القائمة الرئيسية

الصفحات



أحكام الدفوع في الدعوى الجزائية

أحكام الدفوع في الدعوى الجزائية

أحكام  الدفوع  في  الدعوى  الجزائية 



أحكام الدفوع في الدعوى الجزائية

الشيخ شاكر علي الشهري
عضو هيئة التحقيق والادعاء العام بالرياض

الحمدُ لله وحده والسلام والسلام على من لا نبي بعده وبعده:
   فإن موضوع الدفوع أمام القضاء الجزائي من أهم المسائل التي يجدر أن تبحث وتتداول بين المختصمين؛ لما لهذا الموضوع من أهمية في تحقيق مبدأ العدالة والنزاهة، وتطبيق ما أمر الله به من إقامة العدل بين الناس.
   إذْ بانتفاء الحق في الدفع أمام المحكمة فإنَّ المحاكمة من أصلها تكون فاسدةً، وما يُبنى عليها يكون باطلاً لا يجوز الاعتداد به.
   ولذلك رغبت في التطرق لهذا الموضوع بهدف تسليط الضوء على بعض جوانبه وجمع شتاته، ومحاولاً التقعيد له وضبطه بقدر الإمكان مع الاختصار والاقتصاد على ما فيه فائدة ترجى.
   وقد قسمت الموضوع إلى عدة مباحث هي:
   المبحث الأول: تعريف الدفع
   المبحث الثاني: الأصول الشرعية والنظامية لحق الدفاع
   المبحث الثالث: أنواع الدفوع
   المبحث الرابع: شروط الدفع
   المبحث الخامس: الأثر المترتب على الدفع
   المبحث السادس: عبء إثبات الدفع
ونبدأ القول مستعينين بالله تعالى.

المبحث الأولتعريف الدفع


   الدفع لغة: يرد لعدة معانٍ، منها: (التنحية والإزالة)، فيقال: دفع عنه الأذى: أي نحاه وأزاله، وكذا (الاضطرار)، فيقال: دفعه إلى كذا أي اضطره إليه، ومنها (الرد)، فيقال: دفعت الوديعة إلى صاحبها: أي رددتها إليه، وقد يُراد بها (رد القول وإبطاله)، فيقال: دفعت القول: أي رددته بالحجة([1]).
   ومن المعنى الأخير جاءت عبارة الدفوع، واستخدمت في الأنظمة المدنية والجزائية، فيقال: دفع المتهم بعدم صحة ما نسب إليه، أو دفع بعدم عدالة الشهود؛ بمعنى أنَّه تمسك بهذا الدفع لإبطال ما نسب إليه لإثبات براءته.
   وفي الاصطلاح: جرى تعريف الدفع بأنه « اسم يطلق على جميع الوسائل التي يجوز للخصم أن يستعين ها ليجيب عن دعوى خصمه؛ بقصد تفادي الحكم لخصمه بما يدعيه، سواء كانت هذه الوسائل موجهةً إلى الخصومة أو بعض إجراءاتها، أو موجهةً إلى أصل الحق المدعى به، أو إلى سلطة الخصم في استعمال دعواه »([2]).
فالدفع وحق الدفاع عن النفس هو حقٌ أصيلٌ يتمتع به المتهم بمجرد توجيه الاتهام إليه؛ ليستخدمه بنفسه، أو عن طريق وكيله أمام القضاء لدحض التهمة المسندة إليه، حيث إنه مما لاشك فيه أنَّ الهدف الأساس من إنشاء المحاكم وإيجاد القضاء هو إحقاق الحق وإقامة العدل، ولا يتأتى هذا الهدف ولا تكتمل هذه العدالة إذا لم يتوافر للمتهم الحق الكامل للدفاع عن نفسه ضد ما أسند إليه، وأعطي الحرية التامة في إبداء ما يراه مناسباً للرِّد على التهمة.
   وعدم تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه أو التقتير عليه، وعدم إعطائه الفرصة كاملة هو إخلالٌ بالعدالة، ويكون مبرراً لإبطال الحكم لعدم صحته.
ويتسع تعبير الدفاع لكل ما يصدر عن الخصم في سبيل المطالبة بحقه قضاءً، وتدعيم وجهة نظره، وتفنيد حجج خصمه، فتُعدُّ من قبيل الدفاع أقوال الخصم أمام المحكمة، أو أثناء المرافعة، وما يقدمه من مستندات ومذكرات للقضاء، وكذا الطعن على الحكم بطرقه المختلفة.
   وفيما يتعلق بالدعوى الجزائية تحديداً يدخل في معنى الدفع طلبات التحقيق، التي يتوجه بها المتهم إلى المحكمة إثباتاً لإدعائه، أو نفياً لإدعاء خصمه، بحيث يلجأ المتهم لسلطة المحكمة ليستعين بها لتحقيق طلباته، التي تنتج ما يكون في مصلحته، ومن أمثلة الطلبات: طلب التأجيل – طلب التحقيق – طلب ندب خبير – طلب سماع شهود – طلب معاينة ([3]).
   وحق الدفاع هو حقٌ شخصيٌ يهدف إلى حماية مصالح المتهم؛ بتمكينه من دحض كل ما أسند إليه من تهم، وتقديم ما يرى ضرورته لحفظ حقوقه، كما أنَّ حق الدفاع لا يقتصر على حماية مصالح المتهم فحسب، بل هو يحقق مصلحةً عامةً في المساعدة على إظهار الحقيقة، الأمر الذي جعل كل إجراء يمسّ بحق الدفاع يُعدُّ باطلاً بطلاناً مطلقاً؛ لتعلقه بالنظام العام([4]).
   وأهمية حق الدفاع تتعدى المصلحة الخاصة للمتهم لتصل لحماية مصلحة المجتمع كلَّه في إظهار الحقيقة، وتحقيق العدالة هو عونٌ للقضاء في الوصول إلى الحقائق، وفي حالة غياب هذا الحق أو تغييبه سيؤدي حتماً إلى تغييب الحقيقة، الأمر الذي سيضلل القضاء، ويضيّع الحقوق، ويفسد العدالة.
وتزداد أهمية حق الدفاع في الدعوى الجزائية، حيث إنَّ الدعوى الجزائية تشكل رابطةً ذات حقوق والتزامات إجرائية متبادلة بين طرفيها الأصليين، وهما الادعاء العام والمتهم، وإذا كان نظام الإجراءات الجزئية قد اهتم بإجراءات الاتهام فإنّه لم يهمل حقوق المتهم، بل أحاطها بضمانات عديدة لا يجوز الإخلال بها، وأهمها ضرورة الاستماع إلى ما يدّعيه المتهم من أوجه الدفاع وتحقيقها، وهذا ما يتضح فيما سيأتي.

