القائمة الرئيسية

الصفحات



نظام النفقات في الشريعة الإسلامية

نظام النفقات في الشريعة الإسلامية

نظام النفقات في الشريعة الإسلامية




نظام النفقات في الشريعة الإسلامية
 ومقارنة المذاهب بعضها ببعض في ذلك
 بقلم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير العلامة الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة المصرية بكلية الحقوق
 المصدر : مجلة المحاماة الشرعية - مصر 1930
يراد بالنفقة ما يدفع به الإنسان حاجة غيره من غذاء ومسكن وملبس وما يلتحق بذلك من مطالب المعيشة والحياة. تمهيد، الكائنات ذات الحياة مدفوعة بغريزتها إلى طلب ما يحفظ لها حياتها وينميها ويقوم بكل، ما هي في حاجة إليه أخذًا وردًا وجذبًا ودفعًا يهديها إلى ذلك الإلهام الإلهي والعقل المطبوع وما تُكسبه إياها التجارب والمشاهدات، وبالجملة فالقانون الطبيعي قاضٍ بأن يتولى كل حي أمره بنفسه وألا تزر وازرة وزر أخرى لكل كائن حي من شأنه ما يغنيه، لكن شاء العقل الإنساني بعد أن أفاد ما أفاد مما ارتفع به عن مستوى الفطرة الأولى وشاء الدين القويم والشرع الحكيم أن يكون لنوع الإنسان نظام اجتماعي يبنى على التضامن العام بين أفراده وجماعاته لينتقل بالإنسان إلى حالة أسعد وأهنأ من تلك الفوضى الشاملة المطلقة وآخر هذه النظم وجودًا وخيرها وأرشدها على الإطلاق هي النظم الإسلامية لو أخذت على وجهها الصحيح واسترشد الآخذون بها بهدي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الموفقين الأخيار وهدي أئمة الدين الإسلامي الذين فقهوا سر شرعه المتين ومقاصده وغاياته وطابقوا بين العلم والعمل طباق عالم خبير يراعي المقامات ومقتضيات الأحوال ويسير قدمًا في كل إصلاحاته وتحسيناته حتى يصل إلى ما يستطاع الوصول إليه من الكمالات المقدورة للنوع الإنساني في الحياة الدنيا. وسأذكر هنا أحد هذه النظم القويمة وهو نظام النفقات الواجبة على الإنسان لغيره من الأناسي والحيوان والأشياء فأقول: - الأصل أن كل إنسان يقوم بحاجاته الحيوية نزولاً على حكم القانون الطبيعي متى كان في مُكنته القيام بتلك الحاجات فإن عجز عنها عجزًا كليًا أو جزئيًا فقد أوجب الشرع الإسلامي الرحيم على غيره أن يمد إليه يد المعونة وينهض بشؤونه بقدر ما هو في حاجة إليه سدًا لعوزه، يكلف ذلك الأقرب فالأقرب حتى ينتهي الأمر إلى هيئة الأمة الجامعة لكل أفرادها فيجب عليها سد تلك الحاجة من بيت مالها عملاً بذلك المبدأ النبيل مبدأ التضامن العام. وقد استثني من هذا الأصل الكلي لقصد ديني أسمى واعتبارات أدبية أدق وأنبل بعض الأفراد بالإضافة إلى بعض، كالوالدين بالنسبة للأولاد والإناث من الأولاد والأقارب ترفيهًا عليهم وصونًا لهم من الابتذال والكد والكدح في طلب الرزق وكذلك قضى الشرع العادل بأن من يحتبسه الإنسان لمصلحة تعود على المحتبس أن يقوم هو بنفقته جزاءً وفاقًا، ومن هنا وجب على الزوج أن يقوم بنفقة زوجته وكل حاجاتها المعاشية حتى تتفرغ لتأدية عملها الذي هيأتها له يد القدرة الإلهية بهدوء واطمئنان، فقد احتبسها الزوج لنفسه خاصة وقيدها بقيد الزوجية فلا جرم كان من الواجب عليه أن يقوم بكفايتها، ومن أجل هذا الاحتباس أيضًا وجبت نفقة المملوك على مالكه إنسانًا كان أو غير إنسان. - وقد علم بالاستقراء أن الأسباب الموجبة للنفقة ثلاثة: وهي الزواج، والملك، والقرابة فالأولان يوجبانها للزوجة على الزوج والمملوك على المالك دون العكس والثالث يوجبها لكل من القريبين على الآخر فيوجبها للمحتاج منهما على القادر عليها على ما سترى

وهاك جملة القول في هذه النفقات الثلاث أسوقها إليك مقتصرًا على أمهات المسائل التي تصور لك وجهة


 النظر التشريعية في إيجاب النفقات وتقديرها وشروطها وما يسقطها دون الدخول في التفصيلات وذكر الفروع المتشعبة. نفقة الزوجية - أجمع أئمة الشريعة على أن نفقة الزوجة واجبة لها على زوجها فهي تستحقها جزاء احتباسه إياها لاستيفاء المعقود عليه عملاً بذلك الأصل الكلي - كل من كان محبوسًا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه - لأنه احتبسه لينتفع به فوجب عليه القيام بكفايته ومن ذلك المفتي والقاضي والوالي وسائر عمال الدولة وكذا الوصي وناظر الوقف ولا شك أن النساء محبوسات أي مقصورات على أزواجهن، فكل زوجة هي مملوكة المنافع التي أذن الله بها لزوجها ويلزم من هذا ألا تترك الزوجة تذهب حيثما شاءت صيانة للنسب وتفرغًا لما يجب للزوج على زوجته شرعًا، وفي هذا ما يمنع الزوج من الاكتساب والسعي في طلب الرزق بدون رضاء زوجها فمن أجل هذا وجبت نفقتها عليه سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة فقيرة أم غنية، قال الله تعالى (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وقال - صلى الله عليه وسلم - (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم وغير هذا من الأخبار الواردة في ذلك، وقد جرى على ذلك العمل وانعقد عليه الإجماع. والزوجة تستحق النفقة ابتداءً من العقد الصحيح على الصحيح من مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وإن لم تنتقل إلى منزل زوجها إذا لم يطلب الزوج انتقالها، فإن طلب انتقالها فامتنعت بحق كامتناعها حتى تقبض معجل صداقها أو كانت عاجزة عن الانتقال بسبب مرضها فلا تسقط نفقتها، وإن كان امتناعها بغير حق فلا نفقة لها لتفويتها الاحتباس الواجب عليها لزوجها بدون عذر وهو سبب استحقاقها النفقة، وفي رواية عن أبي يوسف - اختارها القدوري - أن الزوجة لا تستحق النفقة حتى تزف إلى منزل زوجها لكن الفتوى على القول الأول. - ويشترط في الاحتباس الموجب للنفقة أن يكون وسيلة إلى مقصود مستحق بالعقد وهو المباشرة ودواعيها وعلى ذلك لو كانت الزوجة صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها غير أن أبا يوسف قال إذا أمسكها الزوج في بيته للاستئناس بها وجبت عليه نفقتها. واختير هذا القول للفتوى وإذا لم يمكن الاستمتاع بالوطء لمانع بها لكن أمكن ببعض دواعيه، فالنفقة واجبة لها أيضًا على الزوج وذلك لأن المعتبر في إيجاب النفقة هو الاحتباس لانتفاع مقصود من وطء أو من دواعيه أو استئناس على ما تقدم آنفًا أو خدمة. لكن إن كان السبب في تفويت الاستمتاع من ناحيته هو فلا تسقط النفقة، والأصل في ذلك أن كل ما فوت الاحتباس لا من جهة الزوج فإنه يسقط النفقة وإلا فلا ومما يتفرع على ذلك: ( أ ) أن الزوج إذا كان صغيرًا لا يقدر على مباشرة النساء أو عنينا أو خصيًا أو مجبوبًا فإن الزوجة تستحق النفقة في كل هذه الأحوال إذا لم يوجد ما يسقطها من ناحية أخرى وذلك لأن التسليم قد تحقق منها وهو كل ما في وسعها وإنما العجز من جهته، وكذا إذا كان الزوج محبوسًا ولو بدين عليه لزوجته فلا تسقط نفقتها وإن كان غير قادر على أدائه لأن فوت الاحتباس من جهته
(ب) إذا نشزت الزوجة على زوجها فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها فإن عادت إلى بيت الزوج ولو بعد سفره عاد الاحتباس فتجب لها النفقة بعد عودها وأما إذا منعت نفسها من الزوج وهي في بيته فلا تسقط نفقتها لقدرة الزوج على ما منعت نفسها منه بمكنته وواسع حيلته، وكذا إذا حبست ولو ظلمًا إلا إذ كان الزوج هو الذي حبسها وكذا إذا كانت الزوجة محترفة بعمل تعمله خارج المنزل فإذا منعها الزوج من الخروج وعصته فخرجت فلا نفقة لها ما دامت خارجة
(ج) وإذا غصبها غاصب فلا نفقة لها مدة بعدها عن بيت زوجها لأن فوت الاحتباس ليس من جهته وهي في ذلك كالمحبوسة ظلمًا
وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - إلى أن النفقة لا تجب على الزوج بالعقد وإنما تجب عليه بالتمكين من الاستمتاع بشروطه وهاك جملة القول في ذلك
7 - ففي مذهب مالك - رحمه الله - لا تجب النفقة لغير المدخول بها إلا بتوافر جملة شروط أن تدعو الزوجة هي أو وليها أو وكيلها إلى الدخول بها بعد مضي زمن يتجهز فيه كل منهما لصاحبه عادةً وأن تمكنه من نفسها أي لا تمتنع من الوطء لو طلبها، وأن تكون مطيقة للوطء بلا مانع يمنع منه كأن تكون رتقاء (مثلاً) إلا أن يتلذذ بها مع وجود هذا المانع وهو عالم به وأن يكون الزوج بالغًا فلو دخل بها وهو صغير قادر على الوطء أو غير قادر عليه وهي بالغة أو غير بالغة وافتضها أو لم يفتضها فلا نفقة لها عليه لكن قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير أنه قد صحح في التوضيح القول بوجوب النفقة على الصغير إذا دخل بها ولو كانت غير مطيقة أ هـ، ومن الشروط أيضًا أن يكون كل من الزوجين غير مريض أو مريضًا مرضًا خفيفًا يمكن معه الاستمتاع فإن كان المرض شديدًا فقولان حتى إذا بلغ المرض بصاحبه حد السياق والإشراف على الموت فلا نفقة لها في هذه الحالة وهذا كله قبل الدخول أما بعده فلا يشترط لوجوب النفقة شيء من ذلك على ما اختاره في التوضيح وهو الظاهر بل تجب لها النفقة عليه من غير شرط
8 - وتسقط نفقة الزوجة لإعسار العسر الزوج فلا تلزمه في تلك الحالة وليس لها أن تطالبه بها ما دام معسرًا فإن عاد له اليسر بعد العسر وجبت عليه من ابتداء يسره وما أنفقته على نفسها زمن الإعسار لا ترجع عليه بشيء منه سواء أكان الزوج في زمن إنفاقها حاضرًا أم غائبًا لأنها متبرعة في تلك الحالة، وإذا كانت الزوجة قد أنفقت على زوجها شيئًا من مالها مدة عسرته فإنها ترجع عليه بقدر المعتاد فقط دون الزائد لأنه سرف فتعتبر متبرعة به، وقيل لا ترجع عليه بشيء لأن الظاهر أن ما فعلته من الإنفاق عليه هو من قبيل الصلة، لأنه زوجها، وهذا بخلاف إنفاقها على الأجنبي فإذا لم توجد بينة أو قرينة تدل على إردائها الرجوع عليه حمل الأمر على الصلة، وهو حسن.
أقول، وأبلغ من هذا ما حكاه في الهدي ونيل الأوطار عن ابن حزم من أنه إذا أعسر الزوج وكانت زوجته موسرة فإنه يجب عليها أن تنفق على نفسها وعلى زوجها المعسر ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقه إذا أيسر وسيأتي هذا في موضعه
ومما يسقط نفقة الزوجة نشوزها ومن ذلك منعها إياه من استمتاعه بها وكذا إن حبست بسبب مماطلتها أما إذا كان حبسها لغير ذلك فلا تسقط نفقتها لأن منعه من الاستمتاع ليس من جهتها وكذا إذا حبس زوجها ولو في دين لها عليه فلا تسقط نفقتها
9 - وفي المذهب الجديد للشافعي - رحمه الله - وهو الصحيح عندهم: لا تجب النفقة بالعقد وإنما تجب بالتمكين التام يومًا فيومًا والتمكين يكون بأن تعرض الزوجة نفسها على الزوج ولو بأن تبعث إليه إني مسلمة نفسي إليك فإن كانت غير مكلفة فالتمكين يحصل بأن يعرضها وليها عليه، ولو سلمت المراهقة نفسها إلى الزوج فتسلمها ولو بغير إذن وليها كان هذا كافيًا لتحقق التمكين وكذا لو تسلم المراهق زوجته ولو بدون إذن وليه، ولو كان تسليمها نفسها إلى زوجها ناقصًا كأن تسلمه نفسها ليلاً لا نهارًا أو بالعكس أو في البلد الفلاني أو في المنزل الفلاني فقط فلا نفقة لها لعدم تمام التمكين
10 - ويسقط نفقتها فوات الاستمتاع بها بسبب منها كنشوزها بعد التمكين ولا تعود نفقتها حتى تعرض نفسها على الزوج ثانيًا أو يعرضها وليها عليه ولو بإرسال رسول أو كتاب فإن كان الزوج غائبًا ورفعت الأمر هي أو وليها إلى قاضي بلدها مظهرة التسليم لزوجها فإنه يرسل إلى قاضي بلد الزوج ليحضره وليعلمه بالحال، وكذلك تسقط نفقتها بامتناعها من التمكين ولو في مكان عينه الزوج، وذلك لعدم التمكين التام وكذلك تسقط نفقتها لو غصبها غاصب لخروجها عن قبضة الزوج وفوات التمتع بالكلية وكذا لو حبست ولو ظلمًا كما لو وطئت بشبهة فاعتدت، ولا يسقط نفقتها قيام عذر بها يمكن معه التمتع بها من بعض الوجوه كرتق وقرن ومرض وحيض ونفاس وجنون وإن كان ذلك مقارنًا تسليمها نفسها لزوجها وذلك لأن هذه الأعذار بعضها يطرأ ويزول وبعضها دائم وهي معذورة فيها وقد حصل التسليم الذي في استطاعتها فإن كانت الزوجة صغيرة لا تحتمل الوطء لتعذره فلا نفقة لها وذلك لفوات التمتع بها بالكلية لمعنى فيها، أما إذا كان الزوج طفلاً صغيرًا وزوجته كبيرة فإنها تستحق النفقة عليه لعرضها على وليه وإن لم يتأتَ من زوجها الوطء إذ لا منع من جهتها.

11 - وكذا في مذهب أحمد - رحمه الله - لا تجب النفقة بالعقد ولو تساكن الزوجان زمنًا طويلاً حتى تسلم 


