📁 آخر الأخبار

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية رؤية مقارنة

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية  رؤية مقارنة

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية
 رؤية مقارنة




الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية: رؤية مقارنة
أ.د. جابر سعيد عوض
مقدمة:-
         تمثل الحقوق والحريات ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي الجيل الثاني من قائمة الحقوق والحريات التي نصت عليها المواثيق والإعلانات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وذلك باعتبار أن الحقوق والحريات ذات المضمون السياسي والمدني تمثل الجيل الأول في هذا الخصوص.
         وإذا كانت الدساتير المكتوبة الأولى قد أغفلت إلى حد ما الإشارة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نحو مباشر، إلا أن هذا الإغفال لم يقدر له أن يستمر مع اهتزاز أركان المذاهب الفردية، واتساع الدور السياسي الذي أضحت تلعبه الطبقات العاملة، فضلا عن انتشار المذاهب الاشتراكية التي نادت بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، ومن ثم ضرورة قيام الدولة بدور لتحقيقها. ومن هنا لم يكن غريبا أن تشير الدساتير اللاحقة، وبصفة خاصة تلك التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى سواء في أوربا الغربية أو الشرقية أو غيرها من بقاع العالم، لم يكن غريبا أن تشير إلى الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد. مثال ذلك الدستور الألماني الصادر في عام 1919، والدستور الأسباني الصادر في عام 1931، والدستور السوفيتي الصادر في عام 1936، والدستور الإيطالي الصادر في عام 1947، والدستور البولندي الصادر في عام 1952، والدستور الصيني الصادر في عام 1954، والتي أمنت جميعها حقوقا اقتصادية واجتماعية مثل حق العمل، وحق الملكية، وحق التعليم، والحق في الرعاية الصحية، وغيرها من الحقوق بما يحقق للإنسان حياة كريمة ولائقة.
         ولما كانت معظم الدساتير العربية الحالية قد صدرت في أعقاب ذلك، فقد تضمنت قدرا كبيرا من حقوق وحريات الإنسان المنصوص عليها في المواثيق والأعراف الدولية بصفة عامة، والعهدين الدوليين للحقوق والحريات السياسية والمدنية والحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة، وإن اختلفت في ذلك القدر وفي مستوى الضمانات التي قدمتها من دستور إلى آخر.
         يثير ذلك في واقع الأمر العديد من التساؤلات: ما هي الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنتها الدساتير العربية؟ وكيف عبرت النصوص الواردة في هذه الدساتير عنها؟ إلى أي حد تختلف الدساتير العربية عن بعضها البعض في هذا الخصوص؟ ما هي الضمانات التي قدمتها الدساتير العربية لحماية مثل هذه الحقوق والحريات؟ إلى أي حد تتفق تلك النصوص وتلك الضمانات الواردة في الدساتير العربية مع نظيراتها الواردة في المواثيق والعهود الدولية، وكذا في دساتير البلدان المتقدمة؟
         تهدف هذه الورقة البحثية إلى الإجابة على التساؤلات المثارة عاليه، وما قد يرتبط بها من تساؤلات، بغية الوقوف على واقع الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية، وكذا الضمانات التي قدمتها بهذا الخصوص.
         وعليه، تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: يحاول أولها التعريف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما عبرت عنها المواثيق والإعلانات والعهود الدولية. ويحاول ثانيها الوقوف على واقع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما نصت عليها الدساتير العربية الراهنة. ويعرض الجزء الثالث لضمانات حماية الحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير العربية. هذا وسوف يتم تناول الجزأين الثاني والثالث في إطار مقارن على مستويين: الأول بسيط، وتجرى فيه المقارنة بين دساتير الدول العربية وبعضها البعض. أما المستوى الثاني فمركب، حيث ستجرى المقارنة بين دساتير الدول العربية فيما يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية في إطار ما ورد بصددها في المواثيق والإعلانات والعهود الدولية، وفي دساتير بعض البلدان المتقدمة.

(1)التعريف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية

         يتمثل الهدف الرئيسي من وراء إقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تحقيق العدالة الاجتماعية، والتأمين ضد المرض والفقر والعجز عن العمل، والتخلص من البطالة، وتهيئة فرص العمل اللائق للأفراد. وهو ما دفع الكثير من البلدان المتقدمة والنامية على السواء إلى النص على هذه الحقوق في دساتيرها وإحاطتها بالرعاية.
         وعلى الرغم من أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنه من الملاحظ أن الاهتمام بها من الناحية القانونية والعملية قد جاء متأخرا، على العكس من الاهتمام بالحقوق السياسية والمدنية على الرغم من أن الحقوق الأولى هي التي تعطي لهذه الأخيرة مضمونها ومحتواها، وذلك باعتبار أن الاعتراف للأفراد بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية من شأنه أن يحررهم من الهيمنة المادية لأية جهة، ويمكنهم من أن يعيشوا حياة كريمة ويؤدون دورهم في المجتمع على نحو أفضل. إذ أنه من المؤكد أن الإرادة السياسية للفرد سوف تكون أكثر حرية عندما يتحرر من مخاوف البطالة والجهل والمرض. كما أن حصول الأفراد على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يحقق لهم بطبيعة الحال المساواة الحقيقية لا النظرية التي يمكن أن تحققها لهم الحقوق والحريات السياسية والمدنية.
العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
         على الرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 قد نص على الكثير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كمبادئ عامة، مثل حق العمل وحق الراحة، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في مستوى معيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية، والحق في التعليم على أن يكون بالمجان في مراحله الأولى، والحق في الاشتراك في الحياة الثقافية والاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه، والحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني للفرد.(1)
         وعلى الرغم أيضا من أن العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الصادر في عام 1966 قد نص أيضا على بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل حق الأفراد في تكوين النقابات والانضمام إليها،(2) إلا أن الأمم المتحدة قد آثرت إصدار اتفاقية دولية منفصلة تنص على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهو الأمر الذي أثمر عن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي تضمن مجموعة من الحقوق والحريات على النحو التالي:(3)
-       حق العمل، بما يتضمنه ذلك من الحق في التمتع بشروط عمل عادلة تكفل على وجه الخصوص أجورا ومكافآت عادلة ومتساوية عن الأعمال المتساوية دون تمييز. فضلاً عن الحق في ظروف عمل آمنة وصحية، وتحديد ساعات العمل بما يسمح بتوفير أوقات مناسبة للفراغ والراحة، وبما يكفل للأفراد العاملين وأسرهم حياة كريمة ولائقة. (المادتين السادسة والسابعة)
-       كما نص في المادة الثامنة على الحق في تشكيل النقابات والانضمام إليها وحق الإضراب، وفي المادة التاسعة على الحق في الضمان الاجتماعي.
-       كما نص في المادة العاشرة منه على حماية الأسرة، وذلك من خلال رعاية الأمومة والطفولة.
-       كما نص في المادة الحادية عشرة على الحق في مستوى معيشي لائق لكل الأفراد وأسرهم، بما يتضمنه ذلك من ضرورة توفير الغذاء والملبس والمسكن المناسب، والعمل على تحسين مستوى معيشة الفرد بصورة مستمرة.
-       الحق في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية (المادة الثانية عشرة).
-       الحق في التعليم والثقافة (المادة الثالثة عشرة). كما نص في المادة الرابعة عشرة على مجانية التعليم في مراحله الأولى.
-       كما نص في المادة الخامسة عشرة على حق الفرد في المشاركة في الحياة الثقافية، وفي التمتع بمنافع التقدم العلمي وتطبيقاته، وفي الانتفاع بحماية المصالح المادية والأدبية الناتجة عن الأعمال العلمية والفنية والأدبية.