المبحث الثانيالأصول الشرعية والنظامية لحق الدفاع


   إنَّ التشريع الرباني الحكيم الذي أنزله على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – جاء كاملاً متكاملاً صالحاً لكل زمان ومكان، داعياً لكل خير، آمراً بالعدل وإقامة القسط. يقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد) وأمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يحكم بالعدل فقال سبحانه: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة) فالعدل هو من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، مما جعله فريضة واجبة، وليس مجرد حق من الحقوق التي يمكن لصاحبها التنازل عنها، حيث  يشاء أو التفريط فيها([5]).
   ولا يتحقق العدل ولا يتصوّر القسط إلا بإعطاء طرفي التنازع الحق في إبداء أقوالهما بكل حرية، وضمان حرية الدفاع عن أنفسهما تجاه ما يدعيه كل طرف على الآخر في مجلس القضاء، وإذا حُرم أحد الأطراف من هذا الحق فقد دخلت المحاكمة في الجور والميل، وهذا ظلمٌ وإجحافٌ لا يقرَّه الشرع ولا يثبته، بل يبطل كل ما ترتب عليه.
   ولذا كانت من أهم المبادئ المقررة في الشريعة لتحقيق العدالة بين الخصوم مبدأ حق المتهم في سماع أقوالهم أمام القضاء قبل الحكم عليه، ويدل على ذلك حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عندما بعثه لليمن قاضياً، حيث قال: بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: «إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيَّن لك القضاء»، قال فمازلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد([6]).
   ومن هذا الحديث يتضح أنَّه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع دفاعه، وإذا حكم القاضي دون سماع دفاع المتهم فحكمه باطل؛ لأنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الحكم قبل سماع أقوال الطرفين، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
   ويشهد لبطلان حكن القاضي إذا لم يسمع لأطراف الخصومة ما جاء في قصة الخصمين، اللذين تسوّرا المحراب على داود – عليه السلام – فقال أحدهما: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص).
   ونبيُّ الله داود حينما أصدر حكمه قبل سماع حجة الطرف الآخر من الخصومة علن أن حكمه أصابه خلل، فسارع إلى الاستغفار والتوبة، وكان في هذا توجيهٌ من الله سبحانه وتعالى لنبيه داود، وإنذارٌ لمنْ يتولى القضاء بين الناس؛ أن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر هو ميلٌ عن الحق وإتباعٌ للهوى.
   ولما كان هذا الحق مقرراً في الشريعة الإسلامية بكل وضوح، وكانت المملكة العربية السعودية تستمد أنظمتها من الشريعة الإسلامية، فقد أخذت بهذا الأنظمة السعودية المتعلقة بالقضاء، وطبقت هذا المفهوم، وأقَّرت هذا الحق للمتهم في إبداء دفوعه بكل حرية، ونصت على ذلك في مواد نظام الإجراءات الجزائية، وأقّرت هذا الحكم للمتهم في الدعوى الجزائية في مراحلها كافة، من مرحلة جمع الاستدلالات، ومرحلة التحقيق، ومرحلة المحاكمة. ورتبت على هذا الحق أحكاماً وتصرفات للمتهم وللمحقق لا تمس بحق الخصم في إبداء دفوعه، ومكّنته من إبدائها بكل حرية، والاستعانة بالحامين والوكلاء في ذلك، فقد نصَّت المادة الرابعة من نظام الإجراءات الجزائية على أنَّه «يحق لكل متهم أن يستعين بوكيل أو محامً للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحاكمة».
   ونصَّ النظام على سماه أقوال من نسب إليه ارتكاب الجريمة في مرحلة جمع الاستدلالات، كما جاء ذلك في نص المادة الثامنة والعشرين منه، التي تقول: «لرجالُ الضبط الجنائي في أثناء جمع المعلومات أن يستمعوا إلى أقوال من لديهم معلومات عن الوقائع الجنائية ومرتكبيها، وأن يسألوا من نسب إليه ارتكابها ...».
   وأوجب النظام في المادة الرابعة والثلاثين على رجال الضبط الجنائي أن يسمعوا فوراً أقوال المتهم المقبوض عليه، وأن يطلقوا سراحه فوراً إذا أتى بما يبرئه، فنصُّ المادة «يجب على رجال الضبط الجنائي أن يسمع فوراً أقوال المتهم المقبوض عليه، وإذا لم يأتِ بما يبرئه يرسله خلال أربع وعشرين ساعة مع المحضر إلى المحقق ...».
   كما حافظ النظام على حق المتهم في الاستعانة بوكيل أو محامٍ للدفاع عن نفسه في مرحلة التحقيق، ومنع المحقق من عزل المتهم عن وكيله أو محاميه، وذلك من باب تمكين المتهم من الوسائل التي تسمح له بالدفاع عن نفسه بكل حرية، فنصت المادة السبعون من النظام على أنه «ليس للمحقق أن يعزل المتهم عن وكيله أو محاميه الحاضر معه في أثناء التحقيق ...».
