القائمة الرئيسية

الصفحات



التحكيم في بلاد الغرب إشكالية الطرح والمعالجة

التحكيم في بلاد الغرب إشكالية الطرح والمعالجة

التحكيم في بلاد الغرب
إشكالية الطرح والمعالجة




التحكيم في بلاد الغرب..إشكالية الطرح والمعالجة
المستشار فيصل مولوي



مقدمة:
أفرزت معيشة المسلمين في الغرب كثيرًا من الإشكاليات التي تحتاج إلى نوع من الطرح والمعالجة، ومن بين هذه الإشكاليات التحاكم إلى القضاء الغربي الذي لا يعتمد الشريعة مصدرًا من مصادر التقنين، وكان من اللازم على الفقهاء محاولة إيجاد حلول للمسلمين في قضية القضاء والتحكيم.
ومن بين الأطروحات المعالجة لهذه الإشكالية قضية التحكيم بدلا من الالتجاء إلى القضاء.
فما ماهية هذا التحكيم؟
وكيف يتم ذلك؟
وهل هو ملزم للمتحاكمين؟
وهل يمكن نقضه؟
وما العلاقة بينه وبين القضاء الغربي؟
هذه الإشكاليات طرحها فضيلة المستشار فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في بحثه المقدم للمجلس، وذلك من خلال المحاور الآتية:
§                 التطور التاريخي للتحكيم وأسباب نجاحه

§                 التحكيم في الشريعة الإسلامية

§                 تطور التحكيم في ظل الشريعة الإسلامية

§                 وجوب التحكيم على المستطيع في بلاد الغرب

§                 أصول التحكيم 

§                 المحاكمة أمام الهيئة التحكيمية

§      ختام المحاكمة التحكيمية وإصدار الحكم 


التطور التاريخي للتحكيم وأسباب نجاحه



أولاً: التحكيم في المجتمع البدائي
في المجتمع البدائي الأول كان نظام العلاقات الاجتماعية يعطي الفرد أو القبيلة تحصيل حقه بنفسه في وجه أعدائه، ثم ظهر التحكيم الذي يتنازل بموجبه المتنازعون عن تحصيل حقوقهم بأيديهم، ويعهدون إلى شخص ثالث بإيجاد حل للخلاف، هذا الشخص إما أن يختاره الطرفان، أو يكون من أصحاب النفوذ في المجتمع. إذن ظهر التحكيم في هذه المرحلة؛ لأنه لم تكن هناك سلطة عامة تقيم العدل، ولتجنب ممارسة العدالة الفردية، ولحل المنازعات بالطرق السلمية، وحتى عندما ظهرت السلطة العامة لم يكن من مهماتها في مراحلها الأولى عبء تحقيق العدالة في المجتمع، فبقي التحكيم هو الوسيلة الوحيدة إلى ذلك.
ثانيًا: التحكيم والسلطة:
في المرحلة الثانية وبعد تطور المجتمعات البدائية، أصبحت السلطات العامة مسئولة عن تحقيق العدالة في المجتمع، ومع ذلك فقد بقي التحكيم قائمًا، وسلّمت به السلطة، وحرص المجتمع على إبقائه، لكنه أصبح عدالة ثانية إلى جانب العدالة الرسمية ويعمل تحت رقابتها وإشرافها واستمر الأمر على هذا المنوال حتى القرن العشرين، وكانت وظيفة التحكيم التوفيق بين المتنازعين، فهو مصالحة وليس حسمًا للمنازعات كما في القضاء الرسمي. ويلجأ إليه الطرفان عادة بعد نشوء النزاع بينهما، وكان المحكمون يختارون غالبًا من الأقارب أو الأصدقاء أو الوجهاء الحكماء الذين يعرفون كيف تتم التسوية صلحًا. وكان الحَكَم مصلحًا أكثر منه قاضيًا، يستوي في هذا الأمر البلاد الإسلامية التي كانت تطبق مجلة الأحكام العدلية، أو البلاد الأوروبية التي تطبق القوانين ذات الأصول الرومانية أو القوانين الإنكليزية.
ثالثًا: نوع جديد من التحكيم:
في القرن العشرين، وخاصة في النصف الثاني منه، ظهر نوع جديد من التحكيم، وصار له أثر كبير في الأعمال التجارية الداخلية والدولية، وهو يتمتع بصفتين أساسيتين تميزه عن التحكيم السابق: الأولى: أنه تحكيم يتفق عليه الطرفان سلفًا قبل نشوء أي نزاع بينهما عن طريق شرط تحكيمي ضمن شروط العقد. بينما كان التحكيم سابقًا يتم بعد قيام النزاع بين الطرفين. والثانية: ظهور تنظيمات مهنية أو هيئات دائمة للتحكيم تقدم خدماتها لرجال الأعمال، وترعى هذا النوع الجديد من التحكيم.
وصل التحكيم في تطوره إلى هذه المرحلة بسبب ازدهار التجارة الدولية، حيث أصبح التحكيم وسيلة وحيدة مقبولة لتسوية الخلافات الناشئة عنها؛ لأن المتعاملين في التجارة الدولية هم من جنسيات مختلفة، ولا يقبل أحدهم بالخضوع للاختصاص القضائي والتشريعي للآخر، فهو يجهل قانون الدولة الثانية، وقد يكون غير مطمئن إلى القضاء فيها، فليس أمام الطرفين إلا التحكيم وسيلة لفض المنازعات بينهما دون خضوع أحدهما لقانون الآخر.
رابعًا: التحكيم وقوة القانون:
بينما كان التحكيم في الماضي يقوم على المصالحة، وحين يضطر المحكَّم إلى إصدار قراره بغير المصالحة، كان تنفيذ هذا القرار يعتمد على النفوذ المعنوي للمحكَّم.. أصبحت المحاكم النظامية اليوم تنفذ القرارات التحكيمية إذا لم يكن هناك مانع قانوني من تنفيذها. ولذلك فقد انتشر التحكيم كثيرًا خاصة في المعاملات التجارية المحلية والدولية؛ لأنه يضمن للطرفين حل النزاع بسرعة أكثر وبتكاليف أقل ووفقًا لإجراءات أكثر بساطة ومن قبل شخص أو أكثر معروفين وموثوقين للطرفين، وفي أجواء أبعد عن الخصومة وأقرب للصلح، والقرار التحكيمي يتمتع بالقوة التنفيذية للأحكام القضائية مباشرة أو بعد تصديق المحكمة له.
ويعود نجاحه لأسباب أخرى أولها: السرعة؛ فالهيئة التحكيمية ليس أمامها سوى هذا الملف، بينما تتراكم الملفات أمام محاكم الدولة. وثانيها: التكتم؛ فالتحكيم لا يحضره سوى أطراف النزاع ومحاميهم. وهناك دائمًا عند الطرفين معلومات لا يريدان أن تعرف عنهما. وعلنية المحاكمات الرسمية مضرة بالطرفين، وإن كانت أكثر ضررًا بأحدهما من الآخر. وثالثها: أهلية القضاة للفصل في نزاع تم اختيارهم من الأطراف للفصل فيه.
خامسًا: الهيئات الدائمة للتحكيم:
ومما ساعد على نجاح التحكيم ظهور الهيئات الدائمة للتحكيم في أواخر القرن التاسع عشر واستقرارها في القرن العشرين. هذه الهيئات تطبق أنظمة تحكيمية تكون بمثابة إجراءات المحاكمة خلال سير التحكيم، وقد ازدادت كثيرًا بحكم تطور التجارة والصناعة في العالم. وهكذا لم يعد التحكيم مغامرة في المجهول، معرضة لتقلبات مزاج أو مصالح الأطراف، بل أصبح طريقًا أكيدًا ومضمونًا، خاصة أن هذه الهيئات التحكيمية تلتزم أصول العمل القضائي، فلا تكون قراراتها معرضة للنقض من قبل المحاكم الرسمية