            غير أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن طبيعة الالتزامات القانونية الناشئة عن الحقوق والحريات الواردة في هذا العهد لا تعدو أن تكون مجرد مناشدة للدول الموقعة عليه للعمل ما في وسعها لتضمين هذه الحقوق والحريات في دساتيرها حتى يتسنى لمواطنيها أن يتمتعوا بمستوى معيشي لائق. ولعله من المفهوم هنا أن التزام الدول لا يعنى بحال من الأحوال أن مواطنيها سوف يتمتعون فعلا بهذه الحقوق، إذ أن ذلك رهن بتمتع هذه الدول ذاتها بقدرات وإمكانيات تسمح لها بالوفاء بالحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا العهد. كما أنه من المفهوم أيضا أنه ليس باستطاعة كافة الدول الموقعة الوفاء بالالتزامات المترتبة على النص على مثل هذه الحقوق والحريات في دساتيرها على نحو متساو نظرا لتباين إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية.(4)        
من الواضح أن هذه المجموعة من الحقوق والحريات تختلف في خصائصها عن الحقوق والحريات السياسية والمدنية الأمر الذي لاشك له تأثيره على القيمة الفعلية لكل منها. ويمكن التحديد بأربعة اختلافات جوهرية بين هاتين المجموعتين من الحقوق والحريات نلخصها فيما يلي:

أولاً:- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تتطلب عملا ً إيجابياً:-

على العكس من الحقوق والحريات السياسية والمدنية، فإنه لا يكفي النص على الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية في دساتير الدول، بل لابد من قيام الدول بعمل إيجابي بغية الوفاء بها. بعبارة أخرى، تفرض الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية على الدول القيام بأعمال من شأنها تقديم العون للمواطنين في حياتهم على مختلف الأصعدة، في الوقت الذي لا تفرض فيه الحقوق والحريات السياسية والمدنية عليها سوى التزاما سلبيا تمتنع بمقتضاه عن القيام بأية أعمال يمكن أن تحول بين المواطنين وبين ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية. وعليه يمكن القول بأن الالتزامات الواقعة على الدول فيما يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية هي التزامات إيجابية، بما يعنيه ذلك من ضرورة بذل الدول لجهود معينة حتى تكفل للمواطنين فرص عمل مناسبة، فضلا عن توفير المسكن والغذاء والكساء والتعليم والرعاية الصحية المناسبة إلى غير ذلك من المتطلبات اللازمة للحياة الكريمة واللائقة لمواطنيها. وهو ما يفيد بأن للأفراد الحق في مطالبة السلطات الحاكمة بأن تقدم لهم يد العون والمساعدة، وأن توفر لهم كل ما هم بحاجة إليه لكي يعيشوا حياة لائقة وكريمة. أما الالتزامات الواقعة على الدول فيما يتعلق بالحقوق والحريات السياسية والمدنية فهي لا تعدو أن تكون التزامات سلبية تفرض عليها ألا تضع العراقيل أمام المواطنين وتحول بينهم وبين تحقيقها. وهو ما يفيد بأنه ليس للأفراد الحق في مطالبة السلطات الحاكمة سوى بأن تخلو بينهم وبين ممارسة حقوقهم وحرياتهم السياسية والمدنية.(5)
ثانياً:- العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وثيقة منشئة:-
يختلف الوضع بالنسبة للنصوص الدستورية التي تتناول الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية عنه بالنسبة لتلك التي تتناول الحقوق والحريات السياسية والمدنية. فبينما تتضمن الأخيرة تقريرا لحالة واقعية، لا تمثل الأخيرة سوى رسما لبرامج يمكن للدول أن تهتدي بها مستقبلا، بما يعنيه ذلك من ارتباط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بما يجب أن يكون في الوقت الذي ترتبط فيه الحقوق السياسية والمدنية بما هو كائن فعلا. بعبارة أخرى، الحرية بالنسبة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي حالة مستقبلية لا يتحقق المرجو منها إلا بقيام السلطات الحاكمة بعمل إيجابي، بينما هي بالنسبة للحقوق السياسية والمدنية حرية طبيعية لا تتطلب من السلطات الحاكمة سوى القيام بعمل سلبي - على نحو ما أسلفنا - يتمثل في الامتناع عن القيام بأي عمل من شأنه إعاقة تحقيقها بالنسبة للمواطنين.(6) وهو ما يفسر حقيقة أنه لم يكن هناك نية لدى بعض الدول – بما في ذلك بعض البلدان العربية - في الالتزام بوثيقة تنص على الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية باعتبار أنها قد لا تملك إمكانيات تنفيذها مما يمثل انتهاكا للوثيقة الدولية في حالة توقيعها عليها.(7) وعليه، يمكن القول بأن العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية لا يعدو أن يكون وثيقة كاشفة لحقوق قائمة ومعترف بها من قبل، ومن ثم فنهاك التزام فوري ومباشر من الدول الموقعة عليها بتحقيقها. أما العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيمثل وثيقة منشئة لحقوق وحريات جديدة. ومن ثم فقد اعتبرت كثير من الدول أن التزامها بهذه الحقوق والحريات لا يعتبر التزاما مباشرا بتوفيرها على الفور، بل التزام فقط ببرامج معينة يمكنها أن توفر تلك الحقوق والحريات على نحو تدريجي وفقاً لإمكانيات وموارد كل منها.(8)
ثالثاً:- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تفرض أعباءاً جديدة:-
هناك فارق جوهري آخر يتمثل في زيادة الأعباء الواقعة على كاهل الدول من جراء الالتزامات الإيجابية المترتبة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فمن المتوقع مع إقرار الدول بمثل هذه الحقوق والنص عليها في دساتيرها أن يؤثر ذلك على فلسفات وسياسات الحكم في هذه الدول، وكذا على الأوضاع المالية فيها نتيجة التوسع في الخدمات الاجتماعية المختلفة نظرا لتوجيه نفقاتها في اتجاه تحقيق فعلي لما أقرته من حقوق وحريات اقتصادية واجتماعية. ليس ذلك فحسب، بل فإن هناك أعباء أخرى تقع على كاهل الأفراد في الوقت ذاته نظرا لما قد تفرضه الدولة عليهم من التزامات حتى يتسنى لها تحقيق الأهداف المنشودة من وراء إقرارها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. إذ أن ما يقع على كاهل الدولة من أعباء جديدة يجعلها تفرض بالضرورة التزامات جديدة على مواطنيها.(9)
رابعاً:- صعوبة الرقابة على الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية:-
وهناك فارق جوهري رابع يترتب على إقرار الدول للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تميزها عن الحقوق السياسية والمدنية يتمثل في تباين فعالية الحريات المرتبطة بكل منها أمام القضاء. بعبارة أخرى، هناك تباين نوعي فيما يتعلق بالرقابة على الوفاء بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على عكس الحقوق والحريات السياسية والمدنية. فبينما يمكن للفرد رفع دعوى أمام القضاء إذا ما أدرك أن حقا من حقوقه السياسية والمدنية قد لحقه اعتداء ما مطالبا بوقف هذا الإعتداء، كما يحق له أن يطلب تعويضا عما يكون قد لحق به من أضرار من جراء هذا الاعتداء. بيد أن الأمر جد مختلف فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على اعتبار أن التخلف عن أداء مثل هذه الحقوق لا يصلح أن يكون موضوعا لأية دعوى أمام القضاء على نحو ما هو عليه الوضع بالنسبة لانتهاك حقا من حقوقه السياسية والمدنية، وذلك لكون تحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بما يفرضه على الدولة من عمل إيجابي – على نحو ما بينا آنفاً – يتطلب أن تكون الدولة قادرة على أداء هذه الحقوق والوفاء بها. فمن المفهوم أن الدول تتباين في قدراتها وإمكانياتها، وما يتسنى تحقيقه لأي منها يظل قاصرا طالما أن هناك دائما ما هو أفضل.(10)
يتضح مما سبق أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي مجموعة من الحقوق التي تخول للأفراد الحق في الحصول على خدمات أساسية من الدولة باعتبارها الجماعة السياسية التي يعيشون في كنفها، وهي تمثل الجيل الثاني من الحقوق، وتوصف أيضا بالإيجابية لأنها تركز على ضرورة بذل الجهد لتخليص الإنسان مما يعانيه من أحوال اقتصادية واجتماعية صعبة في تميزها عن الحقوق والحريات السياسية والمدنية التي توصف بالسلبية، باعتبار أنها لا ترتب على الدول سوى مجرد الامتناع عن وضع العقبات أو القيود التي تحول دون تحقيقها.