نفسها إلى الزوج أو يسلمها إليه وليها أو تبذل نفسها إليه أو يبذل ذلك وليها بذلاً تامًا فإن كان البذل ناقصًا
 كتسليمها نفسها في منزلها دون غيره من سائر المنازل أو في بلدها أو نحو ذلك لم تستحق شيئًا من النفقة إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد، ويشترط أيضًا لوجوب نفقتها أن تكون مطيقة للوطء أي بنت تسع سنين فأكثر سواء أكان الزوج كبيرًا أم صغيرًا يمكنه الوطء أو لا يمكنه لمانع فيه، ولا يسقط نفقتها تعذر وطئها لمرض أو نفاس أو حيض أو رتق أو قرن أو لكونها نضوة الخلق أي هزيلة أو حدث بها شيء من ذلك وهي عند الزوج، وذلك لأن الاستمتاع بها ممكن في الجملة ولا تفريط من جهتها، ولو بذلت الصحيحة الاستمتاع بها دون الوطء فلا نفقة لها لعدم عذرها وكذا لو امتنعت من التسليم وهي سليمة ثم عرض لها المرض فبذلت نفسها للزوج فلا نفقة لها ما دامت مريضة عقوبة لها بمنعها نفسها عن زوجها في حالة هو متمكن من الاستمتاع بها فيها وبذلها في ضدها، ونشوز الزوجة وعدم تمكينها زوجها من وطئها تمكينًا كاملاً يسقط كل واحد منهما نفقتها، والقول في ذلك كما تقدم في مذهب الإمام الشافعي، وبالجملة فكل ما يمنع استمتاعه بها بسبب لا من جهته يسقط نفقتها.
تنبيه
12 - مما تقدم يتبين لك أن النفقة جزاء الاحتباس عند أبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - وعليه إذا كان العقد فاسدًا فلا نفقة للزوجة لعدم الاحتباس وكذا لا نفقة لها في عدة النكاح الفاسد، وقد نقل في المادة (172) من الأحوال الشخصية أن التي تزوجت بلا شهود لها النفقة، وهذا منقول عن الهندية عن الخلاصة، ولفظها (وأجمعوا أن في النكاح بلا شهود تستحق النفقة)، ونظر فيه الحموي وغيره لأنه من أفراد الفاسد والفاسد لا تجب فيه النفقة ولذا قال في رد المحتار - الظاهر إن الصواب (لا تستحق) بلا النافية إذ لا احتباس فيه أهـ، ولم يتعقبه الرافعي في تقريره
وأقول لا شك إن قواعد المذهب في نفقة الزوجة تؤيد ما قاله العلامة ابن عابدين، وقال في موضع آخر من رد المحتار لو أنفق على زوجته ثم تبين فساد النكاح بأن شهدوا بالرضاع مثلاً وفرق بينهما ففي الذخيرة له الرجوع بما أنفق بفرض القاضي لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، ولو أنفق بلا فرض لا يرجع بشيء أهـ أي أنه يعتبر متبرعًا
13 - ومذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة هو عدم وجوب النفقة لها لا في حال اجتماعهما ولا بعد الافتراق ولو كانت حاملاً، لكن لو أنفق عليها بالفعل ثم فرق بينهما فلا رجوع له عليها بما أنفق بل يجعل ما أنفقه في مقابلة استمتاعه بها وإتلافه منافعها سواء أكانت حاملاً أم حائلاً
14 - وأما مذهب أحمد - رحمه الله - فهو أن النفقة لا تجب في النكاح الفاسد لأن وجود العقد كعدمه وذلك إذا لم تكن الزوجة حاملاً فإن كانت حاملاً وجبت النفقة للحمل وأنه إذا أنفق عليها في النكاح الفاسد فلا يرجع عليها بشيء مما أنفق سواء أكانت النفقة قبل مفارقتها أم بعدها لأنه إن كان عالمًا بعدم الوجوب فهو متطوع للإنفاق وإن لم يكن عالمًا فهو مفرط فلا يرجع بشيء
15 - وأما مذهب مالك - رحمه الله - فهو على هذا التفصيل المدخول بها في نكاح فاسد يدرأ الحد كمن تزوج ذات محرم جهلاً وكذا الموطوءة بشبهة إذا كانت كلتاهما لا زوج لها فإن حملت إحداهما من الواطئ فلها عليه النفقة والسكنى إذا كان لا يعلم بالحرمة فإن علم بالحرمة دونها فلها السكنى فقط لأنها محبوسة بسببه فإن علمت هي أيضًا فهي زانية لا سكنى لها ولا نفقة، وإن لم تحمل منه فالسكنى عليه والنفقة عليها وإن كانت ذات زوج ولم يكن زوجها قد دخل بها فإن حملت من الواطئ فسكناها ونفقتها عليه وإن لم تحمل فعليه السكنى فقط وأما النفقة فهي عليها لا على الواطئ على الراجح، وأما لو كان زوجها قد دخل بها فنفقتها وسكناها على زوجها حملت أم لا، إلا أن ينفي الزوج حملها بلعانٍ فلا نفقة لها عليه ولها السكنى على الزوج ما لم يلتحق الحمل بالواطئ الآخر فإن لحق به فالنفقة والسكنى حينئذٍ على ذلك الواطئ الغالط، وإذا كان ذلك الواطئ الغالط قد أنفق عليها في الأحوال التي لا تجب عليه نفقتها فيها بقضاء أو بغيره بناءً على الظاهر، ثم تبين له الغلط فهل يرجع عليها بما أنفق ؟ الظاهر أنه يرجع عليها بذلك بناءً على هذا الأصل الذي حكوا اتفاقهم عليه، وهو أن من أخذ مالاً من إنسان يجب له بقضاء أو غيره ثم ثبت أنه لم يكن يجب له شيء أنه يرد ما أخذه. أهـ 
تقدير النفقة
16 - اختلف علماء مذهبنا في تقدير النفقة على ثلاثة أقوال
الأول: أنها تقدر باعتبار حالها يسرًا وعسرًا، حكي ذلك في الخانية ومستند هذا القول ظاهر حديث هند الآتي
الثاني: أنها تقدر باعتبار حال الزوج مع صرف النظر عن حالة الزوجة فإن كان موسرًا فالواجب عليه نفقة اليسار وإن كان معسرًا فنفقة الإعسار وهذا القول هو ظاهر الرواية وأخذ به أبو الحسن الكرخي وكثير من مشايخنا، ورجحه في المبسوط والبدائع ونقل في رد المحتار عن التحفة أنه الصحيح وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - وهو المعمول به الآن في محاكمنا الشرعية بمقتضى المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 ونصها
(تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة). 
وقد عللوا هذا القول بأن المرأة لما زوجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على زوجها ما هو فوق قدرته واستدلوا بقوله تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا). 
الثالث: أنها تقدر باعتبار حالهما جميعًا من يسر وعسر وإليه ذهب الخصاف ورجحه صاحب الهداية وقال إنه الفقه وبه أخذ أصحاب المتون والشروح فكانت عليه الفتوى وعليه العمل حتى صدر ذلك المرسوم بقانون المذكور آنفًا، ووجه هذا القول ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - إن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. أهـ
17 - وعلى ذلك إذا كان الزوجان موسرين فللزوجة نفقة اليسار وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ولو وصل الأمر إلى أدنى الكفاية وهذا باتفاق، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا فنفقة الوسط فإن كان الزوج هو الموسر أنفق عليها دون نفقة اليسار وفوق نفقة الإعسار متبعًا في ذلك ما عليه العرف، أما إن كان الزوج معسرًا والزوجة موسرة فقد قالوا إنه يقدر عليه لها نفقة الوسط ثم ينفق بقدر وسعه والباقي يكون دينًا عليه إلى الميسرة، وظاهر مذهب الإمام أحمد كذلك وقد صرح به في الفروع فقال نقلاً عن الترغيب ما نصه: إنه يفرض للموسرة مع الفقير أقل كفاية والباقي دين في ذمته، لكن حكي في الفروع أيضًا في موضع آخر قولاً بسقوط زيادة اليسار والتوسط في حالة إعسار الزوج، ومثله في كشاف القناع نقلاً عن المبدع
وهذا القول هو المعتمد في مذهب الإمام مالك على ما حكاه الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير قال: اعلم إن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقرًا أو كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا لكن اعتبار حالهما عند تساويهما فقرًا أو غنى ظاهر وأما عند اختلافهما فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، وحينئذٍ فنفقة الفقير على الغنية أزيد من نفقته على الفقيرة كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية، هذا هو المعتمد، ثم حكي قولاً آخر من أن اعتبار حالهما إذا تساويا فإذا زاد حالها اعتبر وسعه فقط وإن نقصت حالها عن حاله اعتبرت حالة وسطى بين الحالتين أهـ أقول فهذا القول الثاني صريح في أن ما زاد على وسعه لا يكون دينًا في ذمته، وجمع الأستاذ الدردير - رحمه الله - بين القولين في شرحه جمعًا لطيفًا فقال: إن كان فقيرًا لا قدرة له إلا على أدنى كفاية فالعبرة بوسعه فقط وإن كان غنيًا ذا قدر وهي فقيرة أجيبت لحالة أعلى من حالها ودون حاله، وإن كانت غنية ذات قدر وهو فقير إلا أنه له قدرة على أرفع من حاله ولا قدرة له على حالها رفعها إلى الحالة التي يقدر عليها أهـ وبالجملة فإنه يعتبر وسعه وحالها
18 - وأقول إن ما ذهب إليه الخصاف - رحمه الله - من أنه إذا كان الزوج موسرًا والزوجة معسرة ينفق عليها نفقة الوسط قول حسن عملاً بالعرف وقد قال ابن القيم - رحمه الله - في الهدي: لم يقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النفقة قدرًا معينًا ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف أهـ
ولا مخالفة بين هذا القول والآية الكريمة لأن الزوج ينفق من وسعه ولا يكلف فوق طاقته لكن ما قاله الخصاف - رحمه الله - من أن الزوج إذا كان معسرًا فإنه ينفق بقدر وسعه والباقي دين عليه إلى الميسرة قول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة بل هو مما يكاد يصادم نص الآية الكريمة، وحديث هند صريح في أنها أمرت أن تأخذ من مال أبي سفيان كفايتها وكفاية أولادها بالمعروف فلم يكلف أبو سفيان بما هو فوق قدرته لأن الأخذ إنما كان من ماله الذي هو في ملكه وقت أن أمرت بالأخذ فأين الدليل على ما قال الخصاف في هذه الصورة الرابعة ؟ 
لا يقال إن الزوج إذا كان معسرًا كانت نفقة الزوجة دينًا في ذمته إلى الميسرة لأن دليل وجوب النفقة في ذمته قائم وهو احتباسها فوجبت عليه نفقتها بحسب العرف لا يقال هذا لأنه في أصل النفقة وأما مسألتنا هذه فالمفروض فيها أنه قادر على أن ينفق عليها بحسب وسعه فقط فكيف يخاطب بأكثر من هذا ؟ فلا الآية توجب عليه هذا ولا الحديث من ادعاه فعليه الدليل
وبالجملة فالصواب هو ما قاله الأستاذ الدردير في شرحه على خليل وهو ما ذكرناه آنفًا وهو اختيار القاضي من الحنابلة من أن مراعاة حال الزوج في النفقة مشروطة بقدر الزوجة على ما كلف به وقت أن كلف به وهذا هو المعروف والمطابق لما جاء به الكتاب والسنة، ولقد أحسن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - كل الإحسان في قوله بسقوط نفقة الزوجة عن زوجها في حال عسرته ثم هي بالخيار فإن شاءت المقام معه على ذلك فعلت وإلا فارقته.