التحكيم في الشريعة الإسلامية

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 


لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون سلطة قضائية، وإذا حصل نزاع بين الأفراد أو بين القبائل لجئوا إلى التحكيم. وقد كان هذا التحكيم اختياريًا، كما أن تنفيذ القرار التحكيمي لم يكن إلزاميًا، بل كان يعتمد بشكل أساسي على سلطة المحكَّم. وكانت الإجراءات التحكيمية بسيطة وبدائية، أساسها أن عبء الإثبات يقع على المدّعي. ثم أطلق أحد المحكمين وهو قس بن ساعدة الأيادي القاعدة المشهورة "الإثبات على المدّعي واليمين على من أنكر"، وقد أصبح هذا القول قاعدة شرعية بناءً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدّعي واليمين على من أنكر"، وقد ذكرتها "المجلة" بين القواعد الفقهية تحت رقـم "76"، واتفقت عليها جميع المذاهب الإسلامية والقوانين الوضعية.
أولاً: التحكيم في القرآن الكريم:
هناك آيتان في القرآن الكريم تنصان على مبدأ التحكيم:
الأولى: خاصة بالنزاعات العائلية بين الزوجين وهي تقول: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} 
وقد اختلفت المذاهب الإسلامية في هذا التحكيم  على رأيين:
- الأول: يعتبر أن مهمة المحكَّمَيْن هي المصالحة فقط، وأنّهما إن عجزا عن ذلك يرفعان الأمر إلى القاضي الذي يملك وحده أن يصدر قرارًا إلزاميًا لكن بغير التفريق. وهذا رأي المذهب الحنفي والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
- الثاني: يعتبر أن مهمة المحكَّمَيْن هي السعي للمصالحة أولاً، فإن عجزا عن ذلك أصدرا قرارًا إلزاميًا ولو بالتفريق بين الزوجين، ويجب على القاضي أن يأخذ بهذا القرار. فالمحكَّمان ليسا وكيلين عن الزوجين، إنما هما حكمان أي لهما حقّ الحكم. وهذا هو رأي المالكية والشافعي في القول الثاني له، وأحمد في الرواية الثانية عنه.
الثانية: عامة لجميع المنازعات وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . ومعنى ذلك أن المحكَّم يمكن أن يفصل النزاع ويصدر قرارًا إلزاميًا للفرقاء إذا لم يستطع الإصلاح بينهم. ومتى أصدر المحكَّم قراره أصبح هذا القرار ملزمًا للخصمين المتنازعين، وتعيّن إنفاذه دون أن يتوقّف على رضا الخصمين، اتفق على ذلك جمهور الفقهاء، واعتبروا حكم المحكَّم كحكم القاضي .
ثانيًا: التحكيم في السنة المطهرة:
- رضي رسول الله r بتحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في أمر يهود بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك، ورضوا بالنزول على حكمه (أخرجه البخاري وهو موجود في كتب السيرة). - ولما وفد أبو شريح هانئ بن يزيد رضي الله عنه إلى رسول الله r مع قومه. سمعهم يكننونه بأبي الحكم، فقال رسول الله r: "إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم، فلم تكنّى أبا الحكم؟" فقال: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الطرفين". فقال رسول الله r: "ما أحسن هذا؟ فما لك من الولد؟" قال: "لي شريح ومسلم وعبد الله" فقال: "فمن أكبرهم؟" قلت: "شريح"، قال: "أنت أبو شريح"، ودعا له ولولده. (أخرجه أبو داود والنّسائي وإسناده حسن).
ثالثًا: التحكيم في المذاهب السنية الأربعة.
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التحكيم. هذا هو ظاهر مذهب الحنفية والأصح عندهم، وهو الأظهر عند جمهور الشافعية، وهو مذهب الحنابلة. أما المالكية فظاهر كلامهم: نفاذه بعد الوقوع. قال أصبغ: لا أحب ذلك، فإن وقع مضى. أما خلاصة نظرة المذاهب إلى التحكيم فنوجزها فيما يلي:
- المذهب الحنفي يعتبر التحكيم بمثابة توكيل من الطرفين لإجراء المصالحة. وقد اعتبرت (المجلة العثمانية) أن التحكيم هو مصالحة، ولذلك يمكن في أي وقت طلب رد المحكَّم أو عزله طالما لم يصدر حكمه (مادة 1847)، وأن حكم المحكَّم يحصل بعد رضا الخصمين خلافًا لحكم القاضي، وأنه إذا تعدد المحكَّمون يجب أن يصدر الحكم عنهم بالإجماع  (مادة 1844).
- المذهب الشافعي يقترب من المذهب الحنفي في اعتبار التحكيم توكيلاً من الطرفين لإجراء المصالحة، ولذلك يمكن عنده أيضًا الرجوع عن التحكيم قبل صدور الحكم، وإذا تعدد المحكّمون لا بد من اتفاقهم على الحكم  والقرار التحكيمي ليس قابلاً للتنفيذ إلا إذا اتفق الفريقان على تنفيذه .
- المذهب المالكي يميل إلى إعطاء الهيئة التحكيمية بعد تعيينها برضا الطرفين صلاحية الاستمرار في عملها حتى إصدار الحكم النهائي، ولذلك لا يُشترط عندهم دوام رضا الخصمين حتى صدور الحكم، ولو رجع أحدهما عن التحكيم فليس له ذلك ولو قبل الخصومة عند ابن الماجشون، ولا يجوز له ذلك بعد ابتداء الخصومة عند أصبغ ويجوز قبلها .
- المذهب الحنبلي يقترب من المذهب المالكي في إعطاء الهيئة التحكيمية صلاحية الاستمرار في عملها حتى إصدار حكمها النهائي الملزم، ولذلك يصح الرجوع عن التحكيم قبل الشروع في الحكم، أما بعد ذلك فليس لأي من الخصمين الرجوع عن التحكيم لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من المحكَّم ما لا يوافقه رجع فبطل مقصودة .
نستنتج من هذا العرض الملخص للمذاهب السنية الأربعة أن المذهبين الحنفي والشافعي يميلان إلى "التحكيم بالمصالحة" بينما يميل المذهبان المالكي والحنبلي إلى "التحكيم المؤدي إلى قرار إلزامي"