التساؤل حول واقع هذه الحقوق في الدساتير العربية ينقلنا إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة. غير أنه من المهم قبل ذلك الإشارة إلى أربع ملاحظات على قدر كبير من الأهمية.
تتمثل أولى هذه الملاحظات في أن حقوق الإنسان تشكل كل واحد لا يتجزأ، بما يعنيه ذلك من أن هذه الحقوق بكافة صورها لا تعدو أن تكون منظومة واحدة ومتكاملة، وهو ما يعد أول الشروط الضرورية لإمكانية التمتع بها جميعا. ومن ثم فإن ما درجت عليه الأدبيات في هذا الخصوص من التمييز بين حقوق سياسية ومدنية وأخرى اقتصادية واجتماعية ليس سوى تعبير عن تطور هذه الحقوق في الفكر القانوني والسياسي كما عبرت عنه المواثيق والإعلانات والعهود الدولية. بعبارة أخرى، فإن الإشارة إلى الحقوق السياسية والمدنية باعتبارها تمثل الجيل الأول من الحقوق والحريات، وأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تمثل الجيل الثاني لا يعدو أن يكون تعبيرا عن تطور تاريخي في الاعتراف بهذه الحقوق والنص عليها في المواثيق والإعلانات والعهود الدولية، وكذا في دساتير الدول الأعضاء في المجتمع الدولي. وعليه، فمن غير الممكن القول بأولوية أي من هذه الحقوق والحريات على الأخرى، بل الصحيح أنها جميعا ذات أهمية متكافئة. وهو ما درجت عليه منظمة الأمم المتحدة، وأكده إعلان فيينا الصادر عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان في عام 1993، وإن لم يغفل هذا الأخير الإشارة إلى ضرورة مراعاة الخصوصيات الوطنية.(11)
وتتمثل الملاحظة الثانية في أن تصنيف حقوق الإنسان والتمييز بينها في نطاق الأدبيات المتعلقة بهذا الخصوص إلى حقوق سياسية ومدنية وأخرى اقتصادية واجتماعية إنما يرجع في المقام الأول إلى كون أن هناك معايير للتصنيف والتمييز لا أكثر ولا أقل. مثال ذلك التمييز وفقاً لمعيار طبيعة الحق أو محله الذي يشمله بحمايته. ومن ثم، فإن الفصل بينهما ليس مطلقا أو قاطعا، بل يمكن القول بان هناك تداخلا بين هاتين المجموعتين من الحقوق. وليس أدل على ذلك من ورود ذكر بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية مثل الحق في إنشاء النقابات والانضمام إليها، أو الحق في تولي المناصب العامة.(12)
أما الملاحظة الثالثة فتتمثل في أن هاتين المجموعتين من الحقوق: السياسية والمدنية من جانب، والاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر باعتبارهما حقوقا للإنسان يجدان مصدرهما المشترك الأول في أصل نشأة الإنسان ذاته، أو ما يعرف في الفكر السياسي الغربي بالقانون الطبيعي. ومن ثم فإن تدخل المجتمع – سواء في ذلك على المستوى الدولي أو الوطني – لا يعد بحال من الأحوال بمثابة تقرير للحقوق الواردة في أي منهما، بل مجرد تنظيم لطريقة وأسلوب حمايتها.(13)  
وتتمثل الملاحظة الرابعة والأخيرة في كون أن هناك في واقع الأمر قناعة لدى الكثيرين بوجود علاقة ارتباط جدلية بين الحقوق السياسية والمدنية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، من المهم بالنسبة لأولئك المحرومين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أن يكون لهم الحق في الاحتجاج، خاصة إذا ما كان مرجع هذا الحرمان التوزيع غير المنصف لموارد البلاد وثرواتها، وإلا ما كان بمقدورهم الحصول على قدر عادل من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية،(14) بما يعنيه ذلك من أن التمتع بالحقوق السياسية والمدنية يقود إلى التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والعكس أيضا صحيح.

(2)واقع الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية

نص الدستور المصري الدائم والصادر في عام 1971 في الباب الأول منه على مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان المقومات الأساسية للمجتمع، عارضا في الفصل الأول من هذا الباب للمقومات الاجتماعية. فأورد في المادة الثامنة أن الدولة تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين. وفي المادة التاسعة أن "الأسرة أساس المجتمع، ... وتحرص الدولة على الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد. ونص في المادة العاشرة على كفالة الدولة حماية الأمومة والطفولة، ورعاية النشء والشباب. كما نص في المادة الثالثة عشرة على أن "العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة، ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع". كما أورد في ذات المادة عدم جواز فرض أي عمل جبرا على المواطنين إلا بمقتضى ولأداء خدمة عامة وبمقابل عادل. كما أورد في المادة الرابعة عشرة أن "الوظائف العامة حق للمواطنين، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب. وأورد في ذات المادة أنه "لا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي غلا في الأحوال التي يحددها القانون. وأكد في المادة السادسة عشرة على كفالة الدولة للخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية، وعلى كفالة الدولة خدمات التأمين الاجتماعي والصحي، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا في المادة السابعة عشرة. كما أكد في المادة الثامنة عشرة على أن "التعليم حق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية ... كما نص في المادة العشرون على أن التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية مجاني في مراحله المختلفة.(15)
وتحت الفصل الثاني الذي حمل عنوان "المقومات الاقتصادية" نص الدستور المصري في المادة الرابعة والثلاثين على حرمة الملكية الخاصة، وعلى حظر فرض الحراسة عليها، إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي، وعدم جواز نزعها إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض وفقاً للقانون. كما قرر في المادة السادسة والثلاثين على حظر مصادرة  الأموال الخاصة إلا بحكم قضائي. وقرر في المادة الثالثة والأربعين على عدم جواز إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أي شخص بغير رضائه الحر. ونص في المادة السادسة والأربعين على كفالة الدولة لحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية. ونص في المادة التاسعة والأربعين على كفالة الدولة لحرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي للمواطنين، وعلى توفير وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك. وأكد في المادة الخمسون على عدم جواز حظر إقامة أي مواطن في جهة معينة، ولا إلزامه بالإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون، مضيفاً في المادة الواحدة والخمسين عدم جواز إبعاد أي مواطن عن البلاد أو منعه من العودة إليها. كما نص في المواد من الرابعة والخمسين إلى السادسة والخمسين على حق الاجتماع للمواطنين شريطة أن يكون ذلك في هدوء ودون حمل سلاح، وحقهم في تكوين الجمعيات وإنشاء النقابات والاتحادات.(16)
وسار على نفس النهج تقريباً الدستور السوري الصادر في عام 1973، فقد نص فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية على حق الملكية في المادة الرابعة عشرة منه، مؤكداً في المادة الخامسة عشرة على عدم جواز نزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون. وأشار في المادة الخامسة والعشرون إلى كفالة الدولة لمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. ونص في المادة الثالثة والثلاثون على عدم جواز إبعاد المواطن عن أرض الوطن، وأن لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة إلا إذا منع من ذلك بحكم قضائي أو تنفيذاً لقوانين الصحة والسلامة العامة. كما أكد على أن حرية الاعتقاد مصونة، وأن الدولة تحترم جميع الأديان.(17)