فرض النفقة دراهم

19 - موجب العقد الصحيح أن تسلم المرأة نفسها إلى الزوج في بيته وعليه لها جميع ما يكفيها بحسب حالهما أو حاله على ما تقدم من طعام وشراب وكسوة وفرش وكل ما يلزم من معيشة الزوجية كما أن سكناها واجبة عليه وليس عليها شيء من ذلك فهل يجوز للقاضي أن يفرض لها دراهم بدل هذه المطلوبات كلها أو بعضها ؟ قالوا يجوز له ذلك على شرط أن يراعي في تقديره تغير الأسعار وحال الزوجين أو الزوج، وعلى هذا العمل في المحاكم الشرعية المصرية فإن النفقة تفرض فيها دائمًا من النقود للطعام والكسوة وبدل المسكن إن لم يكن الزوج قد هيأ لزوجته مسكنًا شرعيًا ولا يشترط في فرض النقود رضا الزوج بذلك بل يلزم بها إلزامًا وقد يكون هذا أرفق به وبزوجته ولا سيما في المدن.
لكن قال ابن القيم - رحمه الله - في الهدي ما نصه
وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام إلخ ما قال وقد نقله عنه في الفروع ملخصًا
أقول قد نقل في المبسوط عن محمد - رحمه الله - أنه قدر نفقة المعسر بأربعة دراهم في كل شهر لكنهم نصوا على أن هذا ليس بلازم لأنه إنما قدره على ما شاهد في زمانه، وقالوا على القاضي في كل زمن أن يعتبر الكفاية بالمعروف، وظاهر هذا هو أن تقدير النفقة بالدراهم جائز مطلقًا سواء أكان هناك ضرورة تدعو إلى ذلك أم لا وسواء رضي الزوج بذلك أم لا، وقد جرى العمل بهذا إلى الآن، وإذًا ينتقض ما قاله ابن القيم - رحمه الله - بالنسبة لمذهب أبي حنيفة - رحمه الله - لأن قول محمد قول لإمامه على ما تقرر في رسم المفتي، والله أعلم
هذا وإني قد أوضحت النسبة بين أقوال الإمام وصاحبيه على أتم بيان في كتابي الكبير في المرافعات الشرعية
20 - والحاصل على ما ذهب إليه غير الحنفية من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم أن القاضي لا يملك أن يفرض بدل النفقة الواجبة دراهم إلا باتفاق الزوجين فلا يجبر الممتنع منهما على ذلك لأن المعارضة بغير الرضا لا تجوز بالإجماع لكن إن دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس به دفعًا للحاجة، نص على ذلك في الفروع وكشاف القناع والمهذب والروض والشرح الكبير وحاشية الدسوقي
ومن مواضع الحاجة ما نقله في تقرير رد المحتار عن حاشية التحفة للشبراملسي قال: سئل شيخنا الرملي عن امرأة غاب عنها زوجها وترك معها أولادًا صغارًا ولم يترك عندها نفقة ولا أقام لها منفقًا وضاعت مصلحتها ومصلحة أولادها وحضرت إلى حاكم شافعي وأنهت إليه ذلك وشكت وتضررت وطلبت منه أن يفرض لها ولأولادها على زوجها نفقة ففرض لهم عن نفقتهم نقدًا معينًا في كل يوم وأذن لها في إنفاق ذلك عليها وعلى أولادها وفي الاستدانة عليه عند تعذر الأخذ من ماله والرجوع عليه بذلك وقبلت ذلك منه فهل الفرض والتقدير صحيح ؟ وإذا قدر الزوج لزوجته نظير كسوتها عليه حين العقد نقدًا كما يكتب في وثائق الأنكحة ومضت على ذلك مدة وطالبته بما قدر لها عن تلك المدة وادعت عليه بذلك عند حاكم شافعي واعترف به وألزمه به فهل إلزامه صحيح أولاً ؟ وهل إذا مات الزوج وترك زوجته ولم يقدر لها كسوة وأثبتت وسألت الحاكم الشافعي أن يقدر لها عن كسوتها الماضية التي حلفت على استحقاقها نقدًا وأجابها لذلك وقدره لها كما يفعله القضاة الآن فهل له ذلك أو لا ؟ وهل ما يفعله القضاة من الفرض للزوجة والأولاد عن النفقة أو الكسوة عند الغيبة أو الحضور نقدًا صحيح أولاً ؟ 
(فأجاب: تقدير الشافعي في المسائل الثلاث صحيح إذ الحاجة داعية إليه والمصلحة تقتضيه فله فعله ويثاب عليه بل يجب عليه أهـ ثم قال في التقرير فعلى هذا لا خلاف بين المذهبين في تقدير النفقة نقدًا أهـ
وأقول لا يخفى إن الغرض من فرض النفقة للزوجة إنما هو دفع حاجتها فليكن هذا في كل زمان ومكان بأيسر طريق نظرًا إلى المصلحة في ذاتها بدون تعمق في التدقيقات الفقهية وحرص شديد على تطبيق ما يتراءى من القواعد إذ قد يكون للمسألة الجزئية الواحدة أكثر من اعتبار واحد فتتنازعها القواعد والأصول وقد يتشابه الأمر ففي مثل هذا يجب توجيه النظر في تقرير الحكم إلى الباعث الشرعي ليحقق غرض الشارع بما هو أدنى إلى تحقيقه من الطرق الممكنة.
توابع نفقة الزوجة
21 - من ضمن النفقة الواجبة للمرأة على زوجها نفقة خادمها [(1)] إذا اقتضى الحال ذلك، وجملة القول في هذه المسألة على ما ذهب إليه أصحابنا - رحمهم الله - أن الزوج إذا كان موسرًا فعليه ما يكفي خادم زوجته من النفقة على حسب العرف بشرط أن يكون الخادم مملوكًا لها ملكًا تامًا ومتفرغًا لخدمتها فلو لم يكن الخادم في ملكها أو كان له شغل غير خدمتها أو لم يكن له شغل لكن لم يخدمها فلا نفقة له على زوجها إذ نفقة الخادم إنما تجب على الزوج بإزاء الخدمة من طبخ وخبز وسائر أعمال البيت داخلاً وخارجًا فإذا امتنع الخادم عن ذلك لم تجب النفقة وذلك بخلاف نفقة الزوجة لأنها جزاء احتباسها على ما تقدم
وإذا لم يكن للزوجة خادم مملوك فإن شاء الزوج استأجر أو استعار لها من يخدمها وإن شاء قضى لها حاجاتها بنفسه، وإذا أراد الزوج إخراج خادمها المملوك لها من بيته وأحضر لها خادمًا من عنده فلا يقبل ذلك منه إلا برضاها لأنها قد لا تتهيأ لها الخدمة بخادم الزوج لكن إذا كان الزوج يتضرر من خادمها بأن كان يختلس من ثمن ما يشتريه أو كان غير مأمون على أمتعة بيته أو كان مفسدًا فالزوج يعذر في إخراجه فله أن يستبدل به خادمًا أمينًا من عنده ولا يتوقف ذلك على رضاء الزوجة
وإذا كان له أولاد لا يكفيهم خادم واحد فرض عليه نفقة خادمين أو أكثر على حسب الحاجة لأن ذلك من جملة نفقتهم الواجبة لهم عليه
وإذا زفت إليه بخدم كثير استحقت نفقة الجميع إذ المعتبر حالها في بيت أبيها لا حالها الطارئ في بيت زوجها وهذا القول رواية عن أبي يوسف اختيرت للفتوى وأما على ظاهر الرواية فالواجب نفقة خادم واحد مطلقًا، وثم أقوال أخرى في المسألة
22 - ولا تقدر نفقة الخادم بالنقود بل يفرض له ما يكفيه بالمعروف ولكن لا يبلغ به نفقة الزوجة لأنه تابع لها فتنقص نفقته عنها وليتبع في ذلك ما جرى به العرف
وهذا كله إذا كان الزوج موسرًا قادرًا على إخدام زوجته فإن كان معسرًا فلا تجب عليه نفقة خادم لها بل الواجب عليه في هذه الحالة أدنى الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة نفسها
23 - وأما على مذهب الشافعي - رحمه الله - فقد قال في المهذب إن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل (وعاشروهن بالمعروف)، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو رحمًا محرمًا، وإن قالت المرأة أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وذلك لا يحصل بخدمتها، وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمها الرضاء به لأنه تقع الكفاية بخدمته والثاني لا يلزمها الرضاء به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الخدمة
وإن كان الخادم مملوكًا لها واتفقا على خدمته لزمته نفقة له دون ما يجب للزوجة على ما جرى به العرف بحسب وسعه أهـ ملخصًا
24 - ومذهب أحمد - رحمه الله - في ذلك كمذهب الإمام الشافعي فلا حاجة إلى إيراد ما قيل فيه منعًا للتكرار غير أنهم نصوا على أنه يلزمه مؤنسة لها إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأحسب أن المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك لأنه من باب المعاشرة بالمعروف وهي مأمور بها شرعًا، وانظر ما قاله في الدر المختار وما بحثه في رد المحتار في هذه المسألة ففيه تفصيل حسن
25 - وعلى ما ذهب إليه مالك - رحمه الله - أن الزوج إذا كان ذا سعة وزوجته ذات قدر ليس شأنها الخدمة أو كان هو ذا قدر تزري به خدمة زوجته وجب عليه أن يأتي لها بخادم ولو بالأجرة وإذا لم يكفِ خادم واحد أنى لها بأكثر على حسب الحاجة على القول الصحيح، وقيل لا يلزمه أكثر من خادم واحد، وإذا طلبت الزوجة أن خادمها هو الذي يخدمها ويكون عندها وطلب الزوج أن يخدمها خادمة فإنه يقضي لها بخادمها لأن الخدمة لها وحينئذٍ يلزم الزوج أن ينفق عليه، لكن إذا دلت القرائن على ريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا فإنه يقضي بخادم الزوج ولا تجاب إلى طلبها، وإن كانت الزوجة أهلاً للإخدام لكن الزوج فقير أو لم تكن أهلاً له بأن كانت من لفيف الناس والزوج ليس ذا قدر وجبت عليها الخدمة الباطنة داخل المنزل بقدر حاجتها هي وزوجها فقط دون أولاده ووالديه وضيوفه ولا يجب عليها شيء وراء ذلك فلا تجبر على أن تتكسب لزوجها من غزل أو خياطة أو غير ذلك إلا أن تتطوع من تلقاء نفسها بشيء من ذلك
26 - وتتميمًا للفائدة أذكر هنا خلاصة ما قاله ابن القيم -رحمه الله - في خدمة الزوجة لزوجها قال
اختلف الفقهاء في ذلك فأوجبت طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وبالغ بعضهم في ذلك فأوجب عليها خدمته في كل شيء، ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء ما، قالوا لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع وما ورد من الأحاديث من أن فاطمة - رضي الله عنها - كانت تقوم بالخدمة المنزلية لزوجها علي - رضي الله عنها - وأن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - كانت تقوم بكل ما يلزم لزوجها الزبير بن العوام - رضي الله عنه - من الخدمة فإنما كان ذلك على سبيل التطوع ومكارم الأخلاق لا على سبيل الوجوب والإلزام، واحتج من أوجب الخدمة بأنه من المنكر ترفيه المرأة وقيام الرجل بكل ما يلزم لها من الخدمة، والله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ويقول (الرجال قوامون على النساء)، وإذا لم تخدمه المرأة بل كان هو الخادم لها انعكس الأمر وكانت هي القوامة عليه، وقالوا أيضًا إن المهر في مقابلة الاستمتاع وهذا قدر مشترك بينهما فكل من الزوجين يستمتع بالآخر فإذٍ تكون نفقتها وكسوتها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج فكان عليه المال في المهر والنفقة لأنه هو القادر على الكسب عادةً وعليها في مقابلة ذلك الخدمة المنزلية وما جرت العادة أن تقوم به النساء لأزواجهن وبهذا يتم التعادل بينهما. وقالوا أيضًا إن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف - والعرف هو خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة
وأما قول الفريق الأول إن فاطمة وأسماء رضوان الله عليهما لم تكن الخدمة واجبة عليهما غير صحيح، لأن فاطمة لما شكت إلى أبيها صلوات الله وسلامه عليه ما تلقى من مشقة الخدمة لم يشكها [(2)] فلم يقل لعلي لا خدمة عليها بل الخدمة عليك أنت وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يحابي في الحكم أحدًا، وكذلك لما رأى أسماء وهي قائمة بخدمة زوجها داخل المنزل وخارجه لم يقل لزوجها لا خدمة لك عليها وأن هذا ظلم بل أقره على استخدامها وأقر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية أهـ، وقد علمت مما تقدم توسط مذهب مالك - رحمه الله - في هذه المسألة
27 - ومما يتصل بذلك ما ذهب إليه أصحابنا - رحمهم الله - من أنه لا حق للزوج في شيء من جهاز زوجته وليس له أن يجبرها على فرش أمتعتها ولا تقديم شيء منها له أو لا ضيافة وإنما له الانتفاع بها بإذن منها، ولو اغتصب شيئًا من الجهاز حال قيام الزوجية أو بعد انحلال عقدتها فلها مطالبته به أو ببدله له من مثل أو قيمة إذا استهلكه أو هلك عنده لأن يده عليه يد غاصب، وكل ما يلزم للبيت من فراش وغيره واجب على الزوج وحده، فقارن هذا بما ذهب إليه مالك - رحمه الله - من أن للزوج أن يتمتع بجهاز زوجته ويستعمل منه ما يجوز له استعماله وحده أو معها، وإذا كان في ثيابها ما يصلح لأن يلبسه جاز له لبسه وله منعها من إخراج الجهاز من ملكها ببيع أو هبة لأن ذلك يفوت عليه حق استمتاعه به، وقيل لها بيعه بعد مضي مدة تكفي لانتفاع الزوج به وقدر ذلك بأكثر من سنة وقيل أربع سنين وإذا بلي الجهاز باستعماله فلا يلزمه بدله فلو جدد ما بلي منه ثم طلقها فلا يقضي لها بأخذه بل هو ملك للزوج. [(3)]
دين النفقة
28 - إذا مضت مدة من الزمن لم ينفق فيها الزوج على زوجته فهل تصير نفقتها في ذلك الزمن الذي مضى بدون إنفاق دينًا في ذمته ؟ أما على مذهب أصحابنا - رحمهم الله - فالحكم على هذا التفصيل
( أ ) إذا لم تكن النفقة مفروضة لها لا بقضاء قاضٍ ولا بتراضٍ بينهما وبين زوجها وقد مضى على عدم الإنفاق عليها شهر فأكثر فلا تصير النفقة دينًا في هذه الحالة ولا يطالب بها الزوج مهما طال الزمن لأنها صلة وليست بعوض حقيقي ولم يوجد ما يقوي الوجوب فيها
(ب) أن تكون مفروضة بالتراضي أو بقضاء القاضي وفي هذه الحالة تتقوى بعض الشيء فتصير دينًا في ذمة الزوج لكنه دين ضعيف فكما يسقط بالأداء أو الإبراء كذلك يسقط بالنشوز وبالموت وبالطلاق على تفصيل في بعض ذلك، وكذلك نفقة أقل من شهر إذا لم تكن متراضى عليها أو مقضيًا بها، وعللوا ذلك بأن المرأة لا تتمكن من أخذ نفقتها إلا بعد مضي مدة قبل القضاء بها، وما دون الشهر كافٍ لذلك، وما دون الشهر عاجل
(ج) أن تكون مفروضة بالقضاء أو التراضي وقد أمرها الزوج أو القاضي بالاستدانة وفي هذه الحالة تكون النفقة دينًا صحيحًا في ذمة الزوج لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء
وقد كان العمل في محاكمنا الشرعية المصرية على هذا حتى صدر القانون رقم (25) سنة 1920 فجعل نفقة الزوجة والمعتدة في كل أحوالها دينًا صحيحًا ثابتًا في الذمة
29 - وأما على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فإن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، وعلل ذلك في المهذب بأنها مال وجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمن، والحاصل أن اختلاف وجهة النظر في صفة نفقة الزوجة أدى إلى الخلاف في سقوطها، فمن رأى أنها معاوضة لم يسقطها كما هو شأن الإبدال في المعاوضات، ومن قال إنها صلة أسقطها ما لم تتقوا بقضاء أو تراضٍ ثم أمر بالاستدانة من الزوج أو القاضي وانظر هذا البحث في الهدي فقد أطال القول فيه وانتهى به الكلام إلى ترجيح مذهب القائلين بالسقوط بمضي الزمن
هل يفرق بين الزوجين بسبب إعسار الزوج بالنفقة ؟
30 - ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين أنه لا تفريق بين الزوجين بسبب إعسار الزوج بل يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج وقال في الهدي أن هذا هو مذهب أهل الظاهر كلهم، ومن كلام السلف الصالح في ذلك قول عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - هي امرأة ابتليت فلتصبر، وقول محمد بن شهاب الزهري تستأني بزوجها ولا يفرق بينهما، وتلا قوله تعالى (لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها)، وقول عطاء ليس لها إلا ما وجدت ليس لها أن يطلقها، وقول الحسن البصري: تواسيه وتتقي الله وتصبر وينفق عليها ما استطاع، وعللوا ذلك بأن التفريق بين الزوجين بسبب الإعسار يفوت على الزوج ملك الاستمتاع فلا يصل إليه ثانيًا إلا بسبب جديد، لكن لو أبقينا الزواج لا يفوت حق المرأة في النفقة بل يتأخر لأن النفقة تصير دينًا في ذمة الزوج بفرض القاضي فيستوفي منه في الزمن المستقبل، فوجب أن يتحمل أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ولذا قلنا بعدم التفريق وأمرناها بالاستدانة وأوجبنا الإدانة على من تجب عليه نفقتها لو لم يكن لها زوج، ثم يرجع على الزوج إذا أيسر
31 - وذهب جمهور علماء الشريعة إلى أن الزوج إذا أعسر بنفقة زوجته واختارت فراقه فرق بينهما، وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، لكن التفريق بينهما على قول أحمد فسخ لا رجعة للزوج بعده وأن أيسر في العدة، ولو أن القاضي لم يفسخ بل أجبر الزوج على طلاقها فطلقها رجعيًا فله رجعتها، فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيًا وثالثًا، وإن رضيت بالمقام معه على عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك وهو مذهب الشافعي أيضًا لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فيتجدد حق الفسخ، وقيل ليس لها في الموضعين، وهو قول مالك - رحمه الله - لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به، وعلى قول مالك يكون التفريق بينهما بطلقة رجعية فللزوج الرجعة إذا كانت المرأة مدخولاً بها ووجد الزوج يسارًا في العدة يقوم بواجب مثلها عادةً لا دونه وإلا فليس له الرجعة بل لا تصح، وأما على مذهب الشافعي - رحمه الله - فقيل إن الحاكم يطلق عليه طلقة رجعية، فإن راجعها طلق عليه ثانية، فإن راجعها طلق عليه ثالثة وقيل أنه فسخ
وهل لها الفسخ في الحال أو تنتظر ؟ قيل بالأول لأنه فسخ لتعذر العوض فتثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن، وقيل إنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في الغد، ولا يمكن إمهاله أكثر من ذلك لأنه قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة، ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلا يصح بغير الحاكم، وحكى في الهدي عن عمر بن عبد العزيز أن الحاكم يؤجله شهرًا أو شهرين، وحكي عن حماد بن سليمان أنه يؤجله سنة، واتفقوا على أن الإعسار بنفقة الخادم لا يثبت لها حق الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم، والمرأة يمكنها الصبر عنها، وهذا هو المشهور من مذهب مالك
وقد أخذ القانون رقم (25) سنة 1920 بمذهب مالك في هذه المسألة، وحجة الجمهور على ما ذهبوا إليه أن الزوج إذا أعسر بالنفقة فقد عجز عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بالإحسان فإن لم يفعل قام مقامه الحاكم في ذلك لما له من ولاية رفع الظلم، وزاد مالك - رحمه الله - على ذلك أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم أو لكونه غير عدل بل الواحد كافٍ لذلك، واحتجوا أيضًا بما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال (يفرق بينهما). 
32 - وفي هذه المسألة ثلاثة آراء أخرى أذكرها هنا تتميمًا للبحث
( أ ) قال أبو محمد بن حزم في المحلي: إذا عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية كلفت النفقة عليه ولا ترجع بشيء من ذلك عليه إذا أيسر أهـ
ولا يخفي ما في هذا القول من إحكام رابطة المودة والرحمة بين الزوجين حتى لكأنهما شخص واحد
(ب) ما حكوه عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه، وقد استبعد ابن القيم هذا القول كل الاستبعاد، فقال يا لله العجب لأي شيء يسجن ويجمع عليه من عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله سبحانك هذا بهتان عظيم وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا. أهـ
(ج) ما اختاره ابن القيم بعد أن محص كل الآراء قال: والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدمًا لا شيء له أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ، وأن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرًا ثم إصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن أهـ ولعل هذا القول هو أعدل الأقوال
نفقة المعتدة
33 - العدة إما أن تكون من طلاق رجعي أو من طلاق بائن أو من فسخ أو من وفاة زوج
فعلى مذهب أبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - تثبت النفقة لكل معتدة من نكاح صحيح إلا لاثنتين معتدة الوفاة والمعتدة بسبب فرقة أتت من ناحيتها بفعل هو معصية كأن تفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأحد أصول الزوج أو أحد فروعه أو يكون سبب الفرقة ردتها، وفيما عدا هاتين الحالتين فللمعتدة نفقتها ما دامت العدة لا فرق في ذلك بين طلاق رجعي وطلاق بائن وفسخ، وعللوا ذلك بأن النفقة واجبة لها جزاء احتباسها، واحتباسها لا يزال قائمًا بقيام العدة وعلة سقوط نفقة المعتدة بسبب فرقة منها هي معصية عقوبتها على ما صنعت وأما المتوفى زوجها فقد قالوا إن تربصها إنما هو عبادة لحق الشرع لا لحق الزوج، أقول وقد تكون علة ذلك أن الزواج تعاقد شخصي فلا يلزم بأحكامه غير المتعاقدين، وبعد موت الزوج ينتقل ماله إلى غيره من دائنين وموصى لهم وورثة فلم يبقَ لزوجته حق فيه بمقتضى عقد الزواج غير الميراث بحكم الشرع وإنما تجب عليها السكنى والمبيت في البيت الذي كانت تسكنه مع زوجها حتى تنتهي عدتها ولا تخرج منه إلا لعذر على ما هو مبين في موضعه.
34 - وقد حكى أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن عن بعض علماء السلف وجوب النفقة لزوجة المتوفى في تركته وأنها تعتبر من الحقوق المتعلقة بالتركة أهـ. وأقول لا شك إن هذا نظر حسن جدًا وذلك لأنها لما حبست عن الأزواج مدة العدة كان من المناسب جدًا أن ينفق عليها في تلك المدة من مال من احتبست بسببه إذ لا فرق بين حبس وحبس فإن لم يترك مالاً فنفقتها في هذه الحالة على نفسها واجبة عليها إن قدرت عليها أو على أقاربها على ما هو مبين في نفقات الأقارب
35 - ومما تقدم يتبين لك أن نفقة المعتدة الواجبة لها يستمر وجوبها لها ما بقيت العدة لامتناع تخلف المعلول عن علته، لكن قضت المادة السابعة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 بأنه لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق أهـ واعتبروا هذا من باب تخصيص القضاء، وأقول إن هذه تكأة ضعيفة جدًا وتشريع غير متين قد لجأوا إليه أكثر من مرة حتى كادوا يخرجون به عن معنى تخصيص القضاء، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - ومن العجب هنا أنهم يعترفون بالسبب - ولو دلالة لوجوب نفقة العدة وهو قيام العدة - ثم يغضون النظر عن الآثار المترتبة عليه شرعًا وهي من لوازمه حتمًا اعتمادًا على هذا الذي سموه تخصيص القضاء حتى أدى بهم الأمر إلى وضع أحكام تحول بين الأسباب ومسبباتها والعلل ومعلولاتها واللوازم وملزوماتها وهذا مما يأباه الشرع والعقل جميعًا، على أن من راجع كتب الأئمة الأربعة وغيرهم حتى المطبوع منها والمتداول بين أيدينا وجد فيها متسعًا عظيمًا لحل هذا الإشكال وغيره بلا تفكيك ولا اضطراب، والهادي هو الله
36 - وعلى ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وجمهور كبير من الفقهاء أن المعتدة من طلاق رجعي تجب لها النفقة والكسوة والسكنى لقيام السبب الموجب لذلك كالزوجة تمامًا إلا في بعض أشياء استثنوها تعرفها بمراجعة كتبهم بنوها على ما لاحظوه من الفرق بين الزوجة والمعتدة لطلاق رجعي
وأما المبانة (المبتوتة) فلا نفقة لها باتفاق إلا إذا كانت حاملاً واستدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة) - انظر الهدي وكشاف القناع والدراري المضيئة - وقال ابن القيم: إن هذا الحكم مستفاد من كتاب الله عز وجل ومفسر له ثم قال: إن النفقة إنما تكون للزوجة فإذا بانت من زوجها صارت أجنبية حكمها حكم سائر الأجنبيات ولم يبقَ إلا مجرد اعتدادها منه وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة، ولأن النفقة لو وجبت لها لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها زوجها من ماله ولا فرق بينهما البتة فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه وقد تعذر الاستمتاع بها، ولأنه لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة كما يقوله من يوجبها فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه أهـ وهذا مذهب القائلين بأن المبانة إذا كانت حائلاً فلا نفقة لها ولا سكنى، وقد حكاه ابن القيم عن ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت تناظر في ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن علي وأصحابه وسائر أهل الحديث أهـ ووافقهم الإمامان مالك والشافعي في عدم وجوب النفقة لها لكنهما أوجبا لها السكنى، ويقول أبي حنيفة وأصحابه في وجوب النفقة والسكنى للمبانة قال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما -. 
37 - وأقول إن هذه المسألة قد اتسع فيها مجال القول بين الفقهاء اتساعًا كبيرًا جدًا كل يجادل عن رأيه أو مذهب إمامه ويحاول تأييده، والأصل في ذلك حديث فاطمة بنت قيس المروي في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق نص في بعضهما على نفي النفقة والسكنى جميعًا وفي بعضها نص على نفي النفقة فقط، وقد أخذ به بعض الفقهاء وطعن بعضهم فيه من لدن عهد الصحابة فمن بعدهم فليراجع ذلك من شاء في الهداية وفتح القدير والمبسوط والبدائع والتوضيح وعمدة القارئ وتفسير الألوسي وأحكام القرآن للرازي، هذا من جهة، وفتح الباري ونيل الأوطار وتفسير فخر الدين الرازي وزاد المعاد، من ناحية أخرى، والحق أقول إن ابن القيم - رحمه الله - قد تكلم في هذه المسألة بكلام إن لم يكن هو الصواب بعينه فهو أقرب شيء إلى الصواب، وقد أحاط بالمسألة من كل أطرافها ووفى البيان حقه من كل وجه ورد مطاعن الطاعنين بما ليس وراءه قول لقائل (وكل الصيد في جوف الفرا) والله الموفق
38 - وأما المبانة الحامل فقد اتفق الأئمة الثلاثة على أن لها النفقة واستدلوا بقوله تعالى (وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما أبانها زوجها (لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً) ثم اختلفوا في أن النفقة هل وجبت لها بسبب الحمل أو وجبت للحمل ؟ فذهب مالك إلى أنها وجبت للحمل وكذا الشافعي في مذهبه القديم وأحمد في رواية مصححه عنه ولعلها أرجح الروايتين، وذهب الشافعي في الجديد وأحمد في رواية أخرى مصححه أيضًا نص عليها في تصحيح الفروع إلى أن النفقة للحالم بسبب الحمل وقد نشأ عن هذا الخلاف اختلاف في التفريعات يظهر لك بمراجعة كتب هذه المذاهب لا يتسع لا يرادها المقام، وأما السكنى فهي واجبة لها على قول الإمام أحمد وكذا على قول الإمامين مالك والشافعي بالأولى
39 - وأما المتوفى زوجها فليس لها النفقة على قول أصحابنا كما قدمناه، وقد علمت أيضًا مما تقدم ما حكاه أبو بكر الرازي من أن لها النفقة على قول بعض علماء السلف، وأن على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة فلا نفقة لها في تركة زوجها لأن التركة انتقلت إلى الورثة ولا سبب للوجوب عليها ولأن النفقة إنما وجبت للزوجة في مقابلة التمكين من الاستمتاع وقد فات ذلك بموت الزوج ولا تجب لها لأجل الحمل لأن الميت لا يجب عليه شيء لغيره ولأنها لو وجبت للحمل فهي من نفقة القريب على قريبه والموت يسقط ذلك إذا كان واجبًا قبله فلا يجب بعده ابتداءً ولأن الحمل وارث فنفقته من ميراثه هو وأما السكنى فهي واجبة لها على قول مالك ولا سكنى لها على قول أحمد، وللشافعي في ذلك قولان: أظهرهما إن لها السكنى
وقد نص ابن جزي في قوانينه على أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها لا من مال زوجها ولا من حظ الحمل من الميراث، ونص في الإقناع وكشاف القناع على أن الحامل المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من نصيب الحمل من التركة وهذا يدل على ثبوت ملك الحمل من يوم موت مورثه، وإنما بخروجه حيًا يتبين ذلك، ومن هنا يتبين لك الفرق بين مذهب أحمد ومذهب مالك في اعتبار أن النفقة للحمل، وأما على القول الآخر للشافعي فلا تجب النفقة للحمل على أبيه بعد موته أهـ
وسنتكلم في العدد الآتي على باقي أحكام النفقات إن شاء الله 
أحمد إبراهيم 
6 ذي العقدة سنة 1348،
5 إبريل سنة 1930.
________________________________________
[(1)] الخادم واحد الخدم يطلق على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال تقول هذا خادم وهذه خادم
[(2)] تقول أشكيت فلانًا قبلت شكواه وأرضيته، وهذا هو المراد هنا، وله معانٍ أخرى
[(3)] الجهاز بفتح الجيم ما يهيأ ويعد للعروس من فرش وغيره ويقال له الشوار بتثليث الشين ومعناه في اللغة متاع البيت المستحسن ولفظ الجهاز هو المستعمل في كتب الحنفية وأهل القاهرة لا يعرفون غيره وإما الشوار (وكذا الشورة) فهو المستعمل في كتب المالكية وأهل الإسكندرية وكذا أهل الأرياف ويشتقون منه فعلاً فيقولون شورها أي جهزها.
 
