية لحماية حقوق الأفراد الأساسية عن طريق تجريم وملاحقة مرتكبي مثل هذه الجرائم ومعاقبتهم غير أن هذه الحماية تختلف من دولة لأخرى على أساس درجة التقدم الحضاري للمجتمع وظروفه السياسية والإقتصادية والإجتماعية (1).

ونجد أن القانون الجزائري قد عرف تطورا ملحوظا في تجريم ومعاقبة ممارسة التعذيب بداية من صدور قانون العقوبات الجزائري في 1966 ومن خلال تعديلاته المختلفة خصوصا تعديل قانون العقوبات لسنة 1982 وتعديل 2004، أو من خلال إلتزام الدولة الجزائرية بما توصل إليه القانون الدولي من تطور بشأن تجريم التعذيب عن طريق المصادقة على عدة وثائق دولية سواء عامة أو متخصصة في منع اللجوء للتعذيب مثل المصادقـة على العهـد الدولـي للحقـوق



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص:9 
السياسية والمدنية وكذا إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وحسب المادة 132 من الدستور فان المصادقة على الإتفاقية يجعل منها جزء من التشريع الوطني الداخلي، غير أن تطبيقها من طرف القاضي يثير مشاكل خصوصا أن القانون الجزائي محكوم بمبدأ الشرعية طبقا للمادة الأولى قانون العقوبات التي تنص على "لا جريمة ولا عقوبة أو تدبير أمن بغير قانون".

لكن ورغم ما حظيت به هذه الجريمة من أهمية سواء على المستوى الدولي أو الداخلي، فهي تطرح عدة مشاكل لعل أهمها يتمثل في مدى نجاح القانون الدولي والداخلي في ضبط معالم هذه الجريمة.

لذلك سنحاول من خلال هذه المذكرة التطرق إلى ضبط معالم الجريمة في القانون الدولي في فصل أول، ثم نتعرض إلى ضبط معالم جريمة التعذيب في القانون الجزائري في فصل ثان، مع محاولة إعطاء مقارنة بينه وبين غيره من القوانين المقارنة.

وعليه نقترح الخطة التالية:    

الفصل الأول: جريمة التعذيب في القانون الدولي
المبحث الأول: بيان مفهوم التعذيب والوثائق الدولية التي تجرمه
المطلب الأول: مفهوم التعذيب
الفرع الأول: تعريف التعذيب
الفرع الثاني: تمييزه عن المعاملة اللإنسانية
المطلب الثاني: الوثائق الدولية التي تجرم التعذيب
الفرع الأول: الوثائق الدولية العامة
الفرع الثاني: الوثائق الدولية المتخصصة
المبحث الثاني: الآليات الدولية للوقاية من جريمة التعذيب
المطلب الأول: آليات الرقابة على ممارسة الدول للتعذيب
الفرع الأول: من خلال لجنة حقوق الإنسان
الفرع الثاني: من خلال لجنة مناهضة التعذيب
المطلب الثاني: المبادئ القانونية الدولية لعدم الإفلات من العقاب
الفرع الأول: مبدأ عدم تقادم الجريمة
الفرع الثاني: مبدأ الولاية القضائية العالمية وسقوط الحصانة
الفصل الثاني: جريمة التعذيب في القانون الجزائري
المبحث الأول: جريمة التعذيب قبل تعديل قانون العقوبات سنة 2004
المطلب الأول: تجريم التعذيب في إطار المادة 110 مكرر ق.ع
المطلب الثاني: التعذيب ظرف مشدد للعقوبة
الفرع الأول: ظرف التعذيب في المادة 262 ق.ع
الفرع الثاني: ظرف التعذيب في المادة 293 ق.ع
المبحث الثاني: جريمة التعذيب بعد تعديل قانون العقوبات سنة 2004
المطلب الأول: الأركان القانونية لجريمة التعذيب
المطلب الثاني: المتابعة والجزاء المقرر لها
الفرع الأول: متابعة جريمة التعذيب
الفرع الثاني: الجزاء المقرر لها قانونا
الخاتمة
            
     



الفصل الأول: جريمة التعذيب في القانون الدولي


يسعى القانون الدولي ومنذ مدة معتبرة إلى مكافحة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يشكل التعذيب أبرزها وأخطرها على الإطلاق نظرا لما يخلفه من آثار قد لا يمكن إصلاحها على مدى الحياة سواء جسديا أو معنويا.

فقد قامت الدول في الإطار الدولي بتجريم التعذيب بصفة تدريجية خصوصا بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة فبدأت بإقرار حظر اللجوء إلى التعذيب من خلال جملة من الإعلانات و الإتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان ثم وفي مرحلة لاحقة أصبح التوجه نحو تجريم التعذيب من خلال النص عليه في قواعد الإتفاقيات المتعددة الأطراف من أجل إصباغه بالصفة الإلزامية، فظهر مفهوم دولي مجمع عليه للتعذيب تم إستخلاصه من خلال مختلف الوثائق الدولية التي نصت على تجريمه وهو ما نتناوله في المبحث الأول.

كما طبق القانون الدولي منهج الوقاية من جريمة التعذيب سواء من خلال وضع آليات دولية تعمل على مراقبة ممارسات الدول سواء في أوقات السلم أو الحرب أو من خلال إيجاد مبادئ قانونية تمنع مرتكبي جرائم التعذيب من الإفلات من العقاب وهو ما نتناوله في مبحث ثان.


المبحث الأول: بيان مفهوم التعذيب والوثائق الدولية التي تجرمه

إن الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي عرفها العالم جعلت المجتمع الدولي يتحرك لأول مرة أمام ما إرتكبه الأتراك من فضائع ضد الأرمن التي إستمرت ثلاث سنوات بدءا من سنة 1914 مرورا بالفضائح التي إرتكبها النازيون وصولا إلى ما إرتكبه بعض قادة القرن العشرين أمثال بينوشي وحسين حبري من قتل وتعذيب. فقد تمّ تقنين العديد من الإتفاقيات الدولية التي رسخت القيم الجوهرية والضرورية لإستمرار الجنس البشري وكانت أهم هذه القيم منع اللجوء للتعذيب (1).

لذلك سنحاول من خلال هذا المبحث التعرف على مفهوم التعذيب الذي تبنته مختلف الإتفاقيات الدولية وكذا التعرف على مختلف الوثائق التي جرمت اللجوء إلى التعذيب على المستوى الدولي.

المطلب الأول: مفهوم التعذيب

إن القانون الدولي أعطى للتعذيب تعريف يبدو للوهلة الأولى أنه واسع وذلك مراعاة للخصوصيات الأخلاقية لدول العالم فهو يمثل الحد الأدنى المتفق عليه بين الدول المتعاقدة كما أنه يتماشى مع الضروريات العملية المتمثلة في الحصول على أكبر قدر ممكن من تأييد الدول.

وسنحاول من خلال هذا المطلب الأول التطرق إلى تعريف التعذيب وتمييزه عن غيره من الأعمال اللإنسانية.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص:17 
الفرع الأول: تعريف التعذيب

لقد عرف التعذيب في عدة مواثيق دولية غير أن أهم تعريف هو التعريف الذي أوردته إتفاقية الأمم المتحدة للوقاية وقمع التعذيب التي إعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/12/1984 والتي عرفت التعذيب في مادتها الأولى، لكن قبل التطرق لهذا التعريف لا بأس أن نذكر بعض الوثائق الدولية التي عرفت التعذيب سواء العالمية أو الإقليمية.
فنجد أن لجنة الدول الأمريكية لمنع التعذيب والمعاقبة عليه قدمت تعريفا للتعذيب بأنه "إستخدام أساليب ضد شخص ما بهدف مسح شخصية الضحية أو إضعاف قدراته الجسدية والعقلية حتى لو لم تسبب ألما جسديا أو مرضا عقليا".
كما عرفه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد عام 1998 بأنه "إلحاق ألم مبرح أو معاناة سواء كان جسديا أو عقليا بشخص محتجز أو واقع تحت السيطرة" (1).
كما نص مشروع الإتفاقية العربية لمنع التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو المهينة، والتي صاغتها لجنة الخبراء برعاية المعهد الدولي للعلوم الجنائية بسيراكوزا إيطاليا سنة 1990 على أن "التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى أو العقوبة عنها بالتقادم"، وقد جاء هذا المشروع نتيجة لما إنتهى إليه مؤتمر حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في النظام الجنائي الإسلامي الذي عقد بالمعهد الدولي سنة 1979 والذي خلص إلى أن حقوق الإنسان الأساسية المستمدة من روح ومبادئ الشريعة الإسلامية تشمل فيما تشمل عليه الحق في عدم إكراه المتهم على الشهادة ضد نفسه وعدم القبض التعسفي أو الجنسي أو التعذيب أو التصفية الجسدية (2).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/عدنان الصباح، التعذيب وضروب المعاملة القاسية، موقع     www.kefaya.org/reports/041118 adnansabaah
2/د.عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص:94 
وقد عرفته المادة الأولى من إتفاقية مناهضة التعذيب كما يلي "1-لأغراض هذه الإتفاقية، يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على إعتراف، أو معاقبته على عمل إرتكبه أو يشتبه في أنه إرتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.
2-لا تخل هذه المادة بأي صك دولي أو تشريع وطني يتضمن أو يمكن أن يتضمن أحكاما ذات تطبيق أشمل". 

ويلاحظ من هذا التعريف ما يلي:
1-يمتد التعذيب ليشمل الألم الجسدي والنفسي، بمعنى أن التعذيب يمكن أن ينزل آلاما بدنية أو نفسية بالمجني عليه سواء كان متهما أو غير متهم غير أن أي ألم لا يعتبر من قبيل التعذيب إلا إذا كان على درجة من الجسامة.
2-جريمة التعذيب هي من الجرائم العمدية، التي يتعين أن يتوافر فيها القصد الجنائي لدى الجاني.
3-يقتصر التعذيب على الفعل الذي يرتكبه موظف رسمي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية.
4-لا يمتد التعذيب إلى الألم أو العذاب الناشئ عن تطبيق عقوبات مقررة قانونا على المجرم.
5-يوحي عنوان الإتفاقية أنها تتعلق بكل من التعذيب ومختلف ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو الاإنسانية أو المهينة غير أن الإتفاقية تكتفي بتعريف التعذيب دون المعاملة المقصودة (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص:95 

الفرع الثاني: تمييز التعذيب عن غيره من المعاملة اللإنسانية


لقد ميزت الإتفاقية الدولية لعام 1984 بين التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية أو المهينة، إذ أفردت المادة الأولى لتعريف التعذيب كما سبق بيانه، ثم أوردت في المادة 16 تعريفا عاما لغيره من أوجه المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية، وذلك بقولها "تتعهد كل دولة بأن تمنع في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية حدوث أي أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية أو المهينة التي لا تصل إلى حد التعذيب كما حددته المادة الأولى عندما يرتكب موظف عمومي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية هذه الأعمال أو يحرض على إرتكابها أو عندما تتم بموافقته أو سكوته عليها" (1). ومن خلال هذا التعريف السابق الذي تم تبنيه على المستوى الدولي نجد أن هناك  ثلاث عناصر أساسية تميز التعذيب عن غيره من الأعمال اللانسانية اتفقت عليها مختلف الجهات الدولية سواء العالمية منها مثل اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أو لجنة مناهضة التعذيب أو الإقليمية مثل المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.
1-عنصر الألم والمعاناة الشديدة: لقد خلصت لجنة حقوق الإنسان إلى القول بوجود تعذيب إعتمادا على السلوك المتبع من الجاني كالإعتداء الجسدي، الصدمات الكهربائية، الإيهام بالإعدام، الوقوف لمدة طويلة إلخ... وهي سلوكات ينجم عنها ألم شديد سواء جسديا أو عقليا، لكنها لم تعطي إلا أمثلة لا يمكن إعتبار أنها هي فقط تعذيب بل يتم التعذيب بسلوكات أخرى لكنها أكدت على جسامة الألم والأمثلة المقدمة من طرفها تشترك جميعا في أنها تحدث معاناة كبيرة للضحايا. في حين أقرت اللجنة الأروبية أن إستعمال بعض تقنيات الإستنطاق مثل الوقوف لمدة طويلة، تغطية الرأس، التعرض للضجيج، الحرمان من النوم، الطعام أو الشرب تعتبر من قبيل أعمال التعذيب لما تحدثه من معاناة شديدة. وقد قررت المحكمة الأروبية في قضية إيرلندا ضد المملكة المتحدة أنه ليس هناك تعذيب إلا إذا تسبـبت المعاملـة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.الشافعي محمد بشير، المرجع السابق، ص:160
القاسية في معاناة بالغة الجسامة والقسوة. كما أن المقرر الخاص حول التعذيب في تقريره لعام 1986 أعد قائمة مفصلة للأعمال التي من شأنها أن تتسبب في المعاناة التي هي من الشدة بما يمكن تبرير وصفها بالتعذيب فذكر الإعتداء الجسدي، نزع الأظافر والأسنان، الحروق، الصدمات الكهربائية، الصلب إلخ... .
        