كذلك فقد أكد الدستور السوري في المادة السادسة والثلاثون على أن العمل حق لكل مواطن وواجب عليه، وأن الدولة تعمل على توفيره لجميع المواطنين، وأنه من حق كل مواطن أن يتقاضى أجره حسب نوعية العمل ومردوده، وأن على الدولة أن تكفل ذلك، وأن تحدد ساعات العمل، وتكفل الضمان الاجتماعي للعاملين، وتنظم لهم حق الراحة والإجازة. وأكد في المادة السابعة والثلاثون على أن التعليم حق الدولة، وهو مجاني في جميع مراحله وإلزامي في المرحلة الابتدائية. كما نص في المادة الرابعة والأربعون على أن الأسرة هي خلية المجتمع الأساسية وأن الدولة تحميها وتحمي الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تقف في طريقه، وأن الدولة تحمي الطفولة والأمومة وترعى النشء والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم. كما أورد في المادة السادسة والأربعون أن الدولة تكفل كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليتم والشيخوخة، وأن الدولة تحمي صحة المواطنين، وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي. كما نص في المادة السابعة والأربعون على أن الدولة تكفل الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية.(18)
أما الدستور الأردني الصادر في عام 1952، فقد نص في المادة الخامسة على أن تكفل الدولة العمل والتعليم ضمن حدود إمكانياتها، كما تكفل الطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع الأردنيين. كما نص في المادة التاسعة على عدم جواز إبعاد أي أردني من ديار المملكة، ولا إلزامه بالإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون، ونص في المادة الحادية عشرة على عدم جواز استملاك ملك أحد إلا للمنفعة العامة وفي مقابل تعويض عادل حسبما يعين في القانون. وعلى عدم مصادرة الأموال المنقولة أو غير المنقولة إلا بمقتضى القانون. كما أكد في المادة الثالثة عشرة على عدم جواز فرض التشغيل الإلزامي على أحد إلا بمقتضى القانون. وأشار في المادة الرابعة عشرة إلى أن الدولة تحمي حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في المملكة ما لم تكن مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب. كما أشار في المادة السادسة عشرة إلى أن للأردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون، وكذا تأليف الجمعيات على أن تكون ذات نظم لا تخالف أحكام الدستور شريطة أن تراقب مواردها. ونص في المادة العشرين منه على أن "التعليم الإبتدائي إلزامي للأردنيين، وأنه مجاني في مدارس الحكومة. وأشار في المادة الثانية والعشرون إلى أن لكل أردني الحق في تولي المناصب العامة بالشروط المعينة بالقوانين والأنظمة. وأكد في المادة الثالثة والعشرون على أن العمل حق لجميع المواطنين، وأن على الدولة أن توفره للأردنيين، مشيرا في الوقت ذاته إلى واجب الدولة في حماية العمل وتوفيره لهم بأجور تتناسب مع كم العمل وكيفيته، كما تضع الدولة التشريعات التى تحدد ساعات العمل الأسبوعية، وتمنح العمال أيام راحة أسبوعية وسنوية مع الأجر، كما تقرر تعويضا خاصا للعمال المعيلين، وفي أحوال التسريح والمرض والعجز وإصابات العمل.(19)
ولم يألو الدستور الجزائري بدوره جهداً في النص على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فنص في المادة السادسة والثلاثون على أنه "لا مساس بحرمة حرية المعتقد، وفي المادة السابعة والثلاثون على أن حرية ممارسة التجارة والصناعة مضمونة، على أن تمارس في إطار القانون، كما نص في المادة الثامنة والثلاثون على حرية الابتكار الفكري والفني والعلمي، وفي المادة الواحدة والأربعين على حرية الاجتماع وإنشاء الجمعيات، وفي المادة الواحدة والخمسين على حق الملكية الخاصة، وعلى الحق في التعليم في المادة الثالثة والخمسين، وأنه مجاني وإجباري في مرحلة التعليم الأساسي، وعلى الحق في الرعاية الصحية في المادة الرابعة والخمسين، وعلى الحق في العمل في المادة الخامسة والخمسين، مشيراً إلى أن القانون يضمن الحق في الحماية والأمن والنظافة أثناء العمل، كما يضمن الحق في الراحة. كما يعترف في المادة السادسة والخمسين بالحق في إنشاء النقابات، وفي المادة السابعة والخمسين بالحق في الإضراب شريطة أن يمارس في إطار القانون الذي يمكن له أن يمنعه. كما نص أخيراً في المادة الثامنة والخمسين على أن الأسرة تحظى بحماية الدولة والمجتمع.(20)
وعلى الرغم من أن الدستور العراقي المؤقت قد أجمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في مادة واحدة هي المادة الرابعة عشرة، والتي نصت على أن "للفرد الحق بالأمن والتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي، وعلى الدولة العراقية ووحداتها الحكومية وبضمنها الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية، بحدود مواردها ومع الأخذ بالاعتبار الحاجات الحيوية الأخرى أن تسعى لتوفير الرفاه وفرص العمل للشعب"، إلا أن الدستور العراقي الأخير الصادر في عام 2005 قد فصلها تفصيلاً، إذ حرم في المادة السابعة والثلاثين العمل القسري والعبودية وتجارة العبيد، والاتجار بالنساء والأطفال والاتجار بالجنس. كما أشار في المادة الثامنة والثلاثين على أن الدولة تكفل، وبما لا يخل بالنظام العام والآداب، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، شريطة أن ينظم ذلك القانون. وفي المادة التاسعة والثلاثون على حرية تأسيس الجمعيات أو الانضمام إليها، على أن ينظم القانون ذلك. ونص في المادة الثالثة والأربعين على أن الدولة تكفل حرية العبادة وتحمي أماكنها، كما نص في المادة الرابعة والأربعين على أن "للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه"، وأنه "لا يجوز نفي العراقي أو إبعاده أو حرمانه من العودة إلى الوطن". كما أكد في المادة السادسة والأربعين على عدم جواز تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في الدستور أو تحديدها إلا بقانون، على ألا يمس ذلك التحديد جوهر الحق أو الحرية.(21)
أما الدستور اليمني فقد أكد في المادة الثالثة والخمسون منه على أن "التعليم حق للمواطنين جميعاً تكفله الدولة وفقاً للقانون بإنشاء مختلف المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية، وأن التعليم في المرحلة الأساسية إلزامي. وأكد في المادة الرابعة والخمسون على أن "الرعاية الصحية حق لجميع المواطنين، وتكفل الدولة هذا الحق بإنشاء مختلف المستشفيات والمؤسسات الصحية والتوسع فيها. كما نص في المادة الخامسة والخمسون على أن الدولة تكفل توفير الضمانات الاجتماعية للمواطنين كافة في حالات المرض أو العجز أو البطالة أو الشيخوخة أو فقدان العائل. كما أشار في المادة السادسة والخمسون إلى أن "حرية التنقل من مكان إلى آخر في الأراضي اليمنية مكفولة لكل مواطن، ولا يجوز تقييدها إلا فى الحالات التي يبينها القانون لمقتضيات أمن وسلامة المواطنين، مؤكداً على أن حرية الدخول والخروج من الأراضي اليمنية مكفولة وينظمها القانون، وأنه لا يجوز إبعاد أي مواطن عن الأراضي اليمنية أو منعه من العودة إليها. ونص في المادة الثامنة والخمسون على أن الدولة تضمن حق تكوين المنظمات النقابية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاتحادات الوطنية، وأن عليها اتخاذ جميع الوسائل الضرورية التي تمكن المواطنين من ممارسة هذا الحق.(22)