الفقه المقارن
(2)
نفقة الأقارب
اختلف العلماء في نفقة الأقارب على خمسة أقوال
40 - الأول: ما عزوه إلى الشعبي - رحمه الله - من أنه لا يجبر أحد على نفقة أحد من أقاربه وإنما ذلك بر وصلة أي فهو مطلوب من جهة الديانة وليس واجبًا من جهة القضاء وقد استبعد ابن القيم - رحمه الله - نسبة هذا القول إلى الشعبي وقال إن الظاهر أنه أراد أن الناس كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغني أن يجبره الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره أهـ أقول: ويؤيده ما حكاه ابن المنذر من إجماع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما واجبة في مال الولد
41 - الثاني: مذهب مالك - رحمه الله - وهو أن نفقة الأقارب الواجبة محصورة في الأبوين وأولاد الصلب ذكورًا وإناثًا ليس إلا.
فيجب على الولد الموسر صغيرًا أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى مسلمًا أو غير مسلم أن ينفق ما فضل عن حاجته وحاجة زوجته أو زوجاته على والديه المعسرين بنفقتهما كلاً أو بعضًا ولو خالفاه في الدين كلاهما أو أحدهما حيث كانا عاجزين عن الكسب فإن قدر عليه أحدهما أو كلاهما أجبر القادر منهما على الكسب على المعتمد من المذهب وقيل لا يشترط عجزهما عن الكسب وعليه اقتصر ابن جزي في قوانينه وهذا القول هو الموافق لمذهب أبي حنيفة - رحمه الله - على ما سيأتي في موضعه وهو الأرفق
وفي منح الجليل: الأب المعسر تجب له النفقة على ولده الموسر ولو كان الأب قادرًا على الكسب وهذا هو قول الباجي ومن وافقه لكن المعتمد ما قاله اللخمي من أنه يجبر على عمل صناعته وهذا هو الظاهر قياسًا على الولد فإنه اشترط في وجوب نفقته على أبيه عجزه عن التكسب بصناعة لا تزري به. أهـ وتمامه فيه. أما إذا كان الولد معسرًا فلا تجب عليه نفقة والديه حتى لو كان قادرًا على التكسب لا يجب عليه التكسب لأجل الإنفاق على أبويه، ويجب على الولد الموسر أيضًا نفقة خادم الوالدين ونفقة خادم زوجة الأب التي هي أهل للإخدام كما يجب عليه إعفاف أبيه بزوجة أو أكثر إن لم تعفه الواحدة، وهل تجب نفقة زوج أمه الفقير عليه ؟ ثلاثة أقوال: ظاهر المدونة أنه لا يجب عليه ذلك لأن نفقة ذلك الزوج الفقير ليست واجبة على زوجته بخلاف نفقة زوجة الأب فافترقا وهذا القول هو المشهور، الثاني أنه يلزمه مطلقًا
الثالث: أنها تزوجته معسرًا فلا نفقة له على ولدها وأن تزوجته موسرًا ثم أعسر لزم ولدها الموسر الإنفاق عليه، وإذا تعدد الأولاد وكانوا جميعًا موسرين فإن النفقة توزع عليهم على حسب اليسار إذا كانوا مختلفين فيه وقيل توزع عليهم على الرؤوس ولا يلتفت إلى تفاوتهم في اليسار وقيل توزع على نسبة الميراث الذكر ضعف الأنثى، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو الأول وهو المشهور فإن كان بعض الأولاد معسرًا وبعضهم موسرًا وجبت النفقة على الموسر منهم لا غير على ما تقدم
42 - وأما أولاد الصلب فإن نفقتهم تجب لهم على أبيهم بشرطين أن يكونوا صغارًا وأن لا يكون لهم مال وقد نصوا على أن الأب المعسر لا يجب عليه أن يتكسب من صناعة أو غيرها لينفق على ولده المعسر ونصوا أيضًا على أن الأم إذا استحقت أجرة على إرضاع ولدها كانت أجرتها في مال الولد الذي ترضعه فإن لم يكن له مال ففي مال أبيه إن كان مليًا فإن لم يكن له مال وجب عليها إرضاع الولد مجانًا بنفسها أو تستأجر له من ترضعه إذا قدرت على ذلك وأقول يؤخذ من هذا أن يسار الأب شرط لوجوب نفقة ولده عليه، قالوا: ويستمر وجوب نفقة الصبي على أبيه حتى يبلغ وأما الصبية فحتى يدخل بها زوجها، على تفصيل لهم في ذلك، فإن بلغ الصبي صحيحًا سقطت نفقته على الأب وإن بلغ مجنونًا أو مريضًا، زمنًا أو أعمى وهو لا يقدر على الكسب لم تسقط نفقته بالبلوغ على المشهور بل تستمر وقيل تنتهي إلى البلوغ، كالصحيح، ولو بلغ صحيحًا فسقطت نفقته ثم طرأ عليه شيء مما ذكر لم تعد النفقة وقيل تعود، وإن طلقت البنت بعد سقوط نفقتها لم تعد على أبيها إلا إذا عادت إليه وهي صغيرة غير بالغة أو كانت بكرًا أو بالغة زمنة، ولا يشترط اتحاد الدين لوجوب النفقة على ما تقدم
والنفقة الواجبة لكل من الوالدين والأولاد سواء أكانت مؤونة أو كسوة أو سكنى تقدر على حسب مال المنفق وعادات البلاد
تنبيه
من له أب وولد فقيران وقدر على نفقة أحدهما فقيل يتحاصان وقيل يقدم الابن وقيل يقدم الأب، وتقدم الأم على الأب والصغير على الكبير، والأنثى على الذكر عند عدم كفاية النفقة إلا لبعضهم دون بعض فلو تساوى الوالدان صغرًا أو كبرًا أو أنوثة تحاصا.
43 - وتسقط نفقة الأولاد والوالدين عن المنفق الموسر بمضي الزمن فإذا مضى زمن والذي يستحق النفقة من هؤلاء يأكل ويشرب عند غير من تجب عليه نفقته فليس له الرجوع عليه بنفقة تلك المدة الماضية لأن نفقة الأقارب إنما شرعت لسد الخلة ودفع الحاجة وقد حصل ذلك بخلاف نفقة الزوجة لأنها في مقابلة الاستمتاع بها فلا يسقطها مضي الزمن، لكن إذا حكم بتلك النفقة قاضٍ يراها أو قام بها شخص غير متبرع وأراد الرجوع فإن النفقة لا تسقط في هاتين المسألتين
هذا ولا تجب نفقة الجد والجدة مطلقًا على ولد ولدهما ولا نفقة الولد على الجد لا فرق في ذلك بين كون الجد لأب أو لأم ولا بين كون الولد ذكرًا أو أنثى بل النفقة محصورة في الأبوين وأولاد الصلب دون سواهم
44 - الثالث مذهب الشافعي - رحمه الله - وهو أوسع من مذهب مالك - رحمه الله - وجملة القول فيه أن القرابة التي تستحق بها النفقة هي قرابة الوالدين وإن علوا وقرابة الأولاد وإن نزلوا فيجب على الولد نفقة أبيه وأمه وجده وجدته من أية جهة كانوا، قال الله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، ومن الإحسان إلى الوالدين أن يقوم الولد بما يحتاجان إليه من نفقة وكسوة وسكني وسائر حاجات المعيشة وقال تعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، ومن المصاحبة بالمعروف مواساتهما والقيام بحاجاتهما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه)، واسم الوالدين يتناول بعمومه الأجداد والجدات.
كذلك يجب على الأب أن ينفق على ولده قال تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فإيجاب الأجرة لإرضاع الأولاد يقتضي إيجاب مؤونتهم وقال تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أوجب سبحانه وتعالى على المولود له وهو الأب رزق الوالدات وكسوتهن فنبه بهذا على وجوب نفقة المولود على أبيه بالأولى، وقال - صلى الله عليه وسلم - من حديث هند المتقدم في الفقرة (16) الذي رواه الشيخان (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وتجب على الأم أيضًا نفقة الولد لأنها إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر فلأن تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى، وكذلك تجب على كل من الأب والأم نفقة ولد الولد وأن سفل لأن اسم الولد يقع عليه ولأن العلاقة بين الإنسان وأصوله من جهة وبينه وبين فروعه من جهة أخرى علاقة البعضية فهو بعض من أصوله، وفروعه بعض منه، وبعض الإنسان كنفسه فكما يجب على الشخص أن ينفق على نفسه يجب عليه أيضًا أن ينفق على بعضه وعلى من هو بعض منه
45 - ولا يشترط في نفقة الأصول على فروعهم ولا في نفقة الفروع على أصولهم اتحاد الدين لعموم الأدلة ولعلة البعضية لكنهم استثنوا المرتد والحربي إذ لا حرمة لهما وكذلك لا يشترط كون المنفق وارثًا للمنفق له لأن تلك النفقة حق وجب بالقرابة المحضة فألغيت معه من أجل ذلك صفات الإرث والذكورة والأنوثة واتحاد الدين إذ انتفاء هذه الصفات لا يقتضي انتفاء القرابة
46 - ويشترط في هذه النفقة أن يكون من تجب عليه موسرًا أو مكتسبًا يفضل عن حاجته ما ينفقه على قريبه وأما من لا يفضل عن نتفقه شيء فلا وجوب عليه لما روى جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ نفسه فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته) قالوا والمراد بالعيال هنا الزوجة فإن لم يكن له فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب لهذا الحديث ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض فقدمت على المواساة ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كما قدمت عليها نفقة نفسه ويشترط فيمن تجب له النفقة أن يكون محتاجًا فإن كان موسرًا فلا يستحق النفقة لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغنٍ عن المواساة، وإن كان معسرًا عاجزًا عن الكسب لعدم البلوغ أو للكبر أو الجنون أو الزمانة أو نحو ذلك استحق النفقة على قريبه لأنه محتاج لعدم المال ولعدم الكسب، وإن كان قادرًا على الكسب للصحة والقوة فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: أنه يستحق لأنه محتاج فاستحق النفقة على ولده ولا يكلف كسبًا لتأكد حرمته ولأن تكليفه الكسب مع كبر سنه ليس من المعاشرة بالمعروفة المأمور بها. ثانيهما: أنه لا يستحق لأن القوة كاليسار ولذا سوى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الزكاة فقال (لا تحل الصدقة لغني ولا الذي مرة قوي) [(4)]، وإن كان من المولودين فمن أصحاب المذهب من قال فيه قولان كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولاً واحدًا لأن حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة، والقول بالتفرقة بين الأصول والفروع هو الأظهر كما نص عليه في التحفة وفيها أيضًا أن القادر على الكسب يكلفه إن كان حلالاً لائقًا به وإلا فلا وأن الصغير إذا أطاق الكسب أو تعلمه ولاق به جاز للولي أن يحمله عليه وينفق عليه منه فإن امتنع أو هرب لزم الولي الإنفاق عليه (انظر التحفة والروض وشرحه). 
وجوب النفقة عند اجتماع الأقارب من جانب المنفق والمنفق عليه
47 - عند اجتماع الأقارب من جانب المنفق قد يشتركون جميعًا في الإنفاق وقد يؤمر به بعضهم دون بعض، وأقول إن الناظر في كتب الشافعية المعتبرة كالمهذب والروض وشرحه والتحفة يرى أنهم اختلفوا في مناط الترجيح فرجعوا فيه مرة إلى قرب القرابة وأخرى إلى الإرث وتارة إلى الذكورية وأخرى إلى التعصيب وقد يرجحون بقوة الدليل، من أجل ذلك تعددت الأقوال واختلفت وجهة النظر في التصحيح اختلافًا بيتًا وهناك جملة ما قالوه في ذلك:
( أ ) إذا كان الأقارب كلهم فروعًا وكانوا جميعًا موسرين فعند الاستواء في القرب والاشتراك في الميراث كابن وبنت تكون النفقة على السواء فعلى الابن نصف النفقة وعلى البنت النصف الآخر ولا عبرة بتفاوت اليسار، وقيل توزع النفقة على قدر الميراث فإن كان أحد الفروع وارثًا والآخر غير وارث كابن ابن وابن بنت وكبنت بنت وبنت ابن قدم الوارث لقوة قرابته فتجب عليه النفقة وحدها، وقيل هما سواء لأن القرابة المجردة عن الإرث موجبة للنفقة، وإن اختلفا في القرب فالنفقة على الأقرب منهما وإن كان أنثى كبنت وابن ابن فالنفقة على البنت وقيل هي على ابن الابن لأن له ولادة وتعصيبًا فيقدم عليها كما يقدم الجد على الأم وعليه اقتصر في المهذب وكابن بنت مع ابن ابن ابن الأصح أن النفقة على ابن البنت وإن لم يكن وارثًا لقرب قرابته (كذا في التحفة)، وإن كان له بنت وابن بنت ففيه قولان أحدهما إن النفقة على البنت لأنها أقرب والثاني أنها على ابن البنت لأنه أقوى وأقدر على النفقة للذكورية (كذا في المهذب). 
(ب) وإذا كان الأقارب كلهم أصولاً وكانوا موسرين جميعًا فإن كان فيهم أب فالنفقة عليه وحده، ففي أب وأم موسرين النفقة على الأب وحده لقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) الآية ولحديث هند المتقدم ولأن الأب ساوى الأم في الولادة وانفرد بالتعصيب فيقدم، وفي أب وحد النفقة على الأب لأنه أحق بالمواساة من وراءه في الدرجة، وعند عدم الأب تجب النفقة على الجد الموسر وإن علا، وبعدهما تجب على الأم وإنما قدم الأب والجد على الأم لأنهما أقدر على القيام بالنفقة منها، فإن اجتمع أجداد وجدات موسرون لزمت الأقرب لقربه ولو لم يدل به الآخر (كذا في الروض وشرحه)، وفي المهذب: إن كان له أم وجد أبو أب وهما موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيبًا فيقدم على الأم كما يقدم الأب عليها وإن كان له أم أم وأبو أم فهما سواء لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب، وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان أحدهما أنهما سواء لتساويهما في الدرجة والثاني أن النفقة على أم الأب لأنها تدلي بالعصبة.
(ج) وإذا كانوا خليطًا من الفروع والأصول وكانوا جميعًا موسرين فعند اجتماع أب وابن النفقة على الأب لأن وجوب النفقة عليه منصوص عليه ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد وقيل أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية كذا في المهذب، وفي الروض وشرحه أنه عند اجتماع الفرع والأصل تلزم النفقة الولد أو ولد الولد وإن نزل أو كان أنثى دون الأم والأب وذلك لأنه أولى بالقيام بشأن أصله لعظيم حرمته أهـ وفي المهذب إن كان له أم وبنت فالنفقة على البنت لأن لها تعصيبًا
48 - وإذا تعدد المحتاجون للنفقة وازدحموا على المنفق الواحد فإن وفى ماله بحاجتهم وجب عليه أن ينفق عليهم جميعًا وإن ضاق عنهم ماله بدأ بنفسه ثم بزوجته ثم بولده الصغير ومثله الكبير العاجز عن الكسب ثم بالأم ثم بالأب وقيل يقدم الأب على الأم وقيل يشتركان (وانظر المهذب) وقيل أيضًا بتقديم الأب على الابن، ثم بالجد ثم بأبي الجد وإن علا، ففي المهذب إن كان لشخص أب وجد محتاجان أو ابن وابن ابن كذلك وهو لا يقدر على كفايتهما جميعًا فقيل يقدم الأب والابن لقرب قرابتهما وقيل إن الأب والجد سواء وكذا الابن وابن الابن لأن النفقة تستحق بالقرابة ولذا لا يسقط أحدهما بالآخر إذا قدر على نفقتهما جميعًا أهـ فإن كان القريب إلا بعد زمنًا قدم على القريب الأقرب لشدة احتياجه، وإن كان الآخذان في درجة واحدة أخذًا على السواء وإن اختلفا في الذكورة والأنوثة كابن وبنت غير أنه يقدم الرضيع والمريض لشدة الحاجة، ولينظر المهذب والروض وشرحه والتحفة.
49 - وإن أعسر الأقرب بالنفقة لزمت إلا بعد ولا رجوع له على الأقرب بما أنفق إذا أيسر.
ونفقة الأقارب تكون على قدر الكفاية لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية، وإن احتاج القريب إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمة أيضًا، وإن كانت له زوجة وجبت لها النفقة أيضًا لأن ذلك من تمام الكفاية وإن كان له أب فقير عاجز عن الكسب واحتاج إلى الإعفاف وجب على الولد إعفافه بزوجة ليست عجوزًا ولا قبيحة.
وإن مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم تصر النفقة عما مضي دينا عليه لأنها وجبت للحاجة وقد زالت الحاجة بالنسبة للزمن الماضي فتسقط نفقته، لكن لو فرضها القاضي أي قدرها وأذن لإنسان أن ينفق على الطفل ما قدره له فإنه إذا أنفق عليه صار دينًا في ذمة من تجب عليه النفقة من أقاربه، وفي هذه المسألة بحث طويل فراجعه في التحفة وشرح الروض وحاشيته
(الرابع مذهب أحمد رحمه الله )، وهو أوسع من مذهب الشافعي، وجملة القول فيه. 50 - إن القرابة التي تستحق بها النفقة هي قرابة الأصول والفروع مطلقًا سواء كانوا وارثين أم غير وارثين موافقين في الدين أم مخالفين على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وكذا تجب على الوارثين من قرابة غير الأصول والفروع لقوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك)، ومن أجل هذا أوجبوا نفقة العتيق المحتاج على مولاه الذي أعتقه وهاك جملة ما قالوه في ذلك
يجب على الولد نفقة والديه وإن علوا ويجب على الوالد نفقة ولده وإن نزل لا فرق في ذلك بين الوارث بفرض أو تعصيب من الفريقين وبين ذي الرحم منهم، ولو كان الأقرب منهم معسرًا وإلا بعد موسرًا وجبت النفقة على ذلك إلا بعد الموسر ولو حجبه الأقرب المعسر كجد موسر مع أب معسر النفقة على الجد وكابن ابن موسر مع ابن معسر النفقة على الابن ولا أثر لكون كل منهما محجوبًا الجد بالأب وابن الابن بالابن وذلك لأن بين كل منهما وبين من تجب له النفقة قرابة قوية توجب العتق ورد الشهادة فأشبه القريب من أجل ذلك.
وكذلك تجب نفقة المحتاج من غير الأصول والفروع على وارثه بفرض أو تعصيب من أقاربه سواء ورثه الآخر أم لا فتجب على الشخص نفقة أخيه وأخته وعمته وبنت أخيه وبنت عمه وكذا على المعتق نفقة عتيقه ومثل المعتق في ذلك عصبته عند موته ومثل العتيق أولاده إذا كان ولاؤهم لمولى أبيهم، والأصل في ذلك قوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) أوجب النفقة على الأب ثم عطف الوارث عليه وذلك يقتضي الاشتراك في الوجوب، وبهذا التفسير فسر الآية الكريمة جمهور السلف، نص على ذلك في شرح الروضة الندية.
51 - ويشترط لوجوب النفقة أن يكون للمنفق فضل مال مما في يده أو من كسبه يزيد عن نفقة نفسه وزوجته ورقيقه لأن ذلك من حاجته فإذا لم يفضل شيء فلا يجب عليه شيء لأن نفقة الأقارب وجبت على سبيل المواساة وهو في هذه الحالة ليس من أهلها، ويشترط فيه أيضًا أن يكون وارثًا للمنفق عليه بفرض أو تعصيب إن كان من غير عمودي النسب وإما فيهما فتجب النفقة ولو كان من ذوي الأرحام أو حجبة معسر.
ويشترط في المنفق عليه أن يكون فقيرًا لا مال له ولا كسب يستغني به عن إنفاق غيره عليه فإن كان موسرًا بمال أو كسب يكفيه فلا نفقة له لفقد شرط استحقاقه للنفقة فإن لم يكفه ما في يده وجب الإكمال له، ويجبر القادر على الكسب من الأقارب على التكسب ولو كان من عمودي النسب ولا تجب نفقته إذا لأن كسبه الذي يستغني به كالمال ومن لا حرفة له يستطيع بها الكسب وكان فقيرًا وجبت نفقته على غيره من أقاربه ولو كان صحيحًا مكلفًا ولو من غير الوالدين فإن كانت له حرفة تقوم ببعض نفقته فعلى قريبة إتمامها له بالمعروف.
ولا يجبر من تجب عليه النفقة أن ينفق من رأس ماله الذي هو أصل بضاعته ولا من ثمن ملكه ولا آلة عمله وذلك لحصول ضرره لو كلف بذلك لفوات ما يحصل منه قوته وقوت زوجته
وجوب النفقة عند الاجتماع
52 - إذا اجتمع من تجب عليهم النفقة وكان فيهم أب موسر وجبت عليه النفقة وحده فإن لم يكن فيهم أب أو كان لكنه فقير وجبت النفقة على غيره على قدر الإرث من المنفق عليه لأن الله تعالى رتب النفقة على الإرث فوجب أن يرتب المقدار عليه، وعلى ذلك إذا اجتمع جد أبو أب وأم فعلى الأم الثلث وعلى الجد الباقي، وفي جدة وأخ شقيق أو أخ لأب على الجدة السدس والباقي على الأخ، وفي أم وبنت على الأم الربع والبنت ثلاثة الأرباع، وهكذا تكون النفقة على نسبة الميراث سواء أكان في المسألة عول أو رد أم لم يكن فيها شيء من ذلك
ثم إن كان في الورثة موسر ومعسر ففي عمودي النسب تجب النفقة على الموسر وحده ولو حجبه المعسر وذلك لقوة القرابة بدليل عدم اشتراط الإرث، وفي غير عمودي النسب تجب النفقة على الموسر بقدر إرثه فقط من غير زيادة وذلك لأن الموسر منهم إنما يجب عليه مع يسار الآخر ذلك القدر فلا يتحمل عن غيره إذا لم يجد الغير ما يجب عليه أقول وعلى هذا اقتصر في المنتهى وكشاف القناع، وقال في الفروع إن هذا هو المذهب ثم حكى قولاً آخر إن الموسر يلزمه الكل ويعتبر المعسر كالمعدوم أهـ.
وإذا كان بعض القرابة وارثًا وبعضهم غير وارث فالنفقة على الوارث إلا إذا كان الوارث معسرًا وكان الموسر في أحد عمودي النسب فإن النفقة تكون حينئذ على الموسر مثال ذلك أم أم وأبو أم النفقة على أم الأم لأنها الوارثة، وفي أم فقيرة وجدة موسرة النفقة على الجدة الموسرة لقوة قرابتها وإن كانت محجوبة بالأم فهي في ذلك كالجد الموسر مع الأب المعسر، وفي ابن فقير وأخ موسر لا نفقة على واحد منهما فإما الابن فلعسرته وأما الأخ فلأنه محجوب بالابن وهو ليس من عمودي النسب، وفي أب وأم وجد وزوجة والأب معسر النفقة على الأم الثلث وعلى الجد الباقي ولا شيء على الزوجة لأنها ليست من الأقارب فلا مدخل في وجوب النفقة عليها بل نفقتها الواجبة لها تابعة لنفقة زوجها المحتاج، وفي أب وأم وأخوين وجد والأب معسر لا شيء على الأخوين لأنهما محجوبان وهما ليسا من عمودي النسب وإنما النفقة على الأم والأب بنسبة الميراث وهكذا، ونقل في كشاف القناع أن على الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار
53 - ثم إن كان لمن تجب عليه النفقة من المال ما يكفي جميع المستحقين لها أنفق عليهم جميعًا بالمعروف وإن لم يفضل عنده ما يكفيهم جميعًا بدأ بنفسه لحديث: (ابدأ بنفسك) فإن فضل عنه شيء أنفق منه على امرأته ثم على رقيقه ثم على الأقرب فالأقرب لأن النفقة صلة وبر ومن قرب أولى بالبر ممن بعد وعلى ذلك يقدم الأب على الجد والابن على ابن الابن وأبو الأب على أبي الأم لامتيازه بالعصوبة ويقدم الأب على الأم لفضيلته وانفراده بالولاية ويقدم الابن على الوالدين لوجوب نفقته بالنص وقيل يقدم الأحوج من هؤلاء لشدة حاجته وهذا هو الأرفق
54 - ويلزم المنفق خدمة قريبه الذي وجبت نفقته عليه إن احتاج إلى ذلك إما بنفسه أو بغيره لأن ذلك من تمام كفايته، ويلزمه نفقة زوجة من تلزمه نفقته ويلزمه إعفافه لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع وغيرهم ممن تجب نفقتهم فإن شاء زوجة بمن تعفه أو أعطاه ما لا يتزوج به
ومن ترك النفقة الواجبة عليه مدة من الزمن لم يلزمه عوضها لأن نفقة القريب وجبت لدفع حاجته وإحياء نفسه وقد حصل ذلك في الماضي بدونها وقيل أن فرضها حاكم تأكدت بفرضه فلا تسقط وقيل لا تلزم إلا إذا استدانها عليه بأمر الحاكم، وأقول إن الخلاف الذي حكوه هنا نظير الخلاف الذي حكاه الشافعية في كتبهم في هذه المسألة
هذا وفي كتب مذهب الإمام أحمد آراء كثيرة جدًا في نفقات الأقارب وعلى من تجب ولمن تجب وتفاصيل عدة ومن ضمن هذه الآراء رأي يوجب النفقة لجميع ذوي الأرحام وقد انتصر له ابن القيم - رحمه الله - وهاك خلاصة ما قاله
55 - إن وجوب النفقة على ذوي الأرحام هو الصحيح في الدليل وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشرع وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل وحرم الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقة تستحق بشيئين بالميراث بكتاب الله وبالرحم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حبس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عصبة صبي أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمه وقال زيد بن ثابت - رضي الله عنه - إذا كان عم وأم فعلى العم بقدر ميراثه وعلى الأم بقدر ميراثها ولا مخالف لهما من الصحابة في ذلك وهو قول جمهور السلف وعليه يدل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقه) وقوله تعالى (وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى)، وقد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - العطية للأقارب وصرح بأنسابهم فقال (وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك بحق واجب ورحم موصولة) لا يقال المراد بذلك البر والصلة دون الوجوب لأن الله سبحانه وتعالى سماه حقًا وأضافه إليه بقوله (حقه)، ولا يقال إن المراد بحقه ترك قطيعته لأن المراد بالقطيعة التي يجب تركها إن كانت هي القدر المشترك بين ذوي الأرحام والأجانب من السلام عليه إذا لقيه، وعيادته إذا مرض وتشميته إذا عطس، وأجابته إذا دعاه، ومواساته بماله على طريق المعاوضة حتى يوسر إذا كان المراد بترك القطيعة ما ذكر وأشباهه فما خصوصية صلة الرحم الواجبة له إذا وهو الأجنبي في كل صلة مشتركان على السواء ؟ وقد نادت النصوص بصلة ذي الرحم وبالغت في إيجابها وذمت قاطعها فلا بد أن تكون قدرًا زائدًا على حق الأجنبي، ثم أي قطيعة أعظم من أن يرى الإنسان قريبة يتلظى جوعًا وعطشًا ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد وهو لا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف وهو أخوه وابن أمه وأبيه أو عمه صنو أبيه أو خالته التي هي أمه، وبالجملة فلا تتحقق هذه الصلة إلا بمواساة ذي الرحم مواساة ممتازة على مواساة الأجنبي كما لا يخفى وإلا كانت النصوص الخاصة بذلك كلامًا ضائعًا ومحال أن تكون كذلك وقد قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق الأخ والأخت بالأب والأم فقال (أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك) فما الذي نسخ هذا وما الذي جعل أوله للوجوب وآخره للاستحباب أهـ