تطور التحكيم في ظل الشريعة الإسلامية

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 


1- الشريعة الإسلامية أجازت اللجوء إلى التحكيم، ليس فقط في المنازعات المالية، وإنما أيضًا في الخلافات العائلية، وحتى في النزاع على السلطة، كما حصل بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. لكن الجدال الفقهي بين المذاهب الإسلامية كان يدور أساسًا حول معنى التحكيم: هل هو مصالحة أم قضاء لحسم المنازعات؟ وقد ذكرنا سابقًا أن المذهبين الحنفي والشافعي يميلان إلى اعتبار التحكيم مصالحة، بينما يميل المذهبان المالكي والحنبلي إلى اعتباره قضاء لحسم النزاع، مع الإشارة إلى أنه قد يوجد من العلماء في كل مذهب من يخالف رأي مذهبه.
2- وجاءت مجلة الأحكام العدلية، وهي القانون المدني الإسلامي والتي صدرت عام 1876م، معتمدة على المذهب الحنفي السائد في أكثر أحكامها، وقد تناولت موضوع التحكيم في المواد (1741 حتى 1851)، ويستنتج منها:
أ- أن التحكيم أقرب للمصالحة منه للحكم القضائي.
ب- وأن قوة القرار التحكيمي أقل من قوة القرار القضائي.
ج- وأنه يجوز للقاضي أن يلغي القرار التحكيمي إذا كان مخالفًا للأصول.
د- وأنه إذا تعدد المحكّمون يلزم إجماعهم على القرار التحكيمي.
هـ- كما يجوز لكل من الطرفين عزل المحكَّم قبل الحكم.
3- إلا أن التطور التشريعي الذي حصل في البلاد الإسلامية، منذ سقوط الدولة العثمانية سنة 1918 وحتى الآن، تميز باعتماد القوانين العصرية مع الحرص على عدم مخالفة الأحكام الشرعية الأساسية، حتى أن كثيرًا من الدول الإسلامية تنص في دساتيرها على أن (الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع) وفي مجال التحكيم بالذات أخذت القوانين المعاصرة في جميع الدول العربية بالتطور التشريعي في العالم المعاصر، والذي يميل إلى اعتبار (التحكيم قضاء يحسم النزاع وليس فقط مصالحة). وبما أن هذا الاجتهاد لا يخالف الشريعة بل يقول به مذهبان معتبران: المالكي والحنبلي، وهو ثمرة تطور طبيعي في جميع بلاد العالم، فليس هناك أي حرج شرعي في اعتماده، بل يكاد يكون من باب الواجب.
وقد راجعت أكثر قوانين البلاد العربية المعاصرة فوجدتها تُجمِع على اعتبار التحكيم قضاء يحسم النزاع وليس فقط مصالحة .
أ- فبينما يرى المذهب الحنفي، ومعه مجلة الأحكام العدلية، أنه يجوز لكل من الطرفين عزل المحكَّم قبل إصدار الحكم، نرى أكثر القوانين العربية المعاصرة تنص على عدم جواز عزل المحكَّم إلا باتفاق الخصوم (الجزائري 445) (التونسي 264) (السعودي 11) (السوري 515) (العراقي 260) (اللبناني 770) (الليبي 747) (المصري 503) (المغربي 310) وغيرها...
ب- وبينما تقرر المجلة في المادة (1844) وجوب الإجماع إذا تعدد المحكَّمون، وهذا مبني على أن كل محكَّم هو وكيل عن أحد الخصوم للسعي للمصالحة، وليس هناك محكَّم مرجح؛ نرى أكثر القوانين تنص على أنه إذا تعدد المحكَّمون فيجب أن يكون عددهم وترًا، وأن القرار التحكيمي يصدر بأغلبية الآراء، وأن الإجماع ليس لازمًا (السعودي 275) (السوري 527) (التونسي 275) (العراقي 270) (دولة عُمان 63) (قطر 206) (اللبناني 788) (الليبي 760) (المصري 507).



وجوب التحكيم على المستطيع في بلاد الغرب

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 

عندما تكلم الفقهاء عن جواز التحكيم، كانوا يتكلمون عن المسلمين في مجتمع إسلامي، إذا وقع بينهم خلاف فهناك قضاء إسلامي رسمي يحكم بينهم، فإذا تراضيا على حَكَم معين من غير القضاة الرسميين فذلك جائز، لكن حُكم هذا الحَكَم بعد صدوره لا ينفذ إلا إذا رضي به الطرفان أو أجازه القاضي.
أما المسلمون اليوم في بلاد الغرب، سواء كانوا متجنّسين أو مقيمين، فحين يقع بينهم خلاف فهو يحال إلى قضاء الدولة التي يعيشون فيها. وهو قضاء غير إسلامي. لقد أجاز الفقهاء المعاصرون اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي للوصول إلى الحق أو حسم الخلاف إذا كان الطريق الوحيد إلى ذلك ولا طريق غيره. والمسلم حين يلجأ إلى القضاء غير الإسلامي مضطرًا فلا إثم عليه. أما إذا كان أمامه مجال الاختيار بين القضاء الإسلامي والقضاء غير الإسلامي فيجب عليه أن يختار الأول، ولا يجوز له أن يلجأ إلى الثاني.
- قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60).
- وقال تعالى: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} (النور: 48).
- وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51).
- وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء: 65).
وقد بلغت الشعوب الغربية في مراعاة حقوق الإنسان شأنًا كبيرًا، خاصة إذا كان من أبنائها أو المقيمين عندها فأباحت للناس أن يتفقوا على التحكيم بصورة واسعة جدًّا. بحيث إن المسلمين منهم يستطيعون الاتفاق على تطبيق الأحكام الشرعية بينهم، أو على تطبيق قانون إحدى الدول الإسلامية بعينها، أو أحد المذاهب الإسلامية، أو مجلة الأحكام العدلية، وهم يختارون المحكّمين بكامل حريتهم، فيمكنهم اختيار أحد العلماء ليحكم بينهم. هذه الأحكام بعد صدورها عن المحكّمين تعرض على القضاء الرسمي الذي يجيزها إذا لم تكن تخالف النظام العام في البلاد أو القواعد الأساسية للقضاء، وإذا نفذ الحكم إرادة الفريقين بالرجوع إلى قانون معين، وليس من شأن هذا القضاء أن يعيد بحث الموضوع وفق قانونه الرسمي.
هكذا أصبح المسلم في البلاد الغربية مخيرًا بين الاتفاق على التحكيم وفق الأحكام الشرعية، وبين الخضوع للقوانين الغربية. وفي هذه الحالة يكون اللجوء إلى التحكيم واجبًا وليس فقط جائزًا، وإلا وقع المسلم تحت حكم الآيات المذكورة آنفًا، والتي تعتبر اختيار الحكم غير الإسلامي من صفات المنافقين أو الكافرين، أو على الأقل من كبائر المعاصي