أما الدستور المغربي الذي درج على تقسيم أبوابه إلى فصول، فقد نص في الفصل التاسع منه على أنه يضمن لجميع المواطنين حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة، وكذا حرية تأسيس الجمعيات والانخراط في أية منظمة نقابية حسب اختيارهم، وأنه من غير الممكن وضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون. كما نص في الفصل الثاني عشر على حق جميع المواطنين في تقلد الوظائف والمناصب العامة، وأنهم سواء فيما يتعلق بالشروط المطلوبة لنيلها، وفي الفصل الثالث عشر على أن "التربية والشغل حق للمواطنين على السواء"، وضمن في الفصل الرابع عشر حق الإضراب، على أن ينظم القانون شروطه وإجراءاته. كما أقر في الفصل الخامس عشر حق الملكية، على أن ينظم القانون مداها وممارستها إذ دعت إلى ذلك الضرورة.(23)
وعلى نفس النهج التنظيمي سار الدستور التونسي الذي أشار في الفصل الخامس منه إلى حرية المعتقد، وفي الفصل الثامن إلى ضمان الحق النقابي، وفي الفصل العاشر إلى أن لكل مواطن حرية التنقل داخل البلاد وإلى خارجها واختيار مقر إقامته في حدود القانون، وفي الفصل الحادي عشر إلى حجر تغريب المواطن عن تراب الوطن أو منعه من العودة إليه، وفي الفصل الرابع عشر إلى أن حق الملكية مضمون ويمارس في حدود القانون.(24)
أما الدستور الليبي فقد خصص في إطاره ما يعرف بالوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان، والتي ضمنها مجموعة من الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية ضمن غيرها من الحقوق والحريات. نصت الوثيقة في المادة الخامسة منها إلى أن الدين علاقة مباشرة مع الخالق دون وسيط ومحرم ادعاء احتكار الدين أو استغلاله في أي غرض. كما نص في المادة السادسة على أن "سلامة البدن حق لكل إنسان ويحظر إجراء التجارب العلمية على جسد إنسان حي إلا بتطوعه، وفي المادة التاسعة على أن المواطنين أحرار في إنشاء النقابات والاتحادات والروابط المهنية والاجتماعية والانضمام إليها لحماية مصالحهم، وفي المادة العاشرة على أن "كل مواطن حر في اختيار العمل الذي يناسبه بمفرده أو بالمشاركة مع غيره دون استغلال لجهد الغير ودون أن يلحق ضرراً ماديا أو معنوياً بالآخرين، وفي المادة الحادية عشرة أن "لكل مواطن الحق في التمتع بنتائج عمله ولا يجوز الاقتطاع من ناتج العمل إلا بمقدار ما يفرضه القانون للمساهمة في الأعباء العامة أو نظير ما يقدمه إليه المجتمع من خدمات، وفي المادة الثانية عشرة على أن "الملكية الخاصة مقدسة يحظر المساس بها إذا كانت ناتجة عن سبب مشروع ودون استغلال للآخرين ودون الإضرار بهم مادياً أو معنوياً، ويحظر استخدامها بشكل مناف للنظام والآداب العامة، وأنه لا يجوز نزع الملكية الخاصة إلا لأغراض المنفعة العامة ولقاء تعويض عادل، وفي المادة الثالثة عشرة أن "لكل مواطن حق في الانتفاع بالأرض طيلة حياته وحياة ورثته شغلاً وزراعة ورعياً لإشباع حاجاته في حدود جهده ودون استغلال للغير، ولا يجوز حرمانه من هذا الحق إلا إذا تسبب في إفساد تلك الأرض أو عطل استغلالها. كما أكد في المادة العشرون على أن "لكل مواطن وقت السلم حرية التنقل واختيار مكان إقامته وله مغادرة الجماهيرية العظمى والعودة إليها متى شاء"، وإن أجاز للمحكمة المختصة إصدار أوامر منع مؤقتة من مغادرة الجماهيرية العظمى. كما أكد في المادة الثانية والعشرون على أن "حرية الاختراع والابتكار والإبداع مكفولة في حدود النظام والآداب العامة ما لم تكن ضارة مادياً أو معنوياً". وفي المادة الثالثة والعشرون على أن "لكل مواطن الحق في التعليم والمعرفة واختيار العلم الذي يناسبه"، وفي المادة الرابعة والعشرون على أن "لكل مواطن ومواطنة الحق في تكوين أسرة أساسها عقد النكاح القائم على رضا الطرفين ولا ينحل إلا برضاهما أو بحكم من محكمة مختصة". كما نص في المادة التاسعة والعشرون على حظر استخدام الأطفال في مزاولة أعمال لا تناسب قدراتهم أو تعوق نموهم الطبيعي أو تلحق الضرر بأخلاقهم أو صحتهم سواء كان ذلك من طرف ذويهم أو غيرهم.(25)
أما الدستور اللبناني فقد نص في المادة التاسعة منه على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وأن الدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام، كما نص في المادة العاشرة على أن التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب، وفي المادة الثانية عشرة على أن لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون، وفي المادة الخامسة عشرة على أن الملكية في حمى القانون، فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة وفقاً للقانون وبعد تعويضه منها تعويضاً عادلاً.(26)
وعلى شاكلة معظم الدساتير العربية، فقد أسهب دستور المملكة العربية السعودية فى التفاصيل فيها يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، غير أنه أعطاها مسحة دينية تنبع من طبيعة النظام. فأشار فى المادة التاسعة إلى أن الأسرة هى نواة المجتمع السعودى ويربى أفردها على أساس العقيدة الإسلامية وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولى الأمر، مؤكداً فى المادة العاشرة على حرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة، والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية ورعاية جميع أفرادها، وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم. كما أكد فى المادة الثامنة عشرة على أن الدولة تكفل حرية الملكية الخاصة وحرمتها، وعدم جواز نزعها من أحد إلا للمصلحة العامة، وعلى أن يعوض تعويضاً عادلاً، وحظر فى المادة التاسعة عشرة مصادرتها إلا بحكم قضائى.
أما فى المادة السادسة والعشرون، فقد أكد الدستور السعودى على حماية الدولة لحقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية، وفى المادة السابعة والعشرون أكد على أن الدولة تكفل حق المواطن وأسرته فى حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وتدعم نظام الضمان الاجتماعى، وفى المادة الثامنة والعشرون على واجب الدولة فى تيسير مجالات العمل لكل قادر عليه، وأنها ملتزمة بسن الأنظمة التى تحمى العامل وصاحب العمل، وفى المادة الثلاثون أكد على أن الدولة توفر التعليم العام، وأكد فى المادة الواحدة والثلاثون على أن الدولة توفر الرعاية الصحية لكل مواطن.(27)
كذلك فقد أولى الدستور العمانى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عنايته ليس فقط فى إطار المبادئ العامة لسياسة الدولة، بل أفرد لها جزءاً مهماً من الباب الثالث تحت عنوان "الحقوق والواجبات العامة". فأشار فى المادة الحادية عشرة إلى أن الملكية الخاصة مصونة، فلا يمنع أحد من التصرف فى ملكه إلا فى حدود القانون، ولا ينزع عن أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية المنصوص عليها فيه، وبشرط تعويضه عنه تعويضاً عادلاً، كما حظر المصادرة للأموال إلا بحكم قضائى.