56 - وأقول إن الناظر في هذا الكلام يجده صوابًا وقد جمع فيه بين المشهور من مذهب الإمام أحمد في إيجاب النفقة على الوارث من غير الأصول والفروع ومذهب الإمام أبي حنيفة من إيجابها على الرحم المحرم ولو لم يكن وارثًا، وإذا يصح أن يكون قولاً سادسًا في المسألة وهو أوسع الأقوال كلها وأرفقها
- الخامس مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وهو المذهب الذي عليه العمل في محاكمنا الشرعية الآن، وجملة القول فيه
57 - إن القرابة التي تجب بسببها النفقة هي قرابة الأصول والفروع وقرابة غيرهم من كل ذي رحم محرم فقط فإن لم يكن محرمًا فلا نفقة لغيره عليه ولو كان وارثًا كابن العم، فمناط النفقة في غير الأصول والفروع القرابة المحرمية دون الإرث فيكون بين هذا المذهب وما تقدم من مذهب الإمام أحمد عموم وخصوص من وجه ولا يشترط اتحاد الدين إلا في غير الأصول والفروع
ما يشترط في كل من المنفق والمنفق عليه لوجوب النفقة
( أ ) أما بالنسبة للأب فعلى التفصيل الآتي
58 - إن كان الأب غنيًا أو كسوبًا وله أولاد فقراء عاجزون عن الكسب لصغر أو أنوثة أو مرض كعمى وشلل وذهاب عقل وجب عليه الإنفاق عليهم بما يسد حاجاتهم بالمعروف ولو قدر أحدهم على اكتساب كل ما يقوم بحاجته سقطت نفقته عن أبيه فإن قدر بكسبه على دفع بعض حاجته فعلى الأب إتمام كفايته، وكذا إذا كان الولد من أبناء البيوتات ذات الشرف الذين لا يجدون من يستأجرهم أو يتعيرون بالاستئجار و من طلبه العلم الراشدين وهو لا يهتدي إلى وجوه الكسب
ثم إن كان الولد أنثى استمرت لها النفقة الواجبة لها على أبيها حتى تتزوج فإذا تزوجت ثم طلقت وانتهت عدتها عادت نفقتها على الأب إذ لا منفق عليها غيره، وليس للأب أن يجبرها على التكسب بخدمة أو حرفة كخياطة وتطريز وغزل ونحو ذلك، لكن لو دفعها إلى امرأة لتعلمها حرفة تستعين بها على حاجات المعيشة كان له ذلك ما دام العمل الذي تتعلمه جائزًا لها تعلمه شرعًا، حتى إذا استغنت بعملها كانت نفقتها في كسبها فإن لم يكفها كسبها وجب على الأب دفع القدر الذي عجزت عنه
وأما الصبي فإن نفقته تجب له على أبيه حتى يبلغ حد الكسب وإن لم يبلغ الحلم، وفي هذه الحالة يكون للأب أن يؤاجره وينفق عليه من أجرته بخلاف الأنثى كما تقدم فإن كان الأب مبذرًا فإن كسب الابن يدفع إلى أمين كما هو الشأن في سائر أمواله.
وإن كان للأولاد مال حاضر أنفق عليهم من مالهم فإن كان المال غائبًا وجب على الأب أن ينفق عليهم من ماله فإن أراد أن يرجع في مالهم استأذن القاضي في الإنفاق عليهم فلو أنفق عليهم بلا أمره ليس له الرجوع عليهم قضاء إلا أن يكون قد أشهد أنه أنفق ليرجع فلو لم يشهد لكنه أنفق بنية الرجوع لم يكن له أن يرجع عليهم في القضاء وأما فيما بينه وبين الله فإنه يحل له أن يرجع بما أنفقه عليهم في مالهم.
تنبيه:
وجوب النفقة على الأب وحده فيما تقدم هو ظاهر الرواية وبه يفتي وعن الإمام أن نفقة الولد الكبير على الأب والأم أثلاثًا أما الصغير فعلى أبيه خاصة بلا خلاف، وقيل في الفرق بينهما أنه اجتمع للأب في الصغير ولاية ومؤونة حتى وجبت عليه صدقة فطره فاختص بلزوم نفقته عليه والكبير ليس كذلك لانعدام الولاية فيتساوى هو والأم بالنسبة له فتكون نفقته عليهما بنسبة الميراث
59 - وإن كان الأب فقيرًا عاجزًا عن الكسب لزمانه ونحوها ألحق بالموتى في حق إيجاب النفقة عليه قولاً واحدًا وحينئذ تجب نفقته هو على أبيه الموسر وهو الجد وكذا نفقة أولاده المستحقين للنفقة أو تجب على غير الجد عند عدمه، على البيان الآتي
وإن كان معسرًا غير عاجز عن الكسب لكن لم يتيسر له الكسب فقيل يعتبر كالميت كذلك وصححه في الذخيرة وقال إنه المذهب، وقيل إن النفقة لا تسقط عنه بل تجب عليه وإنما تؤمر الأم الموسرة أو الجد الموسر أو غيرهما بالإنفاق على الأولاد لتكون النفقة دينًا على الأب يرجع عليه به إذا أيسر وهذه هي رواية القدوري التي اختارها أصحاب المتون والشروح على خلاف ما صححه في الذخيرة وبها يستقيم قولهم إن الأب لا يشاركه في نفقة أولاده أحد اللهم إلا إذا كان فقيرًا زمنًا فإنه يلحق بالموتى باتفاق في حق النفقة وينتقل وجوب نفقته ونفقة أولاده إلى غيره انظر الدر ورد المحتار وتنقيح الحامدية.
(ب) وأما بالنسبة لغير الأب:
60 - فجملة القول في النفقة الواجبة للأصول أنها لا تجب على الفرع إلا إذا كان موسرًا بأن كان يملك نصابًا ولو غير تام فاضل عن حوائجه الأصلية على قول أبي يوسف أو كان كسوبًا يفضل من كسبه شيء بعد نفقته ونفقة عياله على ما روي عن محمد، وقال في الهداية إن الفتوى على قول أبي يوسف ووافق صاحب الهداية غير واحد من كبار المشايخ لكن قال في الفتح إن كان كسوبًا يعتبر قول محمد وهذا يجب أن يعول عليه في الفتوى وفي البدائع أنه الأرفق [(5)]
لكن إذا كان الأصل زمنًا لا كسب له فلا يشترط سوى قدرة الولد على الكسب فإن كان لكسبه فضل أجبر على إنفاق الفاضل وإن لم يكن له فضل فإن كان الولد في معيشته وحده أمر ديانة بضم الأصل إليه، وإن كان له عيال يجبر في الحكم على ضمه إليه، وعللوا ذلك بأن إدخال الواحد في طعام الواحد يضره لمناصفته إياه بخلاف دخول الواحد في طعام الأربعة مثلاً فإن الضرر أخف كما لا يخفى، والأم مثل الأب الزمن لأن الأنوثة بمجردها عجز
وأما النفقة الواجبة لذوي الأراحم بعضهم على بعض من غير الأصول والفروع فإنه يشترط في المنفق اليسار على الخلاف المتقدم أما إذا لم يكن غنيًا أو لم يفضل من كسبه شيء عن حاجته وحاجة عياله فلا يجب عليه شيء لغيره من أقاربه المحارم غير الأصول والفروع لأن قرابتهم ليست في قوة قرابة أولئك
61 - ويشترط في المنفق عليه إن كان من الأصول أن يكون فقيرًا ولا يشترط عجزه عن الكسب لا فرق في ذلك بين أب وجد وهذا هو الراجح نص عليه في الكافي واختاره السرخسي وقد تقدم المعنى في ذلك والأم والجدات بالأولى لمكان الأنوثة وقال الإمام الحلواني لا يجبر الولد على نفقة أبيه إذا كان الأب كسوبًا لأنه يعتبر غنيًا بقدرته على الكسب أهـ وأما في غير الأصول فيشترط مع الفقر والعجز عن الكسب قولاً واحدًا بسبب صغر أو أنوثة أو زمانة على ما تقدم، يستوي في ذلك الفروع والحواشي من المحارم
وقد علمت مما تقدم أن اتحاد الدين ليس بشرط في الأصول والفروع وإنما هو شرط في الحواشي لأن نفقتهم مبنية على الإرث الحقيقي بالفرض أو التعصيب أو على أهلية الإرث من حيث هم ذوو أرحام بعد كونهم من المحارم
وجوب النفقة عند اجتماع من تجب عليهم وكلهم موسرون
62 - سأذكر هنا التقسيم البديع الذي وضعه العلامة ابن عابدين في ذلك وهاك خلاصته
الذين تجب عليهم النفقة لغيرهم: إما أن يكونوا كلهم فروعًا أو كلهم أصولاً أو خليطًا من الأصول والفروع أو من الأصول والحواشي أو من الفروع والحواشي أو من الأصناف الثلاثة أو من الحواشي فقط فالأقسام سبعة
القسم الأول: الفروع فقط - والمعتبر فيهم القرب والجزئية أي القرب بعد الجزئية دون الميراث [(6)] ففي ولدين لمسلم فقير أحدهما غير مسلم أو أنثى تجب نفقته عليهما بالسوية وذلك لتساويهما في القرب والجزئية وإن اختلفا في الإرث، وفي ابن وابن ابن على الابن فقط لقربه وكذا في بنت وابن ابن تجب على البنت وحدها لقربها وفي ابن ابن وبنت بنت النفقة عليهما على السواء (وانظر الأصل).
القسم الثاني: الفروع مع الحواشي - والمراد بالحواشي الأقارب المحارم من غير عمودي النسب، والمعتبر فيه أيضًا القرب والجزئية دون الإرث وفي هذه الحالة تكون النفقة على الفروع وحدهم دون الحواشي لقوة قرابة الفروع وكونهم بعضًا ممن تجب له النفقة ففي بنت وأخت شقيقة على البنت فقط وإن شاركتها الأخت في الميراث، وفي ابن على غير دين أبيه وأخ موافق له في الدين على الابن فقط دون الأخ، وفي ابن بنت وأخ شقيق على ابن البنت، وفي بنت ومولى عتاقة على البنت فقط، وبالجملة فلا عبرة للإرث في هذا القسم أيضًا
القسم الثالث: الفروع مع الأصول - والمعتبر فيه الأقرب جزئية فإن لم يوجد اعتبر الترجيح فإن لم يوجد اعتبر الإرث، ففي أب وابن تجب على الابن لترجحه بـ (أنت ومالك لأبيك) [(7)] ومثله أم وابن لقول المتون (لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد)، وفي جد وابن ابن على قدر الميراث وذلك للتساوي في القرب والاشتراك في الإرث وعدم المرجح لأحدهما على الآخر، وعلى هذا لو له أب وابن ابن أو أب وبنت بنت النفقة على الأب وحده لأنه أقرب في الجزئية فانتفى التساوي ووجد القرب المرجح
القسم الرابع: الفروع مع الأصول والحواشي - وحكم هذا القسم كالقسم الثالث لأن الحواشي تسقط مع الفروع كما تقدم فكأنه لم يوجد سوى الأصول والفروع
القسم الخامس: الأصول فقط - فإن كان معهم أب فالنفقة عليه وحده لقول المتون (لا يشارك الأب في نفقة ولده أحد)، وإن لم يكن معهم أب فأما أن يكون بعضهم وارثًا وبعضهم غير وارث أو كلهم وارثين ففي الأول يعتبر الأقرب جزئية فلوله أم وجد لأم النفقة على الأم لقربها وكذا في أم وأم أب وفي أبي أم وأبي أبي أب على أبي الأم لكونه أقرب، والأصل أنه إذا اجتمع أجداد وجدات فالنفقة واجبة على الأقرب ولو لم يدل به الآخر، فإن تساووا في القرب ترجح الوارث ففي أبي أم وأبي أب تجب النفقة على أبي الأب وحده اعتبارًا للإرث، وفي الثاني النفقة عليهم بنسبة الميراث ففي أم وجد لأب تجب عليهما أثلاثًا وذلك لأنهما استويا في استحقاق الميراث وترجح كل منهما على الآخر من جهة فالأم ترجحت بالقرب والجد ترجح بكونه أبا أب والرجال أحق بالإنفاق لكونهم قوامين على النساء فتعارض المرجحان فاعتبرنا جانب الإرث (انظر التقرير).
القسم السادس: الأصول مع الحواشي فإن كان أحد الصنفين غير وارث اعتبر الأصول وحدهم ترجيحًا للجزئية ولا مشاركة في الإرث حتى يعتبر فيقدم الأصل سواء أكان هو الوارث أم كان الوارث الصنف الآخر ففي جد لأب وأخ شقيق النفقة على الجد وفي جد لأم وعم عصبي تجب على الحد لأم، وإن كان كل من الصنفين وارثًا اعتبر الإرث ففي أم وأخ عصبي أو ابن أخ كذلك أو عم كذلك على الأم الثلث وعلى العصبة الباقي وهو الثلثان.
ثم إن تعدد الأصول في هذا القسم يعتبر فيهم ما اعتبر في القسم الخامس ففي جد لأب وأخ شقيق وجد لأم النفقة على الجد لأب لترجحه بالإرث مع تساويه هو والجد لأم في الجزئية والقرب وفي جد لأم وعم عصبي وأم تقدم الأم على الجد لأم بترجحها بالإرث وبالقرب، وفي أم وجد لأب وأخ عصبي النفقة كلها على الجد لأب وحده وذلك لأنه لما حجب الأخ العصبي كان بمنزلة الأب فيكون له حكمه وإذا لا تشاركه الأم في هذه النفقة في هذه الحالة وهذا بخلاف ما لو كان للفقير أم وجد فقط فإن الجد لم ينزل منزلة الأب فلهذا وجبت النفقة عليهما أثلاثًا في ظاهر الرواية، وانظر ما كتبه في التقرير تعليقًا على ذلك
ملاحظة أقول: يؤخذ مما تقدم أنه عند اجتماع عم وأم النفقة عليهما أثلاثًا، وفي أم وجد لأم النفقة على الأم وحدها وفي عم وجد لام النفقة على الجد لأم وحده، إذا تقرر هذا فاعلم أنه قد أورد إشكال على هذا حاصله أن في الصورة الثالثة قدم الجد لأم على العم وفي الصورة الثانية قدمت الأم على الجد لأم فيلزم تقديمها على العم بالضرورة فكيف تشاركه في النفقة في الصورة الأولى وهي مقدمة عليه ؟ هذا تناقض: وأجيب عن هذا بأن الإرث إنما لا يعتبر في نفقة الأصول الواجبة لهم على الفروع أما في غيرها من النفقة الواجبة للفروع ولذوي الأرحام فللإرث اعتبار فيها على التفصيل المبين في ضابط النفقات وحينئذٍ فما ذكر في المسألة الثانية من تقديم الأم على الجد لأم هو لكونها أقرب في الجزئية مع عدم المشاركة في الإرث وأما في المسألة الثالثة في تقديم أبي الأم على العم فهو لاختصاصه بالجزئية مع عدم المشاركة في الإرث أيضًا، وما ذكر في المسألة الأولى من اشتراك الأم والعم في النفقة فهو لكون كل منهما وارثًا، فكانت على قدر الميراث، فجهات التقديم في إيجاب النفقة أو المشاركة فيها مختلفة وإذا فلا تناقص
وقد تفرع مما تقدم فرع أشكل الحكم فيه وهو ما إذا كان للمحتاج أم وعم وأبو أم وكلهم موسرون واحتمل أن تكون النفقة على الأم وحدها لأن أبا الأم لما كان أولى من العم والأم أولى من أبيها كانت الأم أولى من العم ويحتمل أن تكون على الأم والعم أثلاثًا لأن محمدًا نص في الكتاب على وجوب النفقة على الأم والعم أثلاثًا كلهم ويؤخذ من نصه هذا أن المعتبر هنا هو الإرث أيضًا فيسقط أبو الأم في هذه المسألة المشكلة وهو الصواب وبهذا أجاب جمع من المشايخ النابهين (انظر رد المحتار) لكن نقل في التقرير أن النفقة يجب أن تكون على الأم وحدها لأنها أولى من أبيها لكونها أقرب منه وأولى من العم أيضًا للقرب والجزئية وأن الاعتبار يجب أن يكون للقرب والجزئية لا للإرث وهذا هو المعول عليه في المذهب، وأما جواب الكتاب كتاب المبسوط لمحمد فإنه يترك لكونه أول كتبه تأليفًا فإذا عارضه ما جاء في التأليف بعده رجح عليه لأن القول الأخير هو الذي استقر عليه رأي المجتهد أهـ ملخصًا
القسم السابع: الحواشي فقط - والمعتبر فيه الإرث بعد كونه ذا رحم محرم وأما غير المحرم فلا نفقة عليه ولو كان وارثًا كابن العم وأقول: إذا اجتمع ذوو الأرحام المحارم وكانوا جميعًا موسرين فإما أن يكونوا كلهم وارثين بالفرض أو بالتعصيب أو بهما جميعًا وفي هذه الحالة تكون النفقة عليهم بنسبة أنصبائهم من الميراث وكذا الحكم إن كانوا كلهم وارثين بالرحم، ففي أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم النفقة عليهن أخماسًا، وفي أخت شقيقة وأخ لأب وأخ لأم على الأخت النصف وعلى الأخ لأب وأخ لأم على الأخت النصف وعلى الأخ لأب الثلث وعلى الأخ لأم السدس وفي ثلاثة أعمام أشقاء النفقة عليهم أثلاثًا، وفي أخ شقيق وأخوين لأب وأخ لأم على الشقيق خمسة أسداس وعلى الأخ لأم السدس ولا شيء على الأخوين لأب لكونهما محجوبين بالأخ الشقيق، وفي عمة شقيقة وخالٍ على العمة الثلثان وعلى الخال الثلث وفي بنت أخت لأب وبنت أخت لأم على الأولى ثلاثة أرباع وعلى الثانية الربع وهكذا
وإن كان بعضهم يرث بالفرض أو التعصيب وبعضهم يرث بالرحم فقط فالنفقة على الأول لأنه هو الوارث الحقيقي ففي أخ لأم وخال على الأخ لأم كل النفقة وفي عم لأب وعمين لأم على العم لأب وحده وهكذا
والحاصل أن أهلية الإرث مع المحرمين أرجح من حقيقة الإرث مع عدم المحرمية ففي خال وابن عم شقيق النفقة على الخال وإن كان الميراث لابن العم ترجيحًا لجانب المحرمية، فإن اجتمعت حقيقة الإرث مع المحرمية رجحت على أهلية الإرث كما في عم عاصب وخال: النفقة على الأول وكذا في عم وعمة شقيقين أو لأب النفقة على العم
63 - فإذا كان بعض من تجب عليهم النفقة موسرًا وبعضهم معسرًا فإنه ينظر إلى المعسر فإن كان يحرز كل الميراث يجعل كالمعدوم ثم ينظر إلى ورثة من تجب له النفقة فتجعل النفقة عليهم على قدر مواريثهم بملاحظة الضابط المتقدم، وإن كان المعسر لا يحرز كل الميراث تقسم النفقة عليه وعلى من يرث معه فيعتبر المعسر لإظهار قدر ما يجب على الموسرين ثم يجعل كل النفقة على الموسرين على اعتبار ذلك.
مثال أول
ابن معسر وأخت شقيقة وأختان لأم موسرات - الابن المعسر يجعل كالميت لأنه يحرز كل الميراث ثم تكلف الأخت الشقيقة بنصف النفقة والأختان لأب بسدسها والأختان لأم بثلثها
مثال ثانٍ
أم وأخت شقيقة موسرتان وأخت لأب وأخت لأم معسرتان فالنفقة ربعها على الأم وثلاثة أرباعها على الشقيقة وهكذا، انظر رد المحتار وتنقيح الحامدية والخانية.
أقول: قولهم في الأصل المار إذا كان المعسر يحرز كل الميراث يجعل كالمعدوم ليس على إطلاقه بل هو مقيد بمن سوى الأب الفقير غير الزمن لأن النفقة واجبة عليه على ما اختاره أصحاب المتون والشروح؛ وإنما يؤمر غيره بالإنفاق ليرجع عليه وأما على ما قاله في الذخيرة من أن الأب الفقير غير العاجز عن الكسب يجعل كالميت وتفرض النفقة على غيره فلا استثناء من هذا الأصل لكن الراجح الأول كما قدمنا في الفقرة (59) لأن عليه المتون والشروح وانظر تنقيح الحامدية
توابع النفقة
64 - إذا احتاج الأب أو الابن إلى خادم وجبت نفقة ذلك الخادم على الابن في الحالة الأولى وعلى الأب في الحالة الثانية تبعًا لنفقة المخدوم وإذا لم يحتج أحدهما إلى الخادم فلا تجب نفقته (رد المحتار). 
وعلى الولد الموسر أن ينفق على زوجة أبيه إن احتاج الأب إلى تلك الزوجة كأن يكون مريضًا أو به زمانة وقيل تجب نفقتها مطلقًا وهو رواية عن أبي يوسف، ولو كان للأب أكثر من زوجة فعلى ولده نفقة زوجة واحدة فقط، وأما الابن الفقير فلا تجب نفقة زوجته على أبيه مطلقًا إلا إذا ضمنها فإنها تجب عليه حينئذ بحكم الضمان، وحكى في المختار والملتقى أن نفقة زوجة الابن واجبة على أبيه إذا كان صغيرًا فقيرًا أو كبيرًا زمنًا لا مال له، وقال في رد المحتار إن هذا خلاف المذهب وانظر تنقيح الحامدية، وفيها عن الخانية: إذا كانت زوجة الابن الصغير الفقير كبيرة تستحق النفقة فإن أباه يستدين لنفقتها ثم يرجع على ابنه إذا أيسر. أهـ
ونقل في الدر المختار عن واقعات المفتين لقدري أفندي أن الأب يجبر على نفقة امرأة ابنه الغائب وولدها وكذا الأم على نفقة الولد لترجع بها على الأب وكذا الابن على نفقة الأم ليرجع على زوج أمه وكذا الأخ على نفقة أولاد أخيه ليرجع بها على الأب وكذا الأبعد إذا غاب الأقرب
وقال في الحاشية إن هذه العبارة في القنية والمجتبي وأن المذهب عدم وجوب النفقة لزوجة الابن ولو صغيرًا فقيرًا فلو كان كبيرًا غائبًا بالأولى، إلا أن يحمل على أن الوجوب هنا بمعنى أن الأب يؤمر بالإنفاق عليها ليرجع بها على الابن إذا حضر، لكن تقدم أن زوجة الغائب يفرض القاضي لها النفقة على زوجها ويأمرها بالاستدانة وأنه تجب الإدانة على من تجب عليه نفقتها أهـ، وهذه ملاحظة في محلها فهل في المسألة قولان ؟
وأقول ما ذكره من حمل الوجوب على الأمر بالإنفاق الخ يوافق ما حكاه في الحامدية عن الخانية
تنبيه: إذا لم يقدر الولد إلا على نفقة أحد والديه فقيل أن الأم أحق لأنها لا تقدر على الكسب وقيل الأب أولى لأنه هو الذي يجب عليه نفقة الابن في صغره دون الأم وقيل يقسمها بينهما، ولو كان له أب وطفل فالطفل أحق لشدة حاجته وقيل يقسمها بينهما (الدر ورد المحتار). 
أقول محل ما تقدم كما لا يخفى إذا لم تكن نفقة الأم واجبة على زوج لها سواء أكان الزوج أبا ولدها أم غيره أما إذا كان لها زوج فنفقتها واجبة لها على زوجها فإن كان معسرًا فإن القاضي يأمرها بالاستدانة على ما تقدم هذا - وكل من احتاج إلى النفقة لفقره وعجزه عن الكسب وليس له من تجب نفقته عليه ويستطيع القيام بحاجته فإن نفقته تكون واجبة له في بيت المال
متى يتوقف وجوب النفقة على القضاء
65 - نفقة الأصول الواجبة لهم على الفروع ونفقة الفروع الواجبة لهم على الأصول لا تتوقف على القضاء كنفقة الزوجة وأما نفقة غير هؤلاء من الأقارب المحارم فإن وجوبها يتوقف على القضاء لاختلاف الفقهاء في وجوبها، وعلى ذلك فكل من قدر من الأصول والفروع والزوجة على مال من جنس النفقة الواجبة له جاز له أن ينفقه على نفسه بالمعروف ما دام محتاجًا إليه، ويجوز القضاء لهؤلاء بالنفقة ولو لم يكن المقضي عليه حاضرًا لأن القضاء لهم في هذه الحالة من قبيل الإعانة والفتوى على ما قالوا، وكذلك الشأن في المذاهب الأخرى والمجال فيها أوسع لجواز الحكم فيها على الغائب مطلقًا ولجواز بيع منقولة وعقاره لأجل النفقة ووفاء الديون مما لا يتسع المقام لا يراده هنا
سقوط نفقة ما مضى من الزمن
66 - النفقة المفروضة للأقارب بسبب القرابة تسقط بمضي شهر لأن الشهر آجل وما دونه عاجل ما لم تكن مستدانة بأمر الحاكم فإنها في هذه الحالة لا تسقط بل تكون دينًا واجب الأداء على من وجبت عليه حتى إذا مات أخذت من تركته غير أنهم استثنوا من سقوط نفقة القريب نفقة الصغير المفروضة له بقضاء القاضي فنصوا على أنها لا تسقط بمضي شهر ولا بغيره كنفقة الزوجة المقضي بها تمامًا رفقًا به، وفي رد المحتار بحث متين في هذه المسألة وفي التقرير تعليق عليه لكنه دونه في القوة فراجعهما
النفقة في المذاهب الأخرى المعمول بها الآن
67 - وقد كنت أود أن أذكر بتفصيل أحكام المذاهب الثلاثة الأخرى المعمول بها إلى الآن في بعض البلاد والممالك الإسلامية وهي مذهب الأباضية في إمامة مسقط وغيرها ومذهب الزيدية في اليمن ومذهب الأمامية في بلاد فارس، غير أني وجدت أحكام النفقات في هذه المذاهب الثلاثة لم تخرج عن الأحكام المذكورة في كتب أئمة أهل السنة الأربعة المتقدمة وتكاد تكون الملاحظات واحدة والأدلة هي هي، وقد وجدت في كتاب المبسوط لشيخ الإمامية في القرن الرابع من الهجرة أبي جعفر محمد ابن الحسن الطوسي استنباطات لطيفة في الاستدلال وبسطًا في الأحكام وتفصيلاتها وحكاية الخلافات المذهبية وتعرضه للترجيح والاختيار مع حسن العبارة ومتانتها، وكنت أستعرض ما فيه من أحكام النفقات وكأني أقرأ في كتب الشافعية أو المالكية وأخرى كنت كأني أنظر في كتب الحنفية ولم أجد فيه شيئًا خارجًا عما في تلك المذاهب وإن اختلف التعبير عن المعنى في بعض المواضع مما يدل على الاستقلال في تأدية العبارة وتصوير المعاني، كذلك كتاب شرح الأزهار على المنتزع المختار في فقه الزيدية المطبوع في مصر سنة 1340 هجرية في أربعة مجلدات كبيرة مع حواشيها غير أني وجدت فيه ثلاث مسائل تستوقف النظر لمخالفتها لما ذهب إليه الجمهور
الأولى: إن معتدة الوفاة تستحق النفقة على زوجها المتوفى وتعتبر نفقتها دينًا عليه في تركته لأنها محبوسة بسببه، وأما عند الإمامية فلا نفقة لها قولاً واحدًا لكن قال الطوسي في مبسوطه ما نصه: وحكى عن بعض الصحابة أن المتوفى زوجها إن كانت حاملاً كان لها النفقة ثم قال: وروى أصحابنا أن لها النفقة إن كانت حاملاً من نصيب ولدها الذي في بطنها أهـ
وقد قدمت عن أبي بكر الرازي نظير هذا في نفقة العدة وانظر أيضًا ما تقدم في مذهب الإمام أحمد في ذلك
الثانية: أنه يجوز أن يكون الزوج أو الزوجة حملاً لما يوضع فإذا مات الموجود منهما قبل أن تضع الآخر أمه فإنه يثبت التوارث بينهما وتجب على الزوجة العدة بموت زوجها من يوم أن تضعها أمها
الثالثة: أن نفقة الولد غير العاقل لصغر أو جنون واجبة له على أبيه الموسر بماله أو بكسبه ولو كان الولد غنيًا، وهذا كما لا يخفى مخالف لما أجمع عليه الفقهاء من أن نفقة الغني إنما تكون في ماله ولم يستثنوا من ذلك إلا الزوجة فإن نفقتها واجبة لها على زوجها ولو كانت غنية
68 - ومما تقدم في نفقة الزوجة ونفقة الأقارب ترى أن الفقهاء اختلفوا اختلافًا بينًا في مواضع كثيرة وسبب هذا الاختلاف إما مرونة النصوص واتساعها للتأويل وإما تسليم بعضهم ببعض الأدلة وعدم قبول آخرين لتلك الأدلة كما في حديث فاطمة بنت قيس وإما اختلاف وجهة النظر في تقرير الأحكام الاجتهادية والترجيح عند تعارض الأدلة
وبالجملة فليس في الموضوع كله نص قطعي إلا في بعض الأصول العامة
وبعد فجزى الله الفقهاء جميعًا خير الجزاء فقد ذللوا الصعاب بما بذلوه من الجهد في استنباط أحكام النفقات شأنهم في كل الأحكام الاجتهادية حتى أتوا لنا بتلك الثروة العظيمة التي يغبطنا عليها كل فقهاء التشريع الوضعي الحديث، وذلك النظام البديع الذي لم يسبقوا إليه بل اقتبسه غيرهم عنهم، وقد مهدوا بصنيعهم هذا السبيل لمن يريد أن يقتبس من الأحكام التي قرروها للنفقات وغيرها باجتهادهم ما يكون أشد ملاءمة لحالتنا الحاضرة وأرفق بالناس وأقرب إلى العدل والعمل بوصايا الدين الحنيف، فالثروة واسعة جدًا والتركة مملوءة بالنفائس التي لا تحصى وإنما تعوزها الغيرة الرشيدة والهمة الماضية والعمل الجدي وتجديد بناء التشريع الإسلامي الاجتهادي من أنفس هذه المتروكات وخيرها وأبقاها وبما يفتح الله تعالى به والتوفيق بيد الله وحده
انتهى الكلام في نفقات الأقارب ويليه الكلام في نفقات المماليك.