   وأثبت النظام للمتهم الحق بطلب شهود الدفاع، وأوجب على المحقق أن يسمع أقوالهم وفقاً لطلب الخصوم، فجاء في المادة الخامسة والتسعين من النظام «على المحقق أن يستمع إلى أقوال الشهود الذين يطلب الخصوم سماع أقوالهم ما لم يرَ عدم الفائدة من سماعها ...». وكذا أعطى النظام للمتهم الحق في مناقشة شهود الإثبات وإبداء ملحوظاته على شهادتهم، وأن يطلب من الشاهد نقاطاً أخرى يبيَّنها لزيادة الاستيضاح، فجاء في المادة التاسعة والتسعين من النظام: «للخصوم بعد الانتهاء من الاستماع إلى أقوال الشاهد إبداء ملحوظاتهم عليها، ولهم أن يطلبوا من المحقق الاستماع إلى أقوال الشاهد عن نقاط أخرى يبيَّنونها....».
   وأوجب النظام على المحقق أن يحيط المتهم علماً بما نسب إليه، وأم يستمع إلى أقواله ويدوّنها في محضر، فجاء في المادة الأولى بعد المائة: «يجب على المحقق عند حضور المتهم لأول مرة في التحقيق... يحيطه علماً بالتهمة المنسوبة إليه، ويثبت في المحضر ما يبديه المتهم في شأنها من أقوال ...»، وسماع أقوال المتهم واستجوابه وتدوين دفاعه عن نفسه لابد أن يكون في حالة لا تأثير فيها على المتهم ولا تضييق، بل لابد أن يمنح الحرية الكاملة، وأن يمنع ما يؤثر عليه أو يكرهه على عدم دفاعه عن نفسه، وذلك وفقاً لما جاء في المادة الثانية بعد المائة والتي تقول: «يجب أن يتم الاستجواب في حال لا تأثير فيها على إرادة المتهم في إبداء أقواله ولا يجوز تحليفه ولا استعمال وسائل الإكراه ضده...». وفي مرحلة المحاكمة وعند إبلاغ الخصوم فإن النظام قد نصَّ على حق المتهم في الدفاع عن نفسه ولو حالة التلبس، وأوجب على المحكمة أن تعطيه المهلة الكافية لإعداد دفاعه إذا طلب منها ذلك، وجاء ذلك في نصِّ المادة السابعة والثلاثين بعد المائة، والتي تقول: «يُبلغ الخصوم بالحضور أمام المحكمة المختصة ... فإذا حضر المتهم وطلب إعطاءه مهلة لإعداد دفاعه فعلى المحكمة أن تمنحه مهلة كافية».
   وأكد النظام على حق الدفاع، ومكّن المتهم من الوسائل التي تساعده على ذلك؛ بالاستعانة بمنْ يدافع عنه حتى ولو كان المتهم موجوداً وحاضراً للمحاكمة، فقد ذكرت المادة الأربعون بعد المائة أنه «يجب على المتهم في الجرائم الكبير أن يحضر بنفسه أمام المحكمة مع عدم الإخلال بحقه في الاستعانة بمن يدافع عنه ...».
   وأوجب النظام في نصوصه وأكد على إعطاء المتهم فرصة كافية لإعداد دفاعه أمام المحكمة في حالة جرى أن تعديل في لائحة الدعوى في أي وقت، فذكرت المادة الستون بعد المائة أن «للمحكمة أن تأذن للمدعي العام في أن يدخل تعديلات في لائحة الدعوى في أي وقت ويبلغ المتهم بذلك، ويجب أن يعطي المتهم فرصةً كافيةً لإعداد دفاعه بشأن هذا التعديل وفقاً للنظام».
   وعند إنكار المتهم للتهمة المنسوبة إليه أجاز له النظام أن يناقش أدّلة المدعي وشهوده، وأباح له ذلك بكل حرية، فنصُّ المادة الرابعة والستون بعد المائة «إذا أنكر المتهم التهمة المنسوبة إليه... ولكل من طرفي الدعوى مناقشة شهود الطرف الآخر وأدّلته».
   ومن باب تمكين المتهم من حق الدفاع عن نفسه، ومنحه الحرية الكاملة في ذلك، وإعطاءه الفرصة ليتمسك ببراءته جاءت المادة الرابعة والستون بعد المائة من النظام لتؤكد أنَّ «لكل من الخصوم أن يطلب سماع من يرى من شهود، والنظر فيما يقدمه من أدلة، وأن يطلب القيام بإجراء معين من إجراءات التحقيق .... ».
   وفي سماع المحكمة للدعوى فقد نصَّ النظام على أن تسمع المحكمة جواب المتهم عن كل ما يدعيه خصومه، وأن يعقب على أقوالهم، ويكون هو آخر من يتكلم للدفاع عن نفسه، فجاءت المادة الرابعة والسبعون بعد المائة لتنصّ على أنَّ «تسمع المحكمة دعوى المدعي العام، ثم جواب المتهم أو وكيله أو محاميه، ثم دعوى المدعي بالحق الخاص، ثم جواب المتهم أو وكيله أو محاميه عنها، ولكلِ طرف من الأطراف التعقيب على أقوال الطرف الآخر، ويكون المتهم هو آخر من يتكلم ..».
   كما أوجب النظام على المحكمة عند إصدار الحكم في موضوع الدعوى الجزائية أن تفصل في طلبات المتهم، وإن استدعى الفصل في هذه الطلبات إجراء تحقيق خاص، فعندئذ يرجى الحكم في الموضوع لحين التحقيق في الطلبات، وجاء ذلك في نصِّ المادة الحادية والثمانين بعد المائة، والتي تقوم: «كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجزائية يجب أن يفصل في طلبات المدعي بالحق الخاص أو المتهم، إلا إذا رأت المحكمة أن الفصل في هذه الطلبات يستلزم إجراء تحقيق خاص ينبني عليه إرجاء الفصل في الدعوى الجزائية، فعندئذ ترجئ المحكمة في الفصل في تلك الطلبات إلى حين استكمال إجراءاتها».
   ومن هذا السرد لنصوص نظام الإجراءات الجزائية يتضح جلياً أن المنظم السعودي قد حافظ على حق الدفاع للمتهم، بل أكّد عليه، ورتّب عليه أحكاماً  وتصرفات؛ مما يدل على استحضار المنظم لهذا الحق وتأكيده عليه، وإعماله وعدم إغفاله.