كما أكد فى المادة الثانية عشرة على أن الأسرة هى أساس المجتمع، وأن القانون ينظم وسائل حمايتها والحفاظ على كيانها الشرعى، وأن الدولة تكفل للمواطن وأسرته المعونة فى حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وأن الدولة تكفل توفير الرعاية الصحية لكل مواطن، كما أنها تحمى العامل وصاحب العمل وتنظم العلاقة بينها، وأن لكل مواطن الحق فى ممارسة العمل الذى يختاره لنفسه فى حدود القانون، ولا يجوز فرض أى عمل إجبارى على أحد إلا بمقتضى ولأداء خدمة عامة وبمقابل أجر عادل. وأشار فى المادة الثالثة عشرة تحت عنوان المبادئ الثقافية إلى أن التعليم ركن أساسى لتقدم المجتمع وأن الدولة توفر التعليم العام.(28)
ولم يشذ الدستور الموريتانى عما سبق فأفاض فى الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين مشيراً فى المادة الثانية عشرة منه إلى أنه يحق لكافة المواطنين تقلد المهام والوظائف العمومية دون شروط أخرى سوى تلك التى يحددها القانون، وأكد فى المادة الرابعة عشرة على أن حق الإضراب معترف به على أن يمارس فى إطار القوانين المنظمة له، وإن كان للقانون الحق فى منع الإضراب فى المصالح أو المرافق العمومية الحيوية للبلاد. كما أكد فى المادة الخامسة عشرة إلى أن حق الملكية مضمون، وعدم جواز نزع الملكية الخاصة إلا إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة وبعد تعويض عادل مسبق. وأشار فى المادة السادسة عشرة إلى أن الدولة والمجتمع يحميان الأسرة.(29)
كذلك فقد تناول الدستور الصومالى فى بابه الثانى حقوق المواطن بصورة مستفيضة، فأشار فى المادة التاسعة منه إلى أن "كل مواطن تتوافر لديه الشروط التى يتطلبها القانون له الحق فى تقلد الوظائف العامة"، وفى المادة الثالثة عشرة إلى حق المواطنين فى تكوين النقابات أو الانضمام إليها لحماية مصالحهم الاقتصادية، وفى المادة الرابعة عشرة أن "لكل مواطن الحق فى ممارسة نشاطه الاقتصادى فى حدود القانون". كما أشار فى المادة الرابعة والعشرون إلى أن "الملكية الخاصة يكفلها القانون"، وأنها لا تنزع إلا للمنفعة العامة وبالكيفية المنصوص عليها فى القانون، وذلك مقابل تعويض عادل وعاجل، وفى المادة السابعة والعشرون إلى أن "الإضراب حق معترف به ويمارس فى الحدود المعنية بالقانون، ويحظر اتخاذ أى عمل من شأنه أن يؤدى إلى التفرقة أو تقييد حرية النقابات فى ممارسة حقوقهاً، وفى المادة التاسعة والعشرون إلى أن "حرية الاعتقاد مكفولة لكل شخص وله أن يعلن بحرية عن ديانته وأن يقيم شعائرها وأن يذيع تعاليمها، وذلك فى الحدود التى يضعها القانون لحماية الأخلاق أو الصحة العامة أو النظام".
كما أشار فى المادة الواحدة والثلاثون إلى أن الدولة تحمى الأسرة والأمومة والطفولة، وفى المادة الثالثة والثلاثون إلى أن الدولة تحمى الصحة العامة، وتعمل على تشجيع المساعدات الطبية المجانية للمعوزين، وفى المادة الخامسة والثلاثون إلى أن الدولة تكفل حرية التعليم، وأنه بالمجان فى مدارس الحكومة فى مراحله الأولى. كما أشار إلى حق العمل فى المادة السادسة والثلاثون مؤكداً على حظر السخرة والعمل الجبرى، وأن لجميع العمال دون تمييز أجر متساو عن العمل المتساوى القيمة، وبما يحقق حياة لائقة بالكرامة الإنسانية، وأن لجميع العمال حق فى راحة إسبوعية وأجازة سنوية بأجر ولا يجوز إلزامهم بالنزول عنها، وأن الدولة تضمن الحماية المادية والمعنوية للعمال. وأشار إلى رعاية الدولة للضمان الاجتماعى والمساعدات فى المادة السابعة والثلاثون، كما أنها تكفل الحق فى المعاش لموظفيها، وكذلك الحق فى المساعدة فى حالات الحوادث والمرض أو العجز عن العمل طبقا للقانون.(30)
بعد هذا الاستعراض للحقوق الاجتماعية والاقتصادية كما عبرت عنها النصوص الدستورية في البلدان العربية يمكن إيجاز الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى:-
أن الدساتير العربية فى عمومها قد اهتدت إلى حد بعيد بالمواثيق والإعلانات والعهود والإتفاقيات الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خاصة تلك الواردة فى العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1966، وإن تفاوت الأمر فيما بينها فيما يتعلق بالتفاصيل فى هذا الصدد. ويمكن القول بأن معظمها أسهب فى التفاصيل المتعلقة بهذه الحقوق مشيراً إلى كل منها بالتحديد الواضح والصريح، ولم يغفل أى منها أى من هذه الحقوق. ويعتبر الدستور اللبنانى هو أقلها إشارة إلى هذه الحقوق. ويرجع ذلك إلى أنه وضع فى ظل الانتداب الفرنسى ولايزال سارياً حتى اليوم مع بعض التعديلات، فى الوقت الذى وضعت فيه معظم الدساتير العربية فى أعقاب صدور العهد المذكور عاليه.
الملاحظة الثانية:-
أن معظم الدساتير العربية قد خصصت باباً مستقلاً للنص على حقوق وحريات المواطنين، وأن الكثير منها قد خصص لها فصولاً مستقلة فى إطار هذا الباب تحت عنوان المقومات الاجتماعية والمقومات الاقتصادية كما هو الحال بالنسبة للدستور المصرى. ويعد الدستور الليبى هو الوحيد من بين دساتير البلدان العربية الذى أفرد فى إطاره وثيقة خاصة بحقوق الإنسان، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أسماها الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان على غرار الوثيقة الخاصة بحقوق الإنسان الملحقة بالدستور الأمريكى.
الملاحظة الثالثة:-
إذا كانت الدساتير العربية فى عمومها لم تغفل أيا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل وأشارت إليها جميعاً على نحو واضح ومحدد، إلا أنها جميعها وبلا استثناء لم تتوان عن وضع القيود عليها، وذلك بذكرها فى نهاية المواد الدستورية المتضمنة لها بعبارة تفيد بأن القانون ينظم ذلك. فمثلاً تذكر هذه الدساتير أن حق الإضراب مكفول، غير أنها تتبع ذلك بأن يكون الإضراب وفقاً للقانون، ولم يتوان بعضها من الإشارة الصريحة إلى أن من حق القانون حظر الإضراب، الأمر الذى ليس له معنى سوى محاولة إفراغ هذا الحق من مضمونه بدرجة أو بأخرى. كما أن بعضها قد قيد بعض هذه الحقوق بقدرات وإمكانات البلاد مثل الدستور الأردنى الذى نص على حق العمل والتعليم ولكن فى حدود إمكانات البلاد. كما تكررت أيضاً فى الدساتير العربية عبارات مثل: على ألا يكون مخلاً بالنظام والآداب العامة"، و"ضمن حدود القانون"، و"وفقاً للشروط المعنية بالقوانين والأنظمة"... الخ. ويعتبر الدستور العراقى هو الوحيد الذى أكد عند النص على مثل هذه العبارات فى المواد المتعلقة بالحريات على ألا يمس ذلك التحديد جوهر الحق أو الحرية، وذلك فى مادة مستقلة هى المادة السادسة والأربعون منه.
هذا هو باختصار مجمل واقع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كما عبرت عنه الدساتير العربية. ولما كانت العبرة ليست بالنصوص الدستورية بقدر ما هي بالضمانات التي تضمن تحقيقها، فإن من المهم تبين حقيقة الضمانات التي كفلتها الدساتير العربية لحماية مثل هذه الحقوق. وهو ما ينقلنا إلى الجزء الثالث من هذه الدراسة.

(3)ضمانات حماية الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعيةفي الدساتير العربية

من البديهي أنه لا يكفي النص على حقوق وحريات الإنسان في الدساتير- يستوي في ذلك الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية أو غيرها من الحقوق والحريات، بل لابد من وضع ضمانات للحيلولة دون انتهاكها. فالعبرة فيما يتعلق بمدى احترام حقوق الإنسان لا تكمن في النظر إلى من الذي يحكم في مجتمع ما قدر ما تكمن في كيف يحكم هذا الذي يحكم، بما يعنيه ذلك من صعوبة احترام حقوق الانسان إلا في ظل الأنظمة الديموقراطية الحقة وليس الأنظمة الديمقراطية الشكلية أو الظاهرية.