[(4)] المرة القوة والعقل ومنه قوله تعالى، (ذو مرة فاستوى) يعني جبريل عليه السلام، ورجل مرير أي قوى شديد. 
[(5)] ومما يناسب ذكره هنا ما قاله في شرح الروضة الندية في هذا المعنى قال: إن من وجد ما يكفيه وكان له زيادة يستغني عنها وجب عليه أن ينفقها على المحاويج من قرابته ويقدم الأقرب فالأقرب كما دلت عليه الأدلة وهذا هو معنى الغني أي الاستغناء عن فضله تفضل على الكفاية، لا ما ذكره الفقهاء من تلك التقديرات التي لا ترجع إلى دليل عقل ولا نقل أهـ. 
[(6)] هذا هو ظاهر الرواية وبه يفتي وقيل إن النفقة تجب على نسبة الميراث، ولو كان للفقير ابنان كلاهما غني لكن أحدهما دون الآخر في الغنى فالنفقة عليهما على السواء لكن نقل عن الحلواني أن محل هذا إذا كان التفاوت بينهما يسيرًا فلو كان فاحشًا يجب التفاوت فيها أهـ، ولو كان أحدهما غنيًا بماله وكان الآخر كسوبًا له فضل من كسبه فالظاهر وجوبها عليهما على السواء إلا إذا كان التفاوت بينهما كبيرًا فعلى قدر حالهما في اليسار على ما نقل عن الإمام الحلواني، وانظر رد المحتار وتقرير الرافعي. 
[(7)] أقول قد جعل فقهاء الحنفية هذا الحكم مطردًا في جميع الأصول مع الفروع وبنوا عليه مسائل (منها) إن الجد إذا ادعى ولد أمه ابن ابنه عند فقد الابن صحت دعواه ويتملكها بالقيمة كما هو الحكم في الأب لهذا الحديث، وينبغي على هذا أنه إذا كان لمستحق النفقة جد وابن ابن أن النفقة تجب على ابن الابن لهذا المرجح (انظر رد المحتار والتقرير)، وأقول قارن هذا بقول المتون لا يشارك الأب في نفقة ولده أحد أخذًا من قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) الآية..، وبالجملة إذا كان لمستحق النفقة أصول وفروع كلهم موسرون فالمسألة بتنازعها أصلان وجوب نفقة هذا الشخص على أصوله أخذًا بقول المتون المستنبط من الآية الكريمة أو على فروعه أخذًا بالحديث وإذا وجب المصير إلى الترجيح بالاجتهاد متى أمكن.
 