غير أنه يستخلص من كل ما سبق أنه من الصعب أن تحدد درجة المعاناة المطلوبة لوصف الفعل أنه تعذيب بصفة دقيقة بحيث عند عدم تجاوزها يكون الفعل معاملة قاسية ولا إنسانية وليس تعذيب، كما أنه لا يمكن تحديد الأعمال التي تعد تعذيب على سبيل الحصر وهو ما أكد عليه المقرر الخاص حول التعذيب السيد رودلي "إن وضع قائمة حصرية لهذه الأعمال الشنيعة لن يكون عندئذ تعريف قانوني لمضمون الحظر بل سيشكل ذلك إختبارا لقدرات المعذبين في إبتكار طرق جديدة للتهرب من المسائلة القانونية" (1).

2-وجوب توافر أحد الأغراض الممنوعة: لقيام جريمة التعذيب يجب أن يكون الغرض من بين الأغراض المحظورة وإلا كان مجرد معاملة لا إنسانية وحسب إتفاقية مناهضة التعذيب فقد حددت قائمة بالأغراض المحظور ممارسة التعذيب من أجلها غير أنها جاءت على سبيل المثال وليس الحصر وهو ما سمح لغرفة الدرجة الأولى لدى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا بمناسبة فصلها في قضية furundzija بأن تضيف إلى قائمة الأغراض المحظورة بموجب الإتفاقية الإهانة وبررت ذلك بأن مفهوم الإهانة قريب من مفهوم التخويف الذي ورد ذكره صراحة في التعريف الوارد في الإتفاقية، ومن بين الأغراض التي نصت عليها نجد الحصول على المعلومات أو إعتراف، المعاقبة، التخويف، الإرغام، أو أي سبب يقوم على التمييز أيا كان نوعه (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/غربي عبد الرزاق، جريمة التعذيب في القانون الدولي: مذكرة ماجستير، معهد الحقوق بن عكنون جامعة الجزائري، 2004، ص: 131
2/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 37

3-وجوب صدور تلك الأعمال عن شخص له الصفة الرسمية: إن وصف عون الدولة أو المتصرف بصفة رسمية، تنطبق على كل المكلفين بتنفيذ القانون، ويشمل هذا الإصطلاح جميع الموظفين المسؤولين عن تنفيذ القانون واللذين يمارسون صلاحيات الشرطة، ولا سيما صلاحيات الإعتقال والإحتجاز، سواء كانوا معينين أو منتخبين، وفي البلدان التي تتولى صلاحيات الشرطة فيها السلطات العسكرية، سواء كانت بالزي الرسمي أم لا، أو قوات أمن الدولة.
وهذه الصفة تمكنه من ممارسة الأفعال بنفسه أو تمكنه من إصدار أوامر ملزمة لمرؤسيه، وتجدر الإشارة هنا أن المرؤس يقع عليه حسب إتفاقية مناهضة التعذيب واجب رفض إطاعة أي أمر لممارسة التعذيب، كما لا يسمح له بالتذرع بتنفيذ أوامر الرئيس كمبرر للتعذيب (1).





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ مكافحة التعذيب: دليل التحركات، الموقع: www.amnesty-arabic.org/ctm/ch7-2.htm
المطلب الثاني: الوثائق الدولية التي تجرم التعذيب

إن التجريم الرسمي للتعذيب وأشكال سوء المعاملة الأخرى يعود عهده إلى القرن التاسع عشر عندما بدأت التشريعات الوطنية والمعاهدات الدولية تجرم التعذيب سواء صراحة أو ضمنا والمعاهدات الدولية التي جرمت التعذيب هي إما مواثيق عامة نصت على حقوق الإنسان بصفة عامة وحظر التعذيب بصفة خاصة، أو مواثيق متخصصة في تجريم التعذيب.

الفرع الأول: الوثائق الدولية العامة التي جرمت التعذيب

بإنشاء منظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية جعلت أحد أغراضها المنصوص عليها في المادة الأولى "تحقيق التعاون الدولي ... في تعزيز حقوق الإنسان والتشجيع على إحترامها". وفي سبيل تحقيق ذلك إعتمدت جملة من المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والتي تضمنت مكافحة جريمة التعذيب لأنها تشكل أحد الأمور الأولية في حماية حقوق الإنسان (1)، ومن أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية.

1-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: تم إعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948 ومن خلاله وافقت الدول على إعتبار أن حقوق الإنسان الأساسية هي حق لكل شخص وتطبق في كل مكان وليس فقط الدول الموافقة على الإعلان ويستتبع ذلك المبدأ وجوب أن تحترم جميع الحكومات حقوق الأشخاص الخاضعين لولايتها القضائية. وقد كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان السباق في النص على حظر التعذيب والعقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة (2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ مكافحة التعذيب: دليل التحركات، الموقع: www.amnesty-arabic.org/ctm/ch1-1.htm
2/مكافحة التعذيب، نفس المرجع
وقد نص هذا الإعلان في مادته الخامسة على "لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو المحطة بالكرامة."، بمعنى أنه حظر إستعمال التعذيب لكنه حظر عام لا يتضمن أي إلزام غير انه يفرض إلزام معنوي على الدول في ضرورة إحترامه وتطبيق أحكامه لكن هذا الإعلان لم يعرف التعذيب كما لم ينص على العقوبة فحتى عند محاولة تطبيقه من طرف الدول فلن تتمكن من ذلك قبل إتخاذ نصوص داخلية تسمح بتطبيقه.

2-العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية: تم إعتماده سنة 1966 وقد حظر ممارسة التعذيب في مادته السابعة وعلى عكس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن الدول التي تصبح طرفا في العهد تكون ملزمة دوليا بإحترام هذا الحظر وأن تعمل على تمتع جميع الأفراد الداخلين في ولايتها القضائية بالحق في عدم التعرض للتعذيب أو سوء المعاملة وإلا تعرضت للمسؤلية الدولية لأن الدول في علاقاتها الدولية تتعامل بمبدأ حسن النية والمعاملة بالمثل.

كما نجد فضلا عن هذه الوثيقتين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (روما) تعرض لجريمة التعذيب في المادة السابعة بإعتبارها تشكل جريمة ضد الإنسانية ووصفها بأنها من أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره. كما تم النص على حظر التعذيب في المعاهدات الإقليمية ومنها الإتفاقية الأروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي بدأ نفاذها في 1953/11/03 في مادتها الثالثة (لا يجوز تعريض أحد للتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة). وكذا الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي إعتمدت في 1969/11/22 في مادتها الخامسة (لا يجوز تعريض أي شخص للتعذيب)، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المعتمد في 1981 في مادته الخامسة (وتحظر جميع أشكال... والتعذيب) (1)، والميثاق العربي لحقوق الإنسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/مكافحة التعذيب، دليل التحركات، الموقع:       www.amnesty-arabic.org/ctm/ch1.htm
الذي إعتمد في سنة 1994 والذي لم يدخل حيز النفاذ بعد نص في مادته 13 على حظر التعذيب، وفي القانون الدولي الإنساني الذي يتضمن الإتفاقيات الرئيسية التي إعتمدت منذ الحرب العالمية الثانية وهي إتفاقيات جنيف لعام 1919، والبرتوكولات الإضافية لعام1977 تتضمن أيضا حظرا للتعذيب.

الفرع الثاني: الوثائق الدولية المتخصصة في تجريم التعذيب


من أهم الوثائق الدولية المتخصصة في تجريم التعذيب على المستوى العالمي نجد هاتان الوثيقتان.
1-إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب: إن إعلان الأمم المتحدة حول التعذيب الذي إعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 3452 (د-30) المؤرخ في 1975/12/09 يشكل أقدم وثيقة دولية نصت على تجريم التعذيب وقد وصفه بأنه (إمتهان للكرامة الإنسانية) ويرى فيه شكلا متفاقما من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المحطة بالكرامة حسب مادته الثانية التي نصت على "يعتبر أي عمل من أعمال التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة إمتهانا للكرامة الإنسانية يدان بوصفه إنكارا لمقاصد الأمم المتحدة وإنتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان."، وقد مثل هذا الإعلان خطوة هامة في الطريق لإعداد إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية أو المهينة التي استوحت معظم قواعدها من هذا الإعلان (1).

2-إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب: لقد إعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوافق الأراء في 1984/12/10 في قرارها رقم 46/39 وهي أهم وثيقة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص:93
لحظر التعذيب على المستوى العالمي تتكون من 33 مادة تتضمن أحكام تفصيلية حول الوقاية وقمع التعذيب فبعد تعريفها التعذيب في مادتها الأولى، نجد الجزء الأول منها ينص على أن تتخذ الدول الأطراف تدابير تطبيقية من أجل إعمال مبدأ الحظر بكل جوانبه، بطريقة فعالة وعلى أي إقليم يخضع لولايتها القضائية، ولا تجوز ممارسة التعذيب بأي مبرر، سواء في الظروف الإستثنائية مثل حالة الحرب أو حالة الإضطرابات الداخلية، كما لا يجوز التذرع بطاعة أمر صادر عن موظف أعلى رتبة أو عن سلطة عامة للقول بإباحة التعذيب، كما تتعهد الدول بألا تطرد أي شخص أو تقيده أو تسلمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت أسباب حقيقية تبعث على الإعتقاد بأنه سيتعرض فيها للتعذيب. وعليها أن تضمن بأن تكون جميع أعمال التعذيب، أو محاولات ممارسة التعذيب والتواطئ أو المشاركة فيها جرائم خطيرة تتصدى لها القوانين الجنائية للدول الأطراف بالتجريم والعقاب وتنص الإتفاقية أيضا على أن الأشخاص الذين يزعم إرتكابهم أعمال تعذيب يقدمون إلى المحاكمة أو يتم تسليمهم ويطلب إلى الدول أن تقدم إلى بعضها البعض المساعدة القضائية فيما يتعلق بالدعاوى الجنائية المتعلقة بإقتراف مثل تلك الأعمال اللإنسانية (1).













ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/غربي عبد الرزاق، مرجع السابق، ص:11
المبحث الثاني: الآليات الدولية للوقاية من جريمة التعذيب

نظرا لكون جريمة التعذيب جريمة بشعة نظرا لما تسببه من آلام وأضرار تتجاوز الضحية لتمس الأمن والسلم الدولي بكامله فقد سعى القانون الدولي فضلا عن حظر ممارسة التعذيب أو الأمر أو التحريض عليه إلى إيجاد آليات دولية فعالة لمنع إقتراف الجريمة وتمثلت هذه الآليات الدولية في أسلوبين الأسلوب الأول هو إيجاد أجهزة قادرة على مراقبة الدول وكشف ممارسات التعذيب وتنبيه المجتمع الدولي إلى ذلك حتى يتخذ الإجراءات اللازمة وفق القانون الدولي لحث الدولة على وقف مثل تلك الأعمال كما يتمثل الأسلوب الثاني في إيجاد قواعد قانونية دولية تمنع مرتكبي الجرائم من الإفلات من العقاب لذلك سنقسم هذا المبحث لمطلبين نتناول في مطلب أول آليات الرقابة على ممارسة الدول للتعذيب وفي مطلب ثان ندرس المبادئ القانونية الدولية التي تضمن عدم الإفلات من العقاب.

المطلب الأول: آليات الرقابة على ممارسة الدول للتعذيب

لقد تبنى القانون الدولي أسلوب الرقابة على ممارسات الدول من خلال مختلف المواثيق الدولية وذلك بإنشاء هذه الأخيرة لأجهزة دولية تسهر على حماية حقوق الإنسان ومن هذه الأجهزة لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الإقتصادي والإجتماعي، ولجنة مناهضة التعذيب التي نصت عليها إتفاقية مناهضة التعذيب.

الفرع الأول: لجنة حقوق الإنسان:
أنشئت هذه اللجنة من طرف المجلس الإقتصادي والإجتماعي للأمم المتحدة الذي يلعب دورا بالغ الأهمية في حماية حقوق الإنسان الأساسية بصفة عامة ومنع التعذيب بصورة خاصة، وبفرض تدعيم سبل حماية الفرد من أن يكون ضحية إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من قبل الدولة التي يتبعها ذلك الفرد، إذ أصدر المجلس قراره رقم 503 لعام 1970 الذي يسمى بالإجراء 1503 الذي يمكن بموجبه الأفراد والمنظمات غير الحكومية من رفع شكوى بسبب إنتهاك الحقوق الأساسية، لا سيما الحق في السلامة الجسدية والعقلية بسبب تعرضهم لأعمال تعذيب، وأن يرفع شكاوى ضد حكوماتهم ترسل إلى الأمين العام للأمم المتحدة بمقر الأمم المتحدة في نيورك أو جنيف، ويحيل الأمين العام هذه الشكوى أو البلاغ إلى مركز حقوق الإنسان الذي يقوم بتلخيصها وتنظيمها في قائمة سرية يرسلها إلى أعضاء لجنة حقوق الإنسان، كما يرسلها إلى الدول المزعوم قيامها بإنتهاكات خطيرة على سبيل التكرار والإستمرار، فإذا ثبت وجود إنتهاك خطير تقوم اللجنة بتعين لجنة مؤقتة لإجراء التحقيق وسماع الشهود. كما تقوم اللجنة بتعين مبعوث خاص للتحقيق، ثم تحرر تقريرا سنويا ترفعه إلى المجلس الإقتصادي والإجتماعي ويتضمن توصياتها بشأن الشكاوى التي تلقتها، لكي يتبنى المجلس هذه التوصيات ويعمل على تنفيذها أو يرفعها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي تتبناها وتعمل بدورها على تنفيذها(1).

الفرع الثاني: لجنة مناهضة التعذيب
أنشئت هذه اللجنة بموجب إتفاقية مناهضة التعذيب لسنة 1984 تتكون من 10 خبراء يعملون بصفتهم الشخصية وتنتخبهم الدول الأطراف وفقا لما تنص عليه الإتفاقية وتتمثل مهمة اللجنة في متابعة تطبيق الإتفاقية ورصد المخالفات الصادرة عن الدول الأطراف في هذا الموضوع، حيث تقدم هذه الأخيرة تقارير إلى اللجنة عن التدابير التي إتخدتها تنفيذا لتعهداتها التي نصت عليها الإتفاقية.
وبموجب المادة 20، فإنه إذا تلقت اللجنة معلومات موثوقا بها، بحيث يتضح لها أن تلك البيانات والمعلومات تتضمن أدلة تتمتع بقدر كاف من المصداقية، وتشير إلى أن تعذيب تمت ممارسته بطريقة منظمة على إقليم دولة من الدول الأطراف، تدعو اللجنة الدولة المعنية إلى التعاون في دراسة هذه المعلومات وتقديم ملاحظات بشأنها.
ويجوز للجنة في هذه الحالة أن تقرر إجراء تحقيق بما في ذلك القيام بزيـارة إلـى


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 14
الدولة المعنية، وذلك بناءا على موافقة تلك الدولة، وتكون إجراءات اللجنة سرية أثناء قيامها بمثل هذا التحقيق، ولكن يجوز لها أن تقرر إدراج بيان ملخص لنتائج هذه الإجراءات في تقريرها السنوي إلى الدول الأطراف و الجمعية العامة للأمم المتحدة ، لكن يجوز للدول وقت تصديقها أو انضمامها إلى الاتفاقية أن تبدي تحفظا بشأن اختصاص اللجنة التي تقررها المادة 20 السالفة الذكر(1).

المطلب الثاني : المبادئ القانونية لعدم الافلات من العقاب

إن المجتمع الدولي و نتيجة للإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من طرف الدول، و كذا إفلات المجرمين من العقاب تحت ستارات متعددة أوجد مبادئ قانونية تمنع أو تقي من إرتكاب الجرائم ضد الإنسانية ومنها جريمة التعذيب على أساس أنها جريمة ضد الإنسانية وهو ما تم تأكيده لأول مرة من خلال النظام الأساسي لمحكمة نورومبرغ كما أعيد تأكيده في المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا التي نصت علي محاكمة الأشخاص المسؤولين عن بعض الجرائم المذكورة علي سبيل المثال لا الحصر و التي تشمل الأفعال التالية: الاغتيال، الإبادة، الاستعباد، التهجير، السجن، التعذيب، الاغتصاب، الاضطهاد و ذلك لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية إلى جانب أفعال أخرى غير إنسانية، و قد تضمنت المادة الثالثة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندة قائمة مطابقة للأفعال التي تشكل جرائم ضد الإنسانية(2)، ومن أهم هذه المبادئ نجد مبدأ عدم التقادم وهو ما ندرسه في الفرع الأول ومبدأ الولاية القضائية العالمية وسقوط الحصانة وهو ما ندرسه في الفرع الثاني .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 12
2/منظمة العفو الدولية، قضية بينوشيه الولاية القضائية العالمية وسقوط الحصانة عن مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، تقديم الأستاذ لعرابة، 2005، ص: 7
الفرع الأول : مبدأ عدم تقادم الجريمة

إن تكيف جريمة التعذيب أنها من الجرائم ضد الإنسانية يجعلها تخضع لمبدأ عدم تقادم الجريمة و قد قدمت الغرفة الجنائية في قضية باربي (Barbie ) سنة 1985 تعريفا لهذه الجرائم معتبرة أنها تشكل جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، استنادا للمادة السادسة من النظام الأساسي لمحكمة نورومبورغ التي أشارت إلى الأفعال غير الإنسانية وعمليات الاضطهاد التي ارتكبت بصورة منتظمة باسم دولة تمارس سياسة هيمنة إيديولوجية، لم تقترف ضد أشخاص بسبب انتمائهم إلى جماعة عرقية أو دينية فحسب ولكن ضد خصوم هذه السياسة أيضا أيا كان شكل معارضتهم. كما أكدت على هذا المبدأ إتفاقية 1968/11/26 المتعلقة بعدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتي اعتبرت تكريس لمبادئ حكم نورومبورغ، وتجسيدا لضرورة محاربة اللاعقاب تجاه من إرتكب الأعمال الشنيعة التي شهدتها الحرب العالمية الثانية. حيث تم تبني هذه الاتفاقية وفتحت للتوقيع عليها من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1968/11/26 بلائحتها 2391 و دخلت حيز النفاذ في 1970/11/11، ولقد بررت الاتفاقية مبدأ عدم تقادم جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية في ديباجتها كما يلي: -أنها الجرائم الدولية الأكثر جسامة     –من أجل المكافحة والعقاب الفعلي – أنه عامل أساسي في الوقاية من وقوع تلك الجرائم – أنه عامل أساسي لحماية حقوق الإنسان و الحريات الأساسية.
وما يمكن ملاحظته في هذا الصدد هو أنه إذا كان هذا المبدأ لوحده غير كافي لضمان معاقبة هؤلاء المجرمين، فإنه يسمح على الأقل بعدم سقوط الدعوى العمومية وهذا ما قصدته أيضا المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقا من خلال تصريحها أنه " يمكن أن يكون المستفيدين من تلك الإجراءات مسؤولين جنائيا عن التعذيب في ضل نظام لاحق..."(1).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 61

الفرع الثاني: الولاية القضائية العالمية ومبدأ سقوط الحصانة

        
بموجب القواعد القانونية الدولية المعمول بها منذ مدة طويلة، يمكن أن تمارس ولاية قضائية عالمية على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، كالقتل المنظم على نطاق واسع والتعذيب والإختفاء القسري والإحتجاز التعسفي والتهجير القسري وممارسة الإضطهاد لأسباب سياسية، كما أن القانون الدولي لا يعطي حصانة من الملاحقة القضائية، سواء أمام المحاكم الوطنية أو الدولية، بشأن الأفعال التي يجرمها القانون الدولي ومن ضمنها الجرائم ضد الإنسانية.