أصول التحكيم

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 

أولاً: إنشاء التحكيم يتم عادة بأحد طريقين:
الأول: توقيع اتفاق تحكيمي بين الطرفين بعد وقوع النزاع بينهما.
الثاني: وضع بند مسبق عند توقيع العقد بين الطرفين، أن كل خلاف ينشأ عن هذا العقد يجري حله عن طريق التحكيم.
إرشادات مهمة
1- عند توقيع أي عقد بين طرفين مسلمين في بلاد الغرب، يجب عليهما أن يضعا بندًا خاصًا في نهاية العقد ينص على "أن أي خلاف بين الطرفين حول تنفيذ هذا العقد يتم حله عن طريق التحكيم الشرعي وفق مذهب معين -يجب تحديده- أو وفق قانون الدولة الفلانية -يجب تحديدها- أو وفق اجتهاد المحكّمين المقيد بالقرآن الكريم والسنة المطهرة".
2- إذا لم ينص العقد الموقع بين الطرفين على مثل هذا البند التحكيمي، ووقع الخلاف فإن الواجب الشرعي على الطرفين أن يلجآ إلى التحكيم وفق الشريعة الإسلامية بدل أن يلجآ إلى القضاء الرسمي. وفي هذه الحالة يجب عليهما توقيع اتفاق تحكيمي فيما بينهما. هذا الاتفاق يتضمن عادةً: ذكر العقد السابق بين الطرفين، وتحديد نقاط الخلاف التي يريدان الفصل فيها، وتعيين حكم أو أكثر، وتحديد القانون الذي يلتزمان به (الشريعة ككل، أو أحد المذاهب، أو أحد القوانين الإسلامية المعاصرة) وتعيين المدة المعطاة للمحكِّم من أجل فصل القضية، وتحديد الأتعاب.
ثانيًا: محل التحكيم:
اتفق جمهور الفقهاء أن التحكيم لا يصح في الحدود والقصاص واللعان، وأنه يختص بالأموال أي بالمعاملات المالية. وخالف الحنابلة في رواية عندهم فقالوا: إنه يجوز في كل ما يمكن أن يُعْرَض على القاضي من خصومات". قال أبو يعلى: يستوي في ذلك المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها. لكن هذا الخلاف ليس له أي أثر في التحكيم المعاصر؛ لأن القوانين الحديثة في العالم الإسلامي، وفي كل بلاد العالم حصرت جواز التحكيم بالأموال أو بالعقود. وبالتالي فإن التحكيم الشرعي المطروح على المسلمين في بلاد الغرب هو الذي تسمح به القوانين في تلك البلاد وهو ما يتعلق بالمبادلات التجارية بجميع أنواعها. وهذا باب واسع جدًّا يمكن أن يتخلص به المسلمون من الوقوع في الحرام في معاملاتهم المالية.
 
ثالثاً: اختيار المُحَكِّمين:
1- يختار الطرفان المتنازعان حَكَمًا واحدًا أو أكثر للفصل في نزاعهما. ويسمّى الحَكَم أيضاً المُحَكِّم.
2- كان الفقهاء يبيحون أن يكون عدد المحكِّمين شفعًا أو وترًا، وذلك انطلاقًا من كونهم يعتبرون أن قرار المُحَكِّمين لا يكون صحيحًا إلا بإجماعهم.
أما القوانين الحديثة فيشترط أكثرها أن يكون عدد المُحَكِّمين حين يزيد عن الواحد وترًا، حتى يمكن صدور القرار بالأغلبيّة (84 الإمارات)- (234 البحرين) – (263 تونس)-(449 الجزائر) - (4 السعودية) - (141 السودان) - (257 العراق) وقد استثنت من هذا الحكم حالة الحكمين بين الزوجين - (63 عمان) - (202 قطر) – (174 الكويت) - (771 لبنان) - (744 ليبيا) واستثنت أيضًا حالة التحكيم بين الزوجين- 502 مصر.
وبما أن أكثر القوانين الغربية أيضًا تنص على أن عدد المُحَكِّمين إذا زاد عن الواحد يجب أن يكون وتراً، فإننا نرى أن أي اتفاق تحكيمي بين طرفين مسلمَين في بلاد الغرب يجب أن يلتزم بهذا الأمر ويختار عددًا وترًا خشية أن يتعرض قرار المُحَكِّمين إلى عدم إعطائه الصيغة التنفيذية في المحكمة الرسمية، أو إلى إبطاله عند الطعن فيه.
3- يشترط في المُحَكِّم:
أ- أن يكون معلومًا بشخصه، فلو حكَّم الخصمان أول من يدخل المسجد مثلاً لم يجز لما فيه من الجهالة، ويمكن أن يفوِّض الطرفان إلى شخص معنوي (مؤسسة تحكيمية – مركز تحكيمي...) أن يختار لهما مُحَكِّمًا واحدًا أو هيئة تحكيمية.
ب - ويُشتَرَط في المُحَكِّم أن يكون أهلاً لولاية القضاء، لكن عند بعض الشافعية: أن هذا الشرط يمكن الاستغناء عنه عندما لا يوجد الأهل لذلك، وعند بعض الحنابلة: أن التحكيم لا تشترط فيه كل صفات القاضي. لذلك يكون من الواجب اختيار المُحَكِّمين من بين العلماء الموجودين على الساحة الأوروبية.
ج- ويُشتَرَط ألا يكون بين المُحَكِّم وأحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة كأن يكون أحد فروعه أو أصوله أو زوجه.
رابعًا: عزل المُحَكِّمين أو الرجوع عن التحكيم.
من المعروف أن الرأي الراجح في المذهبين الحنفي والشافعي أنه "يجوز عزل المُحَكِّم طالما لم يصدر الحكم، وأنه لا حاجة لاتفاق الخصمين على ذلك بل يكفي أن يعزله أحدهما"، وقد نصّت المادة 1847 من المجلة على أنه "لكل من الطرفين عزل المُحَكِّم قبل الحُكْم".
أما الرأي الراجح في المذهبين المالكي والحنبلي فهو أنه "لا يجوز عزل المُحَكِّم من قِبَل أحد الخصمين منذ بدء الخصومة أو الشروع في الحكم عند أصبغ، ولا يجوز بعد إقامة البينة عند سائر المالكية، ولا يجوز بعد الشروع في المحاكمة عند الحنابلة". علمًا بأنّ ابن الماجشون من المالكية لم يجز عزل المُحَكِّم من قِبَل أحد الخصوم ولو قبل بدء الخصومة.
أما القانون السائد في أكثر البلاد العربية اليوم ينص على أنه "لا يجوز عزل المُحَكِّمين إلا باتفاق الخصوم" (الجزائري 445) (المغربي 310) (السّعودي 11) (السوري 515) (العراقي 260) (الكويتي 178) (اللبناني 770) (المصري 503)، وتزيد بعض القوانين الأخرى فتنص على أن "عزل المُحَكِّم لا يجوز إلا باتفاق الخصوم أو بموافقة المحكمة" (الأردني 4) (التونسي 264) (الليبي 749). ولم يعترض على مشروعية هذه القوانين فيما نعلم أحد من الفقهاء المعاصرين.
بناءً على ذلك نقول: "لا يجوز عزل هيئة التحكيم ولا أحد أفرادها بعد الشروع في المحاكمة إلا باتفاق الخصوم"؛ فهو رأي معتبر في اجتهادات المذاهب الإسلامية، ويكاد يكون الرأي المجمع عليه في الاجتهادات المعاصرة. وهو الذي يجعل التحكيم وسيلة جدية لحسم النزاع، وإلا فإن الرجوع عن التحكيم بعد الشروع في المحاكمة "يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع، فبطل مقصوده".