المبحث الثالث
أنواع الدفوع

   يمكن أن تتعدد الدفوع، وتنقسم بحسب الاعتبار الذي ينظر إليها منه، حيث نجد هناك تقسيماتٍ للدفوع باعتبار النظام الذي يحكم الدعوى، وتقسيمات من حيث طبيعتها، وتقسيمات أخرى مرجعها الأهمية التي تتمتع بها، وتقسيم رابع بالنظر إلى اتصال الدفع بالنظام العام من عدمه ([7]).
   ونعرض بشكل موجز لهذه التقسيمات، ثم نختار منها أهم تقسيمين منها للحديث عنه:
أولاً: تنقسم الدفوع من حيث النظام الذي يحكمها إلى:
   الدفوع المتعلقة بالنظام الجزائي المتعلق بالدعوى
   (كنظام المخدرات مثلاً):
   ويقصد بذلك تلك الدفوع التي تنصب مباشرة على تطبيق نصوص النظام؛ من حيث وجود الجريمة، وانتفاء أركانها وعناصرها، ومدى توافر أحد أسباب الإباحة أو مانع من موانع المسئولية الجنائية.
   الدفوع المتعلقة بنظام الإجراءات الجزائية:
   ويقصد بها الدفوع التي تنصب مباشرة على تطبيق قواعد نظام الإجراءات في المراحل المختلفة للدعوى الجزائية؛ كالدفع ببطلان إجراءات الاستدلال أو ببطلان إجراءات التحقيق المختلفة؛ كالدفع ببطلان القبض، والتفتيش، وبطلان الاعتراف.

ثانياً: تنقسم الدفوع من حيث طبيعتها إلى:
   الدفوع الموضوعية:
   وهي الدفوع التي توجه لعدم إثبات الواقعة الجرمية أو عدم صحتها أو عدم صحة إسنادها إلى المتهم، وكل ما يتعلق بوقائع الدعوى؛ كالدفع بالبراءة ونفي التهمة.
   الدفوع الشكلية:        
   وهي الدفوع التي يطعن بها المتهم في إجراءات الخصومة الجزائية، بحيث يتوقف مصير الدعوى على الفصل فيها، مثل الدفع بعدم اختصاص المحكمة بالنظر في الدعوى.

ثالثاً: تنقسم الدفوع من حيث الأهمية إلى:
   دفوع جهرية:
   ويقصد بها تلك الدفوع المهمة المؤثرة في الدعوى الجزائية، التي يترتب عليها تغيير وجهة النظر في الدعوى، والتأثير في الحكم؛ كالدفع ببطلان الشهادة أو تقارير الخبراء.
   دفوع غير جوهرية:
   ويقصد بها تلك الدفوع التي لا تؤثر في الدعوى الجزائية، ولا يكون الغرض منها سوى التشكيك أو التطرق لأمور ثانوية عند ثبوتها لا تغيّر في الحكم شيئاً؛ كالدفع بإباحة ما نصَّ الشرع والنظام على تحريمه.