وعادة ما تتمثل هذه الضمانات في مجموعة من النصوص والأحكام القانونية الدستورية، والآليات العملية التي تكفل احترام وتطبيق حقوق وحريات الإنسان.  والحقيقة كم هي عديدة الضمانات التي تكفلها المواثيق والإعلانات والعهود الدولية، وكذا الدساتير الوطنية بغية حماية حقوق الإنسان، ومن بينها بطبيعة الحال الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية موضع بحثنا هذا. ولعله مما يلفت النظر بصدد هذه الضمانات أنها ليست فقط متداخلة مع بعضها البعض، بل قد يتداخل بعضها مع مفهوم الحقوق والحريات ذاته من ناحية، ومع بعض الآليات المستخدمة لتوفير الحماية اللازمة لهذه الحقوق والحريات من ناحية أخرى.(31)
غير أن الأهم من ذلك أن تحديد هذه الضمانات والنص عليها في المواثيق والإعلانات والعهود والدساتير يعتبر أمرا مهما وضروريا، إذ بدون ذلك تصبح الحقوق والحريات المقررة للأفراد مجرد تعهدات أو نصوص نظرية، أي مجرد حبر على ورق لا قيمة لها من الناحية العملية.(32) ويمكن القول أنه بقدر ما تكون الحقوق والحريات – طبعا بما في ذلك الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية – أكثر وضوحا وتحديدا بقدر ما تكون درجة احترام الدول صاحبة الدساتير المتضمنة لها.(33) فالعبرة دائما بتوافر الضمانات اللازمة لحماية الحقوق والحريات، وبمدى التزام السلطات الحاكمة بهذه الضمانات وتقيدها بها أكثر منه بمدى شمول دساتير الدول للنصوص والأحكام المتعلقة بهذه الحقوق والحريات.
تتمثل أقوى الضمانات لحماية حقوق الإنسان بصفة عامة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة في خضوع الدولة نفسها للقانون، وإلا فلا مجال على الإطلاق للحديث عن أية حقوق للإنسان.(34) ويعزى ذلك في المقام الأول إلى وجود قضاء مستقل يلجأ إليه من انتهكت حقوقه، خاصة إ ذا كانت الانتهاكات صادرة عن سلطات الدولة من ناحية، كما يعزى إلى إعمال مبدأ الرقابة على دستورية القوانين من ناحية أخرى.
ويعد استقلال القضاء في واقع الأمر الآلية الأبرز على المستوى الوطني لحماية حقوق الإنسان بكافة صورها.(35) ولهذا لم يكن غريبا أن ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 على مبدأ استقلال القضاء في المادتين الثامنة والعاشرة منه بوصفه الضمانة القضائية الرئيسية لكفالة واحترام حقوق الإنسان.(36) كما أن مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، باعتبار أن دستور أية دولة يعد بمثابة القانون الأسمى الذي ينبغي أن تهتدي به – ولا تخالفه – أية قاعدة قانونية عادية يجعل من المحاكم الدستورية العليا التي تحتل قمة السلطة القضائية في كثير من البلدان بمثابة آلية أخرى مهمة تعزز كفالة حقوق الإنسان وتحميها.
كما أكد العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في عام 1966 على مجموعة من الضمانات الدولية المقررة لحماية وكفالة الحقوق والحريات التي تضمنها، إذ أشار في المادتين الثانية والثالثة منه حق كافة الأفراد في التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة فيه على قدم المساواة ودونما تفرقة لأي سبب من الأسباب. وأشار في المادة السادسة إلى حق كل فرد في الحصول على فرصة عمل مناسبة تأمينا لمعيشته وبإختياره مع كفالة الخطوات اللازمة لإعمال هذا الحق ووضع البرامج والسياسات الملائمة للارتقاء بكفاءة الفرد ومستواه التدريبي. كما أشار في المادة السابعة منه إلى حق كل فرد في المجتمع في شروط عمل صالحة وعادلة تضمن له ليس فقط المكافآت المناسبة، بل وتوفر له أيضا ظروف عمل مأمونة وصحية، فضلا عن فرص متساوية في الترقي إلى مستويات أعلى. كما أورد في المادة الثامنة الإشارة إلى حق الأفراد في إنشاء النقابات المهنية والانضمام إليها بحرية واختيار كاملين، وبما يعزز حقوق الأفراد ويحقق مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. كما نص في ذات المادة على حق الأفراد في الإضراب كوسيلة للضغط من أجل نيل حقوقهم والدفاع عن مصالحهم المشروعة والمعترف بها.(37)
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أهمية الإضراب كوسيلة للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، إلا أن العهد المذكور قد أعطى للدول حق التدخل لتنظيم طريقة مباشرة حق الإضراب، الأمر الذي قد يسمح لها بالتوسع في تفسير هذه الرخصة الممنوحة لها بمقتضى الوثيقة الدولية مما قد يفرغ حق الإضراب من مضمونه. غير أن المجتمع الدولي لم يعدم الوسائل التي تمكنه من ممارسة دور في الضغط على الدول الأعضاء من أجل حثها على احترام حقوق الإنسان داخل أقاليمها. ومن ثم لم يقف فيما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان وحرياته عند مجرد التأكيد على هذه الحقوق والحريات، ووضع المعايير الدولية بهذه الخصوص، وإنما أوجد لنفسه العديد من أشكال وصور الضغط التي تتجاوز مجرد استخدام أساليب الضغط المعنوي أو الأدبي في توجيه اللوم للدول المخالفة مثل الإدانة اللفظية في المحافل الدولية إلى سلطة رقابية وإشرافية دولية حقيقية للوقوف على مدى التزام الدول بالمعايير الدولية بهذا الخصوص.(38)
ولعله من بين الأمثلة البارزة في هذا الصدد ذلك الدور الإشرافي والرقابي الذي تمارسه منظمة العمل الدولية فيما يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد في الدول الأعضاء، والذي ينهض بالأساس على ركيزتين رئيسيتين:(39)
تتمثل الركيزة الأولي في إلزام الدول الأعضاء برفع تقارير دورية إلى المنظمة توضح فيها مدى ما وصلت إليه فيما يتعلق بتنفيذ اتفاقيات العمل الدولية التي صدقت عليها، وذلك إعمالا لنص المادة الثانية والعشرين من دستور المنظمة، والتي تنص على ما يلى: "يتعهد كل عضو بتقديم تقرير سنوى إلى مكتب العمل الدولي عن التدابير التي اتخذها من أجل انفاذ أحكام الاتفاقيات التي يكون طرفاً فيها". وتتضح أهمية مثل هذا الأسلوب في الإشراف والرقابة على سلوك الدول الأعضاء فيما يتعلق بتطبيق أحكام اتفاقيات العمل الدولية التي تعد طرفاً فيها خاصة إذا ما علمنا أن لمنظمة العمل الدولية أجهزتها المتخصصة التي تتولى مهمة فحص هذه التقارير على نحو مستقل عن الدول الأعضاء للوقوف على مدى ملائمة الأحكام والمعايير الوطنية في كل منها مع تلك الواردة في الاتفاقيات الدولية، على أن يقدم المكتب ملخصاً لها إلى مؤتمر العمل الدولي في دور انعقاده التالي. 
 أما الركيزة الثانية من ركائز منظمة العمل الدولية في الإشراف والرقابة على سلوك الدول الأعضاء بغية كفالة احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها فتتمثل في نظام البلاغات والشكاوى المعمول به في المنظمة، والذي يسمح بمقتضاه برفعها إليها من قبل الأفراد والجماعات ضد الدول التي يعتقد هؤلاء الأفراد أو الجماعات أنها لا تراعي حقوقهم، وذلك إعمالاً لنص المادة الرابعة والعشرين من دستور المنظمة. كما أوجبت المادة التالية على الدولة العضو المشكو في حقها أن تبادر بتوضيح موقفها إزاء البلاغ أو الشكوى المقدمة. أكثر من ذلك، أعطت المادة السادسة والعشرين الحق لأية دولة عضو أن تقدم بلاغاً أو شكوى إلى مكتب العمل الدولي ضد أية دولة عضو أخرى ترى أنها لا ترعى التزاماتها الدولية في هذا الخصوص، حتى وإن لم تكن الدولة مقدمة البلاغ أو الشكوى قد وقع عليها – أو على أحد مواطنيها – ضرر. فهذا وإن دل على شئ فإنما يدل على مدى حرص المجتمع الدولي على كفالة احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفرد.