المحاكمة أمام الهيئة التحكيمية

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 

1- يجب أن تحرص الهيئة التحكيمية على أن تبقى المحاكمة أمامها وجاهية في جميع الظروف؛ لأن أي مخالفة لمبدأ الوجاهية تجعل القرار التحكيمي قابلاً للإبطال.
  ومعنى وجاهية المحاكمة: إجراؤها في مواجهة الخصوم وتمكينهم من حق الدفاع، وهذا يقتضي:
- إبلاغ كل أوراق الدعوى المبرزة من أحد الخصوم إلى الخصم الآخر، وإعطاؤه مهلة كافية للجواب عليها.
- على الهيئة التحكيمية أن تعتمد على الخصوم في تقديم أدلة الإثبات، ولا يجوز اعتماد أي دليل حصلت عليه الهيئة التحكيمية من أحد الخصوم، أو استنتجته هي من وقائع القضية دون عرضه على الخصوم وسماع رأيهم فيه.
2- يجب أن تحرص الهيئة التحكيمية على أن تبقى المحاكمة أمامها كتابية. ومعنى ذلك أن يقدم كل طرف ما عنده من وقائع وأدلة بصورة لوائح خطية. وأن تدون وقائع الجلسات بالتفصيل من قبل كاتب تعينه الهيئة التحكيمية وبموافقة رئيس الجلسة، ثم يوقع أعضاء الهيئة على هذه المحاضر.
إن كتابة كل ما يجري أثناء المحاكمة في محضر خطي رسمي يجعل الأعمال القضائية ثابتة ومنظمة بحيث يتمكن الخصوم -حتى ولو كانوا غائبين- من الاطلاع عليها ومناقشتها، أو الطعن بها عند الاقتضاء.
3- قد تكتفي الهيئة التحكيمية بالأدلة التي قدمها الطرفان في لوائحها الخطية، ولا تجد حاجة لعقد جلسات للمحاكمة، فتصدر قرارها النهائي. وقد تعقد جلسة أو أكثر حسب الحاجة لاستيضاح بعض الوقائع، أو مناقشة بعض الأدلة، أو لإجراء التحقيق في قضية معينة. وعند ذلك يجب إبلاغ الطرفين بموعد الجلسة قبل وقت كاف لتمكينهما من الحضور. ولا يؤثر غياب أحد الطرفين على قانونية الجلسة إذا كان تبليغه قد تم في وقت مناسب. إن تحديد مواعيد الجلسات أمر يتعلق بالهيئة التحكيمية وحدها، مع مراعاة ظروف الطرفين والمساواة بينهما.
4- من حق كل من الطرفين أن يوكل من ينوب عنه في حضور الجلسات أو في إعداد اللوائح وتقديمها. على الهيئة التحكيمية أن تتحقق من صحة وكالة الممثل، ولها وحدها حق قبول أو رفض أي وكالة إذا وجد سبب قانوني أو شرعي لذلك. وفي حال قبول الوكالة يحق للهيئة التحكيمية وللطرف الآخر أن يقوم بتبليغ الأوراق إلى الوكيل.
5- من واجب الهيئة التحكيمية الحياد المطلق والمساواة الكاملة بين الطرفين في الجلوس والنظر والكلام، وليس لأي مُحكِّم أن يسارَّ بالحديث أحد الخصوم، ولا أن يخلو به في منزله، ولا يضيف أحدهما، وليس له أن يقبل من أي منهما الهدية.
6- قواعد الإثبات: هي الوسائل التي تستعملها الهيئة التحكيمية للتأكد من أن الحق موضوع النزاع يعود لهذا الخصم أو ذاك فتصدر حكمها بناء على ذلك. وقواعد الإثبات الشرعية هي التالية:
أ- بالنسبة للمدعي: الدعوى تثبت بالبينة الخطية أو الشهود.
  البينة الخطية: كان الفقهاء يقدمون شهادة الشهود على البينة الخطية لعدم الثقة بها واحتمال الريبة من محو أو كشط أو تغيير، ويشمل ذلك السجلات الرسمية السابقة فلا يعتمدون عليها إلا إذا انتفت الريبة. ولكن هذا الأمر أصبح من الممكن معرفته بإجراء التحقيق, ولذلك أصبح للبينة الخطية في العصر الحاضر المقام الأول قبل شهادة الشهود، وهذا هو المعمول به في جميع المحاكم في الدول الإسلامية وفي غيرها. وهو أمر أساسي في الأحكام الشرعية، وإن تردد في قبوله الفقهاء بحسب عصورهم، فدليله الواضح في القرآن الكريم: {يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} (البقرة: 282). كما أن مجلة الأحكام العدلية (وهي أول قانون مدني إسلامي بالمعنى العصري صدر في آخر أيام العثمانيين) توسعت في اعتماد البينة الخطية انسجامًا مع الأحكام الشرعية وتغير العصور.
الشهادة: هي إخبار عن ثبوت الحق للغير على الغير في مجلس القضاء.
  وهي واجب على من يدعى إليها. قال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}، {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (البقرة: 282-283).
وهي إحدى حجج المدعي لإثبات حقه لقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} (البقرة: 282). ولقول النبي r لوائل بن حجر "شاهداك أو يمينه" أخرجه مسلم 1/22.
ويشترط في الشاهد: البلوغ، العقل، والعدالة، والضبط، والإسلام (يمكن قبول شهادة غير المسلم في حالات خاصة)، وعدم التهمة (كشهادة الفرع لأصله، أو الأصل لفرعه، أو الزوج لزوجه، أو وجود عداوة شديدة لأحد الخصمين، أو أن يجر بالشهادة نفعاً لنفسه).
ويشترط في الشهادة: وجود الدعوى أصلاً، وموافقة الشهادة للادعاء، وحصول العدد المطلوب من الشهود، واتفاق الشاهدين. أما نصاب الشهادة (في التحكيم المحصور بالأموال والمبادلات التجارية) فهو شاهدان، أو رجل وامرأتان، وقد أجاز الجمهور إثبات الحق في قضايا الأموال بشاهد واحد مع يمين المدعي، وخالف في ذلك الأحناف. والأصل في الشهادة أن تكون عن مشاهدة وعيان، إلا أن الفقهاء أجازوا الشهادة بالسماع عند الضرورة، وخاصة عند المالكية فيحسن الرجوع إلى مصادرهم عند الأخذ بشهادة التسامع.
ب- بالنسبة للمدعى عليه: تثبت الدعوى عليه بالإقرار أو النكول عن اليمين.
  الإقرار: هو إخبار عن ثبوت الحق للغير على نفسه، وهو حجة على المقر، يؤخذ به ويعامل بمقتضاه. وهو أقوى الأدلة الشرعية لانتفاء التهمة به غالبًا.
النكول عن اليمين: إذا لم يقدم المدعي البينة على دعواه يُسأَل المدعى عليه عنها، فإن أقر يؤخذ بإقراره، ويُحكَم للمدعي بدعواه. وإذا أنكر الدعوى تُعرض عليه اليمين، فإن حلفها رُدت الدعوى.
لكن إن نكل عن الحلف تثبت الدعوى ضده ويُحكم للمُدعي عند الأحناف. أما عند المالكية والشافعية وفي قول للحنابلة، فإن النكول لا يكفي، بل يرد اليمين على المدعي، فإن حلف حكم له، وإن نكل عن الحلف رفضت دعواه