رابعاً: تنقسم الدفوع من حيث الهدف منها إلى:
   الدفوع المتعلقة بالنظام العام:
   وهي الدفوع التي تستهدف حماية المصلحة العامة؛ كالدفوع المتعلقة بولاية المحكمة وتشكيلها وطرق الطعن في الأحكام.
   الدفوع المتعلقة بمصلحة الخصوم:
   وهي الدفوع التي جعلت لحماية مصلحة الخصوم؛ كالدفوع المتعلقة بالإجراءات الخاصة بجمع الاستدلال، أو التحقيق الابتدائي والتبليغ بالحضور، مما لا يتعدى أهميته الخصوم ومصلحتهم الخاصة.
   ويجدر بالذكر أن لتقسيم الدفوع وتمييزها نتائج مهمة، من حيث مدى جواز إبدائها أمام المحاكم العليا، ومدى جواز التمسك بها في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ومدى وجوب إبدائها قبل التطرق للموضوع، وكونها محلاً للتنازل، وغيرها من الآثار المهمة المترتبة على تقسيم الدفوع، ونرى أن أهم تقسيمين في هذا الموضوع هما تقسيم الدفوع من حيث طبيعتها ومن حيث أهميتها، وهما ما سنتطرق إليهما بالتفصيل.
   فمن حيث الطبيعة تنقسم الدفوع إلى:
   أولاً: الدفوع الموضوعية:
   وهي تلك التي تتعلق بموضوع الدعوى أو أركان الجريمة المكونة لها أو تقدير الأدلة التي تُثار بها. ويترتب عليها في حالة صحتها وتوفر شروطها الحكم ببراءة المتهم أو امتناع عقابه أو التخفيف من قدر المسئولية([8]).
   فالدفع بتوافر حالة الدفاع الشرعي مثلاً يتطلب من المحكمة أن تتحقق من شروط الدفاع الشرعي، ومدى توافرها في حق المدافع، فإذا ما ثبت للمحكمة من ظروف الدعوى والأدلة القائمة أن المتهم كان في حالة دفاع شرعي وجب عليها أن تعامله على هذا الأساس ([9]).
   والدفوع الموضوعية لا يمكن حصرها وتعدادها؛ لأنَّها تختلف وتتنوع باختلاف وتنّوع القضايا وظروفها وما يحيط بها.
   وتمتاز الدفوع الموضوعية بأنَّها يجوز إبداؤها في أية حالة تكون عليها الدعوى حتى قفل باب المرافعة، بل يجوز إعادة إبدائها بعد الحكم من محكمة درجة أولى أمام محكمة الاستئناف، وذلك لأنَّ قواعد العدالة تقتضي أن يُتاح للخصم فرصة دحض مزاعم خصمه في أية مرحلة من مراحل الخصومة ([10]).
   وليس هناك ترتيبٌ في الدفوع الموضوعية يتعين الالتزام به، فلا يُعدُّ تنازلاً عن الدفع الموضوعي تقديم دفع على آخر، ويجوز إعادة إثارة الدفوع الموضوعية أمام محاكم الاستئناف، ويجوز إبداء دفوع موضوعية جديدة أمامها لم تعرض على محكمة درجة أولى.
   والحكم بقبول الدفع الموضوعي هو حكم في موضوع الدعوى، بحيث يكسب قوة الشيء المقضي به، ويحول دون تجدد الدعوى لذات السبب والموضوع، كما يحقُ للخصم أن يطعن في الحكم بالطرق المقررة نظاماً.
ثانياً: الدفوع الشكلية:
   وهي تلك التي تتعلق بإجراءات الدعوى الجزائية أو سير الخصومة فيها أمام القضاء أو صحة اتصال المحكمة بالدعوى، ويترتب على الفصل فيها لو صحت تحديد مصير الدعوى الجزائية أمام المحكمة، ويتوقى الخصم بمقتضاها الحكم بمطلوب خصمه مؤقتاً في بعض الأحيان؛ كالدفع بعدم الاختصاص المحلي للمحكمة ناظرة الموضوع ([11]).
   ولم تتضمن نصوص نظام الإجراءات الجزائية حصراً للدفوع الشكلية، التي يستطيع إبداءها أما القضاء، وعلى ذلك وكقاعدة فإنَّ كل دفع يتعلق بإجراءات الخصومة الجزائية، أو صحة اتصال المحكمة بها ولم ينفذ إلى موضوع الدعوى وأدلتها يُعدُّ دفعاً شكلياً.
   وتتميز الدفوع الشكلية عن الدفوع الموضوعية بالآتي:
   أنها تبدى قبل التكلم في الموضوع، وتبدى معاً وإلا سقط الحق فيما لم يبدَ منها ما لم تتصل بالنظام العام، وعلى ذلك يُعدُّ تنازلاً عن الدفع الشكلي مجرد تقديم دفع آخر عليه، أما في الدفوع الموضوعية فلا يُعدُّ تنازلاً عن الدفع الموضوعي مجرد تقديم دفع آخر عليه.
   أن المحكمة – كقاعدة عامة – تقضي في الدفع الشكلي قبل البحث في الموضوع؛ لأن الفصل في الدفع الشكلي قد يغنيها عن التعرض للموضوع، إذ يترتب على قبوله انقضاء الخصومة أمامها.