1/ مبدأ الولاية القضائية العالمية: تخضع جريمة التعذيب للولاية القضائية العالمية، وهو مبدأ معترف به بموجب القانون الدولي منذ إنشاء محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية، التي كانت لها الولاية على الجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن مكان وقوعها. كما أن مبدأ "الإلتزام الجماعي" يمنح مصلحة قانونية لأية دولة لممارسة الولاية القضائية العالمية على المشتبه في إرتكابهم جرائم ضد الإنسانية بما في ذلك التعذيب. والمقصود من الولاية القضائية العالمية حق كل دولة أن تتابع وتعاقب مرتكبي الجرائم الدولية التي لا تمس الضحية فحسب بل تمس البشرية جمعاء (1).
فجميع الدول ملزمة بإتخاذ الإجراءات الجنائية ضد من يرتكبون جرائم ضد من يرتكبون جرائم ضد الإنسانية ومعاقبتهم، كما أنها ملزمة بالتعاون في البحث عن الأشخاص المرتكبين لتلك الجرائم والقبض عليهم وتسليمهم ومعاقبتهم، وهناك إعتراف عام في الوقت الراهن بأن جميع الدول ملزمة بمحاكمة أو تسليم الأشخاص الذين يشتبه في إرتكابهم جرائم ضد الإنسانية وفق مبدأ "إما التسليم أو المحاكمة". كما أن المادة السابعة الفقرة الأولى من إتفاقية مناهضة التعذيب التي إعتمدتها الأمم المتحدة تفرض على جميع الدول الأطراف فيها إلتزاما رسميا بأن تعرض على سلطاتها المختصة قضية أي شخص خاضع لولايتها القضائية يزعم أنه مارس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 61
التعذيب بقصد تقديمه للمحاكمة إذا لم تقم بتسليمه. وقد إعترف المجتمع الدولي أيضا بأنه يتوجب على كل دولة محاسبة المسؤولين عن إختفاء الأشخاص القسري وتقديمهم للعدالة وممارسة الولاية القضائية العالمية، بإعتبار أن الإختفاء القسري يعد ضربا من ضروب التعذيب وهو ما أكدته كذلك لجنة حقوق الإنسان المنشئة بموجب العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والتي في تفسير مرجعي لتلك الإتفاقية إعتبرت أن الإختفاء القسري يعرض أسر الضحايا لآلام نفسية شديدة الأمر الذي يعتبر إنتهاكا للمادة السابعة التي تجرم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللإنسانية والمهينة (1).
وقد إعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادئ خاصة بالتعاون الدولي بشأن البحث عن الأشخاص المتهمين بإرتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في قرارها رقم 3074 المؤرخ في 1973/12/03، والتي جاء فيها أن على كل الدول إلتزامات موسعة بشأن التعاون مع بعضها، من أجل تقديم المسؤولين عن إرتكاب الجرائم ضد الإنسانية للعدالة بما فيها التعذيب، أينما إرتكبت هذه الجرائم، كما ينبغي عليها تجنب إتخاذ أي إجراءات تخل بتلك الإلتزامات وتشمل الإلتزامات السابقة ما يلي:
-أن تتعاون الدول فيما بينها على أساس ثنائي أو متعدد الأطراف بهدف إيقاف ومنع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وعليها إتخاذ التدابير المحلية والدولية الضرورية من أجل تحقيق هذا الغرض.
-أن تتبادل الدول المساعدة في البحث عن الأشخاص المشتبه في إرتكابهم تلك الجرائم وإلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم في حالة ثبوت الجرم عليهم.
-محاكمة الأشخاص الذين تشير الدلائل إلى إرتكابهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ومعاقبتهم في حالة ثبوت التهمة عليهم، في البلدان التي إرتكبوا فيها هذه الجرائم كقاعدة عامة. وهنا ينبغي على الدول التعاون في المسائل الخاصة بتسليم هؤلاء الأشخاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ منظمة العفو الدولية، المرجع السابق، ص: 11
-أن تتعاون الدول فيما بينها بشأن جمع المعلومات والأدلة التي تساعد على تقديم الأشخاص المذكورين أعلاه للمحاكمة، وأن تتبادل هذه المعلومات.
-أن تمتنع الدول عن إتخاذ أي تدابير تشريعية أو غير تشريعية تخل بالإلتزامات الدولية التي تعهدت بها بشأن البحث عن الأشخاص الذين ثبتت عليهم تهمة إرتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية (1).
وبالرغم مما ذكرته هذه المبادئ عن محاكمة الأشخاص المسؤولين عن إرتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام محاكمهم الوطنية "كقاعدة عامة" إلا أن تلك القاعدة لا تنطبق بداهة في حالة عفو البلد المعني عن الشخص أو إبداءه بطرق أخرى عدم إستعداده أو عجزه عن تقديم الشخص المعني للعدالة وعلى سبيل المثال ما نصت عليه المادة 17 من نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الذي يبيح للمحكمة ممارسة ولايتها القضائية المشتركة على إبادة الجنس والجرائم الأخرى ضد الإنسانية وجرائم الحرب إذا كانت الدول الأطراف نفسها عاجزة عن القيام بذلك أو غير راغبة فيه (2).
وهذا المبدأ يشكل آداة قانونية فعالة للوقاية من إقتراف جريمة التعذيب، ذلك أنه يسد أمام المعذبين أي ملجئ آخر من غير البلد الذي يحميهم، ويجعل من تلك الحماية نقمة لا نعمة، تشبه الإقامة الجبرية.

2-سقوط الحصانة عن رؤساء الدول والحكومات: لا يستطيع المسؤولون عن التعذيب والجرائم الأخرى المضادة للإنسانية التمسك بالحصانة أو الإمتيازات الأخرى للتهرب من المسؤلية الجنائية والمدنية. فالقاعدة الأساسية للقانون الدولي تجيز محاسبة رؤساء الدول والمسؤلين الرسميين كأفراد عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، وهي قاعدة إستقرت منذ مدة طويلة، وهي بلا ريب، مثال محدد للقاعدة العامة للقانون الدولي التي إعترفت بها معاهدة فرساي في 1919/06/28، ومفادها تقييد حصانة رؤساء الدول بموجب القانون الدولي، ولا سيما في حالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/منظمة العفو الدولية، المرجع السابق، ص: 11
2/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 12
إرتكاب أفعال يجرمها القانون الدولي. ففي المادة227 من تلك المعاهدة، قام الحلفاء والقوى الأخرى بتوجيه إتهام علني إلى "فيلهلم الثاني قيصر ألمانيا" بإرتكاب أبشع إنتهاكات للأخلاقيات الدولية وحرمة المعاهدات.
         وكان الحلفاء قد أزمعوا تقديم أدولف هتلر، رئيس الدولة الألمانية للعدالة بتهمة إرتكاب جرائم منصوص عليها في القانون الدولي غير أنه توفي قبل ذلك، كما نصت المادة 7 من ميثاق نورمبرغ صراحة على أن "مركز المتهمين الرسمي، سواء كانوا رؤساء دول أو مسؤلين في إدارات الحكومة، لا يخليهم من المسؤلية أو يخفف عنهم العقاب" ويتضح من تفسير القاضي روبرت جاكسون، الذي قام بدور المدعي العام الأمريكي في نورمبرغ، والذي شارك في وضع الميثاق في تقريره لعام 1945 إلى الرئيس بشأن الأسس القانونية لمحاكمة الأشخاص المتهمين بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ما يلي: "ولا يجب الإعتراف بهذا الدفاع كمبدأ حصانة رئيس الدولة من الملاحقة القضائية الذي عفا عليه الزمن والذي يبدو وكأنه من بقايا مبدأ حق الملوك الإلهي. كما أنه يتعارض على أي حال مع موقفنا من مسؤولينا، الذين يحاكمون في أحيان كثيرة بناء على دعاوى يرفعها مواطنون يزعمون أن حقوقهم قد انتهكت. إننا نرفض المفارقة التي تزعم تضاؤل المسؤلية كلما إزداد النفوذ، بل إننا نلتزم بمبدأ الحكومة المسؤولة الذي أعلنه منذ نحو 3 قرون رئيس القضاة كوك للملك جيمس، الذي قال أنه حتى الملوك أنفسهم يخضعون لله والقانون." (1).
وقد أعلنت محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية في حكمها "إن من يرتكبون الجرائم التي تنتهك القانون الدولي بشر وليسوا كيانات مجردة، وأن تنفيذ أحكام القانون الدولي لا يتحقق إلا من خلال معاقبة الأفراد الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم."
وقد توصلت محكمة طوكيو إلى إستنتاجات مشابهة لتلك التي توصلت لها محكمة نورمبرغ، عندما أعلنت "إن من يدان بإرتكاب هذه الفضائح اللإنسانية لا يمكن أن يفلت من العقاب بحجة أنه لم يلتزم هو أو حكومته بعدم إرتكاب هذه الأفعال بموجب إتفاقية معينة" (2).          
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/منظمة العفو الدولية، المرجع السابق، ص: 14
2/منظمة العفو الدولية، المرجع السابق، ص: 15
وقد ظل المجتمع الدولي يؤكد مرار لأكثر من نصف قرن القاعدة القانونية الدولية الأساسية بشأن عدم حصانة رؤساء الدول والمسؤلين الرسمين عن الجرائم ضد الإنسانية من خلال العديد من المواثيق الدولية، كما أكدت الدول مرارا صحة وأهمية هذه القاعدة القانونية الدولية حيث أشار الأمين العام للأمم المتحدة بالفعل في التقرير الذي رفعه لمجلس الأمن بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة إلى ما يلي: "تحتوي كل التعليقات المكتوبة التي تلقاها الأمين العام تقريبا على إقتراحات حول ضرورة تضمين القانون الأساسي للمحكمة الدولية أحكاما حول المسؤلية الجنائية الفردية لرؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين والأشخاص الذين يعملون بصفة رسمية. وتستند هذه الإقتراحات إلى سوابق قانونية تعود إلى الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. لذلك، ينبغي أن يتضمن القانون الأساسي أحكاما تقضي بأن الدفع بحصانة رئيس الدولة أو أن الفعل قد إرتكبه المتهم بموجب صفته الرسمية، لا يمثل دفاعا ولا يخفف العقوبة." (1).
وبالمثل فقد أيدت الدول تضمين هذه القاعدة في القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فجاء مبدأ سقوط الحصانة عن رؤساء الدول والمسؤولين الرسميين في المادة 27 التي نصت على ما يلي "1-ينطبق هذا القانون الأساسي بصورة متساوية على كل الأشخاص دون تفرقة تستند إلى صلاحياتهم الرسمية ولا تعفي بخاصة الصلاحية الرسمية لرئيس الدولة أو الحكومة، أو المندوب المنتخب أو الموظف الحكومي صاحبها بحال من الأحوال من المسؤلية الجنائية بموجب هذا القانون الأساسي، كما لا تشكل تلك الصلاحية بحكم طبيعتها أو في حد ذاتها مبررا لتخفيف العقوبة.
2-لا تمنع الحصانة أو القواعد الإجرائية الخاصة المرتبطة بالصفة الرسمية للشخص المحكمة من ممارسة ولايتها القضائية على مثل هذا الشخص بموجب القانون الدولي أو الوطني." .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ منظمة العفو الدولية، المرجع السابق، ص: 16
ورغم كل ما بذل على المستوى الدولي لحظر جريمة التعذيب فإن أكثر من نصف دول العالم لا تزال تمارس التعذيب على سبيل التكرار والإستمرار، فالتعذيب ما زال منتشرا على نطاق واسع بين أعضاء الأمم المتحدة على خلاف أحكام ميثاقها الذي يركز على صيانة كرامة الإنسان ويدعو إلى إحترامه ورعاية حقوقه الإنسانية كأساس للمجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، بل إن عددا كبيرا من الدول التي تمارس التعذيب قد إرتبطت بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1975/12/09 المتعلق بحماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب و إتفاقية مناهظة التعذيب التي إعتمدتها الجمعية العامة في 1984/12/10.























الفصل الثاني: جريمة التعذيب في القانون الجزائري

إن جريمة التعذيب من الجرائم التي عرفها الشعب الجزائري فقد مارس الإستعمار الفرنسي التعذيب العمدي بذريعة الظروف الأمنية وباسم حقوق الإنسان والديمقراطية وباسم الحداثة ضد الرجعية لمكافحة الإرهاب، فكان يمارس التعذيب بكل قسوته وبشاعته أثناء الحرب التحريرية في فيلا (سوزيني) بالجزائر العاصمة وفي ضيعة أمزيان بقسنطينة وفي كل منطقة من مناطق الجزائر (1). كما عرف الشعب الجزائري هذه الجريمة في إطار الجرائم الإرهابية التي إرتكبت ضده خلال عشرية كاملة.
ولكون جريمة التعذيب من الجرائم البشعة والخطيرة نجد أن العديد من الدول قد ضمنت دساتيرها نصوصا تحظر تعريض أي إنسان للتعذيب أو المعاملة المحطة بالكرامة. كما أقرت القوانين الجزائية في عدد من الدول عقوبة على الموظف الذي يأمر بتعذيب متهم أو يفعل ذلك بنفسه لإرغامه على الإعتراف، وتهدر الأدلة التي جمعت تحت ضغط التعذيب والمعاملة اللإنسانية ومن ذلك نجد قانون العقوبات المصري في مادته 126 والقانون التونسي المادة 103، القانون السوري المادة 391، القانون العراقي المادة 333، القانون القطري المادة 112 والقانون الليبي المادة 16 (2).