ختام المحاكمة التحكيمية وإصدار الحكم

المستشار فيصل مولوي
27/07/2003 

- من الضّروري أن تَتَّخِذ الهيئة التحكيمية قرارًا بإعلان ختام المحاكمة قبل انتهاء مهلة التحكيم.
- هذا القرار لا يصدر إلا بعد اقتناع الهيئة بكفاية ما سمعت من الطرفين وما أجرته من تحقيقات، لاتخاذ القرار النهائي.
- بعد إعلان ختام المحاكمة لا يسمح بتقديم أي شيء من الطرفين إلا بطلب من الهيئة التحكيمية. وفي هذه الحالة لا بد من السماح للطرف الآخر بالجواب التزامًا بحق الدفاع.
صدور القرار التحكيمي النهائي لا بد أن يكون قبل انتهاء مهلة التحكيم المحددة في البند التحكيمي أو في الاتفاق التحكيمي، وإذا لم يكن الفريقان قد اتفقا على مهلة للتحكيم فيجب أن يصدر القرار النهائي في الوقت الذي يحدده قانون البلد وإلا ففي أقرب وقت مناسب.
القرار التحكيمي النهائي:
- هو القرار الذي تفصل فيه الهيئة التحكيمية، في المسائل المتنازع عليها والتي عرضت عليها من الخصوم بشكل كامل ونهائي. أما القرارات التي تتخذها الهيئة أثناء المحاكمة، والتي تفصل في أحد جوانب النزاع أو تتناول أحد تدابير التحقيق والإثبات فتسمى قرارات تمهيدية.
- القرار التحكيمي النهائي يعتبر قرارًا قضائيًا، وكذلك القرارات التمهيدية، والفرق بينهما أن القرار النهائي يرفع يد الهيئة التحكيمية عن القضية بصورة نهائية، أما القرارات التمهيدية فليست كذلك.
والقرار النهائي، باعتباره قرارًا قضائيًا يشترط فيه:
أن يصدر بعد ختام المحاكمة، وخلال مهلة التحكيم، وإلا اعتبر باطلاً.
وأن يصدر بعد المداولة السرية بين جميع أعضاء الهيئة، وإلا أمكن إبطاله لمخالفة النظام العام.
وأن يصدر بإجماع الآراء أو بالأغلبية، ويجب أن يذكر ذلك صراحة في نص القرار، وعلى العضو المخالف أن يُدوِّن مخالفته ويُوقِّع عليها. إلا أنه يمكن للطرفين في اتفاق التحكيم أن يشترطا صدور القرار بالإجماع أو بأغلبية معينة.
- والقرار التحكيمي النهائي يجب أن يحرر بالصيغة الخطية، ولو أن هذه الصيغة لم تكن ملزمة في الماضي فإنها اليوم أصبحت ضرورية وإلا اعتبر القرار غير موجود، كما هو اجتهاد القضاء المعاصر في أكثر من دولة، فضلاً عن أن بعض القوانين نصت على ذلك.
ويجب أن يحرر قبل النطق به أمام الخصوم، وهو يشمل: ذكر أسماء أعضاء الهيئة التحكيمية الذين أصدروه تحت طائلة الإبطال، وذكر أسماء الخصوم وألقابهم وصفاتهم وأسماء وكلائهم، وذكر مكان وتاريخ إصدار القرار. فالمكان يحدد جنسية القرار التحكيمي والمحكمة المختصة لإعطائه الصيغة التنفيذية أو للطعن فيه. والتاريخ يحدد ما إذا كان القرار قد صدر ضمن المهلة المحددة من الطرفين أم لا. كما يجب أن يتضمن القرار خلاصة ما أبداه الخصوم من وقائع وطلبات والأدلة المؤيدة لها، وإذا أغفل القرار ذكر هذه البينات فقد يكون باطلاً أصلاً أو قابلاً للإبطال. ويجب أن يتضمن أخيرًا الأسباب الواقعية والقانونية التي بني عليها هذا القرار أي أن يكون معلّلاً، وإلا أمكن إبطاله لأن التعليل مرتبط بحق الدفاع ويعتبر بالتالي من النظام العام. ويجب أن تجيب الهيئة التحكيمية على جميع المطالب المدلى بها من الخصوم.
أخيرًا لا بد من ذكر (الفقرة الحكمية)، وهي تشتمل على ما تقضي به الهيئة التحكيمية من حل للنزاع. وهي الجزء الأساسي من القرار الذي ليس له وجود قانوني ولا يمكن تنفيذه إذا خلا من هذه الفقرة الحكمية. وإذا تضمن القرار التحكيمي أثناء سرده للوقائع ولمطالب الطرفين أي فصل في أي جانب من جوانب القضية فيجب أن يعاد ذكره ضمن الفقرة الحكمية التي يجب أن تضم جميع نقاط الفصل في النزاع.
وأخيرًا يجب توقيع القرار التحكيمي النهائي من جميع أعضاء الهيئة التحكيمية إذا صدر بالإجماع، أو من جميع الموافقين عليه إذا صدر بالأغلبية، وفي هذه الحالة يجب الإشارة إلى صدوره بالأغلبية وتحديد أسماء المخالفين، ومن المفيد أن يذكر المخالف بنفسه سبب مخالفته ويُوقِّع عليها. وإذا صدر القرار التحكيمي غير مُوقَّع من المُحَكِّم حين يكون وحيدًا، أو من أحد أعضاء الهيئة التحكيمية الموافقين، أو من أحد الأعضاء المخالفين إذا لم تذكر مخالفته، فإنه يكون قابلاً للإبطال.