   أن الحكم الصادر بقبول الدفع الشكلي لا يمس أصل الحق، وبالتالي لا يترتب عليه إنهاء النزاع، وإنما يترتب عليه انقضاء الخصومة أمام المحكمة.
   أن استئناف الحكم الصادر بقبول الدفع الشكلي لا يطرح على محكمة الاستئناف إلا الخصومة في الدفع، وبعبارة أخرى ولاية المحكمة الاستئنافية تقتصر على مجرد إعادة النظر في الدفع، ولا يجوز لها أن تقضي في موضوع الدعوى إن هي ألغت الحكم المتسأنف ([12]).
   وبالرجوع إلى نظام المرافعات الشرعية، الذي يُعدُّ الأصل في إجراءات المحاكمة فإنه قد عالج أحكام الدفوع في الفصل الأول من الباب السادس منه، وذلك في المواد من (71-74) ([13]).
   وقد نُص واقتصر فيه على ثلاثة أنواع من الدفوع الشكلية، هي:
   الدفع ببطلان صحيفة الدعوى.
   الدفع بعدم الاختصاص المحلي.
   الدفع بالإحالة لمحكمة أخرى سواءً لقيام ذات النزاع، أو لقيام دعوى أخرى مرتبطة بها.
   وأوجب المنظم على الدافع أن يبدي هذه الدفوع قبل الدخول في موضوع الدعوى وإلا سقط حقه في التمسك بها.
   ويُفهم من الحصر الوارد في هذا النص النظامي أنَّ غيره من الدفوع الشكلية يجوز التمسك بها في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ففيما عدا الدفوع الشكلية التي أوجب النظام إبداءها قبل التعرض للموضوع فإن الخصم ذا أحقية في إبداء ما يعنّ له من دفوع في الوقت الذي يجده مناسباً، ومن ذلك الدفع بعدم الاختصاص النوعين أو عدم قبول الدعوى أو عدم سماعها لتعّلقها بالنظام العام ([14]).
   هذا من حيث تقسيم الدفوع من حيث طبيعتها، أما تقسيم الدفوع من حيث أهميتها فتنقسم إلى:
   أولاً: الدفوع الجوهرية:
   ويقصد بها تلك الدفوع المهمة والمؤثرة في الدعوى الجزائية، التي لو صحت لترتَّب عليها أثرٌ لصالح المتهم، سواء تعلق هذا الأثر بنفي التهمة، أو بامتناع المسئولية عنه، أو بامتناع العقابن أو تخفيفه، وكل دفعٍ يُؤثر، وقد يغيّر من الحكم في الدعوى يُعدُّ جوهرياً.
   فالدفاع الجوهري ظاهر التعلق بموضوع الدعوى والفصل فيه لازم للفصل في الدعوى، لذا فالقاعدة الأساسية هي وجوب ردِّ المحكمة على الدفع الجوهري دون غيره من أنواع الدفوع غير الجوهرية.
   ويتعين أن تتضمن أسباب الحكم في موضوع الدعوى الرد على الدفوع الجوهرية، التي من شأنها – لو صحت – أن تضعف الأسس التي اعتمد عليها الحكم، إذ لو بقيت هذه الدفوع بغير رد لكان في ذلك هدمٌ لأسباب الحكم وقصور فيه، وخلو الحكم كلية من الرد على الدفع الجوهري يبطل الحكم، ويجعله معيباً متعيناً نقضه ([15]).
   ويشترط في رد المحكمة للدفوع الجوهرية أن يكون رداً كافياً بأسباب سائغة؛ بمعنى أن تنصّ المحكمة وتعرض للدفع الجوهري بشكل مفصل، وتبيَّن عناصره، ثم ترد عليه بما يصلح لإسقاطه وعدم اعتباره، وتبرر عدم الاعتداد به بأسباب مقبولة وسائغة، مراعية للشرع والمنطق بلا غموض أو إبهام.
   ثانياً: الدفوع غير الجوهرية:
   ويقصد بها تلك الدفوع التي لا تأثير لها – لو صحت – في الدعوى الجزائية، ولا يترتب عليها تغييرٌ في الحكم، وليس لها علاقة منتجة في موضوع الدعوى؛ كالدفع الظاهر البطلان، سواء لمخالفته الصريحة لأحكام الشريعة، أو للأنظمة المرعية، أو الدفع الذي لا تأثير له في ثبوت الواقعة.
   وهذا النوع من الدفوع ليست المحكمة بملزمة بالالتفات إليه، وليست مطالبة بالرد عليه، وإذا خلا الحكم من الرد على الدفوع غير الجوهرية فلا يعيب ذلك الحكم، لأنَّ المحكمة مطالبة بالفصل في الموضوع، ولا علاقة لها فيما لو صح لم يؤثر على الموضوع، أو ينتج فيه؛ وذلك من باب حسن التقاضي، وسرعة إيصال الحقوق لأهلها، وعدم إشغال المحكمة بما لا طائل منه.
   وتقدير كون الدفع جوهرياً، أو غير جوهري هو سلطة لمحكمة الموضوع تخضع فيه لرقابة المحاكم الأعلى درجة، ويجوز للدافع الطعن في الحكم إذا رأى أن المحكمة قد أغفلت الأخذ بدفاعه، لكونه غير جوهري، ويحق له التمسك به وعرضه في صحيفة الطعن ضد الحكم.