كما أن المشرع الجزائري نص على التعذيب منذ صدور قانون العقوبات بموجب الأمر رقم 156/66 المؤرخ في 1966/06/08 غير أنه لم يأخذ به كجريمة مستقلة قائمة بأركانها القانونية بل أن تجريمه للتعذيب مر بعدة مراحل على حسب المراحل التي مرت بها الجرائر بصفة خاصة والمجتمع الدولي بصفة عامة والتي سبق بيانها في الفصل الأول. فكان التعذيب مجرد ظرف مشدد لجرائم معينة وبقي


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص: 95
2/عبد القادر البقيرات، المرجع السابق، ص: 94
الأمر كذلك حتى تعديل قانون العقوبات بموجب القانون رقم 04/82 المؤرخ في 1982/02/13 أين نص المشرع الجزائري على تجريم التعذيب والمعاقبة عليه في المادة 110 مكرر قانون العقوبات بصورة مستقلة غير أنه كان تجريم محدد وضيق النطاق.

وفي سنة 1989 قامت الدولة الجزائرية بالمصادقة على إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة المعتمدة في 1984/12/10 وهي الإتفاقية التي حظرت اللجوء إلى التعذيب كما سبق بيانه في الفصل الأول. والمصادقة على الإتفاقية يجعل منها جزء من التشريع الداخلي حسب المادة 132 من الدستور. وعليه فإن هذا الحظر يكون ملزما للقاضي حتى لو كان التجريم أوسع مما أخذ به المشرع الجزائري غير أن تطبيق هذه الإتفاقية كان من الصعب نظرا لأن التجريم في الإتفاقية لا يقابله عقاب محدد خصوصا أن القانون الجزائي محكوم بمبدأ الشرعية حسب ما نصت عليه المادة الأولى قانون العقوبات "لا جريمة ولا عقوبة أو تدبير أمن بغير قانون". كما أن الإتفاقية نصت في مادتها الثانية على أن تتخذ كل دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة أو أي إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب.

وهو ما قام به المشرع الجزائري فعلا تنفيذا لإلتزاماته الدولية من خلال تعديل قانون العقوبات الأخير بموجب القانون رقم 15/04 المؤرخ في 2004/11/10 والذي نص على تجريم التعذيب والمعاقبة عليه كجريمة مستقلة ودون تحديده.

وعليه ومن خلال هذا الفصل سنحاول التطرق إلى مختلف هذه التطورات التي مر بها المشرع الجزائري منذ صدور قانون العقوبات سنة1966 إلى غاية آخر تعديل سنة 2004، فنتناول في المبحث الأول بيان معالم جريمة التعذيب قبل تعديل قانون العقوبات لسنة 2004، ونتناول في المبحث الثاني بيان معالم جريمة التعذيب بعد تعديل قانون العقوبات لسنة 2004.

المبحث الأول: جريمة التعذيب قبل تعديل قانون العقوبات سنة 2004

قبل تعديل قانون العقوبات لسنة 2004 كان المشرع الجزائري ينص على التجريم والمعاقبة على التعذيب في المادة 110 مكرر قانون العقوبات، كما تطرق في نصوص أخرى إلى التعذيب بإعتباره ظرف مشدد عند إرتكاب بعض الجرائم المحددة في قانون العقوبات. وهو ما سنعترض له في مطلبين نتناول في مطلب أول تجريم التعذيب والمعاقبة عليه في إطار المادة 110 مكرر قانون العقوبات ونتناول في مطلب ثان التعذيب كظرف مشدد للعقوبة.

المطلب الأول: تجريم التعذيب في إطار المادة 110 مكرر قانون العقوبات

 لقد نص المشرع الجزائري على تجريم التعذيب في إطار ما نصت عليه  المادة 110مكرر التي تبناها المشرع إثر تعديل قانون العقوبات بموجب القانون رقم 04/82 المؤرخ في 1982/02/13 في القسم الثاني تحت عنوان الإعتداء على الحريات وقد نصت الفقرة الثالثة منها على "كل موظف أو مستخدم يمارس أو يأمر بممارسة التعذيب للحصول على إقرارات، يعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات.".
ومن خلال هذه المادة يتضح أن المشرع الجزائري حصر التعذيب في إطار ضيق جدا فقد إشترطت المادة توافر جملة من العناصر وهي:

1-أن يكون الجاني موظف أو مستخدم: -الموظف يستمد تعريفه من القانون الإداري وأساسا من القانون الأساسي للوظيفة العمومية وقد صدر هذا النص بموجب الأمر رقم 133/66 ورغم إلغاءه نجده عرف الموظف تعريفا شاملا في المادة الأولى والذي يبقى صالحا لحد الآن فقد عرفته المادة الأولى ب"هم الأشخاص المعينون في عمل دائم والمصنفون في درجة بحسب السلم الإداري المركزي للدولة سواء في المصالح الخارجية التابعة لها أو في الهيئات المحلية وكذلك المؤسسات والهيئات العامة بموجب نماذج محددة بمرسوم". ومن خلال هذا التعريف يمكن إستخلاص العناصر الأساسية التي يقوم عليها تعريف الموظف وهي:
-صدور آداة قانونية يلحق بموجبها الشخص في الخدمة.
-القيام بعمل دائم فلا يعد موظف المستخدم المتعاقد ولا المستخدم مؤقتا.
-المساهمة بالعمل في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص التابعين للقانون العام (1).
المستخدم: هو الذي يملك سلطة الرقابة والإشراف على العمال الأجراء اللذين يؤدون لحسابه عمل فكري أو يدوي مقابل مرتب يدفعه لهم. وهو نفس الإتجاه الذي تبناه المشرع المصري الذي حصر جريمة التعذيب في الأفعال الصادرة عن الموظف أما المستخدم فقد ضيقه في المستخدم العمومي بينما المشرع الجزائري أخذ بالمستخدم بصفة عامة أي كل من يملك الرقابة والإشراف حتى لو كان في إطار عمل خاص.

         2-ممارسة التعذيب أو الأمر بالتعذيب: والمقصود بذلك أن الموظف أو المستخدم إما يمارس أعمال التعذيب شخصيا بنفسه على الضحية بحكم منصبه كأن يمارسه على التابعين له أو من هم تحت سلطته أو قد يوجه أوامر لمرؤسيه أو التابعين له بحكم الوظيفة لممارسة التعذيب.

         3-أن يكون الغرض من تلك الأفعال الحصول على إقرارات: أي يمارس التعذيب من أجل الحصول على إعترافات مهما كانت طبيعة هذه الإعترافات والعالم يعرف أمثلة كثيرة عن هذه الممارسات خصوصا بالنسبة للمساجين اللذين يتعرضوا للتعذيب لحملهم على الإعتراف بإرتكابهم الجريمة فتقوم الجريمة حتى لو كان الإعتراف حقيقي ما دام وقع نتيجة التعذيب، ومن أمثلة ممارسة التعذيب للحصول على إقرارات نجد في القضاء المصري قضية تنظيم الجهاد الصادر فيها حكم محكمة أمن الدولة العليا بالقاهرة في 1984/12/30، وقضية التنظيم الشيوعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء 2، دار هومة، 2004، ص:6
حكم 1985/01/10، وقضية الفيديو بالإسكندرية حكم 1987/03/14، وقضية الفيديو بالقاهرة حكم 1988/01/28، وقضت الأحكام الأربعة ببراءة المتهمين الذين ثبت صدور إعترافاتهم بالإكراه الناتج عن التعذيب فتم إهدارها وأحال النائب العام عددا من الضباط والجنود المتهمين بالتعذيب في القضية الأولى إلى المحاكمة الجنائية (1). وفي هذا الإطار نجد أن المشرع المصري قد ضيق من جريمة التعذيب وعاقب عليها فقط عندما تمارس أعمال التعذيب على متهم لحمله على الإعتراف بينما المشرع الجزائري قد وسعه إلى كل عمل يهدف للحصول على إقرارات من أي شخص دون أن يحدد إن كان متهما أم لا ومع ذلك فإن معنى التعذيب في المادة 110 مكرر ضيق مقارنة مع إتفاقية مناهضة التعذيب التي لم تشترط غاية محددة للتعذيب بل إكتفت بوقوعه كفعل مادي أو معنوي لقيام الجريمة.

         وتجريم التعذيب في إطار المادة 110 مكرر قانون العقوبات يستوجب بعض الملاحظات:
-لم يعرف المشرع الجزائري التعذيب مما يثير مشاكل من الناحية العملية خصوصا بالنسبة للحد الفاصل بين جريمة الضرب والجرح العمدي وجريمة التعذيب وهو ما يفتح المجال واسعا أمام السلطة التقديرية لقضاة الموضوع، كما يثير مشاكل بالنسبة للتعذيب المعنوي هل يؤخذ به في إطار هذه المادة أم لا لأنها نصت على التعذيب دون تحديد طبيعته.
-إن حصر ممارسة التعذيب في أشخاص الموظفين والمستخدمين يؤدي إلى إفلات الكثير من المجرمين من عقوبة التعذيب كونهم لا يملكون هذه الصفة.
-لم يجرم المشرع الجزائري التعذيب بإعتباره جريمة مستقلة إذا قام به موظف أو مستخدم ولم يكن الغرض منه الحصول على إقرارات.
-لم يأخذ المشرع الجزائري بعين الإعتبار جسامة الأظرار التي تصيب الضحية وإعتبر الجريمة جنحة مهما كانت جسامة ووحشية الأفعال المرتكبة على الضحية.   

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.الشافعي محمد بشير، المرجع السابق، ص: 80
المطلب الثاني: التعذيب ظرف مشدد للعقوبة

لقد نص المشرع الجزائري على التعذيب لكن ليس كجريمة مستقلة ولكن كظرف مشدد للعقوبة بالنسبة لجرائم معينة منصوص عليها في المواد 262 و المادة 293 قانون العقوبات.
        
الفرع الأول: ظرف التعذيب في المادة 262 قانون العقوبات:

لقد نص المشرع الجزائري في المادة 262 ق ع على "يعاقب بإعتباره قاتلا كل مجرم مهما كان وصفه إستعمل التعذيب أو إرتكب أعمالا وحشية لإرتكاب جنايته."، ويتضح منها أنه ألحق التعذيب والأعمال الوحشية بجريمة القتل وذلك عند توافر عناصر هذه الجريمة التي تقوم على عنصرين وهما(1):
1-القيام بالتعذيب أو الأعمال الوحشية: لم يعرف المشرع الجزائري المقصود من التعذيب كما سبقت الإشارة إليه ولا الأعمال الوحشية وبالرجوع إلى الفقه نجده يعرف التعذيب والأعمال الوحشية على السواء أنه الألم المادي الشديد الذي يتعرض له الغير والمعاملة القاسية واللإنسانية أو المنحطة. ومن أمثلة هذه الأعمال الحرق أو نزع أجزاء من الجسم كالأظافر أو الجلد أو الشعر أو فقع العيون إلخ... ونتيجة عدم وجود أي تحديد في القانون فقد ترك الأمر لقضاة الموضوع معاينة تلك الأعمال. وهو نفس موقف المشرع الفرنسي الذي نص على التعذيب دون تعريفه وعليه يتم اللجوء من طرف القاضي الفرنسي إلى التعريف الذي أخذت به الإتفاقية الأروبية لحقوق الإنسان، كما لم يعرف الأعمال الوحشية وقد صرحت محكمة النقض الفرنسية أن تعريف هذه الأعمال الوحشية يعود لإختصاص قضاة الموضوع(2)، كما نجد أن المشرع المصري قد نص على أعمال الوحشية في مادته 129 ق.ع ووضع لها وصف أقل جسامة من وصف المادة 162 المتعلقة بالتعذيب إذ نصت على "كل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/بن شيخ لحسين، مذكرات في القانون الجزائي الخاص، دار هومة، 2002، ص: 41
2/tortures et actes de barbaries, guide juridique, n°5 res-w,  page: 507-4
موظف أو مستخدم عمومي وكل شخص مكلف بخدمة عامة إستعمل القسوة مع الناس إعتمادا على وظيفته بحيث أنه أخل بشرفهم أو أحدث آلاما بأبدانهم، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه مصري"(1).
2-إستعمالها قصد إرتكاب الجنايات: لقد نص المشرع الجزائري على إرتكاب جنايات دون تحديد ماهية هذه الجنايات وبالرجوع إلى قانون العقوبات نجد أن الجنايات هي الأفعال المعاقب عليها بعقوبة جنائية وحسب المادة 1/5 ق.ع، العقوبات الأصلية في مادة الجنايات هي إما الإعدام، السجن المؤبد، السجن المؤقت لمدة تتراوح بين5  و20 سنة. كما أن عمومية النص تؤدي إلى الأخذ بالجنايات ضد الأشخاص وضد الأموال.