الآثار الناشئة عن القرار التحكيمي:
1- حجية القضية المحكوم بها. طالما أن القرار التحكيمي اعتبر بمثابة قرار قضائي؛ لذلك فقد أصبحت له حجية القضية المحكوم بها. بمعنى أنه لا يجوز إعادة البحث فيه بين ذات الخصوم ولنفس السبب. غير أن هذه الحجية لا تتعلق بالنظام العام، وهي محصورة بالعلاقة بين الخصوم في النزاع الذي صدر فيه القرار.
2- خروج القضية من يد الهيئة التحكيمية: بمجرد صدور القرار التحكيمي النهائي تخرج القضية من يد الهيئة التحكيمية فلا تستطيع اتخاذ أي قرار جديد في موضوع النزاع نفسه، ولا حتى تعديل القرار السابق ولو كان مشوبًا بعيوب مبطلة. غير أنه يبقى للهيئة صلاحية تفسير القرار التحكيمي بتوضيح النص الغامض دون أن يؤدي ذلك إلى أي تعديل. وكذلك صلاحية تصحيح القرار التحكيمي، وهذا يتعلق بالأخطاء المادية للجنة، كتابية كانت أم حسابية. وصلاحية إكمال القرار التحكيمي إذا أغفل الفصل في بعض الطلبات، ويشترط لصحة أي تفسير أو تصحيح أو إكمال أن يكون قبل انتهاء مهلة التحكيم، وقبل تقديم أي طعن بالقرار، فإذا انتهت مهلة التحكيم المتفق عليها بين الطرفين، أو إذا أقدم أحدهما على الطعن بالقرار التحكيمي، فإن الهيئة التحكيمية لا تستطيع عندها القيام بأي تفسير أو إكمال أو تصحيح.
تنفيذ القرار التحكيمي:
التنفيذ الطوعي للقرار التحكيمي كان ولا يزال هو الأغلب، باعتبار أن التحكيم هو (العدالة التصالحية)، وأن الطرفين اختارا من يحكم بينهما برضاهما، وهذا نوع من التعهد المسبق بتنفيذ التحكيم. إلا أنه يحصل بعد صدور التحكيم أن يمتنع المحكوم عليه عن التنفيذ الرضائي، وربما لجأ إلى الطعن في القرار، فما العمل؟
في الماضي كان التنفيذ يعتمد على وجاهة المحكِّم ونفوذه في المجتمع. أما اليوم فإن المحكوم له يطلب عادة من المحكمة الرسمية إعطاء القرار التحكيمي الصيغة التنفيذية التي تسمح بتنفيذه جبرًا بواسطة السلطات الرسمية، تمامًا كالقرار القضائي الرسمي الصادر عن إحدى محاكم الدولة.
إذًا فالقرار التحكيمي ليس له بذاته قوة التنفيذ، بل يحتاج إلى أمر صادر من القاضي الرسمي المختص بشؤون التنفيذ. هذا الأمر يسمّى: الصيغة التنفيذية. ونحن نشرحه باختصار:
أولاً: الصيغة التنفيذية:
القرارات التي يمكن إعطاؤها الصيغة التنفيذية هي القرارات التحكيمية النهائية التي تتضمن إلزامات معينة مطلوبة من المدّعى عليه أو من الطرفين. أما القرارات التحكيمية التمهيدية فهي قابلة لإعطائها الصيغة التنفيذية إذا فصلت بأحد الطلبات المعروضة على المحكِّم وفي حدود هذا الطلب فقط.
أ- القاضي الناظر في طلب إعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي ينظر في القرار ويدقق عادة فيما يلي:
1- هل القرار التحكيمي يفصل في النزاع أم لا؟
2- هل النزاع المفصول فيه قابل للتحكيم أو هو متعلق بالنظام العام؟
3- هل القرار صادر بموجب اتفاق تحكيمي أم لا؟
4- هل خرج المحكِّم في قراره عن المهمة المعينة له من الطرفين بموجب اتفاق التحكيم أم لا؟
5- هل هناك تعليل للقرار أم لا، وليس من شأن القاضي هنا أن ينظر في كفاية التعليل؟
6- هل القرار مخالف للنظام العام خاصة في إتاحة حق الدفاع للطرفين؟
7- هل يشتمل القرار على فقرة حكمية؟
8- هل يشتمل القرار على ذكر أسماء المحكِّمين وتوقيعاتهم؟
ب- إذا قرر القاضي إعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي؛ فقراره قابل للاعتراض أمام القاضي نفسه. أما إذا رفض إعطاء الصيغة التنفيذية فقراره قابل للاستئناف.
ثانيًا: التنفيذ المعجّل.
- هناك حالات تجعل التنفيذ المعجّل حاصلاً بقوة القانون، وهي حالات منصوص عليها، وقد تختلف بين دولة وأخرى. ومن واجب القاضي الناظر في إعطاء الصيغة التنفيذية أن يقرن قراره فيها بالتنفيذ المعجّل ولو لم يذكر ذلك في القرار التحكيمي.
- في سائر الحالات يمكن للهيئة التحكيمية أن تقرن قرارها التحكيمي بالتنفيذ المعجّل وجوبًا أو جوازًا حسب الشروط القانونية، ويجب أن يكون قرارها معلّلاً، ولا تستطيع أن تتخذ مثل هذا القرار إلا بناءً لطلب الخصم صاحب المصلحة.