بعد هذا الاستعراض لأبرز الضمانات التي تقدمها دساتير الدول الديمقراطية، وفي مقدمتها استقلال السلطة القضائية والرقابة على دستورية القوانين، وتلك التي تقدمها المواثيق والاتفاقيات والعهود الدولية، فإن التساؤل الذي يمكن أن يثار هنا يدور حول موقع هذه الضمانات في الدساتير العربية.
لقد عمدت كثير من الدساتير العربية في واقع الأمر إلى تقديم أفضل الضمانات الممكنة لحماية حقوق وحريات الإنسان، لاسيما التأكيد على استقلال القضاء، وفسح المجال أمام المواطن لممارسة حق التقاضي، فضلا عن التأكيد على دولة القانون ومبدأ سمو الدستور، وما يرتبط به من الرقابة على دستورية القوانين، وتقديم كافة الضمانات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن إلقاء نظرة فاحصة على الدساتير العربية تكشف مدى حرص الغالبية العظمى من الدول العربية على تضمينها مبدأي استقلال القضاء والرقابة على دستورية القوانين، وما يرتبط بذلك من كيفية تشكيل المحكمة الدستورية العليا واختيار قضاتها وعدم إمكان عزلهم. فعلى سبيل المثال نص دستور مصر الدائم الصادر في عام 1971 على ذلك في المواد من 165 إلى 178،(40) وكذلك الدستور السوري في المواد من 131 إلى 148،(41) والدستور الأردني في المواد من 97 إلى 101،(42) والدستور الجزائري في المواد من 60 إلى 62،(43) والدستور التونسي في المواد من 64 إلى 68،(44) والدستور اليمني في المواد من 147 إلى 152،(45) والدستور الكويتي في المواد من 162 إلى 168،(46) والدستور العراقي في المواد من 87 إلى 101.(47) ولعله تجدر الإشارة إلى ما جاء به الدستور العراقي الأخير الصادر في عام 2005، من منع النص في القوانين – وفقا للمادة رقم 76 منه – على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن.(48)
يتضح مما سبق أن معظم الدول العربية قد ضمنت دساتيرها ليس فقط نصوصاً وأحكاماً واضحة وصريحة تتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية، بل وأيضاً أخرى مماثلة تتعلق بضمانات كفالة هذه الحقوق والحريات. والحقيقة أنه بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف واقع الممارسة الفعلية لهذه الحقوق والحريات، ومدى التقيد الفعلي بالضمانات المنصوص عليها بهذا الخصوص، فإنه يمكن القول بأن مجرد حرص الدول العربية على تضمين دساتيرها مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذا الضمانات القانونية التي تكفل احترامها على نحو واضح وصريح إن دل على شئ فإنما يدل على تعهدها والتزامها الصريحين بتطبيق الأحكام الواردة في المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية واعتبارها قواعد قانونية عالمية تغلب عليها الطبيعة الآمرة.(49)
         غير أنه تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن هناك ثمة تعهد والتزام صريحين من جانب معظم الدول العربية بكفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية – شأنها شأن غيرها من حقوق الإنسان، إلا أنه لا يزال هناك ثمة تردد وعزوف من جانب بعض الدول العربية عن التوقيع والتصديق على المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، بما في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ويعزى ذلك إلى عدة أسباب منها:(50)
1) النظر إلى حقوق الإنسان في مجملها باعتبارها جزءاً من صميم الاختصاص الداخلي للدول، ومن ثم فليس ثمة مبرر لإخضاعها للتشريعات والأحكام الدولية أو الإشراف والرقابة الدولية.
2) التخوف من الخضوع للإشراف الدولي فيما يتعلق بالأحكام والنصوص الواردة بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثلما هو الحال بالنسبة للمادة السادسة عشرة منه – الفقرة الأولى – والتي تنص على أن "تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تضع، تمشياً مع هذا القسم من الاتفاقية، تقارير عن الإجراءات التي تبنتها والتقدم الذي أحرزته في تحقيق مراعاة الحقوق المقررة في هذه الاتفاقية". ولعل هذا يفسر لماذا لم توقع سوى ثلاث عشرة دولة عربية فقط على العهدين الدوليين للحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية حتى نهاية القرن العشرين رغم صدورهما عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966.(51)
خاتمة:-
         أوضحت الدراسة كيف أن الغالبية العظمى من الدساتير المعاصرة في الدول العربية قد أكدت على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، ونصت عليها على نحو واضح وصريح يتفق إلى حد بعيد مع ما جاء في المواثيق والإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية، وكذا دساتير البلدان المتقدمة بهذا الخصوص. كما بينت كيف أن معظمها لم يقصر في النص صراحة على الضمانات التي تكفل احترام هذه الحقوق.
بيد أنه رغم كل ذلك، فإن الاحترام الفعلي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية لا يزال موضع جدل وخلاف كبيرين باعتبار أن العبرة ليست بالنصوص الدستورية المتعلقة بهذه الحقوق أو ضماناتها، بل في النية الصادقة والرغبة الأكيدة والحرص الصادق والجهود المخلصة من قبل السلطات القائمة في البلدان العربية على بذل أقصى الجهد لضمان تحقق هذه الحقوق للأفراد على أرض الواقع. فمثل هذه الحقوق تستند أولاً وأخيراً وجوداً وعدماً على مدى التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع. بل يمكن القول بأن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، نظرا لعلاقة التأثير والتأثر بين مختلف الحقوق وبعضها البعض. فإن كان ليس كل تركيب يقود بالضرورة إلى التعقيد، إلا أن علاقة التداخل والتشابك والتركيب بين الحقوق والحريات السياسية والمدنية وبين الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية هي علاقة معقدة يصعب معه القول بأولوية أي منهما على الأخرى. فضلاً عن تداخلهما مع الحقوق والحريات الجماعية كحق تقرير المصير، وعدم شرعية إخضاع أي شعب للسيطرة الأجنبية، وحق كل شعب في اختيار نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي اختيار حكومته، وحقه في السيطرة على موارده وثرواته الطبيعية. وكذا الحق في السلام، والحق في التنمية، والحق في العيش في بيئة صحية متوازنة. فإذا كان من الصعب تصور حقوق الإنسان إلا في مواجهة الدولة، فكيف يمكن تصور إمكان تحقيق هذه الحقوق وكثير من المجتمعات العربية تفتقر إلى الحقوق الجماعية، بل إن بعضها يفتقر حتى إلى وجود الدولة ذاتها كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين وإلى حد ما الصوماليين. وتزداد الصورة تعقيداً إذا ما ربطنا بين الحقوق والواجبات، الأمر الذي يخلق أعباءاً جديدة لا على الدول وحدها، بل وعلى مواطنيها حتى يتسنى تحقيق هذه الحقوق على أرض الواقع.
         غير أنه علينا أن نكون دائما متفائلين، ولا ننسى الدور البارز الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية في هذا الصدد مثل المنظمة العربية لحقوق الانسان، واتحاد المحامين العرب، واللجان الوطنية لحقوق الإنسان مثل اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في مصر واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر، والاهتمام الواسع النطاق الذي تبديه بقضايا حقوق الإنسان بصفة عامة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة في المجتمعات العربية، والذي لاشك سوف يؤتي ثماره مع الوقت. بيد أن مثل هذه المنظمات مطالبة ببذل المزيد من الجهد، وعلينا جميعا أن نقدم لها مزيدا من الدعم والتشجيع. ولا ننسى أن ما تحقق من احترام للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولحقوق الإنسان بصفة عامة في المجتمعات المتقدمة لم يتحقق بين عشية وضحاها، بل جاء بعد جهد ومعاناة كبيرين. 
تعليقات