وبتوافر العناصر القانونية للجريمة فإن المشرع الجزائري لم يصرح بقيام جريمة التعذيب، وإنما أخذ بالتعذيب كظرف مشدد بحيث تطبق عقوبة القتل وهي السجن المؤبد على هذه الجريمة.
وتتطلب هذه المادة الملاحظات التالية:
-لم يعرف المشرع الجزائري التعذيب والأعمال الوحشية وهي المادة الوحيدة التي نص فيها المشرع على الأعمال الوحشية وعدم تعريف هذه المصطلحات يثير عدة مشاكل من الناحية العملية.
كما إستعمل مصطلح التعذيب بصفة عامة فهل أنه قصد منها التعذيب الجسدي والمعنوي معا.
-كما أنه نص على أنه عند إقتران التعذيب بجنايات تشدد العقوبة لتكون عقوبة القتل العمد وهي السجن المؤبد غير أنه لم يتطرق إلى الحالة التي تكون فيها الجنايات عقوبتها الأصلية هي السجن المؤبد فيصبح التعذيب دون أهمية ولا تتم المعاقبة عليه رغم ما قد يسببه التعذيب من آلام للضحية، أو إذا كانت العقوبة المقررة للجناية هي الإعدام فإن إقترانها بالتعذيب لن يكون له أي أثر مطلقا.     

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/د.الشافعي محمد بشير، المرجع السابق، ص: 161
الفرع الثاني:ظرف التعذيب في المادة 293 ق.ع

لقد نص المشرع الجزائري في المادة 293 ق.ع الواقعة في القسم الرابع تحت عنوان الإعتداء الواقع على الحريات الفردية، وحرمة المنازل والخطف على "إذا وقع تعذيب بدني على الشخص المختطف أو المقبوض عليه أو المحبوس أو المحجوز فيعاقب الجناة بالإعدام".
وحسب هذه المادة يعتبر التعذيب ظرفا مشددا لجريمة الخطف أو القبض أو الحبس أو الإحتجاز دون وجه حق متى قامت الجريمة حسب أركانها القانونية كما يتطلبها القانون، حيث أن العقوبة تكون عند إرتكاب الجريمة دون ظرف التعذيب السجن المؤقت من 10-5 سنوات، وتصبح العقوبة الإعدام عند توفر ظرف التعذيب. وهو نفس موقف المشرع الفرنسي الذي أخذ بالتعذيب كظرف مشدد لبعض الجرائم وهي الإغتصاب، الخطف، الحجز، تحويل الطائرات، السفن أو أي وسيلة نقل، القتل حيث أن العقوبة تشدد لتكون السجن المؤبد. وفي حالة الجرائم الخاصة العقوبة تكون عقوبة هذه الجرائم غير أنه في حالة ما إذا كانت العقوبة أقل من عقوبة التعذيب فهنا تطبق عقوبة التعذيب إلا في حالة الإغتصاب أو القتل(1).
والمشرع الجزائري في هذه المادة كما في المواد السابقة لم يعرف التعذيب، وتركه للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع. كما أنه ضيق من أعمال التعذيب التي تعتبر ظرفا مشددا في جريمة الإختطاف، وهي تلك الأعمال التي تقع على جسد الضحية وبالتالي إستثنى أعمال التعذيب التي تحدث ألما وعذاب عقلي أي التعذيب المعنوي.






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ tortures et actes de barbaries, ibid,  page: 507-4
المبحث الثاني: جريمة التعذيب بعد تعديل قانون العقوبات سنة 2004

إثر تعديل المشرع الجزائري لقانون العقوبات سنة 2004، بموجب القانون رقم 15/04 المؤرخ في 2004/11/10، نص على تجريم ومعاقبة التعذيب تماشيا مع إلتزاماتها الدولية فقد صادقت الجزائر على عدة معاهدات دولية تحظر اللجوء إلى التعذيب وتلزمها بإتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا الحظر، وكذلك جاء هذا النص بعد أحداث دموية شهدتها الجزائر، عرفت فيها أعمال التعذيب إرتفاعا كبيرا من خلال الجرائم الإرهابية فكان من الضروري وضع نص يجرم ويعاقب على مثل هذه الأفعال بصورة مستقلة عن الجرائم الأخرى التي ترتكب على ضحية التعذيب، وتعديل نص المادة 110 مكرر ق.ع التي كانت تضيق من جريمة التعذيب المعاقب عليه، فتم النص على تجريم التعذيب والمعاقبة عليه في الباب الثاني: الجنايات والجنح ضد الأفراد، الفصل الأول: الجنايات والجنح ضد الأشخاص، القسم الأول: القتل والجنايات الأخرى الرئيسية وأعمال العنف العمدية، 1-القتل العمد والقتل مع سبق الإصرار والترصد وقتل الأصول والأطفال والتسميم والتعذيب من المواد 263 مكرر إلى 263 مكرر 2.

ومن خلال هذا المبحث سنحاول حصر معالم جريمة التعذيب في القانون الجزائري ومدى توافقها مع ما توصل إليه القانون الدولي، وذلك من خلال التطرق في مطلب أول إلى بيان الأركان القانونية لجريمة التعذيب، وفي مطلب ثاني ندرس الشروط المتطلبة لمتابعة مرتكبي التعذيب والجزاء المقرر قانونا للجريمة.






المطلب الأول: الأركان القانونية لجريمة التعذيب

لقد عرف المشرع الجزائري جريمة التعذيب في إطار تعديله لقانون العقوبات في المادة 263 مكرر على النحو التالي: "يقصد بالتعذيب كل عمل ينتج عنه عذاب أو ألم شديد جسديا كان أو عقليا يلحق عمدا بشخص ما، مهما كان سببه.".
ومن هذا التعريف يتضح أن جريمة التعذيب تقوم على ركنين ركن مادي وركن معنوي إضافة إلى عنصر مفترض يتعلق بصفة المجني عليه.

1-العنصر المفترض: تتطلب جريمة التعذيب حسب التعريف المبين في المادة 263 مكرر أن يقع الفعل على "شخص" والمقصود بالشخص:
-أن يقع التعذيب على إنسان مهما كان جنسه أو سنه فقد يقع على الرجل أو المرأة كما قد يقع على البالغ أو الحدث بينما لا تقع جريمة التعذيب على الحيوان لأن إيذاء الحيوان يعاقب عليه بموجب المادة 449 ق.ع وهي مجرد مخالفة.
-كما يشترط أن يقع التعذيب على إنسان حي وإلا إعتبر التعذيب الجسدي جريمة تشويه جثة المعاقب عليها بموجب المادة 153 ق.ع بإعتبارها جنحة أما التعذيب المعنوي فلا يتصور قيامه على إنسان ميت فلا يمكن القول أنه أحدث له آلاما نفسية ولا تقوم في هذه الحالة أي جريمة.

         2-الركن المادي: إن جريمة التعذيب وفق التعريف السابق تقتضي من الجاني أن يقوم بأعمال إيجابية تمثل السلوك المجرم، كما تقتضي أن يؤدي هذا السلوك المجرم إلى إحداث نتيجة، وهي عذاب أو ألم شديد قد يكون عقلي أو جسدي.
-السلوك الإجرامي: إن السلوك المجرم في جريمة التعذيب هو إتيان الجاني عمل يؤدي إلى تحقيق نتيجة يعاقب عليها القانون، وهذا العمل قد يأخذ عدة صور إما ممارسة التعذيب مباشرة من طرف الجاني، أو التحريض عليه أو الأمر بممارسته.
-ممارسة التعذيب مباشرة من الجاني: في هذه الحالة يقوم الجاني بنفسه ومباشرة بأعمال التعذيب على الضحية وذلك بإستعمال وسائل مختلفة لا يمكن حصرها، وهناك أمثلة عديدة لأساليب التعذيب في القضاء المقارن منها مثلا في القضاء الفرنسي بالنسبة للتعذيب الجسدي:
-الجاني الذي يقوم بشطب وجه الضحية ويديها ومفصلي اليد بسكين بعد أن أشبعها ضربا باللكمات.
-الزوج الذي كمم زوجته وعراها وربطها ثم قام بجلدها ووضع على ثديها كلابة الأقمشة وشطب مختلف أجزاء جسمها بسكين.
-الجناة الذين قاموا بغرض السطو على بيتها، بتكميم عجوز وربطها في سريرها ثم أشبعوها ضربا باللكمات وختموا هذه الأعمال الشنيعة بإيلاج جسم في فرجها.
-الجناة الذين قاموا بضرب المجني عليها بالسوط على رجلها خلال 5 ساعات و أشربوها كمية كبيرة من الماء المالح ومسكوا عنقها وضغطوا عليها ثم أدخلوا منشفة في فمها(1).
أما بالنسبة للتعذيب المعنوي نجد الجاني يستعمل أساليب أخرى وهذا التعذيب لا يقل أهمية عن التعذيب الجسدي فالألم المبرح النفسي الناجم عن التعذيب غالبا ما يفوق الألم البدني وزنا، فالآثار النفسية الناتجة عن مشاهدة أحد أفراد العائلة وهو يخضع للتعذيب أو يتحمل أشكالا من سوء المعاملة الجسدية أو الجنسية من شأنها أن تسبب صدمة تعادل صدمة التشويه أو أسوأ(2). ومن الأساليب المستعملة لتعذيب الضحايا معنويا نجد أن العالم قد عرف عدة صور نذكر منها: التهديد بقتل كل أفراد العائلة، إغتصاب الزوجة أمام حظور زوجها لحمله على الإعتراف إلخ...






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء الاول، دار هومة، 2002، ص: 63  
2/ألان أشليمان، التعذيب: الحاجة إلى المزيد من النقاش، الموقع: www.icrc.org/web/ara/sitearao.nsf/iwplist265/99e8cc5f9544d312c125702d  
-التحريض على التعذيب: كما قد يقوم الجاني بالتحريض على ممارسة التعذيبوهنا الجاني لا يقوم بعمل مادي أي لا يمارس التعذيب مباشرة بل هو السبب المعنوي أو الأدبي في إرتكابها ذلك أنه يقوم بدفع الجاني إلى إرتكاب الجريمة بالتأثير في إرادته وتوجيهها الوجهة التي يريدها فيعاقب على أساس أنه إرتكب جريمة التعذيب والمشرع لم يشترط وسيلة معينة للتحريض لذلك يتعين الرجوع للقواعد العامة للتحريض المنصوص عليها في قانون العقوبات المادة 2/41 ق.ع والتي تشترط:  -أن يتم التحريض بأحد الوسائل المحددة قانونا وهي: الهبة، الوعد، التهديد، إساءة إستعمال السلطة أو الولاية، التحايل، التدليس الإجرامي.
-أن يكون التحريض مباشر: بمعنى أن يقوم المحرض صراحة بدفع المحرض إلى إرتكاب أفعال التعذيب على الضحية.
-أن يكون التحريض شخصي: أي يوجهه لشخص معين بحيث يحرضه على إرتكاب التعذيب(1).