وفائدة التنفيذ المعجّل أنه لا يتوقف لانتظار انتهاء مهل الاستئناف أو الإبطال، أو بسبب تقديم أي طعن كما هو الحال في التنفيذ العادي. لكن المحكمة الناظرة في الاستئناف أو الإبطال يمكنها أن تقرر وقف التنفيذ.
الطعن بالقرار التحكيمي:
  إن عدم إعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي لا يغني عن الطعن فيه؛ لأن القاضي المختص بالتنفيذ ينظر إلى القرار التحكيمي نظرة عامة وشكلية فإذا تأكد من توافر الشروط العامة فيه أعطاه صيغة التنفيذ، وإذا لم يعطه هذه الصيغة فهو قرار موجود ويتمتع بقوة القضية المحكمة بين الطرفين. لذلك فقد يكون من مصلحة أحد الخصمين أن يطعن فيه بقصد إلغائه أو إبطاله. وقد سمحت له القوانين المعاصرة بذلك. وأهم طرق الطعن: الاستئناف والإبطال.
الطعن بطريقة الاستئناف: تعتبر المحاكمة التحكيمية بمثابة المحاكمة لدى محاكم الدرجة الأولى. لذلك يكون من حق الطرفين أن يطعنا بالقرار التحكيمي أمام محكمة الاستئناف، وقد نصت على ذلك أكثر القوانين المعاصرة (في الولايات المتحدة الأمريكية لم ينص على إمكانية استئناف القرارات التحكيمية).
وحق الطعن أمام محكمة الاستئناف يمكن للطرفين التنازل عنه في الاتفاقية التحكيمية. لكن إذا لم يقع مثل هذا التنازل فإن القانون الإنجليزي (1979) يجيز الاستئناف المحدود، وهو الاستئناف المتعلق بالمسائل القانونية ويشترط فيه أن يوافق جميع الفرقاء على تقديمه. أو أن توافق المحكمة العليا على ذلك. ومحكمة الاستئناف يمكنها أن تلغي القرار التحكيمي وتعيد الموضوع إلى المحكمين مع ملاحظاتها ليعيدوا النظر في قرارهم، كما يمكنها أن تعدّل القرار المذكور.
أما القانون الفرنسي (1980) فقد أبقى الاستئناف طريقًا مفتوحًا أمام الفرقاء ودون تقييد، إلا إذا تنازلوا عنه في اتفاقية التحكيم صراحة أو ضمنًا، أو إذا رضخ المحكوم عليه صراحة للقرار. ويحدد القانون عادة مدة شهر منذ إعطاء القرار التحكيمي الصيغة التنفيذية، بحيث يرفض الاستئناف شكلاً بعد هذه المهلة. وفي حال قبول الاستئناف شكلاً فإن ذلك يؤدي إلى:
أ- وقف التنفيذ، إلا في حالة التنفيذ المعجّل.
ب- نقل القضية أمام محكمة الاستئناف.
ج- حق هذه المحكمة في التصدي للموضوع.
الطعن بطريق الإبطال: وهو طعن تقره أكثر القوانين المعاصرة، وإن اختلفت في تحديد سبب الإبطال، ونرى من المفيد ذكر أسباب الإبطال في بعض هذه القوانين حتى يمكن للمحكّمين تلافيها، وعدم تعريض قراراتهم للإبطال. مع ملاحظة أن الطعن بطريق الإبطال مسموح به لجميع الفرقاء رغم كل نص مخالف في اتفاقية التحكيم، وإن أسباب الإبطال عادة تحدد حصرًا في القانون، وليس للمحكمة التوسع والاعتماد على أسباب أخرى.
- القانون الفرنسي (1980) يحدد ست حالات لإبطال القرار التحكيمي هي التالية:
1- إذا باشر المحكِّم التَّحكيم غير مستنِد إلى اتفاقية تحكيمية، أو كانت الاتفاقية باطلة أو انتهت مدتها.
2- إذا كانت المحكمة التحكيمية مشكّلة بصورة غير قانونية، أو كان الحَكَم المنفرد معيّنًا بشكل غير قانوني.
3- إذا لم يتقيد الحَكَم بحدود المهمة التي عهد إليه بها.
4- إذا لم يتم احترام مبدأ وجاهية المحاكمة.
5- إذا كان القرار التحكيمي غير معلّل، أو غير متضمن لأسماء الحكام الذين أصدروه أو لتاريخ صدوره أو لتوقيعات جميع الحكام.
6- إذا كان الحكم قد خالف قاعدة من قواعد النظام العام.
- القانون الفيدرالي للولايات المتحدة (1925) شبيه بالقانون الفرنسي وهو يحدد خمس حالات لإبطال القرارات التحكيمية هي التالية:
1- عدم صحة الاتفاقية التحكيمية.
2- انحياز المحكِّم أو سوء تصرفه.
3- خروج المحكَّمين عن نطاق صلاحيّاتهم.
4- خرق النظام العام.
5- الاستحصال على القرار التحكيمي عن طريق وسائل غير شرعية كالغش والخداع.
- القانون الإنجليزي (1979) حدد سببًا واحدًا لإبطال القرار التحكيمي، وهو أن يكون المحكِّم مفتقرًا إلى الأهلية القانونية والكفاءة. ويعتبر المحكِّم غير كفء إذا كانت تنقصه المؤهلات المطلوبة، أو إذا كان قد تجاوز حدود مهمته. (لذلك يجب الانتباه إلى ضرورة اختيار المحكِّمين الشّرعيّين من حملة الإجازات الشرعية والقانونية).


تعليقات