الفقه المقارن
(3)
نفقة المماليك من الأناسي
69 - جاء الإسلام والرق شائع بين جميع أمم الأرض والأرقاء يسامون الخسف والهوان ويقاسون أشد أنواع العذاب في جميع البلدان والممالك ولا سيما عند الرومان فلطف الإسلام بحكمته ما شاءت الظروف أن يلطفه من معاملة الرقيق حتى سار في ذلك شوطًا بعيدًا جدًا فشمل الأرقاء ذكورًا وإناثًا بعطفه ورحمته حتى ساوى بينهم وبين الأحرار في كل شيء إلا فيما هو من خصائص الولاية [(8)] لاقتضاء السياسة الحازمة وقتئذٍ تلك التفرقة، ولولا وجوب التعادل في المعاملات بين المسلمين وغيرهم من الأمم التي ناوأتهم العداء وما قضت به الحكمة وبعد النظر لم يكن الرق في الإسلام شيئًا مذكورًا كما يدل على ذلك روح الإسلام وأصوله ووصاياه الرحيمة، ومع ذلك فقد حث الكتاب الكريم والرسول الرؤوف الرحيم بأشد ضروب الحث على العتق والترغيب فيه وجعله من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، يظهر لك ذلك من آي الكتاب العزيز وأحاديث النبي الكريم التي لا تحصى كثرة، وقد اقتدى المسلمون بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - في هذا في جميع العصور الإسلامية، وبالجملة فقد كان شأن الإسلام في تقرير الرق زمن التنزيل نظير شأنه في إبقاء تعدد الزوجات مع تلطيفه الأمر في قصره العدد على أربع بعد أن كان لا حد له ثم توجيه الأنظار ألطف توجيه إلى تفضيل الاقتصار على زوجة واحدة بل يكاد ظاهر القرآن يدل على وجوب ذلك.
70 - وهاك بعض ما يتعلق بموضوعنا من ذلك: 
( أ ) روى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأرقاء (هم إخوانكم وخولكم [(9)] جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم). 
(ب) وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة وهو يغرغر [(10)] بنفسه (الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي حافظوا على الصلاة وأحسنوا إلى المملوكين. 
(ج) وروى أحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيقه). 
(د) وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان [(11)] له هل أعطيت الرقيق قوتهم قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (كفى بالمرء إنما أن يحبس عمن يملك قوته) رواه مسلم. 
هذا بعض ما ورد في نفقة المملوك وكسوته والرفق به في المعاملة، ومما ورد في الحث على العتق قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. 
وهاك خلاصة ما قاله الفقهاء في نفقة المملوك وكسوته ومسكنه وما ينبغي أن يعامل به، وأقوالهم متقاربة في ذلك فلا حاجة إلى ذكر أحكام كل مذهب على حدة. 
71 - أجمع أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على أن السيد إذا لم يقم بكفاية عبده ولم يستطع العبد أن يقوم بكفاية نفسه من كسبه فإن القاضي يبيعه على سيده غير أن أبا حنيفة - رحمه الله - مشى على أصله من أن المالك إذا كان حاضرًا فليس للقاضي أن يبيع عليه ماله بدون رضاه بل يأمره به، وأما الصاحبان وجمهور الفقهاء فقد أجازوا للقاضي ذلك على ما هو مبين في موضعه. 
وجملة القول في نفقة المملوك أن السيد يلزمه نفقة رقيقة قدر كفايتهم بالمعروف ولو مع اختلاف الدين ولو كان الرقيق عاجزًا عن الكسب بسبب مرض أو عمى أو غير ذلك، وتكون النفقة من غالب قوت البلد وإدامه ويلزمه كسوته من غالب الكسوة لا مثال الرقيق في ذلك البلد الذي هو به ويلزمه غطاء ووطاء ومسكن وماعون له وإنما وجب ذلك على السيد لرقيقة لاختصاصه به ومن مات منهم فعلى السيد تكفينه وتجهيزه ودفنه كما تجب عليه نفقته حال حياته وهذا هو الواجب على السيد وجوبًا محتمًا لكن يسن له أن يلبس رقيقة مما يلبس وأن يطعمه مما يطعم بل أوجب بعض الفقهاء ذلك آخذًا من ظاهر الحديث وحمله الجمهور على الندب ويلزم السيد نفقة ولد أمته لأنه تابع لأمه حتى لو كان لتلك الأمة زوج وهذا الولد منه، ويلزم السيد تزويج أرقائه إذا طلبوا ذلك كالنفقة لا فرق في ذلك بين ذكورهم وإناثهم وقد أخذ بهذا الإمام أحمد وبعض الأئمة محتجين بقوله تعالى (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والأمر يقتضي الوجوب ولأنه يخاف من ترك إعفافه الوقوع في المحذور، فإن أبي السيد ما وجب عليه من تزويجهم أجبر عليه كسائر الحقوق الواجبة عليه لهم، وعلى السيد تمكين عبده من الاستمتاع بزوجته ليلاً إن كان عمل العبد نهارًا أو نهارًا إن كان عمله ليلاً. 
72 - ويحرم على السيد أن يكلف رقيقه من العمل ما يشق عليه مشقة كبيرة، فإن كلفه بشيء من ذلك وجب عليه أن يعينه عليه، ويجب على سيد الأرقاء أن يريحهم من العمل وقت القيلولة والصلاة المفروضة ووقت النوم اللازم لهم، وإذا سافر بهم وجب عليه أن يركبهم على التعاقب فيركب العبد تارة ويمشي تارة أخرى، وإذا مرض أحدهم لزمه أجرة الطبيب الذي يعالجه وثمن الدواء اللازم له ويجب ختان من لم يكن مختونًا منهم ويحرم عليه خصاء رقيقة والتمثيل به فإن فعل ذلك عتق عليه رقيقه، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن سيدًا جب مذا كير مملوكه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بالرجل فلم يقدر عليه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - اذهب فأنت حر) أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد والطبراني، واختلف الفقهاء هل يعتق العبد بمجرد المثلة أو يؤمر السيد بالعتق فإن تمرد فالحاكم يعتقه ؟ على قولين (انظر شرح الروضة الندية). 
وإذا جنى الرقيق جناية فإنه يسن للسيد العفو عنه مرة أو مرتين، وقال بعض الفقهاء بل يعفو عنه أكثر من ذلك فإن عاد وكان الذنب عظيمًا ضربه ضربًا غير شديد، وإذا خاف عليه الإباق فقيل يقيده من أجل ذلك، كره الإمام أحمد تقييده، وقال إن بيعه أحب إليه (انظر الفروع). 
ويؤدبه على ترك فرائض الله من الصلاة والصوم وكذا إذا كلفه ما يطيقه فامتنع من الامتثال وليس له أن يلطمه على وجهه لحديث ابن عمر مرفوعًا (من لطم غلامه فكفارته عتقه) رواه مسلم، وليس للسيد أن يشتم أبوي رقيقه غير المسلمين ولا يعود لسانه الفحش من القول وفي الحديث (لا يدخل الجنة سيئ الملكة) [(12)] رواه الترمذي وابن ماجه، وسيئ الملكة هو الذي يُسيء إلى مماليكه، وإذا لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه من ملكه ولا يعذب خلق الله لقوله عليه الصلاة والسلام (لا تعذبوا عباد الله)، وإذا كان لامته ولد ترضعه ولم يفضل من لبنها شيء لغير ولدها فليس للسيد أن يكلفها إرضاع غير ولدها لأن في ذلك إضرارًا بولدها للنقص من كفايته وصرف اللبن المخلوق له إلى غيره مع حاجة الولد إليه فإن فضل من لبنها شيء بعد ري ولدها جاز للسيد أن يأمرها بإرضاع غير ولدها من هذا اللبن الزائد. 
73 - وإذا عتق العبد أو الأمة عاد إليهما حق الولاية الذي فقداه بسبب الرق فيجوز لكل منهما ما يجوز لكل من الحر والحرة، على أن شهادة الأرقاء ذكورًا وإناثًا مقبولة شرعًا على ما هو الحق والصواب وإن منع قبولها الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي - انظر فتح القدير وأعلام الموقعين والمغني وغيره من كتب الحنابلة. 
وأما رواية العبد والأمة للحديث فهي مقبولة بالإجماع ولا يشترط في كل منهما لقبول روايته إلا مثل ما يشترط في غيرهما من العقل والضبط والعدالة والإسلام وفتوى كل منهما جائزة إذا كان المفتي منهما أهلاً لذلك كالأحرار تمامًا، وقد كان الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون وأمراء المؤمنين من بعدهم يكرمون التقي من الأرقاء ويبجلونه ويعظمونه من أجل تقواه وصلاحه وعلمه ولا يتأثر واحد منهم بكونه رقيقًا وكيف يتأثرون بذلك وهم يؤمنون بقول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) لا فرق في ذلك بين عبد وعتيق وحر أصلي، ويدينون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل للتقوى) وانظر إلى مكانة نافع مولى ابن عمر الذي قال البخاري فيه: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقيل في هذا السند أنه سلسلة الذهب، وإلى منزلة عكرمة مولى ابن عباس الذي أعتقه ابنه علي من بعد وفاة أبيه وقد انتهى إليه علم التفسير وشهد له ابن عباس وأذن له بالفتوى وأخذ عنه العلم سبعون أو يزيدون من أجلاء فقهاء التابعين (انظر تهذيب التهذيب) وغيرهما مما لا يتناوله العد. 
74 - وقد كان خلفاء بني العباس إلا النزير منهم أمهاتهم أمهات أولاد وما كان ذلك لينقص من شرفهم شيئًا، وقد يكون السيد الشريف العلوي مولودًا من أمة ولا غضاضة عليه في ذلك لأن نسبه تابع لأبيه. 
وقد تولى كافور الإخشيدي العبد الأسود الخصي [(13)] ملك مصر والشام والثغور وخطب له على المنابر في تلك البلاد وفي الحجاز وكان ذلك زمن الخليفة المطيع لله العباسي، تولى كافور ملك هذه الديار سنتين وأربعة أشهر تقريبًا (من سنة 355 إلى 357هـ، 966 إلى 968م)، ومات وهو على ملكه والإسلام في أوج عزه وقد رضيت الأمة كلها بحكمة نزولاً على أمر الرسول الأعظم (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله) أخرجه البخاري من حديث أنس. 
كذلك تولى المماليك البيض ملك مصر والشام والحجاز بدولتيهم الأولى والثانية خمسًا وسبعين ومائتي سنة إلا بعضة أشهر من سنة (648 إلى 922هـ 1250 إلى 1516م) بعد أن عمروا البلاد التي ملكوها وتركوا فيها أحسن الآثار وكان عصرهم من خير العصور وفي العلم والتعليم وإتقان الصناعات والزخارف أعظم إتقان، حتى لقد انتفع الفاتيكان بصناعهم ولا تزال آثارهم هناك قائمة إلى الآن. 
وبالجملة فما كان الإسلام ليضع الرقيق في مرتبة دون مرتبة الإنسان بل اعتبره إنسانًا مكلفًا مثابًا على أعماله الحسنة ومؤاخذًا على أعماله السيئة ومخاطبًا كالحر تمامًا، ولم يسلبه إلا الولاية فقط لأنه أسير حرب أريد بها أعلام كلمة الله فكابر وعاند في ذلك حتى وقع أسيرًا فعوقب بسلب ولايته تأديبًا له، ولأن غير المسلمين كانوا يعاملون أسرى المسلمين كذلك فاقتضى العدل أن يعاملوا من المسلمين بالمثل، ومع ذلك فقد علمت مما قدمنا رأفة الإسلام ورحمته بهذا الرقيق.
75 - فقارن أعزك الله ما جاء به الإسلام وقرره أئمة الشريعة بشأن الرقيق بما كانت عليه معاملته عند اليونان والرومانية وأمم أوروبا في القرون المتوسطة والقرون الحديثة حتى الثورة الفرنسية الأخيرة سنة 1848، وفي الولايات المتحدة في أمريكا حتى حرب سنة 1862 تجد البون شاسعًا والفرق عظيمًا جدًا. 
فإنك بينما تجد الإسلام يقرر حقوق الإنسان تقريرًا صريحًا جديًا في أوائل القرن السابع الميلادي ويعتبر الرقيق إنسانًا مكلفًا ذا روح وإرادة عقل لا فرق بينه وبين الحر في ذلك إلا الولاية نزولاً على حكم الظروف كما قد بينا وأنه لا فضل لحر على عبد ولا لحرة على أمة وإنما الفضل بالتقوى لا بالحرية فمن كان تقيًا فهو الأفضل وإلا كرم عند الله ولو كان رقيقًا زنجيًا، وإن للحر أن يتزوج الأمة وللحرة أن تتزوج العبد ولا لوم ولا تثريب عليهما في ذلك وأن الخلفاء العباسيين لم يضرهم كون أمهاتهم إماء وأن مصر والشام لم ينقص قدرهما أن تولى أمرهما زنجي أسود خصي بعد أن ثبتت كفايته وصلاحيته لما تولاه، وأن مؤونة الرقيق واجبة على سيدة بالمعروف ولو كان لا عمل له بسبب عجزه أو مرضه بل يسن للسيد أن يؤكل رقيقة مما يأكل ويلبسه مما يلبس وأن على السيد ألا يكلفه من الأعمال ما هو فوق طاقته. 
وأنه يجب عليه أن يزوجه إن احتاج إلى الزواج وأنه يجب عليه أن يريحه من مشقة العمل وألا يعذبه أصلاً وإلا عتق على السيد جزاء له، وأن يستعمل الحكمة والرحمة في عقوبته إذا أتى ذنبًا يستحق عليه العقوبة، وأن للقاضي أن يدخل بين السيد وعبده في كف أذاه عنه وفي وجوب الاعتدال في معاملته وأنه يسمع دعوى العبد والأمة على السيد ويعامل السيد بما يستحق بدون محاباة ولا تحيز إلى جهته، وإن شهادة العبد بعد عتقه مقبولة بالإجماع على غيره ولو كان المشهود عليه حرًا أصليًا شريفًا وأن اليمين توجه إليه ولا تدنس بذلك، وأنه تصح فتواه وروايته للحديث، وأن يكون عالمًا كبيرًا يُقتدى به ويأخذ عنه العلم كبار العلماء الأحرار من سادات العرب وأشرافهم ومن غيرهم وأنه قد انتهى به الأمر عند المسلمين أن أصبح فردًا من ضمن أفراد الأسرة ومن المستحقين في وقف سيده أو سيدته بل قد يزوج بعض السادة عتيقه من ابنته إذا رآه أهلاً لذلك ليحفظ بيته من بعده، وبالجملة فقد وصل كثير من الأرقاء عند المسلمين إلى حالة يغبطون عليها حتى أن بعض الأحرار ليتمنى أن يكون رقيقًا مثلهم ويحظى بما حظوا به، وسائر الأرقاء كانوا في حالة حسنة. 
76 - بينما تجد الإسلام في معاملته الأرقاء قبل العتق وبعده على ما وصفت لك آنفًا إذا بك تجد أرسطو فيلسوف اليونان الأكبر يقول في تعريف الرقيق إنه (آلة ذات روح أو متاع قائمة به الروح)، ويقسم الجنس البشرى إلى قسمين أحرار وأرقاء بالطبع، وأن القانون الروماني يعتبر الرقيق شيئًا من الأشياء لا إنسانًا من الأَناسِيّ، وأن حكومات القرون الوسطى في أوروبا كانت تعتبره كالحيوان الأهلي المستخدم وكذلك القوانين السوداء [(14)] في أمريكا المتحدة نصت على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح ولا إرادة. 
وأن الرقيق بعد عتقه لا تقبل شهادته أمام القضاء إلا على رقيق مثله، ومع ذلك فما كان يجوز تحليفه اليمين لأنها أشرف وأسمى من أن يتفوهوا بها فيدنسوها بأفواههم، وإن تزوج الأبيض بامرأة امتزج بها دم الأرقاء اعتبر ساقطًا عن درجة ذي اللون الأبيض ولا يبالي بكون أصله من الأشراف، وأشد من هذا وأفظع ما كان في العصور المتوسطة في أوروبا عند بعض أممها من أنه إذا تزوج أحد الأهالي بأمة وقع في الرق مثلها، وإن المرأة الحرة التي تتزوج بعبد تفقد حريتها وينالها هذا العقاب، وعند بعضهم كانت تعاقب بالإعدام أما إذا تزوجت السيدة بعبدها فجزاؤهما أن يحرقا بالنار وهما على قيد الحياة.