ونجد أن التحريض الذي أخذ به المشرع الجزائري أوسع من التحريض الذي أخذ به القانون الدولي لأن هذا الأخير لا يعاقب على التحريض إلا إذا أدى إلى الإرتكاب الفعلي للجريمة التي كان يسعى إليها المحرض. أما طبيعة التحريض فهي واحدة وهو ما يتضح من خلال ما صرحت به غرفة الدرجة الأولى لدى محكمة رواندا بقولها "إن الطابع المباشر للتحريض معناه الإثارة الصريحة للغير من أجل قيامه بعمل إجرامي، فمجرد طرح المشورة، بصفة غير دقيقة وغير مباشرة ليست كافية لتشكل صورة من التحريض"(2). كما نجد أن المحرض يعد شريكا عند بعض الأنظمة القانونية لا سيما التشريعين الفرنسي والمصري عكس المشرع الجزائري الذي يجعل من المحرض فاعلا أصليا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجزائي العام، ديوان الوطني للأشغال التربوية، 2002، ص: 145
2/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 99
-الأمر بالتعذيب: قد يقوم الجاني بإصدار أوامر للقيام بتعذيب الضحية وهنا تكون للجاني سلطة إصدار أوامر سواء كانت هذه السلطة مستمدة من الواقع أو من القانون فقد يكون الجاني أبا أو مدرسا أو زوجا أو مالكا أو حاكما أي يتطلب الأمر وجود علاقة تبعية بين الآمر ومنفذ الأمر كأن تكون علاقة رئيس بمرؤسيه، أو غير ذلك مهما كانت طبيعة ذلك الإلزام. وبعبارة أخرى فإن الشخص يستعمل وجوده في موضع السلطة، ليجعل شخصا آخر يرتكب الجريمة وتعتبر بعض الأنظمة القانونية، أن فعل إصدار الأمر هو نوع من الإشتراك بواسطة التعليمات الموجهة إلى الفاعل المادي للجريمة (1). غير أنه بالنسبة للمشرع الجزائري فإن مصدر الأمر مثل ممارس فعل التعذيب كلاهما فاعليين أصليين.
وعليه لكي تقوم مسؤلية الآمر يتطلب الأمر توافر العناصر التالية:
-أن يمارس الشخص قانونا أو واقعيا سلطة أو رقابة سواء كانت مباشرة أم لا على الأشخاص الخاضعين لأوامره مثل الموظف الذي يصدر أوامر لمرؤسيه التابعين لسلطته للقيام بالتعذيب.
-يجب إثبات أنه يمارس رقابة على مرتكب التعذيب وأنه قادر على منعهم من إرتكاب الجريمة أو معاقبتهم إذا لم يمتثلوا لأوامره (2).
-وإذا كان الشخص موظف فإن المشرع الجزائري لا يعاقبه لمجرد إصداره أوامر لمن له رتبة أقل من رتبته فالمسؤلية الجنائية لا تلحق إلا بالأشخاص المؤهلين لإصدار أوامر ملزمة بإسمهم.
-النتيجة: حسب المادة 263 مكرر ق.ع يشترط لقيام جريمة التعذيب أن يؤدي السلوك المجرم إلى إحداث عذاب أو ألم شديد جسديا كان أو عقليا والمقصود بالعذاب هو كل ما شق على الإنسان ومنعه مراده، أما الألم الشديد فيقصد به الوجع الشديد.
بمعنى أن الضحية تتعرض لمعاناة لا تطاق ولا يمكن تحملها أما إذا كان الألم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 100
2/غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 105
يمكن تحمله فإن الفعل يصبح مجرد ضرب أو جرح عمدي والقاضي له سلطة تقديرية لتكييف الجريمة بالنظر إلى درجة الألم وشناعة الفعل وعقلية الجاني.
والنتيجة المتمثلة في العذاب أو الألم الشديد تشترط في من يقوم بممارسة التعذيب أما من يحرض أو يأمر بممارسة التعذيب فلم يشترط المشرع الجزائري لتجريم تصرفهما وقوع النتيجة فبمجرد قيامهما بالسلوك المجرم تقوم الجريمة.

3-الركن المعنوي: جريمة التعذيب جريمة عمدية تتطلب القصد العام و القصد الخاص.
-القصد العام: هو إنصراف إرادة الجاني إلى إرتكاب جريمة التعذيب أي تتجه إرادته إلى إرتكاب السلوك الإجرامي مهما كانت الوسائل المستعملة وسواء كان تعذيب جسدي أو معنوي كما تتجه إرادته إلى تحقيق النتيجة المتمثلة في العذاب أو الألم الشديد الجسدي أو العقلي. كما لا بد أن يعلم بتوافر أركان الجريمة كما يتطلبها القانون ولا يمكنه التمسك بالجهل بالقانون لأنه لا يعذر أحد بجهله القانون.
-القصد الخاص: يشترط القانون إضافة إلى القصد العام توفر القصد الخاص وهو الغاية التي يقصدها الجاني والمتمثلة في إيلام المجني عليه والتسبب له في معاناة شديدة وهذا يتطلب أن تكون للجاني عقلية خاصة وهو ما عبر عنها الفقيهان الفرنسيان جان براديل وميشال دانتي جوان بالعقلية المتميزة (1).
        
         والمشرع الجزائري لم يأخذ بعين الإعتبار سبب إرتكاب الجريمة فقد يكون الغرض الحصول على إعترافات مهما كانت طبيعتها أو معلومات أو يكون إنتقام أو أي سبب آخر فالجريمة تقوم مهما كانت الأسباب التي دفعت للقيام بها.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء الأول، المرجع السابق، ص: 64
والمشرع الجزائري لم يحصر جريمة التعذيب في الأفعال التي يؤتيها الموظفين بل قد تقع الجريمة من طرفهم أو من غيرهم غير أنه ميز في العقوبة المقررة لكليهما كما وسع من السلوك المجرم الذي يقع من الموظف، فقد جرم المشرع كل من يوافق أو يسكت على أفعال التعذيب فالمادة 263 مكرر 2 تشترط:
-أن يكون الجاني موظف: وقد سبق تعريف الموظف أعلاه
-أن يوافق أو يسكت عن أفعال التعذيب: والموافقة هي تصرف إيجابي يعكس رضاء الشخص عن أعمال التعذيب فرغم أنه لم يقم أو يحرض أو يأمر بالتعذيب لكن رضاءه بها تجعل منه مجرما وتتم معاقبته على ذلك.
والسكوت هو سلوك سلبي فرغم عدم قيامه بأعمال التعذيب إلا أن سكوته عنها بشرط أن يعلم بها يعتبر رضاء منه بتلك الجريمة فيعاقبه القانون على ذلك.

          وتجريم مثل هذا التصرف الذي يقوم به الموظف والمعاقبة عليه هو من أجل حمل الموظفين اللذين يصل إلى علمهم إرتكاب جرائم التعذيب إلى التبليغ عنها. وهو نفس ما أخذ به القانون الدولي في إتفاقية مناهضة التعذيب التي نصت على أن الرئيس السلمي يمكن أن يسأل جنائيا ليس فقط لأنه أمر، حث أو خطط لأعمال إجرامية تم إرتكابها من طرف مرؤسيه، لكن أيضا إذا لم يتخذ التدابير الضرورية للوقاية أو العقاب على التصرفات المجرمة الصادرة عن مرؤسيه، وذلك كما لاحظه الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره حول إنشاء المحكمة الدولية بأن كل شخص في مركز السلطة يجب إذن مسائلته شخصيا على إصداره أمر غير شرعي لإرتكاب جريمة وفق هذا النظام الأساسي، لكن يجب مسائلته أيضا لعدم منعه إرتكاب الجريمة أو لعدم إعتراضه على ذلك (1).
        
ونجد هنا أن المشرع الجزائري أخذ بالمسؤلية عن الأعمال السلبية وهي تختلف في طبيعتها القانونية عن المسؤلية الناشئة عن ممارسة، التحريض، الأمر بممارسة التعذيب الناجمة عن المبادئ العامة للمسؤلية أما المسؤلية الناشئة عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 101
الأعمال السلبية فهي تتعلق بالقاعدة القائلة أنه لا مسؤلية جنائية على الإهمال إلا إذا نص القانون على وجوب التصرف (1).

المطلب الثاني: المتابعة والجزاء

لقد نص المشرع الجزائري على المعاقبة على إرتكاب جريمة التعذيب في المواد 263 مكرر 1 و263 مكرر 2 لذلك سنحاول التطرق للجزاء المقرر لجريمة التعذيب من خلال هذا المطلب لكن قبل ذلك نحاول معرفة الشروط المتطلبة لمتابعة المرتكبين لأعمال التعذيب حسب القانون الجزائري في الفرع الأول ثم ندرس الجزاء المقرر قانونا في فرع ثان.

الفرع الأول: المتابعة

إن الجريمة قد تتقادم فلا يمكن متابعة مرتكبها، كما قد يفر من الدولة التي إرتكب فيها الجريمة فلا تتمكن من متابعته ومعاقبته، خصوصا إذا تمسك بالحصانة لذلك سنتناول في هذا الفرع ما إتخذه المشرع في هذا المجال.

1-فيما يتعلق بالتقادم: لقد نص المشرع الجزائري على تقادم الدعوى العمومية في مواد الجنايات بإنقضاء 10 سنوات كاملة تسري من يوم إقتراف الجريمة في المادة السابعة ق.إ.ج، كما نص في المادة الثامنة مكرر أنه تنقضي الدعوى العمومية بالتقادم في الجنايات الموصوفة بأفعال إرهابية وتخريبية أو المتعلقة بالجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية.
وما يفهم من ذلك أن المشرع نص على إمكانية متابعة مرتكب جريمة التعذيب مهما طال الزمن، عندما ترتكب في إطار أفعال إرهابية أو تخريبية، أو إذا إرتكبت في إطار الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. فهنا أفعال التعذيب لا يطالها التقادم. أما إذا إرتكبت تلك الأفعال خارج هذا الإطار فإنه لا يمكن متابعة مرتكبيها إذا مرت مدة 10سنوات من يوم إرتكابها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 102
كما نصت المادة 8 مكرر 1 أنه يبدأ سريان آجال التقادم في الدعوى العمومية في الجنايات والجنح المرتكبة ضد الحدث إبتداءا من بلوغه سن الرشد المدني فهذا النص لا ينص على عدم تقادم الجريمة لكن يمدد في آجال التقادم مما يسمح بإمكانية متابعة الجناة لفترة أطول.
وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الفرنسي الذي لم ينص على عدم تقادم جريمة التعذيب ونص على أن تقادم الجريمة بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الحدث تبدأ عند بلوغه سن الرشد(1). بينما نجد الدستور المصري في مادته 57 نص على عدم سقوط الدعوى الجنائية ولا المدنية بالتقادم عندما يتعلق الأمر بالإعتداء على الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور ومنها سلامة جسده ونفسيته من أعمال التعذيب البدني أو المعنوي(2).