المبحث الرابع
شروط الدفع

   لكي يكون الدفاع يبديه المتهم أو وكيله دفاعاً جوهرياً يستتبع التزام من المحكمة بالنظر فيه والرد عليه بالقبول أو الرفض، لابد من توافر شروط معينة فيه يمكن إجمالها في ثلاثة شروط مهمة ن وهي:

1- توفر الصفة والمصلحة في التمسك بالدفع:
   الدفوع في أصله هو دعوى من الخصم يعرضها على القاضي، وكل دعوى لابد أن تتحقق فيها الصفة والمصلحة في مدعيها – حتى تُقبل منه – فهما شرطا صحة الدعوى، ولابد أن تتوفر الشروط العامة للمصلحة في الدفع، وتنطبق عليه، حيث يشترط أن تكون المصلحة حالّة وشخصية ومباشرة، فلا يجوز أن يبدي دفعٌ من الدفوع على واقعة لم تحدث بعد.
   كما يشترط أيضاً أن يكون الخصم الذي يمسك بالدفع له صفة وشأن في الدعوى تجيز له المخاصمة من موضوعها، أو إبداء دفاع فيها، وهنا يجب التمييز بين الدفوع المتعلقة بالنظام العام والأخرى التي تتعلق بمصلحة الخصوم، ففي الحالة الأولى يكون لكل ذي مصلحة التمسك بالدفع، ويجب على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولو بغير طلب؛ كالحالات التي وردت في نص المادة (72) من نظام المرافعات الشرعية، أمّا الدفع المتعلق بمصلحة الخصوم فإنّه لا يجوز التمسك به إلا لمن تقرر له صفة، ومصلحة فيه وما عداه فلا يجوز له التمسك به ([16]).

2- أن يكون الدفع مقدماً بالشكل الذي يتطلبه النظام:
   يشترط في الدفع الذي تلتزم المحكمة بالرد عليه أن يقدم بالشكل النظامي، ولكي يكون الدفع نظامياً فلابد أن يكون:
   قد أُثير على وجه ثابت في إجراءات المحاكمة، سواء في أوراق الدعوى، أو في الحكم الصادر نفسه، أو في محاضر الجلسات، أو في مذكرات الدفاع.
   قد أُثير في مرحلة المحاكمة، فلابد أن تثار الدفوع في مرحلة المحاكمة حتى تلتزم المحكمة بالرد عليها، ولا يغني عن ذلك إثارتها أمام سلطة التحقيق، ولا يكفي إثارة الدفع أمام محكمة درجة أولى وحدها؛ لأنَّ عدم إصرار الخصم في الاستئناف على دفعه قد يفسر بأنَّه تنازل منه عنه، كما يجب عند تغيير أعضاء المحكمة أن يعيد الخصم دفعه مرة أخرى أمام الأعضاء الجدد، وإلا تكون غير ملزمة بالرد عليه([17]).
   جـ) إثارة الدفع لابد أن تكون في ميعاده المحدد، فلابد أن يُثار الدفع قبل قفل باب المرافعة، فإذا قررت المحكمة إقفال باب المرافعة فإنّ ذلك يعني أنَّها قد انتهت من التحقيق، ومن سماع الدفوع بعد أن اتضحت لها عناصر الحكم، هذا إذا كان الدفع موضوعياً، وأما إذا كان الدفع شكلياً فلابد أن تُثار كلَّها في بداية الجلسة قبل التعرض للموضوع، فإذا تأخر الخصم في إثارته أو أثاره بعد أن تطرق للموضوع فإنه يسقط حقه في التمسك به.
3- أن يكون الدفع مقدماً بشكل واضح وجازم ومنتج في الدعوى:
   والمقصود بذلك أن يكون الدفع شاملاً لبيان مضمونه، موضحاً للفائدة منه، مبيناً أثره في الدعوى وظاهر التعلق بها، وبناءً عليه فإنَّ المحكمة لا تلتزم بالرد على دفع مجهول، أو غير محدد بوضوح، أو كان مجرد كلام يلقى بغير مطالبة جازمة ولا إصرار؛ كأن يكون في صورة تساؤل، أو كان غير منتج في الدعوى وغير متعلق بموضوعها، أو لا مصلحة من ورائه ولا أثر له استظهار الحقيقة ([18]).
المبحث الخامس
الأثر المترتب على توفر الشروط اللازمة في الدفع

   يترتب على توفر الشروط اللازمة للدفع التزام المحكمة بالرد عليه، وأن تتعرض له في أسباب حكمها، وعدم الرد على الدفع الجوهري يبطل الحكم، ويجعله معيباً متعيناً نقضه ([19]) إذا كانت المحكمة قد استمدت من الإجراء، أو الواقعة محل الدفع عنصراً من عناصر حكمها، أما إذا لم تعتمد عليه فلا بطلان، ويشترط أن يكون رد المحكمة على الدفع صريحاً كافياً سائغاً بحيث تلتزم بأن تعرض له استقلالاً، وأن ترد عليه بمبررات وأسباب سائغة ومقبولة، ومعتبرة شرعاً وعقلاً لتبرير رأيها.
   وقد ألزم نظام الإجراءات الجزائية في المادة (182) منه على أن يكون الحكم مشتملاً على ملخص لما قدمه الخصوم من طلبات، أو دفاع، وما استند عليه من الأدلة والحجج، ثم أسباب الحكم ونصه ومستنده الشرعي.
   وينبغي توضيح أن قضاء الدفوع يحكمه مبدأ أن قاضي الدعوى هو قاضي الدفع؛ بمعنى أن الأصل أن قاضي الدعوى الأصلية هو الذي يفصل في الدفوع المتعلقة بها كافة، إلا ما استثنى بنظام خاص، وكان خارج الاختصاص النوعي للقاضي، ففي هذه الحالة إذا رأت المحكمة وجهاً للسير في الدفع فعليها أن توقف الدعوى – وتحيل الأوراق الفرعية لجهة الاختصاص – لحين أن يفصل في الدعوى الفرعية من الجهة المختصة.