77 - وإذا أبق العبد كان جزاؤه في القوانين السوداء الفرنسية قطع الآذان والكي بالحديد المحمي في المرتين الأولى والثانية أما في المرة الثانية فكان جزاؤه القتل، وجزاء هذا الآبق في القوانين الإنجليزية الاستعمارية القتل أن استمر إباقة أكثر من ستة أشهر. 
أما عقوبات الرقيق إذا اقترف ذنبًا فقد كانت عند اليونان بالجلد بالسوط وبالطحن على الرحى، وكان أخف عقوباته عند الرومان وألطفها استعماله في مشاق الحراثة والزراعة وهو مكبل بالسلاسل ومثقل بالأغلال وقد يعرض لأقسى أنواع العذب وقد تكون عقوبته بضربه بالسياط حتى يشرف على الهلاك أو يهلك في أكثر الأوقات، وقد كان يعلق من يديه وتربط الأثقال برجليه. 
وأما في العصور الحديثة فعند الفرنسيين لم تكن قوانين مستعمراتهم تمنع السادة البيض من إهلاك أرقائهم بجلدهم بالسياط وتكبيلهم بالسلاسل والأغلال وضربهم ضرب التلف بل لا تمنعهم من إحراقهم بالنار وقد اعتاد القضاة عدم إنصاف العبيد من ساداتهم بل أن المالك إذا ارتكب أي جناية على رقيقة ولو جناية القتل فقد كان القضاة يلتمسون براءته بكل الطرق، وقد أيدت الجمعيات الاستعمارية في كل زمان قاعدة أنه لا يسوغ لواضعي القوانين أن يتوسطوا ويتدخلوا بالتشريع بين العبد وسيده. 
وكذلك كانت المعاملات والعقوبات التي قررتها قوانين أمريكا للأرقاء لا تقل في قسوتها وفظاعتها عن القوانين الفرنسية فقد حظرت على العبد حق المرور والذهاب والمجيء وأنه لا يفارق الزرع إلا بإذن قانوني ومع ذلك فإذا اجتمع في الطريق العام أكثر من سبعة من الأرقاء فإنهم يعتبرون مخالفين للأوامر وأول أبيض يصادفهم في الطريق له الحق أن يقبض عليهم ويجلد كل واحدٍ منهم عشرين جلدة، ومن أتى منهم ذنبًا ولو صغيرًا فهو تحت إرادة سيده فإن شاء ضربه بالسياط أو عاقبه بأية عقوبة شاء مهما بلغت من الشدة والصرامة والقانون يساعد السيد على ما يصنع بعبده فإذا تعدى الزنجي على مولاه أو على مولاته أو أولادهما بضرب أو جرح فجزاؤه الإعدام. 
78 - كذلك كان الأرقاء محرومين من العلم والتعليم وكيف يكون لهم نصيب من ذلك وهم غير جديرين بن كالبيض حتى لقد تخطى الأمر في ذلك الأرقاء فلم يقتصر عليهم بل تناول جميع ذوي الألوان غير اللون الأبيض وقد قضى ملك فرنسا سنة 1767 قضاء مبرمًا مؤبدًا على جميع ذوي الألوان وذرياتهم بألا يتمتعوا بالمزايا التي يتمتع بها الجنس الأبيض ولذا قضى على هذه الأجناس كلها قضاءه المبرم المؤبد بالحرمان من طلب العلم في فرنسا، واستمر الأمر على هذا الشذوذ حتى ثورة فبراير سنة 1848 بفرنسا التي أعقبها العمل على إبطال الاسترقاق واستمر الحال كذلك في أمريكا حتى الحرب الأمريكية الطويلة من ابتداء سنة 1862 فأخذ حال ذوي الألوان في التحسن بعد ذلك بعد التحسن وإن كان لم يصل إلى درجة السادة البيض حتى الآن، وتم إلغاء الرق من العالم سنة 1875 بعد أن ابتدئ في إلغائه فعلاً في سنة 1780. 
هذا ومن شاء المزيد من البيان فليقرأ كتاب الرق في الإسلام الذي طبع في مصر سنة 1309هـ، 1892م جزى الله مؤلفه وناقله إلى العربية خير الجزاء وأثابهما على ما قدمت أيديهما من هذا العمل المبرور والصنيع المشكور أجزل الثواب. 
نفقة الحيوان ووجوب الرفق به
79 - عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) [(15)] وروى مثله أبو هريرة. رواه أحمد والبخاري ومسلم. 
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى) [(16)] من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله - وأن لنا في البهائم لأجر - فقال (في كل كبد رطبة أجر) [(17)] رواه أحمد والبخاري ومسلم. 
وروى أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر ببعير قد لصق ظهره ببطنه فقال (اتقوا الله في هذه البهائم العجماء فاركبوها صالحة وكلوا لحمها صالحة). 
80 - قال الشوكاني استدل بالحديث الأول على تحريم حبس الهرة وما شابهها من الدواب بدون طعام ولا شراب لأن ذلك من تعذيب خلق الله وقد نهى عنه الشارع، واستدل به أيضًا على أن نفقة الحيوان واجبة له على مالكه وذلك لأن مالك الحيوان حابس له في ملكه ومانع له من السعي على رزقه فما دام كذلك وجب عليه الإنفاق عليه فإن سيبه سقط الوجوب عنه لكن لا يبرأ بالتسييب إلا إذا كان في مكان يتمكن فيه الحيوان من تناول ما يقوم بكفايته. 
وهل يجب عليه ذلك ديانة فقط أو هو واجب عليه ديانة وقضاء ؟ بمعنى أن القاضي يجبر المالك على الإنفاق إذا أبى أن ينفق، قال بالأول أبو حنيفة - رحمه الله - وهو ظاهر مذهبه ووجهه إن الحيوان ليس له حق ولا خصومة ولا ينصب عنه وكيل بخلاف الرقيق من بني آدم فإن له المطالبة بحقه قضاءً لكونه إنسانًا ذا حق، ووافق أبا حنيفة في ذلك ابن رشد من المالكية فقال يؤمر المالك بالنفقة من غير قضاء [(18)]، وقال بالثاني الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد قالوا إن الحيوان مخلوق ذو روح محترم فيجب حفظه كالآدمي (انظر نيل الأوطار)، وهو رواية عن أبي يوسف ورجحه الطحاوي والكمال بن الهمام وقال: إن الحق ما عليه الجماعة أي الأئمة الثلاثة لأن غاية ما فيه أن يتصور فيه دعوى حسبة فيجبره القاضي على عمل الواجب ولا بدع فيه، وأقره في البحر والنهر والمنح (انظر رد المحتار) غير أن الدابة إذا كانت مشتركة بين اثنين وامتنع أحدهما من الإنفاق عليها أجبره القاضي منعًا للضرر عن شريكه فيقول للآبي إما أن تبيع نصيبك من الدابة أو تنفق عليها رعاية لحق شريكك، وهذا باتفاق. 
ومثل الدابة في ذلك الملك المشترك إذا احتاج إلى العمارة ولم تمكن قسمته. - وهاك خلاصة ما ذكر في كتب المذاهب الأربعة وغيرها من الإنفاق على الحيوان والإحسان إليه في المعاملة، والتفاوت بينها في ذلك يسير: إذا تمرد مالك الحيوان عن الاتفاق عليه أو بيعه أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه أجبره القاضي على أحد هذه الأمور الثلاثة كما يجبر مالك العبد، بجامع أن كلاً منهما مملوك وذو كبد رطبة ومشغول بمصالح المالك ومحبوس عن مصالح نفسه، ومثل البيع إخراجه عن ملكه بصدقة ونحوها أو إجارته ليعلفه من أجرته، ثم إن كان الحيوان مما يؤكل لحمه زيد على الثلاثة المتقدمة الأمر بذبحه، وبالجملة لا يجوز أن يحبسه جائعًا عطشان ولا يقوم بكفايته، فإن هذا ممنوع حتمًا لما فيه من تعذيب خلق الله. 
وقد جاء في بعض كتب المالكية أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف أهـ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يحل للإنسان أن يحمل دابته ما فيه مشقة عليها بل يرفق بها في ذلك، وقالوا أيضًا أنه يحرم أن يحلب من لبن بهيمته ما يضر بولدها وإنما له أن يأخذ ما زاد على كفايته فقط، وإذا طالت أظفار الحالب وكان ذلك يؤذي البهيمة في ضرعها فلا يجوز له حلبها ما لم يقص ما يؤذيها من أظافره، ويحرم ترك حلب إن كان ذلك يضرها فإن لم يكن ترك الحلب يضرها كره ذلك لما فيه من إضاعة المال، ويستحب ألا يستقصي الحالب في الحلب بل يدع في الضرع شيئًا، ويحرم جز الصوف من أصل الظهر ونحوه لما فيه من تعذيب الحيوان، وعلى مالك النحل أن يبقى للنحل من العسل في الكوارة قدر حاجتها، وعلى مالك دود القز تحصيل ورق الدود لدوده أو تخلية الدود لأكله - إن وجد - لئلا يهلك بدون فائدة، وبالجملة لا يحل حبس شيء من الحيوان حتى يهلك جوعًا أو عطشًا لأنه تعذيب ولو كان الحيوان غير معصوم الدم كما إذا كان مؤذيًا وذلك للحديث الصحيح (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فيقتل ذلك الحيوان المؤذي كالأفاعي ونحوها ولا يعذبه. 
وقال في الفروع: وكره أحمد خصاء غنم وغيرها إلا خوف غضاضة وقال لا يعجبني أن يخصي شيء: ويحرم ضرب الدابة في وجهها ووسمها فيه إلا لمداواة أو غرض صحيح على شرط أن يكون الوسم في غير الوجه ولا يضر الدابة أهـ. فانظر - رحمك الله - هل أتت جمعيات الرفق بالحيوان بأحسن من هذا ؟ نفقة الأشياء الأخرى نفقة الملك المشترك الذي لا يقبل القسمة واجبة على كل من الشريكين فإذا امتنع أحدهما أجبره القاضي إحياء لحق شريكه على ما قدمنا وأما الملك غير المشترك فإن كان وقفًا أو لمحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه وجب على الولي عمارته لأنه يجب عليه فعل الأصلح، وكذا يجب على ولي المال حفظ ثمر هؤلاء وزرعهم وتعهده بالسقي وغيره مما هو في حاجة إليه، فإن لم يكن وقفًا ولا ملكًا لواحد من هؤلاء فقد قالوا لا تجب عمارته ولا إصلاحه لا فرق في ذلك بين العقار من الدور والأرضين والبساتين والمنقول على اختلاف أنواعه وذلك لأنه لا يترتب على عدم الإنفاق عليه تعذيبه لأنه ليس ذا روح فلا حرمة في نفسه، لكن يكره تركه بلا تعهد ولا إصلاح لما في ذلك من إضاعة المال، وإضاعة المال حرام، وقد صرح في شرح الروض بأن إضاعة المال إنما تحرم إذا كان ذلك بفعل إيجابي كإلقاء المتاع في البحر من غير مسوغ لذلك أما إذا كان بعمل سلبي كترك عمارة الدور وسقي الأشجار فليس هذا بحرام لأن العمل قد يشق على المالك ولا يستطيعه. أهـ، وقال العدوي في حاشيته على الخرشي ما نصه: من كان له شجر يضيع بترك القيام عليه بحقه فإنه يؤمر بالقيام عليه فإن لم يفعل أثم بتضييع المال للنهي عن إضاعته ولم نسمع أنه يؤمر ببيع ذلك أهـ، وقال في الفروع وحكاه عنه في شرح المنتهي: وتستحب النفقة على غير الحيوان ذكره في الواضح وهو ظاهر كلام غيره من أصحابنا ويتوجه الوجوب لأنه متى لم ينفق عليه هلك وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال أهـ أقول ولم أرَ مثل هذا القول لغير صاحب الفروع وهو وجيه.
تتمة
من موجبات النفقة أيضًا على ما نص عليه الزيدية في كتبهم سد رمق المضطر والضيافة وسأذكر هنا تتميمًا للفائدة خلاصة ما قالوه في ذلك مع زيادة ما يقتضيه المقام من كلام غيرهم. 
سد الرمق
83 - يجب سد رمق من يخشى عليه التلف من بني آدم وهو محترم الدم سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم لكن يشترط ألا يجد المضطر من يقرضه أو يشتري ماله ولو بدون قيمته فإن وجد شيئًا من ذلك لم يجب على غيره سد رمقه لأنه ليس مضطرًا في هذه الحالة، ويشترط أيضًا ألا يخشى صاحب المال التلف أو الضرر على نفسه في الحال إذا أنفق ما عنده على المضطر أما إذا كان لا يخشى على نفسه في الحال تلفًا أو ضررًا وإنما يخشى ذلك في المستقبل لو أنفق ما عنده الآن فإن الواجب لا يسقط عنه بهذه الخشية بل يلزمه سد الرمق للمحترم، ويتكل في المستقبل على الله. 
ويجوز للمضطر أن يأخذ من مال غيره حيث لا يخشى على مالكه الضرر، وللمضطر أن يقاتله إذا منعه فإذا قتل المالك فلا شيء عليه وإن قتله المالك قتل به. 
وجميع أنواع الحيوان التي لا تؤكل ولا يجوز قتلها (كالحيوانات المؤذية) كالإنسان محترم الدم في وجوب سد رمقها فإن كانت مما يؤكل فإما سد رمقها وإما تذكيتها. 
أقول: روى أبو يوسف في كتاب الخراج إن قومًا وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فلم يدلوهم عليها فقالوا إن أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تنقطع من العطش فدلوا على البئر واعطوا دلوًا نستقي به فلم يفعلوا، فذكروا ذلك لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: فهلا وضعتم فيهم السلاح ؟ 
ومن هنا أخذ الفقهاء أنه لو منع أحد إنسانًا الماء وكان الممنوع يخاف على نفسه ودابته العطش ولم يجد ماء بقربه ينقع به غلته كان له أن يقاتل المانع بالسلاح لأنه قصد إتلافه بمنعه حقه إذ الماء في البئر مباح غير مملوك لأحد لعدم إحرازه، أما إذا كان محرزًا في الأواني فإنه يقاتله بغير السلاح لأنه مملوك بالإحراز، غير أن بالآخر حاجة شديدة إليه والمفروض أن دفع هذه الحاجة بشر به من الماء لا يضر محرزه كما إذا منعه الطعام عند المخمصة وكان فيه فضل عن حاجة المانع فإن لم يكن في الماء والطعام فضل عن حاجة مالكه فهو مخير بين قسمة الماء والطعام بينه وبين طالبه وبين إيثار نفسه عليه تقديمًا لحياته على حياة غيره [(19)]، وهذا حق له، ويجب على الآخذ به ضمان ما يأخذه من المال والطعام لأن حل الأخذ للإضرار لا ينافي الضمان. 
84 - وقال في معين الحكام إذا نزلت برجل مخمصة ووجد مع رجل طعامًا فامتنع من إطعامه ومن مساومته كان له أن يقاتله فإن مات الجائع وجب القصاص عند من يراه وإن أخذ الجائع قهرًا فعليه قيمته أهـ.
وقد حكى ابن القيم - رحمه الله - في الطرق الحكمية الخلاف فيهما إذا بذل صاحب المال ماله للمضطر فيبذله بالثمن أو مجانًا ؟ قال والصحيح بذله مجانًا لوجوب إحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج أهـ. 
وقد أسقط عمر - رضي الله عنه - الحد عن السارق في عام المجاعة وأخذ بذلك الإمامان أحمد والأوزاعي فقيه الشام وقال ابن القيم إن هذا هو محض القياس ومقتضى قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه أهـ. 
الضيافة
85 - قال في المنتزع المختار وحواشيه ما خلاصته: الضيافة واجبة على من نزل به ضيف وإنما تجب على من كان من أهل الوبر وهم البدو وذلك للخبر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (الضيافة على أهل الوبر [(20)]، وليست على أهل المدر) لكن ذهب أكثر أهل البيت وجمهور الفقهاء إلى أن الحديث منسوخ، لكن الظاهر عدم النسخ ومن ادعاه فعليه الدليل أهـ. 
وقال في الروضة الندية وشرحها: يجب على من وجد ما يقرى به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يحرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه، وذلك لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين قال قلت يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى ؟ قال إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم أهـ وفيهما من حديث ابن شريح الخزاعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قال وما جائزته يا رسول الله ؟ قال يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه أي يضيق صدره، وأخرج أحمد وأبو داود من حديث المقدام أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) أهـ وإسناده صحيح. 
86 - وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة واستدلوا بقوله (فليكرم ضيفه جائزته) قالوا والجائزة هي العطية والصلة وأصلها الندب، ولا يخفي أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب وأدلة الباب مقتضية ذلك لأن التغريم لا يكون لإخلال بأمر مندوب، وكذا قوله (واجبة) فإنه نص في محل النزاع وكذلك قوله (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) وتمامه فيه. 
والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حاشية
وبعد فإن من بين الدراسات العليا في جامعات أوروبا نوعين من الدراسة اتسعت بينهما دوائر القوانين على اختلاف أنواعها وظلت تنتقل بهما من حالة إلى خير منها وهما دراسة القانون المقارن ودراسة القانون بتوسع وتعمق بأن يعمد إلى مسألة من مسائله الهامة من الناحية العملية أو الناحية النظرية ويعني بها في الدراسة العناية التامة من جميع جهاتها ثم يسلك هذا المسلك في غيرها وهلم جرا، وبذلك أصبحت قوانين أوربا في تمحيص مستمر وتهذيب وتنقيح، وإني قد شغفت كل الشغف بأن يكون هذا النوع من الدراسة النافعة متبعًا عندنا في الشريعة الإسلامية للمرة الأخيرة لدراستها لذلك كتبت هذه البحوث الثلاثة في مقارنة مذاهب أئمة الشريعة بعضها ببعض في أحكام النفقات لتكون نموذجًا لدراسة المقارنات المذهبية مع الاستطراد الذي يقتضيه المقام من مقارنات ومقابلات للقوانين الوضعية، كما وضعت من قبل في السنة الماضية كتابي (طرق القضاء) ليكون نموذجًا لدراسة الشريعة بتعمق وتوسع، وإني أقول ولا ارتاب في شيء مما أقول إن دراسة الفقه لا تكون مثمرة ومفيدة لطلاب قسم التخصص في الشريعة الإسلامية من حاملي شهادة العالمية في المعاهد الدينية وكذا لطلاب قسم الدكتوراة في كلية الحقوق إلا إذا اتبعت معهم هاتان الطريقتان وكررت كل واحدة منهما على حسب ما يتسع له الزمن فيما يناسب من الموضوعات المختلفة فبذلك وحده تتربى فيهم ملكة الفقه في الشريعة الإسلامية تربية سليمة يرجى أن يظهر أثرها النافع في وضع قوانين شرعية تكون غضة نضرة محكمة الوضع وعلى اتصال دائم بالحياة العملية ليعمل بها في محاكم البلاد الإسلامية والله الموفق. 
أحمد إبراهيم إبراهيم 
21 ذو الحجة سنة 1348،
20 مايو سنة 1930. 
________________________________________
[(8)] وأما كون العبد لا يملك فهذا ليس مجمعًا عليه، فما اشتره من كون الرق من موانع الميراث ليس موضع إجماع (أفاد الشوكاني) وأقول إن مذهب الإمامية أن الوارث إذا كان مملوكًا أجبر الإمام مالكه على عتقه ويأخذ قيمته من التركة وباقيها يكون ملكًا لذلك الوارث بعد عتقه أهـ، انظر مفتاح الكرامة. 
[(9)] الخول حاشية الإنسان وخدمة يطلق على الجمع والواحد، والخولي هو الراعي الحسن القيام على المال. 
[(10)] يغرغر أي يجود بنفسه عند الموت، وقال في نيل الأوطار أنه مبني للمجهول، أقول يصح لغة بناؤه للفاعل.
[(11)] القهرمان هو الوكيل وأمين الدخل والخرج. 
[(12)] بفتح الميم واللام كما في النهاية واللسان والقاموس وضبطه في كشاف القناع بكسر الميم وسكون اللام. 
[(13)] اشتراه سيده الإخشيد بثمانية عشر دينارًا أي بأقل من اثني عشر جنيهًا مصريًا ثم أعتقه بعد أن رباه ورقاه حتى جعله من كبار قواد الجيوش وظهرت مواهبه وفضله وحزمه وسياسته حتى صار أهلاً للملك. 
[(14)] تطلق القوانين السوداء على مجموع القواعد والأصول التي دونها المستعمرون من الفرنسيين والإنجليز والأمريكان وغيرهم بشأن الاسترقاق وظلت معمولاً بها إلى أمد غير بعيد على ما فيها من منتهى القسوة والفظاعة بل لا تزال آثارها باقية إلى الآن بعد زوالها رسميًا، فقد ترآى لأولئك المستعمرين الجبابرة أن يقسموا بني الإنسان الواحد إلى قسمين: القسم الأول: الجنس الأبيض من أوربيين وأمريكيين، وهؤلاء هم السادة المسيطرون.
والقسم الثاني: غيرهم من بني الإنسان من سائر الألوان الأسود والأسمر والأصفر والأحمر، فهم إما متبربرون أو أنصاف متمدنين أو متوحشون، ثم جعلوا للبيض قانونًا ولغيرهم قانونًا آخر أملاه عليهم حب الذات والهوى والقوة وتجرد نفوسهم من الكرم وما إليه من الأخلاق العالية. 
ولا يزالون يرون هذا بالفعل إلى الآن لا يتزحزحون عنه قيد أنملة وإن كانت قوانينهم قد تلطفت كل التلطف حتى أصبح ظاهرها خيرًا وبركة على العالم كله لكنهم في تطبيقها لا يزالون يلاحظون هذا الفرق بين الإنسان الأبيض وذلك الشيء الآخر المخلوق على صورته من عربي وبربري وزنجي وغير هؤلاء، وقد نقل مكاتب كوكب الشرق في وهران في مايو 1930 أربع حوادث قتل فيها أربعة من السادة البيض الفرنسيين أربعة من العرب المسلمين وأقر كل منهم بالقتل أمام المحكمة لكن المحكمة برأتهم جميعًا لأن بعضهم قال إنه ندم على ما فعل وبعضهم ليس له سوابق فمن أجل ذلك برئوا جميعًا (وانظر الكلمة القيمة التي في العدد (1632) من كوكب الشرق لمدير القسم الشرقي منه).هذا هو صنيع أولئك السادة وأما صنيع الإسلام منذ القرن السابع من الميلاد فلم يسلك هذا المسلك الذي سلكوه بل قرر أن أكرم الناس عند الله أتقاهم ولو كان عبدًا زنجيًا وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وإن اختلاف الألسنة والألوان في بني الإنسان الواحد دليل على قدرة الخالق سبحانه وتعالى وآية من آياته في نظر ذوي العقول وأولى العلم وليس ذلك سببًا لأن يفرق بينهم في التكاليف والمعاملات حتى لقد قضى ذلك الشرع الذي خذله أهله بالمساواة في التضامن بين الأحرار والعبيد وبين الذكور والإناث وبين المسلمين وغير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام، وأن حكومة الإمام أبي يوسف تقتل المسلم بالذمي والدولة الإسلامية أعظم سطوة مائة مرة من دولة الفرنسيين الآن فقل لي بربك أية مساواة جيء بها إلى العالم تعادل هذه المساواة ؟ ولله الحجة البالغة. الخَشاش بفتح الخاء وكسرها هوام الأرض وحشراتها قال في تعليقات المهذب سميت بذلك لأنها تخش في الأرض أي تدخل فيها. الثرى هو التراب الندي واللهث هو إخراج اللسان عطشًا أو تعبًا وفعله من باب منع. الرطبة أي ذات الحياة. قال الحطاب في شرحه على متن خليل ما ملخصه قال ابن رشد: ويقضي للعبد على سيده أن قصر عما يجب له بالمعروف في مطعمه وملبسه، بخلاف ما يأكله من البهائم، فإنه يؤمر بتقوى الله في ترك ذلك عنها، ولا يقضي عليه بعلفها، وقد روي عن أبي يوسف أنه يقضي على الرجل يعلف دابته به كما يقضي عليه بنفقة عبده، لما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل حائط رجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رق له وذرفت عيناه، فسمح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سروه وذفريه حتى سكن ثم قال من رب هذا الجمل ؟ فجاء فتى من الأنصار فقال هولي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلا تتقي الله في البهيمة التي ملكك الله إياها ؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه قال ابن رشد: والفرق بين العبد والدابة أن العبد مكلف يجب عليه الحقوق من الجنايات وغيرها، فكما يقضي عليه، يقضى له، وأما الدابة فهي غير مكلفة لا يجب عليها حق، ولا يلزمها جناية، فكما لا يقضي عليها لا يقضي لها أهـ، ونقل ابن عرفة من أبي عمرو ما يخالف ما قاله ابن رشد قال: يجبر الرجل على أن يعلف دابته أو يرعاها إن كان في رعيها ما يكفيها، أو يبيعها، أو يذبح ما يجوز ذبحه، ولا يترك يعذبها بالجوع، ولازم هذا القضاء عليه لأنه منكر، وتغيير المنكر واجب القضاء به، وهذا أصوب مما قاله ابن رشد على إن تعذر شكوى الدابة يوجب كونها أحرى بالقضاء لها أهـ والسر وهو الظهر، والذفر هو الموضع الذي خلف أذن البعير أول ما يعرق منه أهـ منه أقول: والذي في اللسان والقاموس والتاج الذفري بألف التأنيث المقصورة، وقال في اللسان في حكاية الحديث (فمسح رأسه وذفراه)، وقيل هو منون على وزان أدرهم، فالظاهران الذفر بدون تلك الألف خطأ، والله أعلم. أقول هذه هي مرتبة العدل التي تليق بالتشريع العام ووراءها مرتبة الإحسان وهي مرتبة الإيثار على النفس وهي من أعلى المطالب وقد أثر كعب بن مامة غيره على نفسه بالماء حتى مات من العطش وكذلك كان شأن بعض مجاهدي الصحابة والتابعين وهم يجودون بأنفسهم في معارك الحروب حتى مات المؤثر منهم على نفسه عطشًا وهو مثخن بجراحه وجاد بالنفس إذ ضن البخيل بها ;والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وبعد فالله تعالى يقول (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). أهل الوبر هم سكان الصحارى يسكنون الخيام المصنوعة من وبر الإبل وأهل المدر هم أهل المدن والقرى لأن بنيانها من المدر وهو قطع الطين اليابس ونحوها مما تبنى به البيوت.

تعليقات