-الولاية القضائية العالمية: لم ينص المشرع الجزائري على أي حكم يقضي بإختصاصه في النظر في جرائم التعذيب المرتكبة في الخارج على الرغم من أن إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها الجزائر قد نصت في مادتها 2/5 على الإختصاص الشامل للجهات القضائية لمتابعة ومقاضاة مرتكبي جرائم التعذيب، لو إرتكبوها خارج البلد الذي ضبطوا فيه ، وهو ما يسمح بتطبيق هذا المبدأ أمام القضاء الجزائري. ونجد أن هذا المبدأ قد أثار عدة ردود أفعال من جانب دول العالم في عدة قضايا من ذلك في قضية بينوشي الرئيس السابق للشيلي عندما طلبت إسبانيا تسليمه لها من طرف المملكة المتحدة لمحاكمته عن إرتكاب جرائم منظمة في الشيلي وبلدان أخرى من ضمنها التعذيب.
ونجد أن المشرع الفرنسي على خلاف المشرع الجزائري قد نص في المادة 1/689 ق.إ.ج على إختصاص الجهات القضائية الفرنسية لمتابعة ومقاضاة مرتكبي جرائم التعذيب ولو إرتكبوها خارج التراب الفرنسي متى وجدو في التراب الفرنسي(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/tortures et actes de barbaries, ibid,  page 507-5
2/د. الشافعي محمد بشير، المرجع السابق، ص: 89
3/ أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء الأول، المرجع السابق، ص: 65
-الحصانة: إن مبدأ الحصانة لم يعد يعول عليه على المستوى الدولي للتهرب من المسؤلية الناشئة عن إرتكاب جرائم دولية وهو ما سبق بيانه في الفصل الأول أما على المستوى الداخلي فلا يوجد نص يقضي بسقوط الحصانة تلقائيا عند إرتكاب نوع محدد من الجرائم كما لم ينص على كيفية سقوط الحصانة لرئيس الجمهورية فنجد الدستور الجزائري لسنة 1996 ينص على الحصانة البرلمانية في مادته 109 وهي معترف بها لنواب البرلمان فقط وهذه الحصانة لا يمكن أن تسقط تلقائيا عند إرتكابهم جناية أو جنحة إلا بتنازل صريح من النائب المرتكب للجريمة أو بإذن المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة الذي يقرر رفع الحصانة بأغلبية أعضاءه. فلا يمكن متابعته بجناية التعذيب إلا بعد إتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك.
وتنص المادة 111 من الدستور أنه في حالة ما إذا كان النائب متلبس بجناية أو جنحة يمكن توقيفه لكن يجب إخطار المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة فورا.
وحتى في هذه الحالة فإن البرلمان يمكن أن يطلب وقف المتابعة وإطلاق سراح النائب وعلى النيابة أن تتخذ الإجراءات السابقة لإمكانية متابعته.
والمشرع الجزائري لم يضع إستثناءات على هذا المبدأ إذا تعلقت بجريمة تمس كرامة الإنسان وسلامته الجسدية والمعنوية.

الفرع الثاني: الجزاء

لقد نص المشرع على عقوبة التعذيب بإعتبارها جناية وعليه يتعرض مرتكبها إلى عقوبات أصلية نص عليها في المواد 263 مكرر 1، ومكرر 2، وأخرى تبعية تفرض بقوة القانون.

1-العقوبات الأصلية: تطبق على التعذيب عقوبة جنائية غير أن المشرع ميز في ما إذا إرتكبت الجريمة من عامة الناس وفي ما إذا إرتكبت من طرف موظف.

-جريمة مرتكبة من عامة الناس: يعاقب القانون مرتكب جريمة التعذيب بالسجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشر سنوات وغرامة مالية تتراوح ما بين 100.000 د.ج إلى 500.000 د.ج.
وتشدد العقوبة في حالة ما إذا سبقت أو صاحبت أو تلت جريمة التعذيب جناية غير القتل العمد لتصبح العقوبة السجن المؤقت من عشر سنوات إلى عشرين سنة وغرامة تتراوح ما بين 150.000 د.ج إلى 800.000 د.ج.
-جريمة مرتكبة من طرف موظف: يعاقب القانون الموظف الذي يرتكب جريمة التعذيب بالسجن المؤقت من عشرة إلى عشرين سنة وغرامة تتراوح ما بين 150.000 د.ج إلى 800.000 د.ج.
وتشدد العقوبة في حالة ما إذا سبقت أو صاحبت أو تلت جريمة التعذيب جناية غير القتل العمد لتصبح العقوبة السجن المؤبد.

وقد عاقب المشرع بموجب المادة 263 مكرر 2 الفقرة الأخيرة الموظف الذي لم يرتكب التعذيب لكنه وافق أو سكت عليها بعقوبة السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشر سنوات وغرامة تتراوح ما بين 100.000 د.ج إلى 500.000د.ج.
2-العقوبات التبعية: يتعرض مرتكب جريمة التعذيب إلى العقوبات التبعية بقوة القانون وتتمثل هذه العقوبات في الحجر القانوني والحرمان من الحقوق الوطنية.
-الحجر القانوني: نصت عليه المادة السابعة ق.ع، ويقصد به حرمان المحكوم عليه أثناء تنفيذه للعقوبة المحكوم بها عليه من مباشرة حقوقه المالية، وتكون إدارة أمواله طبقا للأوضاع المقررة في حالة الحجر القضائي.
-الحرمان من الحقوق الوطنية: نصت عليها المادة الثامنة ق.ع وتشمل على:
-عزل المحكوم عليه وطرده من جميع الوظائف والمناصب السامية في الحزب أو الدولة وكذا جميع الخدمات التي لها علاقة بالجريمة.
- الحرمان من حق الإنتخابات والترشيح وعلى العموم كل الحقوق الوطنية والسياسية ومن حمل أي وسام.
-عدم الأهلية لأن يكون وصيا أو ناظرا ما لم تكن الوصاية على أولاده.
-الحرمان من الحق في حمل الأسلحة وفي التدريس وفي إدارة مدرسة أو الإستخدام في مؤسسة للتعليم بوصفه أستاذا أو مدرسا أو مراقبا. 



                 

 
      














الخاتمة:

إن القوانين الداخلية في مختلف دول العالم تهدف إلى ضمان حماية حقوق الإنسان المختلفة وذلك من خلال تجريم وملاحقة مرتكبي الجرائم ومعاقبتهم، كما يهتم القانون الدولي كذلك بضمان تمتع الأفراد بهذه الحقوق من خلال تجريم كل إعتداء عليها.

وكما رأينا بشأن جريمة التعذيب فقد إهتم بتجريمها القانون الدولي نظرا لجسامة وخطورة النتائج التي ترتبها على المستوى الدولي خصوصا من خلال الممارسات التي تتم على عدد كبير من الأفراد والتي تمارسها الدولة عن طريق سلطاتها المختلفة فقام بتبيين معنى التعذيب وأوضحه لكي لا يختلط بغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية اللإنسانية والمهينة وعملت منظمة الأمم المتحدة على أن يعترف بهذا التعريف عدد كبير من الدول من خلال قبول والمصادقة على مختلف الإعلانات واللإتفاقيات الدولية التي تنص على تجريم التعذيب. وهو ما تم فعلا فقد حظى هذا التعريف بقبول أغلب أعضاء الجماعة الدولية، حيث أن عدد الدول الأطراف في إتفاقية الأمم المتحدة لمنع التعذيب والعقاب عليه لسنة 1984 وصل إلى 109 دولة من مختلف أنحاء العالم، أي ما يمثل ثلثي أعضاء الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة كما أنه لم يرد أي تحفظ بالنسبة لأي عنصر من عناصر هذا التعريف كما أن القضاء الدولي أكد على أن هذا التعريف يقبل التطبيق على كل القواعد الدولية التي تعنى بتجريم التعذيب.

وكما رأينا فقد سعى القانون الدولي لتفعيل هذا الحظر من خلال آليات عديدة سواء من خلال أجهزة دولية أثبتت نجاعتها على المستوى الدولي فهي وإن لم تنهي هذه الإنتهاكات فقد عملت على الحد منها من خلال التقارير التي تقدمها للدول. كما قد سعى لإيجاد مبادئ قانونية تشكل عامل لمكافحة الإفلات من العقاب واللامسؤلية لمرتكبي هذه الجريمة.
ونتيجة تحسيس الدول بضرورة منع إستعمال التعذيب إنتهى الأمر إلى تجريم التعذيب من طرف عدة دول في قوانينها الداخلية كما نصت على معاقبة مرتكبيها، خصوصا أن التعذيب أدى عبر الزمن إلى نتائج خطيرة فالغيظ الذي يشعر به الأفراد والمجتمعات بأكملها من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد العنف وخلق الفوضى والتوتر وعدم الأمن في المجتمع.

وقد أثمرت الجهود الوطنية والدولية إلى وضع حد لكثير من ممارسات التعذيب أو على الأقل التخفيف منها، ودفع السلطات الوطنية إلى محاكمة الموظفين الرسميين المسؤلين عن ممارسة التعذيب. غير أنه ورغم هذه الجهود المدافعة عن الإنسان، بل المحاربة من أجله بكل ما تملكه من شجاعة وإقدام وإمكانيات قانونية وسياسية وإعلامية، فإن قضية التعذيب تظل مع ذلك مؤرقة للمجتمع الإنساني، وتتطلب مزيدا من الجهود نحو مناهضة التعذيب ومنعه، خصوصا أن التعذيب يتميز بالدينامكية والتطور المستمر فقد قال الأستاذ "مارغينو" (إن مبدأ حظر التعذيب لا زال لم يظهر بعد كل خباياه)(1).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ غربي عبد الرزاق، المرجع السابق، ص: 136  
المراجع المعتمد عليها:

الرسائل:
1-غربي عبد الرزاق، جريمة التعذيب في القانون الدولي، مذكرة ماجستير، معهد الحقوق بن عكنون جامعة الجزائر، سنة 2004.

الكتب:
2-د.أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجزائي العام، الديوان الوطني للأشغال التربوية، 2002
3-د.أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء الأول، دار هومة، سنة 2002.
4-د.أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجنائي الخاص الجزء الثاني، دار هومة، سنة 2004.
5-بن شيخ لحسن، مذكرات في القانون الجزائي الخاص، دار هومة، سنة 2002.
6-الشافعي محمد بشير، قانون حقوق الإنسان، دار الفكر العربي، سنة 1992.
7-عبد القادر البقيرات، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية، الديوان الوطني للأشغال التربوية، سنة 2004.

المجلات والمحاضرات:
8-tortures et actes de barbaries, guide juridique, n°5 RES-W 
9-منظمة العفو الدولية، قضية بينوشيه الولاية القضائية العالمية وسقوط الحصانة عن مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، تقديم الأستاذ لعرابة أحمد، 2005.

قنوات الأنترنيت:
10-عدنان الصباح، التعذيب وضروب المعاملة القاسية، موقع: www.kefaya.org/reports/041118 adnansabaah
11-مكافحة التعذيب: دليل التحركات، الموقع: www.amnesty-arabic.org/ctm/ch7-2.htm
12-مكافحة التعذيب: دليل التحركات، الموقع: www.amnesty-arabic.org/ctm/ch1.htm
13-مكافحة التعذيب: دليل التحركات، الموقع: www.amnesty-arabic.org/ctm/ch1-1htm
14-آلان أشليمان، التعذيب: الحاجة إلى المزيد من النقاش، الموقع: www.icrc.org/web/ara/siteara0.nsf/implist265/99e8cc5f9544d312c125702d.

تعليقات