المبحث السادس
عبء إثبات الدفع
  
   إذا كانت القاعدة المأخوذة من أحكام المرافعات الشرعية أنَّ المدعى عليه ينقلب مدعياً عند الدفع فيقع عليه عبء إثبات ما يدعيه من دفوع وأوجه دفاع، فإنّ قرينة البراءة الأصلية في الدعوى الجنائية تقف معارضة لما جاء في المرافعات الشرعية، وبالتالي لا إعمال لها في الدعوى الجزائية لمخالفتها للأصل المعمول به، ولذا فإنَّ المتهم لا يكون مكلفاً بعبء إثبات ما يدفع به، وأن يقيم الدليل عليه، وإنّما يقع على سلطة التحقيق عبء إثبات عدم توافر صحة الدفع، لأنَّ افتراض البراءة الأصلية في المتهم يلقي على سلطة التحقيق عبء إثبات العناصر التي تقوم على أساس المسئولية الجنائية، وتثبت أيضاً عدم وجود كل ما من شأنه أن يعوق هذه المسئولية.
   فإن دفع المتهم بتوافر سبب من أسباب الإباحة؛ كالدفاع الشرعي فإن على سلطة التحقيق عبء إثبات عدم توفر هذه الحالة، فالمتهم يكفي أن يتمسك بالدفع دون أن يلزم بإثبات صحته، وعلى سلطة التحقيق والمحكمة التحقق من مدى صحة هذا الدفع.

   والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.              ن  
     
          



([1]) الجوهري، الصحاح ج3 ص1208.
([2]) د. عبد الحميد الشواربي، البطلان المدني، ص7.
([3]) حامد الشريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، ص26.
([4]) د. سعد القبائلي، ضمانات حق المتهم في الدفاع، ص16.
([5]) د. محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان، ص55-56.
([6]) رواه أبو داود في سننه، حديث رقم 3582، وحسنه الألباني.
([7]) د. حسين الجندي، وسائل الدفاع أمام القضاء الجنائي، ص29، ويقصد بفكرة النظام العام هو «ضرورة حماية المصلحة العليا للمجتمع حتى ولو أدى ذلك إلى تقييد لبعض القواعد القانونية، التي يؤدي التطبيق المطلق لها إلى انتهاك هذه المصلحة، ويختلف هذه التقييد في مداه وأثره» د. حامد الشريف، نظرية الدفوع، ص53.
([8]) إيهاب عبد المطلب، الموسوعة الجنائية الحديثة في الدفوع الجنائية، ص19.
([9]) د. سعج القبائلي، ضمانات حق المتهم في الدفاع، ص361.
([10]) د.فؤاد عبد المنعم، أحكام الدفوع في نظام المرافعات الشرعية السعودي، ص92.
([11]) إيهاب عبد المطلب، الموسوعة الجنائية الحديثة في الدفوع الجنائية، ص20.
([12]) خالد شهاب، الدفوع في قانون المرافعات، ص8، 9.
([13]) تنص المادة (71) من نظام المرافعات الشرعية «الدفع ببطلان صحيفة الدعوى، أو بعدم الاختصاص المحلي، أو بإباحة الدعوى إلى محكمة أخرى لقيام النزاع ذاته أمامها، أو لقيام دعوى أخرى مرتبطة بها يجب إبداؤه قبل أي طلب، أو دفع في الدعوى، وإلا سقط الحق فيما لم يُبد منها».
وتنص المادة (72) من النظام نفسه على أنَّ «الدفع بعدم اختصاص المحكمة النوعي، أو الدفع بعدم قبول الدعوى لانعدام الصفة، أو الأهلية أو المصلحة، أو لي سبب آخر، وكذا الدفع بعدم سماع الدعوى تحكم به من تلقاء نفسه، ويجوز الدفع في أي مرحلة تكون فيها الدعوى».
وتنص المادة (73) من النظام أيضاً على «تحكم المحكمة في هذه الدفوع على استقلال، ما لم تقرر ضمه إلى موضوع الدعوى، وعندئذ تبين ما حكمت به في كل من الدفع والموضوع».
([14]) د. فؤاد عبد المنعم، أحكام الدفوع في نظام المرافعات الشرعية السعودي، 73-74.
([15]) حامد الشريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، ص63-64.
([16]) حامد الشريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، ص 50-51.
([17]) د. سعد القبائلي، ضمانات حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجنائي، ص373.
([18]) المرجع السابق، ص377-378.
([19]) حامد الشريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، ص66.

تعليقات